الجزء الأول: في جغرافية سيناء
مقدمة الكتاب
الباب الأول: في جغرافية سيناء الطبيعية
1 - في حدود شبه جزيرة طور سيناء وأسمائها
2 - في أقسامها وأراضيها
3 - في جبالها
4 - في أوديتها ومياهها
5 - في معادنها
6 - في هوائها
7 - في نباتاتها
8 - في حيواناتها
9 - في سكانها
الباب الثاني: في جغرافية سيناء الإدارية
1 - في مدن سيناء وقراها وآثارها
2 - في دير طور سيناء
3 - في المدرسة العبيدية
4 - في طرق سيناء
5 - في آثار سيناء حسب مداتها
6 - في حكومة سيناء وإدارتها
7 - في أجر الإبل في سيناء وقسمة المنافع بين قبائلها
8 - في السفر إلى سيناء ولوازمه
الجزء الثاني: في بداوة سيناء
الباب الأول: في لغة بدو سيناء وديانتهم ومعارفهم وزراعتهم وصناعتهم وتجارتهم
1 - في لغتهم
2 - في ديانتهم
3 - في معارفهم
4 - في زراعتهم
5 - في صناعتهم
6 - في تجارتهم
الباب الثاني: في أخلاق البدو وعاداتهم وخرافاتهم
1 - في أوصافهم الخلقية
2 - في أخلاقهم
3 - في عاداتهم
4 - في خرافاتهم
الباب الثالث: في قضاة البدو ومحاكمهم وشرائعهم
1 - في قضاة البدو
2 - في محاكمهم
3 - في شرائعهم وأحكامهم
4 - في نقد شريعة البدو وحكومتهم وطرق إصلاحهم
الجزء الثالث: في تاريخ سيناء «القديم والحديث»
الباب الأول: في تاريخ سيناء القديم
تمهيد
1 - في تاريخ سيناء في عهد الدول العشرين الأولى المصرية
2 - في تاريخ سيناء مدة تغرب بني إسرائيل فيها
3 - في تاريخ سيناء من بعد الدول العشرين الأولى المصرية إلى الفتح الإسلامي لمصر
4 - في تاريخ مملكة النبط في البتراء وعلاقتها بسيناء قديما وحديثا
5 - في تاريخ دير طور سيناء القديم والحديث
الباب الثاني: في تاريخ سيناء الحديث
1 - في تاريخ سيناء منذ الفتح الإسلامي لمصر إلى عهد الأسرة المحمدية العلوية
2 - في تاريخ سيناء في عهد الأسرة المحمدية العلوية
3 - في نظار قلاع نخل والطور والعريش ومحافظيها
4 - في حروب البدو في سيناء
5 - في حادثة الحدود سنة 1906
الخاتمة
تمهيد
خلاصة تاريخ العرب
خلاصة تاريخ سوريا
خلاصة تاريخ العراق
خلاصة تاريخ مصر
صاحب العظمة السلطان حسين كامل سلطان مصر
سيناء والحرب الحاضرة (سنة 14-1916)
العلائق التجارية بين مصر وجاراتها في هذا العصر
السوري في مصر
الجزء الأول: في جغرافية سيناء
مقدمة الكتاب
الباب الأول: في جغرافية سيناء الطبيعية
1 - في حدود شبه جزيرة طور سيناء وأسمائها
2 - في أقسامها وأراضيها
3 - في جبالها
4 - في أوديتها ومياهها
5 - في معادنها
6 - في هوائها
7 - في نباتاتها
8 - في حيواناتها
9 - في سكانها
الباب الثاني: في جغرافية سيناء الإدارية
1 - في مدن سيناء وقراها وآثارها
2 - في دير طور سيناء
3 - في المدرسة العبيدية
4 - في طرق سيناء
5 - في آثار سيناء حسب مداتها
6 - في حكومة سيناء وإدارتها
7 - في أجر الإبل في سيناء وقسمة المنافع بين قبائلها
8 - في السفر إلى سيناء ولوازمه
الجزء الثاني: في بداوة سيناء
الباب الأول: في لغة بدو سيناء وديانتهم ومعارفهم وزراعتهم وصناعتهم وتجارتهم
1 - في لغتهم
2 - في ديانتهم
3 - في معارفهم
4 - في زراعتهم
5 - في صناعتهم
6 - في تجارتهم
الباب الثاني: في أخلاق البدو وعاداتهم وخرافاتهم
1 - في أوصافهم الخلقية
2 - في أخلاقهم
3 - في عاداتهم
4 - في خرافاتهم
الباب الثالث: في قضاة البدو ومحاكمهم وشرائعهم
1 - في قضاة البدو
2 - في محاكمهم
3 - في شرائعهم وأحكامهم
4 - في نقد شريعة البدو وحكومتهم وطرق إصلاحهم
الجزء الثالث: في تاريخ سيناء «القديم والحديث»
الباب الأول: في تاريخ سيناء القديم
تمهيد
1 - في تاريخ سيناء في عهد الدول العشرين الأولى المصرية
2 - في تاريخ سيناء مدة تغرب بني إسرائيل فيها
3 - في تاريخ سيناء من بعد الدول العشرين الأولى المصرية إلى الفتح الإسلامي لمصر
4 - في تاريخ مملكة النبط في البتراء وعلاقتها بسيناء قديما وحديثا
5 - في تاريخ دير طور سيناء القديم والحديث
الباب الثاني: في تاريخ سيناء الحديث
1 - في تاريخ سيناء منذ الفتح الإسلامي لمصر إلى عهد الأسرة المحمدية العلوية
2 - في تاريخ سيناء في عهد الأسرة المحمدية العلوية
3 - في نظار قلاع نخل والطور والعريش ومحافظيها
4 - في حروب البدو في سيناء
5 - في حادثة الحدود سنة 1906
الخاتمة
تمهيد
خلاصة تاريخ العرب
خلاصة تاريخ سوريا
خلاصة تاريخ العراق
خلاصة تاريخ مصر
صاحب العظمة السلطان حسين كامل سلطان مصر
سيناء والحرب الحاضرة (سنة 14-1916)
العلائق التجارية بين مصر وجاراتها في هذا العصر
السوري في مصر
تاريخ سينا والعرب
تاريخ سينا والعرب
تأليف
نعوم شقير
الجزء الأول: في جغرافية سيناء
مقدمة الكتاب
عرف بعضهم المقدمة بأنها: «الجزء الذي لا يقرأ من الكتاب »، ومع ذلك فلا بد للمؤلف من مقدمة يبسط فيها السبب الذي حمله على تأليف كتابه، والغاية التي توخاها في تأليفه، والطريق التي اتخذها للوصول إلى غايته، وبيان العقبات التي لقيها في طريقه، والاصطلاحات التي جرى عليها في كتابه. وكثيرا ما يرى القارئ نفسه مضطرا إلى قراءة المقدمة؛ لأجل تفهم مراد المؤلف في بعض المواضع. والمقدمة وإن صدر بها الكتاب فإنها آخر ما يكتب فيه، لذلك إذا أريد تخصيص المقدمة بنعت ما فربما كان الأصح أن يقال إنها «آخر ما يكتب من الكتاب.» والآن فإني أحمد الله أنه أعانني على إنجاز هذا الكتاب، وأشرع في مقدمته فأقول:
سيناء حصن طبيعي لمصر:
لقد خصت الطبيعة مصر بأربعة حصون منيعة من الجهات الأربع: البحر المتوسط من الشمال، وشلالات النيل من الجنوب، وصحراء ليبيا من الغرب، وصحراء سيناء من الشرق. وعرفت مصر منذ القديم أهمية سيناء من الوجهة الحربية، فوضعتها تحت السلطة العسكرية، وجميع الدول التي ملكت مصر وسوريا معا ألحقت سيناء بمصر عسكريا وإداريا، ولم تزل الحال على ذلك إلى اليوم، وقد امتدت صحراء سيناء نحو 150 ميلا شرقا وغربا، من الزمان عزم نسل نوح ونحو ضعفي ذلك شمالا وجنوبا، وانقسمت بحسب طبيعة أرضها إلى ثلاثة أقسام كبيرة وهي: (1) بلاد الطور: وهي بلاد جبلية محضة في الجنوب. (2) بلاد التيه: وهي سهل مرتفع فياح جامد التربة في الوسط. (3) بلاد العريش: وهي وهاد من الرمال في الشمال.
وصحراء سيناء واقعة في المنطقة التي يقل فيها المطر؛ لذلك غلب عليها الجدب والقحولة، فهي قليلة المياه، قليلة النبت، قليلة الزرع والضرع والسكان.
مواضيع تاريخ سيناء:
ولم يقم في هذه البلاد في زمن من الأزمان دولة أو أمة جعلت لها شأنا يستحق الذكر في التاريخ؛ فإن موقعها الجغرافي وطبيعة أرضها لا يؤهلانها لذلك، ولم يسكنها منذ القديم إلا عدد محدود من القبائل المتبدية، دأبهم شن الإغارة، بعضهم على بعض، وعلى البلاد المجاورة لهم من الشرق والغرب، وربما لم يزد عدد سكانها في عصر ما عن خمسين ألف نسمة، كما هو في الوقت الحاضر.
ومع ذلك فاسم سيناء في التاريخ أشهر من نار على علم، ولها ذكر جميل في التوراة والقرآن والهيروغليف المصري القديم، وابتدأت شهرتها بمناجم الفيروز والنحاس والمنغنيس التي عدنها الفراعنة المصريون في بلاد الطور من عهد الدولة الأولى إلى عهد الدولة العشرين، وأقاموا في بعض مناجمها هيكلا من أقدم هياكلهم وأنفسها، وما زال أهل سيناء يعدنون الفيروز، والإفرنج يعدنون المنغنيس والنحاس فيها إلى اليوم.
ثم كان مرور بني إسرائيل في سيناء عند خروجهم من مصر على يد موسى النبي، ونزلت «الوصايا العشر» على طور سيناء، فعدها اليهود ثم النصارى والمسلمون من بعدهم من الأراضي المقدسة. ولم تكد النصرانية تنتشر في مصر والشام حتى انتشر الرهبان والنساك حول جبل الطور، وبنوا الكنائس والأديرة، فأصبح الجبل محجا لأهل الشرق والغرب من اليهود والنصارى والمسلمين، وما زال هناك دير يزار إلى اليوم.
ثم لما كانت سيناء في طريق مصر إلى الشام وجزيرة العرب، قام فيها منذ أقدم أزمنة التاريخ طريقان تجاريتان حربيتان وهما: «طريق الفرما» على ساحل البحر المتوسط إلى الشام فالعراق، «وطريق البتراء» مخترقا بلاد الطور إلى الحجاز.
ثم بعد الإسلام قام فيها «طريق الحج» مخترقا بلاد التيه إلى الحجاز، «وطريق العريش» مخترقا قطية والعريش إلى الشام فالعراق.
وفي سنة 1906 وقع خلاف بين الدولة العلية والخديوية المصرية على حدود سيناء الشرقية، وتدخلت الدولة البريطانية في الأمر، فتعاظم الخلاف حتى كاد يؤدي إلى حرب، وانتهى الأمر بتعيين الحدود بعمد على طول الخط بين العقبة ورفح.
وعليه فينحصر الكلام على تاريخ سيناء في خمسة أمور وهي: (1) غزوات قبائل سيناء بعضهم لبعض، وللقبائل المجاورة لهم في مصر وسوريا والحجاز. (2) أعمال الفراعنة المصريين في مناجم الفيروز والنحاس والمنغنيس ووقائعهم مع أهل سيناء. (3) تغرب بني إسرائيل في سيناء مدة أربعين سنة. (4) معاهد البلاد الدينية في بلاد الطور والحج إليها. (5) العلائق التجارية والحربية والدينية بين مصر من جهة، والشام والعراق والحجاز من الجهة الأخرى عن طريق سيناء.
فذكر هذه الشئون مع وصف الجزيرة وسكانها وشرائعهم وأخلاقهم وعاداتهم، يتناول جميع مواضيع سيناء تاريخيا وجغرافيا.
أسباب تأليفي تاريخ سيناء:
هذا وكان لي اتصال بسيناء منذ دخلت إدارة المخابرات بوزارة الحربية سنة 1889، وكانت سيناء من قبل ذلك العهد تحت إدارة الحربية، وعليها قومندان يعينه السردار، يقيم في نخل، ويرجع بأحكامه رأسا إلى مدير المخابرات المقيم بالقاهرة، وهو يرجع بأحكامه إلى السردار.
وقد ندبتني الحربية مرارا للذهاب إلى سيناء؛ لأغراض مختلفة تتعلق بإدارة البلاد، واستتباب الأمن والراحة بين قبائلها، فزرت ديرها ومدنها وقراها، وتعرفت بقبائلها وأشهر طرقها، واطلعت على حال أهلها، ولما كانت حادثة الحدود سنة 1906 عينت سكرتيرا للجنة المصرية التي ندبت لتعيين حدود سيناء الشرقية مع اللجنة العثمانية، وكانت سيناء على اتساعها وشهرتها التاريخية وقربها من مصر، مجهولة عند عامة المصريين، وكان تاريخ السودان الذي فرغت من تأليفه سنة 1904 قد لقي عند القراء الكرام إقبالا لم أكن أتوقعه، فحملني ذلك كله على وضع تاريخ لسيناء على مثال تاريخ السودان، فشرعت منذ ندبت مع لجنة الحدود في جمع كل ما أمكن جمعه من الحقائق التاريخية والجغرافية، لا سيما وقد كان من واجبي في اللجنة أن أتحرى تاريخ عرب الحدود، وملكيتهم للأراضي والمياه، وعلاقاتهم الحاضرة والماضية مع مصر وسوريا.
عقبات تأليف تاريخ سيناء:
فما عتمت أن وجدت أن دون جمع الحقائق التاريخية من بدو سيناء عقبات كئودة، وأن العون الذي استمده موسى لاستخراج الماء من صخرة سيناء أعوزني مثله لوضع تاريخ لهذه الصخرة، وأهم العقبات التي وقفت في سبيلي: (1) أن بدو سيناء في غاية الخشونة والجهل، لا تاريخ لهم، ولا علم، ولا شبه علم، بل ليس في بادية سيناء كلها من يحسن القراءة والكتابة. (2) أن أهل القبيلة الواحدة يجهلون كل الجهل بلاد القبائل المجاورة لهم، وليس من يعرف أحوال القبائل كلها من أهل سيناء إلا أفراد قليلون يعدون على الأصابع، ومعرفة هؤلاء لغير بلادهم إجمالية سطحية قلما يصح الاعتماد عليها. (3) أن أكثر مشايخ القبائل في سيناء لا يعرفون من تاريخ قبائلهم وجغرافية بلادهم إلا اليسير، وهذا اليسير لا يمكن الحصول عليه إلا بعد بذل الجهد والحيلة المستلطفة؛ لأن البدو متكتمون إلى الغاية عن الحكام، فلا يمكنونهم من معرفة أحوالهم؛ خوفا من التعرض لأمورهم، وإدخال قانون القرعة إلى بلادهم، ووضع الضرائب على أملاكهم، فكنت في أول الأمر إذا سألت أحدهم عن أي شأن من شئون قبيلته، أراه ينقبض ويظهر الريبة، وينكر كل علم في الشأن المسئول عنه، أو يجيبني جوابا غير سديد، وكنت إذا نفيت عنه الريبة وآنسته في المقال حاول التخلص من الجواب عن كسل أو ضعف همة، وإذا نشطته واستنهضت همته إلى الجواب أجابني بما عن له صدقا أو كذبا.
تذليل العقبات:
على أن هذه العقبات التي لم أكن أتوقعها لم تكن لتثنيني عن عزمي، بل بذلت الجهد في تذليلها، فكنت حيثما نزلت أجمع المشايخ والخبراء، وأتلطف في تسقط أخبارهم واستقصاء أحوالهم، مبينا لهم أن ذلك في مصلحتهم، ولم أكن أكتفي بسؤال واحد منهم عن أية حقيقة كانت، ولو أنه اسم مكان، بل كنت أطرح السؤال الواحد على اثنين أو أكثر، وأسأل كلا منهم على انفراد، ثم أجمعهم إذا اقتضى الأمر، وأسألهم السؤال عينه حتى أستوثق من صحة الجواب، فأثبته في يوميتي، كما فعلت في تمحيص حقائق تاريخ السودان. ثم إنه لم تسنح لي فرصة لاختبار البلاد وأهلها بنفسي إلا اغتنمتها، فزرت البدو مرارا في مخيماتهم، وحضرت أفراحهم ومراقصهم وغناهم، وسباقهم على الخيل، واجتماعاتهم العمومية والخصوصية، وجولت في أنحاء الجزيرة في الجهات التي قضت علي المصلحة بالتجوال فيها وفي كثير غيرها، وكنت في أثناء ذلك أبحث عن آثار البلاد القديمة والحديثة، ولا سيما العربية منها، فعثرت على كثير من النقود القديمة، والحصون الأثرية، والحجارة التاريخية الهيروغليفية واليونانية والنبطية والعربية، مما زادني علما بأحوال البلاد وتاريخها القديم والحديث.
هذا، وقد كشف لي البحث في آثارها عن عادة جميلة لأهلها، كانت عونا لي على استطلاع الكثير من أخبارها وحوادثها التاريخية والتقليدية، وذلك أنهم اعتادوا تخليد كل عمل جليل، أو حادث هام حدث في الجزيرة، بأن يقيموا له «رجما»، وهو حجر أبيض أو كومة من الحجارة - «على ماء شهير أو درب جهير» - أو يرسموا بضع دوائر، أو تلما عن جانبيه حفر، وهم يعنون كل العناية بإحياء هذه الرجم والرسوم.
ومن جميل عادات البدو التي اطلعت عليها في أثناء البحث، فمكنني من معرفة الكثير من غزواتهم وحروبهم الحديثة، أنهم ينظمون القصائد في كل غزوة أو حرب شهيرة، ويستظهرونها ويتوارثونها خلفا عن سلف.
وقد دامت مهمة الحدود خمسة أشهر، قضيتها كلها في أرض سيناء وبين أهلها، فما انتهيت من الهمة حتى كان قد اجتمع عندي من الحقائق التاريخية والجغرافية، وأحوال البلاد وأهلها قديما وحديثا، بما يملأ مجلدا كبيرا.
مستندات التاريخ:
فلما رجعت إلى مصر في أكتوبر سنة 1906، باشرت وضع التاريخ الذي عزمت عليه، فوجدت المعلومات التي جمعتها في التاريخ القديم، والأجيال المتوسطة لا تزال قاصرة جدا، فنقبت في كتب الأقدمين والآثار المصرية القديمة في التوراة، وكتابي «فجر العمران» و«جهاد الأمم» للموسيو ماسبرو - العالم الأثري الفرنساوي - وكتاب «مباحث في سيناء» للمستر فلندرس بتري - العالم الأثري الإنكليزي - وفي كتب مؤرخي العرب، كالمقريزي، والمسعودي، واليعقوبي، والهمذاني، وأبي الفداء، وغيرهم، فجمعت منهم حقائق جمة عن تاريخ سيناء القديم.
وبلغني أن في بلدة الطور كتابا يدعى «الأم»، أنشئ في قلعة الطور القديمة، وفيه كثير من أخبار سيناء في القرون التي بعد الألف للهجرة، وكنت أتوق جدا إلى مطالعة الكتب، والمستندات العربية التي في دير طور سيناء الشهير، فاتفق أني ندبت لمهمة إلى بلاد الطور في أبريل سنة 1907، فزرت مدينة الطور والدير، واطلعت على كتاب «الأم» في الطور، وكتب شتى عربية في الدير، وقفت منها على كثير من الحقائق التاريخية في الأجيال المتوسطة، وعدت إلى مصر وانكببت على العمل، فلم تنته سنة 1907 حتى أتممت الكتاب، فجاء في ثلاثة أجزاء كبيرة وهي:
الجزء الأول:
في جغرافية سيناء الطبيعية والإدارية، وفيه ذكر حدودها، وأراضيها، وجبالها، وأوديتها، ومياهها، ومعادنها، وهوائها، ونباتاتها، وحيواناتها، وسكانها، ومدنها، وقراها، وديرها، وطرقها، وآثارها، وحكومتها، وغير ذلك.
الجزء الثاني:
في بداوة سيناء، وفيه ذكر لغة أهلها، وديانتهم، ومعارفهم ، وزراعتهم، وصناعتهم، وتجارتهم، وعاداتهم، وخرافاتهم، وقضاتهم، ومحاكمهم، وشرائعهم، وأحكامهم، مع نقد شريعة البدو وحكومتهم وطرق إصلاحهم.
الجزء الثالث:
في تاريخ سيناء القديم والحديث، ويشمل تاريخ السكان الأصليين مع الفراعنة، وتغرب بني إسرائيل في سيناء، ومملكة النبط في البتراء، وتاريخ دير طور سيناء، وتاريخ سيناء في عهد اليونان والرمان، والفتح الإسلامي إلى هذا العهد، وحروب البدو في سيناء في عهد الأسرة العلوية، وتفصيل حادثة الحدود وغيرها.
هذا، وقد جعلت تحت كل جزء أبوابا، وتحت كل باب فصولا، تناولت جميع مباحث التاريخ القديم والحديث والجغرافية، فجاء أوفى كتاب ألف في سيناء في الإفرنجية أو العربية إلى هذا العهد، وقد تفرد عن الكتب الإفرنجية والعربية في المباحث الآتية: (1) الحجارة التاريخية العربية، ومنها الحجارة التاريخية في قلعة صلاح الدين الأيوبي على عين سدر. (2) جل ما جاء في كتب مؤرخي العرب عن سيناء وأهلها. (3) لغة بدو سيناء، وديانتهم، وعاداتهم، وأخلاقهم، وشرائعهم. (4) غزوات أهل سيناء، وحروبهم الحديثة المأخوذة عن رجومهم وتقاليدهم وأشعارهم. (5) كتاب الأم، وكتب الدير العربية.
ولما تم الكتاب على هذا المنوال، وهممت بتقديمه للطبع، عرضت لي موانع لا محل لذكرها هنا، أخرت طبعه إلى شتاء سنة 1914، فأضفت إليه ما جد عندي من الحوادث والمعلومات عن سيناء وأهلها، منذ أواخر سنة 1907، وباشرت الطبع.
الخاتمة:
ولكن لم يتم طبع الجزأين الأولين منه حتى قامت الحرب الغشومة الحاضرة، ودخل الاتحاديون الحرب في جانب الألمان، وجردوا جيشا من سوريا والعراق والحجاز على الإنكليز في مصر عن طريق سيناء، فأوقفت الطبع ريثما تنتهي الحملة، فأجعلها خاتمة الكتاب، ثم خطر لي أن أضمن الخاتمة جميع الحملات التي حملها الغزاة على مصر بطريق سيناء، ثم توسعت في ذلك، فراجعت التاريخ القديم والحديث، وأخذت خلاصة تاريخ مصر والشام والعراق وجزيرة العرب، وكل ما كان بين مصر وجاراتها من الوقائع الحربية والصلات التجارية وغيرها عن طريق سيناء، وأضفت إليه وصف جزيرة العرب، وتاريخ العرب قبل الإسلام وبعده في بلادهم وخارج بلادهم، وحركة السنوسي في الغرب، وتاريخ السوري في مصر، وغير ذلك من المباحث التي أوجبتها الحرب الحاضرة، وجعلت هذه الخلاصة مع وصف الحملة الأخيرة على مصر «خاتمة الكتاب».
وقد كان أكثر اعتمادي في هذه الخلاصة على الكتب الآتية: «فجر العمران» و«جهاد الأمم» للعلامة مسبرو، «تاريخ مصر» للمؤرخ المحقق شارب الإنكليزي، «تاريخ سوريا» النفيس للعلامة المطران يوسف الدبس، «التاريخ القديم» للأستاذ هارفي بورتر الأميركي، «تاريخ العقد الثمين» للعالم الأثري أحمد بك كمال، «تاريخ مصر الحديث، وتاريخ العرب قبل الإسلام» للمرحوم جورج بك زيدان، «تاريخ مصر» للأديبين عمر أفندي الإسكندري، والمستر سفدج الإنكليزي، «تاريخ مصر» للمرحومة هند عمون، «الدروس التاريخية» للمؤرخ المحقق الأستاذ محمد الخضري، «كتاب أشهر مشاهير الإسلام» لرفيق بك العظم، «الرحلة اليمانية» للشريف شرف عبد المحسن البركاني، «الرحلة الحجازية» لمحمد بك لبيب البتنوني، وهو من أنفس ما كتب عن جزيرة العرب قديما وحديثا، وتقارير كثيرة من أهل الخبرة من الشام والعراق والحجاز، عن صفة جزيرة العرب والعلائق التجارية وغيرها بين مصر وجاراتها في هذا العصر.
واشتد طلب الجمهور لتاريخ سيناء؛ لوقوع الحرب فيها، وكانت هذه الحرب قد زادت شغلي في إدارة المخابرات، حتى جعلته أضعاف ما كان عليه قبل الحرب، ولم تترك لي ساعة واحدة من ساعات الفراغ التي كنت أغتنمها لطبع التاريخ، فكنت أكتب الخاتمة وأجهزها للطبع في ساعات الراحة، بل في ساعات النوم، فلما كان شتاء سنة 1915 كنت قد فرغت منها، فقدمتها للطبع هي والجزء الثالث من التاريخ، وكثيرا ما كنت أقدم فصلا للطبع، فتدعوني المصلحة إلى مزايلة القاهرة، فأبعث بإصلاح ما عن لي إصلاحه بلسان البرق، وبقيت على هذا الجهاد حتى قدرني الله وفرغت من التحبير في 31 ديسمبر سنة 1915، ومن الطبع في 27 مارس سنة 1916.
أسلوبه:
وقد عنيت عناية خاصة في ضبط عبارة الكتاب، وإحكام وضعه على أسلوب تفهمه العامة، وترضى به الخاصة، وضمنته الكثير من النكات المستملحة، والقصص التقليدية المستظرفة التي تشوق القارئ إلى مطالعته بلا تعب ولا ملل.
رسومه:
وحليته ب 137 رسما من مناظر البلاد وقلاعها، وحيواناتها، وآثارها الشهيرة، ورسوم كثير من مشايخ قبائلها وحكامها، وكبار الموظفين والأعيان ، والأمراء والملوك الذين كان لهم الشأن في تاريخها قديما وحديثا، وقد أخذت بعض هذه الرسوم بنفسي، ولكن أكثرها تكرم به محبو التاريخ ممن ساحوا في سيناء وأخذوا رسومها، أخص منهم بالذكر مع الشكر: الكولونل باركر مدير سيناء الأسبق، والمستر ستن من كبار تجار الإنكليز، وصاحب كتاب «سياحتي على جمل من السويس إلى جبل سيناء»، والدكتور هسكنز المرسل الأميركي صاحب الكتاب النفيس «من النيل إلى نبو»، وكل هذه الصور حفر الخواجة بنيامين صابونجي السوري، وبعضها رسم أخيه مناويل.
خرائطه:
وقد جعلت للكتاب ثلاث خرائط: (1) خريطة سيناء منقولة عن أتم خريطة أصدرتها إدارة المخابرات بلندن، بعد أن نقحتها على قدر المستطاع؛ إذ لم يتم مسح الجزيرة كلها بعد. (2) خريطة مصر والشام والعراق وجزيرة العرب، وهي خريطة تقريبية يقصد بها إعانة القارئ على معرفة أشهر المواقع المذكورة في الخاتمة. (3) خريطة طريق الجيش العثماني إلى القنال.
فهرسه:
وجعلت للكتاب فهرسا للأبواب والفصول، ولم أجعل له فهرسا للمواضيع؛ لأن هذا لا يفيد إلا إذا كان وافيا متقنا كل الإتقان، وهذا العمل يتطلب وقتا وورقا للطبع، وأنا لا أجد هذا ولا ذاك الآن، وربما وفقت إلى عمله بعد الحرب.
اسمه:
وقد سميته باسم موضوعه الأصلي، وهو «تاريخ سيناء»، واسمه مفصلا: «تاريخ سيناء القديم والحديث، وجغرافيتها، وبداوتها، مع خلاصة تاريخ مصر والشام والعراق وجزيرة العرب، وما كان بينها من العلائق الحربية والتجارية وغيرها «عن طريق سيناء»، منذ أول عهد التاريخ إلى اليوم، وبعبارة موجزة: «تاريخ سينا والعرب.»
تقدمة الكتاب:
هذا ولما كان صاحب المعالي السردار الحالي وحاكم السودان العام، الجنرال الفريق السر رجينولد ونجت باشا هو المشرف على سيناء بصفته سردار الجيش المصري، وقد اشتهر بحب العرب، ولغة العرب، وبلاد العرب، وكان المروج الأكبر للإصلاح في سيناء والسودان؛ لذلك كله رأيت أن أجعل كتابي هذا تقدمة له، فاستأذنته في ذلك، فتكرم بقبول التقدمة بعبارة دلت «على ثقته بفائدة الكتاب، وحسن إنشائه، وأمل له نجاحا عظيما». وقد بذلت جهدي في أن يكون كتابي هذا جديرا بثقة معاليه، وثقة أدباء هذا العصر الكرام الذين غزرت مادة علمهم، حتى أصبحوا لا يرضيهم إلا الجيد النفيس من التأليف، فإن كنت قد أجدت فذلك فضل من الله، وإلا فعذري قصر الوقت أو قصر الوقت والباع معا، والحمد لله أولا وآخرا.
نعوم شقير
مصر، القاهرة في 27 مارس سنة 1916
الباب الأول
في جغرافية سيناء الطبيعية
الفصل الأول
في حدود شبه جزيرة طور سيناء وأسمائها
«شبه جزيرة طور سيناء» بلغة الشاعر: قنطرة النيل إلى الأردن والفرات، وبلغة الناثر: الوصلة البرية بين أفريقيا وآسيا، وبعبارة أخص هي تلك البادية الشهيرة التي تصل القطر المصري نفسه بقطري سوريا والحجاز، وقد أخذت شكل مثلث قعد على البحر المتوسط وانقلب على رأسه، فدخل كالسفين في رأس البحر الأحمر، وشطره شطرين هما خليج العقبة وخليج السويس.
وشبه الجزيرة في الأصل هي البلاد الواقعة بين هذين الشطرين المعروفة الآن ببلاد الطور، ثم امتدت إداريا فشملت بلاد التيه، ثم بلاد العريش في الشمال، فأصبح حدها من الشمال البحر المتوسط، ومن الغرب ترعة السويس وخليج السويس، ومن الجنوب البحر الأحمر، ومن الشرق خليج العقبة، وخط يقرب من المستقيم يبدأ من رأس طابا على رأس خليج العقبة، وينتهي بنقطة على شاطئ البحر المتوسط عند رفح. (1) أسماؤها
وسنسميها بعد الآن: جزيرة طور سيناء، أو جزيرة سيناء، أو الجزيرة، أو سيناء طلبا للاختصار، أما نسبتها إلى طور سيناء؛ فلأن هذا الطور هو أشهر جبالها، وأما سيناء فلغة «الحجر»، قيل سميت البلاد سيناء لكثرة جبالها، وقيل إن اسم سيناء مأخوذ من سين بمعنى القمر في العبرانية، فسميت البلاد سيناء؛ لأن أهلها كانوا قديما يعبدون القمر، قلت: بل يكفي لنسبتها إلى القمر حسن الليالي المقمرة فيها، فإن صفاء جوها، ورقة هوائها، وسعة أرضها تجعل قمرها أبدع الأقمار.
وقد عرفت سيناء في الآثار المصرية باسم «توشويت» - أي أرض الجدب والعراء - وعرفت في الآثار الآشورية باسم «مجان»، ولعله تحريف مدين، وهو الاسم الذي أطلقه مؤرخو العرب على شمال الحجاز وجنوبي فلسطين، وهي البلاد التي عرفت عند مؤرخي اليونان باسم «أرابيا بترا» - أي العربية الصخرية.
هذا، وقد عرفت في التوراة باسم حوريب - أي الخراب - كما عرفت باسم سيناء، قال بعض علماء التوراة: إن اسم حوريب أطلق على البلاد جملة، واسم سيناء على أشهر جبل فيها، ثم نسي اسم حوريب وسائر الأسماء القديمة، ولم يبق إلى يومنا هذا إلا اسم سيناء.
ولقد كانت سيناء في أكثر العصور التاريخية ملحقة بمصر، مع أن سكانها كانوا منذ بدء التاريخ ولا يزالون من أصل سامي كسكان سوريا، وهي في هذا العهد محافظة من محافظات القطر المصري كما سيجيء تفصيلا. (2) البحر المتوسط
أما البحر المتوسط الذي يحد سيناء من الشمال، فطول شاطئه من بورسعيد إلى رفح نحو مائة وثلاثين ميلا، وطوله على خط مستقيم نحو مائة ميل، وهو شاطئ رملي معرض للرياح الشمالية الغربية التي تشتد في غالب الأحيان، حتى يستحيل على السفن الاقتراب منه؛ لشدة هياج الأمواج، وليس في هذا الشاطئ ما يصلح لأن يكون ميناء للسفن إلا خليجا صخريا صغيرا بين مدينة العريش والشيخ زويد، يدعى الجرف الحصين عند بئر المصيدة، فإنه إذا اعتني به صلح لأن يكون ميناء للسفن الصغيرة.
شكل 1-1: الموسيو ده لسبس فاتح ترعة السويس.
هذا ويدخل من البحر المتوسط في بر سيناء بين العريش والطينة بحيرة عظيمة، تعرف «ببحيرة بردويل» سيأتي ذكرها. (3) ترعة السويس
وأما ترعة السويس التي تحد سيناء الشمالية من الغرب، فهي الترعة التي تصل البحر الأحمر رأسا بالبحر المتوسط، تمتد من مدينة السويس، فتخترق البحيرة المرة، فبحيرة التمساح، فبحيرة البلاح، ثم تحاذي بحيرة المنزلة من الشرق إلى أن تصل البحر المتوسط عند بورسعيد، وطول هذه الترعة 160 كيلومترا، وعرضها مائة متر، وعمقها تسعة أمتار وخمسون سنتيمترا، وأكبر البواخر التي يسمح لها بالملاحة فيها الآن لا تتطلب من العمق أكثر من ثمانية أمتار و53 سنتيمترا، ولكنهم آخذون في توسيعها وتعميقها حتى تصلح لمسير أكبر البواخر.
وللترعة ثلاثة جسور - كباري - متحركة، يعبر بها إلى جزيرة سيناء، أحدها شمالي السويس، والثاني عند الإسماعيلية، والثالث عند القنطرة في طريق العريش.
ولقد كان وصل البحر الأحمر بالبحر المتوسط أمنية كل ملك عظيم قام على مصر منذ أيام الفراعنة، وكان أول من حقق هذه الأمنية رعمسيس الثاني سنة 1330ق.م، فإنه وسط النيل، ومد ترعة من فرع النيل البليوسي عند تل بسطة إلى السويس، طولها نحو 200 كيلومتر، وعرضها من مائة إلى مئتي قدم، ثم ردمت، فجددها داريوس ملك الفرس، ثم ردمت، وجددها البطالسة، ولم افتتح العرب المسلمون مصر على يد عمرو بن العاص كانت مردومة، فاستأذن ابن العاص الخليفة عمر بن الخطاب وجدد حفرها، فجعل مبدأها مصر العتيقة وأتمها بسنة، وبقيت إلى زمن أبي جعفر المنصور ثاني الخلفاء العباسيين، فوصل إليه الخبر بأن خرج عليه محمد بن عبد الله من سلالة علي بن أبي طالب بالمدينة المنورة، فكتب إلى عامله على مصر يأمره بسد هذه الترعة، حتى لا تحمل المئونة من مصر إلى المدينة، فسدها وما زالت كذلك إلى اليوم.
ولكن لم يتم وصل البحرين رأسا بدون توسط النيل إلا في عهد إسماعيل باشا الخديوي الأسبق، وذلك بهمة الموسيو ده لسبس - المهندس الفرنساوي الشهير - فإنه نال الإذن بفتحها من سعيد باشا سنة 1856م، وألف شركة مساهمة، فدبر ما تحتاج إليه من المال، وأنشأها على رغم ما اعترضه من الموانع السياسية والإدارية القوية، وقد بلغت نفقات حفرها وتوسيعها 24 مليون جنيه، واحتفل بافتتاحها في 17 نوفمبر سنة 1869م/12 شعبان سنة 1286ه احتفالا بلغ منتهى الأبهة، وقد حضره بعض ملوك أوروبا ونواب جميع الدول.
شكل 1-2: اللفتننت توماس واغورن، فاتح طريق النيل والصحراء من الإسكندرية إلى السويس.
وهذه الترعة من أعظم الأعمال التي باشرها الإنسان منذ قام العالم؛ لأنها ربطت الشرق بالغرب، وسهلت التجارة في آسيا وأفريقيا وأوروبا أعظم تسهيل.
هذا، وقبيل فتح هذه الترعة كان المسافرون إلى الهند من الإسكندرية يركبون ترعة المحمودية بالمراكب، تجرها الرفاصات إلى العطف 44 ميلا، ثم يركبون النيل فرع رشيد بالبواخر إلى القاهرة 120 ميلا، ومن هناك يركبون مركبات الأمنيبوس، تجرها الخيل في الصحراء إلى السويس 84 ميلا، وقد قصرت هذه الطريق طريق الهند أسابيع، وكان الفضل في إنشائها إلى «اللفتننت توماس واغورن» من ضباط البحرية الإنكليز، توفي في يناير سنة 1850 عن 49 عاما، ولم يكافأ على عمله هذا إلا بعد وفاته، فقد نصب له قومه تمثالا في بلدته شاتام، من أعمال كنت بإنكلترا سنة 1888، وكانت شركة «القنال» قد نصبت له تمثالا نصفيا عند مدخل القنال في بورت توفيق بالسويس، كما نصبت للمسيو ده لسبس تمثالا كاملا عند مدخل القنال في بورسعيد.
هذا، وقد كان لمرور تجارة الهند وبريدها بمصر نفع عظيم لمصر وسوريا معا، ففتح هذه الترعة سد النفع في وجههما، وحولها إلى أوروبا، وكان الإنكليز أكبر المستفيدين من فتحها، مع أنهم كانوا أكبر المعارضين لها في أول الأمر؛ لأن سياستهم كانت تقضي ببقاء طريق الهند على رأس الرجاء، ففي سنة 1911 مر بالترعة 4969 باخرة، تحمل 18824794 طنا، فكان 3089 باخرة منها للإنكليز، والباقي لسائر الدول، وكانت الحكومة الإنكليزية قد اشترت أسهم خديوي مصر في 25 نوفمبر سنة 1875، في وزارة اللورد بيكو نسفيلد بأربعة ملايين جنيه، فبلغت قيمتها في 31 مارس سنة 1911 سبعة وثلاثين مليونا ونصف مليون جنيه، وكانت أرباح هذه الأسهم في العام المنصرم (1913) 1316685 جنيها.
هذا، وفي الاتفاق الدولي الذي أمضي في 29 أكتوبر سنة 1888، تقرر أن يكون حق المرور بالترعة شائعا لجميع الدول، فتمخر فيها بواخرها المسلحة وغير المسلحة، في زمن الحرب أو في زمن السلم.
ويديرها الآن مجلس عام مؤلف من 32 عضوا من جميع الدول المساهمة فيها، وفيهم عشرة من الإنكليز، بينهم ثلاثة ينوبون عن الحكومة الإنكليزية.
ومدة امتياز الترعة 99 عاما من تاريخ افتتاحها، وشروط الحكومة المصرية مع الشركة، تقضي بخروج الأسهم كلها من أيدي المساهمين، ودخولها في حوزة مصر عند انتهاء هذه المدة؛ أي سنة 1968، وجميع أسهم الترعة الآن للأجانب، فليس للحكومة المصرية أو للمصريين سهم واحد منها، ففي سنة 1909 اقترحت الشركة على الحكومة المصرية أن تطيل الامتياز أربعين سنة، فتدفع لها الشركة أربعة ملايين جنيه مع نصيب قليل من الأرباح، وقد قصدت الشركة بذلك رفع أسهمها، وإطالة أمد أرباحها بإشراك مصر في شيء من الأرباح، فعرضت الحكومة الاقتراح على الجمعية العمومية، وقيدت نفسها بقبول رأي الجمعية كيف كان، فرفضت الجمعية الاقتراح بأغلبية عظيمة، بحجة أنه مجحف بحقوق مصر، قالوا: يكفي الذي خسرته تجارة مصر بفتح هذه الترعة، وأنه ليس لمصر الآن سهم واحد من أسهمها، فلا نطيل أجل خسارتنا بيدنا أربعين سنة أخرى، قالوا ذلك وهم آملون دخول الترعة في حوزة مصر عند انتهاء مدة الامتياز.
ولكن الذين دافعوا عن الاقتراح، قالوا: إن مصر لو قبلته أفادت الشركة بإطالة مدة امتيازها، واستفادت هي مورد مال جديد، ليس لها غير هذا السبيل إلى وروده؛ لأن ترعة كترعة السويس تربط الشرق بالغرب، وتشترك فيها مصالح الدول كلها، لا تترك لرحمة مصر والمصريين يتحكمون فيها كما يشاءون، وقد كان رسم المرور بالترعة أولا عشرة فرنكات على الطن الواحد، فخفض تدريجا حتى بلغ الآن ستة فرنكات وخمسة وسبعين سنتيما، وقد وعد الموسيو ده لسبس سنة 1883 بأن يكون الحد الأدنى لرسم المرور خمسة فرنكات، فلا بد من خفضه إلى هذا الحد الموعود به «خصوصا بعد فتح ترعة بناما»، بل ربما خفض إلى أدنى من هذا الحد، حتى إذا ما انتهت مدة امتياز الترعة جعلوها حرة، ولم يسمحوا بأخذ رسم مرور بها إلا بقدر ما يكفي للمحافظة عليها، فإذا صح هذا القول ولم يكن لمصر إذ ذاك ما للشركة الآن من القوة لتمشية الرسم الذي توجبه، كان رفض الاقتراح موجبا للأسف الشديد. (4) خليج السويس وموانيه
أما خليج السويس الذي يحد سيناء الجنوبية من الغرب، فطوله من السويس إلى رأس محمد نحو 150 ميلا، وعرضه من عشرة أميال إلى ثمانية عشر ميلا، وأشهر موانيه على شاطئ سيناء مبتدئا من الشمال:
ميناء عيون موسى:
على ثمانية أميال من السويس، وفيه محجر صحي قديم.
وميناء ملعب:
على نحو خمسين ميلا من ميناء عيون موسى، وقد اتخذته حكومة مصر محجرا للحجاج بضع سنين، ثم وجدته عرضة للرياح الشديدة، فنقلت المحجر منه إلى مدينة الطور.
وميناء أبو زنيمة:
على نحو اثني عشر ميلا من ميناء ملعب، سمي كذلك باسم شيخ يزار هناك يعرف بهذا الاسم، وقد كان في عهد الفراعنة ميناء معدني الفيروز في سرابيت الخادم، وفي هذا العهد ميناء معدني المنغنيس في وادي بعبعة.
وبين هذا الميناء وسرابيت الخادم يومان بسير القوافل، تذهب الطريق من الميناء بوادي الطيبة، فوادي الحمر، فرملة القرى، فوادي بعبعة، فوادي سوق، فالسرابيت.
وقد قرر مجلس الصحة والكورنتينات في جلسة 6 يناير سنة 1914 إنشاء محلة جديدة للحجر الصحي في هذا الميناء.
وميناء أبو رديس:
على نحو عشرة أميال من ميناء أبو زنيمة، وهو ميناء معدني الفيروز في وادي المغارة منذ عهد الفراعنة إلى اليوم، وبينه وبين وادي المغارة 15 ميلا بوادي السدرة.
وميناء الطور:
على نحو خمسة وخمسين ميلا من أبو رديس، ومائة وخمسة وثلاثين ميلا من السويس بشاطئ البحر، ومائة وخمسة وعشرين ميلا بطريق البواخر، وهو أشهر مواني سيناء وأقدمها، وسيأتي ذكره في الكلام على مدينة الطور.
وميناء راية:
على نحو خمسة أميال من الطور، وهو ميناء حسن، وله بئر عذبة المياه، وآثار تدل على أنه كان مأهولا في القديم، وهناك قبر شيخ يزار يعرف باسمه.
وميناء جار:
على نحو سبعة أميال من راية، وهنا أيضا قبر شيخ يزار يعرف بهذا الاسم. (5) خليج العقبة وجزره وموانيه
أما خليج العقبة الذي يحد سيناء الجنوبية من الشرق، فطوله من رأس محمد إلى قلعة العقبة نحو مائة ميل، وعرضه من سبعة أميال إلى أربعة عشر ميلا، وفيه ثلاث جزر:
شكل 1-3: جزيرة فرعون.
جزيرة تيران:
عند قاعدته تجاه رأس محمد، بينهما مضيق حرج لمرور المراكب، و«جزيرة سنافر» شرقيها، وكلتاهما قفر بلقع.
وجزيرة فرعون:
عند رأس الخليج على ثمانية أميال من مدينة العقبة بحرا، وهي جزيرة صغيرة محيطها نحو ألف متر، مؤلفة من أكمتين صغيرتين بينهما فرجة ضيقة، وبينها وبين بر سيناء نحو 250 مترا، وهي داخلة في حد سيناء.
وعلى قمتي الأكمتين خرائب قلعة قديمة، لم يبق منها سوى صهاريج الماء، ومخازن الغلال والذخائر، ومنازل العساكر، وفي جدرانها المزاغل لضرب النار؛ ولذلك تعرف عند البدو بالقلعة أو القليعة أو القرية، وهي الآن خراب لا ساكن فيها، وكان يحيط بها سور منيع له باب إلى جهة سيناء، وقد ذكر بعض السياح الإفرنج أنه مر بالجزيرة في أواسط القرن الغابر، فرأى حجرا فوق الباب عليه اسم باني القلعة وتاريخ بنائها، ولكن هذا الباب قد تهدم الآن، وتهدم السور إلى الأرض، إلا أن ما يبدو من أساسه يدل على متانته، وقد فتشت عن الحجر التاريخي المشار إليه في الجزيرة كلها، فلم أقف له على أثر، ولكن عثر بعضهم بين خرائب القلعة على قطع من العملة النحاسية القديمة.
وقد ظن بعض السياح أنها عصيون جابر المذكورة في التوراة بقرب أيلة، ولكن خرائب قلعتها الحاضرة تدل على أنها أحدث جدا من ذلك العهد، والأرجح أنها من بناء صلاح الدين الأيوبي، وأنه بناها لمقاومة الصليبيين، وهي تشبه في بنائها قلعة لصلاح الدين في جوار عين سدر كما سيجيء، ويقال: إن أرنولد ده شنتليون حصرها بالمراكب سنة 1182م، ثم هجرت بعد ذلك بمائة سنة واكتفي بقلعة العقبة.
وأما رأس محمد:
فهو تل صغير في رأس مثلث سيناء، علوه نحو 120 مترا، وعلى نحو 20 ميلا منه شمالا رأس النصراني.
وأشهر مواني هذا الخليج على شاطئ سيناء:
ميناء الشرم:
بين رأس محمد ورأس النصراني، على نحو ثمانية أميال من الأول، واثني عشر ميلا من الثاني، وفي هذا الميناء قبر شيخ يزار يعرف بهذا الاسم.
وميناء النبك:
على نحو عشرين ميلا من ميناء الشرم، وهو أقرب فرضة إلى بر الحجاز، وتجاهه في ذلك البر ميناء الشيخ حميد، بينهما سبعة أميال أو حواليها، ينتابه الآن تجار الإبل والغنم، وأكثرهم من عرب الحويطات المصريين، فيأتون بالإبل والغنم من بر الحجاز إلى النبك، ثم يخترقون برية سيناء إلى السويس، وسيأتي ذكر هذا الطريق تفصيلا، وفي النبك آبار عذبة الماء وبستان نخيل، قيل وهناك خرائب دير بني في صدر النصرانية، وبقربه خرائب قرية صغيرة أقدم منه.
وميناء ذهب:
على نحو خمسة وعشرين ميلا من النبك، وفي عرض شمالي 28
28°، وهناك آبار ماء عذبة قديمة العهد ، وثلاث جنان من النخيل، قيل وهناك أيضا خرائب دير قديم، وأن القدماء عدنوا الذهب في جواره، ومن ذلك اسمه.
وميناء النويبع:
على نحو ثلاثين ميلا من ميناء ذهب، وفيه آبار ماء، وحديقة متسعة من النخيل، وطابية صغيرة بنتها السردارية المصرية سنة 1893م، وجعلت فيها نفرا قليلا من البوليس الهجانة، وألحقتها إداريا بمركز نخل.
وفي خليج العقبة المد والجذر كما في خليج السويس، وقد راقبناهما مدة إقامتنا في رأس خليج العقبة سنة 1906، فكان الفرق بينهما ست أقدام.
شكل 1-4: عمودا رفح قبل حادثة الحدود سنة 1906. (6) الخط الشرقي
وأما الخط الشرقي الذي جعل الحد بين سيناء من جهة، وولاية الحجاز ومتصرفية القدس من جهة أخرى، فقد عين بالتدقيق في الاتفاق الذي عقد بين الحكومة الخديوية المصرية، وبين الدولة العلية سنة 1906 كما سيجيء تفصيلا، ولم يعين حد سيناء الشرقي من قبل بمثل هذا التدقيق في عصر من العصور، ولكن يستدل من مراجعة تاريخ مصر وسوريا، ومن التقاليد المحفوظة عند أهل الحدود إلى هذا اليوم، أن رفح كانت في أكثر العصور الحد بين مصر وسوريا على البحر المتوسط، وأيلة المعروفة الآن بالعقبة الحد بين مصر والحجاز على رأس خليج العقبة، وإليك البيان:
حد رفح
أما رفح، فقد جرت فيها عدة وقائع حربية بين ملوك مصر وملوك آسيا، كأن ملوك مصر كانوا يقفون عند رفح للذب عن حدهم، من ذلك مجيء سباقون ملك مصر إلى رفح سنة 715ق.م؛ لصد الآشوريين عن بلاد مصر، ومجيء بطليموس الرابع ملك مصر سنة 317ق.م؛ لرد أنطونيوس الكبير ملك سوريا عن مصر، كما سترى في باب التاريخ.
وفي أخبار فتح عمرو بن العاص لمصر سنة 18ه/639م: أن عمر بن الخطاب ألحقه بكتاب وهو في الطريق، ففضه عمرو في العريش وتلاه على أصحابه، وهو: ... أما بعد، فإن أدركك كتابي هذا وأنت لم تدخل مصر فارجع عنها، وأما إذا أدركك وقد دخلتها أو شيئا من أرضها، فامض واعلم أني ممدك، فالتفت عمرو إلى من حوله، وقال: أين نحن يا قوم ؟ فقالوا: في العريش، فقال: وهل هي من أرض مصر أم الشام ؟ فأجابوا: إنها من مصر، وقد مررنا بعمدان رفح أمس المساء، فقال: هلموا بنا إذن قياما بأمر الله وأمير المؤمنين.
والظاهر أن حد مصر كان في زمن اليعقوبي الذي عاش في أواخر القرن الثالث للهجرة، وابن الفقيه الهمذاني الذي عاش في القرن الرابع للهجرة، في مكان يقال له «الشجرتين» قرب رفح، قال اليعقوبي في كتاب البلدان: ... ومن خرج من فلسطين مغربا يريد مصر خرج من الرملة، إلى مدينة غزة، ثم إلى رفح، وهي آخر أعمال الشام، ثم إلى موضع يقال له الشجرتين، وهي أول حد مصر، ثم إلى العريش، وهي أول مسالح مصر وأعمالها ...
وقال الهمذاني:
وطول مصر من الشجرتين اللتين بين رفح والعريش إلى أسوان، وعرضها من برقة إلى أيلة، وهي مسيرة أربعين ليلة في أربعين ليلة.
وفي تقويم البلدان لأبي الفداء الذي توفي سنة 723ه/1323م: «حد ديار مصر الشمالي بحر الروم من رفح العريش، ممتدا على الجفار إلى الفرما، إلى الطينة، إلى دمياط، إلى ساحل رشيد، إلى الإسكندرية، إلى ما بين الإسكندرية وبرقة. والحد الغربي مما بين الإسكندرية وبرقة على الساحل، آخذا جنوبا إلى ظهر الواحات إلى حدود النوبة، والحد الجنوبي من حدود النوبة المذكورة آخذا شرقا إلى أسوان، إلى بحر القلزم، والحد الشرقي من بحر القلزم المذكور قبالة أسوان إلى عيذاب، إلى القصير، إلى القلزم - السويس - إلى تيه بني إسرائيل، ثم ينعطف شمالا إلى بحر الروم، إلى رفع العريش حيث ابتدأنا.»
وجاء في تاريخ مصر الحديث بالفرنساوية للموسيو «أمادي ريم» عند ذكره زحف نابليون على سوريا بطريق العريش ما ترجمته:
فاستأنف الجيش السير في 24 فبراير سنة 1799م، وفي الطريق حيا العمد المشيدة في الصحراء؛ لتعيين الحد بين أفريقيا وآسيا حتى وصل خان يونس. ا.ه.
وهو يعني عمد رفح؛ لأنه ليس في الطريق قبل خان يونس عمد غيرها.
وجاء في أسفار المستر «وليم وتمن» الذي رافق الحملة العثمانية إلى العريش سنة 1801 ما ترجمته: «وفي 29 مارس سنة 1801، خرجنا من خان يونس قاصدين العريش، وبعد مسيرة نحو ساعتين وصلنا الحدود التي تفصل آسيا عن أفريقيا، وهناك استرحنا قليلا عند بئر، ثم واصلنا السير، فمررنا بين عمودين من الغرانيت المصري، قيل إنهما أقيما هناك لتعيين الحد بين القارتين» ا.ه (وهو يعني بئر رفح وعمودي الحدود).
وفي سنة 1869م نشر محمد قدري بك كتابا في تاريخ مصر وجغرافيتها، ثم نشر محمد أمين فكري بك جغرافيته سنة 1879م، فأثبتا حد مصر عن أبي الفداء، والمشهور أن إسماعيل باشا الخديوي الأسبق زار رفح في أوائل ملكه، فرأى عمودين من الغرانيت قائمين تحت سدرة قديمة، ومعروفين أنهما الحد بين مصر وسوريا، فأقر ذلك.
وزار عباس باشا حلمي الثاني خديوي مصر الحالي عمودي رفح سنة 1898، فأمر فنقش على العمود الذي إلى جهة مصر تاريخ زيارته للحدود كما سيجيء. ولما ذهبت إلى الحدود سنة 1906 صرح لي بدو تلك الجهات أنهم منذ نشأتهم يرون هذين العمودين، ويعلمون أنهما الحد بين مصر وسوريا، وأنهم ورثوا هذا العلم عن الآباء والأجداد. ولعل ما أوجب أن تكون رفح الحد بين مصر وسوريا موقعها الطبيعي؛ فهناك يقل المطر، وينتهي الخصب، ويبدأ رمل الجفار الذي يمتد إلى الدلتا.
حد أيلة
وأما أيلة، فقد جاء في كتاب أحسن التقاويم في معرفة الأقاليم، لشمس الدين المقدسي المعروف بالبشاري الذي عاش سنة 375ه/985م: «وفي أيلة تنازع بين الشاميين والمصريين والحجازيين، وإضافتها إلى الشام أصوب؛ لأن رسومهم وأرطالهم شامية.» وحسبها الهمذاني آخر حد مصر من جهة الغرب كما مر. واستولى الصليبيون على أيلة، فخرج صلاح الدين الأيوبي من مصر سنة 665ه/1266م، فاسترجعها منهم، وجعل فيها حامية من رجاله، وما زالت عساكر مصر تحمي أيلة، ثم العقبة خليفتها إلى أن تسلمتها الدولة العلية من مصر سنة 1892م كما سيجيء، وقال أبو الفداء في الكلام عن أيلة: «وهي في زماننا برج وبه وال من مصر»، وذكرها المقريزي الذي عاش في القرن التاسع للهجرة فقال: «وأيلة أول حد الحجاز، وكانت حد مملكة الروم في الزمن الغابر»، وقال صاحب كتاب درر الفرائد المنظمة في أخبار الحج وطريق مكة المعظمة الذي زار مكة بطريق أيلة سنة 955ه/1548م: «وأيلة آخر حد مصر وأول الحجاز.»
وخلاصة ما تقدم أن التاريخ يدل على أن رفح أو شجرتين في ضواحيها، هي أول حد مصر الشرقي من جهة البحر المتوسط، وأيلة المعروفة الآن بالعقبة كانت تعتبر تارة في الحجاز، وتارة في مصر، ولكنها كانت في أغلب الأحيان تابعة لمصر، أما اللجنة التي ندبت لتعيين الحدود سنة 1906، فقد أبقت على رفح الحد بين مصر وسوريا، ولكنها ألحقت أيلة بالحجاز، وجعلت رأس وادي طابا قرب جزيرة فرعون الحد بين الحجاز وسيناء، كما سيجيء مفصلا.
هذا وطول الخط الفاصل من رأس طابا إلى رفح نحو 150 ميلا، فيكون محيط شبه جزيرة سيناء نحو 630 ميلا كما يأتي:
ميل
130
البحر المتوسط من رفح إلى بور سعيد بطريق الشاطئ
100
ترعة السويس
150
خليج السويس
100
خليج العقبة
150
الخط الفاصل الشرقي
630
المجموع
وطول الجزيرة من البحر المتوسط إلى رأس محمد نحو 230 ميلا، وعرضها من السويس إلى رأس طابا نحو 150 ميلا، ومساحتها بوجه التقريب 25 ألف ميل مربع.
الفصل الثاني
في أقسامها وأراضيها
تقدم أن المصريين القدماء سموا سيناء بلاد الجدب والعراء، وسماها اليونان العربية الصخرية، وعرفت في التوراة باسم حوريب؛ أي الخراب، فوصفوها بهذه الأسماء الموجزة أبلغ وصف؛ فإنك كيف ذهبت في الجزيرة لا ترى إلا جبالا قاحلة، وسهولا مجدبة، ورمالا محرقة، ولولا القليل من الأمطار التي تنتابها في فصل الشتاء، فتعد بعض بقاعها للزراعة، وتترك في أوديتها القليل من الأعين والآبار، وأنواع الشجر والعشب الذي ترعاه الإبل والأغنام، لما رأيت فيها أثرا للحياة.
فالبلاد على اتساعها وكثرة جبالها، قليلة الأمطار، قليلة المياه، قليلة النبت والزرع والضرع والسكان، وهي تنقسم بحسب طبيعة أرضها إلى ثلاثة أقسام كبيرة، وهي: (1) بلاد الطور في الجنوب. (2) بلاد التيه في الوسط. (3) بلاد العريش في الشمال. (1) بلاد الطور
أما بلاد الطور، فهي شبه الجزيرة نفسها، الواقعة بين شطري البحر الأحمر كما مر، ومساحتها بوجه التقريب نحو عشرة آلاف ميل مربع، وهي بلاد جبلية وعرة، ولعلها أوعر بلاد جبلية على سطح الكرة الأرضية؛ فترى الجبال فيها متراكمة بعضها فوق بعض، كأنها بحر عجاج متلاطم الأمواج، قد أمر بغتة أن يجمد فجمد، كما كان في إبان هياجه، وهذه الجبال تعلو في الوسط، وتتحدر تدريجا إلى الشرق والغرب، فتسيل منها الأودية إلى خليج العقبة وخليج السويس. (1-1) سهولها
ثم إن جبال هذه البلاد الشرقية تقتحم خليج العقبة حتى تكاد تغوص فيه، فلا تترك إلا طريقا ضيقا على شاطئه، ولكن جبالها الغربية تنحسر عن خليج السويس في أكثر جهاته، فتترك وراءها ثلاثة سهول رملية عظيمة، وهي من الشمال:
سهل الراحة:
بين جبال الراحة وخليج السويس، ويمتد من شط السويس إلى جبل حمام فرعون، عند ميناء ملعب مسافة نحو 60 ميلا، في رأس واحة عيون موسى وسيأتي ذكرها، وفي وسطه «الهبج»، وهو سهل كثير الحصى بين وادي الأحثا ووادي العمارة، طوله نحو 25 ميلا، اشتهر في القرن الغابر بوقعة دموية بين العوارمة والعزازمة.
وسهل المرخاء:
يبدأ من ميناء أبو رديس، ويمتد جنوبا نحو خمسة عشر ميلا إلى مصب فيران، والمشهور أنه السهل المعروف في التوراة ببرية سين، حيث تذمر الإسرائيليون من الجوع، فأرسل لهم المن والسلوى لأول مرة (خروج ص16 عد1).
وسهل القاع:
يبدأ حيث ينتهي سهل المرخاء، ويمتد جنوبا إلى رأس محمد مسافة تسعين ميلا تقريبا، وعرضه عند مدينة الطور نحو 14 ميلا، ولكنه من مصب فيران إلى مدينة الطور يتقهقر نحو البر، فيفصل بينه وبين البحر جبال مستطيلة قليلة الارتفاع، أشهرها جبل حمام موسى، وجبل الناقوس، وسيأتي ذكرهما. (1-2) الرملة
وفي الشمال الغربي من بلاد الطور مما يلي جبال التيه سهل رملي فياح يدعى «الرملة»، وفيه قبران يزاران: قبر الشيخ حبوس في وسطها، وقبر الشيخ القري في غربيها، وقد عرف هذا القسم برملة القري نسبة إليه، وعرف القسم الجنوبي الشرقي منها برملة حمير نسبة إلى جبل هناك يعرف بهذا الاسم.
ويعرف السهل المرتفع الجامد التربة عندهم بالعلو، من ذلك: «علو العجرمية» على نحو أربع ساعات من الدير غربي وادي الشيخ، ومساحته نحو ستين ميلا مربعا، «وعلو سند» على نحو ساعة إلى الشرق من النبي صالح، ومساحته نحو 20 ميلا مربعا.
هذا، وتعرف «بالفارعة» جميع البلاد الواقعة ضمن دائرة، تمتد من نقب حبران، فنقب هاوة، فالوطية، فرأس سعال، فجبل الظلل، فوادي السيق، فوادي برق، فبويب فيران إلى أن تعود إلى نقب حبران، وهي تشمل علو العجرمية، وقسما كبيرا من وادي الشيخ، ووادي الأخضر وفروعهما، وفي اللغة: فارعة الطريق: أعلاه ومنقطعه، وفارعة الجبل أعلاه، يقال: «انزل بفارعة الوادي واحذر أسفله.»
هذا وليس في بلاد الطور كلها من المدن العامرة إلا مدينة الطور، وسيأتي ذكرها. (2) بلاد التيه
وأما بلاد التيه، وتعرف أيضا ببرية التيه، فهي سهل عظيم مقفر، جامد التربة، يتخلله بعض الجبال، وتغطيه طبقة رقيقة من فتات الصوان، مساحته نحو عشرة آلاف ميل مربع، وعلوه نحو 1500 قدم عن سطح البحر، ويخترقه من الجنوب إلى الشمال وادي العريش العظيم وفروعه، وفي وسطه بلدة نخل الشهيرة، وسيأتي ذكرها وذكر وادي العريش تفصيلا.
ويفصل بين بلاد التيه وبلاد الطور سلسلة عظيمة من الجبال، تعرف «بجبال التيه»، تمتد من تجاه السويس إلى تجاه العقبة، في شكل قوس عظيمة تحديبها إلى الجنوب، والمشهور أنها البلاد التي تاه فيها بنو إسرائيل، ومن ذلك اسمها، وقد سألت بعض مشايخها عن سبب تسمية بلادهم بالتيه، فقالوا: «خرج سيدنا موسى من جبل الطور، ومعه أربعون نبيا قاصدين القدس الشريف، فلما دخلوا التيه اختلفوا في الطريق الموصل إلى القدس، فذهب موسى في طريق أوصلته إليها في بضعة أيام، وذهب الأربعون نبيا في طريق أخرى فدخلوا برية التيه، وتاهوا فيها أربعين سنة فسميت بالتيه.» (3) بلاد العريش
وأما بلاد العريش فهي سهول متسعة من الرمال، يتخللها بقاع صالحة للزراعة، مساحتها بالتقريب نحو خمسة آلاف ميل مربع، وحدها الطبيعي من الجنوب الفاصل بينها وبين بلاد التيه جبل المغارة، وحدها الإداري الذي عين لها سنة 1895، يبدأ من ميناء رفح على البحر المتوسط، ويمتد على درب الحجر حتى يلاقي الدرب المصري عند صنع المنيعي ، فيسير معه إلى ذراع الحر شرقي القريعي، ثم ينحرف عنه غربا إلى رجم القبلين فريسان عنيزة، فعجيرة الحاد، فاللجمة، فحماد الضبعان، فالشيخ حميد، فالخريق، فنقب المريحيل، فأبورجوم، فالفريرة، فأم ضيان، فالمرقب، فالحمة، فكثيب حبشي إلى البحيرة المرة في ترعة السويس. ولكن هذا الحد قد امتد شرقا سنة 1906 كما سيجيء، ولا يوافق تقسيم القبائل؛ إذ يشطر القبيلة الواحدة شطرين، شطرا تابعا في الإدارة لبلاد العريش، والشطر الآخر لبلاد التيه، فلا بد من إعادة التحديد. (3-1) الجفار
وقد أطلق مؤرخو العرب على معظم بلاد العرش اسم الجفار؛ لكثرة الجفار بأرضها، والجفار جمع جفر، وهي البئر الواسعة القريبة القعر لم تطو.
وأشهر أراضي هذه البلاد:
الجورة:
على نحو ست ساعات شرقي مدينة العريش، وأربع ساعات جنوبي رفح، ومساحتها نحو مائة ميل مربع، وهي أخصب بلاد العريش وأجودها تربة، ويزرع فيها القمح والشعير والذرة، وقد أحاطت بها الرمال من كل الجهات كسور، ومن ذلك اسمها، وفي طرفها الشمالي الشرقي خرائب متسعة من عهد الرومان في الأرجح تعرف «بخربة الرطيل» منسوبة إلى مسلم بن سبيتان الرطيل، من قبيلة السواركة صاحبها الحالي، وهناك آثار قلعة، وأبنية فخمة مبنية بالحجر المنحوت، وبئر بعيدة القعر مطوية بالحجر المنحوت أيضا، عمقها 22 باعا، وقد ردمت البئر من عهد بعيد، فحاول أصحابها ترميمها فلم يفلحوا؛ لقلة وسائطهم، وشدة عمق البئر، فرممها محافظ سيناء سنة 1908، وقد شاهدت هذه الخربة سنة 1906، فأخبرني أهلها أنهم طالما لقوا فيها قطعا من النقود القديمة، وكان على بعضها رسم الصليب.
والعجرة:
وهي متسع عظيم من الكثبان شرقي الجورة تتخللها بقاع زراعية، وفي وسطها بقعة متسعة مربعة الشكل، تدعى «المربعة» اخترقها الحد الشرقي الجديد، فوقع قسم كبير منها في حد سيناء.
والبرث:
جنوبي الجورة وغربي العجرة، ويمتد جنوبا إلى وادي الأبيض، وهو سهل رملي مرتفع، تكسوه الأعشاب التي ترعاها الإبل.
وقطية:
وهي غوطة كبيرة من النخيل في طريق العريش، فيها آثار قديمة العهد، وسيأتي ذكرها تفصيلا.
والزقبة:
وهي قطعة كبيرة من الجفار، مرتفعة التربة، تنحصر بين بحيرة بردويل وطريق العريش شمالا وجنوبا، وبين بئر العبد وقطية شرقا وغربا، قيل مساحتها نحو مائة ألف فدان، وفيها بقاع كثيرة صالحة للزراعة، تزرع بطيخا وشعيرا، وفيها بعض النخيل، ومعظم سكانها من عرب هتيم الدواغرة، وقد دخلت في أملاك الحكومة المصرية في عهد المغفور له توفيق باشا، وكانت الحكومة تؤجرها بالمزاد العلني إلى سنة 1907، ثم تركتها للقبائل القاطنة فيها والمجاورة لها؛ لتزرعها وتنتفع بها، ولكنها لم تعطهم حق بيعها.
ودبات الغرابيات:
وهي كثبان عظيمة من الرمال بين قطية وبئر الدويدار، تخترقها طريق العريش.
وليس في هذه البلاد كلها الآن من المدن العامرة سوى مدينة العريش، وحلة الشيخ زويد، وسيأتي ذكرها، ولقد كانت في القديم أعمر منها اليوم.
قال شمس الدين المقدسي الذي عاش سنة 375ه/985م في كتابه أحسن التقاويم في معرفة الأقاليم: «فأما الجفار، فقصبتها الفرما، ومدنها البقارة والورادة والعريش»، وقال ياقوت الحموي المتوفى بحلب سنة 626ه/1229م: «الجفار مسيرة سبعة أيام بين فلسطين ومصر، أولها رفح من جهة الشام وآخرها الخشبي، متصلة برمال تيه بني إسرائيل. والخشبي بينه وبين الفسطاط ثلاث مراحل، فيه خان، وهو أول الجفار من ناحية مصر وآخرها من ناحية الشام، قال أبو العز مظفر بن إبراهيم الضرير العبلاني معتذرا عن تأخره لتلقي الوزير الصاحب صفي الدين بن شكر، وكان قد تلقي إلى هذا الموضع:
قالوا إلى الخشبي سرنا على لهف
نلقى الوزير جموعا من ذوي الرتب
ولم تسر؟ قلت والمولى ونعمته
ما خفت من تعب ألقى ولا نصب
وإنما النار في قلبي لغيبته
فخفت أجمع بين النار والخشب
وفي الجفار الآن نخل كثير ورطب جيد، وهو ملك لقوم متفرقين في قرى مصر، يأتون أيام لقاحه فيلقحونه، وأيام إدراكه فيجنونه، وينزلون بينه بأهاليهم في بيوت من سعف النخل والحلفاء، وفي الجادة السابلة إلى مصر عدة مواضع عامرة، يسكنها قوم من السوقة للمعيشة على القوافل، وهي رفح، والقلس، والزعقا، والعريش، والورادة، وقطية، وفي كل موضع من هذه المواضع عدة دكاكين.» قال المهلبي: «وأعيان مدن الجفار العريش ورفح والورادة. والنخل في جميع الجفار كثير، وكذلك الكروم وشجر الرمان، وأهلها بادية متحضرون، ولجميعهم في ظواهر مدنهم أجنة وأملاك، وأخصاص فيها كثير منهم، ويزرعون في الرمل زرعا ضعيفا، يؤدون منه العشر ، وكذلك يؤخذ من ثمارهم، ويقطع في وقت من السنة إلى بلدهم من بحر الروم طير من السلوى يسمونه المرغ، يصيدون منه ما شاء الله، يأكلونه طريا، ويقتنونه مملوحا. ويقطع أيضا إليهم من بلد الروم على البحر في وقت من السنة جارح كثير، فيصيدون منه الشواهين، والصقور، والبواشق، وقل ما يقدرون على البازي، وليس لصقورهم وشواهينهم من الفراهة ما لبواشقهم، وليس يحتاجون لكثرة أجنتهم إلى الحراس؛ لأنه لا يقدر أحد منهم يعدو على أحد؛ لأن الرجل منهم إذا أنكر شيئا من حال جنانه نظر إلى الوطء في الرمل، ثم قفا ذلك إلى مسيرة يوم ويومين حتى يلحق من سرقه. وذكر بعضهم أنهم يعرفون أثر وطء الشاب من الشيخ، والأبيض من الأسود، والمرأة من الرجل، والعاتق من الثيب، فإن كان هذا حقا فهو من أعجب العجائب.» ا.ه. (3-2) بحيرة بردويل
ومن أشهر بلاد العريش «بحيرة بردويل»، وهي بحيرة عظيمة تمتد من خرائب الفلوسيات على نحو عشرة أميال غربي العريش، إلى خرائب المحمدية على نحو ثمانية أميال شرقي الفرما، طولها نحو 58 ميلا، وعرضها يختلف من نصف ميل إلى عشرة أميال، ولهم فم ضيق تدخل منه مياه البحر المتوسط شرقي القلس، والقلس كثيب عظيم من الرمال، يمتد نحو ميلين على شاطئ البحر عند منتصف البحيرة، وعليه خرائب بلدة قديمة طمرتها الرمال، وهناك بئر عذبة الماء في وسط كثبان عظيمة من الرمال. وفي الصيف ينحسر الماء عن مكان مرتفع في البحيرة في جهتها الشرقية، يدعى «بركة الجمل»، فينفصل منها بحيرة صغيرة تدعى «بحيرة الزرانيق»، طولها أربعة أميال، وعرضها نحو ميلين، ولها فم ضيق شرقيها قرب الفلوسيات تدخل منه مياه البحر، وهذه البحيرة تعود في الشتاء فتتصل ببحيرة بردويل، فتصبح معها بحيرة واحدة. وهي التي كانت معروفة قديما باسم بحيرة سربونيوس، وبين هذه البحيرة والبحر الأبيض ذراع مرتفع من البر الثابت في طريق المسافر إلى العريش من الفرما، يعبر الماء فيها بقارب مرتين: مرة عند فم البردويل شرقي القلس، ومرة عند فم الزرانيق عند الفلوسيات، ولا يزيد عمق الماء في البحيرتين عن مترين أو ثلاثة أمتار، وقد يكون عمقه في بعض الجهات شبرا أو أقل من شبر، ويكثر فيهما السمك الذي يصنع فسيخا، فيستخرج منهما مقادير كبيرة من السمك كل سنة.
أما بحيرة الزرانيق، فقد كانت الحكومة تؤجرها بالمزاد العلني بنحو مائة وخمسين جنيها في السنة إلى سنة 1903، فأباحت الصيد فيها للأهلين، وأما بحيرة البردويل فالحكومة تؤجرها الآن بألف جنيه في السنة، وملتزموها هم باسيلي بك عريان، وعويس أفندي السيد وشركاهما، وفي رجوعي من العريش بطريق الفرما سنة 1910 وجدت وكيلا للشركة عند فم البحيرة، فسألته عن كيفية الصيد في البحيرة فقال:
نقفل فم البحيرة في أول مايو، ونشرع في صيد السمك بالفلائك والعدد إلى أوائل أغسطس، فنفتح فم البحيرة قليلا لتجديد الماء والسمك، ونصيد السمك بالشباك إلى أوائل نوفمبر، فنفتحه مليا ونترك الصيد إلى أوائل مايو فنعود إليه، وهكذا.
وقد جعلوا في البحيرة كراكة تدار على الدوام لتطهيرها من الرمال، وهم في أيام المواسم يستخرجون من 150 إلى 200 برميل من السمك في اليوم، وكله يصنع فسيخا ويؤتى به إلى مصر فيدخل في المتجر.
وبلاد العريش كبلاد التيه، تتحدر تحدرا تدريجيا لطيفا من الجنوب إلى الشمال حتى تصل البحر المتوسط، وقد سميت بلاد العريش نسبة إلى مدينة العريش التي هي أشهر مدنها، ويسمي أهل سيناء بلاد التيه الجامدة التربة بأرض الجلد، وبلاد العريش الرملية بأرض الدمث، على أن القسم الغربي من بلاد التيه رملي كبلاد العريش.
ويؤكد الخبيرون بعلم الجيولوجيا أن بلاد سيناء كلها كانت في الأعصر الجيولوجية مغمورة بالبحر المتوسط، ثم انحسر عنها تدريجا إلى حده الحالي قبل التاريخ بأزمان.
الفصل الثالث
في جبالها
(1) جبال بلاد الطور
أشهر جبال بلاد الطور: (1-1) جبل طور سيناء
وإليه تنسب الجزيرة كلها كما مر، وهو واقع على نحو ستين كيلومترا إلى الشمال الشرقي من مدينة الطور، وفي تقاليد رهبان سيناء أنه الجبل المعروف في التوراة بجبل حوريب، أو جبل سيناء، أو جبل الله؛ أي الجبل الذي جاءه موسى النبي لرعي غنم حميه يثرون كاهن مدين، فظهر له الرب في عليقة مشتعلة، وأمره بالعود إلى مصر، وإنقاذ بني إسرائيل من الأسر (خروج ص3، 4)، والجبل الذي نزل عنده موسى بعد خروجه بالإسرائيليين من مصر وتجلى له الرب، فأنزل عليه الشريعة (خروج ص19)، والجبل الذي جاءه إيليا النبي بعد سفر شاق من «بئر سبع» دام أربعين نهارا وأربعين ليلة، فبات في مغارة، وكلمه الرب بعد زلزلة عظيمة «بصوت منخفض خفيف» (ملوك ص19)، وهذا الجبل مؤلف من عدة قمم تدعى جبالا، أعلاها وأبهاها:
جبل موسى:
يقع في عرض شمالي 6
32
28° وطول شرقي 38
58
33°، ويعلو نحو 7363 قدما عن سطح البحر، وقد بني على رأسه كنيسة صغيرة لرهبان دير سيناء وجامع أصغر منها، بل الجامع عبارة عن كوخ من الحجارة الغشيمة، تسلقت قمة هذا الجبل في يوم صحو سنة 1905، فرأيت منها معظم بلاد الطور، وجانبا من خليج العقبة، وقد أرسلت الشمس أشعتها الذهبية على تلك الجبال المتراكمة بعضها فوق بعض على مدى النظر، وكان المنظر من أبدع ما رأت العين وجملت الطبيعة، وقد ترك في نفسي أثرا من فخامة سيناء لا تمحوه الأيام.
شكل 3-1: شاهق في قمة جبل موسى.
وجبل المناجاة:
شمالي جبل موسى، يدل عليه البدو أنه الجبل الذي عليه ناجى الله موسى، ومن ذلك اسمه، وهو يعلو نحو 6000 قدم عن سطح البحر، وينشأ من منقلبه الغربي واد صغير يفيض في وادي الشيخ يدعى وادي الدير، سمي كذلك؛ لأنه قام على جنبه الأيسر «دير طور سيناء الشهير» الآتي ذكره تفصيلا.
وجبل الصفصافة:
إلى الشمال الغربي من جبل موسى، سمي كذلك؛ لأن في سفحه الشرقي صفصافة، وهو يعلو نحو 6760 قدما عن سطح البحر، ويطل على سهل فسيح غربيه يدعى «سهل الراحة» تبلغ مساحته نحو ميل مربع، ويعلو نحو 5000 قدم عن سطح البحر، وإلى طرف هذا السهل الشرقي عند مصب وادي الدير، وعلى نحو ميل غربي الدير تل صغير عليه كوخ من الحجارة الغشيمة، يدعى «مقام النبي هارون».
والذي عليه أكثر المحققين الآن أن جبل الصفصافة هذا هو الجبل الذي وقف عليه موسى عند إلقائه الوصايا العشر على الإسرائيليين، وأن سهل الراحة هو السهل الذي وقف فيه الإسرائيليون عند تلقيهم تلك الوصايا (خروج ص19)، وأن التل الذي عليه مقام النبي هارون الآن هو التل الذي عليه عبد الإسرائيليون العجل الذهبي، العجل الذي صنعه لهم هارون في غياب موسى في رأس الجبل (خروج ص32).
هذا وبدو الجزيرة يزورون جبل موسى ومقام النبي هارون مرة في كل سنة في الصيف ويذبحون لهما، يضربون خيامهم في سهل الراحة عند مقام النبي هارون، ثم يصعدون إلى قمة جبل موسى، ومعهم الذبيحة من ماعز أو ضأن، فيذبحونها في مكان معين شرقي الجامع ويسلخون جلدها، ثم ينزلون بها إلى المخيم، أو يكتفون بتشريط أذنيها على قمة الجبل، وينزلون بها حية، فيذبحونها ويأكلونها في المخيم، وفي اليوم التالي يعيدون للنبي هارون، فيذبحون له جملا، وأكثر البدو محافظة على هذه الذبائح: الجبالية، ثم الصوالحة، ثم العليقات ومزينة.
وقد تقدم أن قمة جبل موسى هي أعلى قمة في طور سيناء وأبهاها، وهي بهذه الصفة أحق باسم بطل الجبل من كل قمة سواها، وقد يطلق اسم جبل موسى على طور سيناء كله.
وقال المطران بورفيريوس - مطران سيناء الحالي - معللا اسمي التوراة لهذا الجبل: إن القمة المعروفة الآن بجبل موسى هي «جبل سيناء»، وسائر الجبل «جبل حوريب».
شكل 3-2: جبل الصفصافة وسهل الراحة. (1-2) وجبل القديسة كاترينا
بجانب جبل موسى إلى الجنوب الغربي منه، وله ثلاث قمم ارتفاع أعلاها 8536 قدما عن سطح البحر، وهي أعلى قمة في سيناء كلها، وقد سمي الجبل بهذا الاسم؛ لأن في تقاليد الرهبان أن الملائكة قديما حملت جثة القديسة كاترينا من محل استشهادها في الإسكندرية سنة 307م، ونزلت بها على رأس هذا الجبل! ولكن لم يبق من الجثة إلا الجمجمة وعظم إحدى اليدين، وهما محفوظان في صندوق خاص في هيكل كنيسة الدير إلى اليوم.
قيل ومن قمة هذا الجبل في يوم صحو يرى خليج العقبة، كما يرى خليج السويس، وعلى قمته كنيسة بناها رهبان الدير سنة 1905م، وبنوا بجانبها غرفة يستريح فيها الزوار، وصهريجا يجمع فيه ماء المطر. (1-3) والجبل الأحمر
سمي بذلك لحمرة تربته، وهو واقع إلى الغرب من جبل سيناء على نحو عشرة أميال منه، ويمتد شمالا بجنوب مسيرة يوم أو أكثر، ومن فروع هذا الجبل:
جبل الفريع:
وهو جبل حصين تسيل منه أودية شتى، فيها عدة جنان للفاكهة.
ونقب هاوة:
أو نقب الهاوية، وهو نقب شهير، تمر فيه طريق مختصرة قريبة من السويس إلى الدير، في أعلاه صخر شق من الوسط يدعى «مضرب سيف عدي»، قيل إن جبارا في الجاهلية ضربه بسيفه فشطره شطرين، وفي هذا النقب عدة صخور نبطية وينابيع غزيرة يجف أكثرها في الصيف. (1-4) وجبل سربال
وهو أشهر جبال سيناء بعد جبل موسى، واقع إلى الشمال من مدينة الطور، والغرب من جبل موسى، على نحو ثلاثين ميلا من كل منهما، وهو يطل على مدينة الطور، ويحجبه عن جبل موسى الجبل الأحمر، وله خمس قمم تمثل تاجا عظيما في شكل نصف دائرة، ارتفاع أعلاها نحو 6730 قدما عن سطح البحر، ونحو 4000 قدم عن وادي فيران الشهير في سفحه الشمالي.
شكل 3-3: جبل سربال.
وقد ذهب بعضهم أن اسم سربال مختذل من سرب بعل، أو نخيل الإله بعل، إشارة إلى نخيل فيران في سفحه، وأن الناس كانت تقدسه وتحج إليه قبل النصرانية، بل قبل الخروج بأجيال، ونرى الآن في الطريق إليه من وادي فيران حجارة أثرية، قد نقش عليها أسماء الزوار الذين لم ينقطعوا عن زيارته حتى القرن الثالث للمسيح، وفي سفحه خرائب دير قديم، وكنيسة مبنية بالحجر المنحوت، ومغاور للنساك، وهو في رأي بعض المحققين جبل حوريب، وجبل سيناء المذكورين في التوراة، لا الجبل المعروف الآن بطور سيناء، غير أن جبل طور سيناء أكثر انطباقا على رواية التوراة من جبل سربال، وسنعود إلى ذلك تفصيلا في باب التاريخ . (1-5) وجبل البنات
وهو جبل عظيم تجاه سربال، يفصل بينهما وادي فيران، وقد كثرت الروايات في سبب تسميته بهذا الاسم، وأشهرها: أن بعض بنات البادية فررن من أهلهن؛ للتخلص من الزواج بمن لم يحببن، ولجأن إلى هذا الجبل، فطاردوهن إليه، فعقدن ضفائرهن بعضها لبعض ورمين بأنفسهن إلى الوادي، وذهبن شهيدات الحرية.
وأكد لي راهب من رهبان دير سيناء أنه كان على هذا الجبل قديما دير للراهبات، فإن صح هذا النبأ فلا يبعد أن يكون بعض العربان قد هاجموا الدير، وحاولوا اغتصاب الراهبات، فرمين بأنفسهن إلى الوادي خوف الفضيحة، وكانت هذه الرواية. (1-6) وجبل أم شومر
يطل بعظمته من الشرق على مدينة الطور من عبر سهل القاع، فيزيد موقع المدينة رونقا وبهاء، وهو يعلو 8000 قدم ونيفا عن سطح البحر، وهو - بقطع النظر عن ارتفاع الأرض القائمة عليها الجبال - أعلى جبل في سيناء كلها. (1-7) قرين عتوت
وينفرد عن جبل أم شومر أكمة عظيمة في سهل القاع، تدعى قرين عتوت، على 16 ميلا إلى الجنوب الشرقي من مدينة الطور، وترى من كل جهات السهل، قيل إن عربان سيناء أغضبوا حكومة مصر في بعض السنين الغابرة، فبعثت لتأديبهم كوكبة من الفرسان، فجاءوا من السويس بطريق البر، حتى انتهوا إلى مصب وادي فيران عند رأس القاع الشمالي، فلما درى العربان بهم لجئوا إلى الجبال القاصية، وبقيت عجوز شمطاء على رأس عتوت، فأخذت تجمع الحطب إلى أن دخل الليل، فأوقدت نارا رآها فرسان مصر فظنوها نار القوم، فأسرعوا نحوها مغيرين على خيلهم، وهم يظنونها قريبة منها، وما زالت العجوز تمد النار بالوقود، والفرسان مغيرة نحوها في ذلك السهل الفسيح، حتى كلت الخيل وسقط أكثرها ميتا، وبلغ أشد الفرسان الأكمة عند الفجر، وكانت العجوز قد هجرتها، فلم يروا عليها إلا أثر النار فانقلبوا راجعين. (1-8) وجبل حمام موسى
وهو جبل صغير على خليج السويس، على أربعة أميال من مدينة الطور، فيه سبعة ينابيع كبريتية حارة، وقد بنى المغفور له سعيد باشا فوق أحدها حماما لا تزال آثاره باقية إلى الآن، وبقرب هذا الجبل ميناء «أبو صويرة». (1-9) وجبل الناقوس
وهو جبل صغير شديد الانحدار، مكسو بالرمال، على شاطئ الخليج على نحو 8 أميال شمالي جبل حمام موسى، وفي جواره ميناء أبو قفص وقبر الشيخ البتان، وفي هذا الجبل مظهر عجيب من مظاهر الطبيعة؛ فإنه كلما انهال الرمل في سفحه سمع له دوي كصوت الناقوس، ومن ذلك اسمه، وقد كثرت الأقوال في تعليل ذلك، وأشهرها أن الرمال بانهيالها تمر على صخور مجوفة في باطن الجبل فتحدث ذلك الصوت.
ولأهل البلاد حكاية خرافية فيه؛ قالوا: كان في ذلك الجبل دير يسكنه جماعة من الرهبان، فخرج عليهم البدو يوما قصد قتلهم ونهب الدير، فاستجار الرهبان بربهم، فهبت عاصفة وغطت الدير بالرمال، وحجبته عن الأبصار، وحدث في أحد الأيام أن مركبا غرق عند أبو صويرة، فنجا منه رجل وأتى هذا الجبل عاريا جائعا تعبا، فحن له الرهبان وفتحوا كوة وأدخلوه إلى الدير وأطعموه، ثم زودوه بشيء من الثمر وصرفوه، فدهش النوتي من وجود ذلك الدير محجوبا بأعجوبة إلهية عن عيون الناس، وأراد أن يختط طريقا يعود بها إليه، فأخذ يأكل من التمر ويرمي النوى في الطريق، فأدرك الرهبان قصده، فاقتفى واحد منهم أثره وأخذ يلتقط النوى من ورائه، ثم رجع إلى الدير وسد الكوة، فعدم النوتي السبيل إلى قصده. قالوا: ولا يزال الدير قائما، والعناية ترقب الرهبان فيه إلى اليوم، ولا بد لزوار دير طور سيناء الروسيين من زيارة هذا الجبل بعد زيارة الدير وحمام موسى تبركا به. (1-10) وجبل حمام فرعون
على شاطئ خليج السويس، على نحو يومين من مدينة السويس، يخرج من سفحه نبع كبريتي يدعى «حمام فرعون»، درجة حرارته 157°، وفم النبع على شاطئ البحر، فيصب ماؤه رأسا في البحر، وعلى بضعة أمتار من فم النبع في منحدر الجبل مغارة كبيرة تتصل بمجرى النبع في بطن الجبل، وأهل سيناء يستحمون به استشفاء من الروماتزم والأمراض الجلدية، فهم ينزلون في البحر بعيدا عن فم النبع؛ تجنبا لحرارته، ثم يقتربون من النبع تدريجا حتى يصلوه، فيصعدون إلى المغارة المشار إليها، وينامون فيها إلى أن تبرد أجسامهم، وقد زرت هذا النبع مع أحد مشايخهم، فلما دخلنا المغارة أوقد النار فيها، فسألته في ذلك، فقال: «هنا تسكن الملائكة، فنوقد النار إكراما لها»، وسألته عن سبب تسمية النبع بحمام فرعون، فأشار بيده إلى البحر، وقال: «هذه طريق موسى التي عبر بها البحر الأحمر، وقد انشق له البحر فمشى على اليابسة هو وقومه، ثم تبعه فرعون، فعادت المياه إلى أصلها وكادت تخنقه، فنادى موسى قائلا: أنقذني يا موسى، فقال له موسى: ادع ربك، فدعا فرعون ربه، فقال له الرب: أما وقد طلبت شفاعة موسى أولا، فدع موسى ينقذك، فنادى موسى ثانية فلم يجبه، فنفخ نفخة من كبد حرى، فخرج من الجبل النبع الحار الذي تراه، فسمي باسمه!» (1-11) وجبل المغارة
في جنب وادي إقنة الأيمن، على نحو 15 ميلا من ميناء أبو رديس. (1-12) وجبل سرابيت الخادم
جنوبي الرملة، وعلى بعد يومين للحملة من ميناء أبو زنيمة. (1-13) وجبل الصهو
بين جبل المغارة وجبل سرابيت الخادم.
وهذه الجبال الثلاثة الأخيرة هي جبال الفيروز الشهيرة، وفي الأولين منها آثار جليلة من عهد الفراعنة، وسيأتي ذكرها تفصيلا. (1-14) وجبل أبو مسعود
مسيرة يوم إلى الجنوب الشرقي من الدير، على نحو 7250 قدما عن سطح البحر، ويظن أن فيه المنغنيس والذهب. (1-15) وجبل الحديد
في جواره، قيل سمي بذلك لوجود الحديد فيه، وهناك خرائب بلدة قديمة للسكان الأصليين تعرف عندهم بالنواويس. (2) جبال بلاد التيه
أشهر جبال بلاد التيه من الجنوب «جبال التيه» المار ذكرها، الفاصلة بين هذه البلاد وبلاد الطور، وهي تقسم إلى ثلاثة مجاميع كبيرة، وهي: (2-1) جبال الراحة
في طرفها الغربي، وهي تطل على رأس خليج السويس، وبينهما سهل رملي فياح، متوسط عرضه نحو عشرة أميال. (2-2) وجبال خشم الطرف
في طرفها الشرقي، تطل على خليج العقبة، ويقال لها «طرف الركن»، ومنها فرع يدعى «جبل الطباقة». (2-3) وجبال العجمة
في وسطها عند تحديب قوسها، ومنها فرع يمتد إلى داخل التيه يدعى «شويشة العجمة»، فيه خرائب كثيرة تدل على أنه كان في القديم أعمر منه اليوم.
وهذه الجبال وعرة جدا، لا تسلك إلا من خمسة أنقاب صعبة، وهي مبتدئا من الشرق: نقب الميراد، ونقب المريخي، ونقب ورصاء، ونقب الراكنة، ونقب وطاه، وأشهرها وأكثرها استعمالا «نقب الراكنة» في الطريق من مدينة الطور والرملة إلى نخل، «ونقب المريخي» في الطريق من النويبع والدير إلى نخل. «جبيل حسن» هذا وينفرد عن جبل الراحة جبل صغير يقع على درب الحاج على نحو 30 ميلا غربي نخل يدعى جبيل حسن، قيل في سبب تسميته: إن أحد مماليك مصر حج قديما إلى بيت الله الحرام، فرأى في برية الحجاز وهو عائد إلى مصر بدوية بارعة الجمال تدعى حسنا، فاختطفها من أهلها وسار بها في قافلة الحجاج، فتبعها شقيق لها قصد إنقاذها، ولما وصلت قافلة الحجاج إلى هذا الجبل دخل المملوك هودج شقيقته ونام، فقطع البدوي مقود الجمل الذي يحمل الهودج، وفصله عن القافلة، فاستيقظ المملوك وهم بالنزول من الهودج ليرى سبب انقطاعه، فبادره البدوي بضربة سيف قطع بها رجله، ثم أجهز عليه، وركب الجمل مع شقيقته وانقلب راجعا إلى قومه، فسمي هذا الجبل باسم شقيقته، وكان الأولى أن يسمى باسمه. (2-4) ومن جبال التيه الشهيرة في الجنوب «جبل بضيع»، «وجبل المنيدرة»، «وجبل قلعة الباشا»، وسيأتي ذكرها. (2-5) وأشهر جبال بلاد التيه من الشرق
نقب العقبة:
وهو جبل عظيم، يطل على رأس خليج العقبة، وسفحه الشرقي على
الميل من قلعة العقبة، وله عدة قمم تدعى جبالا، أشهرها: «جبل الشنانة»، «وجبل أبو جدة»، «وجبل الردادي»، وسيأتي ذكرها، ولقد كان هذا الجبل عقبة عظيمة في طريق الحج المصري، فنقبت حكومة مصر فيه طريقا منذ عهد بعيد، فسمي نقب العقبة، وقد دخل معظمه في حد تركيا، وسيأتي ذكره في الكلام عن الطرق.
جبال الحمراء:
وهي دائرة عظيمة من الجبال في زاوية التيه الجنوبية الشرقية، في شمالي نقب العقبة، سميت بذلك؛ لأن لونها ضارب إلى الحمرة، وتخترقها درب غزة.
وجبال الصفراء:
إلى الشمال الشرقي من جبال الحمراء، سميت بذلك؛ لصفرة تربتها.
وجبل سويقة:
شمال جبال الصفراء على درب غزة، على نحو 20 ميلا من المفرق.
أما «المفرق» فنقطة في رأس النقب، تفترق عندها الطريق الآتية من العقبة، فطريق تذهب شمالا وهي درب غزة، وطريق تذهب غربا وهي درب الحج المصري.
وجبل عريف الناقة:
وهو جبل عظيم على نحو 40 ميلا إلى الشمال من جبل سويقة على درب غزة، يرى من مسافة بعيدة في شكل عرف الناقة، ومن ذلك اسمه.
وجبل القنه، وجبل الرغام:
بين سويقة وعريف الناقة بانحراف إلى الغرب.
وجبل المقراة:
وهو عبارة عن سلسلة سهول متدرجة، طولها نحو سبعين ميلا، وعرضها نحو خمسين ميلا، تبدأ من جبل عريف الناقة، وتمتد وهي تعلو تدريجا شمالا بشرق إلى قرب بئر السبع، ومعظم هذا الجبل واقع في حد سوريا، ويدخل منه في حد سيناء قسم كهيئة السفين يعرف «بجبل خراشة». (2-6) وأشهر جبال بلاد التيه في الشمال
جبل الحلال:
وهو جبل عظيم على نحو أربعين ميلا إلى الشمال الشرقي من نخل، قيل سمي بجبل الحلال؛ لأن حوله مراعي متسعة للإبل والغنم، المعروفة عند البدو «بالحلال»، وينفصل عن هذا الجبل شعبة إلى الشرق تدعى «جبل ضلفع»، تمر بينه وبينها وادي العريش.
وجبل ألبني:
إلى الشمال الغربي من جبل الحلال، وعن يمين المسافر من نخل وآبار الحسنة إلى العريش.
وجبل الأبرقين:
إلى الجنوب الغربي من جبل الحلال، وعن يمين المسافر إلى العريش من نخل وآبار الحسنة، وعلى رأس هذا الجبل مقام للشيخ الأبرقين، يزوره بدو التيه ويذبحون له، ويزوره النساء العقيمات استشفاء من العقم.
وفي سفح الجبل سلسلة من الحديد، قد دفن طرفاها في التراب، فلا يظهر منها سوى أربعة أمتار، قيل وضعت هناك للدلالة على أن الذبائح تكون عندها لا عند مقام الشيخ في أعلى الجبل، قالوا: ويسمع لهذا الجبل أحيانا صوت كضرب الطارة.
وجبل يلك:
إلى الشمال الغربي من نخل، على نحو ثلاثين ميلا منها، علوه نحو أربعة آلاف قدم، ويتفرع منه شعبة إلى الشرق تدعى «جبل المنشرح»، يجري بينهما وادي الحسنة، وفي جبل يلك ثلاثة عدود أو ينابيع شهيرة، وهي: «عد أبو قرون» بالقرب من قمة الجبل، في رأس وادي قرون، وهو عد غزير قديم العهد، يصعد إليه من شمالي الجبل وجنوبيه، وعنده قبر الشيخ خليفة جد التياها، «وعد يلك» في سفح الجبل الجنوبي، «وعد أم سعيد » في سفحه الشرقي.
وجبل فلي، وجبل أم خشيب:
إلى الغرب من جبل يلك.
وجبل إخرم:
إلى الشرق من جبل يلك على نحو 16 ميلا منه، يجري بينهما وادي العريش.
وجبل البرقة:
إلى الشمال الشرقي من جبل إخرم، على نحو عشرين ميلا منه، يجري بينهما وادي قرية. (3) جبال بلاد العريش
وأما بلاد العريش، فجميع جبالها في الجنوب فاصلة بينها وبين بلاد التيه، وأهمها: (3-1) جبل المغارة
على نحو 32 ميلا من مدينة العريش، و64 ميلا من مدينة نخل، ينسب إلى مغارة فيه يخرج منها نبع ماء عذب، وهناك آثار أبنية رومانية في الأرجح، تدل على أن تلك الجهة كانت مأهولة في القديم، ولكن أبنيتها بلا مؤنة كأكثر الأبنية القديمة في الجبال. (3-2) وجبل ريسان عنيزة
ويعرف رأسه الشمالي «بجبل لحفن» على نحو ثمانية أميال من العريش، وقد رأيت على قمته خرائب قلعة من عهد الرومانيين، وفي سفحه في جنب وادي العريش الغربي بئر منسوبة إليه من ذلك العهد أيضا، وسيأتي ذكرها.
وفي بعض جبال سيناء، ولا سيما في جبال الطور وجبال التيه، مغاور كبيرة، يسكنها البدو مع إبلهم وأغنامهم في فصل الأمطار، فيستغنون بها عن الخيام.
الفصل الرابع
في أوديتها ومياهها
ويسيل من جبالها ومرتفعاتها في زمن الأمطار أودية شتى، تصب في الأبحر المحيطة بها، أو تعترضها صحار من الرمال فتغور فيها، وأودية سيناء هي روحها وحياتها؛ ففيها تسيل الأنهر، وتتفجر الأعين، وينبت العشب والشجر، وفيها مساكن البدو ومزارعهم، ومراعي إبلهم وأغنامهم، وجميع طرق البلاد تمر فيها فتقطعها أو تسير معها، ويختلف اتساع الوادي الواحد في مجراه من بضعة أمتار إلى ألف متر أو أكثر، وارتفاع جانبيه من متر أو أقل إلى ألف متر أو أكثر، وأعظم الأودية ارتفاعا من جانبيها أودية بلاد الطور، فهي تسير متعرجة بين جبال شامخة، حتى إن المسافر فيها يرى كأنه في بئر رفيعة الجوانب لا منفذ له منها، ويدوم السيل في الأودية بضع ساعات بعد انقطاع المطر ثم يجف، وليس في الجزيرة كلها نهر واحد حي، ولكن في بعض أوديتها ينابيع ماء أو آبارا حية أو وقتية، تجمعها في اصطلاحهم الرءوس الآتية، وهي:
العين:
وهي نبع ماء يجري ماؤه فوق الأرض صيفا وشتاء.
والعد:
جمعه عدود، وتصغيره عديد، وهو نبع حي في حفرة، فلا يجري ماؤه فوق الأرض، ويقال له الثمد أيضا وجمعه ثماده، «والبئر» وهي ما يفرغ ماؤها في الصيف إذا لم يقع مطر في الشتاء، وقد تستعمل للعد.
والثملية:
وهي حفرة قريبة الغور، يظهر فيها الماء توا بعد المطر، وتنشف في الصيف إلا إذا غزر المطر جدا في الشتاء.
والمشاش:
جمعه أمشة، وهو ثميلة ضعيفة، وينشف في الصيف قبل الثميلة.
الصنع:
وهو سد صناعي من تراب، يحفرونه في طريق السيل لجمع مياه الأمطار، ويطهرونه كل سنة.
والسد:
وهم يجعلونه في مجرى الوادي؛ لحبس المياه في زمن الأمطار.
والمكراع:
وهو بركة طبيعية بين صخور الجبال تتجمع فيها مياه الأمطار.
والهرابة:
بركة صناعية في مجرى السيل؛ لخزن مياه الأمطار في زمن الصيف، وهي إما نقر في صخر، أو بناء بحجر ومونة.
والحمام:
وهو نبع كبريتي، وليس في الجزيرة كلها إلا نبعان كبريتيان على شاطئ خليج السويس، وهما حمام موسى وحمام فرعون، وقد مر ذكرهما.
ومياه الجزيرة كلها ملحة أو مائلة إلى الملوحة، وأهل الجزيرة لا يعتنون بنظافتها، فيتولد فيها علق دقيق، كثيرا ما يعلق في حلق شاربه، فلا يزال يمتص منه حتى يمتلئ، فيشكو المصاب به من عسر البلع، وأفضل واسطة لإزالته الغرغرة بماء الدخان.
وإذ قد تبين ذلك، فلنتقدم الآن إلى ذكر أهم الأودية ومياهها، ونبدأ بذكر: (1) أودية بلاد الطور (1-1) الأودية التي تصب في خليج السويس مبتدئا من الشمال
وادي الإحثا:
ينشأ من جبال الراحة، ويصب في خليج السويس على نحو 12 ميلا من عيون موسى، و20 ميلا من شط السويس.
ووادي سدر :
قيل إنه ينشأ من جبل أبو الزبابة من جبال التيه، ويسير متعرجا مسافة نحو 30 ميلا، فيمر بين جبال الراحة وجبال سن البشر، ثم يخترق سهل الراحة، ويصب في الخليج على نحو 9 أميال من مصب وادي الإحثا، وفيه ثلاث عيون:
عين سدر: وهي عين غزيرة، على نحو ساعتين من منشئه، يجري ماؤها مسافة قصيرة في بطن الوادي، ثم يغور في الرمال ويذهب هدرا، وعليها بعض أشجار النخيل والتين، وفيها نبت النال الذي تعمل منه الحصر، وإليها يجتمع عربان الحويطات والتيه، وعلى نحو ثلاثة أميال إلى الشمال الشرقي من هذه العين تلة مرتفعة مخروطية الشكل، عليها قلعة حصينة من بناء السلطان صلاح الدين الأيوبي المشهور، تعرف بقلعة الباشا ومعصاة الجندي، وسيأتي الكلام عليها.
شكل 4-1: عين سدر.
وعين أبو رجوم: على نحو ساعتين من عين سدر منحدرا مع الوادي، وهناك قتل الأستاذ بالمر الإنكليزي ورفيقاه غدرا سنة 1882 كما سيجيء في باب التاريخ.
وعين أبو جراد: وهي عين شحيحة في جنب الوادي قبيل خروجه إلى سهل الراحة، وعلى نحو خمس ساعات من عين أبو رجوم منحدرا مع الوادي.
وترى بين مصب وادي سدر ومصب الإحثا على نحو ميل من شاطئ الخليج بئرا حسنة الماء قريبة القعر، تعرف «ببئر عواد».
ووادي وردان:
يخرج من جبال التيه، ويصب في الخليج على نحو 8 أميال من مصب وادي سدر، وفي أسفل هذا الوادي بالقرب من مصبه بالبحر بئر «أبو صويرة»، وعن يمين الوادي فوق طريق القوافل عين غزيرة تدعى «الطيبة».
مكون الحماضة: وعن يسار الوادي مكان كثير الحصى، يدعى «مكون الحماضة»، وقعت فيه واقعة دموية بين الحماضة وبني واصل في القديم كما سيجيء.
ووادي عمارة:
يخرج من جبال التيه، ويصب في البحر على نحو 12 ميلا من وادي وردان، وسيل هذا الوادي والأودية التي تقدمته ينبسط في سهل «الهبج» المار ذكره انبساطا عظيما، حتى يبلغ عرض الوادي هناك ألف متر أو أكثر.
حجر الركاب: وفي طريق القوافل على نحو نصف ساعة جنوبي وادي العمارة حجارة كبيرة، يستريح المسافرون في ظلها عند الغروب، فسميت «حجر الركاب».
عين الهوارة: وفي هذه الطريق على نحو نصف ساعة من حجر الركاب عين شحيحة، حريفة الطعم في قفر محرق، تدعى «عين الهوارة»، عندها ثلة من النخيل يستحب الاستظلال بها، وهي في رأي أكثر الباحثين «مراح» التوراة.
ووادي غرندل:
شكل 4-2: وادي غرندل.
ينشأ من جبال التيه من نقب وطاه، ويصب في خليج السويس على نحو 13 ميلا من مصب وادي عمارة، وتجري فيه عين غزيرة تعرف «بعين غرندل» وفيه نخل قليل، ويظن أنه «إيليم» التوراة، وفي هذا الوادي كهفان للنساك منحوتان في الصخر، وفي رأسه «عين حجية» ونواويس قديمة للسكان الأصليين.
رجم حصان أبو زنة: وعلى طريق القوافل على نحو ساعة جنوبي غرندل رجمان من الحجارة أحدهما أكبر من الآخر، وبينهما نحو 15 مترا، يطلق عليهما «رجم حصان أبو زنة»، وكل ما قيل في أصل هذا الرجم مختلق غير معقول، من ذلك: أن جبارا من جبابرة النصارى كان فارا من وجه أعدائه، فأدركوه في هذا المكان، فأعمل بشاكلة جواده المهماز، فقفز من مكان الرجم الصغير إلى مكان الرجم الكبير ووقع ميتا، فأقاموا هناك رجمين للدلالة عليه، ومن ذلك الحين كلما مر عربي من هناك قال: «اخسأ يا حصان أبو زنة»، ورمى الرجم الكبير بحجر إلى اليوم، قالوا: وهم يلعنونه؛ لأن موته كان السبب في أسر صاحبه.
شكل 4-3: رجم حصان أبو زنة.
خط المزراق: وعلى نحو ربع ساعة إلى الجنوب من «رجم حصان أبو زنة» «خط المزراق»، وهو ثلم في الأرض يحاذيه خمسة رجوم من الحجارة، بين كل رجم وآخر نحو مترين، وعلى مقربة منه لجهة الغرب تل عليه رجم من الحجارة، قالوا في خبر هذه الرجوم والخط: إن بنتا بدوية كانت ترعى غنمها في ذلك المكان، فمر بها ثلاثة من البدو: شابان وكهل، وسألوها شربة من لبن الغنم، وكان معها طاس فضة، فسقت الشابين بطاس الفضة، وسقت الكهل بكفه، وكان الكهل شهما أبي النفس، فساءه استخفافها به، وقال لها: أود لو هاجمك اللصوص في هذه البرية لنرى منا يشرب بطاس الفضة، ولم يتم كلامه حتى هاجمهم جماعة من اللصوص، فاختطفوا البنت وساقوا غنمها، واعتصموا بالتل المجاور، ففر الشابان وثبت الكهل يقاتل اللصوص وحده بالسيف والمزراق، حتى أجلاهم عن التل، وأنقذ الصبية وغنمها من أيديهم، فأعجبت الصبية ببسالته، وقالت: حقا إنك أنت الجدير بطاس الفضة، ثم ملأته لبنا وقدمته إليه ليشرب، فأبى وقال: لا أشرب بطاس الجبناء وشرب بكفه، فزادت الصبية إعجابا به وتزوجته برضى أهلها، وأقامت له هذا الأثر إحياء لذكره، وما زال العرب يحيون هذا الأثر كلما عبثت به الرياح إلى اليوم.
شكل 4-4: وادي وسيط.
ووادي وسيط:
ينشأ من جبال التيه، ويصب في البحر شمالي حمام فرعون على نحو ستة أميال من مصب غرندل، وفيه عين حريفة الطعم ونخل قليل، قال بعضهم: إنه «إيليم» التوراة لا غرندل، ولكن أكثر المحققين في جانب وادي غرندل.
ووادي أثال:
ينشأ من جبال التيه، ويصب في البحر جنوبي جبل حمام فرعون، على نحو 7 أميال من مصب وسيط، وفيه نبع ماء شحيح حريف الطعم ونخل قليل.
عريس ثمان: وفي طريق القوافل على نحو ربع ساعة من هذا الوادي عود من الطرفاء عليه خرقة بالية، يعرف «بعريس ثمان»، قال بعضهم: إن بدويا خطف بنتا من غير قبيلته، فأدركه أهلها في هذا المكان وانتزعوها منه، ونصبوا هذا العود تذكارا لذلك، وقال آخرون: إنهم قتلوه ودفنوه هناك، وهذا العود دليل على قبره.
ووادي الحمر ووادي الطيبة:
ينشأ وادي الحمر من الرملة ونقب وطاه، ويسير إلى أن يأتي عين ماء حريفة الطعم تدعى «الطيبة»، عندها حديقة من النخيل، فيأخذ اسم وادي الطيبة، يسير نحو ساعة فيصب في الخليج عند أبو زنيمة، على نحو 8 أميال من مصب أثال، ويصب في وادي الحمر على نحو ساعة من عين الطيبة «وادي الشبيكة» ينشأ من أكمة عريس ثمان، وفي وادي الحمر على الطريق حجارة نبطية كثيرة.
ووادي بعبعة:
وهو من أمهات الأودية، وله رأسان: «وادي سوق» وهو واد قصير، ينشأ من المنحدر الشمالي لجبل سرابيت الخادم وجبل الغرابي. «ووادي حبوس» ينشأ من نقب ورصاء، ويخترق الرملة مارا بقبر الشيخ حبوس، إلى أن يلاقي وادي سوق على نحو ثلاثة أميال من رأسه، ومن ملتقى هذين الواديين يسير وادي بعبعة بين الجبال، والأودية تصب فيه عن اليمين والشمال، إلى أن يخرج من الجبال عند خشم اللقم، ويصب في سهل المرخا عند ميناء أبو رديس، ومن أهم الأودية التي تصب فيه مبتدئا من أعلاه: (1)
وادي المالحة: يأتي من نقب الراكنة ويخترق الرملة، ويصب فيه على نحو ميل من ملتقى رأسيه، قيل وفي هذا الوادي ثلاث آبار قديمة العهد مبنية بالحجر، عمق كل منها سبع باعات، وعلى ساعة من الآبار مسندا في الوادي مصاول قديمة للمنغنيس، وظاهر أن هذه الآبار لمعدني المنغنيس في ذلك الوادي، وربما كانت أيضا لمعدني الفيروز في سرابيت الخادم؛ لأنها أقرب ماء لسرابيت. (2)
ووادي النصب: يأتي بعبعة من الجنوب، ويصب فيه تجاه مصب وادي الإخفا، وفي وادي النصب على نصف ساعة من مصبه عد ينسب إليه، وهناك معدن للنحاس وكتابة هيروغليفية تدل على تعدين النحاس فيه في عهد الدولة الثامنة عشرة، وقد رأيت عند هذا العد وعند مصب الوادي تلالا عالية من رذالة النحاس وصخورا نبطية كثيرة، وعند العد حديقة مسورة من النخيل والسدر، وقد كان العد والحديقة ملكا لرهبان طور سيناء، فأعطوه «بركة» للنفيعات قبل ارتحال النفيعات من الجزيرة، ولا تزال هذه الحديقة ملكا للشيخ إبراهيم منصور عمدة النفيعات في الشرقية بمصر إلى اليوم، لكنه يهب ثمرها لبعض أهله العليقات من سكان الجزيرة.
ومن فروع بعبعة:
وادي أم بجمة: وفيه معدن للمنغنيس تعدنه شركة إنكليزية منذ سنة 1910، وميناؤه أبو زنيمة كما مر، وقد أقامت الشركة المذكورة جسرا من الخشب في ذلك الميناء؛ تسهيلا لشحن البواخر وتفريغها، ومدت سكة حديد من الميناء إلى سفح الجبل الذي تعدن فيه المنغنيس طولها نحو 11 ميلا.
ووادي الشلال: يصب في وادي بعبعة على نحو نصف ساعة من خشم اللقم.
ووادي السيق:
هذا الوادي ووادي السدرة واد واحد، أعلاه وادي السيق، ينشأ من نقب المريخي، ويسير جنوبا بغرب، فيحد الرملة من الشرق، ثم يخترق الجبال متعرجا والأودية تصب فيه عن اليمين واليسار حتى يلاقي وادي السدرة، فيأخذ اسمه إلى أن يصب في سهل المرخا عند ميناء أبو رديس جنوبي مصب بعبعة، وأهم فروق السيق مبتدئا من أعلاه:
وادي المريخي: وعليه مقام الشيخ حميد، من أولياء قبيلة الجبالية.
ووادي برق: وفيه اقتتل الجيش المصري وأجداد الجيل الحاضر كما سيجيء.
ووادي أم جراف: وهو فرع كبير، وعلى نحو ثلاثة أميال من مصبه منحدرا في وادي السيق قبر لامرأة صالحة من النفيعات، يعرف «بقبر النفيعية» وهو قبر يزار.
ووادي السدرة:
يأتي السيق من الشرق، ويصب فيه على نحو ميل من قبر النفيعية مترجا مع الوادي، ومن هنا فنازلا إلى البحر يأخذ الوادي اسم السدرة كما مر، وفي هذا الوادي قبل مصبه بالسيق بنحو ميل عين غزيرة تعرف «بعين السدرة»، وأهم فروع وادي السدرة:
وادي لبن: يصب فيه عن يمينه على نحو ثلاثة أميال من مصبه بالسيق، وفي هذا الوادي بالقرب من مصبه «عين لبن» الشهيرة، يشرب منها معدنو الفيروز في وادي إقنة إذا جفت عين إقنة، وتبعد عن مغاور الفيروز نحو ساعتين.
ووادي المكتب: وهو واد قصير، يأتي السدرة من المرتفعات التي تطل على فيران، ويصب فيه على نحو ميلين من مصلب لبن، وهو في طريق السويس إلى وادي فيران كما سيجيء، وعند مصبه بالسدرة في جنبه الغربي محطة قديمة للقوافل، وهناك صخور رملية عليها كتابات بالنبطية واليونانية والعربية، وأكثرها بالنبطية، وقد سمي هذا الوادي بالمكتب نسبة لها، وترى بين هذه الكتابات رسوما غير متقنة الصنع، تمثل رجالا مسلحين وعزلا عن السلاح، وجمالا محملة وغير محملة، وخيولا بفرسان أو بلا فرسان، ووعولا وغزلانا، ومراكب وصلبانا، وأنجما وغيرها.
وقد ظنها كوسماس السايح الهندي الذي زار سيناء سنة 535م أنها من آثار بني إسرائيل عند مرورهم بسيناء، ولكن مباحث العلماء المحدثين دلت أن النبطية من آثار تجار النبط الوثنيين، وترجع إلى 200 أو 300ق.م، وأما اليونانية والعربية فهي آثار حجاج النصارى من اليونان والعرب في القرون الأربعة الأولى للمسيح، أما الكتابة العربية الوحيدة التي عثرت عليها هناك، فهي هذه مكتوبة بأحرف كوفية: «يا رب ارحم واغفر آثام عبدك الواله عبد الله»، وتحتها: «ارحم يا الله سعيد يوحنا.»
وسيأتي الكلام عن النبط وتاريخهم وآثارهم في سيناء في فصل خاص.
ووادي إقنة: يأتي السدرة من الشمال الشرقي، ويصب فيه على نحو ميلين من مصب المكتب، وهو واد قصير، لا يزيد طوله على ثلاثة أميال، وفي رأسه عين تنسب إليه، يشرب منها معدنو الفيروز في وادي المغارة، وعند مصبه بوادي السدرة قبر للشيخ سليمان من الصلاح، بناه حديثا ربيع بن جمعة القراشي.
ولوادي إقنة فرع يدعى «وادي قني»، يصب فيه قبل مصبه بالسدرة بنحو 200 متر، وعن يمين هذا الوادي ويساره جبل الفيروز، وفيه مغاور كثيرة يستخرج منها الفيروز، لذلك سمي أيضا «بوادي المغارة»، وهناك صخور هيروغليفية وصخور نبطية يأتي ذكرها تفصيلا، وميناء هذا الوادي ميناء أبو رديس كما مر.
شكل 4-5: وادي إقنة.
ووادي الشيخ:
هذا الوادي ووادي فيران واد واحد، وله رأسان: «وادي الدير» المار ذكره الناشئ من جبل المناجاة، «ووادي اللجاة» الناشئ من جبل كاترينا، وهما واديان قصيران يلتقيان عند مقام النبي هارون، ومنه يسير الوادي باسم وادي الشيخ شمالا بغرب نحو عشرة أميال، فيخترق الجبل الأحمر عند الوطية، ثم يسير منها جنوبا بغرب نحو عشرين ميلا إلى مضيق بين جبلين يدعى «بويب فيران»، فيأخذ اسم وادي فيران، ويسير متعرجا غربا بين جبلين من الغرانيت الأحمر، وفروعه تصب فيه عن اليمين والشمال، إلى أن يصب في الخليج عند سهل القاع.
وقد سمي القسم الأعلى من الوادي بوادي الشيخ نسبة إلى «الشيخ صالح»، المشهور أيضا بالنبي صالح المدفون على جنبه الأيمن على نحو ستة أميال من الدير، وله قبة تزار، يزوره البدو مرة كل سنة في أول الصيف قبيل زيارتهم جبل موسى، ويذبحون له جملا، ولكن ليس منهم من يعرف له أصلا ولا تاريخا، وهم يقولون: إنه من الصحابة، وقد ظن بعضهم أنه جد الصوالحة من سكان الجزيرة الحاليين.
مررت بهذه القبة سنة 1907 مع الشيخ موسى أبو نصير كبير الصوالحة، وكان القبر داخل القبة قد ركب فوقه قفص من خشب عليه «كسوة» من نسيج قطني، وقد لف رأس القفص بعمامة خضراء، فقرأ الشيخ موسى الفاتحة على القبر، ثم قبل رأس القفص وأركانه الأربعة، والتقط قليلا من تراب القبر بأطراف أصابعه فذر منها شيئا على رأسه، ثم خرج وذر الباقي على رأس جمله تبركا.
شكل 4-6: قبة النبي صالح.
وعلى نحو عشر دقائق من القبة منحدرا مع الوادي على جنبه الأيمن «بئر صوير»، يشرب منه زوار النبي صالح، وتجاه البئر على جانب الوادي الأيسر قرية قديمة تدعى «المروة» قد تخربت، ولم يبق منها إلا بضعة منازل يسكنها جماعة من أولاد سعيد، ومن فروع وادي الشيخ:
وادي السباعية: يأتيه من شرقي جبل المناجاة، ويصب فيه عن يمينه على نحو ميلين من مقام النبي هارون.
ووادي الشعب: يصب فيه عن يساره على نحو ميلين من قبة النبي صالح، ويتصل رأسه بجبل الفريع المار ذكره، وعند مصب هذا الوادي «قبر الشيخ محسن» جد المحاسنة العوارمة، وهو قبر يزار.
وادي السليف الفوقاني.
ووادي السليف التحتاني.
ووادي سهب: يأتي وادي الشيخ من منقلب جبل العرفان الغربي، ويصب فيه تجاه مصب السليف التحتاني على نحو ساعتين ونصف ساعة فوق «البويب»، وعلى نحو ساعة من رأس هذا الوادي شمالا خرائب قرى قديمة تدعى «قرى الصفحة».
وفي جنب وادي الشيخ الأيمن على نحو خمسة أميال مصب سهب منحدرا مع الوادي خرائب قرية قديمة وبئر مطمورة، وتجاهها بجانب الوادي الأيسر بئر حديثة العهد قريبة القعر، حفرتها امرأة الشيخ موسى أبو نصير المار ذكره، قيل رأت في الحلم أنها لو حفرت في ذلك الموضع وجدت الماء قريبا من سطح الأرض، فحفرت هذه البئر وسمتها «بئر اللصقة»؛ لأنها بلصق الجبل.
ووادي صلاف: وهو أشهر فروع وادي الشيخ وأكبرها، وله رأسان: «وادي غربا» ينشأ من جبل الفريع ونقب الهاوية، «ووادي حطم» ينشأ من أواسط الجبل الأحمر ، ويلتقيان على نحو ميل من نقب الهاوية، ومن هناك يسير وادي صلاف جنوبا بغرب، إلى أن يصب في وادي الشيخ على نحو نصف ميل من بويب فيران، ومن فروع حطم: «وادي طلاح» قيل سكنه كثير من النساك قبل بناء الدير ، وفيه جنان من النخيل والفاكهة، أخصها العنب والكمثرى واللوز.
وفي رأس وادي غربا عين تنسب إليه، وعلى جنبه الأيسر في سفح نقب الهاوية الغربي، على نحو نصف ساعة من عين غربا مقام شيخ يزار من الجبالية يدعى «الشيخ عواد»، توفي منذ 22 سنة وكان من الصلاح.
وفي وادي صلاف بالقرب من ملتقى رأسيه «قبر الشيخ رزة» في جبانة أولاد سعيد، قالوا: إذا فقد لأحدهم حمار أتى هذا القبر، وقال «يا شيخ رزة أنا داخل عليك تحمي حماري من الضياع»، ثم يشرب القهوة ويقرأ الفاتحة وينصرف.
ومن فروع صلاف: «وادي الدهيسة» ينشأ من منقلب جبل العرفان الشرقي، ويصب فيه على نحو ستة أميال من ملتقى رأسيه، وعلى تلة في جنب هذا الوادي مقام للنبي طالب، وهو من أوليائهم الكبار، يذبح له جمل، ويخصه بالتكريم أولاد سعيد.
وفي وادي صلاف بالقرب من مصب الدهيسة عند مروره بنقب حبران نواويس للسكان الأصليين، وفي نقب حبران أيضا نواويس قديمة سيأتي ذكرها.
وادي فيران:
أو فاران، وهو أشهر أودية الجزيرة كلها قديما وحديثا، وأغزرها ماء ونخيلا، حتى لقد سمي «واحة الجزيرة»، والذي عليه أكثر المحققين أنه «رفيديم» التوراة، وقد قدمنا أن هذا الوادي ووادي الشيخ واد واحد، القسم الأعلى منه وادي الشيخ والأسفل وادي فيران، وبديهي أن القسم الأعلى لم يسم بوادي الشيخ إلا بعد دفن الشيخ صالح عليه، وواضح أن ذلك كان بعد الخروج، فلا يبعد إذن أن يكون «رفيديم» التوراة اسم الوادي كله من رأسه إلى مصبه، ولنا في هذا البيان غرض سنذكره فيما بعد، أما وادي فيران فيبدأ من بويب فيران كما قدمنا.
شكل 4-7: بويب فيران.
وأما «بويب فيران» فهو مضيق بين جبلين قائمين على جانبي الوادي، كمصراعي باب مفتوح، ومن ذلك اسمه ، والمضيق لا يزيد اتساعه عن عشرين قدما، ويعلو نحو 2450 قدما عن سطح البحر، وقد أكد لي مشايخ الجزيرة أن أجدادهم أقاموا فيه سدا لخزن الماء، فهدمه السيل، فلم يجددوا بناءه، وعلى جانب المضيق الأيمن كتابة بالنبطية، ولوادي فيران عدة فروع أهمها:
وادي الأخضر: يأتيه من جبل الظلل جنوبي نقب المريخي، ويصب فيه عن يمينه على نحو ربع كيلومتر من البويب، وفي رأس هذا الوادي عين حلوة تنسب إليه، وعندها بستان نخيل ورمان، وهي واقعة في طريق النبك المشار إليه آنفا.
ومن فروع الأخضر «وادي رتامة»، وفيه عد، وعلى نحو نصف ساعة من العد منحدرا مع الوادي مقام يزار «للشيخ أبو نجيمة» من أجداد أولاد سعيد.
ووادي عليات: يأتي فيران من جبل سربال، ويصب فيه عن يساره في أسفل حديقة النخيل على نحو ثلاثة أميال ونصف ميل من البويب، وعند مصبه على جنبه الأيمن «تل المحرد»، وهو تل صخري أثري، علوه نحو مائة قدم وسيأتي ذكره، وعن يساره بستان لرهبان دير سيناء، بنوا فيه منزلا صغيرا يسكنه واحد منهم، وفي البستان بعض أشجار الفاكهة، ويزرع فيه بعض الحبوب والخضر، وفي هذا الوادي الطريق إلى قمة سربال، وهي طريق وعرة شاقة، مسيرة ست ساعات صعودا وأربع ساعات نزولا، وعلى الطريق في الوادي وفي سفح سربال صخور نبطية قديمة، وهي أقدم آثار فيران.
ووادي الرمانة: يصب في فيران عن يمينه على نحو 13 ميلا من مصب عليات، ومن فروع الرمانة وادي «إقنة الشرائع»، وعليه قبة تزار «للشيخ أبو غانم»، وعند القبة عد ينسب إلى الشيخ المذكور عليه نحو عشرين نخلة، ومن فروع إقنة الشرائع «وادي اللبوة».
ووادي نسرين: يصب في فيران عن يمينه على نحو ثلاثة أميال من مصب الرمانة، ونحو 20 ميلا من البويب، وعند مصبه خرائب قرية قديمة العهد، ومن هنا يعرج المسافر من فيران شمالا بغرب إلى الوادي المكتب بطريق السويس المعتادة، ويبقى الوادي منحدرا إلى البحر مسيرة 12 ميلا أو أكثر.
واحة فيران
أما «واحة فيران» فهي واحدة عظيمة، تمتد من البويب فنازلا في الوادي نحو خمسة أميال، وفي أعلى الواحة «غابة الطرفاء»، وهي غابة عظيمة تمتد من البويب إلى مكان يدعى «علو فيران» مسافة ميلين أو نحوهما. «منقذة النعجة» وفي وسط الغابة على نحو ميل من البويب على طريق المارة، صخرة عظيمة منفصلة عن أصل الجبل في جنب الوادي الأيمن، عندها رجم من الحجارة تدعى «منقذة النعجة»، قيل سميت كذلك؛ لأن نعجة لعرب مزينة طاردها ذئب، فلجأت إلى رأس هذه الصخرة ونجت من الذئب، فصار عرب مزينة كلما مر أحدهم بهذه الصخرة رماها بحجر إلى اليوم.
حديقة فيران
ويلي غابة الطرفاء حديقة غضة من النخيل يتخللها بعض أشجار السدر، تمتد من علو فيران إلى مصب وادي عليات نحو ميل ونصف ميل، ويضيق الوادي عند الحديقة، حتى إنه لا يزيد عرضه في بعض المواضع عن عشرين مترا، ويزدحم النخيل فيه حتى يكاد يخنقه ولا يترك فيه إلا طريقا ضيقا للمارة.
النخيلة والحسوة
وعلى نحو نصف ميل من مصب عليات منحدرا مع الوادي حديقة صغيرة من النخيل تدعى «النخيلة»، وعلى نصف ميل آخر حديقة أخرى من النخيل تدعى «الحسوة»، وهي منتهى واحة فيران، فيكون طولها من البويب إلى الحسوة أربعة أميال ونصف ميل أو يزيد، وربما بلغ عدد نخيلها 16000 أو أكثر.
ولكل قبيلة من قبائل الطورة الست قسم مسور في الحديقة، وقد بنوا فيها أكواخا ومضايف من الطين والحجر الغشيم وسعف النخل، حتى إذا ما جاء موسم البلح في الصيف اجتمعوا في الحديقة وقضوا الموسم، ولكنهم يتركون إبلهم وأغنامهم في الخارج، فلا يئوونها الحديقة؛ لضيقها وقلة مراعيها وكثرة بعوضها، وعند جني التمر يجعلوه في قرب من جلد المعزى بعد دهنها بالزيت أو بالسمن، فتحفظ التمر صالحا للأكل مدة طويلة، وبعد الموسم يتفرقون إلى أماكنهم في الجزيرة فلا يبقى في الحديقة إلا جماعة من سكان البلاد الأصليين يدعون «التبنه»، يلقحون نخيلها، ويزرعون بعض بقاعها حبوبا وتبغا، وهم ينسجون حصرا من سعف النخل لا بأس بها، وسنعود إلى ذكرهم، وأكثر القبائل تملكا في الجزيرة القرارشة ، ثم مزينة، ثم العوارمة، ثم أولاد سعيد، ثم العليقات، ثم الجبالية.
نبع فيران
ويخرج من صخرة في أعلى الحديقة نبع ماء غزير، بل هو أغزر نبع في الجزيرة كلها، قطره نحو تسعة قراريط مربعة، يجري كنهر صغير فيسقي الحديقة، ثم يغور في الرمال والحصى قبيل وصوله الحسوة، فيذهب ماؤه هدرا، مع أنه لو أعتني به وسير في قنوات لصير الوادي عن جانبيه جنة حافلة بأنواع الفاكهة والخضرة.
شكل 4-8: جبل المناجاة في وادي فيران.
ومما يذكر هنا أنه في سنة 1906 ظهر نبع جديد في علو فيران فوق النبع الكبير، وزرع البدو عليه، وفي سنة 1911 ظهر نبع آخر فوق هذا النبع عند البويب، ولكنه يجري قليلا ثم يغور في غابة الطرفاء، وأكد لي بعض عربان فيران أن فم النبع الكبير كان قديما عند قبة الشيخ أحمد أبو شبيب في وسط حديقة النخيل، ثم غار وظهر في مكانه الحالي كأن فم النبع يرتفع في الوادي مع الأيام.
هذا، ويرى عند فم النبع الكبير في جانب الوادي الأيمن طبقات من الطمي المتجمد لاصقة بالجبل، مما يدل على أن الوادي قد سد من أسفله في الأعصر الغابرة فصار بحيرة عظيمة، ثم زال السد فزالت البحيرة وبقيت آثارها.
جبل المناجاة
وفي الجبل الذي إلى يسار الوادي في أعلى الحديقة قمة مرتفعة تدعى «جبل المناجاة»، وفي تقاليد البدو أنه سمي كذلك؛ لأن الله سبحانه ناجى عليه موسى النبي عند مروره بفيران، وهم يزورونه كل سنة في آخر الصيف بعد موسم البلح ويذبحون له، يأتون سفح الجبل فوق النبع الكبير ومعهم الذبائح، فيذبح كل فريق منهم ذبيحة من الغنم أو المعزى، ثم يشتركون في جمل يقدمونه ذبيحة عامة فيأكلون منه ويوزعون على الفقراء، ويقرءون الفاتحة «لموسى وملائكة فيران»، قالوا: فكل من أحب الاشتراك في الذبيحة العامة ربط مقود الجمل بخرقة علامة لذلك، حتى إذا ما ذبح الجمل علقوا مقوده في شجرة طرفاء هناك تبركا، وقد بنى العرب قديما على رأس الجبل مزارا، وهو كوخ صغير من الحجارة الغشيمة ، ولكنهم قلما يصعدون إليه، فيكتفون بالزيارة في سفح الجبل.
تاريخ فيران
ومما زاد في شهرة هذا الوادي أنه في سفح جبل سربال العظيم، الذي قيل إن الأقدمين قدسوه وحجوا إليه كما مر، وإنه في طريق المسافر برا من مصر إلى البتراء وبلاد العرب، وقد مر به موسى النبي إذ خرج بقومه من أرض مصر، وفيه قهر العمالقة أسياد النبع في ذلك العهد، وطرقه النبطيون والآدوميون من قبلهم في تجارتهم، وهنا أسس الرهبان والنساك في صدر النصرانية أبرشية عظيمة دامت بضع مئين من السنين، كما تدل الآثار الباقية هناك إلى هذا العهد، وقد دلت أصناف النقود التي وجدت فيها أنها بلغت أوج مجدها بعد عصر الملك قسطنطين في آخر القرن الرابع، وبقوا إلى أن جاء العرب المسلمون في صدر الإسلام، فاغتصبوا البلاد منهم واحتلوها في مكانهم إلى اليوم كما سيجيء.
آثار فيران
وأشهر آثار هذا الوادي عدا الصخور النبطية في وادي عليات وسفح سربال المار ذكرها، آثار دير وكنيسة في وسط حديقة النخيل، وآثار دير وكنيسة على تل المحرد عند مصب وادي عليات بوادي فيران، وبين تلك الآثار عمد مضلعة ومستديرة ومربعة من الرخام والحجر الرملي، وهي مؤلفة من قطعة واحدة أو عدة قطع، وقد رسم على بعضها صورة الصليب، ووجد على حجر كتابة باليونانية فيها ذكر التابوت المقدس، وآثار كنيسة مبنية بالحجر المنحوت، ودير عند فم عليات في أسفل تل المحرد، وآثار كنيسة وطاحونة على تل الطاحونة تجاه تل المحرد، وآثار قرية قديمة في أسفل جبل الطاحونة، وآثار منازل بالحجر والطين، وقبور على جميع التلال التي ترى من تل المحرد على جانبي الوادي، وكلها من آثار المسيحيين في صدر النصرانية، ومن آثار الإسلام:
قبة تزار «للشيخ أحمد أبو شبيب» من النصيرات القرارشة في جبانة الحديقة السفلى، ويخصه بالتكريم القرارشة والعوارمة، يذبحون له الغنم والمعزى في كل سنة عند اجتماعهم لموسم البلح، وفي بعض السنين يذبحون له جملا كجبل المناجاة. وقبر يزار في جبانة الحديقة العليا «للشيخ عليان» جد الرضاونة العوارمة من جدود الجيل الحاضر، قالوا: إن بعض العربان رأى في الحلم كأن جد الرضاونة هذا هو ولي تجب زيارته، فصاروا يزورونه ويذبحون له، وقبة تزار في الحسوة في أسفل الحديقة «للشيخ سلامة بديري» من أولاد تيهي القرارشة، يزوره القرارشة والعوارمة ويذبحون له.
شكل 4-9: قبة الشيخ أبو شبيب في حديقة فيران.
ومن آثار وادي فيران الشهيرة التي تلفت نظر المنحدر من الحسوة:
حصى الخطاطين: على نحو ميلين من الحسوة، وهي صخرة كبيرة بجانب الطريق انفصلت عن أصل الجبل، وبقربها رجم من الحجارة، قيل هناك كان يجلس الخطاطون المغاربة قديما ويبصرون البخت، وإلى الآن كلما مر بدوي بهذه الصخرة رماها بحجر، ويظن أنها الصخرة التي ضربها موسى فخرج منها الماء لبني إسرائيل لما منعهم العمالقة عن الماء، وهي على نحو ميلين ونصف ميل من المكان الذي تغور فيه مياه نبع فيران الآن.
وعرق المجرحين: على نحو ساعة من حصى الخطاطين، وهو عرق من جنب الوادي الغربي، يستريح المسافرون بظله، وعليه كتابة بالنبطية كالتي في وادي المكتب، قيل سمي كذلك؛ لأن جماعة من التجار اقتتلوا هناك، فأصيبوا بجراح بالغة، والظاهر أن هذا المحل كان «محطة» للتجار النبطيين الذين كانوا يحملون متاجرهم إلى مصر.
شكل 4-10: قبة للشيخ عليان في حديقة فيران.
وعرق رجامات البيض: على نحو نصف ساعة من عرق المجرحين، وهو تل صغير في جانب الوادي الأيسر، عليه رجوم بيضاء، قيل إن الحماضة لما سكنوا حديقة فيران قديما كانوا في الصيف يرحلون إلى هذا المكان ليلا؛ هربا من البعوض الذي يكثر في الحديقة ويجلب الحمى إلى أهلها، وذكر المقريزي مدينة فاران فقال:
هذه المدينة بساحل بحر القلزم، وهي من مدن العماليق على تل بين جبلين، وفي الجبلين نقوب كثيرة لا تحصى مملوءة أمواتا، ومن هناك إلى بحر القلزم مرحلة واحدة، ويقال له هناك ساحل بحر فاران، وهو البحر الذي أغرق الله فيه فرعون، وبين مدينة فاران والتيه مرحلتان، وكانت مدينة فاران من جملة مدائن مدين إلى اليوم، وبها نخل كثير مثمر أكلت من ثمره، وبها نهر عظيم، وهي خراب يمر بها العربان. ا.ه.
ووادي حبران:
ينشأ من «نقب حبران» شرقي جبل سربال، ويسير متعرجا جنوبا نحو 15 ميلا، فيصب في سهل القاع على نحو 16 ميلا من مدينة الطور، وهو في طريق هذه المدينة من الدير والعقبة، وعند مصبه حجارة نبطية، وفيه ثلاث عيون: «عين الوطية» في رأس الوادي في سفح نقب حبران الجنوبي، «وعين الرديسات» على نحو خمسة أميال من عين الوطية، وعليها ثلة من النخيل، «وعين الحشا» على نحو خمسة أميال من عين الرديسات، وهي أغزرها ماء، تجري نحو 3 أميال، ثم تغور بالقرب من مصب الوادي، وفي مجراها بعض النخيل، ومن فروع حبران:
وادي كبرين: يأتي من الشرق من جبل مدسوس، ويصب فيه بين عين الوطية وعين الرديسات بعد مسيرة 6 أميال أو نحوها، وفي رأسه في جبل مدسوس يكثر التيتل، فتقصده السياح للصيد.
ووادي الملاحة: يأتي حبران من الشمال الغربي، ويصب فيه بين عين الرديسات وعين الحشا، طوله نحو 6 أميال، وفي رأسه معدن للمنغنيس والحديد عدنه القدماء، أتيت هذا المعدن سنة 1907، فرأيت تلالا من نفاوة المعدن، وبقربها عدة أكواخ بناها المعدنون الأقدمون مساكن لهم، وهي مبنية بالحجر «الغشيم» والطين بناء متينا جدا، حتى تجد الطين لاصقا بالحجر كأنه جزء منه، ولها أبواب من حجر ضيقة جدا، شبران في شبرين، فلا يمكن الدخول منها إلا زحفا، وأهل البلاد يسمونها «قصر» مفردها قصير.
نقب حبران: أما نقب حبران، فهو جبل مرتفع شهير، يطل على سهل القاع وجبل سربال وجبال التيه، فتتجلى منه مناظر من أجمل مناظر سيناء وأبهاها، وطوله من أسفله عند عين الوطية إلى رأس قمته مسيرة ساعة، وعلى قمته خرائب قرية قديمة للسكان الأصليين تخترقها طريق الطور، ترى المنازل فيها مبنية على شكل أسطواني أو حلزوني تنتهي بقبة، ولكل منزل في أسفله حائط متين يدعمه، وكلها بالحجر الغشيم والطين، وللقرية جبانة محكمة الصنع فيها أربعة أضرحة، ضريحان تحت الأرض وضريحان فوقها، قالوا: وقد وجد بعض البدو في تلك الجبانة أساور من ذهب .
شكل 4-11: فم وادي إسلا عند مصبه بالقاع.
ووادي إسلا:
ينشأ من غربي طور سيناء، ويسير متعرجا بين الجبال الغرانيتية، إلى أن يصب في سهل القاع على نحو 14 ميلا من مدينة الطور، وهو أجمل واد في سيناء كلها، وفيه عين تجري مسافة قصيرة، ثم تغور في الرمال قبيل مصبه بالقاع، وفيه تمر طريق مختصرة من مدينة الطور إلى دير سيناء، ويعرف رأسه «بوادي الطرفاء». (1-2) الأودية التي تصب في خليج العقبة مبتدئا من الجنوب
وادي عدوي:
يصب في خليج العقبة عند ميناء النبك الشهير، وله فروع كثيرة أشهرها، «وادي لتحي» وفيه تمر طريق مختصرة من النبك إلى مدينة الطور.
ووادي الكيد:
ينشأ من شرقي طور سيناء، ويسير مسافة طويلة في جبال وعرة، والأودية تصب فيه عن اليمين والشمال، إلى أن يصب في الخليج عند خشم الكلب على ساعتين إلى الشمال من ميناء النبك، وفي هذا الوادي عين غزيرة تنسب إليه، تمر بها طريق النبك إلى السويس.
ووادي السمراء:
ينشأ من جبل السمراء، ويصب في الخليج على نحو ثلث ساعة من مصب الكيد، قيل وفي جبل السمراء معدن للنحاس كما في وادي النصب الغربية.
ووادي النصب الشرقية:
ينشأ من الشرق، ويخترق البلاد متعرجا فيها، مسافة 48 ميلا إلى أن يصب في الخليج عند ميناء ذهب، وفيه عين غزيرة ونخيل، ويعرف عند رأسه بوادي الرحبة الواقع في طريق الدير من وادي إسلا، ولوادي النصب فروع شتى أشهرها وأعظمها:
وادي سعال: ينشأ من جبل العرفان فرع الجبل الأحمر، ويسير في منحنى عظيم تحديبه إلى الشمال، ويصب في النصب قبل مصبه في ميناء ذهب بنحو ساعتين، قيل ويعرف في أسفله «بوادي الحمام».
ووادي العين:
ويسمى أيضا «وادي وتير» ينشأ من جبال التيه الشرقية، ويصب في الخليج عند قلعة النويبع، وقد سمي وادي العين؛ لأن في مجراه على أربع ساعات من جنوبي قلعة النويبع عينا تدعى عين الفرطاقة أو «العين السفلى»؛ تمييزا لها عن «العين العليا» في أعلاه الآتي ذكرها، وسمي وادي وتير؛ لأنه متحدب من وسطه كوتر (أي سرج) الجمل، وهو يتألف من أودية شتى تجمعها ثلاثة وهي: «وادي الشيخ عطية»، «ووادي الزلقة»، «ووادي الغزالة».
يأتي وادي الشيخ عطية من الشمال ووادي الزلقة من الغرب، ويلتقيان في مكان في الوادي يدعى «الهرمات» على نحو 22 ميلا من قلعة النويبع، ثم يسير الوادي مسافة سبعة أميال تقريبا، فيلاقي وادي الغزالة آتيا من الجنوب الغربي عند العين السفلي، ويسير الكل باسم وادي العين إلى النويبع.
ومن فروع وادي الشيخ عطية:
وادي السورة: يصب فيه عن يمينه على نحو ساعة من الهرمات، وعلى نحو ساعتين من مصب السورة مسندا في الوادي «قبر الشيخ عطية»، أحد أجداد الترابين الذي سمي الوادي باسمه، وهو قبر يزار، يزوره الترابين، وغيرهم من القبائل المجاورة، وعند قبر الشيخ عطية تلتقي الأودية الآتي ذكرها:
وادي الحيثي:
آت من الشمال الشرقي، وعليه قبر الشيخ سليمان أبو قردود اللحيوي.
ووادي شعيرة الدبس:
آت من الشمال من المنحدر الجنوبي لجبل الشعائر، وفيه تمر الطريق من النويبع والدير إلى غزة، وسيأتي ذكرها تفصيلا في باب الطرق.
ووادي مرطبة، ووادي قديرة:
آتيان من الشمال الغربي.
ووادي جديع:
آت من الشمال الغربي أيضا، وفيه «عين جديع» على نحو نصف ساعة من قبر الشيخ عطية، ومنها يشرب زواره.
ومن فروع وادي الزلقة:
وادي البيار: يأتيه من جبال العجمة، ويصب فيه في مكان يدعى المجرح، على نحو ساعة ونصف من العين العليا، وفي رأس هذا الوادي عد ماء ينسب إليه ونواويس قديمة، «ووادي أبو طريفية»: قيل وفيه معدن ذهب.
وفي سيل الزلقة عينان: «عين العاقولة» على نحو ساعة ونصف من الهرمات، «والعين العليا» على نحو أربع ساعات من العين السفلى، وتدعى أيضا عين أحمد، وهناك نواويس قديمة كالتي في نقب حبران وحديقة من النخيل.
ومن فروع الغزالة:
وادي حدرة: وهو واد قصير، يصب فيه على نحو ساعتين من مصبه بوادي العين، وفي وادي حدرة على نحو ساعة من مصبه بالغزالة «عين حدرة»، وهي في المشهور عين حضيروت التي مر بها الإسرائيليون عند ارتحالهم من جبل سيناء (سفر العدد، ص11: 35، وص12: 16)، وهناك نواويس قديمة للسكان الأصليين، وأطلال مساكن لرهبان سيناء، وحديقة صغيرة من النخيل، وقد كانت العين والحديقة ملكا لرهبان سيناء، فاضطروا أن يهبوها لعرب العليقات، ولا زالت في حوزة هؤلاء إلى الآن.
ويصب في خليج العقبة من النويبع فصاعدا شمالا عدة أودية كبيرة أشهرها:
وادي طويبة:
وهو ينشأ من نقب ذنيب «العير»، ويصب في الخليج تجاه جزيرة فرعون، وفي طريق من هذه الجزيرة إلى درب الحاج ودرب الشعوي الآتي ذكرهما.
ووادي طابا:
وهو ينشأ من جبل طرف الركن ونقب العقبة، ويصب في الخليج قرب مصب طويبة على ثمانية أميال من قلعة العقبة برا، وستة أميال بحرا، وهو الوادي الذي وقع الخلاف عليه سنة 1906م بين الدولة العلية والحكومة المصرية، فبقي في حد مصر، وجعل مبدأ الحد الفاصل أكمة صغيرة في جنبه الأيسر عند مصبه بالخليج سميت «رأس طابا»، وعند مصب هذا الوادي بئران: بئر حفرها الميرالاي سعد بك رفعت عند إخلائه العقبة سنة 1892، وبئر حفرها رشدي باشا قومندان العقبة سنة 1906 في أثناء الخلاف المار ذكره، وعلى نحو ثلاثة أميال من مصبه بالبحر عين تعرف باسمه، وعليها دومة، ولعلها الدومة الوحيدة في الجزيرة كلها.
ومن الأودية التي تصب في خليج العقبة، وقد دخلت في حد الدولة العلية:
وادي المصري:
ينشأ من رأس نقب العقبة، ويصب في الخليج على نحو ميل ونصف ميل من مصب طابا، سمي كذلك؛ لأنه كان منفذ الحجاج المصريين إلى العقبة.
ووادي المحسرات:
وهو واد قصير، ينشأ من أسفل النقب، ويصب في رأس الخليج عند «المرشش» على ميل ونصف من مصب المصري، وقد كان منفذ طريق الحج المصري إلى الخليج بعد ترك وادي المصري.
وعلى شاطئ الخليج بين مصب وادي المصري ومصب المحسرات حجر كبير في طريق المارة يدعى «حجر علوي»، وهو الحد القديم بين عربان الطورة وعربان العقبة.
ووادي العربة العظيم:
يمتد من البحر الميت إلى رأس خليج العقبة مسافة 115 ميلا تقريبا، ويعترضه في وسطه «جبل الريشة» فيقسمه قسمين: قسما ينحدر السيل فيه شمالا إلى بحر الميت، وآخر ينحدر فيه جنوبا إلى خليج العقبة، وسنعود إلى ذكره بعد الكلام عن مدينة العقبة. (2) 2 و3 أودية بلاد التيه والعريش
وأما أودية بلاد التيه والعريش، فيرجع أكثرها إلى واديين عظيمين، وهما: «وادي الجرافي»، «ووادي العريش». (2-1) وادي الجرافي
أما «وادي الجرافي» فينشأ من جبال بلاد التيه الجنوبية الشرقية، ويسير شمالا بشرق نحو مائة ميل، والفروع تصب فيه عن اليمين والشمال، إلى أن يصب في العربة على نحو ست ساعات شمالي جبل الريشة، وفي بطن هذا الوادي عدة أمشة أهمها: «مشاش الكنتلة» على نحو 34 ميلا من المفرق، وقد احتفر محافظ سيناء سنة 1911 بئرا في جنب هذا الوادي الأيسر تجاه المشاش، وطواها بالحجر المنحوت، عمقها 23 مترا، وماؤها غزير عذب إلى الغاية، «وثميلة سويلم» على نحو 7 أميال من مشاش الكنتلة، «ومشاش أبو شوك» على نحو ميلين من ثميلة سويلم، «ومشاش البقر» على نحو 3 أميال من مشاش أبو شوك، وأهم فروع هذا الوادي:
وادي رحية: وهو أصل الجرافي، وله عدة فروع أهمها: «وادي شعيرة مظعان» سمي كذلك؛ لأن فيه قبر شيخ ترباني يزار يعرف بهذا الاسم، «ووادي شعيرة أم عرقوب»، وهذان الفرعان ينشآن من جبل الشعائر من منحدره الشمالي، كما أن شعيرة الدبس الذي يصب في وادي الشيخ عطية ينشأ من ذلك الجبل من منحدره الجنوبي، «ووادي الأخريطي» وهو ينشأ من غرب جبال الحمراء، وفيه مشاش ينسب إليه على نحو 3 ساعات من المفرق في درب الحج المصري.
ووادي خميلة النعجة: ينشأ من جبال الحمراء والصفراء، ويصب في الجرافي عن يمينه على نحو خمسة أميال جنوبي مشاش الكنتلة، وفيه شجر كثير يصنع فحما، وهو واقع في درب غزة، وله فرع عن يمينه يدعى «المحابيس»، أتيت رأس هذا الفرع على هجين، وسرت فيه منحدرا سير الذميل، فوصلت مصبه بساعة وربع ساعة.
ووادي الأغيدرة: ينشأ من جبال الصفراء، ويصب في الجرافي عن يمينه على نحو 3 أميال جنوبي الكنتلة، وفيه تمر درب غزة، فتنحدر معه إلى قرب مصبه.
ووادي سلالم: ينشأ من جبال طرف الركن وغيرها، ويصب في الجرافي عن شماله قرب مشاش الكنتلة.
ووادي الهاشة: يصب في الجرافي عن يمينه على نحو ميلين من مشاش الكنتلة منحدرا مع الوادي، ويتفرع منه وادي «هاشة الشوافين»، وفيه قبور الشوافين اللحيوات، بينهما قبران يزاران للشيخ صبح والشيخ حسين بن زيدان .
ووادي الخضاخض، ووادي الغبي: ينشآن من جبل القنة، ويقطعان درب غزة، ويصبان في الجرافي، الأول عند ثميلة سويلم، والثاني عند مشاش أبو شوك.
ووادي أم حلوف: ينشأ من جبل سماوي ويصب فيه عن شماله عند مشاش البقر. (2-2) وادي العريش
شكل 4-12: فم وادي العريش عند مصبه بالبحر المتوسط.
وأما وادي العريش فينشأ من جبال العجمة ويخترق بلاد التيه، ثم بلاد العريش، والأودية وأمهات الأودية تنضم إليه من اليمين والشمال، فيزداد ضخامة واتساعا كلما اتجه شمالا، إلى أن يصب في البحر المتوسط عند مدينة العريش، ومن ذلك اسمه، وهو أعظم أودية سيناء كلها، طوله نحو 150 ميلا ومتوسط عرضه نحو ستين يردا، وله رأسان: «وادي المغارة» ينشأ من نقب ورصاء، «ووادي جنيف» ينشأ من «حصى المروكبة» شرقي ورصاء، يلتقيان قبيل جبل ظليل عن يمين الوادي يدعى «عرقوب الراهب»، أما العرقوب فطريق في جبل، فسمي الجبل بالعرقوب؛ لأن فيه عقبة صغيرة في طريق نخل إلى بلاد الطور، قالوا: وقد نسب إلى الراهب؛ لأنه قد تنسك فيه راهب في القديم، وأهم فروع وادي العريش:
وادي أبو متيقنة:
يأتيه من نقب الراكنة، ويصب فيه عن يساره بعد مروره بعرقوب الراهب بقليل، وفيه على طريق المسافر من نخل «عين أبو متيقنة» على نحو ساعتين من رأس النقب، وساعتين من مصب الوادي، وعلى نحو خمس دقائق من مصب هذا الوادي منحدرا بوادي العريش «بارود العيايدة»، وهي مدافن قديمة للعيايدة عن يمين الوادي، قد نصب عليها أخشاب كأخشاب البنادق، ومن ذلك اسمها.
ووادي البربري:
يأتي وادي العريش عن يمينه على نحو ساعة وربع ساعة من مصب أبو متيقنة، وهناك «مزارع للبدارة».
ووادي البياض:
يأتي وادي العريش عن يمينه على نحو ساعة من مصب البربري.
ووادي مجمر:
ينشأ من نقب وطاه، ويصب في وادي العريش عن يساره على نحو أربع ساعات من مصب البياض، وعلى نحو ربع ساعة قبل مصبه «مزارع الصفايحة».
ووادي أبو لقين:
يأتي وادي العريش عن يمينه على نحو خمس دقائق من مصب مجمر، وله فرعان، «وادي السقي» وعليه «قبر الشيخ محمود»، «ووادي رجيم» وفيه «بئر رجيم»، ويرى المنحدر في وادي العريش من مصب أبو لقين:
عجرة الملح: وهي تلة صغيرة عن يمين الوادي على نحو ساعة من مصب أبو لقين، يستخرج منها الملح.
فدرب الشعوي: وهي درب قديمة من السويس إلى نقب العقبة، تقطع وادي العريش على نحو ساعتين ونصف ساعة من عجرة الملح، وسيأتي ذكرها.
فثميلة أم سعيد: على نحو نصف ساعة من مقطع درب الشعوي.
فخفجة ابن لهمان: على نحو ساعة ونصف ساعة من الثميلة عن يمين الوادي.
فغدير الحمارة: على نحو ساعتين ونصف ساعة من خفجة ابن لهمان، وهو غدير عظيم يدوم فيه الماء أياما بعد انقطاع السيل.
ووادي أبو عليجانة:
ينشأ من نقب الهيالة، ويصب في وادي العريش عن يمينه على نحو ربع ساعة من غدير الحمارة.
ووادي أبو طريفية:
ينشأ من جبال العجمة، ويصب في وادي العريش عن يمينه على نحو 3 ساعات من مصب أبو عليجانة، وعن يمين أبو طريفية على نحو ميل قبل مصبه بوادي العريش «مدينة نخل» الشهيرة، وفيها تمر درب الحج المصري بعد أن تقطع وادي العريش ببضع دقائق.
ووادي أبو غريقدات:
يصب في وادي العريش عند «عجيرة الشي»، وهي تلة شهيرة على نحو ساعة من مصب أبو طريفية.
ووادي الرواق:
ويعرف في أعلاه بوادي العجمة؛ لأنه ينشأ من جبال العجمة، ويصب في وادي العريش على نحو ساعة من مصب أبو غريقدات، وفي أعلى الرواق صنع قديم يعرف «بصنع الزرقاء»، يسع من الماء ما يكفي 400 جمل 40 يوما، وعلى نحو ثلثي الساعة من مصب الرواق مزارع متسعة للتياهة تدعى «الخفجة».
ومن فروع الرواق: «وادي الرويق» ولهذا فرع يدعى «مسيك العبد» فيه نواويس قديمة، «ووادي الغبية » ينشأ من شويشة العجمة، ويصب في الرواق عند جبل أبو هشمي على نحو ساعتين شرقي نخل، وفي هذا الفرع مكراع ماء يكفي إبل العرب المجاورة له مدة شهر أو أكثر.
ووادي البروك:
وهو من أمهات الأودية، ينشأ من جبال الراحة وجبل بضيع، ويصب في وادي العريش عن يساره عند غدير القف على نحو ست ساعات من مصب الرواق، وفي بطن هذا الوادي على نحو أربع ساعات من مصبه بالعريش، ونحو 20 ميلا غربي نخل آبار تدعى «ثمادة البروك»، وله فروع شتى أشهرها، «وادي صدر الحيطان»، «ووادي الأغيدرة»، «ووادي السحيمي»، «ووادي النتيلة»، «ووادي أبو كنادو»، «ووادي أبو جذل»، وكلها تقطع درب الحج المصري أو تسير معها.
ووادي العقابة:
وهو من أمهات الأودية، ينشأ من جبال العجمة، ويصب في وادي العريش عن يمينه عند ضيقة إخرم على نحو ساعة من مصب البروك، وأهم فروعه:
وادي القريص: في أعلاه، وفيه «بئر القريص» على درب الحاج المصري على نحو 37 ميلا من نخل، وكانت محطة للحجاج يبيتون عندها بعد خروجهم من نخل، وتعرف أيضا ببئر أم عباس نسبة إلى أم عباس الخديوي التي طوتها بالحجر المنحوت، وبنت عندها بركتين طول أكبرها 99 قدما، وعرضها 57 قدما، وعمقها 14 قدما، وتعرف هذه البئر أيضا «ببئر أبو محمد» نسبة إلى الشيخ أبو محمد الجوهري المدفون هناك، على نحو ربع كيلومتر شمالي البئر في قبر حسن البناء، وقد مررت بهذا القبر في 20 أكتوبر سنة 1906، فإذا هو في حال الخراب، ولكن آثاره تدل على فخامته، ورأيت بين الأنقاض حجرا طباشيريا من حجارة تلك الجهة، قد نقش عليه اسم صاحب القبر وتاريخ وفاته، ولكن الأيام قد عبثت بالكتابة حتى لم يبق مقروءا منها إلا ما يأتي:
بسم الله الرحمن الرحيم الحي الذي لا يموت، قبر المرحوم، العنتيبلي الشهير بالجوهري، في ثاني عشر شوال سنة تسعين وتسعمائة، تغمده الله تعالى برحمته والمسلمين آمين ا.ه.
وهذا التاريخ يوافق 9 نوفمبر سنة 1582، والظاهر أن أبا محمد الجوهري هذا خرج للحج في تلك السنة فمات عند هذه البئر ، وكان عزيزا في قومه فبنوا له هذا القبر إحياء لذكره.
ومن فروع وادي القريص:
وادي المشيش:
وفيه عد ينسب إليه واقع في الطريق إلى النويبع من نخل.
الولي المفسود:
وفي جنب هذا الوادي على درب الحج المصري قرب مفرق الطريق إلى بئر الثمد، رجم كبير من الحجارة يعرف برجم «الولي المفسود»، مررت بدرب الحج سنة 1906 مع جماعة من البدو، فما وصلنا هذا الرجم حتى رأيت كلا من البدو قد أخذ حجرا ورمى به الرجم، وأخذ يصب عليه الشتائم، ويقول: «اخسأ يا ملعون الوالدين، اعقب، اكعب، الله يلعنك»، فسألتهم في ذلك، فقالوا: هذا قبر رجل يدعى مصبح كان وليا، ففسد وضل السبيل، فسمي الولي المفسود، قالوا: وفي أعلى وادي الأبيض على درب غزة على نحو عشرة أميال من خرائب العوجة ولي آخر مفسود يدعى «عمري»، ولكن ليس من يعرف لهذين الوليين أصلا ولا تاريخا، وظن بعضهم أن عمري هذا هو عمري ملك اليهود الذي بنى السامرة «وعمل الشر في عيني الرب» (ملوك الأول ص16 عد16: 28).
ومن فروع القريص:
وادي الطيبة:
وفيه عد ينسب إليه على نحو 12 ميلا جنوبي بئر القريص، وله فرع يدعى «وادي أم رجام» فيه آثار قديمة، قيل وجد بعض السياح هناك صخرة نبطية.
ووادي الثمد:
ينشأ من جبل الطباقة، وفي هذا الوادي بئر تدعى «بئر الثمد» أو «ثمد الحصى» على نحو 39 ميلا من نخل، و8 أميال من بئر القريص، عمقها قامتان ونصف، مطوية بالحجر «الغشيم»، ولها فوهة واسعة حفرها الخناطلة اللحيوات منذ نحو خمسين سنة، وفي جوارها بئر قديمة العهد قد دفنت، فشرع في تطهيرها الميرالاي سعد بك رفعت سنة 1906، ثم جاء اليوزباشي محمد أفندي بهجت من ضباط الجيش المصري فأتم تطهيرها، ولكنه لم يطوها بحجر، ونصب عند فم البئر حجرا نقش عليه هذه العبارة بحرفها: «هذا البئر حفر بمعرفة اليوزباشي محمد أفندي بهجت من 3 جي أورطة بيادة مصرية سنة 1906»، ومن فروع وادي الثمد، «وادي الشيخ نبعة» سمي باسم شيخ يزار من الترابين، مدفون فيه على نحو ساعة من بئر الثمد.
ومن فروع العقابة «وادي الفيحي» يصب فيه على نحو 6 ساعات قبل مصبه بوادي العريش، ومن فروع الفيحي:
وادي الريد:
تخترقه درب الحج المصري، وفي منتصف هذا الوادي في جنبه الأيسر أكمة عليها رجم يدعى «مقعد الحبيبين»، قالوا: افترق أخوان من عرب جرم، فسكن أحدهما في الشرق والآخر في الغرب، فولد للأول صبي وللثاني بنت، وشب الولدان فخرجت الشابة يوما من وادي الحسنة شمالي نخل لرعي إبلها، وخرج الشاب من وادي العربة على هجين، فالتقيا في وادي الريد هذا عند تلك الأكمة، فحن كل منهما إلى أصله، وأحس بميل إلى الآخر، وكان هجين الشاب عطشانا، فحفرت الشابة حفرة، وافترشت عليها صفرة (جلد غنم مدبوغ)، وحلبت نياقها وسقته، ثم تعارفا واقترنا، فوضع الرجم على تلك الأكمة تذكارا لذلك.
ووادي قرية:
وهو من أكبر فروع العريش، يصب فيه عن يمينه عند «ضيقة الحماضة» على نحو 3 ساعات من مصب العقابة، و35 ميلا من مدينة نخل.
وفي هذا الوادي عدة آبار حية، أشهرها، «بئر المالحة»، «وعد عجرود»، «وبئر قرية»، وهذه البئر الأخيرة واقعة على 9 أميال غربي درب غزة.
ومن فروع وادي قرية:
وادي خريزة: ينشأ من جبل عريف الناقة.
ووادي الأحيقبة: ينشأ من جبل الأحيقبة، ويقع في طريق غزة.
ووادي مايين: وهو أهم فروع قرية، يأتيه من غرب جبل سماوي ومن جنوب المقراة، ولعل هذا أصل تسميته بمايين، ويمر بجبل عريف الناقة من شماليه.
وفي رأس هذا الوادي عدة آبار حية شهيرة تعرف «بآبار مايين»، لا ينقطع ماؤها، تعلو نحو 2130 قدما عن سطح البحر، وعلى نحو 3 كيلومترات من هذه الآبار «عين المغارة»، وهي عين في مغارة يردها عرب الصبحيين العزازمة، وقد جعلتها لجنة الحدود سنة 1906 في حد الدولة العلية، وجعلت آبار مايين في حد مصر.
وفي هذا الوادي في أسفل «عقلة» الآبار مضيق، لو جعل فيه سد لأروى أرضا زراعية متسعة عن جانبي الوادي، وهناك خرائب قرى وسدود زراعية، مما يدل على أن الوادي كان عامرا في القديم، وقد ذكره المقريزي في جملة مداين مدين كما سيجيء، ومن فروع مايين، «وادي الأحمر» وعليه مقام «الشيخ صباح» بجوار جبل عريف الناقة، وهو من أجداد التياها. ومن فروع قرية:
وادي الفهدي: يصب فيه عن يساره قرب مصبه بالعريش، وقد جرت فيه قديما واقعة دموية بين العليقات من عرب الطور والكعابنة من عرب الخليل سيأتي ذكرها، وهناك أثر لتلك الواقعة على جنب الوادي الأيسر في طريق نخل إلى غزة، وهو ثلم في الأرض طوله نحو خمسين مترا، وعلى كل من جانبيه صف من الحجارة، وعلى الصف الذي يلي نخل وسم العليقات، والصف الذي يلي غزة وسم الكعابنة، وما زال البدو يحيون هذا الأثر كلما عبثت به الرياح إلى اليوم.
ووادي الشريف:
يأتي وادي العريش من جبل الشريف، ويصب فيه عن يمينه عند «مزارع الشتيات التياها» على نحو ساعتين وربع من مصب قرية.
وسيل الحضيرة:
ينشأ من جبل الحلال، ويصب في وادي العريش عن يساره، على نحو عشر دقائق من مصب الشريف، وفي هذا السيل قبل مصبه بقليل «هرابة» أثرية مشهورة منحوتة في أصل الصخر، تدعى «هرابة ابن نافع»، وهناك «هرابة» أخرى على ستة أميال من المويلح، وهي نقرة في صخر يخزن فيها ماء المطر، يجري إليها في قناة متصلة بأكمة في جوارها، طولها 60 قدما، وعرضها 40 قدما، وعلوها 20 قدما، ينزل إليها بسلم من أصل الصخر، وقد ترك في وسطها عمود من أصل الصخر لعمد سقفها.
وادي الجرور:
يصب في العريش على نحو ساعتين ونصف من مصب سيل الحضيرة، وله فروع أشهرها، «وادي لصان» ينشأ من جبل خراشة، وجبل العنيقة.
ووادي المنبطح:
يصب في العريش عند «ضيقة الحلال»، وهي مضيق بين جبل الحلال وجبل ضلفع، على نحو ساعة من مصب الجرور، ومن فروعه: «وادي السيسب»، «ووادي الجايفي»، ومن فروع الجايفي: «وادي قديس» الناشئ من جبل خراشة، وفي رأسه «عين قديس» المنسوبة إليه، وهي برأي أكثر المحققين من علماء التوراة أنها «عين قادش» التوراة، تتألف من أربعة ينابيع غزيرة في بطن الوادي، نبعان يجري ماؤهما فوق الأرض نحو نصف ميل، ثم يغور في الأرض، وعدان ينحبس ماؤهما تحت الأرض، وليس بقرب هذه الينابيع أرض صالحة للزراعة، ولكن على ثلاثة أميال منها وادي الجايفي الغني بمزارعه، ويرد هذا العين الآن قبيلتا العزازمة والبريكات التياها، ومن فروع المنبطح:
وادي المويلح: وفيه عين شهيرة وآبار حية تنسب إليه، وهناك قبر الشيخ عوده بن عمرو من البنيات التياها. وفي هذا الوادي قرب الماء مغاور قديمة للنساك منحوتة في الصخر، وعلى رءوس التلال التي تشرف على الآبار خرائب قرى قديمة للسكان الأصليين، ومن فروع المويلح:
وادي القصيمة:
وفي رأسه «عين القصيمة» الشهيرة، الواقعة على درب غزة على 3 أميال شرقي آبار المويلح، «ووادي الصحبة» وفيه أراض زراعية متسعة للتياها تزرع على المطر، وإلى شمالي الصبحة مزارع متسعة للتياها والترابين تعرف «بالعمر».
ومن فروع الصبحة:
وادي القديرات: الناشئ من جبل خراشة، وفي رأسه «عين القديرات» المنسوبة إليه، على نحو ثلاثة أميال شرقي عين القصيمة، وهي نبع غزير كنبع فيران، يتدفق من سفح جبل خراشة، فيجري كنهر صغير في غوطة من قش النال وشجر السدر، مسافة ميل ونصف ميل، ثم يغور في الرمال فلا ينتفع به، مع أن في جانبي ذلك الوادي أراضي متسعة، تبلغ نحو عشرة آلاف فدان أو أكثر صالحة للزراعة.
وهذه العين وواديها للقديرات التياها، وقد دخلتا في حد مصر، وعين القديرات أعلى موقعا وأغزر ماء من عين القصيمة، كما أن هذه أعلى موقعا وأغزر ماء من عين المويلح، وكلها في اتجاه واحد، فلا يبعد إذن أن تكون كلها من نبع واحد، وهو عين القديرات، وقد أتيت هذه العين، فرأيت في جنب الوادي الأيسر على نحو ميلين من رأس النبع بركة ماء قديمة العهد، مبنية بالحجر المنحوت، مساحتها 20 مترا في 30 مترا، وعرض حائطها نحو مترين، قد بني على شكل درج قصد تقويته، ولعلها من بناء الرومان.
ويرى المنحدر في وادي العريش بعد ضيقة الحلال عدة آبار حية قريبة القعر، أشهرها:
عد الروافعة: على نحو 12 ميلا من ضيقة الحلال.
فعد أبو عويقيلة: على نحو ميل ونصف ميل من عد الروافعة.
فعد أولاد علي: بقرب عد أبو عويقيلة، وهناك قبور أولاد علي من أجداد الترابين.
فعد المقضبة: على نحو خمسة أميال من عد أولاد علي، و24 ميلا من مدينة العريش، وهو أشهر عدود وادي العريش وأغزرها ماء، وليس هناك عد واحد، بل بضعة عدود في بطن الوادي، يردها الترابين وغيرهم من عربان العريش والتيه، وقد كان شأنها في القديم أعظم منه اليوم؛ لوقوعها في «الدرب لمصري» الآتي من غزة إلى السويس والإسماعيلية، وهو طريق تجاري سيأتي ذكره.
ووادي الأبيض:
من أمهات الأودية يخرج من جبل المقراة، ويصب في وادي العريش على 6 أميال شمالي المقضبة، و18 ميلا جنوبي العريش، وأشهر فروعه:
وادي العوجاء: ويقال له أيضا الأعوج وهو الأصح، سمي كذلك؛ لكثرة تعرجه، وفيه آثار مدينة متسعة فخمة البناء من عهد البيزنتيين، وأهم تلك الآثار: كنيسة وقلعة وآبار وجبانة وكروم.
كنيسة العوجاء:
أما الكنيسة فقائمة على تلة مرتفعة عن يسار الوادي، طولها 122 قدما، وعرضها 48 قدما، وعلو بعض جدرانها 23 قدما وستة قراريط، وسمكها 8 أقدام، وعلو البعض الآخر 15 قدما.
قلعة العوجاء:
وأما القلعة، فعلى التلة نفسها قرب الكنيسة، وطولها 272 قدما، وعرضها 107 أقدام، ولها بوابة عظيمة بقنطرة اتساعها 14 قدما، وفي جانب القلعة الغربي الذي يلي سيناء باب اتساعه خمس أقدام، ينزل منه بسلم طويل إلى بطن الوادي، وفي طرف القلعة الشرقي الذي يلي سوريا حائط سمكه 15 قدما، وعلوه 25 قدما، ووراء هذا الحائط مخزن للحبوب، ومن ورائه أساس برج عظيم.
آبار العوجاء:
ومن وراء البرج بئر متسعة مربعة الجوانب، عمقها 76 قدما، منها 35 قدما في فم البئر فنازلا، مطوية بالحجر المنحوت، والباقي وهو 41 قدما نقر في صخر، وقد ذكر المقريزي هذه البئر عند ذكره مدينة العوجاء كما سيجيء.
وفي العوجاء عدا هذا البئر 11 بئرا، وكلها مثلها مربعة الجوانب، ومطوية بالحجر المنحوت، ولكل بئر عند فمه عريشة وقناة ينقل الماء فيها إلى أحواض أو أراض زراعية بجانبها، مما يدل على أنهم كانوا يرفعون الماء من الآبار بما يشبه الساقية المصرية.
مدينة العوجاء :
أما المدينة فمبنية كلها بالحجر المنحوت، حتى السدود التي أقامها أهلها في الوادي لتوسيع الري قد بنيت بالحجر المنحوت، وبين خرائب المدينة المتسعة حجارة رخامية وحجارة عليها نقوش، وأشكال هندسية على أحسن هندام وأجمل وضع، مما دل على أن أهلها كانوا على جانب عظيم من التمدن والعمران.
جبانة العوجاء:
وأما جبانة المدينة ففي طرفها الشمالي الشرقي، ولما مررت بالعوجاء سنة 1906 رأيت في جبانتها كثيرا من الحجارة، منقوشا عليها باليوناني القديم أسماء المدفونين فيها وتاريخ وفاتهم، ولكن كان أكثر تلك الحجارة مكسرا ومبعثرا في أرض المقبرة، ولم يبق فيها منصوبا في مكانه إلا القليل، والنقش على الحجارة غائر غير بارز، وقد أتيت ببعضها إلى مصر، وأطلعت عليها بعض أدباء اليونان، فقرأ منها ثلاثة؛ على الحجر الأول: «إسطفان بتريك ذو الشعر الأصفر»، وعلى الحجر الثاني: «توفيت ماريا كونيرس»، وعلى الحجر الثالث: «صعد بمجد آمون».
كروم العوجاء:
ورأيت على التلال التي إلى الجنوب الغربي من تلة الكنيسة كوما من الحجارة على أبعاد متساوية جعلت صفوفا؛ مما دل على أنه كان هناك كروم متسعة من العنب، وقد حدثني كبير من بدو هذه الجهة، قال: من الأخبار التي أخذناها عن أسلافنا أن بلادنا هذه كانت مشهورة بخصب كرومها، وجودة عنبها، وكبر عناقيدها، حتى كان عنقودان منها يحملان حمارا! وقد جاء في التوراة في سفر العدد ص13: 23، مشيرا إلى الرسل الذين أرسلهم موسى إلى حبرون ليتجسسوا الأرض: «وأتوا إلى وادي أشكول، وقطفوا من هناك زرجونة بعنقود واحد من العنب، وحملوه بالدقرانة بين اثنين مع شيء من الرمان والتين.»
وذكر المقريزي العوجاء في جملة مدائن مدين فقال:
وكان بأرض مدين عدة مدائن كبيرة، قد باد أهلها وخربت، وبقي منها إلى يومنا هذا، وهو سنة 825ه/1422م نحو الأربعين مدينة قائمة، منها ما يعرف باسمه، ومنها ما قد جهل اسمه؛ فما يعرف اسمه فيما بين أرض الحجاز وبلاد فلسطين وديار مصر ستة عشر مدينة، منها في ناحية فلسطين عشر مدائن وهي: الخلصة، والسنيطة، والمدرة، والمنية، والأعوج، والخويرق، والبئرين ، والماءين، والسبع، والمعلق، وأعظم هذه المدائن العشر الخلصة والسنيطة (وتعرف الآن بالسبيطة)، وكثيرا ما تنقل حجارتها إلى غزة ويبنى بها هناك، ومن مدائن مدين بناحية القلزم والطور مدينة فاران، ومدينة الرقة، ومدينة القلزم، ومدينة أيلة، ومدينة مدين، وبمدينة مدين إلى الآن آثار عجيبة وعمد عظيمة، ووجد في مدينة الأعوج أعوام بضع وستين وسبعمائة ه/1359م جب بقلعتها بعيد المهوى، يبلغ عمقه نحو مائة ذراع، وبقاعه عدة أسفار على رفوف، حمل منها سفر طوله ذراعان وأزيد، قد غلف بلوحين من خشب، وكتابته بالقلم المسند، طول الألف واللام نحو شبر، فوجد ببلاد الكرك من قرأه، فإذا هو سفر من عشرة أسفار قد ابتدأه بحمد الله. ا.ه.
ومن فروع العوجاء: «وادي الحفير» يأتيه من المقراة، «ووادي بيرين» المشار إليه في كلام المقريزي، وفيه بئران شهيرتان للعزازمة، ومن ذلك اسمه، وبقرب البئرين بركة ماء من عهد الرومان، كالبركة التي عند عين القديرات، وهذه الأودية الثلاثة الأخيرة؛ أي العوجاء والحفير وبيرين قد دخلت في حد سوريا.
ومن فروع بيرين: «وادي صرام» يأتيه من شرقي العمر، وفيه تمر طريق غزة فتنحدر معه إلى مصبه في بيرين، وهو داخل في حد سيناء.
ولنعد إلى وادي العريش:
رجم القبلين: يرى المنحدر فيه على 8 أميال من مصب وادي الأبيض، هرمين أثريين عن جانبي الوادي الواحد تجاه الآخر، وهما مبنيان بالحجر المنحوت، والكلس على شكل هرم مدرج، طول قاعدته نحو عشرة أمتار وعلوه كذلك، والأرجح أنهما من بناء الرومان، وقد أقيما حدا بين قبيلتين، وهما الآن الحد بين السواركة والترابين، يدعى الرجم الغربي منهما الذي إلى يسار الوادي «رجم الحمضة»؛ لأن نبت الحمضة كثير في جهته، وسميا كلاهما رجم القبلين؛ لأنهما متقابلان، وقد عبث الزمان والعربان بهما، فتهدمت بعض جوانبهما، وترى كثيرا من حجارتهما مبعثرا في الأرض حولهما، فحبذا لو اعتنت محافظة سيناء بترميمهما.
بئر لحفن: وعلى نحو ميلين من رجم القبلين، وثمانية أميال من مدينة العريش بئر لحفن على جانب الوادي الغربي في سفح جبل لحفن، وهي بئر قديمة العهد لباني القلعة التي على رأس الجبل، عمقها نحو 20 باعا، مطوية بالحجر المنحوت كبئر الرطيل إلا أنها أضيق منها، وقد كانت هذه البئر مدفونة، فطهرها السواركة سنة 1881.
مررت بها سنة 1906، فوجدت عليها نفرا من عرب الحويطات والسواركة يسقون إبلهم، وقد جعلوا على فم البئر بكرة يستعينون بها على رفع الماء بأدل من صفيح أو جلد، وهم يرفعون الماء بها اثنين اثنين: يعقد أحدهما طرف الحبل إلى صدره، ويولي ظهره فم البئر، ثم يصدر عنها جارا الدلو بصدره حتى ترتفع فوق فم البئر، فيتناولها الآخر ويفرغها في حوض بجانب البئر لسقي السائمة، ثم يعود الأول إلى البئر، فيملأ الدلو ثم يرفعه بصدره وهكذا، وقد يستخدمون جملا لهذه الغاية.
أما القلعة التي على جبل لحفن فمبنية بالحجر المنحوت، وقد نقل أهل مدينة العريش حديثا بعض حجارتها، فجددوا فيها بناء جامع المدينة، ومن رأس لحفن تنكشف البلاد إلى مسافة بعيدة من كل الجهات، فترى من الشمال البحر المتوسط ومنارة جامع العريش، ومن الجنوب جبال ألبني والحلال والمويلح، ويحجب جبل المغارة عنه جبل الريسان، وترى منه وادي العريش تنساب في صحرائها انسياب الحية.
الشجرة الفقيرة: وفي طريق العريش من بئر لحفن شجرة كبيرة من الطرفاء تدعى «الشجرة الفقيرة»، وهي قائمة وحدها في وسط سهل فسيح محرق، يقدسها البدو ويعلقون فيها حبال إبلهم تبركا، ويودعون عندها أغراضهم فلا يمسها أحد.
وقد ذكر وادي العريش أشعيا النبي (ص27: 12) فسماه «وادي مصر»، وذكره غيره من رجال الكتاب المقدس أنه يحد بلاد فلسطين من الجنوب، وفي هذا الوادي كثير من شجر الجزيرة أخصها الطرفاء، وقد أشار إليه شاعرهم بقوله:
مسكين يا للي مسك ردن المليح وارخاه
وادي العريش ضج له حتى خشب طرفاه (2-3) ومن الأودية الشهيرة التي تستحق الذكر في بلاد التيه الشمالية الغربية
وادي المغارة:
ينشأ من جبل المغارة، ويتجه جنوبا فيغور ماؤه في سر الحسنة، وهذا الوادي ينسب إلى مغارة في رأسه كمغارة مايين، واقعة على نحو خمسين ميلا من مدينة العريش، وبقربها «هرابة» قديمة منقورة في الصخر مغمورة الآن بالرمال، وعلى التلة المطلة على الهرابة خرائب قلعة قديمة من عهد الرومان.
ووادي الحمة:
ينشأ من جبل المغارة، ويصب في سر الحسنة، وفيه بئر تنسب إليه على «الدرب المصري».
ووادي الحسنة:
ينشأ من رويسات الخضر إلى الشمال الغربي من جبل المنشرح، ويصب في سر الحسنة، وفيه آبار شهيرة على نحو 35 ميلا من نخل في طريق المسافر إلى العريش، وماؤها غزيرة كماء المقضبة.
ووادي أبو قرون:
ينشأ من رأس جبل يلك، ويصب في رملة غزيرة قرب الحمة، وفي رأس هذا الوادي بئر أبو قرون المار ذكره.
ووادي الجفجافة:
ينشأ من جبل فلي، ويصب في سر الحقيب، وفيه بئر تنسب إليه.
ووادي الجدي:
ينشأ من جبل أم خشيب، ويصب في سر الحقيب. وفيه عد ينسب إليه في طريق الدرب المصري، وعليه «قبر أم ضيان».
ووادي الحاج:
ينشأ من جبل الحيطان، أحد جبال الراحة، ويسير متعرجا غربا بجنوب إلى أن ينتهي في الترعة عند «كوبري» السويس، أو يغور في الرمال قبل وصوله الترعة، وقد سمي وادي الحاج؛ لأنه أول واد يلاقيه الحج المصري في طريقه من السويس، ويسير فيه من مصبه إلى رأسه عند «شرفة الحاج» ويعرف هذا الوادي في أعلاه «بوادي الحيطان»؛ لأنه في أعلاه من «شرفة الحاج» إلى «مفرق وادي الحاج» مسيرة ساعة ونصف ساعة، يجري بين جبلين قائمين عن جانبيه كحائطين عظيمين.
أما «مفرق وادي الحاج» فقد سمي كذلك؛ لأن منه تفترق الطرق إلى السويس، فطريق تذهب مع وادي الحاج وتنتهي عند كوبري السويس، وهي درب الحج المصري، وهي طريق طويلة، وطريق تنحرف يسارا فتقطع عدة أودية، وتمر بوادي الراحة إلى شط السويس، وهي طريق مختصرة، وسيأتي ذكرهما تفصيلا في باب الطرق، أما «شرفة الحاج» فهي أعلى نقطة في وادي الحيطان، فإذا انتهى الحاج من وادي الحيطان إلى هذه النقطة انكشفت له البلاد من الشرق، وأشرف على بلاد التيه العظيم، ومن ذلك اسمها، ومن فروع وادي الحاج:
وادي أبو صوان: وهو واد قصير، يأتي وادي الحيطان من جانبه الغربي، ويصب فيه عند قبر أبو براطم الآتي ذكره.
ووادي الطوال: ينشأ من منحدرات جبل أبو صوان الغربية، ويسير متعرجا إلى أن يصب في وادي الحاج على نحو عشرين ميلا من السويس، وفي أعلى هذا الوادي آبار محفورة في طريق السيل لجمع مياه الأمطار، ولكل بئر منها غطاء من حجر لا يستقي منها إلا أهلها، وفي وادي الحاج على نحو نصف كيلومتر مصعدا من مصب الطوال ثمائل مشهورة تعرف «بالقباب».
ووادي الجايفي: ينشأ من جبال الراحة، ويصب في وادي الحاج عند المفرق.
ووادي أبو ينتون: ينشأ من جبال فريشات الشيح، ويصب في وادي الحاج عند «فشحة الحاج»، وهو واقع في طريق المسافر من السويس إلى نخل، قيل سمي كذلك؛ لأنه ينبت شجر الينتون وهو نجم شهير له ورق يشبه ورق الزيتون.
ولهذا الوادي فرع صغير عن يمين المسافر إلى نخل من السويس، فيه هرابة مدفونة في طريق السيل، نقرها الأقدمون في صخرة كلسية وجعلوا لها فوهتين، فوهة في شكل مربع مستطيل في طريق السيل تملأ منها، وفوهة مرتفعة عن السيل في ظهر الصخرة يرفع منها الماء، وقد رأيت على جانب هذه الفوهة وسم الدبور الحويطات ووسم الترابين، والهرابة عن يمين المسافر من السويس إلى نخل بين مفرق أبو ينتون ومفرق وادي الحاج على نحو خمس دقائق شرقي الطريق.
ووادي الراحة:
ينشأ من جبال الراحة، وينتهي في القنال تجاه السويس، وهو يتسع اتساعا عظيما عند مصبه، حتى يمتد مسافة ثلاثة أميال أو أكثر، وفي فمه أقيمت بلدة شط السويس الآتي ذكرها، وفي هذا الوادي بئران شهيرتان:
بئر المرة: على ساعتين إلا ربع ساعة من شط السويس، احتفرها الحويطات، عمقها نحو قامة ونصف قامة، ولا تزال غير مطوية، وماؤها حريف الطعم، ومن ذلك اسمها.
وبئر مبعوق: على نحو ساعة وربع ساعة من بئر المرة وثلاث ساعات من الشط، عمقها قامتان ونصف قامة، وهي مطوية بالحجر المنحوت، طواها محافظ سيناء الأسبق، وماؤها حريف الطعم، وعند هذه البئر على جانب الوادي الأيسر خرائب قلعة قديمة متينة البناء مبنية بالمونة والحجر، وهي مربعة الشكل، طول جانبها نحو 50 قدما، وعرض حائطها نحو 6 أقدام.
ومن فروع وادي الراحة في أعلاه:
وادي العشاري: ومن فروع هذا الوادي: «فريشات الشيح» تقع في طريق المسافر إلى نخل من شط السويس، «ووادي أبو علاقة» يصب في الراحة على نحو ساعة وثلث من بئر مبعوق، وهو يقع في طريق المسافر إلى نخل من شط السويس تسند معه إلى آخره، ومن فروع وادي أبو علاقة: «وادي أم إثلة» ينشأ من المنحدر الغربي للجبل الذي تنشأ منه وادي فريشات الشيح، ويصب في أبي علاقة على ربع ساعة قبل مصبه بالراحة، وهو يقع في طريق المسافر إلى نخل من السويس، يأتيه عن يمينه، ويسند معه إلى رأسه فينحدر إلى وادي فريشات الشيح.
الفصل الخامس
في معادنها
(1) معادن بلاد الطور
الفيروز:
وهو أشهر معادنها، ويوجد في جبال وادي المغارة وسرابيت والصهو في قلب بلاد الطور، وقد عدنه فيها قدماء المصريين من أيام الدولة الأولى إلى الدولة العشرين، وتركوا هناك أنصابا وصخرات هيروغليفية في غاية الأهمية، وسنأتي على ذكرها في باب التاريخ.
وأول من فكر في تعدين الفيروز من الإفرنج في القرن الغابر الماجور مكدونلد من ضباط الإنكليز المتقاعدين، جاء وادي المغارة سنة 1854، وبنى له منزلا في سفح الأكمة التي سكنها المعدنون القدماء، وأقام فيه هو وامرأته خمس سنوات يشتغل في المعدن، فلم يصادف النجاح الذي كان يرجوه، فعاد إلى مصر وتوفي فيها سنة 1870.
وفي 27 يناير سنة 1900 رخصت الحكومة المصرية لشركة إنكليزية يرأسها المستر مورنج في تعدين الفيروز في سيناء، ثم نقلت هذه الرخصة في أول أغسطس من تلك السنة إلى شركة إنكليزية أخرى تدعى «إجبشن ديفلوبمنت سنديكت»، فاشتغلت هذه الشركة في المعدن نحو سنة، فوجدت أن دخلها منه لا يفي بنفقات التعدين، فتركت العمل وألغيت الرخصة في 1 يناير سنة 1903.
وقد عاث بعض عمال الشركة في الصخرات الهيروغليفية المشار إليها، فكسروا بعضها وشوهوا البعض الآخر أمل وجود الفيروز فيها، فخاب أملهم، ولم يبق إلا ضررهم، فنقلت مصلحة الآثار المصرية أهم ما بقي من تلك الآثار النفيسة إلى متحفها في القاهرة محافظة عليها كما سيجيء.
شكل 5-1: جماعة من الطورة الذين يعدنون الفيروز في وادي المغارة.
وما زال الطورة يستخرجون الفيروز على قلة من معادنه، ويبيعونه في السويس والإسكندرية ومصر، وعدد المشتغلين منهم الآن لا يزيد عن 200 رجل، ولا يزيد دخلهم منه عن 2000 جنيه في السنة، وكان عدد المشتغلين فيه قبل مجيء الشركة الإنكليزية نحو 600 رجل، ودخلهم نحو 6000 جنيه في السنة.
وترى الفيروز منثورا في جباله ظاهرا باطنا كالنجوم في سمائها، فيتتبعه المعدنون إلى باطن الجبل، وكلما توغلوا فيه تركوا عمودا من أصل الجبل لئلا يهوي عليهم، فيتكون من ذلك مغاور قائمة فيها العمد كالهياكل، وفي جبال الفيروز الآن عدة مغاور قديمة وحديثة، وأكثرها في وادي قني؛ ولذلك سمي بوادي المغارة كما مر، مررت بهذا الوادي في 1 أبريل سنة 1907، فوجدت نفرا من الطورة يعدنون الفيروز في مغارة قديمة في جنب الوادي الأيمن، فكانوا ينقرون في الجبل نقرة بالإزميل والمطرقة، ثم ينسفونه بالبارود، فتنشق منه صخرة يكسرونها بالمطرقة قطعا صغيرة، وينتقون منها الفيروز ويتجرون به، وقد سألت هؤلاء المعدنين عن نتيجة عملهم، فقالوا وهم يخفون بعض الحقيقة: قد يشتغل الواحد منا الشتاء كله فما يزيد دخله عن جنيهين.
والنحاس:
ويوجد في وادي النصب الغربية في عرض شمالي 8
29°، وطول شرقي 55
50°، وقد عدنه فيه قدماء المصريين، كما تدل آثارهم الباقية هناك إلى اليوم، ويوجد النحاس أيضا في وادي السمرا على نحو أربع ساعات غربي ميناء النبك، وفي علو سند على نحو ساعتين شرقي النبي صالح، وفي جهات أخرى.
وقد اهتم محمد علي باشا بالبحث عن معادن سيناء، فأرسل الدكتور روبل الألماني لهذه الغاية سنة 1822، فأتي معدن النحاس في وادي النصب، ولكنه لم يعدنه، وفي سنة 1904 استخرج المستر ونر الإنكليزي مثالا من النحاس في وادي السمرا وأرسله إلى أوروبا، وفي المعرض الجيولوجي في مصر نموذج منه.
والمنغنيس:
ويوجد في بلاد الطور في كثير من جبالها وأوديتها، وقد تقدم أن القدماء عدنوه في وادي المالحة، وأن شركة إنكليزية تعدنه اليوم في وادي أم بجمة من فروع بعبعة وترجو منه خيرا.
والحديد:
قيل يوجد في شرق بلاد الطور في جبل الحديد، وفي غربها قرب وادي النصب، في ملتقى الأرض الكلسية والأرض الرملية، والظاهر أن تعدينه غير رابح لكثرة نفقاته.
والذهب:
وقد ذكر بعض البدو وجوده في مغارة في وادي طريفية من فروع الزلقة كما مر، وهذه الرواية لم تثبت علميا بعد، ولكن العلم لا ينفيها؛ لوقوع ذلك الوادي في منطقة مصر الشرقية التي تنبت الذهب ومشابهته لها في التربة.
والفحم:
قيل وفق بعض الباحثين إلى عرق من الفحم في بعض الجبال في الزاوية الشمالية الشرقية من بلاد الطور، ولكن لم تعلن خصائص ذلك الفحم إلى الآن.
والبتروليوم:
ويقال بإمكان وجوده في غرب بلاد الطور على الشطوط البحرية بين وادي غرندل ومدينة الطور.
والينابيع الكبريتية:
وقد تقدم أن في جبل حمام موسى وجبل حمام فرعون ينابيع كبريتية حارة، يستحم الأهلون بها استشفاء من أمراض الجلد والروماتزم والكبد، وأن المغفور له عباس باشا الأول بنى حماما على أحد ينابيع حمام موسى وتهدم، ففحصت الحكومة ماءه سنة 1893 بقصد ترميمه، ولكن الفحص لم يشجع على ذلك، وهذه نتيجة الفحص الكيماوي في اللتر الواحد:
جرام
10,93
رواسب
4,19
كلور
2,059
حامض كبريتيك
0,764
أكسيد المغنيسيوم
1,101
أكسيد الكلسيوم أو الكلس
6,913
كلوريد السوديوم أو ملح الطعام (2) معادن بلاد التيه والعريش
والكبريت:
ويوجد على قلة في «جبل المكبرت» على درب الحج المصري شرقي بئر القريص، وبدو هذه الأيام يستخرجون منه مقادير قليلة ويستعملونه دواء لجرب الإبل، وأراني المستر ترافر من رجال «شركة سنديكا القاهرة» حجرا كبريتيا استخرجه من جبل جمسة في مصر الشرقية تجاه مدينة الطور.
والملح:
وهو كثير في جميع جهات الجزيرة، ولا سيما في بلاد التيه وبلاد العريش، يرى فيها صرفا أو ممزوجا بالتراب، وقد رأيتهم يستخرجون منه مقادير كبيرة من سفح جبل كلسي على خمسة أميال شرقي نخل، وفي بلاد العريش على شاطئ البحر المتوسط عدة سباخ معروفة بأسمائها، تتحلب إليها مياه البحر في الشتاء، وتجف في الصيف فيتخلف عنها من الملح النقي الصالح للاستعمال ما لا يقل وزنه عن خمسين ألف طن، وقد كانت الحكومة المصرية تضرب عليه الضرائب، وكان التجار والمتسببون يصدرونه إلى الشام ومصر، ثم تركته للأهلين في عصر العباس خديوي مصر الحالي رأفة بهم.
والحجارة:
ومعظم جبال سيناء الجنوبية من الحجر الغرانيت المحبب أحمر وأسود ورمادي، وفي بلاد الطور حجر أخضر يتخلله خيوط ذهبية دقيقة، كان المصريون القدماء يصنعون منه الكئوس وأدوات الزينة، وقد رأيت في جبل طور سيناء وجبل المسان في نقب العقبة نباتات طحلبية متحجرة بغاية الجمال، وفي بعض جهات بلاد الطور الحجر الذي يصلح لعمل الرحى.
ومعلوم أن جيولوجية البلاد لم تدرس الدرس الكافي بعد، وربما أظهر البحث العلمي الكافي في جبالها وأوديتها معادن تغني مصر وسيناء معا، وفي بلاد الطور الآن عدة شركات، عدا شركة المنغنيس في أم بجمة، تبحث عن البتروليوم والفحم والحديد والنحاس والمنغنيس وغيرها.
الفصل السادس
في هوائها
(1) رياحها وحرارتها
وهواء هذه الجزيرة جاف نقي صحي للغاية، وهو بارد جدا في الشتاء وحار في الصيف، ولكن حر الصيف ساعتان أو ثلاث وسط النهار، ثم تهب ريح شمالية أو شمالية غربية فتلطف الهواء ولا سيما في الجبال، ومن ذلك جودة هوائها، ولكن تثور أحيانا الرياح الشرقية فتعكر صفاءه.
وقد تشتد الرياح الشمالية أو الشمالية الغربية في الصيف اشتدادا عظيما، ولا سيما في السهول البحرية، حتى إنها تقتلع الخيام وتعبث بالزرع، وقد رأيت أهل مدينة الطور وعيون موسى يحوطون بساتينهم بأسوار مرتفعة لمنع أذى الرياح.
وهناك فرق كبير بين حرارة الليل وحرارة النهار، ولا سيما في الجبال، فقد يهبط الثرمومتر ليلا في الشتاء إلى درجة الجليد، ويرتفع نهارا إلى 20 سنتيغراد في الظل، كنت في دير سيناء في يناير سنة 1905، فكان رأس الجبل مغطى بالثلوج، وكانت درجة الحرارة ليلا تحت الصفر، وفي النهار تتراوح بين 12° و15° سنتيغراد، وكنت في نخل في بلاد التيه في أبريل ومايو من تلك السنة، فكانت درجة الحرارة تختلف بين 12 سنتيغراد ليلا و22 سنتيغراد نهارا. (2) أمطارها وسيولها
وتجيء الأمطار في غالب الأحيان بغتة بضجة عظيمة؛ في يوم صحو هادئ جدا في الشتاء، تهب فجأة ريح عاصف شمالية فتملأ الغيوم الجو، وتلمع البروق، وتقصف الرعود، وتتوالى بلا انقطاع، ثم تهطل الأمطار صبا كأنها من أفواه القرب حتى تخال السماء قد طبقت الأرض، فتسيل الأودية وتندفع السيول بشدة هائلة إلى البحر، فتجرف كل ما تجد في طريقها من الناس والحيوان والشجر والسدود، وقد تعلو السيول عن حدها المعتاد في الأودية وتباغت الأهلين النازلين في جوانبها، وهم غير مستعدين لها فتجرفهم هم وأنعامهم وخيامهم إلى البحر، يدوم السيل بضع ساعات ثم يذهب بالسرعة التي جاء فيها، فيأخذ في النقصان حتى يصبح جدولا صغيرا، ثم ينقطع الجدول ولا يبقى إلا برك صغيرة في تجاويف الوادي، ثم تجف هذه البرك ويجف الوادي إلا إذا كان فيه نبع أو عد حي فيغزر حينا، ثم يعود إلى حاله.
حدثني الشيخ موسى أبو نصير كبير الطورة المار ذكره عن سيل جارف حدث في وادي صلاف في 3 ديسمبر سنة 1869، وذكره المستر هولاند، أحد أعضاء اللجنة التي ندبتها الجمعية الجغرافية الإنكليزية لمسح سيناء في تلك السنة، قال الشيخ موسى: «بدأ المطر عصر ذلك اليوم رذاذا، ثم اشتد قبل الغروب، ولم ينقطع إلا بعد العشاء، فطغى السيل في الوادي، وجاوز حده المعتاد حتى بلغ علوه نحو خمس أذرع، وكان «أولاد سعيد» نازلين في جنب الوادي، فأدركهم السيل وأغرق منهم 53 نفسا بأنعامهم، فدفنوا في نواويس ذلك الوادي القريبة من نقب حبران، ثم إن هذا السيل نفسه عند مروره بوادي فيران أغرق ستة من سكانه التبنة، وجرف كثيرا من أشجار النخيل والطرفاء إلى البحر.» ا.ه.
وحدثني الأب بنيامين «أقلوم» دير سيناء عند زيارتي الدير سنة 1907، عن سيل جارف حدث في وادي الدير ليلة الجمعة في 17 مارس سنة 1906، قال: «اشتدت الأمطار في تلك الليلة عند العشاء، وعظم السيل، فدحرج صخورا عظيمة من الجبل المشرف على الدير من الجنوب، فوقف بعضها في منحدر الجبل ووصل بعضها وادي الدير فسده، وتحول السيل إلى دار الدير الخارجية، فجرف الجانب الجنوبي من سورها وبوابتها الشمالية، وربما لو دام ساعة أخرى لجرف الدير برمته، ا.ه.»، ورأيت أثر ذلك السيل بعد أن رمم الرهبان كثيرا مما خرب، فإذا بالباقي كاف للدلالة على شدته وعظم ضرره، وقد قرأت في كتب الدير ذكرا لعدة سيول حدثت في السنين الغابرة فسببت أضرارا بليغة في الدير وضواحيه. (3) مراعيها ومزارعها
هذا وإذا نزل مطر كاف وارتوت الأرض، باشر الأهلون الزرع في جوانب الأودية والسهول الخصبة، ونمت الأعشاب في بطون الأودية والخيران، ورتعت فيها إبلهم وأغنامهم، بل قد يجيء بعض الترابين والتياها القاطنين جنوب سوريا على حدود بلاد التيه، فيرعون إبلهم وأغنامهم مع إخوانهم الترابين والتياها القاطنين سيناء.
وأما إذا لم ينزل مطر كاف في الجزيرة، قل زرع الأهلين وذهب معظمهم في الصيف؛ لرعي إبلهم وأغنامهم في بلاد غزة وبئر السبع، فتتقاضاهم ولاية القدس جعلا قدره نصف ريال على كل جمل، وربع ريال على كل رأس من الغنم، وأما محافظة سيناء فلا تتقاضى عرب الشام شيئا على رعيهم في الجزيرة. (4) أمراضها
أما جفاف الهواء في سيناء ونقاوته وعظم اتساع البلاد بالنسبة إلى أهلها، كل ذلك يقلل الأمراض في أهلها، وقد توقوا هم أنفسهم كثيرا من الأمراض بمحافظتهم على العرض، واهتمامهم بالزواج الباكر، وعدم الإكثار من الأطعمة المختلفة الألوان؛ ولذلك فهم يعمرون طويلا، حتى ترى الكثير منهم قد تجاوز سن الثمانين، ولو اهتموا بالنظافة وراعوا الاعتدال في أميالهم لعمروا أطول، وأشهر الأمراض التي تنتابهم، الدسببسيا والدوسنطاريا والحبة والرمد، وفي بعض الأودية حيث يستنقع الماء كوادي فيران والقصيمة والقديرات تحدث الحميات والأنفلونزة والحصبة. (5) السياحة في سيناء
ويدخل سيناء كثير من الإفرنج كل سنة لأغراض شتى، لزيارة دير سيناء، ومعظم هؤلاء من الحجاج الروسيين، أو للبحث عن معادنهم، أو للتنقيب عن آثارها القديمة، أو لصيد التيتل في جبالها، أو للسير في طريق موسى وتطبيقه على رواية التوراة إلى غير ذلك من الأغراض.
وأول ما يلفت المسافر في سيناء جفاف الهواء وطلاقته، واتساع البلاد وفراغها وسكينتها التامة، فيشعر من نفسه بانبساط وارتياح لا يشعر بهما في المدن، وإني أنصح للمتعبين من كثرة الأشغال وجلبة المدن أن يفسحوا لأنفسهم شهرا من الزمان يقضونه في سيناء سفرا وإقامة، فإنهم يجدون فرقا ظاهرا في صحتهم قبل مضي الشهر.
وأجمل بلاد سيناء للسياحة والنزهة بلاد الطور، فهناك يجد المسافر من فخامة المناظر الطبيعية ووعورتها وجمالها ما لا يجده في أي مكان على وجه البسيطة.
وأجمل الفصول التي يحسن السفر فيها إلى سيناء، الربيع من أواسط فبراير إلى أوائل مايو، وأول الشتاء من أوائل أكتوبر إلى أواسط نوفمبر، وفي غير هذه الشهور يكون الهواء إما حارا أو باردا.
أما الصيف فحره معتدل جدا في جبال سيناء، وخصوصا في «جبل الطور» عند دير سيناء، ولولا بعد هذا الجبل وصعوبة الوصول إليه لكان مصيفا لمصر من أجمل المصايف، فإن السفر إليه من السويس عن طريق الرملة أو فيران ثمانية أيام على الإبل، وعن طريق مدينة الطور ثلاثة أيام، ليلة في البحر ويومان ونصف في البر، ثم إن سفر البر في سيناء صيفا شاق للغاية خصوصا في طريق البر من السويس إلى غرندل، فإن السفر فيها صيفا فضلا عن مشقته لا يخلو من التعرض لضربة الشمس أو ضربة الحر.
وكان أهل السويس إلى عهد قريب يصيفون في عيون موسى على ثمانية أميال من شط السويس الشرقي، وقد بنى بعضهم هناك منازل من حجر لقضاء الصيف فيها.
وكان المغفور له سعيد باشا الأول قد عزم على جعل جبل الطور مصيفا له، فاشترى من رهبان الدير جبلا غربي جبل موسى فيه نبع ماء، وبنى عليه قصرا لم يتمه، ومد طريقا للعربات من مدينة الطور فأوصلها إلى مصب وادي كبرين كما مر ووقف.
وسنفرد فصلا خاصا للطرق، وآخر للسفر في سيناء وما يحتاج إليه المسافر فيها من المعدات والاحتياطات قبل السفر وفي أثناء السفر.
الفصل السابع
في نباتاتها
(1) أشجارها البستانية
أهم أشجار سيناء:
النخيل:
يكثر في بلاد الطور وبلاد العريش، وينعدم في بلاد التيه، وقد قدر ما في سيناء من النخيل بنحو مائة ألف نخلة، هذا تفصيلها:
نخلة (1) عن تعداد ناظر الطور سنة 1890:
19000
في مدينة الطور وضواحيها
700
في النويبع (2) عن تقدير بعض العارفين:
17000
في وادي فيران
3815
في عيون موسى وميناء ذهب إلخ (3) عن تعداد محافظ سيناء 1907:
39485
في بر قطية وقطية
7000
في بئر المساعيد
12000
في مدينة العريش وضواحيها
1000
في بلدة الشيخ زويد وضواحيها
100000
الجملة
والدوم:
وهو نادر فيها، وقد كان منه ثلاث أشجار على عين طابا، فحرقت واحدة وكسرت أخرى، ولم يبق إلا دومة واحدة، ولعلها الدومة الوحيدة في الجزيرة كلها.
شكل 7-1: دومة وادي طابا.
ورأيت في بساتين مدن الطور والعريش ورفح «وجبل طور سيناء»: العنب، والرمان، والأجاص، والبرتقال، واليوسف أفندي، والكمثرى، واللوز، والخوخ، والتفاح، والخروب، والمشمش، والسفرجل، والزيتون، والتين (وينبت أيضا لنفسه في الأودية)، والسرو، والصفصاف، والصبر. والطورة يأتون بما يفيض عنهم من اللوز، والكمثرى، والسفرجل، والرمان، والتفاح إلى السويس أو مصر، فيبيعونه أو يهادونه.
وهم يزرعون في بساتينهم: الطماطم، والملوخية، والبامية، والبصل، والثوم، والفجل، والجرجير، والخس، وغيرها من الخضروات، ويزرعون الدخان على قدر كفايتهم.
ويجود في بلاد سيناء في كل الجهات البطيخ والعجور والشمام، وفي بلاد العريش المرملة يكثرون من زرع البطيخ، وبه يتجرون، ويعلفون بهائمهم أيام الربيع، فيقوم مقام البرسيم في مصر، وقد وجدت عندهم نوعا من البطيخ بيضي الشكل، أحمر القلب جدا، يعرف بالجاموس، ويعرف في مصر بالنمس، وهو من ألذ أنواع البطيخ.
ويزرع أهل سيناء على المطر: القمح والشعير والذرة الرفيعة في كل الجهات، ولا سيما في جبال بلاد التيه وبلاد العريش، وتجود الغلال هناك، حتى إن غلة الحبوب في بلاد نخل وحدها قد تبلغ 6000 إردب في السنة، وتبلغ أضعاف ذلك في بلاد العريش، وأما زراعة أهل الطور فقليلة جدا؛ لقلة الأراضي الزراعية في بلادهم. (2) أشجارها البرية
وأهم أشجارها البرية التي ترعاها الإبل والأغنام:
الطرفاء:
وتعرف أيضا بشجرة المن، إذ يتسلط عليها دودة كدودة القز، تثقب جذوعها وأغصانها، فيخرج من الثقوب صمغ حلو المذاق ، يلتقطه بدو سيناء، ويجعلونه في علب صغيرة من الصفيح، ويبيعونه لزوار الدير والسياح، أو يأتون به إلى مصر فيبيعونه فيها باسم المن.
والسيال:
وهو أشهر أشجار الجزيرة، وهم يصنعون من خشبه أجود الفحم ويدخلونه في المتجر.
والسدر:
وهو قليل، وأكثره في بلاد العريش، وله ثمر يشبه الزعرور شكلا وطعما، يعرف بالنبك تحريف النبق، يأكله البدو ويستمرئونه.
والأثل :
وينبت في بلاد التيه والعريش، وهم يستخدمون خشبه للبنادق والمحاريث وأسرجة الإبل، «والبطم» وهو قليل جدا. (3) أنجمها البرية
ومن الأنجم التي تكثر في سيناء وترعاها الإبل والأغنام:
الرتم:
وهو أشهر أنجمها وأنفعها، ويكثر جدا في الأودية، فيستظل المسافرون بظله، ويصنع من خشبه فحم جيد كفحم السيال.
والعدام:
وهو نجم يشبه الرتم إلا أنه أصغر حجما.
والقطف:
نجم يشبه العدام، وهو كثير جدا، وأكثر اعتماد البدو في رعي إبلهم وأغنامهم عليه، بل هم أيضا يأكلونه مسلوقا ومقليا بالسمن.
والمتنان:
وتعمل منه الحبال، ولا يوجد إلا في الجهات الشمالية الشرقية من الجزيرة، ترعاه الغنم قليلا، ولكن الإبل لا ترعاه.
على أن أشجار البلاد ولا سيما الظليلة منها، قليلة جدا مع أن البلاد في أشد الحاجة إليها؛ نظرا لاتساعها وكثرة مفاوزها وصحاريها، وتعرضها للشمس المحرقة؛ ولأن جبالها ولا سيما الشمالية منها متحدرة كعرم الغلة لا ظل لها، لذلك ترى البدو يبالغون جدا في الاحتفاظ على أشجارهم الظليلة القائمة في الطرق والأماكن العامة التي ينتابونها كثيرا، فإنهم ينصبون عند كل شجرة ظليلة رجما من الحجارة للنهي عن قطعها، أو قطع شيء من أغصانها للفحم أو للوقود، وهم يعتقدون أن من قطع شجرة هذا شأنها أو قطع غصنا منها، لقي مغبة عمله في نفسه أو في أولاده أو ماله، ولقد رأيت في أسفاري في سيناء عدة أشجار محمية بهذه الطريقة، بل رأيت أشجارا ظليلة تنذر لها النذور كما ينذر للأولياء كما سنبينه في محله. (4) أعشابها البرية
وينبت في أودية سيناء أعشاب شتى ترعاها الإبل والأغنام، ويستخدمها البدو في الطب والمتجر والأطعمة، وأهم ما رأيت من تلك الأعشاب:
الشيح :
وله رائحة عطرية، يبخرون به منازلهم لطرد الثعابين منها، وتستحم به النفاس، وهم يدقونه ويمزجونه بالملح والكمون والفلفل، ويستعملونه بهارا في أطعمتهم.
والقيصوم:
وله رائحة ذكية، يغلى وتغسل بمائه العين الرمداء، وله زهر أصفر جميل، قيل يظهر بظهور الثريا حتى صار أهل البادية إذا رأوا القيصوم قد أزهر علموا أن الثريا قد عادت إلى فلكها في الشرق .
واللصف:
وهو لا ينبت إلا في شقوق الصخور، ولكنه ينبت نشيطا رائع اللون، كأنه نام على غدير ماء، وهم يداوون به الروماتزم، وذلك بإغلاء ورقه وتبخير المصاب به حتى يتصبب العرق منه.
والحمض:
ويكثر في بلاد التيه، يجمعه التياها أكداسا ويحرقونه، فتنجلي الحريقة عن حجر أبيض اللون هو «القلو»، فيدخلونه في المتجر ويبيعونه في غزة قلوا للمصابن، سعر الإردب الواحد من ثلاثة ريالات إلى أربعة.
والعجرم:
أكبر نبتا من الحمض، يستخرج منه القلو أيضا، ولكن ثمن قلوه نصف ثمن قلو الحمض.
والعاذر:
نبت كالزعتر، يستعمله البدو دواء للمغص، ترعاه الإبل، قيل وإذا رعته الأغنام غير طعم لحمها، ورأيت في رفح نوعا من الرتيلاء نسجت على هذا النبت خيوطا متينة من الحرير الأصفر الجميل.
الحرجل:
وبه أيضا يداوون الروماتزم، ولكن الماشية لا تأكله.
والعضو:
وهو نبت سام، إذا أكلته الإبل ماتت، ويستعمله البدو علاجا للجرب، يدقونه ويغلونه على النار، ويغسلون بمائه الإبل الجرباء فتبرأ، وقد رأيت هذا النبت في أودية بلاد التيه الشرقية ينبت عروقا مجردة من الورق «كالتين» في سوريا.
والحنظل:
لا ترعاه الماشية، ولكن البدو يتجرون به، وقد رأيت بعضهم يجمعونه للتجار في غزة، وهؤلاء يدخلونه في المتجر لعمل الأدوية.
والغرقد:
وهو نوع من العوسج، ورقه شحمي مثلث الشكل، وله حب أحمر كحب الرمان وطعمه حلو والبدو يأكلونه، ويستخرجون منه عسلا بعصره في مناديل وإغلائه على النار.
والحوي:
وهو نبت ربيعي يأكله البدو زهرا وورقا، قيل وأول من أكله في الجزيرة اللحيوات، فسموا به.
واليهق:
ورقه كورق الفجل، وطعمه كطعم الجرجير، والبدو تأكله وتستمرئه.
والتمير:
له في أصوله حب كالزلم المعروف عند العامة بحب العزيز، يأكله البدو، وطعمه لذيذ كطعم اللوز الأخضر، دلني عليه بعضهم في رأس التلة التي قامت عليها قلعة الباشا المار ذكرها.
والذانون:
وهو نوع من الجزر، يأكله البدو مشويا، وطعمه كطعم الجزر.
والخبيزة:
وهم يأكلونها مطبوخة بالسمن والزيت واللحم.
والإسليح:
ورقه كورق الفجل شكلا وطعما، وهم يأكلونه ويستمرئونه.
والحمصيص:
ورقه كورق الإسليح، وهم يطبخونه كالخبيزة ويأكلونه، ويكثر في الأرض المرملة.
والسمح:
يكبر كالبلان، ويحمل حبا كالسمسم، يطحنونه ويأكلونه، وطعمه كطعم الفول.
والسيسب:
يأكلونه كالهليون، وطعمه حلو مريء.
ومن الأعشاب البرية التي ترعاها الإبل والأغنام، ولكنها لا تدخل في الطب ولا في المتجر، ولا تأكلها البدو:
البعيثران، والحداد:
وهما كثيران والإبل والأغنام تستمرئهما جدا.
والعيلجان.
والينبوت.
والرمث.
والكبات.
والسبط.
والسكران:
قيل إذا أكلته الأغنام سكرت، ومن ذلك اسمه، وأما الإبل فلا يسكرها.
والنعمان:
وله زهر أحمر اللون، قيل إذا أكلته المعزى أحدث لها مغصا، وأماتها بليلتها، ولكنه لا يضر الضأن!
والبصيل:
وهو نبت كالبصل، له ساق طويلة، وفي رأسه زهر أبيض اللون، طيب الرائحة، ينبت في الرمال؛ ولذلك يستخدمه البدو لتحديد أراضيهم الزراعية في الأرض المرملة، وهو ضار جدا بالإبل والأغنام.
وقد أتى سيناء كثير من العلماء في القرن الغابر، وبحثوا في نباتاتها وكتبوا فيها المجلدات، أولهم الدكتور روبل الألماني المار ذكره، جاءها سنة 1822 - 1826.
ثم المستر شمبر، فجمع نباتات جبل طور سيناء وضواحيه، ثم المسيو بواسيه سنة 1846 وسنة 1867، ثم جاءت البعثة العلمية التي أرسلتها الجمعية الجغرافية الإنكليزية لمسح أراضي سيناء سنة 1869، وكان فيها عالم نباتي يدعى المستر هوكر، فجمع رواميز كثيرة من نباتات سيناء، ثم جاء المستر هرنكر سنة 1903، فجمع رواميز النباتات التي بين مدينة الطور والسويس، ثم البعثة العلمية التي أرسلها قلم المساحة المصرية برئاسة المستر هيوم سنة 1906، فأصدر هذا العالم كتابا نفيسا في طوبوغرافية سيناء الجنوبية الشرقية وبيولوجيتها، ضمنه أسماء نباتات سيناء العلمية مع أسماء جامعيها وأمكنة وجودها.
وقد أخبرني بدو سيناء أن فرنساويا يدعى ألفريد قيصر أربون أتى سيناء في أواخر القرن الغابر، فقضى فيها عشرة سنوات يجمع حشراتها ورواميزها النباتية، قالوا: وقد تحدى أهل البادية في المأكل والمشرب والملبس، وبعد أن قضى أربع سنوات وحده عاد إلى بلاده، وأعلن في جرائدها أنه يرغب التزوج بمن ترضى أن تعيش عيشته البدوية، فلبته إحدى بنات بلده، فتزوجها وأتى بها إلى سيناء، فقضيا فيها معا ست سنوات، وكان في بعض السنين يتركها وحدها ويذهب إلى أوروبا في أشغاله ثم يعود إليها، وبقيا على ذلك إلى أن عادا إلى بلادهما.
الفصل الثامن
في حيواناتها
(1) حيواناتها الأليفة
أما حيواناتها فالأليفة منها: الإبل، والخيل، والحمير، والبقر، والغنم، والكلاب.
الإبل:
أما الإبل فهي أهم حيواناتها الداجنة وأنفعها، وأكثر اعتماد البدو في معيشتهم عليها، وهم يؤصلونها ويعتنون بتربية الأصيلة منها كل الاعتناء، والأصيلة عندهم نوعان: «الزريقي» «والوضيحان».
أما «الزريقي» ومؤنثه الزريقة، وجمعه الزرق، ففي تقاليدهم أنه من قعود الراعي من إبل العيايدة، ولهم في ذلك رواية خرافية، قالوا: إن راعيا في العيايدة كان يرعى إبل سيده في أحد الأودية، فهب إعصار على ناقة من نياق سيده، فألقحها فولدت قعودا، ولم يطلع على هذا السر سوى الراعي، فانتظر حتى حان أوان أجرته، وهي على عادة العرب «مفرود» يختاره من إبل سيده، فجعل شوكة تحت لسان القعود نتيجة الإعصار حتى ضعف وهزل، فلما سأله سيده أن يختار مفرودا أجرة له، اختار قعود الإعصار، وكان لون القعود يميل إلى الزرقة فسماه «زريقان»، فلما بلغ أشده أعلن خبره وأذاع سره، فرغب فيه البدو وألقحوا نياقهم منه، فكان نسل زريقان! وقد رأيت من هذا النوع ناقة للشيخ صبيح السواركي من سكان الجورة ببلاد العريش، فدلني على كرم أصلها ورشاقتها وخفة حركتها وسرعة جريها.
أما «الوضيحان» فقالوا: إن أصله من إبل الشرارات ببلاد العرب، وقد سمي بذلك؛ لأن لون قوائمه الأربع وأسفل بطنه أبيض وضاح، وباقي الجسم أصفر مشرب حمرة كلون الغزال.
ولا يصفو الأصل عندهم إلا في الجيل الخامس، وذلك بأن تلقح ناقة من هجين أصيل، فإذا أنتجت ناقة ولقحها هجين أصيل ولقح نتاج هذه الأنثى هجين أصيل إلى النسل الخامس، فهو الأصيل الصافي، ونتاجه أصيل، ومنهم من يؤصلون إبلهم إلى الجيل السابع أو الجيل العاشر.
وهم يعنون عناية خاصة بتربية هجن الركوب وترويضها على حسن الخصال، ومن عادتهم أنهم إذا نزلوا للمقيل بواد فيه كلأ عقلوا إبلهم بأيديها وسرحوها فترعى في جوار المقيل، فاتفق في بعض أسفاري في سيناء أن ناقة سرحت بعيدا عن مقيلنا، فجد صاحبها في طلبها حتى وجدها، وكان الركب قد سبقه فلحق به ولم يقف في مؤخره، بل بقي راكبا إلى مقدمه، ثم عاد بها إلى مؤخره وسار معه، فسألته في ذلك، فقال: أروضها كي تبقى مع رفاقها، فلا تذهب بعيدا عنهم في الحل أو الترحال، ومن أقوالهم في عقل الإبل للمرعى: «جملك إن عقلته لك النصف فيه، وإن قيدته لك الربع فيه، وإن أطلقته ما لك حاجة فيه.»
وهم قلما يستخدمون الأرسنة لغير الهجن، أما المستعصية منهم فإنهم يخزمونها في أنوفها.
ومن الإبل ما يثور في فصل الشتاء في شهر طوبة فيفتك بصاحبه، وقد حدثني البدو عن كثيرين ذهبوا فرائس الإبل الثائرة، فمن ذلك «الشيخ حميد» المدفون في «بئر الشيخ» بين بئر الثمد وجزيرة فرعون، قالوا: ثار عليه جمل فقتله.
ورأيت في منتصف «وادي الحيطان» رجما من الحجارة، مغطى بأغصان الشجر، قالوا: هذا «رجم الشيخ أبو براطم الحويطي» قتله جمل ثائر، وأشاروا إلى تلة صعبة المرتقى جدا في جوار الرجم، وقالوا: لجأ أبو براطم إلى تلك التلة فلحقه الجمل إليها، وبقي يطارده فيها حتى ظفر به وقتله.
ولإبل سيناء صبر عجيب على العطش، ففي أيام الربيع تبقى شهرين أو أكثر بلا ماء، أما في أيام الصيف فالتي تشتغل منها تطلب الشرب كل يوم أو كل يومين، وقد تصبر إلى اليوم الثالث والرابع، وهم يردون بها إلى الآبار أذوادا كل ذود في حوض، ويروونها على نغم الأناشيد ولطيف الأشعار كما سيجيء.
ولكل قبيلة منهم شارة خاصة تسم به إبلها في الوجه والعنق والورك كما سيجيء.
وسعر الجمل الواحد عندهم من خمسة جنيهات إلى عشرين جنيها أو أكثر، ولكن لا يبلغ هذا الثمن الأخير إلا ما كان من الهجن الأصيلة.
وتختلف أسماء الإبل باختلاف أسنانها، وهذه هي كما أخذتها عنهم:
المباري أو الحوار:
وهو ولد الناقة قبل أن يفطم، ومدة الرضاع تختلف من خمسة أشهر إلى ثمانية أشهر، قالوا: إن ولد الناقة يقف في اليوم الأول من ولادته، ويمشي في اليوم الثالث، ويرافق أمه للمرعى في اليوم السابع.
والمفرود أو الفصيل:
وهو ولد الناقة بعد الفطام إلى أن يبلغ السنة.
واللبني:
ولد الناقة في السنة الثانية.
والمربوط:
ولد الناقة في السنة الثالثة.
والحق:
ولد الناقة في السنة الرابعة.
والجدع:
ولد الناقة في السنة الخامسة.
والرباع:
ولد الناقة في السنة السادسة.
والسداس:
ولد الناقة في السنة السابعة، وهو الجمل بلغ أشده، ومن أسماء الإبل:
القعود: وهو ذكر الإبل من سن المباري إلى الجدع.
والجمل: وهو ذكر الإبل من الرباع فصاعدا.
والبكرة: وهي أنثى الإبل إلى سن الجدع.
والناقة: وهي أنثى الإبل من الرباع فصاعدا.
والهجين: وهو جمل الركوب، وأفضل الهجن الأصايل المروضة على الجري، والركوب على هجين مروض أصيل يفضل على ركوب أية دابة كانت، بل يفضل على ركوب المركبات والسيارات؛ لأنه مريح للغاية خصوصا في الصحراء، ومن أقوالهم في الهجن السريعة:
الركاب ما لهم مناقد تنقدوهم
إلا بقوسهم في الأراضي
الركض يا مع طوال هفاهيف
يا مع قصار عراض
وإبل سيناء أبهى منظرا وأخف حركة، وأسرع جريا من إبل مصر، ولكن إبل مصر التي للحمل أقوى جدا من إبل سيناء، فجمل مصر المروض على الحمل يحمل من 7 إلى 8 قناطير، ولكن قلما تجد في إبل سيناء ما يحمل أكثر من 4 قناطير.
شكل 8-1: فارسان من السواركة على فرسيهما.
الخيل:
وأما الخيل فلا يقتنيها من بدو سيناء إلا الرميلات وبعض السواركة الساكنين شرق بلاد العريش، وقد ندر في الرميلات من ليس له فرس أو فرسان، ويقتنيها أيضا ترابين سيناء كإخوانهم الترابين في جنوب سوريا، وهم يعتنون بتربيتها ويحافظون على أصولها وكرامتها أشد المحافظة.
وأشهر الأصول الكريمة عندهم : المخلدية، والكبيشة، والعبية.
أما «المخلدية» فيقال: إنها من أصل فرس خالد بن الوليد، ولذلك هي أشرف الأصول عندهم، قالوا: وهم لا يركبون فرسا هذا أصله إلا بعد الاغتسال من «الجنابة»، بل قالوا: إنه إذا أقبلت فرس من هذا النوع على بدوي وهو جالس وقف إجلالا لها، وإذا لم يقف لها وجبت عليه اللعنة!
وأما «الكبيشة» فلهم في أصلها رواية خرافية، قالوا: خرج من البحر حصان فعلا فرسا للرميلات، فأنتجت الكبيشة.
وأما «العبية» فقالوا في سبب تسميتها: إن فارسا بدويا في القديم فر من وجه أعدائه، فطاردوه أميالا فنجا منهم بسرعة فرسه، وكان للفرس مهرة تتبعها، فظن الفارس أنها تخلفت عن أمها وصارت في حرز الأعداء، فلما صار في مأمن منهم التفت وراءه فإذا بالمهرة بجانب أمها تسترها عباءته فسماها العبية!
وهم حريصون على أصل خيولهم حرصهم على أصل إبلهم وأزيد، فلا يسمحون لأحجار الخيل غير مشهورة الأصل أن تعلو أصائلهم، قالوا: وأجرة الحجر ريال مجيدي وملء مخلاته شعيرا، وهم يبيعون الذكور من خيلهم المؤصلة بيعا باتا، وندر بيعهم الإناث كذلك، بل قد يبيعون النصف ويحفظون لأنفسهم النصف الآخر، وفي هذا البيع يتناوب الشاري والبائع قنية الفرس، ويتقاسمان نتائجها، فكل منهما يقتنيها سنة ويكون للشاري منها نتيجة وللبائع نتيجة، وإذا اختلف الجنس في النتائج كان لكل منهما النصف من كل نتيجة، ولكن غالب بيعهم للإناث الأصائل بشرط أن يعطي الشاري البائع مهرتين من نتاج الفرس، والشاري بهذا الشرط لزمه ألا يطلق عليها إلا الأصائل، وإلا فإذا أطلق عليها الأحجار غير الأصائل لزمه نتاجها، ويكون تسليم الشاري المهرة للبائع بعد الفطام، ومدة الرضاعة عندهم مائة ليلة، فإذا ماتت المهرة في عشرة الأيام الأولى كانت بحظ الشاري، وإذا ماتت بعدها كانت بحظ البائع، لذلك متى بلغت المهرة سن العشرة الأيام أشهد الشاري شاهدين عدلين، أن المهرة بلغت هذه السن وهي سليمة لا عيب فيها، وقال: «من بختي» لصاحبها.
وقد وجدت في كحائلهم لين الظهر، وسهولة القياد، وخفة الحركة، وسرعة الجري، ولكنها في الغالب صغيرة الجسم نحيفة البنية، وهي جميلة الرأس قبيحة المؤخر.
هذا والبدو في صحرائهم يفضلون ركوب الهجن على ركوب الخيل؛ لأنها أصبر على العطش والحر، وأريح للركوب، ومن ذلك قولهم:
قولوا لأبو زيد ما يركب «الرمك»
الهجن أصبر ع السري والقوايل
ولكنهم يفاخرون بركوب الخيل، ويعدون ركوبها أشرف من ركوب الإبل، قالوا: زار بدوي بنتا له كان قد زوجها إلى غني فافتقر، وجرى ذكر الخيل، فقال الأب لصهره ناصحا:
لا تخل مالك قرن ماعز
ولا بقر يجفلها الصفير
عز المال «سابق» تحت وركك
وإن دهبشت دهبش لك بعير
وكانت ابنته تقاسي المر من الفقر، فلما سمعت كلام أبيها هزت رأسها وقالت:
مال! ما عندنا مال
غير الفراخ العتاق
مرتعهم مقدم البيت
والديك معهم يقاقي
وهم إذا ركبوا الخيل أسرجوها بالسروج العربية المعروفة والركاب العريضة واللجم الضيقة، وحملوا الرماح الطويلة على أكتافهم والسيوف على أجنابهم، وقالوا في استعمال ضيق اللجم: إن الخيل إذا استعمل لها واسع اللجم فتحت فاها عند العدو وقل جريها، وهم يعتنون جدا بشد السرج قبل الركوب، سواء كان ذلك في ركوب الهجن أو ركوب الخيل، ومن أقوالهم في ذلك: «اقشط على الهجين، ولو كان أبوك تحت البطان.»
وهم من أول أكتوبر يتركون السرج ليلا على ظهر الفرس، فإذا أتى الربيع جردوها منه، قالوا: إن الخيل تشعر بالبرد قبل الإنسان بشهر.
وإذا ربطوا الفرس جعلوا لها قيدا بيديها، وقيدوا إحدى رجليها بشبحة يعقدونها إلى رزة من ورائها، وربطوا رسنها برزة من أمامها، وهم يعلفونها ويسقونها في أوقات معينة لا يتعدونها، يعلفونها مرة عن الفجر، ومرة توا بعد الغروب، ويسقونها مرة عند الظهر، ومرة في المساء بعد العليق، وعلفة الفرس في الصبح ربع صاع، وفي المساء نصف صاع، وفي زمن الصيف يعلفون الخيل البطيخ والذرة الخضراء بدل البرسيم في مصر، والموسر منهم يطعم خيله البطيخ والذرة في الصباح، والشعير في المساء.
ولكن البدو مع شدة اعتنائهم بتربية خيلهم وتنظيم علفها قلما يعتنون بنظافتها، فهم يغسلونها مرة واحدة في البحر كل سنة في الصيف.
وعندهم أن الخيل في الخريف لا تزيد ولا تنقص ومن أقوالهم:
تشرين في تشرين بيقل جريهن
وفي ذمتي جري المكرمات يزيد
ولهم قاعدة في معرفة علو الخيل منذ ولادتها، قالوا: إن ذراع المهر يوم ولادته من أعلى الحافر عند منبت الشعر إلى مفصل الركبة، هو ربع العلو الذي يصير إليه عند البلوغ، ولكن خيلهم لا تعلو كثيرا، وأعلى ربع للخيل عندهم 19 قيراطا، فما بلغ هذا الحد استوفى علوه.
سباق الخيل:
وهم يتسابقون على الخيل والإبل في أيام الأعياد والأفراح، وزيارة الأولياء، واستقبال الضيوف، وأهم سباقهم سباق الخيل في أيام عيد الأضحى وختان الأولاد.
ففي سباق عيد الأضحى يجتمع البدو نساء ورجالا في ميدان متسع صالح للسباق، فتقف النساء في جانب منه، وفي يد إحداهن منديل أحمر مرفوع راية على عصا، ويقف الفرسان في الجانب الآخر من الميدان، والرجال المتفرجون في صف النساء على نحو كيلومتر منهن، فحالما يرى الفرسان الراية قد ارتفعت في صف النساء يطلقون الأعنة لخيولهم، فمن فاز بها أولا كان السابق، فإذا طارده أحد أقرانه وأخذها منه كان هو الفائز وإلا بقي الفوز للأول.
وفي سباق الختان يرفعون قفطانا من الأطلس راية بدل المنديل الأحمر، ترفعه امرأة راكبة جملا، وقد قص علي بعض الرميلات ما كان لهم في سباق مع الترابين قبيل الثورة العرابية، قالوا: احتفل الرياشات أحد فروع السواركة بطهور (ختان) بعض أولادهم، فأقاموا سباقا للخيل جمع جما غفيرا من فرسان السواركة والترابين، وكانت الراية قفطان حرير، ففاز بها ترباني يسمى مهيزع بن علي، ولم يأت إلى موقف الرجال كما هي العادة، بل بقي سائرا بالراية إلى قومه، فأخذت النخوة سعيد أبو شيخة من فرسان الرميلات، وكان راكبا فرسا حمراء من أصل «الكبيشة»، فدفع فرسه وانطلق وراءه حتى أدركه وأخذ الراية منه، ولبسها وعاد بها إلى الميدان.
وكان ممن حضر هذا السباق ابن لمهيزع يدعى عليا، فلما رأى الرميلات قد استردوا الراية من أبيه أخذته الغيرة، وطلب من السواركة أن يقيموا سباقا آخر ، ففاز بالراية ولحق بأبيه فتبعه مسلم أبو صفرة الرميلي، وكان راكبا فرسا حمراء من أصل الجريبة، وهو من الأصول المشهورة أيضا، فأدركه قبل أن يصل قومه واسترد الراية منه، وعاد إلى الميدان بين زراغيت النساء وترحيب الرجال، هذا في الخيل والإبل.
وأما «الحمير» فهم يقتنونها لركوب النساء، وجلب الماء عليها من الآبار.
وأما «البقر» فلا يقتنيها في سيناء كلها إلا الرميلات لقربهم من سوريا، وهم يقتنونها لا للحرث عليها؛ لأنهم يحرثون على الإبل، بل للحليب والنتاج، ودرس الحنطة وغيرها.
وأما «الغنم» من الضأن والمعزى، فكثير في كل جهة، وأكثر غنمهم من المعزى.
وأما «كلابهم» فثلاثة أنواع:
العكل:
لحماية الغنم من الذئاب والضباع.
والسلق:
لصيد الأرانب والغزال.
والضري:
وهو خاص بصيد التيتل، قيل وهو جنس مولد من العكل والسلق. (2) حيواناتها البرية
وأهم حيواناتها البرية:
النمر
Leopard :
ويسكن الجبال الوعرة، وهو يفترس ثعالبها وغزلانها، وكثيرا ما يفترس أغنامها.
والذئب:
وهو كثير ويسطو على الأغنام، والبدو يقتنون كلاب الضري بكثرة لمنع أذاه، وفيها الضبع، والثعلب.
والغزال:
وأكثره في السهول، يصطاده البدو لأجل لحمه وجلده.
والتيتل
Ibex :
ويوجد في الجبال العالية الوعرة، يصطاده السياح؛ لأجل جلده والارتياض بقنصه، ويصطاده البدو لأجل جلده ولحمه، وقد رأيتهم يبيعون لحمه في مدينة الطور الأقة بثلاثة غروش صاغ.
والوبر
Coney :
دويبة كالسنور، أصغر منه، كحلاء اللون، حسنة العينين، لها ذنب قصير جدا.
والقنفذ:
وهم يبخرون بشعره المصاب بالحمى.
والأرنب:
وأكثره في السهول المرتفعة.
شكل 8-2: تيتل رابض على صخرة.
ويستدل من اسم وادي اللبوة ووادي السباعية من أودية بلاد الطور أن «الأسد» كان يعيش فيها، قالوا: وكان في بلاد التيه «النعام»، ولم ينقطع منها إلا منذ أربعة أجيال، حدثني الشيخ علي القصير شيخ اللحيوات السابق قال: إن جد جدي شاهد النعام في الجزيرة. (3) طيورها
وأهم «طيورها الأليفة»: الدجاج والحمام.
ورأيت من «طيورها البرية» الحمام البري، والحجل وهو كثير، والقطا البري، والشنار أكبر من القطا ولحمه ألذ طعما من لحم القطا، والصقر وهو يفترس الأرنب، والغزال، والورور، والسنونو، والقبرة، والهدهد، والبومة، والعقاب، والنسر ، والغراب، والدوري. (4) زحافاتها وهوامها
ومن زحافات سيناء وهوامها:
الحية:
ومنها نوع سام أسود اللون، وآخر من النشاب لونه كلون التراب إلا طرف ذنبه فإنه أسود حالك، وله في رأسه قرنان لحميان، قيل هو أشد الحيات سما، وقد رأيت بدويا قتل حية من هذا النوع في وادي المكتب، وقال: «قتلنا السم وزال الهم.»
والعقرب، وأبو شبت:
وهو يشبه الرتيلاء، ولكنه سام كالعقرب، ولدغته أسلم عاقبة من لدغة العقرب، وهم يعالجون لدغة العقرب وأبو شبت بالكي بالنار، أو بمص السام بالفم، وقبل مصه يأخذ المداوي قطعة من الملح يجفف بها فمه حتى لا يبلع السم.
ومن زحافاتها: «الفيران، والجراذين، واليرابيع» وأشرها الجراذين، فإنها آفة من آفات الجزيرة وتكثر فيها جدا، ولا سيما في الأراضي الزراعية المرملة كبلاد العريش الشمالية، فإنك ترى الجراذين قد خرقتها حتى صيرتها كالمنخل، فلا تكاد تخطو خطوة حتى تقع في جحر من أجحارها، ويستخدم البدو لقتلها سما يدعى «عيش الغراب»، ولها عدو من جنسها يدعى «الورن» فيفتك بها، ولكنها لا تنقطع إلا بحرث الأرض وزرعها كل سنة.
وينتاب هذه البلاد أحيانا «الجراد»، فلا يبقي ولا يذر، ويكثر فيها صيفا الذباب والبق، ولكن البراغيث نادرة فيها، وآفة البدو القمل؛ لعدم اعتنائهم بالنظافة.
ذبانة الإبل:
ويظهر في بر الزقبة من بلاد العريش «ذبانة» سامة طويلة الأجنحة، إذا لسعت الجمل أهزلته أو قتلته، تظهر في المنطقة الواقعة جنوبي بحيرة البردويل من بئر النصف إلى خشوم الأدراب، وتظهر مرتين في السنة، المرة الأولى في أوائل مايو وتدوم أربعين يوما، ثم تنقطع، فتظهر المرة الثانية في أوائل أغسطس وتدوم ثلاثين يوما، قيل والسبب في ظهورها المستنقعات التي تتخلف عن بحيرة البردويل، وأهل البلاد يحتاطون لها، فيهربون إبلهم في ذينك الفصلين خارج منطقتها. (5) صيد الحيوان في البر والبحر (5-1) صيد التيتل
وبدو سيناء يصطادون التيتل بكلاب الضري، قالوا: يطارد الكلب التيتل حتى يدركه، فيعضه عضة مؤلمة في فخذه، ويقف عنده يرقبه، والتيتل لا يجسر أن يوليو ظهره خوفا من عضة أخرى، فيبقى حتى يجيء الصياد فيمسكه باليد أو يرميه برصاصة ويقتله، وترى في سيناء عند كل ماء ترده الأوعال دريئة من الحجارة، يستتر بها الصيادون لصيد التيتل بالبنادق عند وروده الماء.
شكل 8-3: بدوي قابض على تيتل. (5-2) صيد الأرانب والغزلان
وفي كل سنة في الصيف يذهب جماعة من مغاربة الزقازيق على هجنهم، ومعهم صقورهم وكلابهم السلوقية إلى بر قطية؛ لصيد الأرانب والغزلان، يذهب الصياد على هجينه طالبا الصيد ومعه صقره وكلبه، فإذا رأى الصيد أطلق عليه الصقر والكلب معا، فيدركه الصقر أولا، فيرف حول عينيه ويحبسه عن الجري حتى يدركه الكلب، فيعضه في فخذه ويرقبه، فيأتي الصياد على هجينه ويأخذه باليد.
وأما بدو سيناء فتصطاد الأرانب والغزلان بالكلاب السلوقية وحدها؛ لأن كلابهم أسرع جريا من الأرنب والغزال، ويقال: إن عشر جمزات للغزال بتسع جمزات للكلب.
هذا وفي كتاب كترمير: «إن السلطان بيبرس في توجهه من مصر إلى الشام سنة 661ه، كان يتعاطى الصيد في طريقه مع أمرائه وكان يحب الصيد، فلما وصل العريش جعل من جنوده حلقة فيها ثلاثة آلاف رجل أحاطوا بجزء كبير من الأرض؛ ليصطادوا ما بداخل الحلقة من الغزلان، ثم أخذوا يضيقون الحلقة شيئا فشيئا مع المحافظة على ما بداخلها من الحيوانات، حتى قبضوا على ما بها من الوحوش.» ا.ه.
شكل 8-4: بدويان صادا نمرا. (5-3) صيد الأنمر والضباع
وهم يصيدون الأنمر والضباع برصاص البنادق أو ينصبون لها الفخاخ، والفخ عبارة عن وجار صناعي مبني بالحجارة الغشيمة على شكل تابوت له باب مفتوح في أحد طرفيه، وكوة في ظهره قرب الباب، فيضع الصياد قطعة من اللحم في داخل الفخ يعقدها إلى طرف حبل، ويعقد طرفه الآخر إلى حجر عند الكوة تسمى «رداسة»، فإذا استنشق الضبع أو النمر رائحة اللحم دخل الفخ من الباب ليأكلها، ولا يكاد يجذبها بأسنانه حتى تسقط الرداسة من الكوة وتسد الفخ، ويبقى الضبع أو النمر محبوسا فيه إلى أن يموت أو يأتي الصياد فيقتله برصاصة من بندقيته.
شكل 8-5: بدوي يصيد نمرا في فخه. (5-4) صيد الطير في بلاد العريش
هذا، وقبيل دخول فصل الشتاء؛ أي حوالي شهر سبتمبر، تبدأ مهاجرة الطيور من أوروبا إلى ساحل بلاد العريش، وغالب هذه الطيور:
الفري:
ويقال له السمان أيضا.
والمرعاة:
وهو أكبر من الفري حجما، ولكنه أخف وزنا وأقل قيمة، ولون الذكر منه أسود، والأنثى مائل إلى السواد.
والرقطي:
وهو طائر كالحمام، ولكن لون ريشه أخضر وأصفر، وأهل العريش من بادية وحضر يصيدون هذه الطيور ويبيعونها حية في مصر، وأكثر بيعهم لها في بورسعيد.
أما أهل مدينة العريش، فقد رأيتهم يصيدونها بشباك ينصبونها على شاطئ البحر، مرفوعة على قوائم من خشب مسافة خمسين مترا، وعلو ثلاثة أمتار، أو يجعلون على الشاطئ عشاشا من الأعشاب أبوابها لجهة البحر، ويجعلون الشباك على الأبواب، فتأتي تلك الطيور متعبة من عبر البحر المتوسط، فلا ترى تلك العشاش حتى تترامى عليها طلبا للراحة، فتعلق في الشباك، ويأتي الصياد فيقبض عليها باليد.
أما عرب البادية، فإنهم يجدونها تعبة نائمة في ظل الأعشاب قرب الشاطئ فيصيدونها باليد، فويل للحيوان من الإنسان!
هذا كله في صيد الفري والمرعاة، وأما الرقطي فإنه لا يصاد إلا بالدبق على الشجر؛ لأنه يحذر الشباك ولا يختبئ في الأعشاب.
ويهاجر إلى بحيرة الزرانيق في الصيف نوع من الطائر المائي الملون الريش، فيصطاده الأهلون بالبنادق، ويصبرونه ويدخلونه في المتجر حليا لبرانيط النساء. (5-5) صيد السمك
ويصطاد السمك كثير من سكان الشطوط البحرية من أهل المدن والبدو، خصوصا مزينة والترابين، يصيدونه بالشباك أو السنارة، وأهل مدينة الطور كعرب جهينة في ينبع وضبا من بر الحجاز يصطادون نوعا من السمك من خليجي العقبة والسويس، ويجففونه ويدخلونه في المتجر، وهو المعروف في مصر «بالبقلاه».
وهم أيضا يغوصون على اللؤلؤ «واليسر» في خليج العقبة عند رأس محمد وذهب والنويبع.
وفي البحر الأحمر لا سيما في خليج العقبة كثير من السمك الطيار والإرش، أما الإرش فهو حيوان مفترس لا يؤمن الاستحمام في الخليج بسببه، وقد طارده ضباط الطراد الإنكليزي «ديانا» مدة إقامتهم في جزيرة فرعون سنة 1906، فاصطادوا إرشا طوله 28 قدما.
الفصل التاسع
في سكانها
(1) سكانها الأصليون الذين بادوا
لقد دلت الآثار التي خلفها الفراعنة في سيناء أن سكان هذه الجزيرة كانوا منذ بدء التاريخ من أصل سامي كسكان سوريا، وكانوا يتكلمون لغة غير لغة المصريين، وقد عرفوا على الآثار المصرية باسم «هيروشاتيو»؛ أي أسياد الرمال، وعرف سكان بلاد الطور خاصة باسم «مونيتو»، وعرفوا في التوراة عند مرور بني إسرائيل في الجزيرة «بالعمالقة»، ورأيت في درج في دير سيناء أن سكان الجزيرة في عهد يوستينيانوس في أوائل القرن السادس للمسيح هم «الأعراب بنو إسماعيل»، وبنى يوستينيانوس المذكور ديرا لرهبان طور سيناء، وبعث إليه بحامية خليط من أروام ومصريين عرفوا «بالجبالية» نسبة إلى جبل الطور، وما زالوا يسكنون ضواحي الجبال إلى اليوم.
ثم ظهر الإسلام في جزيرة العرب في أوائل القرن السابع للمسيح، وفتح العرب المسلمون جزيرة سيناء، فتغلبوا على أهلها الأصليين، فأبادوا أكثرهم واستعبدوا الباقين، أو أجلوهم عن البلاد، وسكنوها إلى هذا العهد.
وأقدم القبائل الأصلية التي بقي لها أثر في الجزيرة بعد أن افتتحها العرب المسلمون هم، الحماضة، والتبنة، والمواطرة في بلاد الطور، والبدارة في جبال العجمة من بلاد التيه، وقد دخلوا في حمى العرب الفاتحين، واتخذوا لغتهم وديانتهم وعاداتهم، ولكنهم ما زالوا منفصلين عنهم في الجنس، فالبدو الفاتحون لا يزوجونهم ولا يتزوجون منهم، ولا يقيمون حربا عليهم إلى اليوم.
أما «الحماضة» فالمشهور أنهم كانوا أسياد البلاد قبل الصوالحة، وكان مجتمعهم في حديقة فيران، وكانوا مدة الصيف يذهبون كل ليلة إلى عرق رجامات البيض في أسفل الوادي، ويبيتون فيه فرارا من البعوض كما مر، ثم يعودون في الصباح إلى الحديقة، وهم الآن شرذمة قليلة لا يزيدون عن أربعين بيتا، وقد دخلوا في حمى العليقات.
وأما «التبنة» فقد تقدم أنهم من سكان حديقة فيران الأصليين، يزرعون أرضها ويلقحون نخيلها إلى اليوم، وأما «المواطرة» فيسكنون حديقة الحمام قرب مدينة الطور، يزرعون أرضها ويلقحون نخيلها، كالتبنة في فيران، وقد رأيت لهم ذكرا في بعض كتب الدير القديمة التي يرجع تاريخها إلى سنة 1001ه/1592م، ويظهر أن التبنة والمواطرة من أصل واحد، وكلاهما أعرق في القدم من الحماضة، ولعلهم بقية نصارى فيران «وراية» الذي غلبوا على أمرهم بعد فتح العرب لسيناء، وهم الآن في حمى الصوالحة.
وأما «البدارة» ويبلغ عددهم نحو خمسين بيتا، فيسكنون جبال العجمة، وربما سميت الجبال بالعجمة نسبة إليهم؛ لأنهم كانوا يتكلمون لغة أعجمية، وقد كانوا أولا حلفاء التياها، ثم اختلفوا معهم منذ عهد قريب، فحالفوا الصفايحة اللحيوات، ولهم علاقة «حسنى» مع العليقات.
وقد سكن أهل البلاد الأصليون في المغاور والكهوف، وفي منازل محكمة البناء من الحجر الغشيم والطين على هيئة قفير النحل، تعرف عند العرب بالنواويس، ولا يزال كثير منها قائما على رءوس الجبال وضفاف الأودية الشهيرة إلى اليوم كما مر، وهي ترجع في تاريخها إلى خمسة آلاف سنة قبل المسيح أو أكثر. (2) سكانها العرب المسلمون الذين هجروها
وفي تقاليد بدو سيناء أنه قد هاجر من العرب المسلمين 75 قبيلة من نجد والحجاز في سنة واحدة، فسكنوا مصر وسيناء وجنوب فلسطين، على أن القبائل التي سكنت سيناء لم تثبت فيها كلها، بل هاجر كثير منهم إلى مصر أو سوريا، بعد أن أقاموا فيها مدة وضعف الباقون أو انقرضوا كلهم، ومن هؤلاء: «الوحيدات، والرشيدات، والرتيمات، والجبارات، والعايد، والمعازة، والطميلات، وبنو واصل، وبنو سليمان، والعيايدة، والنفيعات.»
أما «الوحيدات والرشيدات» فقد ذكرهما صاحب درر الفرائد في رحلته إلى الحجاز سنة 955ه/1548م، أنهما فرعان من بني عطية، وأن عليهما درك النقب «نقب العقبة»، وأما الآن فلا نرى أحدا منهما في سيناء كلها، ونرى بقية من الوحيدات في بلاد غزة، وقد آل درك النقب منذ عهد بعيد إلى قبيلة أخرى من بني عطية، وهم العمران الحويطات كما سيجيء.
وأما «الرتيمات والجبارات» فقد كانت مساكنهما في بلاد العريش الشرقية، فطردهما الترابين منها إلى بلاد غزة في أوائل القرن التاسع عشر بعد حرب دامت نحو عشرين سنة، كما سنبينه في محله.
وأما «العايد» فهم الآن من سكان مديرية الشرقية في جهة بلبيس، وقد تحضروا وتركوا البادية، وهناك خط يدعى خط العايد إلى اليوم، وليس لدينا دليل على أنهم سكنوا جزيرة سيناء، ولكنا نرى أن الحكومة المصرية عهدت إليهم قديما خفر المحمل الشريف من مصر إلى العقبة، وقد ورد ذكرهم في كتاب «الأم» - المحفوظ الآن في الدير - أن لهم الإشراف على قبائل الطورة، وفي بيت شيخهم كانت تعقد شروط الاتفاق بين عرب الطورة ورهبان دير سيناء بشأن تأجير الإبل، وتأمين الطرق ونحوها كما سيجيء، والعايد الآن فريقان، فريق يرجع بنسبه إلى إبراهيم العايدي، وفريق إلى حسن أباظة، ومن هذا الفريق أسرة أباظة المشهورة، وكبيرها إسماعيل باشا أباظة، قيل وينتهي نسب العايد إلى عقبة إلى جزام إلى قحطان، وكانت جزام في جملة من دخلوا مصر مع عمرو بن العاص.
وأما «المعازة والطميلات» فإنهم رحلوا من سيناء إلى مصر، وبقي لهم إلى الآن بعض الأملاك في بر قطية من بلاد العريش.
وأما «بنو واصل» فقد أجمع ثقات سيناء أنهم من بني عقبة من عرب الحجاز، وأنهم هاجروا إلى بلاد الطور من عهد بعيد، واقتسموا البلاد مع الحماضة المار ذكرهم، فأخذ بنو واصل القسم الجنوبي إلى وادي فيران، وأخذ الحماضة القسم الشمالي؛ أي وادي فيران وشماليها إلى جبال التيه، وكانت منافع البلاد مقسومة بينهم بالسوية، ثم قامت بينهما حرب بشأن نقل الحجاج المصريين الذين كانوا يأتون بطريق الطور، وكانت الواقعة الكبرى في المكان المعروف بمكون الحماضة قرب وادي وردان كما مر، فضعف حالهم جميعا، فجاء الصوالحة والنفيعات من بر الحجاز واستولوا على البلاد، واقتسموا منافعها بينهم على نحو ما كان عليه بنو واصل والحماضة، وانضم من بقي من الحماضة إلى النفيعات، ثم إلى حلفائهم العليقات، وانضم من بقي من بني واصل، وهم الآن نحو 20 بيتا إلى الصوالحة، وقد رأيت ذكرا لبني واصل في «كتاب الأم»، أن بني عقبة أصحاب الدرك في قلعة المويلح «ببر الحجاز»، تعدوا على تجار من بني واصل في 4 صفر سنة 1002ه/30 أكتوبر سنة 1593م، وفي مصر في مديرية جرجا قبيلة من بني واصل.
وأما عرب «بني سليمان» فالظاهر أنهم كانوا قبيلة قوية في الجزيرة، ولعلهم دخلوا الجزيرة مع بني واصل، وكانوا حلفاءهم، ثم ضاق بهم العيش فرحلوا إلى مصر، وسكنوا مديرية الشرقية، ولم يبق منهم في الجزيرة الآن سوى بيت واحد انضم إلى القرارشة الصوالحة، وقيل هم فرع من بني عطية المساعيد كما سيجيء.
وأما «العيايدة» فإنهم استوطنوا بلاد الطور مدة، ثم رحلوا عنها بسبب القحط في الأرجح إلى مصر، فسكنوا مديرية الشرقية وغربي بلاد العريش ، ومن الأقوال المأثورة عنهم أنهم قالوا عند ارتحالهم من بلاد الطور: «تركنا الشر في خشيم الطر»، وبقي لهم كرم نخيل في وادي فيران إلى عهد قريب، فرهنه سليمان بن غانم العيادي عند رجل من العوارمة، ثم باعه له سنة 1905.
وأما «النفيعات» فالراجح أنهم دخلوا بلاد الطور مع الصوالحة، فوجدوا الحماضة وبني واصل في ضعف، فاستولوا على البلاد واقتسموها فيما بينهم كما مر، واقتسموا أيضا غفر الدير ونقل الحجاج والسياح.
ثم جاء العليقات من بلاد الحجاز إلى الجزيرة، وحالفوا النفيعات، وصاروا معهم حزبا واحدا رئيسهم النفيعي، وسكن العليقات أولا جهة عين حدرة والنويبع، ثم حصل قحط في الجزيرة، فرحل النفيعات إلى مصر وسكنوا مديرية الشرقية في مركز الزقازيق، وحل محلهم في الجزيرة حلفاؤهم العليقات، وترك النفيعات في الجزيرة «بدنة» منهم يقال لها «السواعدة»، فسكنت مع العليقات إلى اليوم، ولا يزال للشيخ إبراهيم منصور عمدة النفيعات الحالي أملاك في أودية فيران والنصب وبعبعة من بلاد الطور، وفي بر قطية من بلاد العريش، وقد رأيت ذكرا للنفيعات في كتب الدير يرجع تاريخها إلى سنة 1001ه/1593م، وهم ينتسبون إلى نافع بن مروان بطن من ثعلبة طي من نجد الحجاز. (2-1) حرب الصوالحة والعليقات
وفي تقاليد الطورة أنه في زمن حكم الأنطوش في قلعة مدينة الطور، اختلف الصوالحة والعليقات على قسمة منافع البلاد ونقل الحجاج، فقامت بينهم حرب، واقتتلوا في واقعة عظيمة في «وادي الحمام» قرب مدينة الطور، كان النصر فيها للصوالحة، وقالوا في تفصيل ذلك: إن الصوالحة هاجموا العليقات ليلا، وكان سر الليل عندهم: «ادهك يا داهوك»، فكانوا يرددون هذه الكلمة بصوت عال؛ ليتعارفوا بها في الظلام، فمن لم يرددها علموا أنه عدو وقتلوه، قالوا: ولم ينج من جيش العليقات في تلك الواقعة سوى أربعين رجلا، فضعف حالهم وعجزوا عن حفظ مركزهم مع الصوالحة.
واتفق أنه في هذه الأثناء هاجر جماعة من مزينة من «قبيلة حرب» بالحجاز، وأرادوا التوطن في سيناء، ولما كانوا هم والصوالحة من أصل واحد سألوهم الإقامة معهم، فضرب الصوالحة عليهم جعلا قدره «نصفان» من الدراهم على كل بنت يزوجونها من بناتهم، فأبوا وحالفوا العليقات على أن يكون لكل قبيلة نصف منافع الجهة، ما عدا «منافع الدير» فإنها تبقى للعليقات وحدهم، فقوي بذلك العليقات وعادت الموازنة بينهم وبين الصوالحة كما كانت فهبوا لأخذ الثأر، قيل وقد ذهب واحد منهم بعد «واقعة الحمام» إلى مصر، فجلس على طريق سوق الخانكي ينادي:
عليقات يا عليقات يا أهل الرمك والنجادة
الطور غربي سربال ما عقب إلا النكادة
فأمدهم حلفاؤهم النفيعات بنجدة، فجيشوا جيشا كبيرا، وأرسلوا الجواسيس ترقب حركات الصوالحة، وكان الصوالحة قد ذهبوا لزيارة الشيخ صالح في واديه، وتقديم الذبيحة المعتادة له، ولما لم يكن عند القبة حطب كاف أتوا بالذبيحة إلى غابة الطرفاء التي إلى غرب الوطية، فذبحوا ناقتهم وأكلوا وناموا، وانتظر العليقات حتى استغرقوا في النوم، ثم انقضوا عليهم كالنسور وقتلوهم شر قتلة، قيل وكان سر الليل عند العليقات «افعص يا فاعوص.»
وبعد هذه الواقعة اجتمع كبراء الصوالحة والعليقات في بيت عربي في مصر يدعى «الودي»، وعقدوا صلحا على أن يعود كل فريق منهم إلى الأملاك التي كانت له قبل الحرب من نخيل ومزارع، وأن تعود منافع البلاد من خفر الدير (أي نقل الرهبان وأمتعتهم ونقل حجاج الدير)، ونقل حجاج مصر المسلمين الآتين بطريق الطور أو بطريق نخل على الإبل فتقسم بينهم بالسوية، حتى «الفيد» الذي يلفظه البحر إلى شطوط الجزيرة يقسم بينهم بالسوية، كما كان الحال بين الحماضة وبني واصل، ثم بين الصوالحة والنفيعات من قبلهم، ثم إن لكل من الفريقين نسبة معلومة تقسم بها المنافع بين قبائله، سنأتي على ذكرها تفصيلا في فصل خاص.
ولنتقدم الآن إلى ذكر قبائل سيناء الحاليين قبيلة قبيلة، مع ذكر أصولها وفروعها ومشايخها، وأشهر مراكزها في الجزيرة، فنقول: (3) سكانها الحاليون (3-1) قبائل بلاد الطور
يسكن بلاد الطور الآن قبائل: العليقات، ومزينة، والعوارمة، وأولاد سعيد، والقرارشة، والجبالية، ويطلق عليها كلها اسم «الطورة»، ويطلق على العوارمة وأولاد سعيد والقرارشة اسم الصوالحة، وقد يطلق اسم الصوالحة على العوارمة وحدهم.
العليقات:
أما قبيلة العليقات فأهم فروعها: أولاد سلمي، والتليلات، والحمايدة، والخريسات، وينضم إليها الحماضة، والسواعدة النفيعات كما مر، وشيخها الحالي مدخل سليمان من أولاد سلمي، وتمتد بلادها من الرملة إلى وادي غرندل، والمشهور أنها هي والعليقات القاطنين في مديريتي القليوبية وأصوان من أصل واحد.
مزينة:
وأما قبيلة مزينة أو أم زينة، فأهم فروعها العلاونة، والشذاذنة، والعويصات، وأولاد علي، وشيخها الحالي خضر عامر فرحان من بدنة العويصات.
وتبدأ بلادها من جنوب مدينة الطور، وتمتد على الشطوط البحرية حول رأس محمد إلى النويبع فالرملة، وهم يرجعون في أصلهم إلى عرب بني حرب كما مر، وقد اشتهروا بحب السلام ولين العريكة والأمانة مع أنهم فقراء، ومن أشغالهم عمل حجارة الرحى والفحم وصيد السمك، ورأيت جماعة منهم في السويس يشتغلون سقاة.
ويسكن مع مزينة في جهة النويبع نفر من العزايزة يصيدون السمك، ولهم نخيل قديم في أرض مزينة، ولعلهم نسل رجل من العزايزة الساكنين غزة.
العوارمة:
وأما قبيلة العوارمة ففروعها العوارمة خاصة ومنهم الفوانسة، والرديسات ومنهم أولاد شاهين، والنواصرة، والمحاسنة، وشيخهم الحالي سليمان غنيم من الفوانسة.
أولاد سعيد:
وأما قبيلة أولاد سعيد، ففروعها أولاد سعيد خاصة، ومنهم الزهيرات والعوامرة، وأولاد مسلم، وأولاد سيف، والرزنة، وهم فرع غريب ملحق بها، وشيخها الحالي صالح علي من العوامرة.
شكل 9-1: الشيخ موسى أبو نصير شيخ مشايخ الطورة.
القرارشة:
أما قبيلة القرارشة ففروعها النصيرات، وأولاد تيهي، قيل هم من عرب قريش، دخلوا الجزيرة مع العوارمة وأولاد سعيد، وكانوا معهم حزبا واحدا كما مر، وبالنظر لرفعة نسبهم ترى شيخهم في الغالب شيخا للطورة كافة، وشيخهم الحالي نصير موسى من النصيرات، وكان أبوه الشيخ موسى أبو نصير شيخ القرارشة من قبله، وشيخ مشايخ الطورة كافة، وهو أعظم رجل أنتجته الجزيرة في هذا العصر، وقد كان نابغة جزيرة سيناء، كما كان «الزبير» نابغة السودان، وكان رجلا شهما مهوبا، طويل القامة، جميل الطلعة، جليل القدر، سديد الرأي، مسموع الكلمة، توفي عن نحو 80 عاما في منزله في حديقة فيران يوم الجمعة في 11 أكتوبر سنة 1912، ودفن في جبانة الشيخ عليان بفيران، قيل عجل في موته وفاة ابنه الأصغر إبراهيم شابا في مقتبل العمر، وقد أدخله مدرسة الطور، فكان أول من أتقن القراءة والكتابة من البدو في سيناء كلها، فشق عليه موته فمات غما، وكان في فيران يوم وفاته نحو 200 رجل من قبائل الطورة كافة، قد اجتمعوا لموسم البلح فدفنوه بالإكرام اللائق به.
ثم إن بلاد الصوالحة؛ أي العوارمة وأولاد سعيد والقرارشة هي في قلب بلاد الطور، يحيط بهم مزينة والعليقات كدائرة، وفي تقاليد الصوالحة أنهم من قبيلة حرب الحجاز، وقد رحلوا أولا إلى ضبائم إلى بلاد الطور فسكنوها إلى اليوم.
ونرى الآن فريقا من العوارمة وأولاد سعيد يسكنون قرب قليوب مصر، قالوا:
حصلت مجاعة في سيناء فهاجروها إلى مصر وبقوا فيها، ولبعضهم أملاك من النخيل في فيران إلى اليوم، وكبيرهم في مصر هندي أبو شعيرة من النواصرة العوارمة.
الجبالية:
وأما قبيلة الجبالية ففروعها: الحمايدة، والسلايمة، والوهيبات، وأولاد جندي، وشيخهم الحالي الشيخ عطية أبو غنيمان من الوهيبات، وهم يسكنون جبل طور سيناء المنتسبين إليه وضواحيه، وقد تقدم أنهم خليط من أروام ومصريين، وكانوا يدينون بالنصرانية، ثم أجبروا على اعتناق الإسلام وعاشوا عيشة البادية، ولكن البدو العريقين في البداوة يترفعون عنهم، فلا يزوجونهم ولا يتزوجون منهم، وعددهم الآن كما هو في كتب الدير 480 شخصا، وسيأتي ذكرهم.
هذا، وقد اشتهر الطورة عموما بالضيافة واتحاد الكلمة، ومن أمثالهم، «الطورة ربيع الضيف» فهم يضيفونه ثلاث وجبات، مع أن سائر قبائل الجزيرة يضيفونه وقعتين، وإذا لحقهم أذى قاموا كلهم قومة رجل واحد لأخذ الثأر. (3-2) قبائل بلاد التيه
يسكن بلاد التيه الآن فروع من قبائل التياها، والترابين، واللحيوات، والحويطات.
التياها:
أما قبيلة التياها فتسكن بلاد التيه وجنوب سوريا، وأهم فروعها التي تسكن بلاد التيه، الصقيرات، والبنيات، والشتيات، والقديرات، والبريكات، وشيخهم الحالي الشيخ حمد مصلح من الصقيرات.
والمشهور أن هذه القبيلة هي أقدم قبائل التيه، وقد سميت كذلك؛ لأنها أول قبيلة سكنت بلاد التيه، وفي تقاليد شيوخها «أن أصلهم من بني هلال من ظعن سليمان العنود من برية نجد، وأنهم هاجروا بلادهم فرارا من المعازة، ودخلوا الجزيرة في وقت واحد مع الترابين، وسكنوا بلاد التيه، وسكن قسم من الترابين شرق بلاد الطور، ووقعت بين القبيلتين حرب على «عين سدر»، كان الفوز فيها للتياها، وانهزم الترابين إلى مصر، ثم عادوا إلى الجزيرة واصطلحوا مع التياها في بلدة نخل، على أن يكون للتياها أرض الجلد، وللترابين أرض الدمث» فسكن التياها بلاد التيه من جبل الحلال إلى نقب الراكنة شمالا وجنوبا، ومن مطلة نخل الشرقية إلى جبيل حسن شرقا وغربا، وسكن الترابين شمالي جبل الحلال بين التياها والسواركة، وامتدوا شمالا بشرق إلى غزة.
وكان «درك» التياها في درب الحج المصري من جبيل حسن إلى مطلة نخل الشرقية، وأشهر مراكزهم: نخل، وجبل الحلال، وعين القصيمة، وعد المويلح، وأشهر مزارعهم في أودية المويلح، والصبحة، والقصيمة، وصرام، ومعظم وادي العريش، ويسكن القديرات منهم الوادي المعروف باسمهم، والبريكات واديي مايين وقرية.
وقد اشتهر التياها بالبساطة وشكاسة الأخلاق، ومما رواه أهل الجزيرة عنهم، أن أحد التياها كان نازلا بجمله في بطن وادي العريش، ففاجأه السيل وجرفه هو وجمله، فصار يستغيث وينادي: «أنا تيهي يا سيل، أنا تيهي يا سيل، وإن كذبتني فكر بوسم الجمل»، ومنها أن أحدهم كان له عباءة سوداء، فنزل عليه مطر شديد وهو في سفر فغرق العباءة وبلله، فظن أن ذلك من سواد العباءة فخلعها عنه ورماها على شجرة في الطريق، وقال لها: «والله لأتركنك في الخلاء حتى يقتلك البرد»! ثم تركها وانصرف.
الترابين:
أما الترابين فأشهر فروعهم في التيه: «الحررة» شياخة خضر الشنوب ، «والحسابلة» شياخة سلامة حجازي، «والشبيتات» شياخة عودة الباسلي.
وأشهر مراكزهم: الجورة، والبرث، والبواطي، والمقضبة، والعمر، وأم قطف بين المقضبة والعمر، والروافعة، وجبل المغارة، والجفجافة، وجبل الراحة.
وقد تقدم أن فريقا منهم سكن شرق بلاد الطور، ولا يزال منهم بقية هناك في النويبع، وعين أحمد، وعين جذيع، وعين العاقولة، ولهم فيها نخيل إلى اليوم، ولكن معظم الترابين في بلاد غزة، ومنهم طائفة في مديرية الجيزة بمصر.
ومما قيل في أصل الترابين: إنهم من جد يقال له نجم، قدم إلى سيناء مع رجل يدعى الوحيدي من ذرية الحسن أخي الحسين، فنزلا ضيفين على شيخ كبير من بني واصل في جبل طور سيناء، وكان لهذا الشيخ بنتان إحداهما جعدة الشعر قبيحة الوجه، والأخرى ذات شعر جميل ووجه حسن، ولم يكن له ذكور، وكان نجم فارسا مقداما، ولكنه كان قبيح المنظر أسمر اللون، وكان الوحيدي شابا جميل الوجه أبيض اللون، فزوج نجما بنته القبيحة الوجه وزوج الوحيدي بنته الجميلة، فكان نجم جد الترابين، وهم مشهورون بالبسالة وقبح الصورة، والوحيدي جد الوحيدات، وهم مشهورون بالكياسة وحسن الصورة.
وقد أقام الوحيدات في جزيرة سيناء زمانا طويلا، ثم هجروها وسكنوا غزة كما مر، ولا يزال الترابين يحترمونهم إلى الآن، فيذهب كبارهم لمعايدة شيخ الوحيدات ثاني يوم عيد الأضحى احتراما لمقامه ونسبه، ومن أقوال البدو في الوحيدات أنهم «خفيفي الملبوس نقالة الدبوس.»
قالوا: ونجم جد الترابين هذا هو ابن الشيخ عطية المدفون في الوادي، المنسوب إليه عند عين جذيع، وقد مر ذكره، والترابين يزورون قبره كل سنة بعد الربيع ويذبحون له الذبائح، وقد اشتهر الترابين بالألفة والاتحاد، واشتهرت بدنة النبعات منهم بجودة الرأي، وبدنة الغوالية بالشجاعة والإقدام، فهم يقتحمون غمرات الوغى بعزم صادق على نية النصر أو الموت، وعن درر الفرائد «أن الترابين والوحيدات والحويطات واللحيوات من أصل واحد؛ أي من بني عطية.»
اللحيوات:
وأما قبيلة اللحيوات أو الأحيوات ففروعها: النجمات، والخناطلة، والكساسبة، والسلاميين، والغريقانيين، والمطور، والكرادمة، والحمدات، والصفايحة، والخواطرة، والخلايفة.
وفي تقاليدهم أنهم من بني عطية المساعيد المنتسبين إلى مسعود بن هاني، وقالوا في تفصيل ذلك: إن المساعيد ارتحلوا هم وبني عقبة من نجد، ونزلوا في وادي العربة، وكان مع المساعيد قوم من عرب مطير يعيشون معهم «بالخاوة» فاستثقلوا دفع الخاوة، واستغاثوا ببني عقبة ليتخلصوا منها كلها أو بعضها، وكان لشيخ مطير بنت بديعة الجمال، فمرت بهودج على أميري بني عقبة والمساعيد وهما يلعبان «السيجة» ففتن أمير المساعيد بجمالها، وترك اللعب وصار ينظر إليها، فغاظ ذلك شيخ بني عقبة فأنشد قائلا:
مطيرية يا أمير ما هي لنا من قبيلة
وطنيبها داود الذي ما يعيبها
فقال له الأمير:
نجيبها بالسرد والمرد والقنا
وضرب يعدي جارها مع طنيبها
فأجابه العقبي:
ياما دونها يا أمير من طرح سابق
وعودة بالميدان ما ينسخي بها
فهب المسعودي لساعته، وأخذ يجمع جموعه ويستعد للقتال، وهكذا فعل العقبي، والتقى الجمعان في مكان يدعى حصي المدرة عند «مطب نقب غارب» بوادي العربة، فاقتتلا قتالا شديدا كان النصر فيه للمسعودي ووقعت المطيرية في أسره، فلما أتى بها إلى خيمته خرجت أمه من الخيمة، فسألها ابنها في ذلك، فقالت لا أقيم تحت سقف واحد مع «هتيمية»، فتأثر لقول أمه وطرد المطيرية وأهلها من داره، وقد عرفت تلك الواقعة «بواقعة المطيرية» وفي حصي المدرة إلى الآن قبور قديمة، قيل إنها مدافن قتلى تلك الواقعة.
قالوا: وبعد الواقعة ذهب العقبي إلى بلاد الكرك، والمسعودي إلى بلاد غزة، فضرب عليها حاكمها فرسا من جياد خيله يقدمه له كل سنة، وبقي المساعيد يؤدون هذه الضريبة حتى قام عليهم أمير يدعى «سليمان المنطار»، فاستثقل الضريبة وأبى دفعها، وجاهر بالعداوة للدولة، فجردت عليه وقتلته في واقعة مشهورة قرب غزة، قالوا: وكان سليمان المذكور من أهل الصلاح والتقوى، فرأى الترك قنديلا أضاء فوق جثته، فدفنوه بإكرام، وبنوا قبة فوق قبره، لا تزال قائمة، والعرب تزورها إلى اليوم.
وتفرق المساعيد ثلاث فرق: فرقة ذهبت شرقا، فسكنت فارعة المسعودي وراء حوران، وفرقة ذهبت غربا فسكنت أرض مصر، وعرفت هناك بأولاد سليمان، وبقي منها بقية في بر قطية غرب العريش حافظت على اسم المساعيد كما سيجيء، وفرقة ذهبت جنوبا بشرق، فسكنت وادي الليف في البدع من أعمال الحجاز على نحو خمسين ميلا من العقبة، وتخلف من هذه الفرقة قوم في وادي الجرافي ففرغ زادهم، فأخذوا يقتاتون بنبت الحوي فسموا الأحيوات، وكبيرهم إذ ذاك «سعد صادق الوعد».
وكان لسعد ثلاثة بنين: شوفان من أم، وحمد وسويلم من أم، فكان سويلم جد الكرادمة، وحمد جد الحمدات، وشوفان جد الشوافين، وكان لشوفان ابنان: غانم جد النجمات والخناطلة والكساسبة والسلاميين، وغنيم جد الغريقانيين والمطور.
وقد اشتهر الشوافون بين اللحيوات بالصلاح والتقوى، ولهم في الجزيرة عدة قبور تزار، منها: قبر «الشيخ حمدان»، ابن نجم جد النجمات، المدفون في رأس وادي الردادي قرب مفرق العقبة، يزوره اللحيوات من كل الجهات، وقبران في وادي الهاشة مر ذكرهما، وهما «قبر الشيخ مسلم وقبر الشيخ صبيح»، وكلاهما من بدنة المطور، وقبر «الشيخ عمر» المدفون بقرب «بئر أبو قطيفة» على نحو ست ساعات شرقي السويس، وقبر «الحجاج» في نخل الآتي ذكره، وقبر «أبو ديب» في وادي مايين وكلاهما من السلاميين، وأبو ديب أقدم من حمدان وأحدث من الحجاج.
وأما باقي فروع اللحيوات: «فالصفايحة» من صفيح ابن عم لسعد صادق الوعد، وأما الخواطرة والخلايفة فليسوا من اللحيوات، قيل إن الخواطرة هم نسل رجل مزيني يدعى خاطرا ساكن اللحيوات وتناسل عندهم، وأما الخلايفة فالمشهور أنهم انضموا إلى اللحيوات بطريق «الأخوة»، فنسبوا إليهم على عادة القبائل الضعيفة الأصيلة مع القوية.
وبلاد اللحيوات شرقي بلاد التياها وغربيها، فبدنة الصفايحة تسكن غربي التياها من جبيل حسن إلى بئر مبعوق، وأشهر مراكزهم: جبل المغارة، والجفجافة، وسر الحقيب، وعين سدر، وجبل بضيع، وأما سائر اللحيوات فيسكنون شرقي التياها، ويمتدون من مطلة نخل الشرقية إلى وادي العربة شرقا وغربا، ومن جبل الأحيقبة إلى خليج العقبة شمالا وجنوبا، وأشهر مراكزهم في سيناء بئر الثمد، والتحديد الأخير أخرج الخلايفة القاطنين وادي العربة من إدارة سيناء وألحقهم بإدارة العقبة.
وكان درك اللحيوات في درب الحج المصري من مطلة نخل الشرقية إلى العقبة، ولكن عرب الحويطات العلويين القاطنين العقبة منذ عهد بعيد يقولون إنهم كانوا يتسلمون محمل الحج المصري من اللحيوات «من رجم الدرك» في رأس نقب العقبة، وإنهم اشتروا هذا الحق من الترابين الذين سكنوا العقبة قبلهم.
ومشايخ اللحيوات كلهم من بدنة النجمات ذرية نجم بن سلامة بن غانم بن شوفان بن سعد صادق الوعد، وكان نجم هذا هو أول من أخذ «الصرة» من الحكومة المصرية لحماية طريق الحج، وهو مدفون عند بئر الصني على 16 ميلا شرقي المربعة، ومات عن أربعة أولاد، علي وحمدان وعليان وسالم.
وخلفه على مشيخة اللحيوات ابنه «علي» فقتل في القاهرة خطأ، قيل دخل القلعة وهو راكب فرسه فناداه الديدبان «أن قف»، فلم يلتفت إلى النداء استصغارا لشأن الديدبان، فرماه بالرصاص فقتله، فأضافت الحكومة أربعة جنيهات إلى صرة النجمات لهذا السبب، ولا زالت تضاف إلى صرتهم إلى اليوم، وفي أيام علي هذا شبت حرب بين اللحيوات والسواركة سيأتي ذكرها في باب التاريخ.
وخلفه أخوه «حمدان» فاشتهر بالصلاح والتقوى، وله قبر في جبانة الشوافين عند ثميلة الردادي يزوره اللحيوات كما مر.
وخلفه «مسمح بن عليان بن نجم»، فتولى مشيخة القبيلة مدة طويلة ومات ابن ثمانين سنة، وفي أيامه حالف اللحيوات الترابين ونصروهم في حربهم المشهورة على السواركة سنة 1856م كما سيجيء.
وتولى المشيخة بعده ابنه «عليان» فمات في سن الخمسين.
وخلفه على المشيخة «سليمان بن سالم بن نجم» الملقب بالقصير لقصر قمته، ولما بلغ سن الثمانين تنازل عن المشيخة لابنه علي المشهور «بعلي القصير»، وتوفي علي سنة 1910، وتولى المشيخة بعده أخوه «عليان» وهو شيخ اللحيوات الحالي.
الحويطات:
وأما الحويطات فمنهم في بلاد التيه شراذم من بدنات شتى، جاءوها حديثا من مصر والحجاز، وأقدمهم فيها الدبور، وهم يتجرون بالحطب والفحم مع السويس، وشيخهم الحالي سعد أبو نار، وكان قد دخل سيناء جماعة من بدنة الفحامين، فنشب بينهم وبين التياها خصام، فعادوا إلى جزيرة العرب سنة 1906.
وتمتد بلاد الحويطات من «طاسة العلو» تجاه الإسماعيلية إلى وادي غرندل شمالا وجنوبا، ومن جبيل حسن إلى البحر الأحمر شرقا وغربا، وأشهر مراكزهم: بئر مبعوق وبئر المرة في وادي الراحة، وعين سدر في وادي سدر.
ومن الحويطات قبيلة كبيرة في مصر في مديرية القليوبية، وعمدتهم فيها الشيخ سعد بن شديد، وله منزل في القاهرة ومنزل في أجهور الصغرى، وهو من المشايخ النبلاء.
ومنهم حويطات حسما والعقبة، وهم هناك فريقان: «العلويون» المار ذكرهم، وكبيرهم الشيخ حسن بن جاد، «والعمران » وكبيرهم الشيخ قاسم الهليل وسيأتي ذكرهم.
وقد اشتهر عن الحويطات الميل إلى التعدي والسرقة، حدثني بعضهم عن رجل من الحويطات يدعى سليم العشا، أنه قصد في إحدى الليالي حيا من أحياء عرب بلي والناس نيام، فرأى أرجوحة معلقة في سقف الخيمة فظنها زق سمن، فتسرق حتى دخل الخيمة، وقطع الأرجوحة بسكين وحملها على ظهره، وجد في السير حتى أعياه التعب، فأنزل الأرجوحة عن ظهره وفتحها، فإذا بها عجوز شمطاء قد أنهكها العجز والمرض، وكان أهلها قد رفعوها عن الأرض خوف الرطوبة، فصب الحويطي عليها وابلا من الشتائم ثم تركها وانصرف، قالوا: وهي حادثة واقعية وقعت قريبا في جهة ضبا من أرض الحجاز. (3-3) قبائل بلاد العريش
يسكن بادية العريش قبائل السواركة، والرميلات، والمساعيد، والعيايدة، والأخارسة، والعقايلة، وبلي البررة، وأولاد علي، والقطاوية، والبياضيين، والسماعنة، والسعديين، والدواغرة.
السواركة:
أما «السواركة» فأكثر قبائل سيناء عددا، وفروعها الرئيسة: العردات، والدهيمات، ومنهم الجريرات، والمحافيظ، والفلافلة، والخناصرة، وعمدتها الشيخ سلام عرادة من العردات، ويقال للعردات غز العرب لامتيازهم عن سائر البدو جيرانهم بنظافة المأكل والملبس، واشتهر الجريرات بالصلاح والتقوى، ومنهم أبو جرير الذي يحلف العرب بردنه الآن، وأبو جرير الولي المدفون في مدينة العريش.
ويمتاز السواركة عموما بكثرة العدد وضعف الرأي، ويلقبون بأولاد الظروة، والظروة عندهم هي المرأة التي خالط الشيب سواد شعرها، وأما نسبتهم إلى الظروة فقد قيل فيه: إن رجلين من ذرية عكاشة الصحابي، وهما نصير ومنصور، هاجرا من بلادهما ونزلا ضيفين على رجل من عرب بلي في وادي الليف، وكان نصير متزوجا من عرب قبيلته، وأخوه منصور عازبا، فرأى عند مضيفه بنتا ظروة فتزوجها، وجاء الأخوان بامرأتيهما إلى بلاد العريش، فكان من نصير بدنة العردات، ومن منصور سائر بدنات القبيلة.
والرميلات:
أما الرميلات فأهم فروعها البسوم، والشرطيين، والعوابدة، والسننة، والعجالين، وشيخهم الحالي سليمان معيوف الملقب بأبو صيبع من البسوم، وهي أكبر البدنات، وكان الرميلات قديما يسكنون «القرارة» في برية خان يونس من أعمال فلسطين، ثم ارتحلوا إلى بلاد العريش بسبب حروب نشبت بينهم وبين الترابين، وانضموا إلى السواركة «بالأخوة»، وصاروا معهم قبيلة واحدة، واشتهر الرميلات بحب الخصام، وقد عير شيخهم أبو صيبع في ذلك فقال: «الرميلات رجال إذا كان الحق لهم أخذوه عنوة واقتدارا، وإن كان عليهم لم يمكنوا الخصم منه إلا بكل مشقة.»
ويسكن السواركة القسم الشرقي من بلاد العريش؛ أي القسم الواقع بين خط الحد الشرقي وبئر العبد شرقا وغربا، وبين البحر المتوسط ورجم القبلين شمالا وجنوبا، وأهم أملاكهم الجورة المار ذكرها، ويسكن إخوانهم الرميلات في جهة رفح على الحدود، وأما باقي قبائل العريش فتسكن القسم الغربي، وتعرف «بعربان بر قطية»، وهي فروع صغيرة من القبائل المعروفة بهذه الأسماء في مديريتي الشرقية والقليوبية، إلا المساعيد فإن إخوانهم في مصر يعرفون بأولاد سليمان كما مر، وقد كانت مع أصولها تابعة في الإدارة للمديريتين المذكورتين، ثم ألحقت بإدارة العريش بعد فتح ترعة السويس وهي:
المساعيد:
وعمدتهم الشيخ عودة عطية، وقد تقدم أنهم واللحيوات من أصل واحد، وهم أقوى قبائل العريش بعد السواركة.
والعيايدة:
ومن مشايخهم مسلم أبو السباع، وتمتد بلادهم من ضواحي القنطرة إلى تل حبوة، فالمرقب، فأم ضيان، فالشيخ حميد، فجبل الريشة، ويحدهم من الشمال المساعيد، ومن الجنوب الصفايحة اللحيوات، ومن الشرق بلي البررة، ومن الغرب ترعة السويس.
والأخارسة:
ومن مشايخهم: إبراهيم عطية، وعبد العال محمد، وتمتد بلادهم على شاطئ البحر المتوسط من «غراقد الحنة» شمالي بركة الجمل إلى قلعة مفرج، المعروفة أيضا بقلعة البلاح على نحو ساعتين من قلعة الطينة غربا، وأهم مراكزهم «القلس».
والعقايلة:
وشيخهم عطوان سعدون، «وبلي البررة» وشيخهم جدوع شلبي.
وأولاد علي :
وشيخهم عمر أبو الرايات.
والقطاوية:
وهم سكان حديقة قطية، وعمدتهم سعيد أبو بطيحان.
والبياضيين:
ومن مشايخهم: الحاج علي سالم الهرش.
والسماعنة:
ومن مشايخهم: محمد خضير، وحسين شبانه.
والسعديين:
وشيخهم مقبول نصر، وهم مجاورون للبياضيين والسماعنة.
والدواغرة:
وقد تقدم أنهم من عرب مطير، ويسكنون الزقبة، وقد كانوا قديما يعيشون مع جيرانهم البدو «بالخاوة»، ولكنهم صاروا الآن أحرارا، والحكومة تحميهم، ومن مشايخهم عيد سويلم، وسالم مصبح.
ومن القبائل التي تزرع الزقبة مع الدواغرة: الأخارسة، والبياضيين، والسماعنة، والسعديين.
وأما دركات القبائل على طريق العريش فهي: العيايدة من القنطرة إلى تل حبوة، فالمساعيد إلى بئر الدويدار، فالأخارسة إلى بئر النصف، فالعقايلة وبلي البررة وأولاد علي إلى سبخة قطية، فالقطاوية إلى بئر حجاج، فالبياضيين إلى بئر العبد من الجبل إلى البحر، فالدواغرة إلى الجنادل من الجبل إلى البحر، فالسواركة إلى الشيخ زويد، فالرميلات إلى رفح. (3-4) ملحقات قبائل سيناء
العبيد السود:
هذا وكان من عادة العرب قبل منع الاسترقاق اقتناء العبيد السود؛ لمساعدتهم على رعي السائمة وحرث الأرض، فتناسلوا بينهم، وما زال عدد كبير منهم في برية سيناء، وهم راضون بعيشتهم، ولكن البدو غير راضين عن منع الاسترقاق.
كنت يوما أحدث كهلا من الرميلات يدعى حسين سلامة، فلما استأنس بي قال: «بالله قل لي متى تنتهي حرية العبيد، فإن عندي عبدا غير راض عنه، وأريد أن أبيعه وأشتري بثمنه بعيرا»، قلت: لا نهاية لحرية العبيد، فقد أصبحوا أحرارا كالعرب، فإن كنت غير راض عن عبدك فأعتقه لوجه الله تعالى، فهز رأسه وقال: «إذن خليه!»
والعرب لا يزوجون السود ولا يتزوجون منهم، وإذا تزوج عربي بجارية سوداء عد نسله عبيدا، وعوملوا معاملة العبيد، والعادة عندهم أنه إذا زوج عربي بنته رجلا من غير قبيلته حق لعبده الكسوة من العريس، وتعرف عندهم «بالحدادة»، وهي «يا هدم شهير يا جمل ظهير»؛ أي إما ثوب ثمين من الجوخ، أو نحوه، أو جمل نشيط، وإذا لم يكن للعربي عبد حقت الكسوة لأقدم عبد في قبيلته.
الهتيم:
هذا ويسكن بادية العرب قبائل شتى مستضعفة، لا طاقة لها على حفظ كيانها، فتعيش في حمى القبائل القوية على جعل معلوم يسمونه «الخاوة»، وهم معروفون في البادية باسم «هتيم»، وهم كالسود في أن العرب لا يزوجونهم ولا يتزوجون منهم، وإذا تزوج أحدهم بهتيمية عيره العرب، وعدوا أولاده هتما، وإذا غنمت قبيلة من أخرى في الحرب وكان في غنيمتها مال لإحدى قبائل هتيم ردته إليها بلا تردد.
وأشهر قبائل هتيم في بادية العرب :
الشرارات: وقنيتهم الإبل، ولهم ولع بالصيد، وهم خبراء البادية؛ لأنهم أعرف أهل البادية بطرق المفاوز والقفار، حتى إن البدو أنفسهم يتخذون منهم الأدلة في أسفارهم البعيدة، وهم يسيرون على النجم، قيل ولهم مهارة عجيبة في الاستدلال على الطريق، حتى إنهم قد يعينون موقع مخيم من العرب بمجرد تغيير حرارة الهواء التي تسببها نار المخيم، والشرارات أقوى قبائل هتيم وأكثرها عددا، وكثيرا ما يأبون دفع الخاوة لحماتهم العرب، ويشهرون عليهم حربا، وأكثر الشرارات في بلاد نجد شرقي طريق الحج الشامية، وليس منهم أحد في جزيرة سيناء، ولكن لبدو سيناء علائق قديمة بهم يأتي ذكرها في باب التاريخ.
ويسكن جزيرة سيناء من قبائل هتيم:
مطير: ومنهم الدواغرة سكان الزقبة من بلاد العريش، وقد مر ذكرهم.
والعرينات: ويسكنون جبل الحلال مع التياها البنيات، ومنهم جماعة على شاطئ البحر المتوسط يصيدون السمك.
والملالحة: ويسكنون العجرة مع الترابين والسواركة، وهم أحقر قبائل هتيم.
وفي تقاليد البدو في أصل هتيم: أنه لما أعاد مسعود بن هاني بناء الكعبة، تأخر عرب هتيم عن الاشتراك في بنائها، فبناها بقبيلته وألزم هتيم بالخاوة، وقال لقبيلته: «لك هتيم بمالك تشريه ودون رقبتك تؤديه»، ولا يبعد أن يكون هتيم من سكان جزيرة العرب الأصليين الذي غلبوا على أمرهم، ولم يمكنهم المحافظة على كرامتهم بين العربان، فعاشوا معهم على صغار، ومن أمثلة أهل سيناء في هتيم: «الهتيمي كثير ناسه قليل باسه»، «ولا يتلف الأصل غير الهتيمي المقر والعبد الزفر.»
الصليب:
وفي حكم هتيم بدو يعرفون بالصليب يسكنون غالبا برية الشام، ولا يأتون سيناء إلا نادرا ، وصناعتهم عمل الفئوس الزراعية ورماح الحراب، وعمال الأخراج والمخالي، وقنيتهم الحمير ليس إلا، وحميرهم مشهورة بحسن الجري ولطافة اللون، فإذا ارتحلوا حملوا عليها خيامهم وأثقالهم، وإذا نزلوا ضربوا خيامهم وراء مخيمات العرب، واشتغلوا بصناعتهم وذهبت نساؤهم تستعطي، وهم محتقرون كبدو هتيم ويستعار اسمهم للشتم، فيقال في الشتائم «يا صليب العرب»، كما يقال «يا هتيم العرب»، ويظهر من صناعتهم ونوع معيشتهم ومجمل حالهم أنهم كانوا حضرا فقذفتهم الحروب إلى البادية، فعاشوا مع البدو «بالخاوة».
وقد ظن بعض المحققين أنهم من بقايا الصليبيين بدليل اسمهم ومسكنهم، وطول شعرهم، وبياض لونهم، ووجود العيون الزرق فيهم، ومن أصحاب هذا الرأي العلامة سليمان أفندي البستاني، ناظر النافعة والزراعة في المملكة العثمانية الذي خبر البدو في بادية بغداد زمانا طويلا.
النور:
وينتاب جزيرة سيناء النور، فيتعاطون فيها الشحاذة، وبصر البخت، وعمل المناخل، والرقص في الأفراح، وهم أحط أنواع البدو، وحالهم معروف في كل البلاد.
هذا فيما يتعلق بقبائل البدو في سيناء، وأما الحضر في مدن الطور، ونخل والعريش، والشيخ زويد، وعيون موسى، والشط وغيرها، فسيأتي الكلام عليهم في الفصل التالي. (4) عدد سكان سيناء من بدو وحضر
أما عدد سكان الجزيرة فلا يمكن معرفته بالتدقيق؛ لعدم وجود إحصاء قانوني؛ ولأن البدو تنفر من التعداد، وتحسبه مقدمة لإدخالهم في العسكرية، ولما باشرت الحكومة المصرية تعداد السكان سنة 1897 أبى أهل مدينة العريش أولا قبول التعداد، ثم أذعنوا، أما عرب البادية فبقوا على نفورهم، فقدرهم المحافظ إذ ذاك باثني عشر ألفا، وكذلك لما بوشر إحصاؤهم سنة 1907 أرسلوا عرائض مشددة لرجال الحكومة بمصر، يتوسلون إليهم أن ترفع يد الإحصاء عنهم وإلا رحلوا عن بلادهم.
وإذا سألت مشايخ البدو عن عدد رجال قبائلهم أجابوا: إننا لا نعلم عددهم؛ لأننا لا نعدهم، وإذا عينت لهم عددا وسألتهم عن رأيهم فيه، قالوا: ربما بلغوا هذا العدد أو نقصوا عنه أو زادوا.
ومعلوم أن البدو يتجنبون النزول على الطرق خوف القرى على حد قولهم:
لا تنزل حدا الطريق تعمد
الدرب تأخذ حقها ما تستحي
شكل 9-2: الشيخ إبراهيم أبو الجدائل التاجر بالسويس، وبعض الطورة والحويطات.
ولم أقم في الجزيرة وقتا كافيا يمكنني من زيارة البدو في جميع مخيماتهم ومجتمعاتهم، ولكن مما لا ريب فيه أن سكان الجزيرة كانوا ولا يزالون قليلين جدا بالنسبة إلى اتساع بلادهم، وقد جلت كثيرا في بادية سيناء فلم أر إلا القليل من سكانها، وسبب قلتهم؛ قلة المياه والأمطار، والأراضي الصالحة للزراعة في بلادهم كما مر.
بقي علينا أن نعلم ولو تقديرا إلى أي حد تصل هذه القلة من السكان، وقد حدث أني لما كنت في رفح سنة 1906، اختلف بدنتا السننة والعجالين من الرميلات في أيتهما أكبر من الأخرى ليكون الشيخ منها؛ لأنه لم يسمح لهما إلا بشيخ واحد، فأحضر كل زعيم رجله، فكان في كل بدنة نحو مائة رجل، وقد تقدم أن في قبيلة الرميلات 5 بدنات، فيكون عدد رجالها 500 تقريبا، وفي السواركة 5 فروع أو أفخاذ يقدر في كل منها رجال بعدد الرميلات، فيكون عدد السواركة 2500، وعدد الكل 3000 رجل، فإذا قدرنا مع كل رجل ثلاثة أنفس كان عددهم جميعا 12000 نفس.
شكل 9-3: بعض التبنة من سكان فيران.
شكل 9-4: صياد طوري يعرض صيده للبيع.
شكل 9-5: تيتل صغير رابض بين الشجر.
هذا، وقد قدرت عدد سكان بلاد الطور بما ينفقونه من الحبوب، أخبرني الشيخ إبراهيم أبو الجدائل، وهو أكبر تاجر في السويس يتجر مع الطورة، ومن أبرع هذا القطر وأنجبهم قال إنه يشحن للطورة في السنة نحو 4000 إردب من الحبوب إلى مين الشط وأبو رديس والطور، وأن «علي أبو شاهين» من تجار السويس يبيع الطورة نحو 500 إردب حبا في السنة، فيكون الكل 4500 إردب، ومعلوم أن البدوي يأخذ ثلثي طعامه حبوبا، والثلث الآخر لحما ولبنا وأعشابا، فلو أخذ الطورة كل طعامهم حبوبا لزمهم 6750 إردبا في السنة، وإذا قدرنا لكل شخص ثلثي إردب من الحبوب في السنة كما هو المعتاد، كان عدد الطورة 10125 نفسا، وقد قدرتهم أكثر قليلا من هذا العدد كما سترى؛ لأن عربان مزينة يشترون بعض حبوبهم أحيانا من غزة، وهكذا بالاستقراء والمزاولة، ومقارنة قوى القبائل بعضها ببعض مع مشايخها، توصلت إلى الأرقام الآتية التي لا أضمن صحتها، ولكني أرجح قربها من الحقيقة: (1) عدد البدو في بادية سيناء.
عدد النفوس
عدد النفوس (1) في بلاد الطور
قبيلة مزينة
4200
قبيلة العليقات
2400
قبيلة العوارمة
1500
قبيلة القرارشة
1500
قبيلة أولاد سعيد
900
قبيلة الجبالية
480
10980 (2) في بلاد التيه
قبيلة اللحيوات
4200
قبيلة التياها
4200
قبيلة الترابين
3000
قبيلة الحويطات
1500
12900 (3) في بلاد العريش
قبيلتا السواركة والرميلات
12000
عربان بر قطية
4120
16120
فمجموع عدد النفوس في بادية سيناء كلها
40000 (2) عدد الحضر في مدن سيناء (حسب تعداد محافظها سنة 1907 وغيره).
ذكور
إناث
عدد النفوس (1) في بلاد الطور
سكان مدينة الطور وضواحيها
562
511
1073
سكان عيون موسى من أهل السويس والبدو
95
سكان شط السويس من تجار السويس والعرب
60
75
135
رهبان دير طور سيناء
60 (2) في بلاد التيه
سكان نخل
190
118
308 (3) في بلاد العريش
سكان مدينة العريش والمساعيد والشيخ زويد
2961
2890
5851
سكان القنطرة
488
فمجموع عدد الحضر في مدن سيناء وقراها
8000
ومجموع عدد النفوس في بادية سيناء كما تقدم
40000
فيكون مجموع سكان سيناء ما عدا موظفيها وعمالها وعساكرها الذين من غير أهلها
48000
وعليه يمكن أن يقال بالإجمال: إن عدد سكان جزيرة سيناء من بادية وحضر «خمسون ألف نسمة»؛ أي بعدد سكان مدينة بورسعيد من مدن مصر، وقد قدرنا مساحة سيناء ب 25 ألف ميل مربع، فيكون لكل نفسين من سكان سيناء ميل مربع من الأرض يرتعان فيه بلا منازع ولا مزاحم!
الباب الثاني
في جغرافية سيناء الإدارية
الفصل الأول
في مدن سيناء وقراها وآثارها
ليس في بادية سيناء كلها الآن من بناء الحضر إلا ثلاث مدن، وثلاث قرى، وستة مراكز جديدة للبوليس، وهي:
في بلاد الطور:
مدينة الطور، وواحة عيون موسى، وقرية الشط، وفيها مركز جديد للبوليس، وقلعة النويبع وهي مركز للبوليس.
وفي بلاد التيه:
مدينة نخل، وثلاثة مراكز جديدة للبوليس في بئر الثمد، ومشاش الكنتلة، وعين القصيمة.
وفي بلاد العريش:
مدينة العريش، وقرية الشيخ زويد، ومركز للبوليس في رفح، ولكن أشهر ما في الجزيرة من بناء أو أثر «دير طور سيناء» في قلب بلاد الطور، وقد أفردنا له فصلا خاصا كما قدمنا، ومن المدن الخارجة عن إدارة سيناء وقد كان لها قديما علاقة شديدة بسيناء ولا تزال إلى الآن:
مدينة القنطرة: على ترعة السويس في بر سيناء التابعة في الإدارة لبورسعيد.
ومدينة العقبة: على رأس خليج العقبة، وقد دخلت حديثا في حد الحجاز.
فلنتقدم الآن إلى ذكر هذه المدن والقرى، وما فيها من الآثار مع ذكر سكانها ومراكز البوليس الجديدة، فنقول: (1) مدن بلاد الطور (1-1) مدينة الطور
أما مدينة الطور فهي بندر بلاد الطور، وقد قامت على ساحل خليج السويس على 125 ميلا من مدينة السويس منذ آلاف من السنين، وقيل إنها من عهد الفينيقيين، وبيوت المدينة نفسها لا تزيد عن الثلاثين بيتا لاصقا بعضها ببعض كأنها بناء واحد، وأهمها، في الجنوب مركز لرهبان دير سيناء يشمل كنيسة، ومدرسة للصبيان، ومنازل استراحة للرهبان وزوار الدير.
شكل 1-1: مدينة الطور.
أما الكنيسة فقد بنيت على اسم «مار جرجس» سنة 1875م، على أنقاض كنيسة قديمة ترجع في تاريخها إلى سنة 1500م أو أبعد، وقد رأيت فيها أيقونة للقديسة كاترينا تاريخها سنة 1779م، وأيقونة لمار جرجس تاريخها سنة1780م.
وأما المدرسة فقد أسست منذ سنة 1897، وقامت بمال الدير، وفيها نحو 40 تلميذا من أبناء مدينة الطور وباديتها، يدرس فيها الآن أنيس أفندي الخوري من أدباء اللبنانيين وراهب من رهبان الدير، يدرسان مبادئ العربية والإنكليزية واليونانية والحساب والجغرافية.
وإلى جنوبي مركز الدير منازل لناظر الطور وكاتبها وبوليسها، ومنزل لمفتش الجزيرة بني سنة 1911 على تل صغير، وحفرت بجانبه بئر عمقها 12 مترا.
وفي شمال المدينة جامع صغير بمنارة من عهد المغفور له توفيق باشا خديوي مصر السابق، وقد ضم مقاما قديما للشيخ الجيلاني.
وسميت المدينة بالطور نسبة إلى طور سيناء الذي هو أشهر جبالها كما مر، وكانت تسمى قديما «ريثو» وبقيت معروفة بهذا الاسم إلى القرن الخامس عشر للمسيح. (أ) ميناء الطور
ولهذه المدينة ميناء حسن له جرف مرجاني يمتد عشرات من الأمتار تحت الماء، حتى لا يمكن للسفن البخارية الاقتراب من البر بسببه، وهو ضيق جدا لا يسع إلا السفن الصغيرة، ولأهل المدينة فيه نحو 30 مركبا شراعيا تستخدم في نقل الحبوب والبضائع من السويس وجدة، ونقل حجارة البناء من بر أفريقيا، وفيه ورشة لبناء المراكب.
هذا والسفر في خليج السويس بهج نزيه إلى الغاية، يرى المسافر فيه بري آسيا وأفريقيا عن جانبي الخليج، كما يرى المسافر في النيل جانبي واديه، ويرى من مدينة الطور جبل جمسة يطل عليه من الغرب من عبر البحر، وجبل أم شومر وجبل سربال يطلان عليه من الشرق والشمال الشرقي من وراء سهل القاع، فلا تطلع الشمس ولا تغيب إلا يرى من جمال الطبيعة وعظمتها ما ينطق لسانه بحمد باريها. (1-2) ضواحي مدينة الطور
ولمدينة الطور من الضواحي العامرة: «محجر الطور، وقرية المنشية أو الكروم الجديدة، ومسيعط، وقرية الجبيل، وحمام موسى، ووادي الحمام.»
شكل 1-2: محجر الطور. (أ) محجر الطور
أما محجر الطور فقائم على شاطئ البحر على نحو 640 مترا جنوبي المدينة، ومساحته نحو 4 كيلومترات مربعة، يحده من الغرب خليج السويس، ويحيط به من جهة البر شبكة من الأسلاك مرفوعة على عمد خشبية متينة، علوها نحو أربعة أمتار، وهو محجر مصر العام والحجاج المصريين.
أسس منذ سنة 1858م، ولكنه لم يبدأ بتنظيمه على الطرز الجديد، وتجهيزه بأحدث المعدات والأدوات الصحية إلا بعد صدور الأمر العالي بذلك سنة 1893، ومن ذلك الحين أخذ ينمو ويتحسن بهمة وسعي العالم العامل الدكتور روفر «رئيس مجلس الصحة البحرية والكورنتينات بمصر»، ومعونة ناظر المحجر النشيط الحاذق الدكتور زكار يادس بك، حتى أصبح الآن من أكبر المحاجر الصحية وأكثرها إتقانا في العالم أجمع.
وهو على شكل طائر عظيم جثم في البحر وبسط جناحيه في البر.
وله ثلاث أرجل:
وهي ثلاث مباخر من أحدث طرز، مدت منها جسور في البحر إلى آخر حد الجرف المرجاني؛ ليتسنى للسفن الصغيرة الاقتراب من البر.
وفي رأسه:
معزل الموبوئين أو مستشفى للأمراض «غير العادية».
وفي عنقه:
أربعة مستشفيات: مستشفى للجراحة وثلاثة للأمراض العادية، وصيدلية كبيرة، ومنازل للأطباء والممرضين والممرضات والعساكر، وبيت المال، ومخزن للكهرباء ينير المحجر كله، وجهاز للتليفون يربط مراكز المحجر الرئيسة بعضها ببعض.
وفي جناحيه:
صفان من «الحزاءات» أو المنازل للحجاج، في كل صف عشرة؛ فالتي إلى اليمين مبنية بالحجر، وقد خصت بالحجاج القادمين من جدة، والتي إلى اليسار مجهزة بالخيام، وهي للحجاج القادمين من ينبع، وهي تأوي آلافا من الحجاج في وقت واحد.
وفي بدنه:
بئر عذبة الماء غزيرته تدعى «بئر مراد»، وقد ركب عليها وابور لرفع الماء، ومنها يشرب أهل المحجر ومدينة الطور، وحديقة متسعة من النخيل وأشجار الفاكهة، ومنزل لناظر المحجر، ومنزل للمأمور، ومخزن للخيام، ومكتب للإدارة.
هذا وتخترقه سكة حديد ضيقة من رأسه إلى قدمه، تنشأ من البحر من آخر حد الجرف المرجاني، وتمر بالمباخر والحزاءات وجميع المراكز الرئيسة في المحجر إلى أن تنتهي بمعزل الموبوئين، وخارج المحجر منزل الرئيس وخزانات الماء.
وكانت السردارية المصرية قد مدت إلى مدينة الطور خط التلغراف من السويس سنة 1897، وأسست مصلحة البريد فيها فرعا سنة 1900، فلما تم نظام المحجر سنة 1907 نقل التلغراف والبريد إليه، وجعلا عند مدخله كما ترى في الرسم.
وكان البريد قديما يحمل بالبر على الهجن، فلما انتظم المحجر وأسست مصلحة البريد فرعا في مدينة الطور، صارت تمر بها مرة في كل أسبوع باخرة من بواخر الشركة الخديوية في السويس، وذلك في ذهابها إلى سواكن وجدة وفي رجوعها منهما، وفي موسم الحج يساعد على نقل البريد سفينة بخارية خاصة تمخر بين الطور والسويس مرتين في الأسبوع، وللمحجر في موسم الحج خفر داخلي من البوليس يأتيه من مصر، وخفر خارجي من البوليس وبدو الطورة، وفي نظارة الداخلية في القاهرة قلم للمحاجر المصرية يخص بالعناية محجر الطور، ورئيس هذا القلم الهمام النشيط حسن بك شوقي.
وأما «مجلس الصحة البحرية والكورنتينات» فمركزه الإسكندرية، وسكرتيره العام النبيل المقدام جورج زنانيري باشا، وقد أصدر هذا المجلس في 19 فبراير سنة 1914 إحصاء عن الحجاج الذين دخلوا محجر الطور من سنة 1900 إلى سنة 1914، فكان عددهم 358341 حاجا، وهم: 76076 عثمانيا، و152683 مصريا، و18787 جزائريا، و7677 تونسيا، و11709 مراكشيا، و822 بوشناقيا، و6268 عجميا، و78788 روسيا، و5531 من أمم مختلفة.
ويؤخذ من هذا الإحصاء: أن الحج اعتبر نظيفا من كل داء في كل تلك المدة مرتين فقط؛ أي سنة 1901 وسنة 1904، وأنه اعتبر ملوثا بالهواء الأصفر في سني 2 و8 و11 و12 و1913، وبالطاعون في السنين الأخرى، وأن الذين مرضوا داخل المحجر في تلك المدة بلغ عددهم 11165 حاجا، منهم 10994 أصيبوا بأمراض عادية، و164 بالهواء الأصفر، و7 بالطاعون، شفي منهم 8117 وتوفي 3048، وأن أقل عدد دخل المحجر من الحجاج كان في سنة 1903، دخله فيها 11266 حاجا، وأكبره كان في سنة 1907 دخله فيها 43271 حاجا، ودخله هذه السنة 26426 حاجا. (ب ) الكروم الجديدة أو المنشية
هذا وقد شملت أرض المحجر بلدة قديمة تدعى «الكروم» من بناء عساكر قلعة الطور في الأرجح، سميت كذلك؛ لكثرة «كروم» النخيل فيها، وقد اشترتها الحكومة المصرية من أهلها سنة 1905، ففي تلك السنة انتدبت ثلاثة من موظفيها: لينان بك مندوبا عن المالية، والدكتور زكار يادس بك مندوبا عن مجلس الصحة البحرية والكورنتينات، والمؤلف مندوبا عن الحربية، وعهدت إليهم أن يقدروا أثمان الحدائق والمنازل في بلدة الكروم، فقدروها ب 113,120 غرشا أميريا عدا حديقة متسعة من النخيل وأشجار الفاكهة لرهبان دير سيناء، فقدروها بألف جنيه مصري، فصدقت الحكومة قرارهم ونقدت الأهلين أثمان حدائقهم ومنازلهم، وأعطتهم بدل أرضهم أرضا شرقي بندر الطور على نحو نصف ميل منها، فبنوا فيها بلدة، وبنت الحكومة لهم فيها جامعا فخما بمنارة، سموها الكروم الجديدة، أو المنشية، أو «منشية عباس». (ج) مسيعط
وإلى شمال المنشية، على نحو نصف ميل منها، ومثل ذلك شرقي مدينة الطور، حدائق من النخيل تدعى «مسيعط»، اتخذ محافظ سيناء الأسبق منها أرضا مساحتها فدانان، وغرسها بستانا من النخيل وأشجار الفاكهة والخضرة، وحفر فيها بئرا جعل عليها طلمبة تدار بالهواء. (د) حمام موسى
وإلى شمالي مدينة الطور على نحو كيلومترين منها حمام موسى، وبقربه حدائق متسعة من النخيل، فيها مساكن للمواطرة المار ذكرهم، وفيها منزل لرهبان دير سيناء قائم وسط حديقة جميلة من النخيل وأشجار الفاكهة. (ه) وادي حمام موسى
وعلى نحو ميل من الحمام شمالا «وادي الحمام»، وهو مشهور هناك «بالوادي»، وفيه نخل كثير لأهل الطور ومساكن للمواطرة وغيرهم من البدو.
وهناك خرائب دير قديم لم يبق ظاهرا منه سوى قنطرة بالحجر المنحوت، وكنيسة صغيرة لا تزال جدرانها قائمة إلى الآن، قيل إنهما من بناء القرن الرابع أو قبله، وفي نخل هذا الوادي قبر يزار للشيخ الحريزي من عرب المواطرة. (1-3) آبار مدينة الطور
وفي مدينة الطور وضواحيها آبار قديمة العهد، كان يستخدمها الأهلون للغسل، ويشربون من «بئر مراد» في الكروم، فلما ضمت الكروم إلى المحجر جرت مصلحة المحاجر بعض ماء البئر إلى خارج النطاق الصحي، ثم إلى مدينة الطور ليستقي منها أهل المدينة والمنشية، وسمحت لرهبان دير سيناء فجروا الماء منها إلى منزلهم. (1-4) سكان الطور
أما سكان مدينة الطور والكروم الجديدة فلا يزيد عددهم عن 300 نفس، نصفهم نصارى على مذهب الروم الأرثوذكس، وهم سكان مدينة الطور نفسها، والنصف الآخر مسلمون وهم سكان «الكروم»، أما المسلمون فيظن أنهم من متخلفي العساكر الذين كانوا يخفرون قلعتها والبحارة الذين جاءوها من السويس، وما زال أكثرهم يشتغلون في المراكب إلى الآن، ومن وجهائهم الشيخ أحمد موسى راضي والشيخ محمد عبد القادر، وأما النصارى فهم من متخلفي زوار الدير وموظفيه، نصفهم أروام من جزائر الأرخبيل الرومي، والنصف الآخر سوريون من القدس الشريف وغيرها، وأكثرهم تجار بالحبوب والمأكولات والأقمشة مع البدو.
وأهم أسر النصارى في الطور: أسرة عنصرة جاءوها من القدس، وكبيرهم الآن الخواجا ميخائيل عنصرة، وكان كبيرهم قبله المرحوم قسطنطين عنصرة، فكان وكيلا لدير سيناء وللقنصلية الروسية في الطور، وأسرة براميلي وكبيرهم الخواجا واسيلي، وكيل قنصلية ألمانيا فيها، ومنها أسر أبو يني، وغرغوري، وأبو عطا، وطناشي، وبولس.
هذا، وكانت نظارة الداخلية المصرية قد جعلت مدينة الطور منفى للمتشردين المصريين، فكان فيها منهم سنة 1905 خمسة شبان، ثم أبطل النفي إليها سنة 1907. (1-5) قلعة الطور
وكان في جنوبي مدينة الطور قلعة قديمة فوق البحر من بناء السلطان سليم في المشهور، أدركها الخراب منذ عشرات السنين، فاستخدم الأهلون حجارتها لبناء منازلهم، وساعدهم حديثا بعض موظفي الحكومة على محو آثارها، فاستخدموا ما بقي من حجارتها حتى حجارة أساسها في بناء منازل للحكومة في المدينة، ولم يبق ما يدل عليها سوى أثر الحفر في أساسها، وشهادة أهل الطور الذين عاصروا خرائبها. (أ) كتاب الأم
هذا، وكان في قلعة الطور سجل كتب فيه صور الدعاوي والحكم فيها، وصكوك المبايعات والرهونات في النخيل والأراضي الزراعية، في مدينة الطور وحديقة فيران وضواحيهما من أملاك الرهبان والطورة من بادية وحضر، وفيه صكوك الزواج والطلاق، وتحرير الأرقاء، وحصر تركات المتوفين ونحو ذلك.
وقد دل هذا السجل أنه كان في القلعة: حامية من العساكر الطوبجية، عليها ضابط يرجع في أموره إلى القائد العام في السويس، ومدير مؤن العساكر، ومحافظ إداري على العربان، وقاض على المذهب الحنفي يعينه قاضي السويس، وكاتب، وأن السجل نفسه كان بيد القاضي وكاتبه، قال ثقات مدينة الطور: فلما خربت القلعة استولى على السجل راهب سوري من رهبان دير سيناء يدعى ملاتيوس، كان وكيلا للدير في مدينة الطور، وكان العرب والرهبان يرجعون إلى هذا السجل كلما اختلفوا على ملكية أراضيهم وحدودها، لذلك سمي «كتاب الأم».
وتوفي الراهب ملاتيوس نحو سنة 1860، فتولى وكالة الدير مكانه الخواجة قسطنطين عنصرة، وآل «كتاب الأم» إليه، وتوفي هذا سنة 1898، فآل السجل إلى ابنه إلياس، ثم إلى حفيده ديمتري سنة 1903، وقد اتصل بي خبر هذا الكتاب اتفاقا من راهب في دير سيناء، فتطلبته حتى وجدته عند ديمتري عنصرة المذكور في مدينة الطور في أبريل سنة 1907، واتفق وجود مدير خزينة دير سيناء هناك في ذلك الحين، فرغب إليه مشايخ الطورة كافة في حفظ هذا الكتاب، فحفظه في خزانة وكالة الدير بمدينة الطور للرجوع إليه عند الاقتضاء.
وفي هذا السجل 567 ورقة بقطع هذا الكتاب، كلها ملأى بالكتابة حتى إنه لم يبق فيها موضع لكتابة سطر واحد، وهي نثار غير مجلدة، ولكنها محفوظة بغلاف متين من جلد. ولغة الكتاب العربية، وفيه بعض نصوص بالتركية واليونانية، وأقدم تاريخ فيه 9 شوال سنة 1001ه، وأحدث تاريخ غرة ربيع أول سنة 1267ه ؛ أي من سنة 1592م إلى 16 مارس سنة 1851م، فتكون مدة استعماله 259 سنة، وعمره الآن 322 سنة، ولكن يظهر أن هذا السجل بقي معمولا به في القلعة إلى سنة 1242ه/1826م، وهو تاريخ خراب القلعة أو هجرها، واستمر الراهب ملاتيوس والخواجة عنصرة من بعده على إحيائه، فكان آخر ما سجل فيه بيع نخل في وادي فيران اشتراه شيخ العرب جمعة ابن نصار أبو منجد العارمي، من بايعه المكرم سالم بن حسن النمر العارمي في 13 جمادى الأولى سنة 1276ه/16 مارس سنة 1851م.
وهذه أمثلة مما حواه هذا السجل العجيب، وله علاقة بموضوعنا: (1) حضر إلى مجلس الشرع الشريف أحمد بن محمد طبجي باشا، وأحضر الراهب زخريا والراهب مقارية الأقلوم، وادعى عليهم أنهم اشتكوا منه إلى مولانا القبطان «بالسويس»: «إني ظلمتهم وتعديت عليهم واشتكيتهم»، فسئل الرهبان المذكورون فأجابوا: ما اشتكينا منك ولا ظلمتنا، ولا لنا عليك حق، ولا سحق، ولا دعوى، ولا طلب. فبموجب اعترافهم هذا لم يثبت لهم على المذكور أحمد طبجي باشا حق ولا ظلم، ولا شيء قل أو جل. ثبت مضمون ذلك لدى الحاكم الشرعي المشار إليه أعلاه ثبوتا شرعيا مستوفيا شرائطه الشرعية وموجباته المحررة المرعية، تاريخ يوم الأربع تاسع شهر شوال سنة واحد بعد الألف. ا.ه.
9 يوليو سنة 1593م (2) ادعى عبد الكريم وكالة عن أخيه صالح، على عيسى بن يعقوب القندلفت، أنه قال له: يا، يا سدس، يا ابن، وضرب أمي، فسئل مسئوله فأجاب بالإنكار، فطلب منه (من عبد الكريم) البيان، فجاء بشهود وهم عازر بن سقر وفهد بن عازر، فبموجب شهوده ثبت عليه (على عيسى بن يعقوب) التعزير، فعزره الحاكم الشرعي وثبت مضمونه لدى الحاكم، وحكم حكما صحيحا شرعيا، تاريخ يوم الجمعة سابع عشر شهر شوال سنة واحد بعد الألف. ا.ه.
17 يوليو سنة 1593م (3) نقلت من حجة من عند الآغا علي بن إسكندر، النائب بقلعة الطور المعمور، على يد القاضي محمد بن القمني مضمونها:
بتاريخ أحد عشر شهر رجب الفرد، سنة أحد بعد الألف/13 أبريل سنة 1593م.
مكتوب قدوة الأمراء الكرام، عمدة البلغاء الفخام، المختص بعناية الملك العلام، الأمير خضر بك قبطان بندر السويس ولواحقه إلى المقر الكريم العالي الآغا علي الدردار بقلعة الطور المبارك، ومن مضمونه أنه ورد علينا مثال عال من الديوان العالي من حضرة مولانا أحمد باشا، جمع معه من الخيرات ما يشاء من مضمونها مسك شيخ العرب مرعي بن يحيي السليماني - من أولاد سليمان - شيخ الدرك ببندر الطور المعمور؛ لأنه من أهل الفساد وأهل الحرام، ووالس على قطع حبال مركب الوزير حسن المتولي باليمن وغيرها، وأن له سوابق ولواحق من مكاسر عباس ناصر ومن جميع المكاسر، واقتضى الحال مسكه وإرساله إلى مصر لمن له ولاية ذلك، قوبل ذلك بمزيد السمع والطاعة، وأمر الآغا علي المذكور رئيس طائفة العرب هو وجميع الطائفة بمسكه ويؤدونه الحصار الخنكاري ... فمسكه وحبسه في الحصار، وخشبه بالخشب والحديد، وقفل عليه الباب من داخل الحصار وأقام الحرس عليه، إلى أن طلع النهار وغفله ساعة وحدة، وإذ فك الحديد والخشب، ونزل من السور، وفر هاربا وللنجاة طالبا، فتكاثر العياط والزعاق، وخرج الآغا علي ماشيا يجري خلفه هو وطائفته ولحقوا به، وإذا بعبده أدركهم واعترضهم بقوس النشاب والمزراق، ورمى بالنشاب على عسكر السلطان، فببركة الله تعالى لم يصبهم منه شيء، ونصر الله عسكر الإسلام، وأطلعوه من البحر وأتوا به إلى، المذكور، وأرسله إلى الأمير القبطان بالسويس، وأرسل صحبته من يوصله من طائفته إلى أن دخل، تاريخ ما كتبت هذه الواقعة يوم ثالث شهر محرم سنة اثنين بعد الألف. ا.ه.
29 سبتمبر سنة 1593م (4) ورد مكتوب من مولانا القبطان ببندر السويس، وذكر أن للشيخ العالم العلامة شيخ الإسلام زين العابدين في الطور ثلاث فرد فول مدشوش تأخرت عن المويلح، وتسلمها الآغا عابدين أمانة عنده، يدفعها لعيسى بن حرز الله بن نصر النصراني الصيرفي، فسلما الآغا عابدين إلى عيسى بن حرز الله بمعرفة الحاكم الشرعي، مما جرى ذلك في تاريخ يوم الجمعة رابع ربيع الأول سنة ثلاثة بعد الألف من الهجرة النبوية «ثلاثة شهود».
17 نوفمبر سنة 1594م (5) ويستفاد من نص في هذا السجل مؤرخ 2 محرم سنة 1004ه/7 سبتمبر سنة 1595 أنه كان بالطور جامع، وأن قد جمع من أوقافه «مبلغ ذهب جديد 54.» (6) سبب تحرير الكتاب، وموجب تسطير الخطاب، هو أن سيدنا ومولانا القاضي الأكمل، مولانا أفندي داود - حفظه الله تعالى - أقام الجناب الكريم الأمير أحمد كتخدا، المعين على جماعة العرب ببندر الطور، أمينا على بعض ما يتحصل من محصول مولانا قاضي العسكر بالديار المصرية لطف الله به آمين، وأن يحاسب القاضي علي بن جحي على معلوم شهر ربيع أول وربيع ثاني من حجج وسجلات، وعوائد الزعايم (المراكب) المتوجهة إلى المويلح وغيرها، وأن يقبض المتحصل مولانا أحمد كتخدا المشار إليه وجميع ما يتحصل يضبطه جهته، ويرسله إلينا سريعا من غير تأخير، وألا يعمل شيء إلا بمعرفته، يكون ذلك في شريف علمكم الكريم مما جرى ذلك وحرر تحريرا في مستهل شهر جماد الثاني سنة خمس بعد الألف. ا.ه.
1 فبراير سنة 1596م
شهود المجلس
الفقير أحمد
كتخدا بالقلعة
الفقير القاضي
علي بن جحي
الفقير محمد
اليازجي بالقلعة (7) يوم السبت المبارك حادي عشر رجب تاريخ خمسة بعد الألف، ورد مكاتبة إلى الجبار عابدين بن مصطفى - دردار قلعة بندر الطور، المحررة بمدينة مصر المحروسة - المورود من مولانا شيخ الإسلام قاضي بندر السويس والطور والمويلح، مولانا شعبان خادم الشريعة، بأن الفقير الراجي عفو ربه ينظر الأحكام الشرعية.
الداعي علي بن إسكندر الحنفي الطوري المعروف بطاشي، حرر في يوم تاريخه.
هذه المكاتبة من مجلس الشرع الشريف ببدر السويس المعمور: إلى كل واقف عليها وناظر إليها من الحكام والرعية، والخاص والعام من أهل بندر الطور المبارك، نوضح لعلمهم الكريم بعد التحية والتسليم أنا استخرنا الله - سبحانه وتعالى - وأقمنا القاضي علي بن إسكندر نائبا بالبندر المذبور؛ لسماع الدعاوي الشرعية على قاعدة مذهبه الشريف ومعتقده الحنيف، نوصيه بالعمل في ذلك بتقوى الله - سبحانه وتعالى - في سره وعلانيته، فإن من سلك طريق الحق نجا، ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب، حرره بختمه وأمضاه مولانا مصطفى نايب بندر السويس مستهل شهر شعبان سنة ستة بعد الألف، وحسبنا الله.
جلوس أضعف العباد علي بن إسكندر الحنفي الطوري عفي عنه. ا.ه.
9 مارس 1598م (8) بتاريخ مستهل صفر الخير سنة عشر بعد الألف سنة 1010، جلوس الفقير إلى الله تعالى علي حجي النايب الشرعي عن مولانا مصطفى يحيى الحنفي على الأحكام الشرعية، يفصل بين الرعية، ويمضي الوثايق، ويعقد الأنكحة، وينصب الأوصياء، ويضبط أموال الغايب، ويقبض الرسوم، وعليه بتقوى الله وطاعته في سره وعلانيته بتاريخ ثامن وعشرين محرم سنة عشر بعد الألف. ا.ه.
31 يوليو 1601م (9) يقبل الأرض وينهي بين يدي سيدنا ومولانا الوزير صاحب السعادة نصره الله تعالى ودام عزه آمين.
أنه رجل ذمي فقير الحال، وله أولاد عم سبعة أيتام قصر عن الجواب الشرعي، وخلف لهم والدهم سفينة بعد وفاته، تشحن من بندر السويس إلى بندر المويلح، ومن يوم توفي والدهم ورجل ذمي يسمى إبراهيم الطعام وضع يده على السفينة مدة أربع سنوات، ولا يعطي الأيتام منها شيئا ولا حسابا، والمسئول من الصدقات العالية بروز أمركم الكريم بير لدى شريف بإحضاره إلى بندر الطور إلى بين يديكم، ويكون خلاص مال الأيتام على يديكم ولكم الأجر والثواب من الملك الوهاب، ويكون عمهم وكيلهم لخلاص الحق غرة ربيع الثاني 1048.
12 أغسطس 1638م
بنده
الذمي فيرونس النصراني الطوري
ما قولكم رضي الله عنكم في رجل ذمي هلك عن أولاد ذكور وإناث قاصرين، وخلف سفينة وله ابن عم شقيق وصي، ثم إن والد زوجة المتوفى وضع يده على السفينة بالتعدي، يسافر بها مدة ولم يدفع لأولاد المتوفى شيئا، والحال أن الأولاد بكنف ابن عم المتوفى لينفق عليهم، فهل له خلاص السفينة من يده، وهل يثاب ولي الأمر على منعه من يتعرض للأيتام، وخلاص حقهم ممن هو بيده أم كيف الحال، أفيدونا الجواب.
صورة جواب الشيخ محمد المزاحي الشافعي:
الحمد لله، لا يجوز لوالد الزوجة المذكورة وضع يده على سفينة الأولاد المذكورين، الآيلة لهم بالإرث بطريق التعدي، بل يحرم عليه ذلك ، ويلزمه التعزير، وترفع يده عنها قهرا، وأجرة مثلها مدة وضع يده عليها، ولابن العم المذكور الوصي على الأيتام رفع الأمر إلى مولانا ولي الأمر نصره الله تعالى؛ ليرفع يده عن السفينة، ويجبره على دفع الأجرة قهرا عليه، ويثاب على ذلك، والله أعلم.
صورة ما كتبه الشيخ أحمد المنشاوي الحنفي:
الحمد لله، نعم لابن العم الشقيق الوصي رفع أمرهم إلى ولي الأمر؛ ليخلص لهم ما كان من سفينة أو غيرها، ويثاب على ذلك الثواب الجزيل، والله تعالى أعلم.
صورة ما كتبه الشيخ يوسف الواطي المالكي:
الحمد لله، جوابي كذلك، والله أعلم. ا.ه. (10) سنة 1050 لدى العبد الفقير علي جلال الدين - النائب بالطور المبارك - عفا الله عنه: الزوج شيخ العرب مضيف بن مطلق القراشي الصالحي، الزوجة نجوم المرأة الثيب البالغة، الصداق ثلاثمائة غرش معاملة، الموعود بقبضه قبل الدخول بها مايتان وخمسون غرشا، وباقي الصداق وقدره خمسون غرشا يخلى عليه بموت أو فراق، زوجها له على ذلك والدها المذكور بإذنها له في 15 ربيع الأول سنة تاريخه. ا.ه.
5 يوليو 1640م (11) لخيامة العرب الصوالحة أن لهم على كل حمل كان للتجار الذي يحصلوه في البندر قبل نزوله إلى البحر عشرة أنصاف، كما سبقت به عوائد آبائهم وأجدادهم والذي يجيء معهم، كذلك سنة 1055، ولو كان الخيامة هاهنا، والذي يجيء بندر السلامة يحط الخفر. (12) البايع: شيخ العرب المعروف بأبي صوير بن محمود بن مطر السعيدي. المشتري: الراهب موسى بن معوض الترابلسي. المبتاع: عياد الشاب البالغ ابن عيسى الشهير بالطحيل النصراني «رأس رقيق». الثمن: أربعون غرشا حالا مقبوضا بيد البايع باعترافه بذلك وشهادة شهوده، وكفل البايع على نفسه شيخ العرب منصور بن صيام العايدي كفالة بني عقبة المعلومة بين العرب، وكفل صبيح بن سلمي العليقي، وكفل جميع بني عقبة كفالة العرب للعرب كذلك، بحيث ألا يتعرض لعياد المذكور أحد من إخوانه، ولا من بدنته، ولا من عربه، ويكون على الكفيلين المذكورين رده ومنعه عنه، ويرجعون على البايع بما يلزمه عندهم في قواعدهم وقوانينهم، ثم إن موسى الراهب أعتق عياد المبتاع المذكور احتسابا لله تعالى عتقا صحيحا شرعيا مقبولا، قبله منه لنفسه عياد المذكور بعد اعترافه بالرق له، وثبت ذلك كله لدى الحاكم الشرعي، وجرى ذلك في غرة شهر الله المحرم سنة 1058ه.
شهوده:
الفقير علي بن جلال الدين الحنفي المولى ببندر الطور عفي عنه، عمر بن سليم العليقي، جبارة بن رشيد السعيدي، عطالله بن سويلم الصالحي، سعد بن سعد الله السليماني.
27 يناير 1648م (13) حضر جماعة الرهبان إلى مجلس الشرع الشريف، وهم الأقلوم إسرافيل والراهب، القاطنين بالطور وصحبتهم عنصرة ومطيع وكلاء الدير، وأمروا مولانا الحاكم بإحضار طائفة المواطرة، وهم سليمان شهاب الدين «وتسعة آخرون»، وهم فلاحين كرم الراهب المتعاطين خدمته، وتخالص كل فريق من الآخر ، حرر في صفر الخير سنة 1096ه. ا.ه.
كتبه الفقير إبراهيم الأزهري قاضي الطور، محمد آغا دردار الطور «و12 شاهد غيرهما».
يناير 1685م (14) وفي كتاب الأم هذا كتابة باليونانية بخط مطران دير سيناء نيكوفورس الكريتي، تاريخها سنة 1157ه/1774م، مضمونها:
أن قد تم الاتفاق ببندر الطور، بحضرة الإمام بين نكينورس أقلوم الدير، وكاتبه الخوري جرجس تلحمة من جهة، وبين جماع أبو هديب وموسى ولد علي وغيرهما من جهة أخرى، بشأن إنارة الجامع وتنظيفه. (15) وفيه مكاتبة من قاضي القلعة بتاريخ سنة 1175ه/1761م دلت على وجود النفيعات في الجزيرة في ذلك العهد. (16) سبب تحرير الأحرف وموجب تسطيرها، هو أنه ببندر الطور المعمور، بين يد متوليها الحاكم الشرعي، من يضع اسمه وختمه أعلاه، أدامه الله تعالى وأعلاه، اشترى يني عنصرة من بايعه لحام الشيخ النصف في كرم أبو ترابية نايبه، بثمن قدره من الغروش العددية مائة وستة غروش، وتعدد مربوطه ثمنه غروش ثلاثين، وجميع الثمن مغلق بيد البايع من يد المشتري، ولم يتبق عند المشتري شيء يقال له شيء، بيعا صحيحا شرعيا جائزا لازما من غير إكراه ولا إجبار، ويكون جملة الثمن نصف الكرم أبو ترابية مائة وستة وثلاثين غرشا، الجميع مغلق بيد البايع لحام الشيخ وكفيله سلامة أبو نحيلة كفالة بني عقبة الحي عن الميت، وعن الغايط والذي في المقايط، وكفالته مغلقة وجاره أعلاه كرم عنصرة وأسفله الوادي، في 6 رمضان 1196ه. ا.ه.
15 أغسطس 1782م
شكل 1-3: عيون موسى. (1-6) عيون موسى
أما عيون موسى فهي واحة صغيرة في سهل رملي فياح، محيطها نحو ثلاثة أرباع الميل، وعلى نحو ثمانية أميال جنوبي السويس، وميلين ونصف ميل من شاطئ الخليج، وفيها عدة ينابيع وحدائق وحلة صغيرة ومنازل للمصيف.
أما «الينابيع» فأكثرها فوارة، وماؤها حار ضارب إلى الملوحة، وتختلف حرارته بين 70° و80° فارنهيت، فإذا برد ساغ شربه، وأحلى ينابيعها أبعدها إلى الجنوب، وقد ظن بعضهم أن النبع الذي «طرح فيه موسى الشجرة، فصار الماء عذبا» (خروج ص15 عدد 25)، وبعض هذه الينابيع مطوي بالحجر منذ عهد بعيد.
وأما «الحدائق» فأهم أشجارها النخيل والطرفاء والأثل، وبعض أشجار الفاكهة ، كالرمان والليمون والبرتقال، ويزرع فيها بعض أنواع الأزهار والخضر، وجميع الحدائق مسورة بأسوار من الطين والخشب؛ لمنع ضرر الرياح كما مر.
وأما «حلة عيون موسى» فيسكنها جماعة من البدو والأروام المتسببين والنوتية، وأما «منازل المصيف» فقد بناها بعض كبراء السويسيين في الحدائق؛ لقضاء الصيف فيها نظرا لطلاقة هوائها واعتداله كما قدمنا ولكنها أهملت الآن أو كادت تهمل.
وقد تقدم أن في ميناء عيون موسى محجرا صحيا بني قديما للحجاج المصريين قبل بناء محجر الطور، وأما الآن فهو محجر للبواخر الموبوءة.
وفي سنة 1538م في زمن السلطان سليمان الثاني، اجتمعت مراكب البندقيين بمراكب العثمانيين في هذا الميناء، واتحدت على حرب البرتوغاليين، وكانت التجارة قد اتبعت طريق رأس الرجاء، فأنشأ البندقيون قناة جروا بها ماء العيون إلى حوض على ساحل البحر لينتفع به مراكبهم، ولا زالت آثار القناة والحوض ظاهرة هناك إلى اليوم.
وأما نسبة هذه العيون إلى موسى، فلأن موسى النبي اتخذها محلة له عند خروجه من مصر على المشهور. (1-7) قرية الشط «الشط» قرية صغيرة على شاطئ الترعة تجاه السويس، نشأت بعد فتح الترعة، فبنت فيها «مصلحة الصحة البحرية والكورنتينات» محجرا لركاب البواخر الموبوءة التي تقف في السويس، ومدت إليها خط تليفون من السويس.
ثم بنى فيها الشيخ إبراهيم أبو الجدايل التاجر السويس المار ذكره مخزنا لبيع الحبوب للطورة، وجعل الحاج إسماعيل من أهل السويس شريكا له في المخزن، فبنى الحاج إسماعيل منزلا بطبقتين قرب المخزن.
ثم تبعه علي أبو شاهين من تجار السويس، فبنى مخزنا آخر لبيع الحبوب ومنزلا له، وبعد ذلك بنى بعض الطورة وأهل السويس أكواخا أقاموا فيها للصيد والتعيش، فكان هناك حلة جمعة 30 بيتا أو أكثر.
وفي سنة 1906 بنى محافظ سيناء مركزا للبوليس، ومنزلا لاستراحة المسافرين من موظفي المحافظة، وربطه بتليفون مع نخل والسويس. (1-8) بئر الغرقدة
وعلى نحو ساعتين من الشط، وساعتين من عيون موسى، وثلاث ساعات من بئر مبعوق «بئر الغرقدة» وهي بئر عذبة الماء، ظل أهل السويس يستقون منها إلى عهد المغفور له إسماعيل باشا الخديوي الأسبق، ثم مدت إلى مدينتهم «الترعة الإسماعيلية» فأهملت البئر الآن وطمرتها الرمال. (1-9) قلعة النويبع
شكل 1-4: قلعة النويبع.
أما قلعة النويبع وتعرف بطابية النويبع، فقد مر أنها طابية صغيرة بنتها السردارية المصرية سنة 1893، وذلك بعد خروج العساكر المصرية من العقبة، وجعلتها مركزا للبوليس، وفيها الآن بضعة رجال من البوليس الهجانة؛ لحفظ الأمن في تلك الجهة، وهي تابعة في الإدارة لمركز نخل، وللقلعة سور ومزاغل وباب كبير، وفي داخل السور بئر ماؤها ضارب إلى الملوحة، وبجانبها بضعة أكواخ من الحجر يسكنها عائلات البوليس، وهي واقعة على نحو ميلين من مصب وادي العين شمالا، و50 ميلا من العقبة جنوبا، وتسمى الجهة القائمة فيها «نويبع الترابين»؛ تمييزا لها عن «نويبع مزينة» على نحو ساعتين جنوبيها. (2) مدن بلاد التيه (2-1) مدينة نخل
أما مدينة نخل ففي قلب جزيرة سيناء، وهي الآن عاصمة بلاد التيه، ومركز محافظة سيناء كلها، وفيها: «قلعة قديمة، وبلدة صغيرة، ومحجر صحي، وجبانة، وآبار، وبرك، وحديقة، وبقربها في وادي العريش سد بقناطر.»
شكل 1-5: قلعة نخل. (أ) قلعة نخل
أما قلعة نخل فهي إحدى القلاع الجميلة التي بناها السلطان قانصوه الغوري (1501 -1516م) في درب الحج المصري، وكانت تعرف قديما بالخان، وهي قائمة على هضبة عن يمين وادي أبو طريفية قرب مصبه بوادي العريش، على نحو 80 ميلا من السويس، و70 ميلا من العقبة، وتعلو نحو 1750 قدما عن سطح البحر، وهي تشرف على سهل فسيح تحده الجبال من كل الجهات إلا جهة الجنوب، كأنها نجمة في هلال، وهي مربعة الجوانب تقريبا، طول الجانب منها من 37 يردا إلى 39 يردا، وعلوها من 21 قدما إلى 25 قدما، وسمك حائطها ثلاث أقدام ونصف قدم في أسفله، وقدمان ونصف قدم في وسطه، وقدم في أعلاه، ولها خمسة أبراج في كل زاوية برج، والبرج الخامس في منتصف الضلع الشمالية، وبناؤها بالحجر المنحوت، وهو حجر كلسي كثير الوجود في تلك الجهات.
وللقلعة رتاج أو بوابة عظيمة مصفحة بالحديد، معقودة عتبتها بقنطرة تفتح للشرق، وتقفل من الداخل بمترس من الخشب، يروح ويجيء في خرقين متقابلين عن جانبيها، ولها في وسطها خادعة على النمط الشرقي المعروف، تدخل من هذه البوابة في دهليز طوله خمسة أمتار، فتلقى عن شمالك بوابة عظيمة أخرى تفتح للشمال تؤدي إلى صحن القلعة، وفيه شجرة سدر قديمة ينذر لها النذور، ويحيط به طبقتان من الغرف الضيقة المسقوفة بالقصب الفارسي الكثير الوجود في أودية الجزيرة، وقد كان سقفها قليل الارتفاع جدا، يكاد الطويل في الرجال يمسه برأسه، فرممها محافظ سيناء الأسبق والذي قبله، فرفعا سقفها ووسعا غرفها وجعلا الطبقة العليا مسكنا للمحافظ والناظر، والسفلى مكتبا لهما ومخازن، وفي أعلى السور فوق سطح الطبقة العليا وفي جدران الأبراج مزاغل إلى الجهات الأربع.
وفي واجهة القلعة فوق البوابة ثلاثة حجارة تاريخية في صف واحد بين الحجر والآخر نحو ذراع عليها كتابة بالعربية بحروف ناتئة، الحجر الأول عن يمين الداخل مستدير الشكل، قطره نحو قدم، لم يبق ظاهرا من النقش عليه سوى هذه الكلمات: «مولانا السلطان، عز نصره» ا.ه. والثاني في الوسط في شكل الأول، وحجمه، وعليه هذه العبارة: «مولانا السلطان مراد خان عز نصره سنة ...» ا.ه. والتاريخ غير ظاهر تماما، وقد يوهم هذا الحجر أن السلطان مراد هو باني القلعة، والحال أن بانيها هو السلطان قانصوه الغوري كما قدمنا، والظاهر أن السلطان مراد رممها، فوضع هذا الحجر تذكارا لذلك، والحجر الثالث عن اليسار مربع الشكل مستطيله، منقوش عليه هذه العبارة: «جدد هذا المكان المبارك مولانا السلطان أحمد ابن السلطان محمد خان، عز نصره، مدة راجي محمد باشا سنة 1117ه/1705م.»
وفي القلعة الآن مدفع جبلي من متخلفات حاميتها القديمة، يطلق في أيام الأعياد إعلانا لها، وهناك نفر من البوليس غير النظامي، وأكثرهم من أهل نخل، وعليهم ناظر من الجيش المصري، وثلة من العساكر النظامية مؤلفة من 25 جنديا وضابط لخفارة المحجر. (ب) بلدة نخل
أما بلدة نخل فإلى جانب القلعة الجنوبي الشرقي، على نحو 20 مترا منها، وفيها نحو ستين بيتا، ولها شارع واحد يقسمها إلى قسمين، شرقي وغربي، وهي مبنية بالطوب النيء، وقد جدد فيها منذ سنة 1906م إلى اليوم عدة منازل بنيت بالحجر على الطراز الجديد، بعضها من بناء المحافظة، وبعضها من بناء الأهالي، وكل منازلها طبقة واحدة أرضية إلا ثلاثة منازل أو أربعة، فإن لكل منها طبقة عالية بغرفة أو غرفتين، يصعد إليها بسلم ضيق، وأكثر منازلها القديمة لا منفذ لها إلا باب بمصراع واحد، ولبعضها كوى ضيقة عارية أو مكسوة، وقد جدد فيها سوق من بناء الأهالي جنوبي البلدة، مؤلفة من خمسة دكاكين تباع فيها الحبوب والملبوسات وغيرها.
وأما الأبنية التي جددتها المحافظة فهي: أربعة منازل في صف واحد شرقي البلدة، بينها وبين البلدة شارع جديد فيها مستشفى، «ومضيفة» للعربان، ومنزل للبوليس الهجانة من غير سكان البلدة، ومنزل لكاتبي المحافظة الأول والثاني.
ومن الأبنية التي أحدثتها المحافظة: ناد للموظفين شرقي هذه المنازل، بينه وبينها شارع جديد، «وثكنة» للعساكر النظامية شمالي البلدة وشرقي القلعة على نحو مائة متر من كل منهما، «ومحجر» صحي مجهز بالخيام، وعليه نطاق من السلك والأخشاب شرقي الثكنة، يأوي إليه الحجاج الذي يأتون بدرب الحج المصري القديم، فيقضون فيه الحجر الصحي بخفارة العساكر النظامية، ثم يستطردون السير إلى مصر.
شكل 1-6: الشيخ أحمد زاهر عفيفي إمام ومأذون الشرع الشريف في نخل في الوسط، وعن يمينه اليوزباشي أحمد أفندي مختار، واليوزباشي محمد أفندي توفيق خيري، ناظران في سيناء سابقا، وعن شماله الملازم أول حسن أفندي حلمي السماع ضابط القسم العسكري بنخل سابقا، ومدفع نخل.
وتجاه القلعة من الشرق على محاذاة البلدة جامع صغير بلا مئذنة، يجتمع إليه أولاد البلدة لتعلم القراءة والكتابة، يعلمهم الآن الشيخ زاهر أحمد عفيفي إمام الجامع ومأذون الشرع الشريف في نخل، وهذا الشيخ أقدم موظف مصري في سيناء، وقد كان قبلا مأذون قلعة العقبة وإمامها، وقد باشرت المحافظة حديثا بناء جامع فخم في شمال البلدة بقرب الجامع الحالي، وارتفع البناء نحو ذراع فوق الأرض.
وفي سنة 1906 مد خط التليفون من نخل إلى السويس، فكان طوله إلى شط السويس الشرقي نحو 120 كيلومترا، وفي هذه السنة (1914) تمت المواصلات التليفونية بين نخل والعريش بطريق القصيمة ، ولنخل بريد أسبوعي يحمل على الإبل يربطها بالسويس ومصر كما سيجيء.
وقد اختلف الباحثون في أصل تسمية هذه المدينة بنخل، فقال بعضهم: إنها متخلفة عن «نخل مصرايم» الاسم الذي أطلقه العبرانيون على وادي العريش (أشعيا ص23 عدد 12)، وظن آخرون أنها تحريف نخل، ولكن لم يسمع في تاريخها أنه كان فيها نخل قبل سنة 1906 كما سيجيء، هذا وكانت قديما تدعى أيضا نخر، ولكن هذا الاسم فارقها بتاتا ولم يبق من يعرفها بهذا الاسم الآن. (ج) جبانة نخل
وأما جبانة نخل، فإلى الشرق والشمال الشرقي من القلعة على نحو عشرين مترا منها، وفيها قبران شهيران يزورهما أهل نخل والبادية، ويحلفون بصاحبيهما، وهما، قبر الشيخ النخلاوي وعليه قبة، وقبر الشيخ الحجاج، وهو مبني على شكل ظهر الثور. (د) قبر الحجاج
أما الشيخ الحجاج، فهو أحد أجداد السلاميين الشوافين اللحيوات كما مر، توفي منذ ثمانية أجيال، وبدو التيه يعتقدون أنه كان صاحب «سر وولاية»، وهو معاصر للشيخ أبو جرير جد الجريرات السواركة المدفون في مدينة العريش، قيل كان لكل منهما حزب وأنصار، فاختلف الحزبان في أي الشيخين أكثر ولاية من الآخر، فأتى أبو جرير بحزمة من الحطب وأوقد فيها النار، وأخذ يتقلب عليها فلم تمسه بضرر، ثم تقدم الحجاج وتربع في وسط النار، وأخذ سكينا من جنبه وعصر مقبضه بيده فخرج منه ماء وحليب أطفآ النار، فاعترف له الجميع بالتفوق في الولاية! (ه) قبة النخلاوي
وأما الشيخ النخلاوي، فليس في الجزيرة من يعرف له تاريخا، وكل ما يعرف عنه أنه ولي أقدم عهدا من الحجاج، وفي داخل القبة ثلاثة أضرحة:
ضريح النخلاوي:
وعليه حجران تاريخيان: حجر فوق رأسه منقوش عليه بأحرف بارزة: «هذا مقام العارف بالله تعالى الشيخ النخلاوي - رحمه الله»، وحجر فوق قدميه عليه هذه الآية: «لا إله إلا الله محمد رسول الله».
وضريحان آخران:
على كل ضريح منهما حجران، حجر فوق رأس الميت، وآخر فوق قدميه، وقد كتب على كل منهما فوق القدمين: «لا إله إلا الله محمد رسول الله، كل من عليها فان»، وكتب على حجر الرأس الأول: «الشيخ محمد ابن الحاج محمد تلنبدجي إستانبولي، توفي في صفر سنة 1129ه/يناير 1717م»، وعلى حجر الرأس الآخر: «هذا قبر المرحوم رشوان جربجي هجان باشي تفكجيان ابن حسين أفندي باش اختيار تفاكجيان، توفي سنة 1148ه/1735م.»
وقد نقش على حجر مستطيل فوق عتبة القبة العليا العبارة الآتية بنصها وفصها:
لما شوهدة صداقة سعادة خورشيد بك مهدي تعين مأمور تعمير القلاع الحجازية من شعبان سنة 1281 لغاية القعدة سنة 1282.
يا من أسراره فاقة في الملا
ونفحاته متهطلا
إني بك أستجير من حرها
في غد يوم الحساب الأكبر
ا.ه.
وهذا التاريخ الهجري يوافق يناير سنة 1865 إلى 16 أبريل سنة 1866م.
وفي كل عيد تخرج نساء المدينة إلى الجبانة، وينصبن الرايات على قبة النخلاوي وقبر الحجاج، ويوزعن الصدقات من فطير وكعك على فقراء البادية، وأهل نخل ينيرون القبرين ليلة الجمعة وليلة الإثنين من كل أسبوع على مدار السنة، وقد ينيرونها وفاء لنذر، ويقول الناذر عند إنارتهما: «العارف لا يعرف والنايم لا يتخرف»؛ أي لا يتكلم!
ويزور اللحيوات والتياها هذين القبرين كل سنة هم وجمالهم، ويذبحون لهما الغنم. (و) قبر الشيخ عدس
وتجاه القلعة على جنب الوادي الأيسر «جبانة الحجاج» الذين توفوا بمحجر نخل قبل انقطاع درب الحج، وفي هذه الجبانة قبر الشيخ عدس، من أولياء أهل البادية، وقد جرف السيل قسما من هذه الجبانة، فكشف عن جمجمة رجل لا يزال شعره كأنه قد دفن بالأمس. (ز) رجم إبراهيم النخلاوي
وعلى «مطلة نخل الغربية» على نحو ميلين من القلعة رجم من الحجارة، وضع تذكارا لإبراهيم النخلاوي، قالوا: كان له زوجة يحبها جدا سافرت إلى السويس لغرض ما وطال غيابها، وكان رجلا مسنا أقعده العجز عن السفر، فكان كل يوم يأخذ زاده وماءه ويأتي المطلة منتظرا قدوم زوجته إلى ما بعد الغروب، ثم يعود إلى نخل، بقي على ذلك أياما حتى عادت زوجته فعادت روحه إليه. (ح) قبر زين الناس
وعلى «مطلة نخل الشرقية» على نحو خمسة أميال من القلعة قبر «زين الناس»، قيل إنها من نساء الصحابة، تسلقت المطلة في 17 مايو سنة 1905، فرأيت على القبر رجما بيضي الشكل من الحجارة الغشيمة وبجانبه صخرة منقوشة. (ط) حديقة نخل
أما حديقة نخل فهي حديثة العهد من إنشاء المحافظ الأسبق والذي تقدمه؛ أي من سنة 1906، وهي حديقة متسعة بلصق القلعة من الجنوب، تبلغ مساحتها خمسة أفدنة، وعليها سور من الطوب النيء، وفيها من الأشجار، النخيل وهذا أول عهد النخيل بنخل في التاريخ فيما نعلم، والطرفاء، والأثل، والسنط، والكينا، والفلفل، والزيتون، والرمان، والتفاح، واللوز، والموز، والتين، والصبر. أما أشجار الزيتون والتفاح واللوز والتين، فقد أتي بها من دير سيناء ولم تثمر بعد، وكذلك النخيل لم يثمر بعد، ويزرع فيها من أنواع الخضرة: البامية، والقرع، والباذنجان، والسبانخ، والطماطم، والرجلة، والفجل، والفليفلة، والخيار، والبطيخ، والشمام، والبرسيم الحجازي، وفي آخر الحديقة مناخان مسقوفان للإبل. (ي) آبار نخل
وفي نخل ثلاث آبار قديمة مطوية بالحجر: بئر داخل القلعة في زاويتها الشمالية الغربية، حفرها باني القلعة، وبئران خارج القلعة، إحداهما شماليها على نحو مائة متر منها تشرب منها العربان والسائمة، ويظن أنها أقدم من القلعة، والأخرى جنوبيها على نحو عشرين مترا منها ، قيل احتفرها أحمد آغا الوكيل، أحد ضباط القلعة السابقين في أواخر القرن الغابر، وقد ضمها سور الحديقة الجديدة، وهي تسقي الحديقة، ومنها يشرب أهل المدينة، وقد ركب عليها حديثا ساقية من حديد.
وفي سنة 1906 احتفر المستر جننس براملي - أحد محافظي سيناء السابقين - بئرا غربي القلعة على نحو 400 متر منها وطواها بالحجر، وعمق هذه الآبار كلها من 10 أمتار إلى 12 مترا، وفيها من الماء نحو قامتين، وهي تكفي 3000 جمل تشرب منها في وقت واحد، ولكن ماءها ملح غير صحي، ومع ذلك كان أهل المدينة وموظفو الحكومة يشربون منها إلا المحافظين، فإنهم كانوا يأتون بماء الشرب على نفقتهم من بئر الثمد المشهورة بعذوبة مائها، وفي أواسط سنة 1913 أرسلت المحافظة نموذجا من مياه آبار نخل إلى المعمل الكيماوي في مصر، فحكم بعدم صلاحيتها للشرب مدة طويلة لكثرة الأملاح فيها، فصارت المحافظة من ذلك الوقت تأتي بماء الشرب لموظفيها من بئر الثمد. (ك) برك نخل
وإلى شمالي القلعة بينها وبين البئر الشمالية ثلاث برك واسعة مبنية بالحجر والأسمنت، سعة أكبرها 27,40 مترا طولا، و14 مترا عرضا، و4,60 مترا عمقا.
وهذه البرك في رواية درر الفرائد من بناء سلار، بنيت لتسهيل تناول الماء على ركب الحج عند نزوله بنخل، وهي متصلة بقناة إلى بئر القلعة، وقد كان على هذه البئر «ساقية» من خشب، وكانت حكومة مصر ترسل نجارا في كل سنة في موسم الحج إلى نخل، فيرمم الساقية ويملأ البرك قبيل وصول ركب الحج، فيشرب منه الحجاج، ويسقون بهائمهم ويتزودون الماء للمرحلة الثانية، وأما الآن فلم يعد من فائدة لهذه البرك، وأما بئر القلعة فلا تزال مستعملة، وقد ركبت عليها محافظة سيناء حديثا ساقية من حديد.
شكل 1-7: سد العريش عند نخل. (ل) السد
وأما السد الذي في وادي العريش، فعلى نحو كيلومتر جنوبي القلعة، أقامه المستر براملي محافظ سيناء سنة 1906؛ ليرفع ماء السيل في زمن الأمطار، ويعد أرضا واسعة عن جانبي الوادي للزراعة، ولكن هذا السد قصر عن رفع الماء إلى الحد المطلوب، فترك وشأنه مؤقتا. (م ) تاريخ نخل
وذكر صاحب درر الفرائد نخل، فقال: «وتسمى بطن نخر»، وذكرها أبو عبيد البكري فقال: «وبطن نخر منهل من مناهل الحاج، وهي قرية ليس بها نخيل ولا شجر، يسكنها نفر من الناس، ويقال: بطن نخل لسواف تسفي على الناس فيه ترابا دقيقا كأنما نخل بمنخل. وبها خان أنشأه السلطان قانصوه الغوري على يد الأمير الكبير خير بك المعمار أحد المقدمين في سنة (خمس عشرة وتسعمائة ه/1509م)، وبه حصار ونوباجية من الترك والقواصة، وكان الخان ضيقا فعرض صاحبنا زين الدين خولي السواقي السلطانية أمره على كافل المملكة المصرية علي باشا (سنة تسع وخمسين وتسعمائة ه/1552م)، فأمر بتوسعته من مال السلطان، وأمر بصرف ما يحتاج إليه من الخزانة، فتوجه إليه بالمعمارية والمؤن الوافرة، واجتهد في توسعته، فزاد فيه زيادة عظيمة، وجاء في غاية من الحسن، وبنخل ثلاث برك، وكانت أربعا من إنشاء سلار، فتعطلت واحدة، وبها بئران: إحداهما بساقية، والأخرى بسلم، وينصب بها سوق كبير يؤتى له من قطيا وغيرها، ومنهل نخل يميل ماؤه إلى العذوبة إلا أنه ثقيل في المعدة، وربما أورث الاستكثار منه أمراضا باطنية كالاستسقاء.» ا.ه. (ن) سكان نخل
أما سكان نخل فمن ذرية العساكر غير النظامية الذين ولجوا حراسة القلعة من مصريين ومغاربة وحجازيين في سالف الأيام، والآن أكثر عساكر نخل والنويبع والطور والقصيمة هم منهم، وقد أحصيت سكان نخل في مايو سنة 1905، فكانوا 242 نفسا من رجال ونساء وأولاد، ولكنهم زادوا من ذلك العهد حتى بلغوا 308 أنفس في سنة 1907، وهم الآن ينيفون على هذا العدد.
وهم يتجرون مع السويس وأهل البادية، يشترون من هؤلاء السمن والإبل والغنم ويبيعونهم الحبوب والبن والسكر، والبفتة السمراء يشترونها من السويس. (س) زراعتهم
وفي أيام المطر يزرعون في «الخفجة» القمح والشعير والذرة والشمام والبطيخ والعجور أو القثاء كما مر.
وعاداتهم خليط من عادات البدو والحضر، ومن عاداتهم في الأفراح: أنهم يزفون العروس ضمن «ناموسية» مرفوعة على أربع قوائم من خشب، فيخرجون بها العصر إلى الجبانة؛ لزيارة قبة النخلاوي وقبر الحجاج، ويصحب العروس داخل الناموسية إحدى قريباتها، وأمامها الرجال يرقصون ويطلقون البارود وهم يغنون هذه الأغنية:
على أول قبة يا برسيم
على أول حشة يا برسيم
وعند وصولهم إلى قبر النخلاوي وقبر الحجاج ينادون: «يا سادة نحن زرناكم»، ثم يأتون إلى بيت العريس، وفي السهرة يزفون العروس فيزورون النخلاوي والحجاج ثانية، ثم يدورون بها حول القلعة ويعودون إلى منزل العريس.
هذا، وفي مرور أقرباء العريس على أهل البلدة ليدعوهم لحضور الفرح يوزعون عليهم قطعا من الصابون، لكل بيت قطعة، ومهر البنت عندهم 15 جنيها إنكليزيا، عشرة جنيهات تدفع مقدما لأهل العروس، وخمسة جنيهات تدفع مؤجلة للعروس إذا طلقت، وهم يشترون جميع حاجات العروس من السويس، ولا بد لكل عروس من «جلابية» من القطيفة الحمراء، تلبسها في الأيام الأولى من الفرح، وأكثر رجال نخل يتزوجون بامرأتين، بدوية لرعي الأنعام، وحضرية من بنات نخل أو السويس لتدبير المنزل .
وفي البلدة «مضيفة» يجتمع إليها رجال البلدة كل صباح، ومع كل منهم حفنة من البن وحزمة من الحطب، فيشربون القهوة سوية مع الضيوف، وكلما جاءهم ضيف من البدو وغيرهم أضافوه بالتناوب كل منزل وجبة واحدة حتى ينصرف، ويأتي غيره فيبدأ حيث انتهى الضيف السابق، وهم قلما يوقدون السرج في منازلهم، فإنهم في الليالي المقمرة يكتفون بنور القمر، وفي غير الليالي المقمرة يكتفون بالنار التي يوقدونها للقهوة. (ع) مركز البوليس في بئر الثمد
وقد بنى المحافظ الأسبق والذي قبله مركزا للبوليس في كل من بئر الثمد، ومشاش الكنتلة وعين القصيمة، أما مركز بئر الثمد فقد بني على التل المشرف على البئر شماليها، وفيه: مكتب للإدارة غرفتان وأمامها عرصة مسقوفة، ومنزل لجاويش البوليس فيه غرفتان وعرصة، وعنبر لعساكر البوليس الهجانة. (ف) مركز البوليس في مشاش الكنتلة
أما مركز مشاش الكنتلة، فقد بني على التلة المشرفة على المشاش جنوبيها، وهو مكتب للإدارة غرفتان وعرصة مسقوفة، ومنزل لوكيل الناظر، وثلاثة منازل للعساكر الهجانة، وقد قدمنا أنه حفرت بئر عذبة الماء غزيرته في وادي الجرافي بقرب المشاش، فكانت رحمة عظيمة لأهل البادية؛ لقلة الماء في تلك الجهات. (ص) مركز البوليس في عين القصيمة
أما مركز عين القصيمة، فقد بني على تل مرتفع شمالي العين، وهو مكتب مؤلف من خمس غرف وعرصة مسقوفة، ومنزل لوكيل الناظر والجاويش، ومنزل عشر غرف للعساكر الهجانة، محاطة بسور ضم مناخا للإبل، وقد بني على العين حوض لسقي الإبل، وآخر لسقي الأغنام، وهذه المراكز الثلاثة مربوطة بنخل بخط التليفون. (2-2) آثار بلاد التيه
ومن الآثار التي تركها سلاطين مصر في درب الحج المصري عدا مدينة نخل:
النواطير:
وهي ثلاثة عمد من الحجر بين ترعة السويس وشرفة وادي الحاج، بين كل عمود وآخر مسيرة ساعة، وقد نصبت هناك لهداية الحجاج في ذلك التيه.
ونقب دبة البغلة:
على نحو تسع ساعات شرقي نخل، وهناك ترى الدرب قد نقبت في وسط تلة طباشيرية، ونقش على ثلاث صخرات من أصل التلة عن يمين المسافر من نخل اسم السلطان الذي أمر بتمهيد درب الحج في تلك الجهة وفي غيرها، وقد عبث الزمان والسكان بهذه النقوش كلها أو بعضها، حتى إنه لم يعد من الممكن قراءة شيء مما نقش على الصخرة الثالثة، وأما الصخرة الأولى وهي أهمها، فقد قرأت عليها ما يأتي:
بسم الله الرحمن الرحيم، إنا فتحنا لك فتحا مبينا، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ويتم نعمته عليك، ويهديك صراطا مستقيما، وينصرك نصرا عزيزا، رسم بقطع هذا الجبل المسمى «عراقيب البغلة» ومهد طرق المسلمين الحجاج لبيت الله تعالى، وعمار مكة المكرمة والمدينة الشريفة والمناهل عجرود ونخل، وقطع الجبل عقبة أيلا وعمار القلعة والآبار، وقلعة الأزلم والموشحة، ومغارب، ونبط الفساقي، وطرق الحاج الشريفة، مولانا المقام الشريف والإمام الأعظم سلطان الإسلام والمسلمين، الملك الأشرف أبو النصر «قانصوه الغوري» نصره الله تعالى نصرا عزيزا، ا.ه.
وأما الصخرة الثانية فقد نقش عليها بأحرف كبيرة:
لمولانا السلطان الملك الأشرف أبو النصر قانصوه الغوري عز نصره.
ومن آثار سلاطين مصر في درب الحج المصري «نقب العقبة»، وسيأتي وصفه في الكلام على مدينة العقبة . ومن الآثار التي تستحق الذكر في بلاد التيه:
قلعة الباشا:
قرب عين سدر (أو عين صدر) الآتي ذكرها، وما ذكرناه في الفصول السابقة من هرابات الماء قرب جبل الحلال والمغاور والنواويس في جبال العجمة، ووادي المويلح ووادي أم رجام، وغيرها. (3) مدن بلاد العريش (3-1) مدينة العريش
العريش مدينة شهيرة على ساحل البحر المتوسط عند فم وادي العريش، على نحو ميلين من الأول وميل من الثاني، وعلى نحو 28 ميلا من رفح، و85 ميلا من القنطرة، وهي تشمل، «قلعة قديمة، وبلدة صغيرة، وجبانة، وآبارا، وبعض الضواحي.» (أ) قلعة العريش
وأشهر ما فيها قلعتها، وهي سور مربع تقريبا ارتفاعه نحو 8 أمتار، وطول كل من ضلعيه الشرقية والغربية نحو 75 مترا، وطول كل من ضلعيه الشمالية والجنوبية نحو 85 مترا، وفي أعلى السور ستة مزاغل لضرب النار، وفي كل من أركانه الأربعة برج، وعلى كل برج مدفع من مدافع كروب، وفي أسفل كل برج قبو لخزن القنابل والجبخانة، وبناء القلعة بالحجر الرملي الصلب، وكان يحيط بها قديما خندق متسع قد ردم الآن، ولم يبق إلا أثره.
والقلعة قائمة على تلة مرتفعة جنوبي البلدة تشرف عليها، وقد سفت الرياح الرمال من الجنوب، وأقامتها كثبانا أعلى من القلعة، وهي قريبة جدا من البلدة، حتى إن بابها يفتح إلى سوق البلدة، وهو باب عظيم بقنطرة مصفح بالحديد والصلب، علوه نحو خمسة أمتار، وعرضه ثلاثة أمتار ونصف متر.
وإلى جانبي الباب من داخل السور ثلاث غرف: غرفة إلى يمين الداخل، وفيها بوليس القلعة، وغرفتان إلى شماله، وفيهما خزنة المحافظة ودفاترها القديمة، وفي صحن القلعة بناء واسع بطبقتين، الطبقة العليا منزل للناظر ومفتش المحافظة، والطبقة السفلى ديوان لكتاب المحافظة، وإلى الجانب الشرقي من السور مكتب الناظر والمحكمة الجزئية، ومكتب التلغراف والبريد، وإلى الجانب الجنوبي منازل للبوليس ومصلى عرف بالمصلى العباسي؛ لأنه أنشئ عند تشريف سمو الخديوي الحالي للعريش سنة 1898م، وبين بناء الوسط وبناء الجنوب حديقة صغيرة، غرس فيها بعض الأشجار الظليلة، وبينها وبين بناء الشرق بئر مطوية بالحجر عمقها ثمان وثمانون قدما، وقطرها أربع أقدام، وماؤها مسوس يميل إلى الملوحة، ويستعمل للغسل وإرواء الحديقة.
وكان في صحن القلعة حوض أثري من الغرانيت الأحمر، له قاعدة هرمية الشكل، طوله متر وسبعة سنتيمترات، وعرضه 80 سنتيمترا، وارتفاعه 60 سنتيمترا، وقد نقش على جدرانه الأربعة كتابة بالهيروغليفية موضوعها «الإله شو»، قيل إن هذا الحجر نقل إلى القلعة في عصر مجهول، ولسبب مجهول من مدينة جوشن القديمة المعروفة الآن بسفط الحنة قرب الزقازيق، فبقي في العريش إلى أن نقلته مصلحة الآثار المصرية إلى متحفها بمصر القاهرة سنة 1907م.
شكل 1-8: باب قلعة العريش.
وفوق باب القلعة ستة حجارة تاريخية من الرخام، جعلت بعضها فوق بعض في خط عمودي، وهذه صور ما نقش فيها مبتدأ من الأعلى:
الحجر الأول: «وما النصر إلا من عند الله.»
الحجر الثاني: الطغراء السلطانية، وفيها اسم «السلطان سليم سليمان»، وتحت الطغراء: «حرره سيد محمد أسعد، خليفة تاريخي سنة 1214ه/سنة 1799م.»
الحجر الثالث والرابع والخامس ثلاث أبيات شعر بالتركية، على كل حجر بيت، وهي:
كلنجه چاريارڴ همتيله فتحنه حصنڴ
ملكلر جمله أمداد إيتديلر بوفتح غرايه
وزير أعظمي يوسف ضيا باشا ديدي تاريخ
مجوهر مصراع ثانئ سردار طاق والايه
زهي صاحبقران سلطان سليم خان ثالث غازي
عريشگ فتحي أيله آصدي سيفن عرش أعلايه
في سنة أربعة وعشر ومائتين وألف ا.ه.
وترجمتها حرفيا: «لما أتى بعون السلطان لفتح الحصن أمدته الملائكة كلها في هذا الفتح الأغر، قال وزيره الأعظم يوسف ضيا باشا تاريخا في الحروف الحالية من المصراع الثاني الذي نقش في طاق الحصن الأعلى، حبذا الفاتح السلطان سليم خان الثالث الغازي، فإنه بفتحه العريش قد علق سيفه في العرش الأعلى سنة 1214ه/1799م.»
الحجر السادس: «أمر بإنشاء هذه القلعة مولانا السلطان سليمان بن السلطان سليم ابن السلطان بايزيد ابن السلطان عثمان، خلد الله ملكه، وقدس شوكته، وأعز دولته بمحمد وآله وسلم تاريخه في المصراع الأخير:
في عصر بادشاهمز
مرحبا بالعارفين
وأبشروا تاريخه
فيه أمن الخائفين»
سنة 968ه/سنة 1560م (ب) بلدة العريش
أما بلدة العريش فهي بندر بلاد العريش، وفيها نحو 600 بيت، وشوارعها متسعة نظيفة، وبناؤها بالطوب النيء والطين، ولكن طوبها متين كالحجر، ولكل بيت من بيوتها فناء مسور بباب عظيم لإيواء الإبل والخيل والغنم، وأسوارها مرتفعة جدا، حتى إن راكب الهجين في شوارعها لا يرى ما في داخل أفنيتها.
وللبلدة سوق صغيرة بجانب القلعة، فيها نحو 70 حانوتا، تباع فيها الأقمشة، والحبوب، والزيت، والسمن، واللحم، والسكر، والصابون، والبن، وأصناف الفاكهة والخضر.
وفيها جامع صغير يضم قبر الشيخ محمد الدمياطي، وقد جدد هذا الجامع بأمر سمو الخديوي الحالي، فاستخدم في بنائه بعض حجارة القلعة الرومانية على جبل لحفن كما مر، ونقش على عتبة بابه بأحرف ناتئة:
أنشئ هذا المسجد المبارك في عصر خديوي مصر عباس حلمي الثاني، أدام الله أيامه، سنة 1317ه/1899م.
ولها مدرستان: مدرسة وطنية يؤمها نحو 90 تلميذا، يعلم فيها القراءة والكتابة العربية والقرآن، ومدرسة لجمعية إنجيلية فرع من مدرسة المرسلين الإنكليز في غزة يؤمها نحو 50 تلميذا، تدرس فيها العربية والإنكليزية ومبادئ الحساب والجغرافية.
وللعريش محكمة جزئية تابعة لمحكمة الزقازيق الكلية، ومحكمة شرعية، ونفر من البوليس الوطني، وناظر مصري، ومفتش إنكليزي.
وهي واقعة في الطريق التجارية الشهيرة المنسوبة إليها التي تربط مصر بسوريا، ويربطها بمصر خط التلغراف، وبنخل ورفح والقصيمة خط التليفون، ولها بريد أسبوعي يحمل على الإبل، يربطها بالقنطرة ومصر كما سيجيء. (ج) جبانة المدينة
وللمدينة جبانتان: جبانة قديمة إلى الشمال الغربي من القلعة، بطل استعمالها من زمان طويل، وجبانة حديثة غربي القلعة، وفيهما عدة قبب تزار لأولياء قلما يعرف أحد عن أصلهم أو تاريخهم شيئا وهي:
قبة الشيخ جبارة:
في جبانة العريش القديمة، قيل هو من أولياء البادية، ويدعي الملالحة أنه من أجدادهم، وقد رمم هذه القبة عثمان بك فريد أيام كان محافظا للعريش، وبنى بجانبها سبيل ماء، وكتب على حجر رخامي فوق باب القبة هذه العبارة: «هذا مقام الشيخ جبارة، جدده عثمان بك فريد محافظ العريش سنة 1317ه/سنة 1899م.»
وبنى بجانب القبة سبيل ماء وقف له نصف ريال في الشهر لإحيائه، وقد وجدت في هذا السبيل حجرا تاريخيا من الرخام، كان منصوبا فوق قبر نجلين لجد من أجداد العرايشية، وهذه صورة المنقوش على الحجر: «لا إله إلا الله محمد رسول الله صدقا، المرحومين نجلي محمود آغا، جعل الله الجنة لهما المأوى سنة 987ه/ 1579م.»
وقبة الشيخ نصار أبو جرير:
في جبانة البلدة الحالية غربي القلعة، وهو جد الجرارات السواركة، وقد مر ذكره.
وقبة الشيخ عبد الله:
في شرق المدينة، وهي قبة حديثة العهد، قيل «إن أحد محافظي العريش رأى في الحلم أن هذا الشيخ ولي تجب زيارته، فبنى على قبره قبة ومزارا.» (د) آبار المدينة
وفي العريش عدة آبار أشهرها:
بئر عطوان:
في الجهة الشمالية الغربية من القلعة، على نحو نصف كيلومتر منها، وهي بئر قديمة العهد مطوية بالحجر، عمقها 20 قدما، وقطرها 8 أقدام، وهي أعذب آبار العريش ماء ويشرب منها سكان المدينة، وقد ركبت عليها محافظة سيناء حديثا طلمبة لسهولة رفع الماء منها.
وبئر الجامع، وبئر القلعة:
وماؤهما يميل إلى الملوحة .
وبئر الشرفا:
على نحو مائة متر من بئر عطوان شمالا، عمقها 16 قدما ونصف قدم، وقطرها ست أقدام ونصف قدم، ويستخدم ماؤها لسقي السائمة والبناء. (ه) مستشفى ومحجر صحي
وكان في شرق البلدة جمرك ومحجر صحي للإبل والخيل التي ترد من سوريا، فألغيا بعيد الثورة العرابية ونقلا إلى القنطرة.
وفي سنة 1906 حولت المحافظة المحجر إلى مستشفى، وأنشأت فيه حديقة متسعة من أشجار الفاكهة والخضر، وفي الحديقة بئر غزيرة عذبة الماء تسقي الحديقة، عمقها 79 قدما، وقطرها 6 أقدام، وعليها ساقية من حديد، وعلى المستشفى طبيب من ضباط الجيش المصري، وطبيبه الحالي الملازم أول «الدكتور شكري أفندي مشرق» من أبرع الأطباء السوريين وأنجبهم، وأنشأت المحافظة محجرا مؤقتا، وهو نطاق متسع من السلك والأخشاب على شاطئ البحر المتوسط عند قبة النبي ياسر، وعند الاقتضاء يتولى المحجر طبيب العريش وتخفره عساكرها. (3-2) ضواحي مدينة العريش
أما ضواحي مدينة العريش فأهمها: نخل أبو صقل، وقبة النبي ياسر، وحلة المساعيد. (أ) نخل أبو صقل
أما نخل أبو صقل فهو شرقي المدينة عند فم وادي العريش، وهناك نخيل كثير وأراض زراعية متسعة يزرع فيها العنب والتين، وفيها آبار ماء قريبة الغور، قد ركبت عليها الشواديف، وزرع عليها أنواع الخضر، كالملوخية والبامية والطماطم وغيرها، وأكثر أصحاب نخل أبو صقل يسكنون قرية صغيرة هناك تدعى «المخوزقة». (ب) قبة النبي ياسر
أما قبة النبي ياسر فقائمة على تل مرتفع فوق شاطئ البحر في مكان يدعى «اليزك»، ذكره الشيخ عبد الغني النابلسي (1143ه) في رحلته عند ذكر مدينة العريش، قال: «في تلك البلاد مكان مبارك يقال له اليزك ... ويقال: إنه متصل بالغار الذي في بلاد الخليل» ا.ه. وقد جدد بناء هذه القبة عثمان بك فريد المار ذكره، ونقش على رخامى فوق باب القبة هذه العبارة: «هذا مقام نبي الله ياسر صاحب الفضل والمآثر - عليه السلام - جدده عثمان بك فريد محافظ العريش سنة 1317ه/1899م.» وفي سنة 1318ه نكب عثمان بك فريد بابن عزيز له في العريش فدفنه عند القبة. وهناك بئر قديمة العهد تعرف ببئر اليزك، جددت بأمر الجناب العالي الخديوي عند زيارته الحدود سنة 1898، وقد بني لها حوض لسقي السابلة، وماؤها أعذب من آبار المدينة، وعند هذه البئر المحجر الجديد المار ذكره.
وبجانب القبة إلى جهة البحر قبران: قبر عليه شاهدتان من الرخام، ارتفاع كل منهما نحو متر، وقد حفر على الشاهدة الشرقية شجرة ورد جميلة الصنع، وعلى الغربية كتابة بالتركية هذا نصها: «هو الحي الباقي، دركاه عالي يكنجر يلري أغاسي أولوب عريش محافظي أيكن رحلت دار بقاء أيدن مير ميران مرحوم، ومغفور له أمين سنة 1197ه»، وترجمته: «انتقل إلى دار البقاء المغفور له المير ميران آغا الإنكشارية الهمايونيو الذي كان محافظا للعريش سنة 1197ه/1783م.» وقبر آخر فوقه حجر منقوش عليه بالعربية: «قل هو الله أحد، هذا قبر المغازي في سبيل الله الحاج حسن بن طلحة.» (ج) حلة المساعيد
أما حلة المساعيد فهي حلة صغيرة في وسط حديقة متسعة من النخيل وأشجار الفاكهة والخضر، على نحو أربعة أميال غربي العريش، وفيها «بئر المساعيد» على السكة السلطانية قرب شاطئ البحر، وبئر أخرى في وسطها على نحو مائة متر من الأولى، وهي بئر عذبة الماء قريبة القعر، وقد كان محافظو العريش السابقون لعثمان بك فريد يأتون بماء الشرب من القنطرة، فلما جاء عثمان بك محافظا استعذب ماء هذه البئر، فحصرها في برميل أنزله في الحفرة، ومنع العامة عنها، واستغنى عن ماء القنطرة، وجرى مجراه المحافظون الذين جاءوا بعده، وبنى المحافظ محمد إسلام بك على البئر كوخا من الخشب، وجعل لها قفلا لأجل حمايتها، وما زالت محمية، وموظفو المحافظة يشربون منها إلى اليوم. (3-3) سكان مدينة العريش
وأما سكان مدينة العريش وضواحيها، فقد بلغ عددهم في تعداد المحافظة سنة 1907 مع سكان حلة الشيخ زويد 5851 نفسا كما مر، أما سكان الشيخ زويد فلا يزيدون على مائة نفس، فيكون عدد سكان مدينة العريش نحو 5750 نفسا، أو 2900 ذكر و2850 أنثى، وكلهم مسلمون على المذهب الحنفي بينهم 11 مسيحيا و3 يهود، وقد كانوا في أيام عبد الغني النابلسي (1730م) نحو ألفي نفس، غالبهم دائم الأسفار إلى مصر والشام على الإبل ؛ لضرورة المعاش.
وهم فريقان كبيران: «العرايشية، والفواخرية».
أما «العرايشية» فجلهم من متخلفي العساكر التركية الذين أرسلوا لحماية قلاع العريش، وقطية، والطينة في مدات مختلفة منذ تأسيس تلك القلاع إلى أن ألغى محمد علي باشا قلعة العريش بعد سنة 1840م في الأرجح، وهم عدة فرق أهمها: «أولاد سليمان، والآغاوات، والمماليك، والكشاف، والشرابجة، والشرفا، والحجاجوة»، ويقال: إن الفرق الثلاثة الأولى هم متخلفو حامية العريش، وأقواها فرقة أولاد سليمان، حتى لقد ينسب العرايشية كلهم إليهم، وإن الكشاف هم متخلفو حامية قطية، والشرابجة متخلفو حامية الطينة.
وأما «الفواخرية» فأكثرهم من مهاجري جنوبي سوريا، جاءوها بعد تأسيس القلعة للاتجار مع حاميتها وبادية العريش، قيل لقبوا بالفواخرية؛ لأن أكثرهم كانوا يتجرون بالفخار يأتون به من غزة، وفي غزة إلى الآن معمل فخار لصنع آنية الماء من تربة سوداء هناك، وأهل العريش يشترون منه الجرار السود التي يستخدمونها لنقل الماء، أما الفواخرية أنفسهم، فيقولون إن أصلهم «عرب من الشرق». وهم فرقتان: «الغولة، والقلعجية، والسلايمة، والفيران، والعطاوين» وعليهم شيخ. «والعبادين، وأولاد أحمد، والصبايحة، والسحايقة» وعليهم شيخ آخر.
أما العطاوين فقيل إنهم من سكان المدينة الأصليين، وهم عائلتان فقط، لا يزيدون عن عشرين نفسا، وأما السلايمة فمن مهاجري الخليج، والفيران من مهاجري غزة.
هذا، وفي سنة 1840 كان غطاس آغا من فرقة الآغاوات حاكما في العريش، فوقع خلاف بينه وبين قومه العرايشية، فشكوه إلى الحكومة بمصر فعزل، فانفصل الآغاوات والمماليك منذ ذلك العهد عن العرايشية، وانضموا إلى الفواخرية وألفوا معهم حزبا واحدا، فأصبح سكان العريش حزبين متقاربين عددا وثراء.
وبعض أهل العريش يتجرون مع البدو في البادية، وبعضهم يتجرون في سوق المدينة، وبعضهم يشتغلون بالزراعة، وآخرون في خدمة الحكومة: عساكر بوليس، وكتابا، ووكلاء نظار. ولكن أكثرهم يقتنون الإبل ويشتغلون جمالة. ولهم مهارة خاصة في تربية الإبل وسياستها ونقل الأحمال عليها، بل هم في ذلك أمهر أهل الجزيرة، ويأتي بعدهم الطورة ثم أهل التيه، ولهم في ضواحي بلدتهم نخيل كثير يعنون به كما مر، وهم يتبعون في معائشهم نظاما معينا اعتادوه منذ عهد بعيد، وذلك أنه عند انتهاء موسم النخيل في أواخر أكتوبر يذهب قسم كبير منهم إلى مصر بإبلهم، فيؤجرون الإبل لنقل القطن والحبوب ويرعونها البرسيم، وفي يناير يبدءون بالعودة إلى أوطانهم لتلقيح نخيلهم والاعتناء بزراعتهم، وأهم زراعتهم: البطيخ والشعير والقمح، يزرعونها على المطر؛ الشعير بعد أول مطرة، والقمح بعد زرع الشعير بنحو شهر، ثم يزرعون البطيخ، يزرعون منه حقولا متسعة، وبه يتجرون ويعلفون خيلهم وإبلهم كما مر، وبعد حصد الزرع في أواخر مايو أو أوائل يونيو يجعلون حبوبهم في مطامير، ويرحلون إلى غزة بجمالهم ونسائهم؛ لمساعدة أهلها في الحصاد وتأجير إبلهم لنقل الحبوب، ثم يرجعون إلى وطنهم عند انتهاء الحصاد في أوائل سبتمبر، ومعهم ما جنوه من الحبوب، فيضيفونه إلى مطاميرهم، ويبقون إلى انتهاء موسم البلح في أواخر أكتوبر، فيذهبون إلى مصر كما مر، وهكذا.
وهم في بلدتهم يقتسمون الغنم، والغرم، وأجر الجمال، على نسبة معلومة اتفقوا عليها منذ قديم الزمان وأقرتها الحكومة، وهذه حصص كل فريق منهم كما أقرتها نظارة الداخلية سنة 4-1899 مع أسماء مشايخهم الحاليين الرسميين:
العرايشية: الفروع
اسم الشيخ
الحصة بالقيراط
أولاد سليمان وشركاؤهم
الحاج عبد الحليم عبد الله
7
الشرابجة
حسين أبو نجيلة
3
الكشاف، والشرفا، والحجاجوة
رفاعي محمد كاشف
3
الفواخرية
الفواخرية فريق أول
إبراهيم عبيد
4
الفواخرية فريق ثان
محمد سميري
4
الغطايسة أو الآغاوات، والمماليك، والجغانوة
أحمد بدوي
3
الجملة قيراط
24
ولكل من الفريقين مقعد أو مقاعد يجلس فيه رجاله، يشربون القهوة ويتحدثون في شئونهم الخاصة والعامة على نحو ما يفعل مشايخ البدو في باديتهم.
وأكثر أهل العريش فقراء، ولكن فيهم نحو 30 عينا، يملك الواحد منهم من الإبل والأغنام والنخيل والأراضي الزراعية ما قيمته 500 جنيه إلى 3000 جنيه، وأثراهم: «الحاج كريم عبد الشافي، والحاج يوسف عبد الله الطنجير من العرايشية، والشيخ عطية الغول، والشيخ صبيح محمد من الفواخرية، والحاج محمد صالح البك وإخوانه من الآغاوات، وفريق الشرابجة»، وممن دخلوا خدمة الحكومة حديثا وامتازوا فيها:
طولسن بك عبد الشافي:
من أولاد سليمان، خدم معاونا لثلاثة محافظين في العريش، فكان لهم المرشد الأمين الخبير الناصح، فرقي إلى وظيفة في القطر المصري، وهو الآن مأمور مركز كوم حمادة بمديرية البحيرة.
وأسعد أفندي عرفات:
من الكشاف، مأمور ترحيلات الحربية بالقنطرة، وهو يلتهب غيرة على قومه وبلاده، ودائم التفكر فيما يعود عليهم بالخير والإسعاد، وقد اشتهر في حادثة الحدود سنة 1906 كما سيجيء.
وخالد أفندي حسني:
من مهاجري غزة، صراف نظارة العريش، وهو من الشبان الأدباء النجباء، ومن ذوي اليسار.
هذا، وعند إنشاء الجمعية العمومية المصرية في أول مايو سنة 1883، أعطي للعريش حق النيابة، فكان لها مع الإسماعيلية عضو واحد في الجمعية العمومية، وكان لها مع سائر محافظات القطر عضو واحد في مجلس الشورى، وفي 6 يناير سنة 1908 في آخر انتخاب للجمعية العمومية مثل العريش والإسماعيلية الشيخ عبد الوهاب سليمان - من أولاد سليمان العرايشية - ولكن قانون الجمعية التشريعية الجديد الصادر في أول يوليو سنة 1913، أسقط العريش من المجلس، وألحق الإسماعيلية ببورسعيد، وكانت بورسعيد ملحقة بالسويس، فتفردت السويس بالعضوية وحدها. (3-4) تاريخ العريش القديم
والعريش مدينة قديمة قائمة على أنقاض مدينة للمصريين القدماء تدعى «رينوكلورا»؛ أي مجذوم الأنف، قيل سميت كذلك؛ لأنها كانت منفى الذين حكم عليهم بالإعداد واستبدل الحكم بجذم الأنف، وأما العريش فإنه الاسم الذي أطلقه عليها العرب، والظاهر أن أهلها في القديم كانوا يسكنون في مظال من القش اليابس كما يفعل أهل البادية اليوم في الصيف، فسميت محلتهم العريش، وهذا الاسم لا يزال يطلق هناك على مظال القش إلى الآن. وذكر المقريزي في خططه مدينة العريش، قال: «العريش مدينة فيما بين أرض فلسطين وإقليم مصر، وهي مدينة قديمة من جملة المدائن التي اختطت بعد الطوفان.» قال الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه: «إن مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح - عليه السلام - كان غلاما مرفها، فلما قرب من مصر بنى له عريشا من أغصان الشجر، وستره بحشيش الأرض، ثم بنى له بعد ذلك في هذا الموضع مدينة وسماها درسان؛ أي باب الجنة، فزرعوا وغرسوا الأشجار والجنان من درسان إلى البحر، فكانت كلها زروعا وجنانا وعمارة.»
وقال آخر : «إنما سميت بذلك؛ لأن بيصر بن حام بن نوح تحمل في ولده وهم أربعة ومعهم أولادهم، فكانوا ثلاثين ما بين ذكر وأنثى، وقدم ابنه مصر بن بيصر أمامه نحو أرض مصر حتى خرج من حد الشام، فتاهوا وسقط مصر في موضع العريش، وقد اشتد تعبه ونام، فرأى قائلا يبشره بحصوله في أرض ذات خير ودر وملك وفخر، فانتبه فزعا، فإذا عليه عريش من أطراف الشجر وحوله عيون ماء، فحمد الله وسأله أن يجمعه بأبيه وإخوته، وأن يبارك له في أرضه، فاستجيب له، وقادهم الله إليه، فنزلوا في العريش وأقاموا به، فأخرج الله لهم من البحر دواب ما بين خيل وحمر وبقر وغنم وإبل، فساقوها حتى أتوا موضع مدينة منف، فنزلوه وبنوا فيه قرية سميت بالقبطية «مافة» يعني قرية ثلاثين، فنمت ذرية بيصر حتى عمروا الأرض وزرعوا وكثرت مواشيهم، وظهرت لهم المعادن، فكان الرجل منهم يستخرج القطعة من الزبرجد يعمل منها مائدة كبيرة، ويخرج من الذهب ما تكون القطعة منه مثل الأسطوانة وكالبعير الرابض.»
وقال ابن سعيد عن البيهقي: «كان دخول إخوة يوسف وأبويه - عليهم السلام - عليه بمدينة العريش، وهي أول أرض مصر؛ لأنه خرج إلى تلقيهم حتى نزل المدينة بطرف سلطانه، وكان له هناك عرش، وهو سرير السلطنة، فأجلس أبويه عليه، وكانت تلك المدينة تسمى في القديم بمدينة العرش لذلك، ثم سمتها العامة مدينة العريش. فغلب ذلك عليها، ويقال: إنه كان ليوسف - عليه السلام - حرس في أطراف مصر من جميع جوانبها، فلما أصاب الشام القحط وسارت إخوة يوسف لتمتار من مصر؛ أقاموا بالعريش، وكتب صاحب الحرس إلى يوسف أن أولاد يعقوب الكنعاني يريدون البلد؛ لقحط نزل بهم، فعمل إخوة يوسف عند ذلك عرشا يستظلون به من الشمس حتى يعود الجواب، فسمي الموضع العريش، وكتب يوسف بالإذن لهم، وفي سنة خمس عشرة وأربعمائة طرق عبد الله بن إدريس الجعفري العريش بمعاونة بني الجراح وأحرقها، وأخذ جميع من فيها. وقال القاضي الفاضل: وفي جمادى الآخرة سنة سبع وسبعين وخمسمائة ورد الخبر بأن نخل العريش قطع الفرنج أكثره، وحملوا جذوعه إلى بلادهم، وملئت منه، ولم يجدوا مخاطبا على ذلك. ونقل عن ابن عبد الحكم أن الجفار بأجمعه كان أيام فرعون موسى في غاية العمارة بالمياه والقرى والسكان، وأن قول الله تعالى:
ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون
عن هذه المواضع، وأن العمارة كانت متصلة منه إلى اليمن؛ ولذلك سميت العريش عريشا، وقيل إنها نهاية التخوم من الشام، وإن إليها كان ينتهي رعاة إبراهيم الخليل - عليه السلام - بمواشيه، وأنه - عليه السلام - اتخذ به عريشا كان يجلس فيه حتى تحلب مواشيه بين يديه، فسمي العريش من أجل ذلك. وقيل إن مالك بن زعر بن حجر بن جديلة بن لخم كان له أربعة وعشرون ولدا منهم العريش بن مالك، وبه سميت العريش؛ لأنه نزل بها وبناها مدينة، وعن كعب الأحبار أن بالعريش قبور عشرة من الأنبياء.» ا.ه.
وفي رحلة النابلسي: «إن العريش أول حدود مصر وآخر حدود الشام، وفيها جوامع عامرة، بداخل أحدها قبر الشيخ محمد الدمياطي صاحب الولاية والتقريب، تلميذ الشيخ نور الدين الدمياطي صاحب الدمياطية. وقد وصفها السيد محمد كبريت في رحلته بقوله:
ثم أتينا بعد للعريش
وأنه في ساحل وحيش
ما فيه إلا الرمل والبرغوث
وليس فيه للغريب غوث
وفيه أيضا قلعة وزاوية
وبعض دور في فناها خاوية»
ا.ه.
ثم بعد دخول مصر في حوزة الأتراك بنى السلطان سليمان الثاني القلعة الباقية إلى هذا العهد، وفتحها نابليون الأول في 18 فبراير سنة 1899 عند قدومه لمصر، فاسترجعها منه السلطان سليم الثالث في 17 نوفمبر من السنة نفسها، ثم لما دخلت مصر في حكم محمد علي باشا - جد العائلة الخديوية الكريمة - سنة 1805م دخلت العريش وسيناء كلها في حكمه أيضا كما سيجيء مفصلا في باب التاريخ. (3-5) قرية الشيخ زويد
أما قرية الشيخ زويد فهي ثلة من المنازل في طريق العريش، على نحو 18 ميلا من مدينة العريش وعشرة أميال من رفح، ونحو ميلين من شاطئ البحر، وأهلها أخلاط من خان يونس والعريش، جاءوها منذ نحو خمسين سنة، فأسسوها على أنقاض بلدة قديمة العهد، تدل خرائبها على أنها كانت على جانب عظيم من المدنية والعمران.
وأول من بنى فيها في هذا العهد الحاج أحمد - من أولاد سلوس - أتاها من خان يونس، وبنى فيها منزلا ودكانا للبيع والشراء على البدو وعابري السبيل، ثم أتى «الزعران» من العريش، ثم أولاد سلوس أيوب والسيد من خان يونس، وكلهم يتجرون بالبضائع التي تروج عند البدو وعابري السبيل، وكانوا أولا يأتون بجميع بضائعهم من غزة، وأما الآن فيأتون بالأقمشة والأعبئة من العريش، وبالزيت والسيرج والصابون من غزة.
وأما المدينة القديمة التي بنيت عليها هذه القرية، فمعظم خرائبها وقبورها على ثلة إلى الغرب والجنوب الغربي من القرية الحالية. (أ) قبة الشيخ زويد
وإلى شمالي البلدة على مقربة منها جبانة قديمة، فيها «قبة الشيخ زويد» الذي به سميت البلدة، ويدعي السواركة أنه من أجدادهم، ولكن سائر القبائل تنكر عليهم هذه الدعوى، ويقولون: إنه من الصحابة، يزور القبة عابرو السبيل والسواركة وغيرهم من بدو الجزيرة في كل سنة بعد الحصاد، فيقيمون عندها الأفراح ثلاثة أيام، ويذبحون الذبائح، ويولمون الولائم، ويتسابقون على الخيل والهجن، قيل وقد اجتمع عندها في 25 مايو سنة 1906 نحو 5000 نسمة، وهم يزورونها الخميس صباحا، فيقضون نهار الخميس كله وليلة الجمعة، ثم يبدءون بالرحيل.
وعلى باب القبة حجر من رخام عليه كتابة بالعربية هذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم، أنشأ هذه القبة المباركة إن شاء الله تعالى أمير اللوا الأمير محمد بك باش الخزين، الواقف عليه حضرة علي أحمد آغا، وذلك في شهر صفر سنة 1063ه/يناير سنة 1653م.
وفي هذه الجبانة بجانب القبة قبر زايد، ومزيد، وأربعة قبور أخرى قديمة، قيل إنها قبور إخوة الشيخ زويد، وعلى هذه القبور حجارة رخامية، وحجارة عادية منحوتة مأخوذة من الخرائب القديمة. وللقبة شيخ يحافظ عليها وينيرها كل ليلة جمعة، ورأيت عليها سنة 1906 محمد بن سليمان سلامة، وهو في عشرة التسعين من عمره، فسألته عن القبة، فقال: تهدمت بمرور الأيام، فرممها جدي سلامة، وأصله من العريش، ثم تهدمت فرممها أبي، ونحن نعيش على الصدقات التي يتصدق بها زوار الشيخ.
قبر صبح أبو لقيتة:
وبين قبة الشيخ زويد والقرية جبانة حديثة، فيها حجرة مبيضة حديثة العهد، لصبح أبو لقيتة من عرب العائد بمصر، قيل ارتكب جريمة في أهله فهجرهم وسكن بين السواركة، ومات عن بنت وحيدة ومال كثير، وقد بنوا له هذه الحجرة قياما بوصيته.
قبر عمير:
وعلى نحو ميلين من هذا القبر شمالا «قبر عمير»، وهو قبر يزار. (ب) آبارها
وفي قرية الشيخ زويد بئر قديمة، مبنية بالحجر الغشيم، ماؤها ملح، وكانت القرية في أيام المغفور له محمد علي باشا محطة للبريد إلى سوريا كما سيجيء.
بئر حنظلة:
وفي ساحل الشيخ زويد على البحر بئر تدعى بئر حنظلة، حفرها السواركة، وماؤها غزير وأعذب من بئر الشيخ زويد. (ج) مطلة الشيخ زويد
وإلى جانب هذه البئر شماليها أكمة عظيمة، تدعى مطلة الشيخ زويد، عليها خرائب مدينة قديمة، وقد وجدت بين تلك الخرائب قطع من العملة النحاسية، وقطع أساور زجاجية وغيرها من عهد اليونان والرومان والعرب.
أخبرني الحاج أحمد من أهالي الشيخ زويد: أنه كان على تلك الأكمة آثار نفيسة جدا؛ من ذلك معبد جميل فيه تمثال امرأة من الرخام الأبيض الجميل، يشبه أن يكون تمثال مريم العذراء، بقي إلى أيام الثورة العرابية، فحطمه العرب تحطيما، وقد وجد أحدهم في بعض القبور حلى ذهبية، فنبشوا كل القبور وعاثوا بها، وطمرت الكنيسة الرمال. وكانت هناك غرف مبلطة بالفسيفساء، فلم يبق ما يدل على تلك الغرف إلا حجارة الفسيفساء المكعبة الصغيرة. (3-6) قطية «قطية» ومن بلاد العريش الشهيرة في طريق العريش، على نحو 26 ميلا من القنطرة بلاد قطية، وهي حدائق متسعة من النخيل، عندها خرائب بلدة قديمة وقلعة، وبئر مطوية بالحجر المنحوت، وقد رمم البئر إبراهيم باشا في أثناء حملته على سوريا، ثم رممها عباس باشا الخديوي الحالي عند زيارته العريش.
وكانت قطية قبل فتح ترعة السويس تابعة لمديرية الشرقية، فلما فتحت الترعة ألحقت بالعريش، ولا تزال، ويسكنها الآن عربان متبدون، يقيمون فيها بخيامهم وأكواخ من سعف النخل في موسم البلح، وبعد انتهاء هذا الموسم يرحلون بخيامهم وإبلهم وعيالهم إلى مصر وسوريا؛ للتعيش فيها كأهل العريش.
وفي تقويم البلدان: «إنها على بعد يوم من الفرما.»
وقال خليل الظاهري في كتابه «زبدة كشف الممالك وبيان الطرق والمسالك»:
إن قطية ليست من الأقاليم، وإنما هي بمفردها، وهي مزم الدرب، حتى لا يمكن التوصل إلى الديار المصرية إلا منها، وبها حرسية ونخيل كثيرة، ولها ميناء، وهي الطينة على شط البحر المحيط، وعمر هناك الملك الأشرف - تغمده الله برحمته - برجين، ويصب من هناك فرقة من بحر النيل. ا.ه.
وفي رحلة النابلسي: «قطية بفتح القاف بعدها طاء مهملة ساكنة، هي مكان أخذ المكوس من كل من يمر من ذلك الطريق، فيأخذ الكاشف من جهة الأجناد المصرية خفارة الأموال والخيل والدواب التي للتجار، وغيرهم ممن يمر في تلك البرية، قال السيد محمد كبريت:
والظلم في قطية كل الظلم
يضرب في الأمثال بل في النظم
قد أنشأ الظلم به هناد
وقام في مقامه الأوغاد» (3-7) مركز البوليس في رفح
وبنى محافظ سيناء سنة 1907 مركزا للبوليس في رفح قرب عمودي الحدود، وهو مؤلف من مكتب فيه أربع غرف ودار مسقوفة، وله سور ضلعه الشرقية على خط الحد الشرقي، وبنى بقربه مساكن للبوليس الهجانة فيها عشر غرف، ومنزل لوكيل الناظر، ومناخ للإبل، ومد إليه خط التليفون من العريش، وكل هذه الأبنية شرقي طريق العريش إلى غزة، وأنشأ غربي الطريق حديقة للخضر وأشجار الفاكهة كاللوز والمشمش، وحفر فيها بئرا. (أ) الجمعية الصهيونية في رفح
وحضر حديثا بعض رجال الجمعية الصهيونية إلى رفح، واشتروا من أهلها بعض الأراضي بقصد تأسيس مستعمرة لهم هناك، وكان بعض تلك الأراضي للحكومة، وبعضها منازع على ملكيته، فلم يثبت لرجال الجمعية من الأرض ما يكفي لإنشاء مستعمرة، فوقف عملهم.
شكل 1-9: مركز البوليس في رفح. (ب) آثار رفح القديمة
ومركز رفح هذا قائم على أنقاض مدينة رفح القديمة، على 28 ميلا من مدينة العريش، و5 أميال عن خان يونس، و18 ميلا من غزة، وهي مدينة «رافيا» التي ذكرها المؤرخ يوسيفوس، أنها أول محطة سورية استراح فيها تيتوس في طريقه لمحاصرة القدس سنة 70ب.م، وقد تقدم أن رفح هذه كانت في أكثر العصور التاريخية الحد بين مصر وسوريا، وأن فيها انتصر بطليموس الرابع ملك مصر على أنطيوخوس الكبير ملك سوريا في واقعة كبيرة سنة 217ق.م، وانتصر سرجون ملك آشور على سباقون ملك مصر في أوائل القرن الثامن قبل الميلاد، وسنأتي على ذلك تفصيلا في باب التاريخ.
وقال المهلبي سنة 575ه/1179م: «رفح مدينة عامرة، فيها سوق وجامع ومنبر وفنادق، وأهلها من لخم وجذام، وفيهم لصوصية وإغارة على أمتعة الناس، حتى إن كلابهم أضر كلاب الأرض بسرقة ما يسرق مثله الكلاب، ولها والي معونة برسمه عدة من الجند، ومن رفح إلى مدينة غزة شجر جميز مصطف على جانبي الطريق عن اليمين والشمال، نحو ألف شجرة متصلة أغصان بعضها ببعض مسيرة نحو ميلين، وهناك منقطع رمال الجفار، ويقع المسافرون في الجلد، وكان فتحها فيما فتح من مدن الشام على يد عمرو بن العاص في خلافة عمر بن الخطاب، ولها ذكر في أخبار الصليبية.»
وقال ياقوت الحموي الذي توفي سنة 626ه/1229م: «رفح منزل في طريق مصر بعد الدارم، بينه وبين عسقلان يومان لقاصد مصر، وهو أول الرمل، خرب الآن تنسب إليه الكلاب وله ذكر في الأخبار.» ا.ه.
قلت: ولا تزال خرابا، وأرضها تزرع شعيرا، وقد طمرت الرمال معظم آثارها، وعبث الزمان والسياح والعربان بالباقي، ومع ذلك فالقليل الظاهر فوق الأرض من خرائبها يدل على ما كانت عليه قديما من الثروة والعز، وأشهر آثارها الباقية إلى الآن: عمد من الغرانيت الأسود والسماقي، وكسر من حجارة البناء الصلبة، وكسر آنية الفخار والزجاج على أنواعها، والفسيفساء، وهرابات الماء، وقطع النقود الفضية والنحاسية والزجاجية من عهد الرومان والبيزنتيين والدول الإسلامية الأولى، وآبار قديمة وحديثة، وجبانة قديمة وقبور أولياء، ومما يذكر من تلك الآثار:
بئر رفح:
وهي بئر قديمة العهد، مطوية بالحجر المنحوت، قطرها نحو عشر أقدام، وعمقها نحو عشر قامات، وماؤها غزير صالح للشرب، لكنه مائل إلى الملوحة، وفيه علق صغير، وكانت البئر قد ردمت، فطهرها أهل خان يونس منذ نحو 30 سنة، وزرعوا الأرض التي تجاورها شعيرا، وقد جعلوا على البئر عمودين من عمد رفح القديمة؛ لتضييق فمها، وتقليل خطر السقوط فيها، وقد دخلت هذه البئر في حد الدولة العلية.
وبين بئر رفح والبحر المتوسط كثبان عظيمة من الرمال، تسفي رياح البحر منها إلى الأرض الزراعية، فتبتلعها تدريجا، وأهلها لا يبدون أقل حركة لإيقافها عند حدها، ويتخلل تلك الكثبان خرائب أبنية قديمة، وكسر فخار وزجاج، مما دل على أن عمرانها كان يمتد إلى شاطئ البحر المتوسط.
وبئر رفيح:
وهي بئر حديثة العهد، احتفرها الرميلات في وسط الكثبان المشار إليها، على نحو ميلين إلى الجنوب الغربي من بئر رفح، وقد دخلت في حد مصر، ورممها محافظ سيناء سنة 1907.
عمودا الحدود والسدرة:
وعلى نحو 360 مترا إلى الجنوب الغربي من بئر رفح سدرة كبيرة، كان عن جانبيها عمودان من الغرانيت الأسمر، عرفا بعمودي الحدود، طول كل منهما سبع أقدام، ومحيطه نحو ثلاث أقدام، الواحد إلى جهة الشام، والآخر إلى جهة مصر، وقد كونا مع أصل السدرة مثلثا متساوي الأضلاع، طول كل ضلع منها نحو خمسة أمتار (انظر
1-4 )، ولما زار سمو الخديوي الحالي رفح سنة 1898 نقش تاريخ زيارته على العمود الذي إلى جهة مصر، فلما كانت حادثة الحدود سنة 1906 أزال الجنود التركية العمودين من مكانهما، وطمروهما في الرمال بعد أن حطموا أحدهما تحطيما، فلما جاءت اللجنة لتعيين الحدود أبقت على هذا الحد، ونصبت في مكان العمودين المذكورين عمودين غرانيتيين آخرين من عمد رفح القديمة، أحدهما كامل والآخر قطعة من عمود كما سيجيء مفصلا في باب التاريخ.
قال محمد إبراهيم صاحب السدرة: «إنه كان تحت السدرة قديما عدة عمد، بينها عمود عليه كتابة أعجمية، فنقله بعض النصارى بحرا حوالي سنة 1845م»، وعلى نحو مائة متر غربي البئر والسدرة تل رملي مسطح، يدعى تل رفح، عليه خرائب أبنية قديمة، وقد أخبرني ثقة من بدو رفح أنه كان عليه تمثال من الرخام، وبلاطة كبيرة عليها كتابة أعجمية وغيرها من الآثار النفيسة، فنقلت إلى الآستانة منذ عهد غير بعيد.
كوخ التلغراف:
وعلى نحو 600 متر جنوبي السدرة، عند ملتقى طريق العريش إلى غزة، وطريق الرميلات إلى بئر رفيح، غرفتان صغيرتان من الطوب النيء، بنتهما مصلحة التلغراف المصرية لمفتشي الخط على الحدود، وأطلق عليهما «كوخ التلغراف».
قبر الشيخ سليمان الرفحي:
وبين عمودي الحدود وبئر رفح ضريح الشيخ سليمان الرفحي المشهور بكراماته وعجائبه، قال محمد إبراهيم صاحب السدرة: «كان الناس يزورون هذا الضريح وينيرونه بالشموع إلى سنة 1899 إذ قدم ضابط تركي وهدم الضريح إلى الأرض؛ ليمنع الناس من زيارته، فمرض الضابط على الأثر، فظن البدو أن صاحب القبر يميته، ولما لم يمته ذهب اعتباره من قلوبهم، وعدلوا عن زيارته من ذلك الحين، أما الضابط فإنه بعد شفائه أعاد بناء الضريح وذبح له، وهذا الشيخ هو حارس البئر يحمي الناس من السقوط فيها، وإذا سقطوا حماهم من الموت غرقا!»
هرابة رفح:
وعلى نحو ميل من بئر رفح إلى الجنوب الشرقي منها هرابة قديمة مبنية بالحجر والكلس على شكل الجرة؛ أي أنها ضيقة الفم منفوخة البطن، ولها قناة تتصل إليها من أعلى التلة المحفورة فيها، مما دل على أنها مصنوعة لخزن مياه الأمطار.
ومن الآثار التي عثرت عليها في رفح: قطعة من تمثال صغير من الرخام الأبيض الناصع، وهو تمثال فارس بيده رمح، ولعله مار جرجس يطعن التنين كما في الصورة التي نراها في كنائس النصارى الشرقية، وقطعة تمثال آخر صغير من الرخام، يشبه أن يكون تمثال مريم العذراء، وقطعة من حجر طباشيري عليه كتابة باليوناني القديم كما في العوجاء، وأنواع كثيرة من النقود النحاسية القديمة. (3-8) ضواحي رفح
الفقيرة:
وعلى نحو ميل ونصف ميل جنوبي بئر رفح شجرتا سدر قديمتا العهد جدا، يقال لكل منهما الفقيرة، تزورهما نساء البادية، وينذرن لهما النذور، وهما قائمتان على تل مرتفع يرى منه جبل الحلال في الجنوب، وجبل الخليل في الشرق البحت.
أم عمد:
وعلى نحو ميل ونصف ميل جنوبي الفقيرة خرائب «أم عمد»، سميت كذلك؛ لكثرة العمد في خرائبها، وأهم ما هو ظاهر منها الآن، عمودان كبيران من الغرانيت الرمادي، أحدهما مكسور، وعمود من الرخام الأبيض، ومطمارة لخزن الغلال مبنية بالحجر والكلس، وهرابة للماء كهرابة رفح، وعلى نحو 9 أميال جنوبي أم عمد «خربة الرطيل» في شمال الجورة المار ذكرها.
قبر الغبي:
وعلى نحو ميلين إلى الجنوب الشرقي من بئر رفح قبر الغبي، وهو ضريح قديم مدرج، وحول الضريح شجر شائك، علق فيه سرج الزيت لإنارة الضريح، وأهل البلاد ينذرون له النذور ويذبحون له الذبائح.
قبر القبة:
على نحو ساعة من قبر الغبي جنوبا، وهو قبر يزار.
وقبر الشيخ حسن:
على نحو خمسة أميال إلى الجنوب الشرقي من بئر رفح، بجوار كرم مصلح، وهو قبر قديم مدرج كقبر الغبي. (3-9) بقية آثار بلاد العريش (أ) على طريق الفرما
تبدأ الطريق المعروفة الآن «بطريق الفرما» من القنطرة شرقي ترعة السويس، فتتبع فرع النيل البليوسي الذي جف شمالا بشرق إلى قرب مصبه بالبحر المتوسط عند رأس بحيرة بردويل الغربي، ثم تدخل شرقا في ذراع مرتفعة من البر بين بحيرة بردويل والبحر المتوسط إلى أن تخرج من البحيرة، فتتبع شاطئ البحر إلى ميناء رفح، وهذه أقدم طرق مصر إلى سوريا، وقد كانت قديما عامرة بالمدن والحصون والأبراج، فلما جف الفرع البليوسي خربت المدن والحصون خرابا تاما، وفتحت طريق البر المعروفة «بطريق العريش»، وقل استعمال طريق الفرما، ثم بتقدم الملاحة قل استعمال طريق العريش أيضا كما سيجيء، وأشهر الخرائب الباقية إلى الآن على طريق الفرما أو التي تنحرف عنها قليلا: «التل الأحمر، تل حبوة، تل هربة، تل الحير، تل الفضة، تل الذهب، المحمدية، قلعة الطينة، قلعة مفرج، الفرما، تل القلس، الفلوسيات، الخوينات، اليزك، عسلوج.»
التل الأحمر
أما التل الأحمر، فعلى نحو ميلين شرقي القنطرة على يمين المسافر، سمي كذلك؛ لأن عليه خرائب متسعة من القرميد الأحمر، وعليه كثير من الحجارة الأثرية والعمد، قيل وفيه خرائب هيكل من بناء ستي الأول ورعمسيس للإله «هورس»، وبقايا معسكر روماني، وجد فيه بعض البحاثين كتابة باللاتينية للإمبراطورين ديوقليشيان ومكسيميان.
مررت بهذا التل سنة 1907، فرأيت عليه حجرا هيروغليفيا مطمورا بالرمال، وحجر طحن كبير من الغرانيت الأسود، ورأيت في شرق القنطرة على نحو ميل من الترعة حجرا كبيرا من الصوان الأحمر، له أربعة أوجه ملأى بالكتابة الهيروغليفية، قيل نقله إليها الموسيو ده لسبس فاتح الترعة في زمن المغفور له سعيد باشا بقصد أخذه إلى فرنسا، وقد دفعت الحكومة الفرنساوية ستة آلاف جنيه ثمنا له، فرفضت الحكومة المصرية بيعه، فبقي في القنطرة إلى أن نقلته شركة الترعة إلى حديقتها بالإسماعيلية في أكتوبر سنة 1909، وفي يونيو سنة 1911 كان إسماعيل أفندي المفتي مهندس المحافظة سابقا يفتش في جوار التل الأحمر عن حجارة للبناء، فعثر على جبانة قديمة دل عليها مصلحة الآثار المصرية، فوجدت فيها توابيت من الحجر عليها كتابة بالهيروغليفية، وقد نقلت بعضها إلى المتحف المصري بالقاهرة.
تل حبوة
أما تل حبوة ففي طريق العريش على يمين المسافر بطريق الفرما، وعلى نحو ساعة ونصف ساعة شرقي القنطرة، وعليه خرائب برج حديث بالطوب الأحمر.
تل هربة
في طريف الفرما على نحو ساعة ونصف ساعة من التل الأحمر، وعليه خرائب قلعة قديمة بالحجر المقصوب، لم يبق ظاهرا منها إلا أساسها.
تل الحير
على طريق الفرما، على نحو ساعة وربع ساعة من تل هربة، وهناك خرائب قلعة عظيمة ومنازل بالطوب الأحمر من الأجيال الوسطى.
تل الفضة
على طريق الفرما، على نحو ساعة ونصف ساعة من تل الحير، وفي جواره «تل الذهب»، وعلى كل منهما خرائب برج وأبنية قديمة.
المحمدية
وهي خرائب مدينة فخمة قديمة العهد، مبنية بالحجر المنحوت والطوب الأحمر على شاطئ البحر المتوسط، على نحو ساعة وثلثي الساعة من تل الفضة، وهناك قصر جميل بحمامات على أجمل طرز قائم على تل مرتفع، وجبانة شمالي التل فيها قبور كثيرة حسنة الصنع، وقد تحول البحر على تلك الخرائب، فغمر أكثرها ولا يزال يحمل على الباقي.
قلعة الطينة
أما قلعة الطينة فقائمة على فم الفرع البليوسي، على نحو ساعتين غربي المحمدية، وأقل من ساعتين شمالي تل الفضة، وبينها وبين تل الفضة خرائب الفرما الآتي ذكرها، وهي من بناء الأجيال الوسطى، وقد بقيت عامرة تخفرها العساكر إلى عهد قريب، وقد عثرت على كتاب مع بعض أهل العريش مؤرخ 12 ذي الحجة سنة 1140ه/20 يوليو سنة 1728م، يستدل منه أن الطينة كانت في ذلك التاريخ عامرة بالعساكر، ويستدل مما كتبه المستر وتمن الذي رافق الجيش العثماني لإخراج الفرساويين من مصر في أوائل القرن الغابر أن قلعة الطينة كانت لا تزال عامرة وفيها حامية، والذي يعلمه أهل العريش أن حاميتي قطية والطينة نقلتا من عهد غير بعيد إلى قلعة العريش، ثم ألغيت قلعة العريش حوالي سنة 1840 كما مر.
قلعة مفرج
ويقال لها أيضا قلعة البلاح، على نحو ساعتين غربي قلعة الطينة، في طريق بورسعيد من الفرما، وهي قائمة على فم فرع النيل المعروف بطيتنك الذي جف، وهي الآن مهجورة كقلعة الطينة.
الفرما
وهي خرائب مدينة متسعة وقلعة عظيمة مبنية بالطوب الأحمر والحجارة المنحوتة والعمد الغرانيتية، واقعة على ضفة الفرع البليوسي اليمني بالقرب من مصبه بالبحر المتوسط، وهذا الفرع قد جف من عهد بعيد، وهي مرتفعة قليلا عن الطريق المنسوبة إليها الآن على نحو ميلين من تل الفضة شمالا، ومثل ذلك من قلعة الطينة جنوبا، وعلى نحو ساعتين من المحمدية، وست ساعات من بورسعيد بسير الإبل، وكانت قديما من أشهر مدن مصر البحرية وأكثرها عمارة، وكانت عرضة لغارات الأمم المهاجمة برا وبحرا؛ لوقوعها على شاطئ البحر المتوسط، وأقصى فروع النيل الشرقية، وقد طالما وقف ملوك مصر فيها لرد هجمات الغزاة من الآشوريين والفرس والسوريين والعرب والصليبيين الإفرنج كما سيجيء بالتفصيل، ويدل تاريخ هذه المدينة أنها عريقة جدا في القدمية، وأن أهلها الأصليين كانوا من البحارة الفينيقيين، وأن بسامتيك الأول (664ق.م) استخدم لحمايتها مسترزقة اليونان، وأقطعهم أرضا بالقرب منها، وكان لهم في البحر مرافئ لمراكبهم، ولعل الأرض التي أقطعهم إياها هي في موضع خرائب المحمدية المتقدم ذكرها.
وظن بعض المحققين أنها «سين» المذكورة في سفر حزقيال النبي الذي بدأ نبوته في بابل سنة 594ق.م (ص30 عد15): «وأسكب غضبي على سين حصن مصر، وأستأصل جمهور نو، وأضرم نارا في مصر، سين تتوجع توجعا ونو تكون للتمزيق.»
هذا وقد عرفت عند اليونان باسم بلوسيوم، وإليها نسب فرع النيل القائمة عليه كما مر، وعرفت عند القبط باسم فرومي، ومنه أخذ العرب اسم الفرما، وهو الاسم المعروفة به إلى هذا اليوم، قيل وإنها وطن بطليموس الفلكي الشهير، وإنه كان في شرقيها قبر بمبيوس الذي أقام عمود السواري بالإسكندرية، وفي تاريخ الكنيسة أنه قد تنسك فيها القديس أبيماخس الشهيد، ثم انحدر إلى الإسكندرية في عهد الإمبراطور داكيوس، فقبض عليه أبليانوس الحاكم وقتله سنة 251ب.م، وفي عهد الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني (409-450ب.م) قام فيها عالم من علماء النصرانية يدعى إيسودورس، فكتب عدة مقالات في الدين، وجهها إلى أعدائه وأحبائه.
وفي طريق الفرما سار عمر بن العاص لفتح مصر سنة 19ه/640م، فنزل العريش ثم أتى الفرما، وبها على رواية البلاذري المتوفى سنة 279ه/892م قوم مستعدون للقتال، فحاربهم فهزمهم وحوى عسكرهم، ومضى إلى الفسطاط، والفرما كان حصنا على ضفة البحر، يحمل إليه ماء النيل بالمراكب من تنيس، ويخزن أهله ماء المطر في الجباب، وكان بعض أهله قبطا وبعضهم من العرب، وقد ورد ذكره كثيرا في شعر أهل القرون الأولى، وفي الفرما أرق الخليفة المأمون رضي الله عنه لما سار إلى مصر، فبات فيها، وقد ذكر بغداد ونعيمها وقصورها فقال:
لليلك كان بالميدا
ن أقصر منه بالفرما
غريب في قرى مصر
يعاني الهم والسدما
وهي التي عناها أبو نواس بقوله:
طوالب بالركبان غزة هاشم
وبالفرما من حاجهن شقور
وذكر المقريزي الفرما قال: «قال البكري: الفرما، بفتح أول وثانيه ممدود على وزن فعلاء وقد يقصر، مدينة تلقاء مصر. وقال ابن خالويه في كتاب ليس: الفرما هذه سميت بأخي الإسكندر، وكان يسمى الفرما، وكان كافرا، وهي قرية أم إسماعيل بن إبراهيم» ا.ه. ويقال اسمه الفرما بن فليقوس، ويقال فيه فليس، ويقال بليس، وكانت الفرما على شط بحيرة تنيس، وكانت مدينة حصينة، وبها قبر جالينوس الحكيم، وبنى بها المتوكل على الله حصنا على البحر، تولى بناءه عنبسة بن إسحاق أمير مصر في سنة تسع وثلاثين ومائتين ه/853م عندما بنى حصن دمياط وحصن تنيس، وأنفق فيها مالا عظيما، ولما فتح عمر بن العاص عين شمس أنفذ إلى الفرما إبرهة بن الصباح، فصالحه أهلها على خمسمائة دينار هرقليا وأربعمائة ناقة وألف رأس من الغنم، فرحل عنهم إلى البقارة، وفي سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة/954م نزل الروم عليها، فنفر الناس إليهم وقتلوا منهم رجلين، ثم نزلوا في جمادى الأولى سنة تسع وأربعين وثلاثمائة ه/يونيو 960م، فخرج إليهم المسلمون، وأخذوا منهم مركبا، وقتل من فيه، وأسروا عشرة، وقال اليعقوبي: الفرما أول مدن مصر من جهة الشمال، وبها أخلاط من الناس، وبينها وبين البحر الأخضر ثلاثة أميال، وقال ابن الكندي: ومنها الفرما، وهي أكثر عجائب وأقدم آثارا من غيرها، ويذكر أهل مصر أنه كان منها طريق إلى جزيرة قبرص في البر، فغلب عليها البحر، ويقولون: إنه كان فيما غلب عليه البحر مقطع الرخام الأبلق، وأن مقطع الأبيض بلوبية.
وقال يحيي بن عثمان: «كنت أرابط في الفرما، وكان بينها وبين البحر قريب من يوم، يخرج الناس والمرابطون في أخصاص على الساحل، ثم علا البحر على ذلك كله.»
وقال ابن قديد: «وجه ابن المدبر - وكان بتنيس - إلى الفرما في هدم أبواب من حجارة شرقي الحصن احتاج أن يعمل منها جيرا، فلما قلع منها حجر أو حجران؛ خرج أهل الفرما بالسلاح، فمنعوا من قلعها وقالوا: هذه الأبواب التي قال الله فيها على لسان يعقوب - عليه السلام:
يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة ، والفرما بها النخل العجيب الذي يثمر حين ينقطع البسر والرطب من سائر الدنيا، فيبتدئ هذا الرطب من حين يلد النخل في الكوانين، فلا ينقطع أربعة أشهر حتى يجيء البلح في الربيع، وهذا لا يوجد في بلد من البلدان لا بالبصرة، ولا بالحجاز، ولا باليمن، ولا بغيرها من البلدان، ويكون في هذا البسر ما وزن البسرة الواحدة فوق العشرين درهما، وفيه ما طول البسرة نحو الشبر والفتر.»
وقال ابن المأمون البطايحي في حوادث سنة تسع وخمسمائة/1115م: «ووصلت النجابون من والي الشرقية تخبر بأن بغدوين ملك الفرنج وصل إلى أعمال الفرما، فسير الأفضل ابن أمير الجيوش للوقت إلى والي الشرقية بأن يسير المركزية والمقطعين بها، وسير الراجل من العطوفية، وأن يسير الوالي بنفسه بعد أن يتقدم إلى العربان بأسرهم بأن يكونوا في الطوالع ويطاردوا الفرنج ويشارفوهم بالليل قبل وصول العساكر إليهم، فاعتمد ذلك ثم أمر بإخراج الخيام وتجهيز الأصحاب والحواشي، فلما تواصلت العساكر وتقدمها العربان وطاردوا الفرنج، وعلم بغدوين ملك الفرنج أن العساكر متواصلة إليه، وتحقق أن الإقامة لا تمكنه أمر أصحابه بالنهب والتخريب والإحراق وهدم المساجد، فأحرق جامعها ومساجدها وجميع البلد، وعزم على الرحيل، فأخذه الله - سبحانه وتعالى - وعجل بنفسه إلى النار، فكتم أصحابه موته، وساروا بعد أن شقوا بطن بغدوين وملئوه ملحا حتى بقي إلى بلاده، فدفنوه بها، وأما العساكر الإسلامية فإنهم شنوا الغارات على بلاد العدو، وعادوا بعد أن خيموا على ظاهر عسقلان ...
وبلغ المنفق في هذه النوبة على ذهاب بغدوين وهلاكه مائة ألف دينار.
وفي شهر رجب سنة خمس وأربعين وخمسمائة/أكتوبر 1150م نزل الفرنج على الفرما في جمع كبير وأحرقوها ونهبوا أهلها، وآخر أمرها أن الوزير شاور خربها لما خرج منها متوليها ملهم أخو الضرغام (حوالي سنة 560ه/1165م) فاستمرت خرابا لم تعمر بعد ذلك. وكان بالفرما والبقارة والورادة من عرب جذام يقال لهم القاطع ...
وقال ابن الكندي: وبها مجمع البحرين وهو البرزخ الذي ذكره الله - عز وجل - فقال:
مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان ، وقال: وجعل بين البحرين حاجزا، وهما بحر الروم وبحر الصين، والحاجز بينهما مسيرة ليلة ما بين القلزم والفرما، وليس يتقاربان في بلد من البلدان أقرب منها بهذا الموضع، وبينهما في السفر مسيرة شهور.» ا.ه.
تل القلس
أما تل القلس فهو كثيب عظيم من الرمال، على نحو سبع ساعات إلا ربعا من المحمدية، وهو يمتد نحو ميلين على شاطئ البحر، ويعلو نحو ثمانين قدما عن سطح البحر، وفي شرقيه خرائب بلدة قديمة طمرتها الرمال، أخبرني البدو أنهم وجدوا فيها قطعا كثيرة من النقود والفسيفساء، وفي وسط التل تجويف عظيم فيه بئر عذبة الماء أعلى من سطح البحر، ويسكن القلس الآن بعض العرب الأخارسة بخيامهم، ولهم فيه بعض نخيل.
الفلوسيات
أما الفلوسيات فهي خرائب بلدة قديمة مبنية بالحجر المنحوت على نحو سبع ساعات شرقي القلس، ونحو نصف ساعة إلى الجنوب من فم بحيرة الزرانيق، وفيها وجد أهل البلاد كثيرا من النقود النحاسية أو الفلوس، وهذا على الأرجح سبب تسميتها بالفلوسيات، والظاهر مما كتبه مؤرخو العرب أنها خرائب بلد الورادة.
قال المقريزي تحت عنوان «أرض الجفار»: «اعلم أن الجفار اسم لخمس مدائن وهي: الفرما، والبقارة، والورادة، والعريش، ورفح، والجفار كله رمل، وسمي بالجفار؛ لشدة المشي فيه على الناس والدواب من كثرة رمله وبعد مراحله، والجفار تجفر فيه الإبل، فاتخذ له هذا الاسم، كما قيل للحبل الذي يعقل به البعير عقال، واشتقت البقارة من البقر، والورادة من الوريد، والعريش أخذ من العرش، وقيل إن رفح اسم جبل.» ا.ه.
وقال المقريزي تحت عنوان «بلد الورادة»: «الورادة من جملة الجفار، قال عبيد الله بن عبد الله بن خرداويه في كتاب المسالك والممالك: وصفة الطريق والأرض من الرملة إلى أزدود اثنا عشر ميلا، ثم إلى غزة عشرون ميلا، ثم إلى العريش أربعة وعشرون ميلا في رمل، ثم إلى الورادة ثمانية عشر ميلا، ثم إلى أم العرب عشرون ميلا، ثم إلى الفرما أربعة وعشرون ميلا، ثم إلى جرير ثلاثون ميلا، ثم إلى القاصرة أربعة وعشرون ميلا، ثم إلى مسجد قضاعة ثمانية عشر ميلا، ثم إلى بلبيس أحد وعشرون ميلا، ثم إلى الفسطاط مدينة مصر أربعة وعشرون ميلا.» وقال جامع تاريخ دمياط: «ولما افتتح العرب المسلمون الفرما بعد ما افتتحوا دمياط وتنيس، ساروا إلى البقارة، فأسلم من بها، وساروا منها إلى الورادة فدخل أهلها في الإسلام وما حولها إلى عسقلان.» وقال القاضي الفاضل في متجددات شهر المحرم سنة سبع وستين وخمسمائة/1171م: «وصابحنا الورادة، فبتنا على ميناء الورادة ودخلنا الورادة، فرأيت تاريخ منارة جامعها سنة ثمان وأربعمائة/1017م، واسم الحاكم بأمر الله عليها. والورادة من جملة الجفار، ويقال: أخذ اسمها من الورود، ولم يزل جامعها عامرا تقام به الجمعة إلى ما بعد السبعمائة/1300م، وبلد الورادة القديمة في شرق المنزلة التي يقال لها اليوم الصالحية، وبها آثار عمائر ونخل قليل.» ا.ه.
الخوينات
أما الخوينات فهي خرائب بلدة قديمة، على نحو نصف ساعة جنوبي الفلوسيات، وهي في درب الطوايات من دروب العريش التي غمرتها حديثا بحيرة البردويل المتقدم ذكرها.
قبر الساعي
وبجانبها قبر يدعى قبر الساعي، روي أنه كان في الخوينات ساع شغف بحب بنت من أهل قريته، تدعى عائشة، وأبت أن تتزوجه إلا إذا أتاها «بزلابية سخنة» من غزة، فذهب إلى غزة واشترى الزلابية وعاد مسرعا إلى حبيبته، وكان كلما سار شوطا يجس الزلابية فيجدها ساخنة، وبقي حتى أشرف على البلدة فجس الزلابية فوجدها باردة، فاغتم لذلك وسقط في الأرض ميتا، فدفنوه في مكانه، وجعلوا فوق قبره رجما من الحجارة، ومن ذلك الوقت كلما مر مسافر بالقبر رماه بحجر وقال:
الحب يا قلب من قبلك رمى الساعي
وان كنت رجال طيب تفهم اوجاعي
تل اليزك
وعلى نحو خمس ساعات ونصف ساعة من الفلوسيات تل اليزك، القائمة عليه قبة النبي ياسر، وعلى مثل هذه المسافة من تل اليزك شمالا مطلة الشيخ زويد، وقد مر ذكرهما، وقد كان في شمالي تل اليزك بلدة صغيرة قديمة العهد طمرتها الرمال فكشفها الموسيو كليدا، من رجال شركة القنال، المولج بالبحث عن الآثار في شهر فبراير سنة 1913، فوجد بعض الغرف قد بلطت بالفسيفساء، ورسم بها صورة ملكة تحتها أربعة أسطر باللاتينية، وبجانب البلدة مقبرة مبنية بالحجر المنحوت فيها 12 قبرا في صفين، في كل صف ستة قبور، وللمقبرة سور متين من حجر.
عسلوج
أما عسلوج فعلى شاطئ البحر، على نحو ساعة إلا ربعا شمالي مطلة الشيخ زويد، وهناك بئر حديثة العهد تدعى بئر عسلوج، وبجانبها تلة عليها خرائب مدينة قديمة العهد، بناؤها بالطوب النيء والمحرق، والحجارة المنحوتة والرخام، وقد وجدت على تلك التلة كثيرا من النقود النحاسية الرومانية والبيزنتية والإسلامية، وكثيرا من كسر آنية الزجاج الأخضر المطلي بالذهب والفضة، والمسامير الحديدية الضخمة كالتي تستعمل في البوابات العظيمة، ووجدت مثل ذلك على تل ميناء رفح على نحو ساعتين شمالي عسلوج، وعلى غيره من التلال بين رفح والفرما.
قال أيوب سالم - من سكان الشيخ زويد - وهو مصدق ما يقول: «كانت هذه البلاد تسمى مدائن الزعقات، والسبب في وجودها على رءوس التلال أنه لم يكن البحر المتوسط من قبل، وكانت أرضه عامرة ملأى بالمدن والقرى، وكلها خاضعة للملكة هيلانة، فوقعت حرب بينها وبين الإسكندر وأخذته أسيرا، فتوسل إليها أن تطلقه من الأسر، فقالت: إذا أنا أطلقتك عدت إلى محاربتي، فأقسم لها بشرفه ألا يعود إلى محاربتها، ولما أطلقته ذكر ذله في أسرها، فهاجت الذكرى في نفسه روح الانتقام، ولم يكن شرفه يسمح له بنقض العهد وإشهار الحرب عليها، فذهب إلى سد المحيط وفتح فيه ثغرة «وهي بوغاز جبل طارق»، فغمر بلاد الملكة هيلانة، وكان البحر المتوسط! وفرت الملكة هيلانة ببعض رعاياها من وجه الماء وعمرت هذه المدن على التلال، وسكنتها إلى أن أراد الله خرابها، فخربت»! (ب) على طريق العريش
أما الآثار الباقية على طريق العريش، فأشهرها مبتدأ من القنطرة: «التل الأحمر، تل حبوة، قطية، تل أبو مزروع، رجم البردويل، خربة العشوش، الخروبة، المكسر، الشيخ زويد، رفح»، وقد تقدم الكلام عليها كلها إلا «تل أبو مزروع، وخربة العشوش، ورجم البردويل، والخروبة، والمكسر.»
وجاء في خطط المقريزي تحت ذكر «مدينة حطين»: «هذه المدينة آثارها إلى اليوم باقية فيما بين حبوة والعاقولة بأرض العاقولة، فيما بين القطية والعريش تجاهها بميل ماء عذب تسميه العرب أبا العروق، وهو شرقيها، وهذه المدينة تنسب إلى حطين، ويقال له: حطي ابن الملك أبي جاد المديني، وأهل قطية اليوم يسمون تلك الأرض ببلاد حطين والجفر، وملك حطين هذا أرض مصر بعد موت أبيه، وكان صاحب حرب وبطش، وكان ينزل بقلعة في جبال الأردن قريبا من طبرية، وإليه تنسب قرية حطين التي بها الآن قبر شعيب بالقرب من صفد.» ا.ه.
تل أبو مزروع
أما تل أبو مزروع فإنه تل مرتفع يطل على البحر في «طريق العريش الوسطانية» على نحو أربع ساعات إلا ربع ساعة غربي العريش، وعليه خرائب برج قديم.
خربة العشوش
وتعرف أيضا «بخربة البردويل»، وهي خرائب بلدة قديمة في «طريق العريش السلطانية» على نحو عشرة أميال غربي مدينة العريش.
رجم البردويل
أما رجم البردويل فعلى تل صغير يبعد نحو عشرة أميال غربي العريش في «طريق العريش الوسطانية»، ونحو نصف ساعة شمالي خربة البردويل، قيل إن البردويل محرفة عن بلدوين أو بغدوين كما عربه كتاب العرب، وإن بلدة البردويل ورجم البردويل وبحيرة البردويل، منسوبة إلى الملك بلدوين الأول من ملوك الصليبيين الذي ملك القدس سنة 1100م، وفي تاريخ مصر أن هذا الملك غزاها وعاد عنها خائبا، فمات في الطريق سنة 1118م، فأخرجوا أمعاءه، ثم حنطوا جثته وحملوها إلى القدس ودفنوها هناك بجانب جثة أخيه «جود فري» أول ملوك القدس، وقد أشار المقريزي إلى ذلك في كلامه عن الفرما كما مر.
وعلى نحو ميلين غربي رجم البردويل حفر صغيرة في وسط الطريق، بين الحفرة والأخرى نحو مترين، قد خط حذائها تلم في الأرض، وفي تقاليد البدو أن رجم البردويل هذا هو قبر البردويل ملك البلدة المجاورة المنسوبة إليه، قتله أبو زيد الهلالي، وقالوا في تفصيل ذلك: «إن بني هلال لما رحلوا من نجد قاصدين بلاد المغرب ومعهم فارسهم وعقيدهم أبو زيد الهلالي، مروا ببلدة البردويل، وكان عليها ملك يدعى البردويل بن راشد، وكان لهذا الملك طاقية إذا لبسها في الحرب اختفى عن عيون مقاتليه، فلما مر بنو هلال صارعه كثير من فرسانهم فصرعهم، وكان من عادة أبي زيد أنه لا يقاتل أحدا إلا إذا عجز فرسان قبيلته عن قهره، فانبرى له، وكان قد علم أن سر قوته في طاقيته، فصارعه سبعة أيام متوالية، وهو يحاول خطف طاقيته عن رأسه فلم يفلح، وكان للبردويل بنت بديعة الجمال تشاهد القتال من قصرها، فأعجبتها بسالة أبو زيد ووقع حبه في قلبها، فسرقت من أبيها طاقيته المسحورة وأعطته طاقية أخرى، فلما نزل لمصارعة أبي زيد في اليوم التالي طعنه أبو زيد بالرمح، فخر قتيلا بجانب ذلك التل، فدفنوه عليه وجعلوا الرجم على قبره، وفيما هو يطارده رسم رمحه وفرسه التلم والحفر التي في جواره، ومن ذلك اليوم لا يمر أحد بتلك الجهة إلا أحيا الحفر ورمى الرجم بحجر، قالوا: ومن مر بهذا الأثر ولم يفعل ذلك وجبت عليه اللعنة، وهذا هو السبب في بقاء هذا الأثر إلى اليوم.»
الخروبة
أما الخروبة فموضع في منتصف الطريق بين العريش ورفح، وفيه أراض متسعة صالحة للزراعة، وهناك خرائب برج قديم مبني بالحجر المنحوت وبجانبه بركة متسعة، والظاهر أنه كان محطة للبريد في الأجيال الوسطى، وأنه كان هناك قديما خروبة فتسمى بها، مررت بهذا الموضع في 10 سبتمبر سنة 1906، فوجدت فيه رجلا من متسببي العرايشية قد نصب خيمة جعل فيها كل ما يلزم البدو من مأكول وملبوس، وقد صاد مئات من السمان جعلها في أقفاص من الجريد، وكان يطعمها الذرة ويبيعها الاثنتين بغرش صاغ.
المكسر
وعلى نحو نصف ساعة من الخروبة في الطريق إلى رفح «المكسر»، وهو موضع خلاء، وفيه كسر الترابين السواركة في واقعة دموية شهيرة سنة 1856 كما سيجيء، ومن ذلك اسمه، ومن هذا الموضع طريق تتجه غربا، فتخترق كثبان الرمال إلى بئر على شاطئ البحر تدعى بئر المصيدة. (ج) على الدرب المصري
ومن الأماكن الأثرية على الدرب المصري الآتي من غزة بطريقة المقضبة إلى السويس والإسماعيلية: «نقع شبانة، وصنع المنيعي، وحجر السواركة، والبواطي.»
نقع شبانة
أما نقع شبانة فبئر قديمة العهد مبنية بالحجر المنحوت على 12 ميلا إلى الجنوب الشرقي من رفح، وهي الآن ملك جمعة العوضات من السواركة، اشتراها من الترابين الذين اكتسحوا هذه البلاد وأخذوها بالقوة من أهلها الرتيمات كما سيجيء، والبئر زعقة الماء بعيدة الرشاء كبئر الرطيل، قال صاحبها: «عمقها 44 قامة، وقد كانت مردومة فطهرتها، فوجدت ماءها ملحا جدا لا يصلح للشرب فأهملتها»، وقد رأيت على فم البئر بكرة بين عمودين من الخشب، ورأيت أثر أقدام الإبل التي كانت تستخدم لنشل الماء منها على نحو ما وصفناه في بئر لحفن، وقد تحققت عمق البئر من طول ذلك الأثر، وأما «بئر الرطيل» في شمال الجورة المار ذكرها، فقد كان عمقها 22 باعا قبل التطهير، وبعد تطهيرها في عهد محافظ سيناء الأسبق ظهر الماء فيها على عمق 80 مترا.
صنع المنيعي وحجر السواركة
أما صنع المنيعي فهو بركة صناعية في طريق السيل على نحو 3 ساعات بسير الهجن جنوبي رفح، وعشر دقائق من الجورة، صنعها رجل من السواركة ، وقيل من الرتيمات، يدعى المنيعي فنسبت إليه، وفي منتصف المسافة بين صنع المنيعي والجورة: «حجر السواركة» وهو حجر طباشيري طوله أقل من ذراع، عليه وسم السواركة هكذا: «-||»، وبجانبه حجر أصغر منه عاطل لا وسم عليه، قيل كان عليه وسم الرتيمات حلفاء السواركة في القديم، ولأهل البلاد رواية تقليدية في ذلك، قالوا: عصى المنيعي الدولة، فطارده بعض فرسانها، وكان المنيعي راكبا فرسا سبوقا، فعجز الفرسان عن اللحاق به، فسأله أحدهم وهو جاد في أثره: ما أصل هذا الفرس يا عربي؟ فأجابه هازئا: «شعير يا جندي»، قالوا: ولما كان كتم أصل الأصائل من الشؤم أفل سعد الفرس، وللحال خف جريها، فأدركه الفارس وقتله في هذا الموضع، ونصب السواركة هذا الحجر دلالة على مقتله، ومن هذا الحجر شمالا إلى بئر رفح درب شهيرة تدعى «درب الحجر» نسبة إليه.
البواطي
وأما البواطي فعلى الدرب المصري على نحو نصف ساعة جنوبي الجورة، وهي دوائر مرسومة في أرض صلبة وسط الطريق، تشبه البواطي حجما وشكلا، ومن ذلك اسمها، وكلما طمرت الرمال هذه الدوائر أحياها العرب، ولكن ليس أحد منهم يعرف لها أصلا.
هذه هي أهم آثار العريش عدا الآثار التي مر ذكرها في الفصول السابقة، وأهمها، خربة الرطيل في شمال الجورة، ورجم القبلين، وبئر لحفن، وقلعة لحفن على وادي العريش، والقلعة الرومانية في جبل المغارة . (د) بلدة القنطرة
القنطرة بلدة صغيرة في طريق العريش على شاطئ الترعة الشرقي، على نحو 33 كيلومترا من الإسماعيلية، و45 كيلومترا من بورسعيد، وفيها نحو 200 بيت وبعض الجنان، أنشأ هذه البلدة في أثناء فتح الترعة تجار ومتسببون من غزة والعريش والصالحية، وغيرها من مدن الوجه البحري، فبنوا فيها أولا أكواخا خشبية، وأقاموا فيها يبيعون أنواع المأكولات والملبوسات والحبوب على عمال الترعة والبدو وعابري السبيل، ثم بنوا المنازل بالطوب النيء، وسكنوها إلى اليوم، وعدد سكانها الآن (سنة 1914) 750 نفسا، وقد كانوا 488 نفسا في سنة 1907 كما مر.
وفيها سوق صغيرة تشمل 16 تاجرا من تجار المانيفاتورة والحبوب والعطارة والبقالة، وفيها خمارتان للأروام، وأربع قهوات بلدية وستة جزارين، وأكبر تجارها الشيخ صالح جويد من أهالي غزة، قيل جاء بأربعين كيس دقيق فأصبح الآن من كبار الأغنياء، وفي السوق جامع بمنارة يسع نحو 500 نسمة مبني بالطوب النيء والأخشاب، بنته نظارة الأوقاف المصرية في أوائل سنة 1899 بعد تشريف سمو الخديوي الحالي الحدود، وكان من قبل مبنيا بالأخشاب، وفي البلدة مدرسة أهلية يحضرها نحو 30 تلميذا من الصبيان والبنات يعلمهم فقيه من سكان البلدة.
وفي ضاحية البلدة «محجر للحيوانات» التي يؤتى بها من سوريا للاتجار في مصر، ومأمور المحجر الحالي الدكتور حسين بك كامل، من نبلاء المصريين.
وماء القنطرة من الترعة الإسماعيلية النيلية، تجرها إليها شركة القنال بأنابيب من حديد تحت الترعة الملحة، وقد جعلت حنفية عمومية شرقي البلدة يستقي منها الأهلون مجانا، وأما المياه التي يجرونها إلى منازلهم ويسقون بها جنانهم فيشترونها بثمن بخس جدا.
والقنطرة تابعة في الإدارة محافظة بورسعيد كما مر، وفيها ضابط بوليس يرجع بأحكامه إليها، وقد بنت له ولكاتبه حديثا مركزا شرقي البلدة فيه ثلاثة منازل، وأهل القنطرة خاضعون للقرعة العسكرية ولجميع الأحكام الجارية على مدن القطر المصري.
وفي القنطرة مأمور تابع لمحافظة سيناء يلقب «مأمور ترحيلات الحربية»، يلبي طلباتها، ويسهل أسباب السفر لموظفيها، وأول مأمور سمته للقنطرة، هو النشيط أسعد أفندي عرفات السالف الذكر، سمته سنة 1906، وفي سنة 1912 بنت له دارا يسكنها شرقي البلدة، وبنت بجانبها مكتبا للإدارة، وغرفتين لاستراحة الموظفين المسافرين، وشركة الترعة تسعى لنقل البلدة كلها شرقا؛ لتتمكن من توسيع الترعة.
وفي بر القنطرة الغربي جمرك لجمع الرسوم على الإبل والخيل والأغنام التي ترد من سوريا بطريق البر، وقد كان هذا الجمرك في البر الشرقي، فنقل حديثا إلى بناء جميل في البر الغربي، وفي هذا الشاطئ مبتدأ من الجنوب، محطة سكة الحديد الآتية من الإسماعيلية ومصر، ومكتب البوسطة والتلغراف، فمكاتب ومساكن عمال شركة الترعة بالقنطرة، فمكتب لغفر السواحل، فمساكن لناظر محطة السكة الحديد، وضابط غفر السواحل، وعمال السكة الحديد، فمدرسة أميرية لأولاد موظفي الحكومة، فيها 27 تلميذا، فالجمرك الآنف الذكر، ويصل بين البرين «كوبري » متحرك مر ذكره. (ه) مدينة العقبة
أما مدينة العقبة فهي مدينة صغيرة في رأس خليج العقبة، على نحو 190 ميلا من السويس بطريق البحر، و150 ميلا بطريق البر، وهي مدينة حديثة العهد قائمة على أنقاض مدينة أيلة الشهيرة، فيها قلعة قديمة، ونحو مائة كوخ مبنية بالحجر الغشيم والطين، يسكنها نحو 350 نفسا من متخلفي العساكر الذين كانت مصر ترسلهم لحماية القلعة، وينتابها مشايخ الحويطات العلويين، والبلدة قائمة على تلة وسط حديقة متسعة من النخيل، تمتد شمالا وجنوبا على شاطئ الخليج مسافة ميل أو أكثر، وفي البلدة والحديقة آبار عذبة الماء، يزرع عليها أنواع الخضر، كالبامية، والملوخية، والباذنجان، والطماطم ونحوها، ويمكن زرع الذرة والزيتون والنيلة والقطن؛ لأن التربة خصبة والماء كثير.
وقد دخلت العقبة في حد الحجاز كما مر، وعظم شأنها بعد حملة الدولة الأخيرة على اليمن، فصارت محطة للعساكر، ومد إليها خط التلغراف من معان، فوصلها في مايو سنة 1905، ومدت سكة الحديد الحجازية من دمشق إلى المدينة، وكان في النية مد فرع إلى العقبة من معان، وكانت العقبة محطة من محطات الحج المصري أيام كانت طريق الحج تمر بسيناء، وكان حجاج جنوب سوريا يأتونها بدرب غزة، فيجتمعون فيها مع الحج المصري، ويجيء مع حجاج سوريا نفر من التجار، ومعهم الحبوب وأنواع الفاكهة والخضر والمأكولات؛ بقصد بيعها على الحجاج، ولكن انقطعت درب غزة بانقطاع درب سيناء، ولم يعد يمر بها سوى بعض تجار الإبل بين الحجاز والشام كما سيجيء.
شكل 1-10: نخل العقبة. (و) قلعة العقبة
أما قلعة العقبة فقائمة في جنوب بلدة العقبة، لاصقة بها من جهة الشرق، وهي على نحو 50 مترا من شاطئ الخليج في سفح جبل عظيم يفصل خليج العقبة عن الحجاز، وفي منحدر هذا الجبل كان الحج المصري ينصب خيامه عند نزوله بالعقبة، وفيه تعسكر الآن جنود الدولة العلية عند مجيئها إليها.
والقلعة على مثال قلعة نخل، مربعة الشكل، مبنية بالحجر المنحوت، وكان على كل ركن من أركانها الأربعة برج، قد تهدم الآن، ولها بوابة عظيمة بقنطرة تفتح إلى الشمال الشرقي، يدخل منها إلى صحن القلعة بدهليز عظيم معقود بالقناطر، وفي أول الدهليز عن يمين الداخل وشماله ديوانان مبنيان بالحجر، قد نقش على جدرانهما وواجهة البوابة بأحرف ناتئة كبيرة اسم باني القلعة ومرممها، أما باني القلعة فهو السلطان قانصوه الغوري، الملك الذي قبل الأخير من ملوك دولة المماليك الثانية على مصر، سنة 1501 إلى سنة 1516، وأما مرممها فهو السلطان مراد الثالث سنة 1574-سنة 1595م.
وقد قرأت على جدار الديوان الأيمن هذه العبارة: «أمر بإنشاء هذه القلعة المباركة السعيدة مولانا السلطان الملك الأشرف أبو النصر قانصوه الغوري، سلطان الإسلام والمسلمين، قاتل الكفرة والملحدين، محيي العدل في العالمين ...»
وفي واجهة القلعة على صدغي القنطرة حجران مستديران، نقش على كل منهما هذه العبارة: «لمولانا السلطان الملك الأشرف، مراد بن سليم خان، عز نصره، جدد هذه القلعة»، وفي داخل البوابة إلى يسار الداخل حجران آخران مستديران، قد نقش على كل منهما هذه العبارة: «لمولانا السلطان مراد بن سليم عز نصره، جدد هذه القلعة سنة 996ه/سنة 1588م.»
وقد رأيت هذه القلعة سنة 1906، فإذا بها متردمة وتحتاج إلى ترميم كثير، وفي داخلها مخازن للحبوب والذخائر، ومخبز للعساكر، وبئر بعيدة الرشاء، وشجرة سدر، وبقيت هذه القلعة بيد مصر، وعساكر مصر تحميها إلى أوائل سنة 1892م، فسلمت إلى الدولة العلية كما سيجيء.
قال صاحب كتاب «درر الفرائد» سنة 1548م: «وبعقبة أيلة آبار منها في داخل الخان «القلعة» واحدة، ماؤها عذب سائغ، من بناء السلطان الغوري مع الخان، وفي الخارج بئران داخل نخل، وماؤها عذب، وهما منهل الحاج، وبئر خارج النخل حيث الفضاء، وماؤها دون ذلك، ويسمونها آبار العرب، وكل من أراد الماء فليحفر من الأرض مقدارا قريبا يرى الماء عذبا أحسن من ماء الآبار، وتختلف الحفائر في العذوبة، فبعضها أحلى من بعض وأعذب، والله أعلم.» ا.ه.
قلت: وكان صاحب الدرر - فيما نعلم - أول من سمى المدينة «عقبة أيلة»، الاسم الذي عرف به الجبل العظيم ذو العقبة الشهيرة غربيها، ثم أهمل اسم أيلة، وسميت المدينة «العقبة»، وسميت عقبة الجبل نفسها «نقب العقبة أو النقب»؛ لأن ملوك مصر نقبوا؛ أي مهدوا فيها طريقا للحج المصري كما سيجيء في باب الطرق.
تاريخ مدينة أيلة
أما مدينة أيلة التي على خرائبها قامت بلدة العقبة، فهي مدينة قديمة العهد جدا، وقد ورد ذكرها كثيرا في التوراة:
جاء في سفر الملوك الأول ص9 عد26 في الكلام عن الملك سليمان الحكيم (سنة 1015-975ق.م): «وعمل الملك سليمان سفنا في عصيون جابر التي بجانب أيلة على شاطئ بحر سوف في أرض أدوم.»
وجاء في سفر الملوك الثاني ص14 عد22 في الكلام عن عزريا ملك اليهود (سنة 810-758ق.م) الذي في أيامه قام أشعيا النبي: «هو بنى أيلة واستردها ليهوذا.»
وجاء في ص16 عد6 من السفر نفسه، في الكلام عن آحاز بن يوثام ملك يهوذا (741م-725ق.م): «في ذلك الوقت أرجع رصين ملك آرام أيلة للآراميين، وطرد اليهود من أيلة، وجاء الآراميون إلى أيلة، وأقاموا هناك إلى هذا اليوم.»
ثم أخضعها النبطيون، فاليونان، فالرومان، وكانت في أيامهم بندرا تجاريا مهما، وصارت في صدر النصرانية مركز أبرشية، وحضر مطارنتها بعض المجامع الكنائسية، ثم آلت إلى الإسلام ولا زالت بيدهم إلى اليوم، وكان لها شأن في تاريخ الصليبيين، وقد ورد ذكرها كثيرا في كتب مؤرخي العرب:
قال اليعقوبي: «ومدينة أيلة مدينة جليلة على ساحل البحر الملح، وبها يجتمع حاج الشام وحاج مصر والمغرب، وبها التجارات الكثيرة، وأهلها أخلاط من الناس، وبها قوم يذكرون أنهم موالي عثمان بن عفان، وبها برد حبرة، يقال: إنه برد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقال: إنه وهبه لرؤبة بن يحنه لما صار إلى تبوك.»
وعن كتاب أحسن التقاويم لشمس الدين المقدسي: «وفي أيلة تنازع بين الشاميين والمصريين والحجازيين، وإضافتها إلى الشام أصوب؛ لأن رسومهم وأرطالهم شامية.»
وعن كتاب معجم البلدان لياقوت الحموي: «أيلة بالفتح مدينة على ساحل بحر القلزم، مما يلي الشام، وقيل هي آخر الحجاز وأول الشام، قال أبو زيد: أيلة مدينة صغيرة عامرة، بها زرع يسير، وهي مدينة لليهود الذين حرم الله عليهم صيد السمك يوم السبت، فخالفوا فمسخوا قردة وخنازير، وبها في يد اليهود عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وقال أبو المنذر: سميت بأيلة بنت مدين بن إبراهيم - عليه السلام - وقال أبو عبيدة: أيلة مدينة بين الفسطاط ومكة على شاطئ بحر القلزم، تعد في بلاد الشام، وقدم يحنة بن رؤبة على النبي
صلى الله عليه وسلم
من أيلة وهو في تبوك، فصالحه على الجزية، وقرر على كل حاكم بأرضه في السنة دينارا، فبلغ ذلك ثلاثمائة دينار، واشترط عليهم قرى من مر بهم من المسلمين، وكتب لهم كتابا أن يحفظوا ويمنعوا، فكان عمر بن عبد العزيز لا يزداد على أهل أيلة عن الثلاثمائة دينار شيئا، أما تبوك فهي إلى الشرق من أيلة بميل إلى الجنوب، وهي على نصف المسافة بين المدينة ودمشق، وكانت هناك واقعة عظيمة بين المسلمين والروم في السنة التاسعة للهجرة، وقال أحيحة بن الحلاج يرثي ابنه:
ألا إن عيني بالبكاء تهلل
جزوع صبور كل ذلك تفعل
فإن تعريني بالنهار كآبة
فليلي إذا أمسى أمر وأطول
فما هبرزي من دنانير أيلة
بأيدي الوشاة ناصع يتأكل
بأحسن من يوم أصبح غاديا
ونفسني فيه الحمام المعجل»
وقال محمد بن الحسن المهلبي: «ومدينة أيلة جليلة على لسان من البحر الملح، وبها مجتمع حج الفسطاط والشام، وبها قوم يذكرون أنهم من موالي عثمان بن عفان، ويقال: إن بها برد النبي
صلى الله عليه وسلم
وكان قد وهبه ليحنة بن رؤبة لما سار إليه إلى تبوك، وخراج أيلة ووجوه الجبايات بها نحو ثلاثة آلاف دينار، وينسب إلى أيلة جماعة من الرواة منهم يونس بن يزيد الأيلي - صاحب الزهري - توفي بصعيد مصر سنة 152ه/769م، وإسحاق بن إسماعيل بن عبد الأعلى بن عبد الحميد بن يعقوب الأيلي، روي عن سفيان بن عيينة وعن عبد المجيد بن عبد العزيز بن رواد حدث عنه النسائي، مات بأيلة سنة 258ه/872م، وحسان بن أبان بن عثمان أبو علي الأيلي، ولي قضاء دمياط، وكان يفهم ما يحدث به، وتوفي بها سنة 322ه/934م.» ا.ه.
وقال صاحب تقويم البلدان: «وأيلة كانت مدينة صغيرة، وكان بها زروع يسيرة، وهي على ساحل بحر القلزم، وعليها طريق حاج مصر، وهي في زماننا برج، وبه وال من مصر، وليس بها زروع، وكان بها قلعة في البحر فعطلت، ونقل الوالي البرج إلى الساحل.» ا.ه. وعقب صاحب درر الفرائد (سنة 1548م) على هذا فقال: «وقد استجد بها النخل الذي على ساحل البحر، وبعض حدائق بالوادي والساحل، وجميع ذلك لبني عطية الحويطات، وإنما لقبوا بذلك لما بنوه من بعض الحيطان على النخل.» ا.ه.
وقال المقريزي في خططه: «ذكر ابن حبيب: إن أثال بضم أوله ثم ثا مثلثة وادي أيلة، وأيلة بفتح أوله على ووزن فعلة، مدينة على شاطئ البحر فيما بين مصر ومكة، سميت بأيلة بنت مدين بن إبراهيم - عليه السلام - وأيلة أول حد الحجاز، وقد كانت مدينة جليلة القدر على ساحل البحر الملح، بها التجارة الكثيرة، وأهلها أخلاط من الناس، وكانت حد مملكة الروم في الزمن الغابر، وعلى ميل منها باب معقود لقيصر، قد كان فيه مسلحته يأخذون المكس، وبين أيلة والقدس ست مراحل، والطور الذي كلم الله عليه موسى - عليه السلام - على يوم وليلة من أيلة، وبينها وبين القلزم ست مراحل في برية وصحراء، وكانت في الإسلام منزلا لبني أمية، وأكثرهم موالي عثمان بن عفان وكانوا سقاة الحج، وكان بها علم كثير وآداب ومتاجر وأسواق عامرة، وكانت كثيرة النخل والزروع، وعقبة أيلة لا يصعد إليها من هو راكب، وقد أصلحها فائق مولى خمارويه بن أحمد بن طولون، وسوى طريقها ورم ما استرم منها، وكان بأيلة مساجد عديدة، وبها كثير من اليهود، ويزعمون أن عندهم برد النبي
صلى الله عليه وسلم
وأنه بعثه إليهم أمانا، وكانوا يخرجونه رداء عدنيا ملفوفا في الثياب، قد أبرز منه قدر شبر فقط.»
وذكر أبو الحسن المسعودي في كتاب أخبار الزمان: أن موسى - عليه السلام - سار ببني إسرائيل بعد موت أخيه هارون إلى أرض أولاد العيص، وهي التي تعرف بجبل الشراة جنب جبل الشوبك، ثم مر فيها إلى أيلة، وتوجه بعد أيام إلى برية باب حيث بلاد الكرك حتى حارب تلك الأمم، وكان إلى جانب أيلة مدينة يقال لها عصيون جليلة عظيمة.
وذكر المسعودي أن يشوع بن نون - عليه السلام - حارب السميدع بن هرمز بن مالك العمليقي ملك الشام ببلد أيلة نحو مدين، وقتله واحتوى على ملكه، وفي ذلك يقول عون بن سعيد الجرهمي:
ألم تر أن العملقي بن هرمز
بأيلة أمسى لحمه قد تمزعا
تداعت عليه من يهود جحافل
ثمانون ألفا حاسرين ودرعا
وقال ابن إسحاق: «فلما انتهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى تبوك، أتاه تحية بن رؤبة صاحب أيلة، فصالحه وأعطاه الجزية، وأتاه أهل حرباء وأذرح فأعطوه الجزية، وكتب لهم كتابا فهو عندهم، وكتب لتحية بن رؤبة (ولعلها تحريف يوحنا بن رؤبة):
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا أمنة من الله ومحمد النبي رسوله لتحية بن رؤبة وأهل أيلة، أساقفهم وسائرهم في البر والبحر، لهم ذمة الله وذمة النبي ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثا، فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وأنه طيب لمن أخذه من الناس، وأنه لا يحل أن يمنعوا ماء يريدونه ولا طريقا يريدونه من بر أو بحر، هذا كتاب بن جهيم بن الصلت وشرحبيل بن حسنة بإذن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وكان ذلك في سنة تسع من الهجرة.
ولم تزل مدينة أيلة عامرة آهلة، وفي سنة خمس عشرة وأربعمائة/1024م طرق عبد الله بن إدريس الجعفري أيلة، ومعه بعض بني الجراح، ونهبها وأخذ منها ثلاثة آلاف دينار، وعدة غلال، وسبى النساء والأطفال، ثم إنه صرف عن ولاية وادي القرى، فسارت إليه سرية من القاهرة لمحاربته.
قال القاضي الفاضل: وفي سنة ست وستين وخمسمائة/1170م: أنشأ الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب مراكب مفصلة، وحملها على الجمال، وسار بها من القاهرة في عسكر كبير لمحاربة قلعة أيلة ، وكانت قد ملكها الفرنج وامتنعوا بها، فنازلها في ربيع الأول، وأقام المراكب وأصلحها وطرحها في البحر، وشحنها بالمقاتلة والأسلحة، وقاتل قلعة أيلة في البر والبحر حتى فتحها في العشرين من شهر ربيع الآخر، وقتل من بها من الفرنج وأسرهم، وأسكن بها جماعة من ثقاته، وقواهم بما يحتاجون إليه من سلاح وغيره، وعاد إلى القاهرة في آخر جمادى الأولى.
وفي سنة سبع وسبعين/1181م وصل كتاب النائب بقلعة أيلة أن المراكب على تحفظ وخوف شديد من الفرنج، ثم وصل الإيريس لعنه الله إلى أيلة وربط العقبة، وسير عسكره إلى ناحية تبوك وربط جانب الشام؛ لخوفه من عسكر يطلبه من الشام أو مصر، فلما كان في شعبان من السنة المذكورة، كثر المطر بالجبل المقابل للقلعة بأيلة، حتى صارت بها مياه استغنى بها أهل القلعة عن ورود العين مدة شهرين، وتأثرت بيوت القلعة لتتابع المطر، ووهت لضعف أساسها، فتداركها أصحابها وأصلحوها.» ا.ه.
قلت: وقد خربت أيلة خرابا تاما، ولم يبق منها ما يدل عليها سوى أسس بعض منازلها وأنقاضها، وهناك أساس من حجر داخل مياه الشاطئ يدعى «الحمام».
وقد أراني رشدي باشا قومندان العقبة سنة 1906 قطعة ذهب من النقود الإسلامية التي وجدها في خرائب أيلة، وهي أكبر قليلا من نصف الجنيه الإنكليزي، وقد نقش عليها في الوسط: «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، وعلى الدائر: «محمد رسول الله، أرسله بالهدى ودين الحق، يظهره على الدين كله، ولو كره المشركون.»
أما «عصيون جابر»، فقد اختلف المحققون في تعيين مكانها، فجعلها بعضهم في جزيرة فرعون، وجعلها آخرون في النويبع وغيرهم في المرشش؛ لأن منطوق التوراة يدل أنها كانت ميناء على خليج العقبة، قريبة من أيلة، وفي طريق جبل سيناء. وقد مر أن خرائب جزيرة فرعون هي أحدث عهدا من عصيون جابر، وليس في النويبع أو المرشش خرائب بلدة ظاهرة، ولعلها كانت ضاحية من ضواحي أيلة، وخربت معها. (ز) وادي العربة
هذا، ومدينة أيلة، والعقبة خليفتها، واقعتان على فم وادي العربة العظيم على ضفته اليسرى، وعرضه من مدينة العقبة إلى المرشش، في سفح النقب الشرقي ستة كيلومترات، وطوله من رأس خليج العقبة إلى البحر الميت نحو 115 ميلا، ويعترضه في وسطه جبل الريشة، فيقسم سيله قسمين، قسما ينحدر جنوبا إلى خليج العقبة، وقسما ينحدر شمالا إلى البحر الميت، ويزداد هذا القسم تحدرا كلما اتجه شمالا، حتى إنه ينخفض عند البحر الميت نحو 1292 قدما عن سطح البحر، ويعرف السهل عند سفح جبل الريشة الجنوبي «بالقاع»، وهو صالح للزراعة، ويسكنه عرب السعديين، ويسكن العربة من القاع إلى رأس الخليج عرب الخلايفة اللحيوات.
آبار العربة
وفي بطن وادي العربة في قسمه الجنوبي عدة آبار شهيرة، نذكرها على الترتيب حسب مواقعها مبتدئين من الجنوب:
بئر البحير، وبئر الخليفي:
على شاطئ الخليج.
وعد دفية:
على نحو 12 ميلا من رأس الخليج، في جانب الوادي الغربي.
وبئر حندس:
على نحو 4 أميال من دفية في جانب الوادي الغربي.
وبئر النمرة:
على نحو 3 أميال من بئر حندس، بينهما خرائب بلدة قديمة.
وبئر غضيان:
على نحو 8 أميال من بئر النمرة، في جانب الوادي الغربي، وتجاه غضيان في جانب الوادي الشرقي: «بئر جبيل، وبئر طابا»، وهما متقاربتان.
وبئر المليحي:
على نحو 27 ميلا من غضيان شمالا، إلا أنها مرتفعة عن جنب الوادي الغربي، وهي مورد السعديين سكان القاع، وقد يردها اللحيوات.
فروع العربة
هذا ويحف بوادي العربة عن الجانبين جبال قاحلة شامخة، تعلو نحو 2000 قدم عن سطح البحر، وأشهر فروع العربة التي تأتيه من الجبال الغربية:
وادي الردادي:
ينشأ من جبال الحمرة، ويصب فيه على نحو 3 أميال من رأس الخليج، وفي هذا الوادي نبعان شحيحان: «ثميلة الردادي» قرب رأسه على نحو 3 كيلومترات من «المفرق»، وقد دخلت في حد سيناء، وعلى مقربة منها جبانة الشوافين اللحيوات، المدفون فيها الشيخ حمدان المار ذكره. «وعين القطار» وهي عين شحيحة تخرج من شاهق في جبل الردادي، عند منتصف مجرى الوادي، وقد زرتها في ربيع 1906، فإذا ماؤها يقع قطرتين قطرتين، قلت: ومن ذلك اسمها، أما الردادي فيظن فيه الحديد والنحاس، وقد دخل في حد العقبة.
ووادي الرخمة:
يصب في العربة على نحو 3 أميال شمالي بئر دفية.
ووادي البياني:
يصب فيه على نحو 20 ميلا شمالي بئر غضيان.
ووادي اللحياني:
يصب فيه على نحو 15 ميلا من مصب البياني، ومن فروع اللحياني وادي العقفي، ومن فروع العقفي وادي الغبية.
ووادي الجرافي:
يصب في العربة شمالي جبل الريشة، وقد مر ذكره تفصيلا.
وأشهر الأودية التي تصب في وادي العربة من الجبال الشرقية:
وادي اليتم:
تصب فيه على 3 أميال من بلدة العقبة.
ووادي أبو خشيبة:
تصب فيه شمالي جبل الريشة.
ووادي موسى:
قيل ينشأ من الجبال التي إلى غربي معان، ويصب في العربة شمالي مصب وادي أبو خشيبة.
مدينة البتراء
وفي وادي موسى خرائب «مدينة البتراء» الشهيرة، وأكثرها نقر في صخر، والوادي هناك ضيق جدا، حتى إنه في بعض المواضع لا يزيد عرضه على أربعة أمتار، وفي رأس الوادي نبع ماء غزير يسقي البتراء، وهي على الأرجح المدينة المسماة سالع في التوراة (القضاة 1: 36، والملوك الثاني 14: 7، وأشعيا 16: 1).
وقد قام في البتراء قديما مملكة أدوم، ثم مملكة النبطيين، ثم تملكها الرومان، ثم البيزنتيون، ثم العرب كما سيجيء تفصيلا في باب التاريخ.
ويزور البتراء للتفرج على آثارها النفيسة كثير من السياح كل سنة، يأتونها من طريق القدس ودمشق الشام، ومن مصر عن طريق سيناء والعقبة، وأهلها الحاليون يعرفون باللياتنة، ويسكنون في خيام عند النبع، ويزرعون أنواع الحبوب، وعندهم بساتين الفاكهة والخضر، وهم يتسلمون السياح من البدو حين وصولهم الوادي. (ح) طرق العقبة
ومعلوم أن العقبة مركز وسطي هام، تتفرع منها الطرق برا وبحرا إلى بلاد العرب وسوريا وسيناء ومصر وغيرها، وأهم طرقها البرية إلى بلاد العرب: «درب الحج المصري»، الآتي من مصر وسيناء وسيأتي وصفه، وأهم طرقها إلى سيناء غير درب الحج:
طريق النويبع:
تتبع شاطئ البحر إلى قلعة النويبع، وسيأتي وصفها.
وطريق نقب العمراني:
وهي طريق خاصة بالبدو، تنشأ من وادي العربة على خمسة أميال من المرشش شمالا، قيل وعلى رأس هذا النقب خرائب بلدة قديمة.
وطريق وادي البياني :
وهي أسهل الطرق إلى سيناء من العقبة، تسير في وادي العربة إلى بئر دفية، فبئر حندس، فبئر غضيان، فمصب وادي البياني، ثم تصعد في هذا الوادي إلى رأسه فتأتي حمادة، فتقطعها إلى وادي العقفي، فوادي الغيبة، فوادي اللحياني، تنحدر معه قليلا، ثم تقطعه إلى وادي الهاشة، فمشاش الكنتلة في وادي الجرافي على طريق غزة الآتي ذكرها، ومسافة هذه الطريق نحو 21 ساعة، تقطع بثلاث مراحل متقاربة طولا: بئر غضيان، فوادي البياني، فمشاش الكنتلة.
وطريق المليحي:
تبدأ من القاع، وتمر ببئر المليحي، فوادي الجرافي إلى مشاش الكنتلة، وهي طريق الغزاة، وقد طالما غزا بها عرب الشرق جزيرة سيناء كما سيجيء.
وللعقبة إلى البتراء طريقان قديمتان، وهما:
طريق بوادي اليتم:
وهي طريقها أيضا إلى معان ودمشق الشام.
وطريق بوادي العربة:
وهي طريقها المعتادة إلى البتراء، قيل وهذه الطريق ثلاث مراحل: مرحلة إلى بئر غضيان ثماني ساعات، ومرحلة إلى جبل الريشة ثماني ساعات، ومرحلة إلى وادي موسى سبع ساعات، وفي المرحلة الأخيرة تستمر الطريق من جبل الريشة على الجانب الغربي من وادي العربة نحو 3 ساعات، فتأتي أبو خشيبة، فتصعد معه إلى رأسه - قرب مقام النبي هارون - نحو 3 ساعات، تترك مقام النبي هارون عن يسارك وتسير نحو ساعة، فأتي خرائب البتراء في وادي موسى.
طريق القدس:
وللعقبة طريق إلى القدس الشريف، طولها 81 ساعة بسير الحملة، تمر بالمياه الآتية: بئر غضيان 10 ساعات وثلث، فبئر المليحي 12 ساعة، فالويبي 10 ساعات، فالشهابية 12 ساعة وثلث، فنقب الغراب فعسلوج 10 ساعات وثلث، فبئر السبع 7 ساعات، فالخليل 12 ساعة ونصف ، فالقدس بالعربة 6 ساعات ونصف، وهذه هي الطريق التي اتخذها رجال كوك الذين رافقوا لجنة الحدود المصرية سنة 1906، قطعوها بتسعة أيام في كل يوم تسع ساعات.
نقب العقبة
شكل 1-11: القديسة كاترينا.
أما نقب العقبة، فهو الطريق الذي مهده ملوك مصر للحج المصري في ذلك الجبل العظيم المطل على مدينة العقبة من الغرب، وقد يطلق النقب على الجبل كله، ومسافة هذه الطريق من المرشش في أسفل النقب إلى المفرق في رأسه 3 ساعات إلا ربعا بسير الهجن النشيطة، وهي طريق متعرجة متحدرة جدا، حتى إن رأسها عند المفرق يعلو 620 مترا عن أسفلها عند المرشش، تسير الطريق مصعدة في «وادي المحسرات» إلى رأسه عند «قبر المغربية» ساعة وربع فتأتي «وادي المصري»، تصعد بهذا الوادي إلى قنطرة عليه نصف ساعة، «فمعقد الباشا» ثلث ساعة، وهنا خرائب مقعد للباشا الذي تولى تمهيد الطريق، وجد فيه حجر تاريخي قد تكسر قطعا هذه قراءته: «أمر بقطع هذه الطريق المباركة السلطان الملك الأشرف قانصوه الغوري عز نصره، وكان الواقف في هذا المكان الأمير، خان تاسع عشر ...» وقد رأى بعض الضباط هنا قطعة حجر من الرخام عليها هاتين الكلمتين: «السلطان مراد»، «فرجم الدرك» على ثلث ساعة من مقعد الباشا، وهو حجر تاريخي منقوش عليه هكذا: «بسم الله الرحمن الرحيم، أمر بإصلاح هذه الأماكن مولانا السلطان الملك الناصر حسن ابن السلطان الملك الناصر محمد قلاوون، وذلك في شهر رجب سنة 629ه/1231م»، سمي هذا الحجر برجم الدرك؛ لأنه كان مبدأ درك العلويين الحويطات، تذهب الطريق من هذا الرجم «بوادي القريقرة» وهو فرع في وادي طابا إلى جبل المسان فالمفرق ثلث ساعة، أما المسان، فجبل صغير في سطح النقب، فيه نباتات طحلبية متحجرة، وحجارته رملية تستخدم مسان ومن ذلك اسمه، وفي هذا النقب عدة قمم، كل قمة منها جبل عظيم معروف باسمه وأهمها:
جبل الشنانة:
عند رجم الدرك، وقد سماه مندوبو الحدود سنة 1906 «جبل رشدي باشا» على اسم قومندان العقبة في ذلك العهد وألحقوه بالعقبة.
وجبل أبو جدة:
بين جبل الشنانة والمفرق، وقد سمي «بجبل فتحي باشا» ودخل في حد مصر.
وجبل الردادي:
المار ذكره وهو يحجبها عن سطح النقب، أما سطح النقب أو رأس النقب، فهو القسم الأعلى من النقب بين رجم الدرك والمفرق.
شكل 1-12: المطران بورفيريوس الثاني «مطران سيناء الحالي».
الفصل الثاني
في دير طور سيناء
شكل 2-1: دير طور سيناء.
أشهر ما في الجزيرة الآن من بناء أو أثر «دير طور سيناء» للروم الأرثوذكس، بناه الإمبراطور يوستينيانوس نحو سنة 545م معقلا لرهبان سيناء، وهو واقع في سفح قمة من قمم طور سيناء على أحد فروع وادي الشيخ كما مر، ويعلو نحو 5012 قدما عن سطح البحر، حيث العرض 55
32° شمالا، والطول 18
58
33° شرقا، وعلى نحو ثمانية أيام من السويس، وستة أيام من العقبة، ويومين من مدينة الطور.
وقد بني على اسم القديسة كاترينا؛ لذلك يدعى أيضا «دير القديسة كاترينا»، وله راية بيضاء ترفع على قبة كنيسته الكبرى في أيام المواسم والأعياد، وقد رسم عليها باللون الأحمر صليب وحرفا
A. K. ، وهما مختصر اسم القديسة كاترينا باللاتينية.
وللدير سور عظيم غص داخله بالأبنية القائمة بعضها فوق بعض طبقة واحدة أو طبقتين أو ثلاثا أو أربعا على غير نظام، وتخترقها ممرات ودهاليز معوجة ضيقة، حتى يرى المتجول نفسه تارة في صعود، وتارة في هبوط، وتارة في ظلمة، وتارة في نور، ويرى من اختلاف حال الأبنية وأشكالها أنها قامت في أعصر مختلفة وأحوال مختلفة، وقد تداعى بعضها إلى الخراب، وخرب البعض الآخر، وهدم البعض بقصد تجديد بنائه.
وقد ضم هذا السور «العليقة المشتعلة»، وبرجا من برجين بنتهما القديسة هيلانة في تلك الجهة قبل بناء الدير، أما البرجان، فقد تهدما الآن ولم يبق لهما أثر، وكان أحدهما عند العليقة، والآخر خارج السور إلى الشرق منه.
وأهم الأبنية القائمة في داخل السور إلى الآن:
الكنيسة الكبرى التي بنيت عند بناء السور، وكنيسة العليقة، وعدة كنائس أخرى بنيت بعدها في أعصر مختلفة، وجامع بمنارة، ومكتبة نفيسة، ومنازل للرهبان وزوار الدير، ومخازن للحبوب والمؤن والأثاث والأخشاب، ومطابخ، وفرنان: فرن للقربان وفرن للخبز، وطاحونتان تداران بالبغال ، ومعصرة زيتون تدار بالبغال أيضا، ومعمل للخمر والسبرتو من البلح والعنب، وآبار تختلف في العمق والقدم، وخارج السور إلى جهة العرب عرصة فسيحة مسورة، وحديقة متسعة فيها أنواع الشجر والفاكهة. (1) سور الدير
أما سور الدير، فقريب من المربع المستطيل، ومساحته نحو 85 مترا في 75 مترا، ومتوسط علوه نحو 11 مترا، وسمك حائطه نحو مترين وربع متر، حتى إنهم جعلوا داخل الحائط كنائس صغيرة للعبادة، وبناء السور بالحجر الغرانيت المنحوت متين جدا، وقد أخذت حجارته من جبل الدير الجنوبي، وترى إلى الآن في منحدر هذا الجبل على نحو 200 متر من السور صخرة غرانيتية عظيمة، قد قطع منها بعض الحجارة، وبدئ بقطع غيرها، ثم ترك العمل قبل إتمامه.
وفي أعلى السور مزاغل، ركب عليها مدافع صغيرة من أقدم طرز، طولها نحو 3 أشبار قائمة على عجل صغير، والمشهور أنها من عهد السلطان سليم العثماني الأول، وهي الآن ستة، تطلق في أيام الأعياد والمواسم إعلانا لها.
وقد هدمت الزلازل الجزء الجنوبي من الحائط الغربي، والزاوية الجنوبية الشرقية من السور، فرممت ودعمت، وتهدم جانب من الحائط الشمالي في أواخر القرن الثامن عشر، فانكشفت الكنيسة لجبل الدير الشمالي، فأطلق بعض البدو رصاصة على راهب وهو يصلي فقتله، وكانت مصر إذ ذاك بيد الفرنساويين وعليهم الجنرال كليبر، وهو من أصل يوناني كأصل رهبان الدير، فرفعوا إليه شكواهم، فأرسل البنائين والأدوات اللازمة، فرمموا الحائط، وأعادوه كما كان، وفي هذا الحائط رخامى عليها كتابة باليونانية الحديثة تشير إلى ذلك، قالوا: وكان الفراغ من ترميمه في 1 مايو سنة 1801، وقد أنفق عليه 32,028 غرشا عثمانيا.
وفي هذا الحائط نفسه في أعلى الجانب الغربي منه حجر رخامي صغير، قد نقش عليه كتابة بالعربية، لم أتمكن من قراءتها بالعين المجردة لعلو الحجر، فاستعنت بالنظارة المكبرة، وقرأت فيه هذه العبارة بحرفها: «قد حضروا هذه الجهة المباركة المقدسة المعلمين من بلاد الشام نقولا وهبة موسى سليمان، وهبة إبراهيم جرجس جرجس سنة 1675 مسيحية»، وفي هذا الحائط من داخل السور بقرب هذا الحجر حجر رملي أبيض عليه كتابة بالعربية هذا نصها: «من طرابلس الشام سنة 1840 مسيحية، الحقير إلى الله المعلم يوسف كانون، اغفر له يا رب.» (2) أبواب الدير
شكل 2-2: باب الدير.
وقد كان للدير في حائطه الغربي في الجهة الشمالية منه باب كبير بقنطرة سعتها 7 أقدام، وهو باب الدير الأصلي، ولكن المخاوف التي مرت على الدير في الأجيال الوسطى، اضطرت الرهبان إلى سده بالحجارة، وقد فتحوا بابا ضيقا في وسط هذا الحائط، طوله نحو متر ونصف وعرضه نحو متر، وصفحوه بالحديد والمسامير الضخمة على الطرز القديم، ويمر الداخل منه بدهليز ضيق طوله نحو مترين، فيأتي على باب آخر بحجم الباب الخارجي ومتانته، يفتح إلى الشمال، ويؤدي إلى داخل الدير.
ثم في سنة 1880 اضطر الرهبان إلى زيادة التحفظ على ديرهم، فحجبوا باب الدير الخارجي بدهليز بنوه أمامه، طوله نحو مترين، وجعلوا له بابا كباب الدير شكلا ومتانة، فأصبح للدير ثلاثة أبواب: اثنان يفتحان للغرب، وباب يفتح للشمال، وهذه الأبواب لا تفتح إلا بإذن «أقلوم» الدير، وفي أيام المخاوف لا تفتح إلا عند الضرورة الشديدة. (3) حجران تاريخيان
وفوق باب الدير الحالي حجران من الرخام، قد نقش عليهما اسم باني الدير وتاريخ بنائه الواحد بالعربية والثاني باليونانية، وهذا ما نقش على الحجر العربي:
أنشأ دير طور سيناء وكنيسة جبل المناجاة الفقير لله الراجي عفو مولاه الملك المهذب الرومي المذهب يوستينيانوس تذكارا له ولزوجته تاوضورة على مرور الزمان، حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، وتم بناؤه بعد ثلاثين سنة من ملكه، ونصب له رئيسا اسمه ضولاس، جرى ذلك سنة 6021 لآدم، الموافق لتاريخ السيد المسيح سنة 527. ا.ه.
شكل 2-3: باب الدير المعلق.
ولكن هذين الحجرين وضعا هناك في القرن الثاني عشر أو الثالث عشر عند فتح باب الدير الجديد في الأرجح، وفيهما غلطتان تاريخيتان: الأولى أن أول رئيس سمي للدير هو الأب لونجينيوس وليس ضولاس، والثانية أن الملك يوستينيانوس لا يمكن أن يكون قد أتم بناء الدير سنة 527م؛ لأن هذه السنة هي بدء ملكه، وكان إذ ذاك مشغولا بالحروب كما هو ثابت في التاريخ، وإذا صح أنه أتمه بعد 30 سنة من ملكه - كما في هذا الأثر - فيكون قد تم بناؤه سنة 557م، ولكن مؤرخي الدير يرجحون لاعتبارات شتى أن الدير قد تم بناؤه في السنة الأربعين إلى الخمسين بعد الخمسمائة؛ لذلك قدرنا بناءه في نحو سنة 545م كما مر، وسنعود إلى هذا الموضوع في ما بعد. (4) باب الدير المعلق والدوار
وللدير كوة في أعلى الحائط، مستورة بقفص من خشب - سمتيها الباب المعلق - وبجانبه لولب كبير من خشب لف عليه حبل متين ضخم يعرف «بالدوار»، ترفع به الأثقال من خارج الدير في زمن المخاوف، فيغني عن فتح باب الدير، حتى كان الزوار قديما يدخلون إلى الدير من باب الدوار هذا، ومنه يوزع الخبز على فقراء البدو، ولنتقدم الآن إلى ذكر أهم الأبنية داخل السور: (4-1) الكنيسة الكبرى
أما الكنيسة الكبرى - وتعرف بكنيسة الاستحالة - ففي زاوية السور الشمالية الشرقية، وهي مبنية بالحجر الغرانيتي المنحوت كبناء السور أو أجمل، طولها 38,40 مترا وعرضها 19,20 مترا، ومتوسط علو جدرانها - ما عدا السقف والقبة - 5 أمتار، ولها باب كبير يفتح للغرب، وفي داخلها صفان من العمد الغرانيتية، في كل صف سبعة عمد ضخمة، كل عمود منها حجر واحد، وينقسم بها صحن الكنيسة إلى ثلاثة أقسام: فسحة في الوسط ورواق إلى اليمين ورواق إلى الشمال، ويحف بالعمد الأمامية عن يمين الداخل وشماله صفان من المقاعد الخشبية لجلوس الناس عليها في أثناء الصلاة، وفي وسط الصف عن شمال الداخل منبر من الرخام، جميل الصنع، يصعد إليه بسلم أهدي إلى الكنيسة سنة 1787م، لا يرتقي إليه إلا شماس الكنيسة لقراءة الإنجيل أو الواعظ من الرهبان.
وفي آخر صف المقاعد التي عن يمين الداخل منبر لمطران الدير، قد رسم عليه الدير وضواحيه، رسمه الأب كرنارس الكريتي من مصوري القرن الثامن عشر المشهورين.
والكنيسة مبلطة بالرخام، ومزدانة بالأيقونات القديمة والثريات والقناديل النفيسة كسائر الكنائس الشرقية، وأقدم الأيقونات القديمة فيها أيقونة مريم العذراء والمسيح الطفل على يدها، قيل إنها من صنع لوقا الإنجيلي، وأيقونة العذراء وسمعان وعلى يده المسيح بعد ولادته بثمانية أيام يزوره الهيكل، قيل إنها من اختراع الملك يوستينيانوس، وقد أهداها إلى الكنيسة عند إنشائها. وأيقونة القديسة كاترينا. (أ) هيكل الكنيسة
على أن أجمل ما في الكنيسة هيكلها، وأبدع ما في الهيكل حنيته المصورة، وهي نصف قبة في صدر الهيكل، قد رسم عليها صورة السيد المسيح، وصور الرسل والأنبياء ومؤسسي الكنيسة، وكلها مصورة بالفسيفساء ببراعة عظيمة وإتقان بديع، حتى تخال الرسوم قد صورت بالفوتوغرافية لا بحجارة الفسيفساء، ترى في جوف الحنية صورة السيد المسيح ناظرا إلى السماء، وعن يمينه إيليا النبي وعن شماله موسى النبي، ثم يوحنا الرسول في صف ثان تحت الصف الأول بين المسيح وإيليا ويعقوب الرسول في الصف الثاني هذا بين المسيح وموسى، ثم بطرس الرسول في صف ثالث تحت قدمي المسيح، هذا في جوف الحنية، وترى على دائرة قوسها السمتية صور الرسل الاثني عشر، وعلى دائرة قوسها الأفقية صور الأنبياء السبعة عشر، أولهم حزقيال عن يمين الداخل، وآخرهم دانيال عن يسار الداخل وداود في الوسط، وفي الدائرة نفسها عن يسار حزقيال ويمين الداخل الأب لونجينيوس أول رئيس للدير، وعن يمين دانيال ويسار الداخل الشماس يوحنا المشهور بالأقليمقوس تلميذ لونجينيوس ورئيس الدير بعده.
هذا، وفي جبهة الحنية فوق تجويفها يرى الداخل عن يمينه صورة موسى يتناول الوصايا العشر من يد مدت إليه من فوق، وتحته ملاك، وتحت الملاك صورة الملكة ثيودورة، ويرى عن شماله العليقة وموسى يخلع حذاءه بجانبها، ويد تشير إليه من فوق، وتحته ملاك، وتحت الملاك صورة الملك يوستينيانوس.
وفي أسفل حنية الفسيفساء ترى حائط الهيكل مرصوفا بقطع الرخام المتموج الجميل، قيل إنه رخام قديم أتي به عند بناء الهيكل من معبد وثني في إفسس.
هذا، وفي صحن الهيكل على وجهة المذبح كتابة باليونانية مؤداها أن هذا المذبح جدد في عهد المطران إيوانيكيوس سنة 1675م.
وإلى يمين المذبح عند بابه الجنوبي صندوق جميل من الرخام، حفظت فيه يد القديسة كاترينا وجمجمتها، واليد محلاة بالخواتم النفيسة من هدايا الزوار.
وتحت هذا الصندوق بلاطة مكتوب عليها بالعربية ما نصه: «جدد بلاط هذه الكنيسة المقدسة إثناسيوس رئيس أساقفة طور سيناء، وهو عمل نصر الله الشاغوري الدمشقي، وكان التمام يوم عيد الرسل سنة 1715 مسيحية.»
وفي الهيكل إلى يسار الداخل من بابه الشمالي رخامى قد كتب عليها بالعربية: «هنا وضع جسد أبينا القديس أفتيموس بطريرك أورشليم يوم الأربعاء ثالث عشر كانون الأول سنة ستة آلاف وسبعمائة واثنتين وثلاثين على عهد أبينا البارمقاريوس الدمشقي أسقف طور سيناء، يا أبونا! اذكرنا نحن تلاميذك، واذكرني أنا الكاتب.»
والداخل في باب الهيكل الوسطي يرى عن يمينه وشماله صندوقين من الفضة، قد رسم على غطاء كل منهما صورة القديسة كاترينا، فأما الذي عن الشمال فعليه كتابة باليونانية مفادها «أن الأرشمندريني كيرلس القبرصي جمع مالا من النصارى، وصنع تابوتا للقديسة كاترينا سنة 1691م في عهد المطران يوانيكيوس.»
وأما الذي عن اليمين، فقد أهدي للدير من حكومة اليونان سنة 1860م، وقد رصعت صورة القديسة كاترينا فيه بالحجارة الكريمة المختلفة الألوان والحجم، وبينها زمردة خضراء كبيرة غالية الثمن، وفي سنة 1765 رممت الكنيسة، وجعل فوق بابها رخامى نقش عليها باليونانية تاريخ ترميمها واسم مرممها. (ب) قبة الكنيسة
وفي سنة 1870 في عهد المطران كاليستراتس جعل للكنيسة قبة جميلة، وعلق فيها: عارضة من خشب وهي ناقوسها قبل استعمال الحديد، وعارضة من حديد وهي ناقوسها قبل استعمال الأجراس، و15 جرسا نحاسيا أكثرها صغيرة الحجم، تستخدم لأغراض شتى، وفي أيام الأعياد تدق كلها معا.
وفي هذه الكنيسة، كنيسة الدير الكبرى، صلاة الرهبان اليومية والعمومية.
وفي تاريخ الدير أن الملك يوستينيانوس لما بنى هذه الكنيسة بنى كنيسة بيت لحم، وكنيسة مارسابا قرب القدس، وكلها على هندسة واحدة. (ج) سقف الكنيسة
وسقف الكنيسة ذو سطحين منحنيين، كظهر الثور، وقد كان يغطى منذ بنيت الكنيسة بصفائح الرصاص، فلما كانت سنة 1911 أشار بعض المهندسين على الرهبان بأن يضعوا بدل الرصاص اللامارين، وهي صفائح رقيقة من «الحديد المزيبق»، ففعلوا وندموا؛ لأنهم استعملوا اللامارين لخفته رفقا بالسقف، ثم علموا من أمهر المهندسين أنما الرفق بالسقف هو في استعمال صفائح الرصاص فإنه أفضل واق من المطر والحر، أما صفائح اللامارين فإنها لا تلبث أن تصدأ وتثقب فتتسرب مياه الأمطار في الجسور وتتلفها. (د) جسور الكنيسة
وللسقف ثمانية جسور عظيمة من خشب الصنوبر، اكتشف الرهبان حديثا على بعضها كتابة باليونانية، فيها اسم باني الكنيسة ومهندسها وهذه ترجمتها:
على الجسر الأول: «اللهم أنت الذي أظهرت نفسك في هذا المكان، احفظ وارحم عبدك إسطفانوس مارتيريوس المهندس وإليسيون ونوناس ونيح نفس ولده جرجس.»
وعلى الجسر السابع: «تذكارا ونياحا للمطوية الذكر ملكتنا ثيودورة.»
وعلى الجسر الثامن: «من أجل خلاص المؤمن ملكنا يوستينيانوس.» (4-2) كنيسة العليقة
وبلصق الكنيسة الكبرى إلى الشرق منها وراء الهيكل «كنيسة العليقة»، وهي غرفة صغيرة بلطت جدرانها بالصيني. قيل وهي قائمة في مكان العليقة المقدسة التي ظهر الرب لموسى عندها (خروج ص3 عد2: 5)، بل قيل إن باني الدير إنما بناه في هذا الموضع تبركا بالعليقة، والآن ترى هناك عليقة أصلها داخل الكنيسة، وأغصانها خارجة من طاقة في جدارها الشرقي، هذا وفي قمة جبل المناجاة شرقي الدير نافذة طبيعية، ففي صباح 23 مارس من كل سنة تدخل الشمس من هذه النافذة، فطاقة الكنيسة في آن واحد وتنير العليقة، ولا يدخل هذه الكنيسة أحد إلا يخلع نعليه خارج بابها تمثلا بموسى النبي عند اقترابه من العليقة.
وفي هذه الكنيسة منبر من خشب متين، يجلس عليه مطران الدير، وقد كتب على ذراعي المنبر بأحرف من صدف نزلت في الخشب اسم واقف المنبر وتاريخ وقفه له هكذا: «وقف الفقير إبراهيم مسعد الحلبي لدير طور سيناء المعمور سنة 1713.»
ورأيت في الكنيسة عدة أيقونات جميلة الصنع، منها أيقونة نحو شبر في شبر، جمعت على صغر حجمها صور مريم العذراء والمسيح وجميع الأنبياء والرسل والقديسين الشهداء وكلها واضحة جلية، وهي رسم كاهن من كريت يدعى أنتيموس، رسمها سنة 1760م.
وفي جانبي الكنيسة الكبرى عن اليمين والشمال عدة كنائس صغيرة للرسل والأنبياء والقديسين، تفتح أبوابها إلى الكنيسة، ففي جانبها الأيمن إلى يسار الداخل أربع كنائس، منها كنيسة القديسين قسطنطين وهيلانة، وفي جانبها الأيسر خمس كنائس منها كنيسة الشهداء في طريق كنيسة العليقة من هيكل الكنيسة الكبرى.
وفي داخل السور - عدا هذه الكنائس - عدة كنائس صغيرة أكثرها متداعية إلى الخراب، وأهمها كنيسة الأرمن إلى الشرق من الكنيسة الكبرى.
وترى الكنيسة الكبرى بما تراكم حولها من الأبنية التي قامت بعضها على أنقاض البعض، كأنها في منخفض من الأرض، وهذا يفقدها كثيرا من رونقها وجمال بنائها. (5) جامع الدير
أما جامع الدير، فهو جامع صغير بمنارة غربي الكنيسة الكبرى، على نحو عشرة أمتار منها، وتعلو أرضه نحو عشرة أمتار عن أرض الكنيسة المذكورة، ومع ذلك فمنارته أقل ارتفاعا من قبة الكنيسة، وبناؤه بالطوب النيء والحجر الغرانيتي الغشيم.
وفي الجامع أثران تاريخيان نفيسان وهما: كرسي ومنبر من الخشب الصلب.
أما الكرسي، فعلى شكل هرم مقطوع، نقش على جوانبه الأربعة سطران بالخط الكوفي، سطر من أعلى وسطر من أسفل، وفيهما اسم باني الجامع وما له في سيناء من المآثر، وترى صورة جوانب الكرسي الأربعة بالفوتوغرافية، وما كتب عليها (انظر شكل
2-3 ).
وقد زالت هذه المآثر كلها، ولم يبق منها الآن إلا هذا الكرسي والجامع الذي نحن بصدده، والمسجد على قمة جبل موسى المار ذكره.
شكل 2-4: كرسي الجامع التاريخي.
أما منبر الجامع، فقد حفر على جبهته ستة أسطر بالخط الكوفي، فيها اسم واقف المنبر وتاريخ وقفه له، وقد أخذت رسم الكتابة على ورق نشاف عند زيارتي للدير سنة 1905، وأخبرني الرهبان أن المؤرخ المحقق أحمد زكي باشا سكرتير مجلس النظار زار الدير سنة 1900، وطبعها على قوالب من الجبس، فلما عدت إلى مصر وجدت زكي باشا محتفظا بالقوالب وراغبا في حلها، وقد دلني على الشيخ مصطفى القباني الدمشقي، وهو من كبار الثقات في الخطوط الكوفية في مصر والشام، فقرأها لي، وترى صورتها بالفوتوغرافيا وقراءتها (شكل
2-4 ).
بسم الله الرحمن الرحيم، مما أمر بعمل هذا الشمع، والكراسي المباركة، والجامع المبارك الذي بالدير الأعلى، والثلاث مساجد الذي فوق مناجاة موسى - عليه السلام - والجامع الذي فوق جبل دير فاران، والمسجد الذي تحت فاران الجديدة، والمنارة التي بحضر الساحل، الأمير الموفق المنتخب منير الدولة وفارسها أبي المنصور أنوشتكين الآمري. ا.ه.
شكل 2-5: الكتابة الكوفية على منبر الجامع.
بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، نصر من الله وفتح قريب لعبد الله ووليه أبي علي المنصور الإمام الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين - صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه المنتصرين - أمر بإنشاء هذا المنبر السيد الأجل الأفضل أمير الحرمين سيف الإسلام ناصر الإمام كافل قضاة المسلمين وهادي دعاة المؤمنين أبو القاسم شاهنشاه، عضد الله به الدين، وأمتع بطول بقائه أمير المؤمنين، وأدام قدرته وأعلى كلمته، وذلك في شهر ربيع الأول سنة خمسمائة أثق بالله. ا.ه.
أما الإمام الآمر بأحكام الله أبو علي المنصور، والأفضل أبو القاسم شاهنشاه، المذكوران في لوحة المنبر، فالأول هو السابع من خلفاء الدولة الفاطمية الذي تولى الخلافة من سنة 495-524ه/1101-1130م، والثاني وزيره صاحب المنبر، وتاريخ إنشائه المنبر ربيع أول سنة خمسمائة ه يوافق نوفمبر 1106م.
وأما أبو المنصور أنوشتكين الآمري باني الجامع المذكور في لوحة الكرسي، فتدل نسبته إلى «الآمري» على أنه كان أحد أمراء الآمر بأحكام الله المذكور آنفا، وسنعود إلى ذكر الجامع وآثاره وبانيه في باب التاريخ.
وفي محراب الجامع حجر من المرمر الصقيل، مكتوب عليه بالحبر بعض أسماء الزوار المسلمين، ومنهم: «مفتاح عبد الله في 28 رمضان سنة 925ه/25 سبتمبر سنة 1519، سليم بن محمد الخطيب - ومعه جماعة من عسكر الباشبوزق - في 18 رجب سنة 1021ه/14 سبتمبر 1612م.»
وبدنة الرزنة من قبيل أولاد سعيد هم المخصصون لخدمة الجامع، فلا يسمح لأحد بهذه الخدمة غيرهم، والظاهر أنهم أرسلوا من مصر بعد بناء الجامع ليكونوا في خدمته، فتناسلوا بين العرب، وانضموا إلى أولاد سعيد بطريق الأخوة، فعاشوا معهم إلى اليوم، ويبلغ عددهم الآن نحو عشرين رجلا، كل منهم يخدم الجامع أسبوعا، وهم لا يصلون فيه ولا يؤذنون، ولكنهم يكنسونه، ويعتنون بنظافته، وفي شهر رمضان ينيرونه كل ليلة، وإذا زار الدير مسلم وجيه فرشوا له الجامع بحصيرتين وسجادة ليصلي فيه.
ويلقب خادم الجامع «بالخوجة»، وله جراية من الدير يومية وأسبوعية، أما اليومية فعشرة أرغفة وطعام الظهر والمساء مما يأكله الرهبان، وإذا صام الرهبان أخذ بدل طعامه قدحا من القمح، وأما جرايته الأسبوعية فإنه يتناولها عند انتهاء الأسبوع قبل الانصراف وهي خمسة أقداح مصرية من القمح ونصف قدح من العدس وثلاثة أرغفة وأقة بلح. هذا وفي الوقت نفسه يأخذ جراية عائلته وهي في كل يومين 3 أرغفة للمرأة و4 أرغفة للبالغ من أولاده و3 أرغفة لغير البالغ منهم، ومعدل وزن رغيف الدير 35 درهما. (6) مكتبة الدير
أما مكتبة الدير، ففي الطبقة الثالثة من بناء قديم جنوبي الكنيسة الكبرى، وهي ثلاث غرف في صف واحد، الوسطى منها مبلطة بالرخام، وكانت قبلا مجلسا للرهبان، وفيها الآن صور بعض مطارنة الدير تصوير يد؛ كالمطران حنانيا سنة 1658-1668، والمطران كيرلس الأول سنة 1759-1790، والمطران قسطنديوس الثاني سنة 1804-1859، والمطران كالستراتس سنة 1867-1885، والمطران بورفيريوس الأول سنة 1897، وغوريغوريس خزندار الدير في أيام كالستراتس وبورفيريوس الأول، وفيها جرة كبيرة من الرخام الأصفر الصافي مثقوبة من أسفلها، وقد نقش عليها:
يا وارد الماء الزلال الصافي
اشرب هنيئا صحة وعوافي
وأما الكتب في الغرفتين الأخريين مرصوصة على رفوف من خشب، قيل تبلغ نحو 3000 كتاب، وهي مجموعة نفيسة من الكتب الدينية والأدبية والتاريخية من صدر النصرانية إلى هذا العهد، وهذه الكتب إما خطية أو مطبوعة باللغات اليونانية والعربية والسريانية والعبرانية والأرمنية والحبشية والقبطية والفارسية والروسية واللاتينية، وأكثر كتبها باليونانية والعربية، وأهم هذه الكتب وأقدمها:
الإنجيل السرياني:
المعروف باسم «بالمسست» وهي نسخة خطية غير تامة من الإنجيل باللغة السريانية مكتوبة على رق غزال، قيل هي أقدم نسخة معروفة للإنجيل باللغة السريانية، ويظن أنها مترجمة عن أصل يوناني في القرن الثاني للمسيح.
شكل 2-6: صندوق الإنجيل السرياني يفتحه الأب بوليكربوس.
شكل 2-7: الأب بنيامين أقلوم الدير سابقا بثياب الشغل، وأحد الجبالية.
أما لفظة «بالمسست» فتدل على أنها مكتوبة على الرق ثالث مرة، فسميت كذلك؛ لأنه ظاهر على الرق أن قد كتب عليه مرتين من قبل، ثم محيت الكتابة عنه، وكتب عليه ثالث مرة هذه النسخة من الإنجيل.
وأول من اكتشف هذه النسخة ودل عليها سيدتان شقيقتان إنكليزيتان، وهما مسس سمث ومسس جبسن، وذلك في سنة 1893م، وهي محفوظة الآن في مكتبة الدير، في صندوق جميل من الخشب الثمين، له غطاء من زجاج، وعليه كتابة باليونانية هذا مؤداها: «نحن أغنس سمث ومرغريت جبسن اعترافا بجميل الدير؛ نرسل إليه هذا الصندوق؛ ليحفظ فيه النسخة السريانية للكتاب المقدس المسماة بالمسست.»
والتوراة اليونانية:
المعروفة باسم «كودكس سيناتيكوس»، وهي نسخة خطية غير تامة من التوراة اليونانية، قيل إنها من القرن الرابع للمسيح، اكتشفها في الدير العلامة الروسي تيشندرف سنة 1869 في عهد المطران كالستراتس، وحملها إلى بطرسبورج، وعرضها على إسكندر الثاني قيصر روسيا، فاشتراها القيصر من الدير بثمانية آلاف فرنك! وقد طبع منها عدة نسخ بالفوتوغرافية، وأرسل إلى الدير نسخة منها، وحفظ الأصل عنده، قيل وفي مكتبة لبسك أوراق من النسخة الأصلية.
والإنجيل مكتوبا بماء الذهب:
قيل إنه خط يد الإمبراطور ثيودوسيوس أهداه للدير سنة 716، ولكن رأى أكثر المحققين أنه ليس أقدم من القرن العاشر للمسيح.
ومزامير داود مكتوبة بحروف مكروسكوبية:
قيل إنها مكتوبة بخط الراهبة كاسياني، وقيل إنه خط كاتب في بدء القرن الخامس عشر بدء النهضة العلمية في أوروبا.
والعهدة النبوية:
وهي في تقاليد الرهبان كتاب العهد الذي كتبه لهم النبي محمد، قالوا: وقد كان الأصل محفوظا في الدير إلى أن فتح السلطان سليم مصر سنة 1517م، فأخذ الأصل، وأعطاهم نسخة منه مع ترجمتها التركية، وفي المكتبة الآن عدة نسخ منها، بعضها على رق غزال، وبعضها على ورق متين، وبعضها في دفتر خاص، وسنأتي على هذه العهدة وما قيل في شأنها بالتفصيل في باب التاريخ.
فهارس المكتبة:
وللمكتبة فهارس، أنشأها أهل الفضل غيرة على الدير والعلم، وهي:
فهرس الكتب اليونانية الخطية:
أنشأه الأستاذ جردثوسن من لبسك، وطبعه في أكسفورد سنة 1886.
وفهرس الكتب اليونانية المطبوعة:
للراهب بولس، من رهبان الدير النجباء.
وفهرس الكتب السريانية الخطية:
للفاضلة إجنس سمث لويس المار ذكرها.
وفهرس الكتب العربية الخطية:
للفاضلة مارغريت جبسن سنة 1894.
وأما الكتب التي بباقي اللغات، فليس لها فهارس بعد، ثم إن أهم الكتب العربية: نسخ من التوراة، وتفاسير الكتب المقدسة، والمزامير، والأناجيل، وقراءات من الأناجيل (تقرأ على طول السنة)، وأخبار القديسين، واستشهاد القديسة كاترينا، ومقالات لباسيليوس الكبير، والقديس غوريغوريوس الثاولوغس، والقديس غوريغوريوس، والقديس يوحنا فم الذهب، ومار إسحاق السرياني، ومار إفرام السرياني، وقصة عبد المسيح الذي استشهد بالرملة، وقصة القديسة تقلة، وقصة جهاد القديسة بربارة، وقصة القديسين المقتولين في طور سيناء، وذكر مريم المصرية، وقصة أرسانيوس السليح في برية مصر، ورجعة الصليب بعد ما رده هرقل من بابل على بيت المقدس، وقصة الملك إسكندر ذي القرنين، وخبر وجود الصليب على يد الملكة هيلانة أم الملك قسطنطين، وشهادة الأبهات الذين قتلوا بطور سيناء، وقصة القديس إنسطاسيوس رئيس طور سيناء، وكتاب الأقليمقوس، تأليف يوحنا رابع رئيس للدير، وهو من أشهر كتب الدير، وسيأتي ذكره في باب التاريخ. (7) سائر أبنية الدير
وأما بقية الأبنية داخل السور، فالتي إلى غربي الكنيسة الكبرى ما عدا الجامع: معصرة الزيتون، ومعمل الخمر، ومخازن الغلال في الطبقة الأولى، ومنازل للرهبان، وزوار الدير في الثانية والثالثة، ومنزل المطران والضيوف في الرابعة.
وإلى شرقي الكنيسة: مخازن للمؤنة، ومنازل للرهبان طبقة واحدة وطبقتان وثلاث طبقات، والطاحونتان، والفرنان، والمطبخ العام، وكنيسة الأرمن، وقد جعلوها الآن غرفة الطعام وخشب مائدتها ومقاعدها متين وعليه رسوم جميلة قديمة العهد.
وإلى شمالي الكنيسة: مجلس الرهبان في طبقة ثانية، والدوار المار ذكره طبقة ثالثة، ويصعد منه بسلم قصير إلى مكتب الدير وغرفة الاستقبال.
وإلى جنوبي الكنيسة - ما عدا المكتبة - منازل للرهبان، وكانت أكثر الأبنية التي بلصق الحائط الجنوبي متداعية، فهدمها المطران الحالي، وسيشرع قريبا في بناء مركز جديد له ومنازل للرهبان وكنائس في مكانها. (8) آبار الدير
وللدير عدة آبار حية داخل السور، وهي:
بئر موسى:
شمالي الكنيسة الكبرى قرب الدوار ومجلس الرهبان، وهي بئر قديمة مطوية بالحجر، قيل هي أقدم من الدير، وإنها البئر التي سقى منها موسى النبي غنم بنات يثرون (خروج ص2 عد17)، ومن ذلك اسمها.
وبئر العليقة:
بجانب العليقة والطاحونتين، وهي بئر عميقة مطوية بالحجر. قيل وهي أيضا أقدم من الدير.
وبئر إسطفانوس:
إلى الجنوب الغربي من الكنيسة الكبرى، بجانب كنيسة إسطفانوس، وماؤها عذب، وهي التي يشرب منها الرهبان، وفي تقاليدهم أنها البئر التي احتفرها إسطفانوس مهندس الدير، وبجانبها سروة وهي الشجرة الوحيدة داخل السور. (9) عرصة الدير
أما عرصة الدير، ففناء مسور غربيه، فيه منزل للضيوف، ولسور العرصة بوابة تفتح للشمال وهي بابها العمومي، وفوق عتبتها رخامى نقش عليها باليونانية كتابة مؤداها أن البوابة بنيت في عهد المطران كيرلس سنة 1859-1867، وباب صغير يفتح إلى الجنوب، ويصعد منه إلى جبل موسى، وآخر يفتح إلى الغرب يؤدي إلى حديقة الدير. (10) حديقة الدير
أما حديقة الدير، فهي جنينة متسعة مسورة في أرض متحدرة، فيها 12 جلا، ولسورها من جهة الغرب باب معلق، يدلي منه خدام الحديقة الطعام إلى أهلهم في الخارج.
وفي الحديقة من أشجار الخشب: السرو، والصفصاف، والحور.
ومن أشجار الفاكهة: التين، والعنب وهو أكثر أشجارها، والخوخ، والتفاح، والمشمش، والجوز، والسفرجل، والكمثرى، والبرتقال، واللوز، والتوت الأسود.
ومن أشجار الغلة: الزيتون، والخروب، ونخلة واحدة.
وفيها من الأزهار: الورد، والقرنفل، والمنثور، والريحان، والآس.
ومن الخضر والبقول: الأرنبيط، والسلق، والخيار، والكوسة، والفول، والسبانخ، والخرشوف، والبقدونس، والخس، والفجل، والبصل، والثوم، والبقلة، والنعنع. (10-1) آبار الحديقة
وفي هذه الحديقة ثلاث آبار وثلاثة ينابيع، وأما الآبار فهي: «بئر مكاريوس» في أعلى الحديقة، عمقها نحو 15 مترا، وماؤها في الصيف بارد كالثلج، قيل إنها أقدم آبار الحديقة، وأن قد احتفرها مهندس الدير. «وبئر اللوزة» تحتها عند لوزة قديمة العهد، والبئر الثالث مهجورة في جل منخفض عنها.
وأما الثلاثة ينابيع، ففي أسفل الحديقة، وقد جروا ماء أسفلها إلى جنينة صغيرة غربي الحديقة الكبرى، بينهما الطريق المؤدية إلى الدير.
وإلى شرقي الحديقة وشمالي الدير على يسار الداخل في بوابة العرصة نبع غزير يدعى «بركة الدوار» يجري ماؤه بقناة تحت الأرض، فيسقي الجهة الشرقية من الحديقة. (10-2) معرض الجماجم
هذا وفي وسط الحديقة مدافن الرهبان ومعرض الجماجم، فهم يدفنون موتاهم في هذا المدفن، ويتركون الجثث حتى تبلى، فينبشونها ويأخذون عظامها، ويجعلونها في معرض خاص قرب المدفن يسمى «كنيسة الموتى».
ترى في مدخل المعرض غرفة صغيرة، فيها رفات الموتى من زوار الروس وأهل الطور، وترى صورة القديس أونوفربوس من نساك طور سيناء المشهورين، وله لحية تكاد تلمس الأرض، والمعرض قبو متسع تعلوه كنيسة، وقد رصت الجماجم بعضها فوق بعض كآنية الفخار في جهة منه، وباقي العظام في جهة أخرى، وترى بعض هياكل العظام متماسكة من الرأس إلى القدم، وبينها هيكل غريب في الطول.
هذه هي عظام الرهبان، وأما المطارنة فإن هياكل عظامهم قد جعل كل منها في صندوق خاص أو في عين في الحائط، ومن ذلك: رفات المطران حنانيا، الذي سعى ليكون بطريركا للآستانة ولم يفلح، وتوفي سنة 1668، ورفات المطران إثناسيوس المتوفى سنة 1718م، ورفات المطران دوروسيوس المتوفى سنة 1797م، ورفات المطران قسطنديوس الثاني الذي صار بطريركا في الآستانة وتوفي سنة 1859م، ورفات المطران كالستراتس المتوفى سنة 1885، ورفات المطران بوفيريوس الأول.
وترى عند باب هذه القاعة عن شمالك هيكل رجل مسن، قد أجلسوه على كرسي، وألبسوه ثيابا رثة، وجعلوا في يده سبحه حتى تخاله حيا حارسا للباب، قيل إنه هيكل القديس إسطفانوس أول بواب للدير في أيام يوحنا أقليمقوس المذكور آنفا.
وترى معلقا في الحائط رفات ناسك، وبجانبه سكينه ولباسه وحزام من حديد كان يتحزم به، قيل توفي سنة 1696، وقد أخرجت عظامه من مدفنها في عهد المطران إثناسيوس المار ذكره. (11) ضواحي الدير
أما ضواحي الدير التي تستحق الزيارة لما عليها، وعلى الطرق المؤدية إليها من قديم الآثار فهي: «قمم جبل موسى، والصفصافة، والمناجاة، وكاترينا».
أما «قمة جبل موسى» فلها من الدير طريقان: «طريق سيدنا موسى، وطريق عباس باشا.»
أما «طريق سيدنا موسى» فهي طريق مختصرة إلا أنها متحدرة شاقة، مهدها الرهبان منذ عهد بعيد جدا، وجعلوا لها سلما من الحجر الغشيم، فيه نحو 3000 درجة، وقد رممه المطران الحالي سنة 1911.
شكل 2-8: الجامع الصغير على قمة جبل موسى.
شكل 2-9: القنطرة الأولى في طريق سيدنا موسى.
ومسافة هذه الطريق نحو ساعتين ونصف ساعة للشاب النشيط المتعود تسلق الجبال، تصعد فيها نحو ثلث ساعة، فتأتي «نبع ماء»، كان يعيش عليه قديما ناسك إسكافي، فربع ساعة تأتي «كنيسة الأقلوم»، وفي تقاليد الرهبان الروائية أنه في إحدى السنين اشتد الجوع في الجزيرة، وانقطع الزاد عن الرهبان، فأقروا على ترك الدير والالتجاء إلى مدينة الطور فرارا من الجوع، فصعدوا إلى قمة جبل موسى لأداء الزيارة قبل الرحيل، وتأخر الأقلوم في الدير، فأقفل الأبواب وسلم المفاتيح إلى شيخ أولاد سعيد بحضور مشايخ الجزيرة كلهم، وسار في طريق قمة جبل موسى لاحقا بإخوانه، فلما وصل هذا المكان تجلت له مريم العذراء وابنها الطفل على يدها، وقالت له: «اذهب وتمم زيارتك لقمة الجبل، وعد بإخوانك إلى الدير، فإن الفرج قد جاءكم»، قالت ذلك وغابت عن نظره، فعاد بإخوانه إلى الدير، فوجدوا إبلا كثيرة محملة حبوبا، فسألوا أصحاب الإبل عمن أتى بهذه الحبوب، فقالوا: أتى بها شيخ جليل علاه الشيب، وفتاة في منتهى الجمال، وقد رافقانا إلى هذا المكان ثم اختفيا عن الأبصار، قال الرهبان: إن الشيخ والفتاة هما موسى النبي والقديسة كاترينا، وقد شادوا هذه الكنيسة على اسم مريم العذراء تذكارا لتلك الحادثة العجيبة!
تصعد من كنيسة الأقلوم عشر دقائق تجد «القنطرة الأولى» مبنية بالحجر المقصوب، فعشر دقائق أخرى تجد «القنطرة الثانية»، قالوا: كان يجلس عند كل قنطرة راهب أو أكثر يتقبل الاعتراف من الزوار ويكتب أسماءهم.
تسير من القنطرة الثانية نصف ساعة في منخفض بين الجبال يدعى «الفرش»، فتأتي «كنيسة موسى النبي» وبجانبها «كنيسة إيليا النبي»، وفي هذه الكنيسة مغارة متسعة، قيل إنها المغارة التي سكنها إيليا النبي عند مجيئه إلى حوريب (ملوك1 ص19).
ومن الفرش طريق تتجه شمالا بغرب إلى «قمة جبل الصفصافة» مسيرة ساعة ونصف ساعة مارة بمغارة القديس إسطفان المار ذكره عن اليسار، ثم كنيسة مار يوحنا عن اليمين، وهذه القمة هي في رأي أكثر المحققين القمة التي وقف عليها موسى، وألقى على شعبه الوصايا العشر، وهم تجاهه في سهل الراحة كما مر. ولنعد إلى طريق سيدنا موسى.
تصعد من كنيسة النبي إيليا خمس دقائق، فتأتي سفح «شاهق» عظيم، أتينا على رسمه عند ذكر جبل موسى (شكل
3-1 )، ومنه تصعد في درج يكاد يكون عموديا نحو ساعة، فتصل قمة جبل موسى، تجد هناك كنيسة صغيرة، وجامعا صغيرا، وينكشف لك منظر من أجمل مناظر الطبيعة كما قدمنا، وقبل وصولك إلى قمة الجبل بنحو 5 دقائق تجد على الطريق أثرا في صخرة كأثر قدم الجمل، يدل البدو عليه أنه الأثر الذي تركه جمل النبي لما زار الجبل! قيل سميت هذه الطريق طريق موسى؛ لأن موسى كان يتخذها إلى قمة الجبل من العليقة.
وأما «طريق عباس باشا» فإنها تسير من الدير شرقا إلى رأس جبل المناجاة، ثم تنحرف جنوبا إلى سفح «الشاهق» المار ذكره، وإلى هنا يمكن الزائر أن يركب جوادا أو هجينا أربعين دقيقة من الدير، ثم يترجل ويسير في «طريق سيدنا موسى» إلى قمة الجبل نحو ساعة، فتكون مسافة هذه الطريق ساعة وثلثي الساعة، وقد مهدها من الدير إلى الشاهق المغفور له عباس باشا الأول فسميت باسمه.
وأهم ما في هذه الطريق «جبل المناجاة»، وعلى قمته كنيسة صغيرة، قيل إنها قائمة على أطلال دير قديم للراهبات.
أما «قمة جبل كاترينا» فلها من الدير طريق واحد، تنحدر غربا بوادي الدير إلى مقام النبي هارون، فتلتقي وادي اللجاة، فتصعد معه جنوبا إلى رأسه، ومنه صعودا في الجبل إلى قمته، ومسافة هذه الطريق من الدير إلى رأس وادي اللجاة ساعة للراكب وساعة وثلث للماشي، ومن رأس وادي اللجاة إلى قمة الجبل ساعتان للراكب، وثلاث ساعات للماشي النشيط في طريق لولبية مهدها سنة 1905 الأب كالستو أحد رهبان الدير، وهذا الراهب هو باني الكنيسة، وصهريج الماء المار ذكرهما على قمة جبل كاترينا، ومما يستحق الذكر في طريق الدير إلى رأس وادي اللجاة:
جبانة للجبالية:
على وادي الدير، قبيل مقام النبي هارون، وفيها قبر يزار للشيخ نهمة من الجبالية، مات منذ نحو مائة سنة.
فنقرة البقرة:
على نحو خمس دقائق جنوبي مقام النبي هارون، قيل إنها البقعة التي صنع عليها النبي هارون العجل لبني إسرائيل عند تغربهم في جبل سيناء.
فالبستان:
من أهم بساتين الدير على يمين وادي اللجاة، وفيه أنواع الفاكهة والخضر، ومنزل صغير طبقتين، وكنيسة قديمة العهد على اسم مار جرجس.
فالربة :
على يسار وادي اللجاة في منتصف الطريق، بين رأس الوادي والدير، وهناك بستان متسع حوى أنواع الفاكهة والخضر، وفيه كنيسة جميلة تدعى كنيسة الرسل، ومنزل صغير في طبقتين، ونبعان غزيران، وأقدم ما فيه ثلاث صخرات نبطية كبيرة، وبجانب الربة إلى جهة الغرب منازل من حجر غشيم وطين للجبالية يسكنون فيها أيام الصيف، وعلى نحو ساعة غربيها الجبل الذي اختاره ساكن الجنان عباس باشا الأول مصيفا له، وشرع في بناء قصر عليه فلم يتمه.
فاللجاة السفلى:
وهي بستان من الزيتون والرمان بين الربة ورأس الوادي. وفي أسفله نبع غزير يسقي «البستان» المار ذكره «والحواويط والقنطرة» بينهما.
فاللجاة العليا:
في رأس الوادي، وهناك بستان عظيم من شجر الزيتون، وبعض أشجار الفاكهة، وخمس عيون ماء، ومنزل قديم للرهبان، وكنيسة «الأربعين شاهد»، وهم الشهداء الأربعون الذين قتلوا لأجل إيمانهم بالمسيح في سبسطية بكبدوكية في 9 آذار سنة 320م.
وصخرة موسى:
بين اللجاة السفلى واللجاة العليا، وهي صخرة غرانيتية علوها نحو 12 قدما، وطولها وعرضها نصف ذلك، يدل عليها الرهبان أنها الصخرة التي أخرج منها موسى النبي الماء لبني إسرائيل (سفر العدد ص19 عدد 8: 11). (12) زوار الدير
هذا، ولما كان المأثور واعتقاد الجمهور أن الدير قائم على «طور سيناء» الجبل الذي كلم الله عليه موسى، وقد قدسه القرآن والإنجيل والتوراة على السواء؛ لذلك كان الدير محجا لزوار اليهود والنصارى والمسلمين من الشرق والغرب منذ أول عهده إلى هذا اليوم، ولكن قل من زار الدير في هذا العهد زيارة دينية غير الروس المعروفين بالمسكوب، يزورونه رجالا ونساء كل سنة، ومتوسط عدد الزوار منهم في السنة 200 أو أكثر، وتدوم زيارتهم للدير ثمانية أيام، يزورون في أثنائها جميع الضواحي المتقدم ذكرها.
وهم يأتونه في الغالب بعد زيارة القدس في عيد الميلاد وعيد الغطاس، أو يأتونه رأسا من بلادهم لحضور عيد القديسة كاترينا الواقع في 25 نوفمبر من كل سنة حسابا شرقيا؛ إذ يحتفل الرهبان بهذا العيد احتفالا بالغا منتهى الأبهة؛ لأن ديرهم مسمى بربة العيد كما قدمنا، يأتي هؤلاء الزوار أولا مدينة السويس، ومنها يأخذون طريق البحر إلى مدينة الطور فالدير، أو يذهبون رأسا من السويس بطريق البر، ويرجعون كلهم بمدينة الطور، فيزورون حمام موسى وجبل الناقوس، ثم يأتون القاهرة ويزورون الأهرام، وبئر يوسف في القلعة، وشجرة العذراء في المطرية.
هذا، وفي مدة إقامتهم في الدير ومراكزه في السويس والطور والقاهرة يأكلون ويشربون وينامون على نفقة الدير، ولكن بعضهم يقدمون نذورا للدير من نقود وحلي. (13) أملاك الدير (13-1) في جزيرة سيناء
يملك رهبان سيناء الدير وضواحيه، ولهم بستان في وادي طلاح غربي الربة، وبستان كبير في جبل الفريع غربي الدير، وبستان كبير ونخيل وخرائب دير قديم في فيران، ومركز وكنيسة ومدرسة في مدينة الطور، وبستان نخيل ومنزل كبير في حمام موسى، وخرائب دير وكنيسة في وادي الطور، وكان لهم قديما عين النصب وبستانها، فوهبوهما للنفيعات، وعين حدرة وبستانها فوهبوهما للعليقات كما قدمنا.
وإذا سألت الرهبان عن أملاكهم في سيناء، قالوا: «لنا الدير ودائرة من الأرض طول قطرها ثلاثة أيام!» وأما أملاكهم وأوقافهم خارج سيناء فهي: (13-2) في مصر وسوريا وآسيا الصغرى
مركز في القاهرة:
تجاه جامع الظاهر، وفيه كنيسة ومنازل ثلاث طبقات للمطران والرهبان والزوار، وحديقة متسعة، وبجانبه منزل كبير ذو ثلاث طبقات للإيجار، وكان مركزهم قبلا في الجوانية بقسم الجمالية، أقاموا فيه زمانا طويلا إلى سنة 1890، ثم غيروه لتقادم عهده وازدحام السكان حوله وعدم ملائمته للصحة، قالوا: وكان لهم قديما قبل الجوانية مركز في مصر العتيقة، فنقلوه إلى الجوانية للسبب عينه.
وفي مركز القاهرة يقضي مطران سيناء معظم الشتاء والربيع، ومعه بعض الرهبان للنظر في علائق الدير مع حكومة مصر والسياح والزوار، وتدبير المؤن والمعدات اللازمة للدير.
ومنزلان للإيجار في الإسكندرية:
كل منزل 3 طبقات.
ومركز في السويس:
وهو منزل للرهبان، وبقربه منزل للإيجار ذو ثلاث طبقات، وهنا يقيم على الدوام راهب منهم؛ لتسهيل وسائط السفر للرهبان وزوار الدير.
وأبعدية في سرياقوس:
قرب القاهرة، وهي مائة فدان من الأطيان الزراعية، قالوا: وهبها لهم ساكن الجنان عباس باشا الأول، بدل عيد وبستان كانا لهم في الجبل الذي اختاره مصيفا قرب الدير.
وللدير مركز في طرابلس الشام، ومركز في دمشق الشام، ومركز في أزمير. (13-3) في جزائر الأرخبيل الرومي وشرق أوروبا
ومركز في جزيرة صاقس، وكنيستان في جزيرة زنتي، وثلاث كنائس وأربعة مراكز في جزيرة قبرص، وأربع كنائس في جزيرة كريت، ومركز وكنيستان في المورة، ومركز في كلامس من بلاد اليونان على 8 ساعات بالسكة الحديد جنوبي أثينا، وكنيسة في الآستانة، وكنيسة في بيتوليا بمكدونية، ومركز في مناستير، وكنيسة في يانينا جنوبي ألبانيا، وكنيسة في تفليس في روسيا، ومركز في كيف في روسيا، وكان لهم أوقاف متسعة في كيف استولت عليها الحكومة الروسية، وهي تعطيهم من ريعها من 2500-3000 جنيه في السنة.
هذا، وكان للدير قديما مركز في ضواحي غزة يمده بالحبوب بطريق المويلح فالثمد فوادي شعيرة الدبس، وكان الرهبان يدفعون مرتبات سنوية للمشايخ الذين تمر القوافل في بلادهم، ثم أهمل مركز غزة بعد استتباب الأمن في مصر في أيام المغفور له محمد علي باشا، واكتفى بمركز مصر، أخبرني الأب أفيانوس - وكيل الدير سابقا - أنه في سنة 1870 حضر إلى مركز الدير بمصر بعض مشايخ السواركة، وطلبوا المتأخر من مرتباتهم لعدة سنين، مع أن الدير كان قد ألغى مركز غزة، ولم يخفروا له قافلة في كل تلك المدة، فرفض طلبهم، ولكنه نقدهم شيئا من المطلوب كهدية تطييبا لخواطرهم. (14) دخل الدير ونفقاته
إن متوسط «دخل الدير» في سيناء وحدها: من الزيت نحو 3500 أقة، ومن النبيذ نحو 1500 أقة يستخرجونه من العنب، ومن العرق نحو 1500 أقة يستخرجونه من البلح، ومن السبرتو نحو 500 أقة يستخرجونه من البلح في مركزهم بمدينة الطور، ومن البلح نحو 20000 أقة، وله دخل سنوي من أبعديته في سرياقوس وأملاكه في مصر القاهرة والإسكندرية والسويس، ومن مراكزه في الشام وآسيا الصغرى وأوروبا.
أخبرني مطران سيناء الحالي أن متوسط دخل الدير في السنة نحو ستة آلاف جنيه، تنفق كلها أو معظمها على العرب والرهبان وترميم الدير ولوازمه.
أما «نفقات الدير» فمعظمها على العربان وحجاج الروس، قال الأقلوم السابق: «وربما بلغت نفقات الدير على العربان وحدهم ألفي جنيه في السنة أو أكثر، يرد إلى الدير من مركزه بمصر كل سنة 150 كيس تبن، ونحو 500 إردب من الحبوب، منها 100 إردب فول، و70 إردب شعير، و50 إردب ذرة، و10 أرادب عدس، والباقي قمح، فلا ينوب الرهبان من هذه الحبوب كلها سوى خمسين إردبا، وما بقي ينفق على العربان وزوار الدير من المسكوب وغيرهم»، وسألت الأقلوم زيادة الإيضاح، فقال:
يوزع الرهبان مرتبا يوميا من الخبز على الجبالية القاطنين في جوار الدير، وعلى فقراء سائر القبائل إذا مروا بالدير، فهم يفتحون باب الدوار كل يوم من الساعة 10 صباحا إلى الساعة 1 بعد الظهر، فمن حضر من الجبالية وغيرهم أنزلوا له الراتب من الباب المذكور، وهو في كل يومين 5 أرغفة للرجل، و4 أرغفة للبالغ أو البالغة، و3 أرغفة للمرأة، و3 أرغفة للطفل، ويوزعون أيضا عليهم البن والسمن والأرز والزيت والخل والسبرتو بمقادير قليلة، ويوزعون على مرضاهم الكينا وأنواع الشربات واللزق وغيرها من الأدوية المتعارفة.
وإذا مات أحد الجبالية أو الرزنة، ونعاه أهله إلى الدير، أعطاهم الدير الكفن والقطن ولوح صابون لغسل الميت وتكفينه، وقدحي قمح وقدح عدس وقليلا من البن، وأعطاهم فوقها 3 أقات تمر للتوزيع على الفقراء عن روح فقيدهم.
وإذا ضاف الرهبان شيخ من العرب في الدير أو في الطور أو في مصر ذبحوا له وأكرموه، وقدموا العلف لبهائمه. (15) رهبان الدير
شكل 2-10: المرحوم الأب أفيانوس وكيل الدير سابقا.
شكل 2-11: الأرشمندريت نيقوديموس. (15-1) عددهم وجنسيتهم
أما رهبان الدير، فعددهم الآن 60 راهبا، موزعين كما يأتي:
عدد
27
في الدير وضواحيه
1
في مركز فيران
7
في مركز مدينة الطور
1
في مركز السويس
7
في مركز القاهرة
1
في مركز طرابلس الشام
0
في مركز أزمير
3
في مراكز جزيرة قبرص
1
في مركز صاقس
1
في مركز زانتي
3
في جزيرة مراكز كريت
2
في مركز الآستانة
1
في مركز مناستير
1
في مركز يانينا
1
في مركز تفليس
3
في مركز كيف
60
المجموع
وكان قد بلغ عددهم في الأجيال الوسطى 300 إلى 400 راهب، وكانوا خليطا من سوريين وأروام وأرمن ولاتين وأحباش ومصريين وغيرهم، وساد الأرمن في القرن الثامن أو التاسع، وساد اللاتين بعدهم مدة، ثم عادت السيادة إلى الأروام، والآن جميع رهبان الدير يونانيو الجنس على مذهب الروم الأرثوذكس، وأكثرهم يتكلمون العربية وبعضهم يجيدونها، وكان بينهم في أوائل هذا الجيل راهب روسي، فتوفي سنة 1874. (15-2) مهنهم وإجمال حالهم
وفيهم: النجار، والطحان، والخباز، والطباخ، والبناء، والبواب، والإسكافي، والخياط، والقندلفت.
ولبسهم قماش خشن من الشعر الرمادي اللون في الشتاء، وجوخ أسود رفيع في الصيف، ولكل راهب سبحة يجدلها من شعر رأسه يستخدمها في الصلاة.
وطعامهم بسيط إلى الغاية، وقد رأيتهم على المائدة في الصوم الكبير يأكلون الخبز بآدام من بطارخ وعدس وفاصوليا وبصل.
ومن عاداتهم الحميدة أن واحدا منهم يقرأ لهم وهم يأكلون، ففي الصيام الكبير يقرءون فصلا من الأقليمقس، وأما في باقي أيام السنة فيقرءون تاريخ قديس ذلك اليوم، ما عدا السبت فإنهم يقرءون فيه تفسير الرسائل، والأحد فإنهم يقرءون فيه تفسير الإنجيل، وأكثر الرهبان غير متعلم، ولكن كلهم أهل تقوى وورع ويحبون الضيف، وقد زرتهم في ديرهم مرتين: مرة في يناير سنة 1900، ومرة في أبريل سنة 1907، فلقيت من مطرانهم إلى أصغر راهب فيهم كل أنس وضيافة، ورأيت جميع الزوار الذين وضعوا أسماءهم في دفتر الدير قد شهدوا لهم بهذه الشهادة، وحضرت صلواتهم في الكنيسة، فإذا هي مثال العبادة الصادقة والقلب الخاشع. (15-3) عيشتهم اليومية
وقد سألت الأقلوم: كيف يقضي الراهب يومه في الدير؟ فقال: يستيقظ الساعة 2 بعد نصف الليل في الشتاء والساعة 1 في الصيف، فما تمضي نصف ساعة حتى يكون قد أعد نفسه، فيأتي الكنيسة، ويبقى إلى الساعة 7، وفي أيام الأعياد إلى الساعة 8 منعكفا على الصلاة، ثم يعود إلى غرفته فيفطر بها، ويباشر شغله الخاص إلى الساعة 10 في الأيام الاعتيادية، وإلى الساعة 11 في أيام الصوم، ثم يذهب إلى غرفة الطعام فيأكل طعام الظهر، ويعود إلى غرفته، فيطالع الكتب الدينية أو ينام إلى العصر، فينزل إلى الكنيسة، ويصلي صلاة العصر، ثم يذهب إلى «الوسط» قرب المائدة، فيأخذ عشاءه إلى غرفته، «وهو رغيف وقليل من الزيتون أو الجبن أو السردين»، ويذهب إلى الجنينة للعمل فيها إلى الغروب، ثم يعود إلى الكنيسة، فيصلي صلاة الغروب، ويرجع إلى غرفته، فيتعشى وينام إلى الساعة 2 بعد نصف الليل، فيعود إلى العمل وهكذا. (15-4) مجلسهم
وللرهبان مجلس خاص، يحكم بأكثرية الأصوات، وهو ينتخب الرئيس أو المطران، ويكرسه بطريرك القدس. وإذا وقع بين المجلس والمطران خلاف فصله بطريرك القدس، فإذا لم يرضوا بحكمه رفعوا أمرهم إلى بطريرك القسطنطينية وحكمه نافذ، ولقب مطران الدير الرسمي: «مطران جبل طور سيناء وفيران والطور».
هذا، ومطران سيناء هو رئيس مجلس إدارة المدرسة العبيدية بموجب قانونها منذ سنة 1861، وسيأتي ذكر هذه المدرسة وقانونها بالتفصيل في الفصل التالي:
أما مجلس رهبان الدير الحالي، فمؤلف في الآتي ذكرهم:
الرئيس
المطران بورفيريوس الثاني
نائب الرئيس
نائب المطران في الدير الأرشمندريت بروكوبيوس
الأعضاء
أمين خزانة الدير الأرشمندريت بوليكربوس
أقلوم الدير الأرشمندريت أنثيموس
وكيل الدير العام الأرشمندريت ثيودوسيوس
كاتب المجلس الأب يناديوس
أعضاء الشورى
الأرشمندريت بورفيريوس أستاذ العلوم الدينية بالمدرسة العبيدية
الأرشمندريت يعقوب وكيل الدير بمدينة الطور
الأرشمندريت بنيامين أقلوم الدير السابق
الأب بوليكربوس أمين خزانة الدير سابقا
وهم نخبة الرهبان الحاليين، وأقدمهم عهدا وأوسعهم خبرة، وكان بينهم وكيل الدير العام سابقا الأب أفيانوس، من خيرة الرهبان وأشدهم غيرة على العربان والدير، توفاه الله في 15 نوفمبر سنة 1910 عن نحو 65 عاما، فأسف لفقده الدير والعربان معا. (أ) المطران بورفيريوس الثاني مطران الدير الحالي
أما المطران بورفيريوس الثاني، مطران سيناء الحالي، فإنه من أفضل المطارنة الذين تولوا رئاسة الدير، وأغزرهم علما وأعظمهم شأنا، وهو يتقن اللغات اليونانية والفرنساوية والألمانية كتابة وتكلما، ويتكلم اللغات العربية والإنكليزية والروسية، وله أصدقاء ومريدون كثيرون من كبار الأقوام في مصر وغيرها من الأقطار؛ لذلك نأتي على طرف من تاريخ حياته، كما أخذناها عنه وعن أصدقائه الأخصاء فنقول:
ولد في جزيرة القديس أفستراتيوس قرب جزيرة لمنوس سنة 1859م، وحضر إلى مصر وهو في الثانية عشرة من العمر لمشاهدة شقيق له في السويس، فأدخله شقيقه في المدرسة العبيدية بالجوانية بالقاهرة؛ لتلقي مبادئ العلوم فيها تحت رعاية رهبان دير سيناء، فرأى الرهبان منه فتى ذكي الفؤاد رضي الخلق متوقد الذهن فأحبوه وحببوا إليه الرهبنة، وبعد درس سنتين في المدرسة العبيدية أنهى فيهما دروس القسم الابتدائي أرسلوه إلى جامعة أثينا، فدرس فيها اللغة اليونانية سنتين، ثم عاد إلى مصر، فأتم دروس القسم التجهيزي الفصل الأول بسنة، وكان قد بلغ الثامنة عشرة من عمره، فأرسله رهبان الدير إلى كلية خالكي اللاهوتية الشهيرة في الآستانة، فدرس فيها سبع سنوات ونال شهادتها، وقد كرس راهبا وشماسا في يوم واحد في كلية خالكي وسنه إذ ذاك 23 سنة، ثم عاد إلى مصر، فعين سكرتيرا للدير ومدرسا للعلوم الدينية في المدرسة العبيدية، وكان على دير سيناء في ذلك العهد المطران كالستراتس، توفي سنة 1885، وسمي على الدير المطران بورفيريوس الأول، وكان من قبل أرشمندريتا في الآستانة، وقد عرف المترجم هناك، وأحبه محبة شديدة حتى كان يدعوه ابنه، فلما تولى رئاسة الدير عني به عناية خاصة، فأرسله إلى أكاديمية كيف في روسيا، فدرس فيها اللغة الروسية سنة، ثم أرسله إلى كلية لبسك الشهيرة بألمانيا، فدرس فيها الفلسفة واللغة الألمانية أربع سنين، وعاد إلى مصر سكرتيرا للدير ومدرسا للعلوم الدينية في المدرسة العبيدية كما كان قبلا، وبقي إلى سنة 1895، فسمي أرشمندريتا للجالية اليونانية في باريز، فأقام فيها 9 سنين، واعترى المطران بورفيريوس الأول مطران سيناء مرض أقعده عن العمل، فاستعفى من رئاسة الدير، وأشار بتعيين المترجم في مكانه، فسمي مطرانا على سيناء بإجماع الآراء، وذلك في 23 أبريل سنة 1904.
وتوفي المطران بورفيريوس الأول في 15 يوليو سنة 1909 في جزيرة صاقس ودفن فيها، فذهب المطران الحالي في صيف سنة 1913 وحمل عظامه إلى مصر في صندوق. وفي نوفمبر من السنة المذكورة حملها إلى الدير ووضعها في معرض الجماجم المار ذكره لتحفظ فيه. وقد فعل ذلك جريا على عادة الرهبان من حفظ رفاتهم وتكريما لروح صديق محب غيور.
وأشهر صفات المطران الحالي الإخلاص والوفاء والشمم ومحبة الحق والعدل والحرية، وله غيرة مرة على قومه وبلاده، وهو يدأب الليل والنهار لترقية دير سيناء والمدرسة العبيدية اللذين تحت رئاسته، ويحب عربان سيناء، ويسعى لراحتهم كما يسعى لراحة الرهبان، وهو محبوب جدا من الجميع، ومما أتاه من الإصلاح في الدير ومراكزه: (1)
تنظيم مكتبة الدير، وتأسيس مكتبة نفيسة في مركز القاهرة. (2)
ترميم بعض المنازل داخل سور الدير. (3)
بناء منزل طبقة ثالثة في مركز الدير بالقاهرة. (4)
بناء منزل للإيجار ثلاث طبقات قرب مركز الدير بالقاهرة. (5)
بناء منزل للإيجار في السويس قرب مركز الدير فيها. (6)
تعديل الشروط بين العربان والرهبان وزوار الدير بشأن تأجير الإبل. (7)
إنشاء مدرسة للصبيان في مدينة الطور سنة 1897. (8)
الحصول على مساعدة سنوية للدير من الحكومة قدرها 100 جنيه، ووعد بزيادتها إلى 400 جنيه. (9)
ضبط مالية الدير والمدرسة العبيدية، وتحسين موارد دخلهما.
شكل 2-12: المحسن الشهير روفائيل عبيد أحد مؤسسي المدرسة العبيدية في مصر.
وهو الآن شارع في إتمام الإصلاحات الآتية:
تأسيس مدرسة للبنات، ومطبع لطبع كتب الدير، ومكتبة، ومدرسة لاهوتية للرهبان في مركز الدير بمدينة الطور، وبناء منازل له وللرهبان وكنائس داخل سور الدير في القسم الجنوبي منه، وبناء فندق كبير للزوار في عرصة الدير، وبناء كنيسة جميلة على قمة جبل موسى بدل الكنيسة الحالية، وكنيسة على تل المحرد في وادي فيران.
ولعل أفضل ما يستطيع الرهبان إجراءه من الإصلاح في الدير أن يحولوه تدريجا إلى مدرسة لاهوتية راقية؛ ليكون مصدرا تنبعث منه أنوار العلم والحكمة والعرفان إلى جميع البلدان، كما هو الآن مصدر عون وإسعاف لمن هم حوله من العربان. (16) أسباب بقاء الدير
شكل 2-13: وطنينا الكبير حبيب لطف الله باشا.
ولقد قوي الدير على البقاء في تلك البادية النائية عن العالم المتمدن كل هذه الأجيال، مع اختلاف أهلها عن رهبانه دينا وجنسا وعادات: (1)
لأنه معقل حصين بالنسبة لاستعداد البدو القاطنين حوله. (2)
لأنه قائم على جبل يقدسه اليهود والنصارى والمسلمون على السواء. (3)
لأنه أظهر عهدا من النبي صدقه سلاطين المسلمين من قديم العهد إلى اليوم. (4)
لأن رهبانه بنوا جامعا داخل سوره، وأظهروا من التسامح الديني ما لم يعد معه محل للاضطهاد. (5)
لأنه يعول فقراء البدو، ويحسن معاملة الزائرين من كل جنس ودين. (6)
لأنه مصدر رزق كبير للبدو؛ لانتفاعهم من تأجير إبلهم للسياح والحجاج الذين يزورونه والرهبان الذين يسكنونه. (17) طرق الدير
وللدير عدة طرق من مصر والشام والحجاز، وأشهرها:
طريق من السويس تمر بفيران، طولها ثمانية أيام، وطريق من السويس تمر بالرملة، طولها سبعة أيام، وطريق من الطور تمر بوادي حبران وهي يومان طويلان، وطريق من الطور تمر بوادي إسلا طولها يومان، وطريق من نخل تمر بنقب الراكنة ستة أيام، وطريق من العقبة تمر بالنويبع ووادي العين 7 أيام، وطريق من غزة تمر بالمويلح والثمد ووادي شعيرة الدبس، وسيأتي الكلام عليها كلها في باب الطرق.
الفصل الثالث
في المدرسة العبيدية
أما المدرسة العبيدية التي يرأس مجلس إدارتها مطران سيناء، فتنسب إلى مؤسسيها «عبيد إخوان»، وهم أربعة أشقاء سوريون من أصل بعلبكي، من طائفة الروم الأرثوذكس، هاجر أبوهم إلى مصر في عهد المغفور له محمد علي باشا، وولدوا كلهم في القاهرة في حارة الجوانية بقسم الجمالية، وهم: إلياس وجرجس وحنانيا وروفائيل، ولهم أخت شقيقة لم نقف على اسمها.
وقد تزوج إلياس، وولد بنتا تدعى كاترينا، وتزوجت هذه برجل يوناني يدعى أنضوني، اتخذ لقب عائلتها فسمي أنضوني عبيد، وولد بنين وبنات.
وتزوج جرجس بفتاة حمصية تدعى ليا باسيلي، ولم يلد أولادا.
وتزوجت الشقيقة برجل سوري يدعى العرقجي، فولدت جرجس وجبران وبنتا، وتزوجت البنت بيوناني يدعى جورج، فسمى جورج عبيد، وولدت منه بنين وبنات.
وأما حنانيا وروفائيل، فإنهما لم يتزوجا، وقد تعاطى الإخوان عبيد تجارة الجمالية، وأقام أحدهم (حنانيا) في بلاد الإنكليز مدة لترويج تجارتهم، فأفلحوا واتسعت ثروتهم، وكانوا على جانب عظيم من التقوى ومحبة العلم والوطن، فصحت عزيمتهم على إنشاء مدرسة في مسقط رأسهم في الجوانية يتعلم فيها الأولاد الذكور «مجانا» من كل جنس وملة.
ومات إلياس وجرجس قبل إنفاذ هذه العزيمة، وبقي حنانيا وروفائيل، فأسسا المدرسة، ووضعاها تحت حماية روسيا، وعناية مجلس إدارة مؤلف من سبعة أعضاء سوريين وأروام، ومن مطران سيناء رئيسا، وفرع من آل عبيد نائب رئيس. وقد أقاما للمدرسة بناء فخما في الجوانية، أنفقا عليه 10000 جنيه أو أكثر، وسنا لها قانونا وافيا باللغة العربية، هذا نصه بحروفه كما أخذته عن الأصل المحفوظ في خزانة المدرسة:
قانون المدرسة العبيدية
بسم الآب والابن والروح القدس الله واحد.
تمكن الإنسان على إمداد قريبه، إنما هو من أجل عطايا الرب المعطي الوحيد، وجودته عز وجل المعصومة من التحديد تقتضي أن فعل الخير يهذب الإنسان، ويجعله سعيدا، ويرفعه لدرجة يتوصل بها لمعنى الشبه الإلهي السبب المبدي غير المتناهي، مانح ساير الخيرات، ومقيل العثرات، وأنه يهيئ له أجرا ويأتيه بالنجاة، وهو المقصود من كافة أعمال البشر في هذه الحياة، وكل صنيع تسديه إلى قريبك يعد من الخيرات، إن كان ذلك إحسانا للفقير، أو تعزية للحزين، أو عولا للمريض بحسب الإمكان، فجميعها حسنات مرضية لله تعالى مقبولة عنده كشم البخور في كل الأوقات، ويفوق الإنسان في النفع لقريبه إذا كان له معينا في تطبيب حوايجه العقلية، وساعده في تهذيب وتشديد قوة النفس النطقية.
لما همنا بهذا الإحساس نحن «الإخوان عبيد»، ولما كان حصولنا على خلاص نفوسنا ونفوس كل أعضاء عائلتنا أقصى مرامنا، باذلين في استحصاله الجهد الجهيد، رأينا من الوجوب علينا ورأس كل الفروض أن نكون معينين لمسقط رأسنا، ونتحف وطننا المألوف وناسنا، وقد منحنا الحليم الكريم المعبود وسائل لإنجاز ذلك بما أنعم علينا من الموجود، فرأينا أن أعظم ما يحتاج الدواء إليه عدم تقدم الشبان لغياب العلم المعول عليه، وحيث كان هؤلاء الفتيان خلفاء جيلنا الباقي في حالة واقفة من خطوب الزمان وظروف الأوقات وغياب أسباب النجاح أخذ في القهقرى لبراح التمدن في باقي الجهات، فلا عادت لنا حجة نتعلل بها الآن عن تأخيرنا في عصر حر، ساده أهل الفهم والعرفان.
لما تفاقمت فينا هذه التأملات، شرعنا بتشييد مدرسة معدة لتعليم الصبيان وترقيتهم حتى تصير أخلاقهم سلسة مؤنسة، فيتحف الوطن بأنداب صالحين يخدمون بلادهم، وينفعون عشيرتهم، ويكونون مسيحيين متقين. ويصير وصل أهل مصر بعلائق وثيقة ودادية مع العشائر الأجنبية بواسطة حسن المعاشرة ومعرفة اللغات حتى يحسن تعليمها وقطف محاسنها تنجلي الأذهان وتكمل الصفات، بعد استمداد القوة من الله والإعانة والتماس عنايته وعضده جل شأنه، نوينا على هذا المشروع، واعتمدنا برضانا واختيارنا ووقفنا لإنجازه جزءا من مالنا وصلب حالنا، وبعد حصولنا على الإذن المكتوب من غبطة بطريرك الإسكندرية بنينا بمصاريف من طرفنا، خاصة في مدينة مصر القاهرة في الجوانية مدرسة معدة لتعليم الصبيان مجانا من كل جنس وملة، وسميناها: «المدرسة العبيدية»، ولما كان مقصودنا ومنانا أن نوطد هذه المدرسة على أصول مرتبة وأساسات أصيلة، حررنا هذه الحجة ممضية منا؛ لنأمن على وجودها في المستقبل وعولها وتبقى دايما معمورة جميلة، وحيث إننا الملاك ومؤسسو الدار، فلنا الحق أن نبين ونحدد نمط إدارتها الداخلية والخارجية، والدستور الذي لا بد من الاقتداء به بكل ضبط ودقة دقية، ونروم ألا يصير فيه نقض ولا إبرام على ممر الأيام، ثم نشكره ونحمده تعالى الذي أهلنا نرى شوقنا مشفى، وطلبنا مجاب موفى بتتميم هذا العمل وإنجازه على أحسن حال وأجمل منوال، نسأله جل شأنه أن ينظر بعين العناية والرحمة والرضوان، ويحفظ ويصون هذا المكان المعد إلى تعليم وتأديب الصبيان، ويجعله سبيلا موصلا إلى طاعة نواميسه السرمدية، ويمنح سكانه بركاته الأبوية، ويدلهم إلى أقوم طريق، ويضيء عليهم أنواره الساطعة الألمعية، حتى يصيروا مستحقين الكد والاهتمام المبذول في نجاحهم، حافظين الوصايا القديسة، وأن ينظر إلى ضعف حالنا، ويترأف علينا برحمته القوية، ويقبل منا ذلك ضحية مرضية، ويؤهلنا بنعمته لنوال ملكوته السماوي، آمين.
البند الأول:
نحن الأخين الشقيقين روفائيل وحنانيا عبيد، الواضعين أسماءنا أدناه، حائزين كافة الأوصاف المعتبرة شرعا في صحتنا وسلامتنا وطوعيتنا واختيارنا، وقفنا وحبسنا المدرسة المذكورة المنفوق على تكوينها وتشييدها من مالنا، وصلب حالنا وقفا مخلدا أبديا لا يباع ولا يرهن ولا يورث ولا يستبدل ولا يغير في نظاماته وترتيباته المدونة في هذه الحجة، ثم وقفنا على المدرسة المذكورة جميع الملك الذي يصير تبيينه في حجة مخصوصة في ثلاث نسخ منها مطابقة لبعضها البعض: أحدها يصير تسليمها إلى قنصلاتو جنرال دولة روسيا بالأقطار المصرية، والثانية تحفظ في سجلات المدرسة، والثالثة تبقى تحت يدنا على أن يبدأ من غلات الوقف المذكور، وريعه في عمارة المدرسة المذكورة، والصرف عليها من أجر معلمين، ومن كل ما يلزم لتجميلها ونجاحها، وبراح التلامذة الدارسين فيها، بتأديبهم وتهذيبهم على قدم راسخ، ولا بد من بذل الكد والاهتمام بغيرة مزيدة في ذلك، واليتامى وأولاد الإخوة المحتاجين يصير لهم الالتفات الخصوصي، ولا يمكن أحد من المتولين إدارة المدرسة أن يمس الوقف المذكور الموقوف عليها، ولا يسوغ نسخ ولا تحريف في أصول ومنطوق هذا البند أو في البنود الآتية.
البند الثاني:
لقد أعدت هذه المدرسة ليتعلم فيها أولاد الملة الأرثوذكسية الذكور، ويقبل فيها أولاد ذكور من كل جنس وملة، والكل يصير تعليمهم مجانا من دون تمييز بين الأجناس والمذاهب، ولا يسوغ للتلامذة ولا إلى والديهم، ولا إلى أولياء أمرهم، أو لأي من كان أن يتداخل في إدارة المدرسة، خارجية كانت أو داخلية، بل يجب عليهم الإذعان التام إلى مقتضيات الترتيب السنوي الذي يصير عليه المعول من الوكلاء المحصور في أيديهم سياسة المدرسة.
البند الثالث:
أقصى مرامنا بتشييد هذه المدرسة هو تعليم اللغات اليونانية والعربية والفرنساوية، فوالحالة هذه لا علة من التعلل يمكن الاحتجاج بها لإبطال تعليم ما ذكر بوجه متقون، وذلك فضلا عما يرى موافقا لدى الوكلاء من أنواع التعاليم المصلحة، ولكن يراعى في ذلك مدخول وقف المدرسة ويسلك الوكلاء في ذلك حسبما تتحمله إيرادات المدرسة، وبالوكلاء المذكورين منوط تأليف قسم القانونامه المختص بترتيب الدروس ومنهاج التعليم.
البند الرابع:
لكي نأمن في المستقبل على هذه المدرسة، رتبنا لإدارتها وسياستها دواما مجلسا مشتملا على تسعة وكلا، وأحدهم رئيسا على باقي الأعضاء.
البند الخامس:
من حيث نحن مشيدي المكان، فلنا الحق في انتخاب الوجوه الذي يشتمل عليه الآن مجلس نظارة المدرسة، ونذكرهم هنا، وهم: صاحب النيافة حضرة رئيس كهنة طور سيناء السيد كيرلس وهو رئيس المجلس، وأما الأعضاء: فحضرة الشماس جرمانوس أفيثونيدي رئيس شماسة قدسه، ثم أحدنا نحن الأخين الشقيقين، ثم الخواجة جرجس عرقجي ، ثم باسيلي بن يوسف فخر، ثم الخواجة جورجي كوكيلاني، ثم الخواجة أنسطاسي أنضوني، ثم الخواجة إسطفان كوكا، ثم الخواجة ديمتري سركيس، وقد قبل جميعهم بذلك.
البند السادس:
حضر صاحب النيافة رئيس رهبانية طور سيناء المومى إليه باقية عليه رئاسته على مجلس الوكلاء ما دام حيا، ومنه تئول إلى خلفائه إلى رئيس رهبانية سيناء يكون دايما رئيسا على المجلس المذكور.
البند السابع:
أحد رهبان السينائية القاطنين في دير القديسة كاترينا في الجوانية يكون دايما عضوا من مجلس النظار المذكورين، وحق انتخابه لرئيس المجلس بعد رضى وقرار باقي أعضاء المجلس.
البند الثامن:
أحدنا نحن الشقيقين عبيد يكون عضوا من المجلس كما ذكر. وأما بعدنا إن كان في وصيتنا لم نبين، ولم نعين الشخص الذي يكون عوضا عنا، فأكبر أهلنا سنا وأقربهم لنا يخلفنا في ذلك، وعلى هذا المنوال يكون الإجراء في حقه أيضا إلى ما شاء الله.
البند التاسع:
خليفتنا المذكور وخليفته بعده إلى ما شاء الله يكون دايما نائب رئيس مجلس النظارة، وإذا لا سمح الله وحصل انقراض، فحينئذ أعضاء المجلس ينتخبون من بينهم من يكون نائبا لرئيس المجلس، ولكن لا يكون له حق في توريث ذلك.
البند العاشر:
بعد وفاتنا إن كان يغيب أحد الوكلاء غيابا تاما، أو يتوفى، فيجب على الوكلاء الباقين على قيد الحياة أن يجتمعوا حينئذ، وينتخبوا عوضا عن الغايب أو المتوفى، ويكون المنتخب جديد من شيعة القديم الذي أخلفه، ولا بد من أن يتم الانتخاب في مدة شهر واحد من حصور نقصان عدد أعضاء المجلس، وعند قبول المنتخب جديد بذلك يجتمع الوكلاء جميعا في الإيوان المعد لجلساتهم في المدرسة، ويطلب رئيسهم من المذكور أن يعلن أمامهم والكل وقوفا ويقول: «إنني أتعهد بكل احتفال بين يدي الله الحي، بأن أجاهد بكل قوتي في نجاح هذه المدرسة العبيدية وحفظها من كل غائلة، وذلك ابتغاء لوجه الله تعالى، ولا أهمل جهدا في إصلاح حالها، وبراح عموم مصالحها، وأواظب على حفظ قوانينها المرتبة.»
البند الحادي عشر:
لا يمكن أحدا من أعضاء المجلس أن يغيب فوق مدة ثلاثة شهور، فإذا امتد غيابه فللوكلاء أن ينتخبوا خلافه.
البند الثاني عشر:
لأجل تسهيل عملية المجلس، فرئيسه مع عضوين ينوطوا بمباشرة داخل المدرسة فيما يخص حالتها الروحية والدروس، وتحسين مسرى التلامذة وتأديبهم وترتيبهم، وإجراء عمل القانون للتدريس، وأما باقي الستة أعضاء، فعليهم الاهتمام بنجاح المدرسة وإدارتها الخارجية، وقبض إيرادات الوقف الموقوف عليها، أعني إدارة عمومية على الخصوصيات المادية، ولكن لا يقع قرار قط ولا يبت حكم في شيء إن كان يختص بالتنظيم الداخلي أو بمصلحة المدرسة المادية الخارجية من دون أن يصير الاعتماد على ذلك الحكم من كافة أعضاء مجلس النظار بموجب صك يتحرر في ذلك، ويكون عليه إمضاء الأكثر من الأعضاء.
البند الثالث عشر:
يصير في كل سنة منشور بدروس المدرسة، ويألفون ذلك معلمو المدرسة مع الثلاثة أعضاء المندوبين للإدارة الداخلية، وغب عرض ذلك على باقي الأعضاء، وبت الرأي بالاعتماد عليه يصير طبعه يوناني وعربي وفرنساوي، وتوزيعه على محلات الاقتضاء.
البند الرابع عشر:
في بداية كل سنة من يوم تكريس المدرسة، يجب على الستة أعضاء المنوط بهم الإدارة المادية أن يصوروا حسية تخمينية عن مقادير المصاريف اللازمة والإيرادات عن السنة التي تكون داخلة، ويعرضوا ذلك على كافة أعضاء المجلس لينظروا في ذلك.
البند الخامس عشر:
أما بطول مدة حياتنا، فأحدنا يكون مدير المدرسة العام، ومحصل إيراداتها وأمين صندوقها، وينبغي عليه أن يراعي في ذلك بميزانيته التخمينية السنوية. وأما غب وفاتنا فهذه الإدارة المادية تئول على الستة أعضاء معا، ولا يمكن خليفتي أن يختص بهذه الإدارة العمومية مثلنا، وأما أمين الصندوق فينتخبه الوكلاء من بينهم بعد وفاتنا.
البند السادس عشر:
الميزانية في أول السنة، والجرد في آخر السنة، الموضوع عليهم إمضاء ريس المجلس، وإمضاء أمين الصندوق، يصير نشرها في الطبع يوناني وعربي، والأصل يوضع في قونصلاتو روسيا بهذا الطرف.
البند السابع عشر:
إن كانت الإيرادات غب استوفا أقلام الميزانية السنوية تفوق عن المصاريف اللازمة، فعلى الوكلاء باتحادنا أن يجعلوا ذلك رأس مال، ويودعوه إضافة على الرأس مال الأصلي الموقوف على المدرسة، وكذلك بعدنا يكون.
البند الثامن عشر:
من كوننا نرغب نجاح وتقدم وتتميم رونق هذا المكان المشيد؛ قد جعلنا للوكلاء الحق في كونهم ينتخبون بالاتحاد معنا من حين إلى حين من التلامذة أبناء المدرسة، أنبههم وأفرسهم الذين يلاحظ فيهم شواهد تدل على استرجائهم، ويصير بعثهم إلى بلاد أوروبا أو غيرها لأجل تتميم علومهم، وإتقان فنونهم في أي علم أو فن تميل إليه قريحتهم، ولأجل إنجاز هذا المأرب نوقف بنوع منفرد عن هذا الترتيب حصة من مالنا؛ ليستعمل ريعها في هذا المقصد خاصة، والمبلغ الذي نعده لذلك سنشهره رسميا إلى قونصلاتو جنرال دولة روسيا في الأقطار المصرية وإلى مجلس وكلاء المدرسة، ونحرر فيه حجة مخصوصة، وأما الوكلاء فلا يمكنهم أن يستعملوا دخل المدرسة إلا بحسب المدون بهذا الترتيب، وإرسال التلامذة إلى البلاد الأجنبية، وعدد الذين يسير بعثهم، فهذا يتبع مقدار مدخول رأس المال المعد لذلك، ومن الوجوب عندما يعتمد الوكلاء على إرسال أحد من التلامذة أو أكثر لتتميم علمه في الخارج كما ذكر أن يحرروا على المبعوثين حججا، وعلى أبويهم وأولياء أمرهم ويأخذوا على ذلك الضمانات القوية الشرعية بصكوك مسجلة في الأحكام تلزم التلميذ أن يخدم بعد استوفا مدة غيابه المحددة الخدمات اللازمة في المدرسة بمدة مؤجلة بأجرة مناسبة.
البند التاسع عشر:
يجب في كل يوم أن يزور المدرسة أحد الوكلاء ويباشرها، ويعاين التلامذة والتدريس، ويقف على حقيقة حال سيرهم، وما يلزم لها.
البند العشرون:
من حيث إن دار البطركية الأرثوذكسية بهذا الطرف هي الأم الكنائسية، فعلى الوكلاء لياقة أن يفيدوها من حين إلى حين عما يتعلق بالتعليم الديني والأدبي في المدرسة.
البند الحادي والعشرون:
يجب على مجلس الوكلاء باتحادهم مع المعلمين أن يؤلفوا القانون المختص بالدروس والإدارة الداخلية، ويكون ذلك بحسب ما يقتضيه الإيمان الأرثوذكسي والمقصود من المدرسة.
البند الثاني والعشرون:
في غاية كانون الثاني من كل عام يصير عمل قداس، ويقدس رئيس مجلس نظارة المدرسة، ويطلب من الله تعالى غبطة المدرسة ونجاحها، ويصير ذكران مؤسسيها علنا مع كافة مسعفيها ومساعديها.
البند الثالث والعشرون:
كل من شاء فله أن يوقف لجهة هذه المدرسة نقودا أو ملكا أيما شاء، وله أن يسن قانونا موافقا بكيفية استعمال إيهابه إن كان ذلك معدا لعول تلامذة محتاجين من أبناء المدرسة أو إعانة لإرسال بعضهم إلى بلاد أوروبا، أو للقيام بشفاء حاجات أخرى للمدرسة، فالعطايا أو التقدمات يصير قيدها في سجل المدرسة، وأسماء الموهوبين يصير ذكرانها في القداس السنوي المشار إليه، ولكن لا يجوز لأي من كان من الواهبين - أيما كانت عطاياه - أن يستدعي نسخ أو إبرام في تحريف في الأصول المدونة في هذا القانون، فإنه لا يمكن أحدا من ذلك مطلقا، وعلى الله الاعتماد وحسن الختام. قد جرى ذلك وحرر بالمدرسة العبيدية في مدينة مصر المحمية، في عشرة برحوا من شهر آذار سنة 1861 ألف وثمانمائة واحد وستون مسيحية. ا.ه. «صورة جواب القونصلاتو الجنرالية الروسية بمصر بقبول وضع المدرسة تحت حمايتها»:
قنصلاتو جنرال روسيا بمصر، تحريرا من القاهرة
ك2 سنة 1863 نمرة 5.
إلى السيد روفائيل عبيد:
أيها السيد، لقد طلبتم في عريضتكم المؤرخة
ك2 سنة 1861 بأن المدرسة الخصوصية التي شيدتموها من عهد قريب باتحادكم مع أخيكم حنانيا في حارة الجوانية في القاهرة، يصير وضعها تحت حماية دولة روسيا فيما يتعلق بمصالحها المادية، فتقدم منا الإعراض عن عريضتكم المذكورة إلى السفارة العاهلية في القسطنطينية، وورد لنا منها الجواب آمرا إيانا بإجابة طلبكم هذا، ومنطوي منطوقه على الثناء عليكم، والتشجيع لكم عن فعل بهذا المقدار مستوجب له الحمد والمديح، إنما بشرط أن هذه القونصلاتو جنرال لا يصادف مخالفات وصعوبات محلية، فقد بادرنا بإفهامكم مضمون الجواب المرضي المحكي عنه الصادر من السفارة العاهلية ولي الحظ الجزيل بأن أؤكد لكم بأن هذه القونصلاتو جنرال دواما يبتغي من قلبه نجاح عمل المقدار مرضي لله، وبأنه مستعد بحسب ما يتعلق به أن يخدم مقدرته لنحو منفعة المصالح المادية المتعلقة بالمدرسة التي شيدتموها ووضعتموها تحت الحماية المسكوبية، اقبلوا منا - يا أيها السيد - التأكيد منا على الاعتبار السامي الذي حضرتكم حائزين عليه عندنا. ا.ه.
وقد مات حنانيا قبل ورود كتاب القنصلية الروسية هذا، ومات روفائيل سنة 1866 فجأة، ولم يكن قد أتم الإجراءات الرسمية لوقف ما نوى وقفه للمدرسة، قيل وجدت صورة الوقفية بخط يده بلا توقيع ولا تاريخ تحت وسادته، وكانت الشقيقة قد ماتت، ولم يبق لآل عبيد وريث إلا كاترينا بنت إلياس زوجة أنضوني عبيد المتقدم ذكرها، فقامت تطالب بالتركة كلها، فانبرى لها مجلس إدارة المدرسة يثبت حق المدرسة، وكان بعض أعضاء المجلس متغيبا عن مصر، فطلب الرئيس من «وطنينا الكبير حبيب لطف الله باشا» أن يكون عضوا في المجلس، وكان روفائيل عبيد عند تأسيس المجلس قد سأله أن يكون عضوا فيه، فاعتذر لكثرة أشغاله، أما الآن فحبا بالمحافظة على المدرسة قبل العضوية، وبقي في مجلس الإدارة 24 سنة متوالية، وكان له الفضل الأكبر في حفظ المدرسة وتأسيس وقفها الحالي، وعنه أخذت أكثر معلوماتي هذه عن آل عبيد والمدرسة، وهو يثني أطيب الثناء على جرجس عرقجي ابن أخت الإخوان عبيد، وأحد أعضاء المجلس الأصليين، ويعزي إليه فضلا كبيرا في تأسيس وقف المدرسة، قال: إن جرجس عرقجي هذا كان كاتبا عند خاله روفائيل عبيد، ويعرف دخائل حسابه، فوجد في الدفاتر الخصوصية أن جرجس أحد الإخوة الأربعة وضع قبل وفاته أربعة آلاف جنيه من حصته في بنك أثينا ببلاد اليونان، وأوصى أن تبقى مع فائظها وقفا للمدرسة، وأن حنانيا قد أوصى ببعض الأسهم من حصته لحساب المدرسة، فصح للمدرسة من هاتين الوصيتين نحو 18000 جنيه م، سددها مصفو التركة لمجلس إدارة المدرسة ديونا كانت للتركة، وسدد المديونون أكثرها أطيانا، زادها المجلس مما توفر من الريع حتى بلغت نحو 2000 فدان، منها 1600 فدان من أجود الأطيان، فجعلت كلها وقفا؛ للإنفاق من ريعها على المدرسة وتلامذتها طبق القانون، وقد علمت من مطران سيناء الحالي أن متوسط دخل المدرسة من أوقافها تسعة آلاف جنيه م في السنة، تنفق كلها أو معظمها على المدرسة.
ويقول بعض العارفين: إن المطران كيرلس - مطران سيناء الأسبق - الذي شيدت المدرسة في عهده، كان أول من حبذ فكرة المدرسة للإخوان عبيد، وكان له معهم علاقة ود متينة وجوار في الجوانية، فضلا عن كونهم جميعا من مذهب واحد ومشرب واحد؛ لذلك ولما كان لدير طور سيناء منزلة رفيعة في نفوس أبناء سوريا ومصر بالنظر لقدمه واشتهار رهبانه بالزهد وحب الخير؛ وضع المؤسسان مجلس إدارة المدرسة على الدوام تحت رئاسة مطران سيناء، ثم إن المشهور في مصر وسوريا أن روسيا هي حامية الأرثوذكس في الشرق، وهذا هو السبب في وضع المدرسة تحت حمايتها.
وبقيت المدرسة ومركز دير سيناء في الجوانية إلى سنة 1890 إذ كانت القاهرة قد امتدت شمالا وغربا، وحسنت هناك أبنيتها واتسعت شوارعها، وكانت الجوانية لا تزال على حالها من ازدحام المنازل، وضيق الشوارع، وعدم توفر الشرائط الصحية فيها، فنقل المطران السابق مركز الدير إلى مكانه الحالي بالظاهر، وفي سنة 1904 نقل المدرسة إلى مكانها الحالي في شارع بولاق قرب الكنيسة الإنكليزية، وجعل البناء الأصلي ملجأ للعجزة والفقراء، وفيه الآن منهم نحو 30 نفسا من وطنيين وأروام.
وقد زرت البناء الأصلي سنة 1914، فإذا به بناء فخم متسع ذو طبقتين عاليتين، وأمام كل طبقة رواق بقناطر، ولكن ازدحمت المنازل حوله، وضاقت الشوارع الموصلة إليه، حتى تظن أنك داخل إلى مخبأ لا إلى مدرسة، وله بوابة عظيمة فوق عتبتها من الخارج رخامى يونانية ملخصها: «إن الإخوان عبيد لما رأوا شمس العلم قد تحولت من الشرق إلى الغرب؛ شادوا هذا البناء لآلهة العلم سنة 1680م؛ لتعيد إلى الشرق نوره ورونقه»، وفي داخل البوابة ثلاث لوحات عربية بخط فارسي: لوحة صغيرة فوق عتبة البوابة هذه قراءتها: «هذي مدرسة تاج المعارف»، ولوحتان كبيرتان عن جانبي المدخل: لوحة عن اليمين ولوحة عن الشمال، أما اللوحة التي عن اليمين، فهذه قراءتها:
شرف المرء بالعلم والأدب
بنو عبيد أقاموا اليوم مدرسة
تهدي إلى العلم والآداب والرشد
منارة في ضواحي مصر مشرقة
تعيد ما قد مضى من سالف الأمد
قامت تشير إلى الطلاب قائلة
بشرى لكم باحتضان الأم للولد
وفوق باب لدى تاريخه وضعت
أرخت ينقش تذكارا إلى الأبد
لقد فتحت هذه المدرسة المنيفة لإيجاد العلوم النافعة اللطيفة، وهي تاج على مفارق المعارف، ويرتاح إلى ساحتها كل عارف، وكانت منسيا على إرادة العبيد للأثر، وقد تممت المحاسن فيها كما أمر، رقمه عبد الغفار بيضاء خاوري سنة 1861. ا.ه.
وأما اللوحة التي عن الشمال، فهذه قراءتها:
رأس الحكمة مخافة الله
بنو عبيد بنوا للعلم مدرسة
يجلو ضياها ظلام العصر كالشهب
قامت تنادي بأعلى الصوت قائلة
أن الغنى باكتساب العلم لا الذهب
هذي خزانة أسرار بها اجتمعت
نفائس من علوم العجم والعرب
فقيل ممن بتاريخ أقام بها
قد فاض في مصر نيل العلم والأدب
قد تم هذه المدرسة الباهية على وضع الجميل الزاهية، ببذل جود سعادة عبيد الرفلية الذي في مآثره الخير جنيد الملة، رقمه عبد الغفار بيضاي خاوري سنة 1861. ا.ه.
وأما بناء المدرسة الجديد، فقد وضع في جبهة وجهته رخامى، كتب عليها باليونانية والعربية هكذا: «المدرسة العبيدية»، وهو على سعته وملائمة مركزه غير واف بالغرض؛ لأنه بنى منزلا للسكن لا للتدريس، وقد أخبرني مطران سيناء الحالي أن مجلس إدارة المدرسة عازم قريبا على إقامة بناء خاص للمدرسة في موقع صحي في ضواحي القاهرة، والمطران الحالي من أبناء المدرسة العبيدية، ومترب تربية علمية عالية كما قدمنا فهو يعنى بالمدرسة عناية خاصة، وقد رقى دروسها، وحسن في بروجرامها، حتى شمل أهم العلوم الرياضية والطبيعية والجغرافية والتاريخية وغيرها، وزاد على لغاتها المفروضة في قانونها اللغة الإنكليزية واللغة اللاتينية.
وفي المدرسة الآن نحو 650 طالبا، جلهم أو كلهم من اليونان، وفيها 25 أستاذا، منهم اثنان للغة الإنكليزية، وثلاثة للفرنساوية، وأربعة للعربية، والباقون لليونانية، وناظرها الموسيو قسطندي أمندس من أدباء جزيرة صاقس، وكاتبها الموسيو جورج تريكوس من نجباء جزيرة القديس أفستراتيوس.
وأما دروس المدرسة، فقسمان: ابتدائي ومدته ست سنوات، وتجهيزي ومدته خمس سنوات، وفيها قسم تجاري، فيمكن الطالب بعد درس سنتين في القسم التجهيزي أن يدخل القسم التجاري، فيقضي فيه 3 سنين.
وشهادة المدرسة مقبولة في جامعة أثينا، ولكنها غير مقبولة في الحكومة المصرية؛ لأنها غير سائرة على بروجرام نظارة المعارف، ولأن العلوم تلقن فيها باللغة اليونانية، وقد وجهت نظر مطران سيناء الحالي إلى ذلك، فأكد لي أنه بعد إتمام البناء المزمع إقامته للمدرسة في ضواحي القاهرة، سينشئ قسما خاصا ينطبق في كل الفروع على بروجرام نظارة المعارف المصرية؛ ليكون لأبناء العرب من المدرسة نصيب.
أما أعضاء مجلس إدارة المدرسة الحاليين، ففيهم اثنان من السوريين، وهما الخواجة ميخائيل ميداني وإسكندر بك بشارة، والباقون يونان، ونائب الرئيس المحامي الشهير نقولا أفندي عبيد ابن المرحوم جورج عبيد المار ذكره، ويتصل نسبه إلى مؤسسي المدرسة من جهة الأم، رحم الله المؤسسين الكرام، وأكثر في البلاد من أمثالهم، فإنهم أتوا بهذا الأثر النافع المشكور مثلا صالحا تحبذه الأجيال على ممر الأيام.
الفصل الرابع
في طرق سيناء
(1) طرق سيناء الخارجية
تقدم أن سيناء هي الوصلة البرية بين مصر سوريا، أو بين مصر والحجاز، وقد نشأ فيها منذ بدء التاريخ عدة طرق تجارية حربية أو دينية، تخترقها من الشرق إلى الغرب، وهي طرقها الخارجية، وما زال بعضها مطروقا إلى اليوم، ولها طرق داخلية كثيرة.
وقد سلكت أكثر هذه الطرق، واستقصيت من الخبراء عما لم أسلكه منها، ولكني لم آت على وصفها بالدقة؛ لأني مهما دققت في الوصف فلا أغني المسافر عن خبير ماهر يصحبه؛ خوف التيه، لا سيما وأن هذه الطرق في فلوات واسعة، لا تزال الرياح تسفي الرمال عليها فتمحو آثارها، وليس هناك أعلام أو سكان يهتدى بهم إلا نادرا، فلم آت من الوصف إلا قدر ما يكفي المسافر اللبيب للاستئناس بالطرق والاحتياط لنفسه مما قد يبدو من جهل الخبراء أو خيانتهم.
وقد أثبت معظم المسافات بالساعة، وأعني بها ساعة ركوب على هجين يسير الذميل، وهي بوجه التقريب 6 كيلومترات أو أربعة أميال إلا ربعا، وأما الساعة بسير القوافل أو الحملة فأغني بها 4 كيلومترات، أو نحو ميلين ونصف. ولنتقدم الآن إلى ذكر هذه الطرق مبتدئين بالطرق الخارجية. (1-1) طريق الفرما
تقدم أن طريق الفرما هي أقدم الطرق بين مصر وسوريا، وسترى أنها كانت قديما تنشأ من «زالو» في أطراف المديرية الشرقية، وأما الآن فتنشأ من القنطرة، وتتجه شرقا إلى وادي أم كرش ساعة وعشر دقائق، ثم تذهب شمالا بشرق فتسند بوادي أم كرش، وتتبع فرع النيل البليوسي الذي جف إلى تل هربة ساعة وعشر دقائق، فتل الحير ساعة وعشر دقائق، فتل الفضة ساعة ونصف ساعة، ومن هذا التل ترى آثار الفرما التي تسمت الطريق بها على نحو نصف ساعة منك شمالا، ثم تنحرف الطريق من تل الفضة شرقا إلى المحمدية على شاطئ البحر المتوسط ساعة وأربعين دقيقة، ومن هنا تسير الطريق في ذراع مرتفعة من البر بين بحيرة البردويل والبحر المتوسط، فتمر على الفنطاس الكبير ساعة وأربعين دقيقة، فالفنطاس الصغير ثلاث ساعات ونصف ساعة، وهذا الفنطاسان هما بقية باخرة غرقت في البحر، فقذفتها الأمواج إلى بر سيناء.
ومن الفنطاس الصغير إلى تل القلس ساعتان، وفي شرقي التل فم بحيرة البردويل القديم، يعبر المسافر عليه بقارب، ومنه إلى بقعة فيها نبت الغرقد تدعى الكليخة 4 ساعات، فبركة الجمل ساعة ونصف، ففم بحيرة الزرانيق ساعة، وهنا يعبر المسافر في قارب إلى البر الثابت، ويتبع شاطئ البحر المتوسط مارا ببئر المساعيد في ضواحي العريش أربع ساعات وثلث، فقبة النبي ياسر في ساحل العريش ساعة.
ومن هنا إما أن ترتفع الطريق عن الشاطئ، فتذهب في أرض جامدة التربة، تحاذيها سلسلة من التلال الرملية على نحو ميلين من الشاطئ فتمر بالخروبة، فالمكسر، فحلة الشيخ زويد إلى رفح، أو تستمر بشاطئ البحر إلى ميناء رفح، فتمر ببئر الخروبة في ساحل الخروبة على نحو 3 ساعات من قبة النبي ياسر، فبئر المصيدة في ساحل المكسر نصف ساعة، فبئر الزعقة ساعة ونصف، فبئر أبو حنظلة في ساحل الشيخ زويد نصف ساعة، وهي أعظم مورد للسواركة ، فبئر عسلوج ثلاثة أرباع الساعة، فبئر أم لوف ثلث ساعة، فبئر أبو شنار ربع ساعة، وهي مورد البدو الملالحة القاطنين في العجرة، وعندها تل عليه خرائب قديمة، فالعمود الأول للحد الجديد في ساحل رفح ساعة نصف، وطول هذه الطريق من القنطرة إلى رفح نحو 34 ساعة.
وفي الجدول الآتي أمكنة الطريق، وتجاه كل مكان المسافة التي بينه وبين المكان الذي قبله، نكرر ذكرها على هذه الصورة ليسهل تناولها:
مسافات طريق الفرما بشاطئ البحر.
دق
ساعة
من القنطرة إلى:
10
1
أم كرش
10
1
تل هربة
10
1
تل الحير
30
1
تل الفضة
40
1
المحمدية
40
1
الفنطاس الكبير
30
3
الفنطاس الصغير
2
تل القلس. فم البردويل
4
الكليخة
30
1
بركة الجمل
1
فم الزرانيق
من فم الزرانيق إلى:
20
4
بئر المساعيد
1
بئر النبي ياسر
3
بئر الخروبة
30
0
بئر المصيدة
30
1
بئر الزعقة
30
0
بئر الحنظلة
45
0
بئر عسلوج
20
0
بئر أم لوف
15
0
بئر أبو شنار
30
1
ميناء رفح
34
المجموع
وقد سرت في هذه الطريق من أولها إلى آخرها، فإذا هي مكتظة بآثار القلاع والبروج والمدن الفاخرة، وأكثرها من عهد اليونان البيزنتيين مما دل على أنها كانت مأهولة في القديم، وأن أهلها كانوا على جانب عظيم من التمدن والعمران كما مر. (أ) تاريخ طريق الفرما
وقد ذكر هذه الطريق العلامة مسبرو مدير متحف الآثار المصرية في كتابه النفيس المسمى «جهاد الأمم»، فقال ما ترجمته:
لآسيا من مصر عدة طرق، لكل منها مزية تميزها على الأخرى، وأقربها الطريق التي كانت تمر بمدينة «زالو»، وكان يحمي برزخ السويس قديما حصون تمتد من خليج السويس إلى الفرع البليوسي، وزاد تلك الحصون مناعة ترعة، قام على ضفتها قلعة يحرسها الجند لحماية الحدود، ولم يكن يسمح لأحد بالسفر شرقا أو غربا إلا إذا أعلن اسمه ومهنته والسبب الذي دعاه إلى السفر والرسائل التي في عهدته.
وكان الفراعنة يخرجون بحملاتهم إلى سوريا من زالو، ويرجعون إليها، فيستقبلهم فيها وجوه البلاد وأعيانها للاحتفاء بهم.
وكان المسافر إذا خرج من زالو قاصدا سوريا، يخترق أرضا يغمرها النيل ستة أشهر، ثم ينحرف شرقا، ويسير فيما بين البحر المتوسط وبحيرة سربونيوس «بحيرة البردويل »، وقد كان السفر في هذه القطعة من الطريق محفوفا بالأخطار؛ لأن بحيرة سربونيوس لا تبقى على حال واحدة، فكانت إذا سدت الأفواه التي تربطها بالبحر المتوسط تبخر ماؤها الرقراق، وبقي في الطريق عدة برك موحلة تسفي الرياح الرمال عليها، فتغطيها وتحجب وحولها عن نظر المسافرين فيغوصون فيها، وقد نقل مؤرخو اليونان أن جيوشا عظيمة غرقت برمتها في تلك الوحول المخبوءة.
وعند منتصف البحيرة على شاطئ البحر تل كاسيوس «القلس» الشهير، فمن وراء هذا التل يتسع السهل الفاصل بين بحيرة البردويل والبحر المتوسط، حتى يصبح سهلا فسيحا، ينبت فيه العشب، وقد حفرت فيه آبار، ماؤها غزير مسوس، ومن وراء ذلك السهل غابة من النخيل وسجن أسود وثلة من المنازل الحقيرة يحدها واد عظيم جاف في غالب الأحيان «وهي مدينة العريش ونخيلها وواديها».
وقد كان هذا الوادي في بعض العصور القديمة الحد بين أفريقيا وآسيا، وكانت المدينة منفى للمجرمين المحكوم عليهم ببتر أعضائهم، وقد أكد لنا مؤرخو اليونان أن قد سميت «رينوكلورا»؛ لكثرة من نفي إليها من المجرمين المجدوعة أنوفهم.
ومن هذه المدينة يتجه شاطئ البحر المتوسط إلى الشمال الشرقي، ويحاذيه على الشاطئ كثبان مرتفعة من الرمال، تحجب نظر المسافر في الطريق عن البحر، فلا يرى البحر إلا من بعض المواضع، وكانت القوافل تتخذ طريقها من وراء هذه الرمال، وكان في الطريق آبار تحميها الأبراج حتى تصل قرية رفح الحصينة في حدود سوريا ا.ه.
وذكر اليعقوبي هذه الطريق قال: «ومن خرج من فلسطين مغربا يريد مصر خرج من الرملة، ثم إلى غزة، ثم إلى رفح، وهي آخر أعمال الشام، ثم إلى موضع يقال له «الشجرتين»، وهي أول حد مصر، ثم إلى العريش، وهي أول مسالح مصر وأعمالها، ويسكن العريش قوم من جذام وغيرهم، وهي قرية على ساحل البحر، ومن العريش إلى قرية يقال لها البقارة، ومنها إلى قرية يقال لها الورادة في جبال من رمل، ومنها إلى الفرما، وهي أول مدن مصر، وبها أخلاط من الناس، بينها وبين البحر الأخضر ثلاثة أميال.» ا.ه.
وقال الهمذاني: «ومن بغداد إلى مصر خمسمائة وسبعون فرسخا.» ا.ه. (1-2) طريق العريش
طريق العريش هي أروج الطرق الآن إلى سوريا من مصر، وكانت قبل فتح ترعة السويس تنشأ من الصالحية على 19 ميلا غربي القنطرة، وأما الآن فتبدأ من القنطرة، وتذهب شرقا بانحراف تدريجي نحو البحر المتوسط، فتحاد بحيرة البردويل من الجنوب حتى تكون على نحو 24 ميلا من شاطئ البحر، ثم تقرب من الشاطئ تدريجا حتى تكون على نحو ميلين منه عند مدينة العريش، وتستمر كذلك إلى رفح.
تمر الطريق من القنطرة بأم كرش ساعة وربعا كما قدمنا، فتل حبوة ثلث ساعة، فبئر الدويدار ساعة وثلثا، وهي بئر قديمة يميل ماؤها إلى الملوحة، وعندها ثلة من النخيل، وإلى جنوبها على نحو ربع ساعة من الطريق الحالية بئر القوقة، وهي أقدم من الدويدار، وعندها بستان نخيل، وكانت الطريق تمر عليها، ثم تحولت عنها إلى بئر الدويدار، ومن هذه البئر تخترق الطريق رمل الغرابيات، وهي سلسلة كثبان من الرمال، إلى سبخة قطية أربع ساعات، وفي وسطها بئر تدعى بئر النصف عندها نخيل كثير، تسير في سبخة قطية ثلث ساعة، فتأتي بئر قطية الشهيرة.
ومنها تتفرع طريق إلى الإسماعيلية طولها نحو عشر ساعات، تمر ببئر أبو خرير فبئر عراس، فبئر أبو عروق، فالإسماعيلية، وعند كل بئر بستان من النخيل.
وتسير طريق العريش من بئر قطية إلى بئر الحسون نصف ساعة، وعندها نخيل.
ومن هنا تتفرع طريق إلى المحمدية على شاطئ البحر المتوسط، طولها نحو أربع ساعات، تذهب شمالا بغرب فتمر بنخل الغابة، فنخل أبو حمرا، فشرق الرماني وهو تل أثري بجانبه نخيل، فالمحمدية.
هذا، وبعد فتح ترعة السويس، وقيام مدينة بورسعيد؛ فتحت طريق إليها من المحمدية بشاطئ البحر 6 ساعات، تمر بقلعة الطينة، فقلعة البلاح المتقدم ذكرهما.
وتسير طريق العريش من بئر الحسون إلى برصة معن، وهي كثيب من الرمل الأبيض في ساعة ونصف، فبئر أبو العفين ساعة وثلثا، فبئر العبد ساعة، وهي مبنية بالحجر المنحوت والأسمنت، قيل بناها إبراهيم باشا في أثناء حملته على سوريا، ثم رممت في عهد سمو الخديوي الحالي وماؤها مسوس، فثميلة مبروكة ساعة وربعا، فخشوم الأدراب ساعة، سميت كذلك؛ لأن منها تتفرع ثلاث دروب إلى العريش، وهي :
الدرب السلطانية:
عن اليمين.
ودرب الطوايات:
عن اليسار.
والدرب الوسطانية:
في الوسط.
أما «الدرب السلطانية» فهي أقدم الطرق وأصلحها، ولكنها أطولها، وهي الدرب التي يرافقها خط التلغراف إلى سوريا، وتحاد أقصى بحيرة البردويل من جهة الجنوب، وتمر بمضحى الجنادل، فرجم البريج وهو برج قديم خرب في سفح تلة، ترى من الدروب الثلاث، فسبخة المستبق، فبئر المزار، وهي بئر شهيرة على خمس ساعات من الخشوم، وسبع ساعات من مدينة العريش، وعندها قبر يزار للشيخ أبو جلبانة من عرب الجرارات السواركة، وبه سميت البئر بالمزار، فغريف الجمال، فخربة العشوش، وهي خرائب قرية البردويل المار ذكرها، فثميلة ناصر، فمدينة العريش.
وأما «درب الطوايات» فقد كانت أسهل الطرق وأخصرها إلى العريش، ولكن غمرتها بحيرة البردويل منذ سنة 1900 بعد أن جعلت مصيدا للأسماك. يمر المسافر فيها من خشوم الأدراب في أرض منبسطة على برصة النزال، فتجاه دبة البريج، فقناية سبخة حواش، فبرقة عايشة، فبئر الخوينات وهي بئر أثرية، فالخوينات المار ذكرها، فقبر الساعي، فتل أبو مزروع، حيث تلتقي بالدرب الوسطانية الآتي بيانها، ومسافة هذه الطريق من الخشوم إلى تل أبو مزروع نحو ست ساعات.
وأما «الدرب الوسطانية» فهي الدرب التي تخترق الملاحات، وكان يقصدها قديما من يريد أخذ الملح في طريقه إلى العريش، وهي الآن طريق البريد وطريق أكثر المسافرين، قيل فتحها الحاج عثمان البدرين من أهل العريش الفواخرية سنة 1904.
تسير في هذه الطريق من الخشوم في سبخة ساعة ونصف إلى رجم عمورية تجاه رجم البريج المار ذكره، بينهما نصف ساعة، والظاهر أن عمورية والبريج خرائب بلدتين قديمتين، بدليل المثل المشهور عند البدو «أهل البريج بيرزعوا (أي يرقصون رقص الرزعة) والعرس في عمورية»، يضرب لمن يضع الشيء في غير محله.
ثم تسير في رمال إلى سبخة أبو تلول ساعة ونصفا، وتسير في هذه السبخة ساعة ونصفا إلى سبخة المخيزن تجاه بئر المزار في الدرب السلطانية، ثم تسير في رمال نحو ساعة إلى سبخة سبيكة التي يتجمد الملح فيها حتى تصبح كسبيكة الفضة، ومن ذلك اسمها .
تسير في هذه السبخة نحو ساعة ونصف، فتلتقي درب الطوايات عند تل أبو مزروع.
تسير من تل أبي مزروع ثلاثة أرباع الساعة، فتصل رجم البردويل المار ذكره، ثم تسير منه في سهل فياح جامد التربة ساعتين، فتأتي بئر المساعيد، فساعة أخرى تأتي مدينة العريش حيث تتحد الدروب الثلاث.
ومن العريش إلى الخروبة ساعتان ونصف، فالمكسر نصف ساعة، فسبخة الشيخ زويد ساعة وثلث، فقرية الشيخ زويد ثلث ساعة، فرفح ساعتان.
مسافات طريق العريش، الدرب الوسطانية.
دق
ساعة
من القنطرة إلى:
10
1
وادي أم كرش
20
0
تل حبوة
20
1
بئر الدويدار
2
بئر النصف
2
سبخة قطية
20
0
قطية
من بئر قطية إلى:
30
0
بئر الحسون
30
1
برصة معن
20
1
بئر العفين
1
بئر العبد
15
1
ثميلة مبروكة
5
1
الخشوم «مفرق الطرق»
50
13
من القنطرة إلى الخشوم
من الخشوم إلى:
30
1
رجم عمورية
30
1
سبخة أبو تلول
30
1
سبخة المخيزن
1
سبخة سبيكة
30
1
تل أبو مزروع
45
0
رجم البردويل
2
بئر المساعيد
1
مدينة العريش
35
24
من القنطرة إلى العريش
30
2
الخروبة
30
0
المكسر
40
1
الشيخ زويد
2
رفح
15
29
من القنطرة إلى رفح (أ) تاريخ طريق العريش
وهذه الطريق لم تكن تعرف قبل أواخر القرن الثاني عشر للمسيح، قال المقريزي عند ذكر «ما كان عليه موضع القاهرة»: «ولم يكن الدرب الذي يسلك في وقتنا من القاهرة إلى العريش في الرمل يعرف في القديم، وإنما عرف بعد خراب تنيس والفرما وإزاحة الفرنج عن بلاد الساحل بعد تملكهم له مدة من السنين» ا.ه. (وكان خراب الفرما حوالي سنة 1165م.)
وجاء في المقريزي عند «ذكر الطريق فيما بين مدينة مصر ودمشق»:
اعلم أن البريد أول من رتب دوابه الملك دارا، أحد ملوك الفرس. وأما في الإسلام فأول من أقام البريد أمير المؤمنين المهدي محمد بن أبي جعفر المنصور، أقامه فيما بين مكة والمدينة واليمن، وجعله بغالا وإبلا، وذلك في سنة ستة وستين ومائة (783م)، أصل هذه الكلمة بريد ذنب، فإن دارا أقام في سكك البريد دواب محذوفة الأذناب سميت بريد ذنب، ثم عربت وحذف منها نصفها الأخير، فقيل بريد، وهذا الدرب - الذي يسلكه العساكر والتجار وغيرهم من القاهرة على الرمل إلى مدينة غزة - ليس هو الدرب الذي يسلك في القديم من مصر إلى الشام، ولم يحدث هذا الدرب الذي يسلك فيه من الرمل الآن إلا بعد الخمسمائة من سني الهجرة/1107م عندما انقرضت الدولة الفاطمية، وكان الدرب أولا قبل استيلاء الفرنج على سواحل البلاد الشامية غير هذا، قال أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله بن خرداذبة في كتاب المسالك والممالك وصفة الأرض والطريق من دمشق إلى الكسوة اثنا عشر ميلا، ثم إلى جاسم أربعة وعشرون ميلا، ثم إلى فيق أربعة وعشرون ميلا، ثم إلى طبرية مدينة الأردن ستة أميال، ومن طبرية إلى اللجون عشرون ميلا، ثم إلى القلنسوة عشرون ميلا، ثم إلى الرملة مدينة فلسطين أربعة وعشرون ميلا، والطريق من الرملة إلى أزدود اثنا عشر ميلا، ثم إلى غزة عشرون ميلا، ثم إلى العريش أربعة وعشرون ميلا في رمل، ثم إلى الورادة ثمانية عشر ميلا، ثم إلى أم العرب عشرون ميلا، ثم إلى الفرما أربعة وعشرون ميلا، ثم إلى جرير ثلاثون ميلا، ثم إلى القاصرة أربعة وعشرون ميلا، ثم إلى مسجد قضاعة ثمانية عشر ميلا، ثم إلى بلبيس أحد وعشرون ميلا، ثم إلى الفسطاط مدينة مصر أربعة وعشرون ميلا، فهذا - كما ترى - إنما كان الدرب المسلوك من مصر إلى دمشق على غير ما هو الآن، فيسلك من بلبيس إلى الفرما في البلاد التي تعرف اليوم ببلاد السباخ من الحوف، ويسلك من الفرما، وهي بالقرب من قطية إلى أم العرب، وهي بلاد خراب على البحر فيما بين قطية والورادة، ويقصدها قوم من الناس، ويحفرون في كيمانها، فيجدون دراهم من فضة خالصة ثقيلة الوزن كبيرة المقدار، ويسلك من أم العرب إلى الورادة، وكانت بلدة في غير موضعها الآن قد ذكرت في هذا الكتاب، فلما خرج الفرنج من بحر القسطنطينية في سنة تسعين وأربعمائة لأخذ البلاد من أيدي المسلمين، وأخذ بغدوين الشوبك، وعمره في سنة تسع وخمسمائة، وكان قد خرب من تقادم السنين، وأغار على العريش وهو يومئذ عامر، بطل السفر حينئذ من مصر إلى الشام، وصار يسلك على طريق البر مع العرب مخافة الفرنج إلى أن استنقذ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بيت المقدس من أيدي الفرنج في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وأكثر من الإيقاع بالفرنج، وافتتح منهم عدة بلاد بالساحل، وصار يسلك هذا الدرب على الرمل، فسلكه المسافرون من حينئذ إلى أن ولي ملك مصر الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، فأنشأ بأرض السباخ على طرف الرمل بلدة عرفت إلى اليوم بالصالحية، وذلك في سنة أربع وأربعين وستمائة، وصار ينزل بها ويقيم فيها، ونزل بها من بعده الملوك، فلما ملك مصر الملك الظاهر بيبرس البندقداري رتب البريد في سائر الطرقات، حتى صار الخبر يصل من قلعة الجبل إلى دمشق في أربعة أيام، ويعود في مثلها، فصارت أخبار الممالك ترد إليه في كل جمعة مرتين، ويتحكم في سائر ممالكه بالعزل والولاية، وهو مقيم بالقلعة، وأنفق في ذلك مالا عظيما حتى تم ترتيبه، وكان ذلك في سنة تسع وخمسين وستمائة، وما زال أمر البريد مستمرا فيما بين القاهرة ودمشق، يوجد بكل مركز من مراكزه عدة من الخيول المعدة للركوب، وتعرف بخيل البريد، وعندها عدة سواس، وللخيل رجال يعرفون بالسواقين، وأحدهم سواق يركب مع من رسم بركوبه خيل البريد ليسوق له فرسه ويخدمه مدة مسيره، ولا يركب أحد خيل البريد إلا بمرسوم سلطاني، فتارة يمنع الناس من ركوبه إلا من انتدبه السلطان لمهماته، وتارة يركبه من يريد السفر من الأعيان بمرسوم سلطاني، وكانت طرق الشام عامرة، يوجد بها عند كل بريد ما يحتاج إليه المسافر من زاد وعلف وغيره، ولكثرة ما كان فيه من الأمن أدركنا المرأة تسافر من القاهرة إلى الشام بمفردها راكبة أو ماشية لا تحمل زادا ولا ماء، فلما أخذ تيمورلنك دمشق وسبى أهلها وحرقها في سنة ثلاث وثمانمائة خربت مراكز البريد، واشتغل أهل الدولة بما نزل بالبلاد من المحن، وما دهوا به من كثرة الفتن عن إقامة البريد، فاختل بانقطاعه طريق الشام خللا فاحشا، والأمر على ذلك إلى وقتنا هذا، وهو سنة ثمان عشرة وثمانمائة ه/1415م.
وذكر أبو الفداء طريق العريش في تاريخه في عدة مواضع، قال في أخبار سنة 692ه:
وفي هذه السنة في جمادى الأولى/أبريل 1293م أرسل السلطان الملك الأشرف أحضر الملك المظفر محمود صاحب حماة، وعمه الملك الأفضل على البريد، إلى الديار المصرية، فتوجها من حماة، وعندهما الخوف بسبب طلبهما على البريد، ووصلا إلى قلعة الجبل في اليوم الثامن من خروجهما من حماة. ا.ه.
وجاء في أخبار سنة 718ه/1318م:
وفي هذه السنة توجهت من حماة إلى الديار المصرية، وخرجت الخيل قدامي من حماة في نهار السبت منتصف جمادى الأولى، الموافق لنصف تموز، وتأخرت أنا بحماة، ثم خرجت من حماة، وركبت خيل البريد في نهار الإثنين الرابع والعشرين من جمادى الأولى، والرابع والعشرين من تموز، ولحقت خيلي وثقلي بغزة نهار الأحد غرة جمادى الآخرة، وهو اليوم الثلاثون من تموز، وسرت بهم جميعا، ووصلت إلى قلعة الجبل، وحضرت بين يدي مولانا السلطان الملك الناصر - خلد الله ملكه بها - في نهار الخميس ثاني عشر جمادى الآخرة، الموافق لعاشر آب الرومي، وشملتني صدقاته بالتنزيل في الكبش، وترتيب الرواتب الكثيرة بعد ما كان رتب لي في جميع المنازل من حماة إلى الديار المصرية الرواتب الزائدة عن كفايتي، وكفاية كل من هو في صحبتي من الأغنام والخبز والسكر وحوايج الطعام والشعير، وأمرني بالعود إلى بلدي، فخرجت من بين يديه من الميدان في نهار السبت ثاني عشر رجب من هذه السنة، الموافق لثامن أيلول، ووصلت حماة نهار الخميس مستهل شعبان، الموافق للثامن والعشرين من أيلول، واستقريت فيها. ا.ه.
وقال في أخبار سنة 719ه/1319م:
وفي هذه السنة حج السلطان من الديار المصرية، ولما قرب أوان الحج أرسل جمال الدين بن عبد الله البريدي، ورسم إلى أن أحضر إلى الأبواب الشريفة، فركبت خير البريد، وأخذت في صحبتي أربعة من مماليكي، وخرجت من حماة يوم الجمعة سادس عشر شوال، الموافق لسلخ تشرين الثاني، وسرت حتى وصلت إلى مصر، وحضرت بين يدي السلطان بقلعة الجبل نهار السبت، الرابع والعشرين من شوال، الموافق لثامن كانون الأول، ونزلت بالقاهرة بدار القاضي كريم الدين، وأقمت حتى خرجت صحبة الركب السلطاني. ا.ه.
وفي رحلة الشيخ عبد الغني النابلسي المتوفى سنة 1143ه/1730م بعض بيان للطريق من العريش إلى المحروسة، لا بأس بسوقه هنا، قال:
لما دخلنا العريش نزلنا في مكان عند باب القلعة، وصلينا في الجامع داخل السور، ثم زرنا قبر الشيخ الدمياطي في جامع آخر، وهناك في تلك البلاد مكان مبارك يقال له اليزك، ويقال: إنه متصل بالغار الذي في بلاد الخليل - عليه السلام - وسرنا من العريش إلى أن وصلنا «بئر المساعيد»، وهناك سبيل معمر بجدران الحجر، فاستقينا منه، وملأنا الركاوي، ثم سرنا إلى «قبر الساعي» وهو قبر مشهور هناك، ثم سرنا إلى محل «البرقات»، وهي منزلة من منازل القافلة، فنزلنا هناك وصلينا الظهر، ثم سرنا بلا شر ولا حر، ونزلنا في الغروب بمكان في البرية، فأكلنا وأطعمنا الخيل، ثم سرنا في ذلك الطريق الكثير الرمل حتى مررنا على «أم الحسن»، وهو مكان فيه خان متهدم البنيان من قديم الزمان، ثم سرنا إلى مكان يسمى «رءوس الأدراب»، وفي نصف الليل وصلنا إلى «بئر العبد»، وهي منزلة من منازل القافلة، قال السيد محمد كبريت في رحلته:
ثم أتينا بعد بئر العبد
في سفح واد ما له من وفد
وماؤه مر زعاق مالح
ولم يكن فيه هواء صالح
ثم سرنا إلى طلوع الشمس، فنزلنا بالفلاة واسترحنا حصة يسيرة، وسرنا حتى وصلنا إلى منزلة «قطية»، ثم سرنا ومررنا على الرمل الكثير العسير المسمى «برمل الغرابي»، ثم جئنا إلى بئر الدويدار، وهو كبير والآن غلب عليه الرمل فردمه، لكن حوله حفر صغار فيها ماء يغلب عليه الملوحة، قال السيد محمد كبريت في رحلته:
ثم إلى بئر الدويدار الردي
جئنا وما أقبحه من مورد
ونزلنا هناك حصة من الزمن نحن ومن معنا، وأكلنا ما تيسر من الزاد، ثم ركبنا وسرنا على بركة الله ولم نزل سائرين إلى أن مررنا على المكان المسمى «باللواوين»، فقطعنا اللواوين، ثم بتنا هناك في البرية، ثم ركبنا في نصف الليل، فأشرفنا في الصباح على قرية الصالحية، ولم نزل سائرين إلى أن نزلنا في مزار الولي الصالح الشيخ حسن الليفي الصامت العجمي، فقرية الخطارة، فالقرين، فكفر حماد، فبلبيس، فمصر. ا.ه.
وأهمل أمر البريد في زمن المماليك، ثم عاد إلى انتظامه في أيام المغفور له محمد علي باشا عند فتحه سوريا، فوضع خفراء على أهم الآبار، وهي: بئر قطية، وبئر العبد، وبئر المزار، وبئر المساعيد، وبئر النبي ياسر، وبئر عطوان في العريش، وبئر الشيخ زويد، وما زال إلى الآن بريد أسبوعي يسير على الهجن من رفح إلى العريش، ثم من العريش إلى القنطرة بالدرب الوسطانية، والخفراء تخفر هذه الآبار إلى اليوم. •••
وكان طريق الفرما ثم طريق العريش بعدها طريق تجارية حربية، وقد طالما سارت بهما الجيوش الحربية والقوافل التجارية بين النيل والأردن، أو بين النيل والفرات، ولكنهما فقدتا أهميتهما التجارية بعد اتساع الملاحة في البحر المتوسط وفتح ترعة السويس، ومع ذلك، فما زال تجار الإبل والخيل والبغال والغنم من سوريا يطرقونهما إلى اليوم، وهم يفضلون طريق العريش صيفا وشتاء لاختصارها وقلة رمالها، ولكنهم يتخذون أحيانا طريق الفرما للطف هوائها والتخلص من ذبابة سامة تنتاب طريق العريش بين بئر العبد وقطية في أيام معينة في فصلي الربيع والصيف كما مر. (1-3) الدرب المصري
أما «الدرب المصري» فهي طريق تجارية محضة، تربط مصر بسوريا عن طريق المقضبة، وقد بطلت بفتح ترعة السويس، وهي تنشأ من غزة أو خان يونس، وتذهب جنوبا بغرب مارة بنقع شبانة، فصنع المنيعي، فحجر السواركة، فالجورة تحدها من الغرب والعجرة من الشرق، فالبرث فعجار السمن تحدانها من الجنوب، فالبواطي، فمقطع وادي الأبيض، فالمقضبة في وادي العريش.
ومن هنا طريق تذهب غربا إلى الإسماعيلية، وطريق تذهب غربا بجنوب إلى السويس، فتمر بالغرقدة، وهي مرتع للإبل لا ماء فيه، فسر الحسنة، فعد الحمة، فمشاش روض سالم، فباحة أم ضيان وهو من أولياء التياها، فعد الجدي، فقوز طويل الذيب في وادي الطوال، فوادي الحاج، فالنواطير، فالسويس.
ومسافة هذه الطريق من خان يونس إلى السويس ستة أيام بسير القوافل: فيوم إلى صنع المنيعي، ويوم إلى المقضبة، ويوم إلى عد الحمة، ويوم إلى باحة أم ضيان، ويوم إلى وادي الطوال، ويوم إلى السويس.
وكانت هذه الطريق قبل فتح ترعة السويس تعج بالقوافل، وكان تجار بلاد الشام يأتون بالصابون والزبيب والتين واللوز والبندق وقمر الدين والبضائع الحريرية، ويعودون من مصر بالأنسجة القطنية من صنع الفيوم.
وكانت الحكومة المصرية تخفر هذه الطريق بمشايخ البلاد، قيل وكان خفير المقضبة في أيام المغفور له إبراهيم باشا الشيخ سليمان الباسلي أبو عودة الباسلي، شيخ الترابين الشبيتات الحالي، وكان التجار يدفعون جعلا معلوما للخفراء. (1-4) درب الحج المصري
الحج في الإسلام زيارة البيت الحرام مفروضا مرة في العمر والزيادة تطوع، ويشترط لفرضه الحرية والبلوغ والعقل والصحة والقدرة على الزاد والراحلة، ونفقة ذهابه وإيابه وعياله إلى حين عوده مع أمن الطريق، وأشهره شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة، ويكره الإحرام له قبلها. وقد اعتاد الحجاج بعد زيارة الكعبة في مكة أن يزوروا قبر النبي في المدينة تبركا لا لأداء فرض.
ويذهب المسلمون إلى الحج أفرادا وجماهير، أما جماهير الركبان فلا تخرج إلا من أربع جهات: مصر، ودمشق، وبغداد، وتعز، وأما الحج المصري فيجمع أهل المغرب والسودان ومصر في مدينة القاهرة عاصمة مصر.
وأول طريق اتخذها الحج المصري إلى مكة المشرفة هي طريق عيذاب، وكان يركب الحجاج النيل من ساحل الفسطاط إلى قوص بمصر العليا، ثم يركبون الإبل من قوص فيقطعون صحراء عيذاب إلى البحر الأحمر، حيث ينزلون إلى جدة، وهكذا يعودون إلى مصر، وكانت قوافل التجار من اليمن والحبشة والهند تأتي مصر بهذه الطريق أيضا.
وبقيت طريق الحج على «عيذاب» حتى زار السلطان الملك الظاهر مكة المشرفة ، وكساها وعمل لها مفتاحا، وكان قد استرجع أيلة من الصليبيين سنة 665ه/1267م، فذهب بطريق السويس وأيلة، فصارت أيلة طريق الحج من ذلك الحين إلى سنة 1885م، فاتخذت طريق البحر على السويس وجدة، وما زالت كذلك إلى الآن.
وممن حج قديما من الملوك بهذه الدرب الملك الناصر بن قلاوون، قال أبو الفداء في حوادث سنة 719ه/1319م عند ذكر هذا الملك: «وسار على درب الحج المصري على السويس وأيلة، وسرت في صدقاته حتى وصلنا رابغ.» ا.ه.
وقد اعتاد ملوك مصر منذ القديم أن يرسلوا مع ركب الحج الكساء للكعبة، ويرسلوا أميرا ومعه العساكر لحماية الحجاج في الطريق، قال أبو الفدا في حوادث 718ه/1318م: «عند توجه الحاج من مصر أرسل السلطان الأمير بدر الدين بن التركماني مع الحجاج إلى مكة بعسكر» ا.ه. قيل وكان أول من نظم المحمل مع الحج المصري، وأرسل الكسوة للكعبة، وحماها بالعساكر شجرة الدر التي حكمت مصر سنة 648ه/1250م بعد انتهاء الدولة الأيوبية، وما زالت هذه العادة متبعة إلى اليوم.
وقد عني ملوك مصر من القديم بإصلاح طريق الحج هذه وتمهيد عقباتها، وأنشئوا فيها الخانات والقلاع وحصنوها بالعساكر؛ تأمينا للطريق، وحفروا الآبار وبنوا البرك لسقي الحجاج وركائبهم، وأهم آثارهم على هذه الدرب في بر مصر: بركة الحاج غربي القاهرة، وقلعة عجرود غربي السويس، وفي بر سيناء: «النواطير، وقلعة نخل وآبارها وبركها، وبئر القريص، وبركها، وتمهيد دبة البغلة ونقب العقبة، وقلعة أيلة»، وقد مر ذكرها جميعا، وفي بر الحجاج على شاطئ البحر الأحمر الشرقي: «قلعة المويلح، فبرج ضبا، فقلعة الوجه، فقلعة ينبع»، وفي داخل بر الحجاز: قلعة رابغ.
وكان خفر المحمل يؤلف من 300 إلى 400 عسكري من المدفعية والمشاة، وعليهم ضابط برتبة لواء معه سلطة القتل والسجن، وكانت حكومة مصر ترسل إلى القلاع التي في الطريق نجارين لترميم السواقي وملء البرك قبل وصول الركب، وترسل الزاد للعساكر والعلف لركائبهم.
وكان عرب العائذ المار ذكرهم يلتزمون تقديم الإبل للمحمل المصري، فلما تحضروا التزمها سائر عرب الشرقية والقليوبية على التناوب، فسنة يلتزمها عرب القليوبية وهم: الحويطات ، وبلي، والصوالحة، وجهينة، والعليقات، والعيايدة، وسنة يلتزمها عرب الشرقية، وهم : النفيعات، والسماعنة، والطميلات، والسعديين، والعقايلة، والمساعيد، والبياضيين، وأولاد علي، والأخارسة، وكان كل فريق يقدم في السنة من 400-500 جمل، وكانوا يلتزمون حفظ المحمل إلى العقبة، ولكن جمالهم تسير مع المحمل إلى مكة، وقد خصصت الحكومة مرتبات سنوية لمشايخ القبائل القاطنة في هذه الدرب للمحافظة على الأمن.
وكان يقام في كل من نخل والعقبة في زمن الحج سوق تباع فيها الأقمشة والمأكولات والحبوب كالدقيق والعدس والفول والأرز والشعير والبن وقمر الدين.
وكان للحويطات جعل يدعى «الفرش»، وهو رطل من كل ما يباع في سوقي نخل والعقبة، وللتياها رطلان من كل ما يباع من المأكولات وربع كيلة من كل صنف من الغلال في سوق نخل، وكان دليل الحج المصري من الحويطات.
أما درب الحج المصري، فتنشأ من مصر القاهرة، وتخترق صحراء السويس الجرداء إلى أن تقطع ترعة السويس، وتدخل بر سيناء شمالي مدينة السويس.
تسير من كوبري السويس في سهل رملي فياح مارا بالنواطير الثلاثة إلى أن تدخل وادي الحاج، فتصعد معه إلى مفرق وادي الحاج، حيث تلتقي درب الحج المصري الدرب الآتية من شط السويس ببئر المرة أو ببئر مبعوق كما سيجيء.
ومن هنا يعرف وادي الحاج بوادي الحيطان كما مر، تستمر السير بهذا الوادي إلى رأسه المعروف بشرفة الحاج ساعة ونصفا من المفرق، ثم تهبط وادي صدر الحيطان، فتنحدر معه إلى سهل التيه العظيم نصف ساعة، فجبيل حسن ساعة، ومن هنا يسير الوادي شمالا بشرق إلى مصبه بالبروك، وتبقى في اتجاهك نحو الشرق، فتأتي مقطع وادي الأغيدرة بساعة إلا ربعا، فوادي السحيمي بساعة إلا عشرة، فوادي النتيلة بساعة وربع، فوادي أبو جذل بساعتين إلا عشرة، فالنهدان بنصف ساعة، فمطل نخل الغربية بساعة إلا ثلثا، فمقطع وادي العريش بنصف ساعة، فقلعة نخل بنصف ساعة. ومن نخل تستمر باتجاهك نحو الشرق، فتقطع فروع وادي العريش الشرقية، ودبة البغلة، ثم فروع وادي الجرافي إلى نقب العقبة، فالعقبة، فمكة.
وقد سرت في هذه الدرب من العقبة إلى شط السويس، وفارقتها من مفرق وادي الحاج، وطولها في بر سيناء، أي من ترعة السويس إلى العقبة، نحو 150 ميلا، كان ركب الحج المصري يقطعها بستة أيام، منها ستون ساعة سفرا هكذا: من كوبري السويس إلى دبة وادي الحاج 6 ساعات، فجبيل حسن 12 ساعة، فقلعة نخل 12 ساعة، فبئر القريص 12 ساعة، فمفرق العقبة 12 ساعة، فقلعة العقبة 6 ساعات.
وقد أصبحت هذه الطريق الآن طريق تجار الإبل والأغنام من الحجاز إلى مصر، وما زال بعض الحجاج المغاربة وغيرهم يعودون بها إلى اليوم. (1-5) درب الشعوي
هذه أخصر الطرق من السويس إلى نقب العقبة، وأقدمها عهدا، وأخصبها مرعى، تسير من شط السويس في وادي الراحة إلى رأسه مارة بأم رجيم، وهي خرائب محلة من حجر، فقلعة مبعوق، فالمكون، ثم تنحدر شمال قلعة الباشا المجاورة لعين سدر، وتستمر متجهة نحو الشرق جاعلة جبل المنيدرة، ثم جبل بضيع عن اليمين إلى مقطع وادي العريش قرب بئر أم سعيد، فمقطع وادي أبو طريفية، فالمهجع وهو مرتع للإبل، فمقطع وادي الرواق، فمقطع وادي الفيحي، فمقطع وادي القريص، فبئر الثمد، فالشيخ نبعة، فجبل الشعائر، ومنه تهبط وادي شعيرة أم عرقوب، وتنحدر معه قليلا، ثم تتركه عن اليسار، وتسير بطريق جنوبية شرقية إلى جزيرة وادي طويبة، فجزيرة فرعون، أو تستمر شرقا إلى مفرق العقبة.
والظاهر أن هذه الدرب هي التي اتخذها صلاح الدين الأيوبي إلى جزيرة فرعون وأيلة لمحاربة الصليبيين؛ لأن درب الحج لم تكن قد نشأت بعد، ونرى له على درب الشعوي قلعة الباشا قرب عين سدر كما مر، ويرجح أن قلعة جزيرة فرعون وقلعة مبعوق ومحلة أم رجيم هي من آثاره أيضا، ودرب الشعوي هي الدرب التي اتخذها عرب التيه الجنوبي إلى السويس منذ القديم، وما زالوا يفضلونها على غيرها؛ لأنها تغنيهم عن حمل الماء لأنفسهم والعلف لبهائمهم، وهم يقطعونها في ستة أيام: فيوم إلى المكون برأس وادي الراحة، ويوم إلى صدر بضيع، ويوم إلى المهجع، ويوم إلى وادي الثمد، ويوم إلى شعيرة أم عرقوب، ويوم إلى رأس النقب أو جزيرة فرعون. (1-6) درب البتراء
نشأ في سيناء منذ القديم طريقان تجاريتان شهيرتان: «طريق الفرما أو العريش» في شمالها، «وطريق البتراء» في جنوبها، أما طريق الفرما فهي طريق التجار والمسافرين من مصر إلى سوريا فالعراق وغربي الأردن، وقد مر ذكرها تفصيلا.
وأما طريق البتراء، فهي طريق التجار والمسافرين من مصر إلى العقبة والحجاز، والبتراء وشرقي الأردن، وهي تنشأ من السويس وتتجه جنوبا بشرق مرتفعة قليلا عن شاطئ البحر، فتمر بعيون موسى، وتقطع وادي الإحثا، فوادي سدر، فوادي وردان، فوادي عمارة، فوادي غرندل، فوادي وسيط، فوادي آثال، حتى تأتي رأس وادي الشبيكة فتنحدر فيه إلى وادي الحمر، ومن هنا إما أن تصعد بوادي الحمر، وتذهب بطريق الرملة إلى وادي الشيخ، أو تنحدر مع وادي الحمر وتذهب بطريق فيران، فوادي الشيخ إلى قرب الوطية، فتترك وادي الشيخ صاعدا شرقا إلى طور سيناء على 10 أميال من الوطية، وتبقى في اتجاهها شمالا بشرق إلى وادي حدرة، فوادي الغزالة، فوادي العين، فالنويبع، فالعقبة، فالبتراء.
وقد سمينا هذه الطريق «طريق البتراء» لأنها الطريق التي اتخذها النبطيون أسياد البتراء، والأدوميون من قبلهم، في تجارتهم إلى مصر كما تدل الصخرات النبطية الباقية عليها إلى اليوم في أودية حدرة وفيران والمكتب والمغارة والنصب والحمر وغيرها، وطول هذه الطريق بسير القوافل من السويس إلى البتراء 18 يوما كما سترى، وقد انقطعت التجارة بها بعد خراب البتراء، وتقدم الملاحة في البحار. (أ) طريق موسى
وهذه الطريق هي التي اتخذها موسى في المشهور عند خروجه ببني إسرائيل من مصر إلى أرض الموعد مارا بوادي فيران، وقد عرج عنها من وطية وادي الشيخ إلى طور سيناء، فأقام فيه نحو سنة، ثم عاد إليها كما سيجيء في باب التاريخ، وانقسمت طريق موسى هذه إلى طريقين مطروقتين، وهما: طريق السويس إلى دير طور سيناء، وطريق الدير إلى العقبة فالبتراء، وسنأتي على ذكرهما تفصيلا فيما يلي. (1-7) درب النبك
هذه الدرب هي درب تجار الإبل والغنم من الحجاز إلى مصر في هذا العهد. حدثني حسن الألجن التاجر الحويطي الذي يتجر بالإبل والغنم مع الحجاز، قال:
نأتي بالإبل والأغنام من الحجاز إلى ميناء الشيخ حميد، ونعبر بها خليج العقبة الصبح في مراكب، فنصل ميناء النبك إذا ساعدت الريح بساعة ونصف، ثم نسير من النبك الضحى شمالا بغرب نحو 3 ساعات، فنصل وادي الأرطة، فنسند معه حتى نلتقي وادي البدع فنبيت فيه أول ليلة، ثم نسند مع وادي البدع إلى أن نلتقي وادي رتامة - فرع من البدع - الظهر، فنقيل فيه، نستطرد السير في هذا الوادي قليلا، فنعرج عن اليمين إلى وادي نقيرات، فنقطعه ونأتي عين الكيد في وادي الكيد، فنبيت ثاني ليلة ثم نصعد في الوادي نحو ساعة، ونعرج إلى اليمين، فنسير بين جبلين، ونقطع وادي الأملح (فرع من مدسوس)، ثم نتسلق نقبا صغيرا، ونهبط في وادي النصب، فنبيت فيه ثالث ليلة، ثم نبرح وادي النصب، ونسير عن شمالنا فيقابلنا وادي زغرة، فنسند معه نحو ساعتين، ثم نتركه عن شمالنا، ونسير إلى يميننا، فنأتي علو العجرمية، فنبيت فيه رابع ليلة، نسير في العلو حتى نأتي عين الأخضر في رأس وادي الأخضر، فنستقي منها، ونستطرد السير إلى رأس نقب الأشيقر، فنبيت فيه خامس ليلة، ومن نقب الأشيقر نهبط وادي الأشيقر، وننحدر معه إلى أن نأتي وادي السيق، فننحدر معه ساعة، ثم نتركه وندخل الرملة، ونسير فيها إلى الشيخ حبوس، فنبيت عنده سادس ليلة، ثم نستطرد السير في الرملة، فنأتي فم وادي النصب «الغربية» الضحى، فنرد الماء ونصدر عنه العصر، فنقطع رملة القرى، ونبيت في وادي الحمر سابع ليلة، نستطرد السير في «طريق البتراء» فنبيت في غرندل ثامن ليلة، ثم في بئر عواد تاسع ليلة، ثم في عيون موسى عاشر ليلة، ثم نأتي إلى مجر السويس الضحى عند كوبري السويس، فنقضي فيه يوما إلى ثلاثة أيام، فيتقاضانا وكيل الحويطات رسم الجمرك والمحجر وهو:
غرش عن كل رأس ماعز، و
غرش عن كل رأس ضأن، و43 غرشا عن كل جمل، ثم نتخذ طريق نابليون إلى بلبيس، فسوق الخانكة قرب المرج، فسوق شبين، فسوق قليوب، فسوق طنان، نبيع الإبل والأغنام، ثم نعود إلى الحجاز بهذه الطريق عينها، فنشتري «سواقة» ثانية وهكذا. ا.ه.
هذا ويذهب من تجار الحويطات من مائة إلى ثلاثمائة تاجر في السنة، يذهبون جماعات تختلف من خمسة إلى عشرين تاجرا، وكل تاجر يذهب مرة أو مرتين أو ثلاثا في السنة، وفي كل مرة يحضر معه من مائة إلى خمسمائة رأس غنم، ومن عشرة جمال إلى مائة جمل، وأكثر تجارة الإبل في هذه الطريق من أبريل إلى أغسطس. (1-8) درب الطور إلى العقبة
تنشأ هذه الطريق من مدينة الطور، وتذهب شمالا بشرق مخترقة سهل القاع، حتى تأتي فم وادي حبران، فتصعد فيه إلى رأسه عند نقب حبران، وتهبط وادي صلاف، وتصعد معه إلى عين غربا، فتنحرف عن اليسار وتقطع «حمادة الشبيحة» إلى وادي الشيخ، فتسند معه إلى قرب الوطية، ومن هناك تتخذ طريق البتراء إلى العقبة، فالبتراء.
كانت هذه الطريق فيما يظهر طريقا تجارية في عهد مملكة البتراء، إذ نرى إلى الآن صخرات نبطية في فم وادي حبران، وقرية حجرية في نقب حبران - كما مر - ولكنها انقطعت الآن بخراب البتراء وتقدم الملاحة في البحار. (1-9) درب غزة أو الشامية
هذه طريق تجارية دينية في شرق سيناء، تنشأ من العقبة، وتتخذ درب الحج المصري إلى مفرق نقب العقبة، فتفارق درب الحج وتتجه شمالا، فتسير في سهل فياح إلى جبال الحمرة، فتخترقها في طريق متعرجة إلى وادي الخميلة، فتنحدر معه جاعلة جبال الصفراء عن اليمين إلى مصب وادي المحابيس الآتي من الشرق، فتتركه وتسير في مرتفع إلى رأس وادي الأغيدرة، فتنحدر معه مارة بجبل سويقة عن اليمين إلى مقطع وادي الجرافي عند مشاش الكنتلة، فمقطع وادي الغبي، فمقطع وادي الخضاخض إلى رأس وادي الأحيقبة، ومن هنا تنحدر أرض التيه الشرقية شمالا بغرب وتصب مياهها في وادي العريش بعد أن كانت تنحدر شمالا بشرق وتصب في وادي الجرافي، فتنحدر درب غزة بوادي الأحيقبة إلى مقطع وادي قرية، ثم تأتي مقطع وادي خريزة، فجبل عريف الناقة تجعله عن اليمين، فمقطع وادي مايين، فمقطع وادي لصان، إذ يكون جبل العنيقة عن اليمين وجبل البرقة عن الشمال، فمقطع وادي الجرور، فمقطع وادي السيسب، فمقطع وادي الجايفي إذ تكون عين قديس عن اليمين، فعين القصيمة في رأس وادي القصيمة، فمقطع وادي القديرات، فمقطع وادي الصبحة، فرأس وادي صرام، فتنحدر معه إلى مصبه بوادي بيرين، وهنا ينتهي حد سيناء ويبدأ حد سوريا، وقد سرت بهذه الطريق إلى هذا الحد، ثم سرت على حدود سيناء مارا بمقطع وادي العوجة، فالمربعة في العجرة، فمقطع وادي الأبيض إلى رفح، وهذه هي مسافة الطريق من العقبة إلى رفح بالأميال:
ميل
من العقبة إلى
المرشش
المفرق
17
جبل سويقة
17
مشاش الكنتلة
14
رأس وادي الأحيقبة
10
جبل عريق الناقة
14
عين القصيمة
14
مقطع وادي العوجة
16
المربعة في العجرة
16
رفح
المجموع
ولنعد إلى طريق غزة: فمن مصب وادي صرام بوادي بيرين تتجه الطريق شمالا بشرق، فتجعل آبار بيرين عن اليمين وخرائب العوجة عن اليسار، وتسير إلى مقطع وادي الحفير، فمقطع وادي الحسنة، فمقطع وادي الأبيض، ثم تجعل جبل القرن عن اليسار وخرائب الرحيبة عن اليمين، وتسير حتى تأتي بئر الصني المشهورة ومنها إلى وادي الشريعة، فغزة، ومسافة هذه الطريق من العقبة إلى غزة 9 أيام بسير القوافل: فيوم إلى جبال الحمرة، ويوم إلى جبل سويقة، ويوم إلى مشاش الكنتلة، ويوم إلى وادي قرية، ويوم إلى وادي الجرور، ويوم إلى عين القصيمة، ويوم إلى وادي الأبيض، ويوم إلى بئر الصني، ويوم إلى غزة. وقد جعلوا في هذه الطريق رجوما لهداية المارة، من ذلك رجمان متقابلان عن جانبي الأغيدرة يسميان «رجم الجندي».
وقد سميت هذه الطريق درب غزة؛ لأنها تنتهي عند غزة، وسميت الشامية؛ لأنها تؤدي إلى بر الشام من الحجاز، وقد كان لها قبل انقطاع درب الحاج المصري سنة 1885 أهيمة كبيرة؛ إذ كان قسم كبير من الحاج الشامي يأتي بها فيلاقي الحاج المصري في العقبة، وكان تجار غزة يأتون إلى العقبة بأنواع الملابس والمآكل والحبوب والفاكهة؛ لبيعها على الحجاج في الذهاب والإياب، وأما الآن فبانقطاع درب الحاج المصري عن البر فقدت تلك الأهمية، إذ لم يعد يمر بها من الحجاج الشوام إلا من ندر، ولا يطرقها سوى بعض بدو الحجاز وشرق سيناء، يأتون بها إلى غزة لبيع الإبل والغنم والسمن وشراء الأقمشة والحبوب. (2) طرق سيناء الداخلية (2-1) طريق نخل من شط السويس ببئر المرة
هذه أخصر الطرق المستعملة الآن من شط السويس إلى نخل، تسير من الشط متجها شرقا في سيل وادي الراحة ساعتين إلا ربعا، فتأتي بئر المرة المار ذكرها، ومن هنا تترك وادي الراحة عن يمينك، وتصعد في تلال من الرمال نحو ساعة، فتأتي علو النخابير، تسير في هذا العلو ساعة وربع ساعة، فتأتي رملة الشعيفة، تصعد فيها نصف ساعة، فتأتي رملة النغيرة في أعلاها، ومن قمة هذه الرملة تظهر لك السويس، تنحدر منها إلى مفرق مبعوق في رأس وادي المنصرف ربع ساعة من رملة النغيرة، وخمس ساعات إلا ربعا من شط السويس، ثم تصعد في سلسلة من التلال الرملية ثلاثة أرباع ساعة بطريق متعرجة، فتأتي وادي أم إثلة، تصعد في هذا الوادي ثلث ساعة إلى رأسه، ومن هناك إذا التفت وراءك يظهر لك جبل أم عتاقة الذي يطل على السويس من غربيها، ثم تهبط إلى «فرش» بين التلال، تتجمع مياهها في زمن الأمطار، وتسيل في واد يدعى فريشات الشيح، يصب عن يمينك في وادي العشاري (أحد فروع الراحة)، تسير في هذا الفرش ساعة، ثم تنحدر منه في وادي ينتون نحو ثلث ساعة، ثم تتركه يسير إلى مصبه في وادي الحاج عند فشحة الحاج، وتنحرف عن يمينك، فتقطع عدة فروع له إلى أن تأتي مفرق وادي الحاج على نحو ساعة إلا عشر دقائق من مفرق أبو ينتون وثماني ساعات من الشط، وهنا تلتقي درب الحاج المصري المار ذكرها فتسير بها إلى نخل، ومسافة هذه الطريق من شط السويس إلى نخل نحو 18 ساعة، تقطعها القوافل بثلاثة أيام: فيوم إلى الفريشات، ويوم إلى جبيل حسن، ويوم إلى نخل.
مسافات طريق نخل من شط السويس ببئر المرة.
دق
ساعة
من شط السويس إلى:
45
1
بئر المرة بوادي الراحة
1
علو النخابير
15
1
رملة الشعيفة
30
0
رملة النغيرة
15
0
مفرق مبعوق، رأس وادي المنصرف
45
4
45
0
مقطع وادي أم أثلة
20
0
رأس وادي أم أثلة
1
رأس وادي أبو ينتون في الفريشات
20
0
مفرق وادي أبو ينتون
50
0
مفرق وادي الحاج
00
8
من مفرق وادي الحاج إلى:
30
1
شرفة الحاج
30
1
جبيل حسن، مفرق وادي صدر الحيطان
45
0
مقطع وادي الأغيدرة
50
0
مقطع وادي السحيمي
15
1
مقطع وادي النتيلة
50
1
وادي أبو جذل
30
0
النهدين
40
0
مطلة نخل الغربية
30
0
مقطع وادي العريش
30
0
مدينة نخل
50
17
المجموع من شط السويس إلى نخل (2-2) طريق نخل من شط السويس ببئر مبعوق
تسير من شط السويس في سيل وادي الراحة إلى أم رجيم ساعة، فإلى بئر مبعوق ساعتين، ومن هنا إما أن تتخذ طريقا مختصرة في رملة شاقة صعبة المسلك إلى وادي أبو علاقة، وإياك أن تفعل ذلك بلا خبير أمين، أو أن تستطرد السير في بطن الوادي ساعة وثلثا إلى مصب وادي أبو علاقة، ثم تصعد بهذا الوادي إلى رأسه في خمسين دقيقة، ثم في وادي المنصرف خمس دقائق أو أقل إلى مفرق مبعوق، وهو على خمس ساعات وربع من الشط، فتلتقي طريق المرة المار ذكرها، فتتبعها إلى نخل.
وليس في هذه الطريق ماء إلا بئر مبعوق، وكذلك طريق المرة ليس فيها ماء إلا بئر المرة؛ لذلك اهتمت محافظة سيناء حديثا بحفر بئر على الطريق قرب جبيل حسن، فاحتفرت بئرا في وادي صدر الحيطان شمالي الجبل، عمقتها 10 قامات أو أكثر، ولما لم يظهر الماء ولا دليل على الماء تركتها، وهي تحفر الآن بئرا في الوادي المذكور على نصف ساعة غربي جبيل حسن، بلغ عمقها 15 قامة، ولم يظهر الماء بعد، والأمل بظهوره لا يزال بعيدا. (2-3) طريق نخل من شط السويس بوادي سدر
تسير من شط السويس، وتتجه جنوبا إلى عيون موسى، فوادي الإحثا فتقطعه، فوادي سدر، فتسند معه إلى عين سدر، ثم تتجه شمالا بشرق، فتجد قلعة الباشا عن يسارك، وتعترضك فروع وادي العريش فتقطعها واحدا بعد الآخر: وادي المليحة، فوادي الأغيدرة، فوادي السحيمي ، فوادي النتيلة، فوادي أبو خييمي، فوادي أبو كنادو، فوادي أبو طرفا، فوادي أبو جذل، حيث تلتقي درب الحج المصري، فتسير معها إلى النهدين، فمطلة نخل الغربية، فنخل، وطول هذه الطريق نحو 90 ميلا، أي ثمانية أميال إلى عيون موسى، فأربعون ميلا إلى عين سدر، فاثنان وأربعون ميلا إلى نخل. (2-4) طريق الدير من السويس بوادي فيران
قال الخبراء: «تسير من شط السويس في طريق البتراء ساعتين إلى عيون موسى، فمطخ النسر ساعة ونصفا، ومن هنا تتفرع طريق تتبع شاطئ البحر إلى حمام فرعون، وتستمر طريق البتراء مرتفعة عن الشاطئ، فتسير إلى وادي الإحثا ساعتين ونصفا، فوادي سدر ساعتين وثلثا، فوادي وردان ثلاث ساعات، فوادي عمارة ساعتين ونصفا، فحجر الركاب، فعين الهوارة، فوادي غرندل ثلاث ساعات ونصفا، فرجم حصان أبو زنة ساعة، فخط المزراق ربع ساعة، فوادي وسيط ثلاثة أرباع الساعة، فوادي آثال ساعتين، فرجم عريس ثمان عند رأس وادي الشبيكة ربع ساعة، تهبط وادي الشبيكة، وتنحدر معه ربع ساعة، فتأتي وادي الحمر.
وهنا تفترق طريق الدير - كطريق البتراء - إلى طريقين: طريق بوادي فيران، وهي «الطريق السفلى»، وطريق تصعد بوادي الحمر فتخترق «الرملة» وهي «الطريق العليا»، أما الطريق السفلى فتنحدر مع وادي الحمر نصف ساعة فتأتي عين الطيبة، توالي الانحدار في وادي الطيبة إلى ميناء أبو زنيمة ساعة ونصفا، ثم تسير بشاطئ البحر، حتى لقد تخوض بمائه إلى سهل المرخا، فتخترقه إلى خشم اللقم في وادي بعبعة، وهو على أربع ساعات من أبو زنيمة، ثم تصعد بوادي بعبعة إلى مصب وادي الشلال فيه عن يمينك نصف ساعة، فتسند بوادي الشلال إلى رأسه المعروف بنقب بدرة ساعتين، تنزل من النقب إلى وادي السدرة بنصف ساعة، وتصعد بوادي السدرة نصف ساعة، فيلاقيك عن الشمال وادي أقنه أو وادي الفيروز، تسير من هناك ساعة، فتأتي مصب المكتب حيث الصخرات النبطية، ثم تترك وادي السدرة عن شمالك، وتصعد في وادي المكتب إلى رأسه، ومن هناك تنحدر إلى وادي فيران عند مصب وادي نسرين فيه على نحو ساعتين من مصب المكتب، تصعد في وادي فيران إلى مصب الرمانة ساعة، فعرق رجامات البيض ثلاثة أرباع ساعة، فعرق المجرحين نصف ساعة، فحصى الخطاطين ساعة، فالحسوة ثلاثة أرباع الساعة، فمصب وادي عليات ثلث ساعة، فقبة الشيخ أبو شبيب ربع ساعة، فنبع فيران ربع ساعة، فعلو فيران ثلث ساعة، فحجر منقذة النعجة نصف ساعة، فمصب وادي الأخضر بفيران، فبويب فيران ثلث ساعة، ومن البويب فصاعدا يسمى الوادي وادي الشيخ كما مر، تصعد فيه إلى مصب صلاف ربع ساعة أو أقل، فإلى مصب سهب ساعتين وثلثا.
ومن هنا فالقوافل التي تحمل أثقالا تبقى مصعدة بوادي الشيخ إلى الدير مارة بالوطية، فالنبي صالح فالنبي هارون إلى الدير مسافة تسع ساعات ونصف من مصب سهب و12 ساعة من البويب، وأما الراكب على الهجن، فيأخذ طريقا مختصرة: تصعد في وادي سهب إلى رأسه، وتنزل منه بوادي العرف إلى وادي صلاف ثلاث ساعات وثلثا، ثم تصعد في وادي صلاف إلى مصب الحطم ساعة، فإلى الشيخ عواد على وادي غربا نصف ساعة، ومن هنا تترك الوادي، وتذهب شرقا في نقب الهاوية مارة بمضرب سيف عدي ساعتين، فحجر القرارشة نصف ساعة، فسهل الراحة ربع ساعة، فمقام النبي هارون نصف ساعة، فالدير ربع ساعة.
ومسافة هذه الطريق نحو 51 ساعة، يقطعها السياح عادة بتسعة أيام: فيوم قصير إلى عيون موسى، ويوم إلى وادي سدر، ويوم إلى وادي غرندل، ويوم إلى ميناء أبو زنيمة، ويوم إلى وادي المكتب، ويوم إلى حصى الخطاطين بوادي فيران، ويوم راحة بواحي فيران، ويوم إلى الشيخ عواد، ويوم قصير إلى الدير.» (2-5) طريق الدير من السويس بالرملة
أما طريق الرملة - أو الطريق العليا - فتذهب من مصب وادي الشبيكة صعدا بوادي الحمر ساعة إلى مفرق المعاداة «ومن هنا طريق مختصرة إلى عريس ثمان»، فساعتان إلى رأس الحمر، ومن هنا تتجه جنوبا بشرق إلى رملة القرى، فتخترقها إلى مصب النصب بوادي بعبعة ثلاث ساعات، وقد جرت عادة المسافرين أن يحطوا الرحال هنا للراحة، ويذهبوا إلى عد النصب مسيرة نصف ساعة في بطن الوادي، فيسقون الإبل، ويملئون القرب ثم يعودون إلى فم الوادي، ويستطردون السير في وادي بعبعة صعدا، ثم في وادي سوق إلى رأسه ساعتين ونصفا، ومن رأس سوق فإن شئت زيارة سرابيت الخادم تعرج عن يمينك فتصلها في ساعة، وإلا تسر في رملة حمير ثلث ساعة إلى مورد وادي الأحمر فتقطعه، ثم ربع ساعة إلى وادي الخميلة، فتنحدر معه قليلا، ثم تفارقه، وتتجه شرقا إلى الشيخ حميد، وهو من أولياء الجبالية على وادي المريخي ساعة ونصفا، فتقطع وادي المريخي، ثم وادي السيق، وتأتي وادي برق بنصف ساعة، فتصعد معه نحو ساعتين إلى شرفة برق، فترى الشيخ غانم - المار ذكره - عن يسارك على نصف ساعة، تعرج عليه لأخذ الماء من بئره إذا شئت، ثم تعود إلى الطريق، وتسير شرقا في علو الشقيق مارا بقبور أم سليمة نحو ساعة ونصف إلى وادي اللبوة، فتصعد فيه ساعة ونصفا، فتأتي رأس وادي رتامة، تهبط هذا الوادي، وتنحدر معه نحو ساعة، فتأتي قبة الشيخ أبو نجيمة من أجداد أولاد سعيد، ومن هنا تذهب الإبل المحملة أثقالا شمالا بشرق بطريق مرتفعة، تقطع وادي الأخضر، وتأتي بوادي السليف الفوقاني إلى وادي الشيخ فتصعد فيه إلى الدير، وتذهب الهجن شرقا، فتقطع وادي الأخضر، وتأتي بواد السليف التحتاني إلى وادي الشيخ تجاه مصب سهب على نحو ساعة من قبة الشيخ أبو نجيمة، فتصعد في وادي سهب، وتتبع الطريق المتقدم ذكرها إلى الدير.
ومسافة هذه الطريق نحو 48 ساعة، تقطع عادة بثمانية أيام: فيوم قصير إلى عيون موسى، ويوم إلى وادي سدر، ويوم إلى وادي غرندل، ويوم إلى سربو الجمل بوادي الحمر، ويوم إلى رملة حمير، ويوم رأس وادي رتامة، ويوم إلى الطرفا بوادي الشيخ، ويوم قصير إلى الدير.
وأعيد ذكر مسافات هذه الطريق في الجدول الآتي لتسهيل مناولتها، ولو أنها تقريبية.
مسافات طريق 13 الدير من السويس بوادي فيران ونقب الهاوية.
دق
ساعة
من شط السويس إلى
2
عيون موسى
30
1
مطخ النسر
30
2
وادي الإحثا
20
2
وادي سدر
3
وادي وردان
30
2
وادي عمارة
30
3
وادي غرندل
1
رجم حصان أبو زنة
15
0
خط المزراق
45
0
وادي وسيط
2
وادي آثال
15
0
رجم عريس ثمان. رأس الشبيكة 20
15
0
مصب الشبيكة بوادي الحمر
30
0
عين الطيبة، رأس وادي الطيبة
30
1
ميناء أبو زنيمة
4
خشم اللقم بوادي بعبعة
30
0
مصب وادي الشلال بوادي بعبعة
2
رأس نقب بدرة في رأس وادي الشلال
30
0
مهبط نقب بدرة بوادي السدرة
30
0
مصب وادي إقنة بوادي السدرة
1
مصب وادي المكتب بوادي السدرة
2
مصب وادي النسرين بوادي فيران
1
مصب الرمانة بوادي فيران
45
عرق رجامات البيض بوادي فيران
30
0
عرق المجرحين بوادي فيران
1
حصى الخطاطين بوادي فيران
45
0
الحسوة بوادي فيران
20
0
مصب وادي عليات بوادي فيران
15
0
الشيخ أبو شبيب بوادي فيران
15
0
نبع فيران بوادي فيران
20
0
علو فيران
30
0
حجر منقذة النعجة بوادي فيران
20
0
مصب وادي الأخضر بويب فيران
15
0
مصب وادي صلاف بوادي الشيخ
20
2
مصب وادي سهب بوادي الشيخ
20
3
مصب وادي العرف بوادي صلاف
1
مصب وادي الحطم بوادي صلاف
30
0
مقام الشيخ عواد بوادي صلاف
2
مضرب سيف عدي بنقب الهاوية
30
0
حجر القرارشة بنقب الهاوية
15
0
سهل الراحة
30
0
مقام الشيخ هارون
15
0
الدير
15
51
من شط السويس إلى الدير بفيران
مسافات 14 طريق الدير من السويس بالرملة ونقب الهاوية.
دق
ساعة
50
21
من شط السويس إلى مصب وادي الشبيكة بوادي أحمر
1
مفرق المعاداة بوادي الحمر
2
رأس وادي الحمر
3
مصب وادي النصب بوادي بعبعة
30
2
رأس وادي سوق
20
0
مورد وادي الأحمر
15
0
وادي الخميلة
30
1
الشيخ حميد في وادي المريخي
30
0
وادي برق
2
شرفة برق
30
1
وادي اللبوة مخترقا علو الشقيق
30
1
رأس وادي رتامة
1
مقام الشيخ أبو نجيمة
30
0
وادي الأخضر
30
0
مصب وادي سهب بوادي الشيخ
20
8
من مصب سهب إلى الدير كما مر
15
48 (2-6) طريق الدير إلى العقبة فالبتراء «تسير من الدير بوادي الشيخ إلى قبة النبي صالح، فتعرج من هناك شمالا بشرق إلى وادي سعال، فريضان الشكاعة، فوادي حدرة، فوادي الغزالة، فوادي العين، فالنويبع، فالعقبة، ومنها بالطريق المتقدم ذكرها بوادي العربة، فوادي أبو خشيبة إلى البتراء، وطول هذه الطريق سبعة أيام إلى العقبة، فثلاثة أيام إلى البتراء.» (2-7) طريق نخل من الطور بنقب الراكنة «تسير من الطور متجها شمالا، فتخترق سهل القاع إلى الهداهد، وهو مرتع قرب رأس القاع، ثم تسير إلى أن تلتقي وادي فيران، فتسند معه شمالا بشرق إلى مصب وادي نسرين، فتتركه وتعود إلى اتجاهك شمالا إلى وادي المكتب، فتنحدر فيه إلى وادي السدرة، فتسند مع هذا الوادي إلى مصب وادي أم جراف، فتسند معه إلى وادي الخميلة، فتقطعه وتسير حتى تأتي رملة حمير، فتخترقها، وتصعد في نقب الراكنة في جبال التيه، وتنزل منه إلى عين أبو متيقنة في وادي أبو متيقنة، ونسير مع الوادي إلى عرقوب الراهب، وبعد نزولك منه تجد وادي العريش آتيا عن يمينك، فتسير معه إلى مزارع البدارة، ثم تفارقه إلى وادي أبو لقين فتقطعه، فنقب الهيالة، فوادي أبو عليجانة، فتنحدر معه مدة أربع ساعات، ثم تتركه عن يسارك، وتأتي وادي أبو طريفية، فتنحدر معه إلى نخل، ومسافة هذه الطريق ستة أيام بسير القوافل، فيوم إلى الهداهد، ويوم إلى عين لبن، ويوم إلى رملة حمير، ويوم إلى عرقوب الراهب، ويوم إلى نقب الهيالة، ويوم إلى نخل.» (2-8) طريق الدير من الطور بوادي إسلا «للدير من مدينة الطور طريقان شهيرتان: طريق بوادي إسلا، وطريق بوادي حبران، أما طريق وادي إسلا: فتتجه جنوبا بشرق، فتخترق سهل القاع العظيم إلى فم وادي إسلا، فتصعد معه إلى مصب وادي الطرفا، فتصعد بوادي الطرفا إلى رأسه، وتنزل معه إلى وادي الرحبة، فتقطعه وتتسلق نقب عمران، ثم تنزل منه إلى وادي الرتج (فرع من وادي النصب الشرقية)، فتقطعه وتتسلق نقب السباعية، ثم تنزل منه إلى وادي السباعية، فتنحدر مع السباعية قليلا، ثم تذهب غربا إلى جبل المناجاة وتنزل منه إلى الدير.
ومسافة هذه الطريق ثلاثة أيام للحملة: فيوم إلى عين القصبة في وادي إسلا قرب مصبه بالقاع، ويوم إلى وادي الطرفا، ويوم إلى الدير.» (2-9) طريق الدير من الدير بوادي حبران «أما طريق حبران، فتتجه شمالا بشرق، فتخترق سهل القاع إلى فم وادي حبران، فتصعد فيه إلى أعلاه إلى نقب حبران، ومنه تنزل إلى وادي أم صلاف، فتسند معه إلى عين غربا، ثم تقطع حمادة الشبيحة إلى وادي الشيخ، فتسند معه ساعة إلى الطرفا ، وساعة إلى الوطيا، وثلاث ساعات ونصف إلى الدير، هذه هي أسهل الطرق من الدير إلى الطور، وهي طريق إبالة البدو الذين ينقلون الغلال والبضائع إلى الدير.
وطول هذه الطريق للقوافل أربعة أيام: فيوم إلى فم وادي حبران، ويوم إلى مهبط الدرب بوادي صلاف، ويوم إلى الطرفا بوادي الشيخ، ويوم قصير إلى الدير.
ولهذه الطريق طريق مختصرة من نقب حبران، تنحرف عن يمين المسافر في نقب العجاوة نحو نصف ساعة إلى وادي صلاف، ثم طريق مختصرة ثانية من قبر الشيخ عواد، تصعد منه في نقب الهاوة فسهل الراحة فالدير، وهذه هي طريق البريد والمسافرين على الهجن، وطولها يومان طويلان: يوم إلى وطية حبران، ويوم إلى الدير.» (2-10) طريق السويس من الطور «كان بعض الحجاج قبل إقفال درب الحج المصري واتساع الملاحة في البحر الأحمر، يأتون بالمراكب من النويبع إلى الشرم أو إلى مدينة الطور، ومنها يذهبون برا إلى السويس بستة أيام: فيوم إلى الهداهد عند رأس القاع الشمالي، ويوم إلى ميناء أبو رديس، ويوم إلى فم الطيبة، ويوم إلى وادي عمارة، ويوم إلى وادي وردان، ويوم إلى السويس.
وكانت محافظة سيناء ترسل بريد الطور بهذه الطريق إلى سنة 1907، إذ صارت بواخر الشركة الخديوية تمر بالطور، فانقطعت طريق البر، واستغني عنها بطريق البحر.» (2-11) طريق نخل من الدير بنقب الراكنة «تسير في طريق الدير العليا المؤدية إلى السويس، حتى تلتقي طريق نخل من مدينة الطور في رملة حمير، فتتبعها إلى نخل، ومسافة هذه الطريق ستة أيام: فيوم إلى وادي السليف، ويوم إلى وادي برق، ويوم إلى مهبط نقب الراكنة الجنوبي، ويوم إلى مزارع البدارة بوادي العريش، ويوم إلى وادي أبو عليجانة، ويوم إلى نخل.» (2-12) طريق نخل من الدير بنقب المريخي «تسير في طريق الدير العليا المؤدية إلى السويس حتى تأتي وادي السيق، فتصعد فيه إلى نقب المريخي، وتتجه شمالا بشرق فتأتي وادي السقي، وهو فرع من وادي أبو لقين، وفيه قبر ولي يزار من التياها يدعى «الشيخ محمود»، تنحدر مع هذا الوادي إلى وادي أبو لقين إلى أن تلتقي درب نخل الآتية من الطور، فتتبعها إلى نقب الهيالة فنخل.
ومسافة هذه الطريق سبعة أيام: فيوم إلى علو العجرمية، ويوم إلى وادي السيق، ويوم إلى رأس نقب المريخي، ويوم إلى قبر الشيخ محمود، ويوم إلى نقب الهيالة، ويوم إلى نخل.» (2-13) طريق نخل إلى غزة بوادي المويلح «تسير من نخل بوادي العريش على ضفته اليمنى متجها شمالا بشرق نحو جبل إخرم، فتقطع وادي الرواق وتمر بالخفجة، ثم تقطع وادي العقابة حتى تصل إخرم، فيظهر لك جبل الشريف، فتتجه نحوه وتقطع وادي الفهدي، ثم وادي قرية ثم وادي الشريف، وعند وصولك إلى جبل الشريف يظهر لك جبل المويلح، فتتجه نحوه وتقطع وادي الجرور، ثم وادي السيسب، ثم وادي الجايفي حتى تأتي وادي المويلح، فستند معه إلى وادي الصبحة، فتسند معه إلى أن تلتقي درب غزة قرب رأس وادي صرام، فتتبع الدرب المذكورة إلى غزة، ومسافة هذه الطريق سبعة أيام: فيوم إلى وادي العقابة، ويوم إلى وادي قرية، ويوم إلى وادي الجرور، ويوم إلى وادي صرام، ويوم إلى وادي الرحيبة، ويوم إلى وادي الشريعة، ويوم قصير إلى غزة.
وقد كانت هذه الطريق مطروقة جدا قبل انقطاع درب الحج المصري، فكان كثير من تجار غزة يأتون إلى نخل بتجارتهم يبيعونها للحجاج، والآن يطرق هذه الطريق أهل نخل وضواحيها يذهبون إلى غزة لجلب الحبوب، ويطرقها بعض السياح الآتين من الدير، وبعضهم يذهب إلى غزة بطريق نخل والعريش كما سيجيء.» (2-14) طريق نخل إلى العريش «تسير من نخل متجها نحو مطلة نخل الشمالية فتقطع وادي أبو طريفية، ثم وادي العريش حتى تصلها، فيظهر لك جبل المنشرح في الشمال، فتتجه نحوه وتقطع وادي البروك حتى تحاذي الجبل المذكور، فتتركه وتترك جبل يلك عن يسارك، وتستمر في اتجاهك شمالا إلى أن تأتي آبار الحسنة في وادي الحسنة، وتتبع وادي الحسنة إلى مصبه في سر الحسنة، تسير في السر جاعلا الأبرقين، ثم جبل ألبني عن اليمين، وجبل المغارة عن الشمال، حتى يظهر لك جبل ريسان عنيزة، فتتجه نحوه حتى تقترب منه، وتسير فتجعله عن يسارك، وتمر برجم الحمضة، ثم ببئر لحفن ومنه إلى العريش، ومسافات هذه الطريق: ساعة إلى مطلة نخل، فأربع ساعات إلى وادي البروك، فثلاث ساعات إلى محاذاة المنشرح، فثلاث ساعات إلى آبار الحسنة، فساعة إلى سر الحسنة، فساعتان إلى محاذاة الأبرقين، فثلاث ساعات إلى محاذاة ألبني، فأربع ساعات إلى رجم الحمضة، فساعة إلى بئر لحفن، فساعتان إلى العريش، ويقطعها المسافرون عادة بثلاثة أيام: فيوم إلى محاذاة المنشرح، ويوم إلى محاذاة ألبني، ويوم إلى العريش.» (2-15) طريق نخل إلى الإسماعيلية «تتجه هذه الطريق شمالا بغرب إلى أن تأتي «ثمادة البروك» في وادي البروك، وليس في هذه الطريق ماء في غير هذه الآبار، فتستمر في الاتجاه نفسه جاعلا جبل يلك عن اليمين، حتى تقطع الدرب المصري بين بئر الجفجافة وبئر الجدي، وتسير في سر الحقيب إلى وادي أم خشيب، جاعلا جبل أم خشيب عن اليسار، ثم تخترق السهل الرملي الفياح إلى الإسماعيلية، ومسافة هذه الطريق أربعة أيام: فيوم إلى وادي أبو جذل، ويوم إلى سر الحقيب، ويوم إلى وادي أم خشيب، ويوم طويل إلى الإسماعيلية.» (2-16) طريق نخل إلى النويبع «تسير من نخل متجها جنوبا بشرق إلى وادي الغبية فتقطعه، ثم وادي الرواق فتقطعه، ثم وادي الفيحي فتقطعه، ثم وادي المشيش، فتسند معه نحو ساعة إلى بئر المشيش، ثم تترك هذا الوادي، وتستطرد السير جنوبا بشرق إلى وادي قديرة، فتنحدر معه إلى وادي الشيخ عطية فتتبعه إلى النويبع، ومسافة هذه الطريق ثلاثة أيام: فيوم إلى وادي الفيحي، ويوم إلى الشيخ عطية، ويوم إلى النويبع.» (2-17) طريق النويبع إلى غزة بوادي المويلح «تسير من النويبع مصعدا بوادي العين إلى وادي شعيرة الدبس، فتصعد فيه إلى جبل الشعائر، وتنقلب منه إلى بئر الثمد، ومنها شمالا إلى وادي المويلح، فتذهب بالطريق المعتادة إلى غزة، قيل وكانت هذه الطريق مطروقة كثيرا في القديم؛ لما كان للدير مركز قرب غزة، وكان الدير يجلب حبوبه من تلك المدينة، بل كان زوار الدير يأتونه من هذه الطريق كما كانوا يأتون بطريق نخل ونقب الراكنة أيضا، أما الآن فقل من يستعملها إلا عرب النويبع يتخذونها لجلب الحبوب من غزة، كما يتخذون «طريق البتراء» لجلب الحبوب من السويس، قالوا: وطول الطريق من النويبع إلى غزة كطولها من النويبع إلى السويس، ولكن العربان تبحث في أي البلدتين تباع الحبوب أرخص مما في الأخرى فتذهب إليها.» انتهى كلام الخبراء في الطرق. •••
هذه هي أشهر طرق سيناء الداخلية والخارجية، وأهم ما يجب الالتفات إليه لتحسين حال الطرق: إقامة أنصاب من حديد تبين فيها مسافات الطرق المطروقة وجهة السير، وبناء مظلات من حجر لراحة المسافرين؛ لأنك قد تسير ساعات وأياما في طرقها، فلا ترى شجرة أو صخرة تستظل بها، وأهم من ذلك كله حفر آبار بكل جهة يظن فيها وجود الماء على تلك الطرق كما تفعل محافظة سيناء الآن.
الفصل الخامس
في آثار سيناء حسب مداتها
لم يقم في سيناء في عصر من العصور مملكة أو أمة تركت لها أثرا في التاريخ، ولكن تملكها المصريون القدماء، وعدنوا فيها الفيروز والنحاس والمنغنيس منذ عهد الدولة الأولى إلى الدولة العشرين، وساد بها النبطيون مدة، ثم تملكها اليونان فالرومان فالبيزنتيون فالعرب المسلمون الذين تملكوا مصر على التعاقب كما سيجيء مفصلا في باب التاريخ، وكان سكان سيناء الأصليون العمالقة وغيرهم يسكنون في أكواخ من الحجر الغشيم والطين، فلما جاء العرب أبادوا السكان الأصليين أو أذلوهم، وسكنوا في خيام من الشعر أو أغصان الشجر إلى اليوم.
وقد تركت كل أمة ملكت سيناء آثارا تقدم ذكرها ببعض الإسهاب في مواضعها في الفصول السابقة، ونعيد ذكرها هنا سردا حسب مداتها لزيادة الإيضاح، وهي تجتمع تحت خمس رءوس كبار: (1) آثار السكان الأصليين
وهي أربعة أنواع من المساكن: «النواويس، والقصر، والدوارات، والمغاور». أما «النواويس» فهي أكواخ متينة جدا من الحجر الغشيم والطين، مبنية على شكل حلزوني، وأكثرها في بلاد الطور وجبال التيه الجنوبية، وأفضل ما رأيت منها نواويس نقب حبران.
وأما «القصر» فهي أكواخ من الحجر والطين أصغر حجما من النواويس، ولم أر منها إلا في وادي الملاحة أحد فروع حبران، وقد تقدم وصفها.
وأما الدوارات فهي دوائر أو زرائب من حجر غشيم، كالدوارات التي يصنعها البدو الآن من الحجر وأغصان الشجر، فيسكنون فيها هم وبهائمهم، وترى بقايا دوارات السكان الأصليين في كل جهة في الجزيرة.
وأما «المغاور» فأكثرها في جبال بلاد الطور وجبال التيه، وما زال العرب يستخدمونها في زمن الأمطار إلى اليوم. (2) آثار المصريين القدماء
وأهمها هيكل لعبادة الآلهة هاتور والإله سبدو في سرابيت الخادم، وصخرات هيروغليفية في سرابيت الخادم ووادي المغارة، وآثار تعدين النحاس في وادي النصب والفيروز في وادي المغارة، وخرائب مدينة الفرما وقلعتها عند فم فرع البليوسي، والتل الأحمر عند القنطرة. (3) آثار النبطيين
وهي صخرات عليها كتابات بالنبطية على الطرق التجارية وفي جوار المعادن والأماكن المقدسة، ومعظمها في بلاد الطور في أودية حبران، والنصب، والحمر، وفيران، والمكتب، والمغارة، وضواحي جبل سيناء وجبل سربال وغيرها. (4) آثار اليونان والرومان والبزنتيين
وهي آثار مدائن وقلاع وآبار وأحواض وهرابات للماء وسدود في الأودية، وكنائس وأديرة ومناسك في الجبال منذ القرن الثاني للمسيح أو قبله إلى القرن السابع.
ومنها في بلاد الطور: دير طور سيناء القائم إلى اليوم، وخرائب أديرة وكنائس وبروج ومناسك في جبل سيناء وجبل سربال ووادي فيران، وخرائب دير وكنيسة في وادي الطور، وكنيسة عامرة في مدينة الطور.
وفي بلاد التيه: هرابات للماء في جوار جبل الحلال، وهرابة للماء وقلعة في جبل المغارة، وبرك ماء وسدود في أودية بيرين والقديرات والعوجا ومايين، وخرائب مدينة فخمة وقلعة وكنيسة في وادي العوجا.
وفي بلاد العريش: خرائب مدينتي رفح وأم عمد، وفيها أعمدة غرانيتية وآبار وهرابات للماء والحبوب، وخرائب قلعة وبئر في «خربة الرطيل» في الجورة شرقي العريش، وخرائب مدن عسلوج، والشيخ زويد، واليزك، والبردويل، والخوينات، والفلوسيات، والقلس، والمحمدية على شاطئ البحر المتوسط بين رفح والفرما، وبئر نقع شبانة على الدرب المصري، وقلعة لحفن وبئر لحفن ورجم القبلين على وادي العريش قرب مدينة العريش. (5) آثار الإسلام من عرب وأتراك
وهي آثار قلاع، وجوامع، وقبور أولياء، وصخرات عربية، وأنقاب في الجبال.
ومنها في بلاد الطور: جامع وخرائب قلعة في مدينة الطور، وجامع في دير طور سيناء، وجامع على طور سناء، وخرائب قلعة في جزيرة فرعون.
وفي بلاد التيه: النواطير الثلاثة، وقلعة نخل، ونقب دبة البغلة، ونقب العقبة، وصخرات عربية في النقبين المذكورين، وقلعة العقبة، وكلها على درب الحاج المصري، وقلعة الباشا قرب عين سدر، وقلعة مبعوق وأم رجيم في وادي الراحة.
وفي بلاد العريش: جامع وقلعة في مدينة العريش، ومدينة القنطرة، وتل حبوة، وبئر الدويدار، وبئر وخرائب قلعة في قطية، وبئر العبد، وبئر المزار، وخرائب برج وبركة في الخروبة، وكلها في طريق العريش، وقلعة الطينة وقلعة البلاح وتل هربة، وتل الحير، وتل الفضة، وتل الذهب في جوار الفرما.
وقد وجد الباحثون في آثار سيناء القديمة كثيرا من أصناف النقود النحاسية والفضة والذهب من عهد الرومان البزنتيين والإسلام، وعثرت في أثناء أسفاري في سيناء من سنة 5-1913 على كثير منها.
وأهم الآثار التي تركها العرب المسلمون (سكان البلاد الحاليين) قبور وقبب أولياء تزار، تعد بالعشرات في جميع الجهات، «ورجوم» (مفردها رجم) وهي حجارة أو كوم من الحجارة أو أتلام أو دوائر في الأرض للدلالة على وقائع مشهورة، وكل هذه القبور والرجوم ذكرت في مواضعها في الفصول السابقة.
هذا وقد أحدثت فيها نظارة الحربية من ضروب الإصلاح ما سنبينه في محله.
وفي سنة 1905 أرسلت نظارة الأشغال المصرية العلامة فلندرس بتري من علماء الآثار إلى وادي المغارة وسرابيت الخادم، فنقب في آثار الفراعنة فيهما، وأحضر إلى المتحف المصري ما خاف عليه من عبث البدو، ويحسن بمصلحة الآثار العربية أن تعنى بالصخرات العربية في درب الحاج وقلاع الباشا ونخل العريش وغيرها.
شكل 5-1: بعض النقود التي وجدت في خرائب سيناء.
الفصل السادس
في حكومة سيناء وإدارتها
(1) الإدارة العسكرية
يدل تاريخ سيناء على أنها كانت في كل عصر قويت فيه مصر تابعة لمصر وللسلطة العسكرية لمصر منذ بدء التاريخ إلى هذا اليوم، وقد أقام ملوك مصر القلاع والأبراج على حدودها الغربية بين رأس خليج السويس وفم الفرع البليوسي، واستولوا على معادن بلاد الطور منذ أيام الدولة الأولى، ثم بنوا القلاع والأبراج في داخليتها وعززوها بالعساكر تأمينا للطرق وتأييدا للسلام بين أهلها، وقد مر بنا ذكر القلاع والأبراج في سيناء في مواضعها، ثم ذكرت سردا حسب مداتها في الفصل السابق.
وأقدم تلك القلاع: الفرما والمحمدية على شاطئ البحر المتوسط عند الفرع البليوسي من عهد الفراعنة، ثم قلعة لحفن وقلعة جبل المغارة في حدود بلاد العريش الجنوبية، وقلعة خربة الرطيل في حدودها الشرقية، وهي في المشهور من آثار الرومان، ثم دير طور سيناء في قلب بلاد الطور شاده الملك يوستنيانوس معقلا لرهبان سيناء حوالي 545م كما مر، وفي منشور أصدره الملك العاضد لدين الله آخر ملوك الدولة الفاطمية في مارس سنة 1169م لرهبان طور سيناء، سيأتي ذكره إشارة إلى «القلاع الطورية»، ثم قلعة الباشا قرب عين سدر من بناء صلاح الدين الأيوبي سنة 1188م، وقلعة مبعوق في وادي الراحة، وهي في الأرجح من بنائه كقلعة الباشا، بناهما لحماية درب الشعوي كما قدمنا، ثم قلعة نخل وهي واحدة من سلسلة قلاع أقامها السلطان قانصوه الغوري (سنة 1501-1516م) في درب الحاج لحماية الحجاج، «فقلعة الطور» المنسوبة إلى السلطان سليم سنة 1520م، شيدت لتأييد الأمن في بلاد الطور، وحماية الحجاج والتجار الذين كانوا يأتون مصر بطريق المويلح والطور والسويس، «فقلعة العريش» التي بناها السلطان سليمان سنة 1560م لحماية طريق العريش بين مصر والشام، فتل حبوة وقلعة قطية وبرج الخروبة على طريق العريش، فتل هربة فتل الحير فتل الفضة وتل الذهب فقلعة الطينة وقلعة البلاح على طريق الفرما، وأكثر هذه القلاع الآن مهجورة أو خراب.
ولما تسلم المغفور له محمد علي باشا زمام الأحكام في مصر سنة 1805م، لم يكن في سيناء إلا ثلاث قلاع وهي: «قلعة الطور، وقلعة نخل، وقلعة العريش»، وكان في كل منهما حامية صغيرة من عساكر الباشبوزق، ولما تغلب على الوهابين سنة 1818م، استولى على الحجاز وقلاعه، واتخذ على نفسه حماية الحرمين، ثم كانت الحرب بينه وبين تركيا في سوريا، وفي نهايتها في عهد السلطان عبد المجيد سنة 1840 استرجع السلطان الحجاز، وجعلها ولاية عثمانية، لكن بقيت العساكر المصرية تحمي درب الحاج المصري في قلاع نخل والعقبة والمويلح وضبا والوجه إلى أن أهملت الدرب المذكورة سنة 1885، فقامت الدولة العلية تطالب مصر بهذه القلاع، وكانت مصر إذ ذاك مشتعلة بالثورة السودانية، وقد نهكتها الثورة العربية، ولم يكن لها حاجة ماسة بالقلاع الحجازية، بل كانت تنفق عليها على غير جدوى، فسلمت الوجه سنة 1887م، ثم ضبا والمويلح سنة 1891، ثم العقبة سنة 1892م.
وكانت القلاع الحجازية إلى هذا العهد تابعة في الإدارة لقلم الرزنامة بالمالية، فلما سلمت العقبة للدولة العلية سنة 1892م، سلخت بلاد التيه عن قلم الرزنامة، وألحقت بنظارة الحربية إداريا وماليا وعسكريا، وجعلت تحت إدارة مدير المخابرات بمصر القاهرة، وإشراف سردار الجيش المصري وناظر الحربية، وكانت بلاد الطور تابعة في الإدارة لمحافظة السويس، وقد تهدمت قلعتها منذ سنة 1826م، فألحقت إداريا ببلاد التيه بأمر صادر من نظارة الداخلية إلى نظارة الحربية في 23 مارس سنة 1893م، وجعل على بلاد التيه وبلاد الطور ضابط من ضباط الجيش المصري العظام برتبة قائمقام، ولقب «قومندان جزيرة سيناء» ومركزه نخل، وجعل في كل من مدينتي نخل والطور مركز إداري فيه نفر من عساكر البوليس غير النظامي، وعليهم ضابط من ضباط الجيش المصري برتبة ملازم ولقب «ناظر».
وكانت السردارية بعد خروج عساكرها من العقبة قد جعلتها بضعة أشهر في وادي طابا، ثم وجدت طرق المواصلات إليها شاقة، فبنت قلعة في النويبع سنة 1893 وجعلت فيها بضعة رجال من البوليس، وألحقتها إداريا بنخل، ولا تزال كذلك إلى الآن.
أما بلاد العريش، فإنه بعد انسحاب إبراهيم باشا من سوريا سنة 1843 جردت قلعتها من العساكر، وألحقت بالداخلية وجعل عليها «محافظ» ملكي، ومعه نفر من البوليس.
وبقي الحكم في سيناء على هذا النمط إلى أن كانت حادثة الحدود سنة 1906، فعين حد سيناء الشرقي بالتدقيق، وضمت بلاد العريش إلى قومندانية نخل والطور، وجعل عليها «ناظر»، فأصبحت بلاد سيناء كلها قومندانية واحدة بثلاث نظارات تحت إدارة الحربية، ثم في سنة 1907 سميت القومندانية مديرية، ولقب حاكمها مديرا، وعين لها مدير برتبة قائمقام مركزه نخل، ومفتش عام برتبة بكباشي يقيم غالبا في العريش وكلاهما من الضباط الإنكليز بالجيش المصري، وفي سنة 1911 أبدل لقب مدير سيناء بلقب محافظ، وسميت البلاد محافظة إلى اليوم. •••
هذا، وقد قسم خط الحدود الشرقي بقصد خفارته إلى ثلاث أقسام، وهي: «رفح»، ويمتد من ميناء رفح إلى وادي الأبيض، «والقصيمة» ويمتد من وادي الأبيض إلى رأس وادي الأحيقبة، «ومشاش الكنتلة» ويمتد من رأس الأحيقبة إلى نقب العقبة، وجعل في كل منها مركز بوليس وعليه «وكيل ناظر» من أهل البلاد، وجعل مركز للبوليس في بئر الثمد وآخر في شط السويس على كل منها «وكيل ناظر» من الأهالي، فأصبحت مراكز البوليس تسعة، وهي: العريش، ورفح، ونخل، والقصيمة، ومشاش الكنتلة، والثمد، والنويبع، والشط، والطور، وجعل في كل منها نفر من البوليس الوطني غير النظامي، وجلهم من أهالي نخل والعريش، وعددهم الآن نحو 126 رجلا، معهم نفر من البدو خبراء للطرق، وهم فريقان:
شكل 6-1: بعض بوليس سيناء بلباسهم الرسمي.
بوليس هجانة وبوليس بيادة، ولهم لباس واحد، وهو: على الرأس «عمامة» بيضاء، يشدها عقال يدعونه مريرة، وعلى الجسم سترة مسدودة من الكاكي تزرر من على الكتف، وبنطلون قطني، «وجورب» من الكاكي، وفي الرجلين نعلان كنعال البدو، ولا يفرق الهجانة من البيادة إلا الحزام والسلاح، فحزام الهجانة أخضر، وحزام البيادة أصفر، وسلاح الهجانة قرابينة مرتين أنفيلد، وسلاح البيادة بندقية مرتين أنفيلد. وأما الخبير فيحمل بندقية رمنتون، ومع كل منهم «فشكلك» يعلقه بكتفه الأيمن معترضا على صدره، ويعقده بأبزيم تحت إبطه الأيسر. (2) الإدارة القضائية
أما القضاء في سيناء، فقد كان إلى ما بعد دخولها تحت نظارة الحربية في أيدي قضاة البدو يحكمون بينها بالعرف والعادة، إلا بلاد العريش ومدينة الطور، فإنهما كانتا تابعتين في القضاء لمصر، أما مدينة الطور فقد مر بنا أنه كان فيها قديما قاض يرجع بأحكامه إلى قاضي السويس، ثم بعد صدور لائحة ترتيب المحاكم الأهلية في القطر المصري في 14 يونيو سنة 1883 أدخلت ضمن دائرة اختصاص محكمة الزقازيق بمقتضى الأمر العالي الصادر في 14 فبراير سنة 1904.
أما محافظة العريش، فإنها بعد لائحة ترتيب المحاكم المشار إليها آنفا صدر أمر عال في 2 يونيو سنة 1884 بإدخال محافظة العريش والجهات التابعة لها ضمن دائرة اختصاص محكمة المنصورة الأهلية، وفي 23 ديسمبر سنة 1897 صدر أمر عال بنقل محكمة المنصورة للزقازيق، وكان قد صدر أمر عال في 19 مارس سنة 1889 وفيه:
المادة الأولى:
يختص محافظ العريش بالنظر والحكم نهائيا في دائرته في القضايا الحقوقية التي لا تتجاوز قيمة المدعى به فيها ألف وخمسمائة غرش، وفي الأفعال الجنائية التي تستوجب العقوبة بالحبس لغاية سبعة أيام. ا.ه.
ثم صدر أمر عال في 28 أبريل سنة 1898 وفيه:
المادة الثانية:
تشكل بالعريش محكمة مؤلفة من محافظها وقاضيها الشرعي، وواحد من أعيانها ينتخبه ناظر الحقانية بالاتحاد مع ناظر الداخلية، وتختص بالنظر والحكم نهائيا فيما يقام بين أهالي هذه المحافظة من القضايا المدنية والتجارية التي تتجاوز قيمة المدعى به فيها ألف وخمسمائة غرش، ولا تزيد عن خمسة آلاف غرش.
المادة السابعة:
القضايا المدنية والتجارية والجنائية التي ليست من اختصاص محافظ العريش أو المحكمة المخصوصة المشكلة بهذه الجهة ترفع لمحكمة بورسعيد الجزئية أو لمحكمة الزقازيق الابتدائية. ا.ه.
وربما كان هذا أصلح قضاء تحكم به بلاد العريش لما هي عليه من البداوة، ولكن بعد ضمها إلى محافظة سيناء شكا أهلها من هذا التغيير، وطلبوا إنشاء محكمة جزئية في مدينتهم، فصدر أولا أمر عال في 5 يونيو سنة 1909 وفيه:
المادة الأولى:
إن جميع الاختصاصات القضائية المخولة لمحافظة العريش بمقتضى الأمر العالي الصادر في 28 أبريل سنة 1898 السابق الذكر، تؤدى بمعرفة قاض من قضاة محكمة الزقازيق الأهلية ينتدبه ناظر الحقانية. ا.ه.
ثم صدر أمر عال في 17 أبريل سنة 1910، وفيه:
المادة الأولى:
يلغى الأمر العالي الصادر في 28 أبريل سنة 1898 الخاص بالنظام القضائي في محافظة العريش، وكذلك القانون نمرة 11 سنة 1909. ا.ه.
وبناء عليه صدر قرار وزاري في 26 أبريل سنة 1910 بإنشاء محكمة جزئية بمدينة العريش، ترجع بأحكامها إلى محكمة الزقازيق الكلية، وبدأت عملها في أول يونيو سنة 1910، فأصبحت بلاد العريش تابعة في القضاء رأسا لنظارة الحقانية وفي الإدارة لنظارة الحربية.
وأما سائر بلاد سيناء، فقد سن لها قانون جديد للأحكام مؤسس على العرف والعادة، ومنطبق على العدالة وحال البداوة عرف «بقانون نمرة 15 لسنة 1911»، وهذه صورته كما نشر في عدد 87 من الجريدة الرسمية في 2 أغسطس سنة 1911. (2-1) قانون بشأن النظام الإداري والقضائي لمحافظة سيناء
نحن خديوي مصر
بعد الاطلاع على قانون العقوبات، وبناء على ما عرضه علينا ناظر الحربية وموافقة رأي مجلس النظار، وبعد أخذ رأي مجلس شورى القوانين؛ أمرنا بما هو آت:
الباب الأول: في سريان القانون
المادة الأولى:
تسري أحكام هذا القانون على جميع شبه جزيرة سيناء، عدا ما يدخل منها في دائرة اختصاص محافظة العريش، وما عدا جهتي عيون موسى والطور.
الباب الثاني: في النظام الإداري
المادة الثانية:
تبقى إدارة محافظة سيناء تابعة لناظر الحربية دون غيره؛ ولذلك يكون له عليها من السلطة ما لكل واحد من النظار، وعليه أن ينيط إدارتها بضابط يعينه لهذا الغرض ويلقب بالمحافظ.
المادة الثالثة:
يكون للمحافظ داخل حدود هذه المحافظة جميع الاختصاصات التي للمدير في مديريته.
المادة الرابعة:
لناظر الحربية - عدا الاختصاصات الممنوحة له بمقتضى المادة الثانية - أن يصدر بعد موافقة مجلس النظار قرارات لحفظ النظام والأمن العام في المحافظة المذكورة، وتنشر هذه القرارات في الجريدة الرسمية، ويجوز أن يجعل سريانها قاصرا على جزء من المحافظة فقط، كما يجوز أن يقرر عقوبتي الحبس والغرامة لما يقع مخالفا لأحكامها، إلا أنها لا يجوز بحال من الأحوال أن تزيد مدة الحبس عن شهر، ولا أن يزيد مقدار الغرامة عن خمسة جنيهات مصرية.
الباب الثالث: في النظام القضائي (1)
في المحاكم واختصاصها:
المادة الخامسة:
يعين ناظر الحربية من بين الموظفين المكلفين بإدارة المحافظة مأمورين قضائيين يناط بهم القيام بالأعمال الآتية بعد.
المادة السادسة:
تشكل بمحافظة سيناء ثلاثة أنواع من المحاكم، وهي: (أ)
محاكم جزئية، يؤلف كل منها من مأمور قضائي بصفة رئيس ومن اثنين عدول. (ب)
محاكم خصوصية، يؤلف كل منها من المحافظ أو مأمور قضائي يندب بمعرفته بصفة رئيس ومن ثلاثة عدول. (ج)
محكمة عليا، تؤلف من المحافظ أو مأمور قضائي يندب بمعرفته بصفة رئيس، ومن اثنين من المأمورين القضائيين بصفة عضوين ومن خمسة عدول.
المادة السابعة:
يحرر المحافظ في كل سنة كشفا بأسماء عدول، يختارون من بين أعيان كل جهة، ويختار العدول لكل قضية من ذلك الكشف بمعرفة المحافظ أو رئيس المحكمة، ويكون ذلك الاختيار بطريق الاقتراع، ويشترط ألا يختار من قبيلة كل خصم أكثر من واحد في المحاكم الجزئية أو المحاكم الخصوصية ولا أكثر من اثنين في المحكمة العليا.
المادة الثامنة:
يكون للعدول رأي استشاري فقط، ويجب تدوين آرائهم في محضر الجلسة، ولهم في جميع الأحوال أن يوجهوا بواسطة الرئيس أسئلة إلى الشهود أو إلى المتهم.
المادة التاسعة:
للخصوم في جميع الأحوال طلب رد واحد أو أكثر من العدول، وإذا رأى الرئيس قبول أسباب الرد بعد أخذ رأي أعضاء المحكمة والعدول الذين لم يطلب ردهم، وجب عليه اختيار غير من ردوا بالطريقة المنصوص عليها في المادة السابعة.
المادة العاشرة:
المحاكم الجزئية غير مختصة بالنظر في الجرائم التي يعاقب عليها القانون بعقوبة جناية، والمحاكم الخصوصية غير مختصة بالنظر في الجرائم التي يعاقب عليها القانون بعقوبة الإعدام أو بعقوبة الأشغال الشاقة، وما عدا ذلك فجميع المحاكم مختصة بدون قيد بالنظر في كل جريمة ترتكب داخل حدود محافظة سيناء، وتكون واردة في قانون العقوبات، أو في هذا القانون أو في القرارات التي يصدرها ناظر الحربية طبقا للمادة الرابعة.
المادة الحادية عشرة:
للمحكمة أن تجازي بالعقوبة المنصوص عنها قانونا أو بأي عقوبة أقل منها عن كل جريمة من الجرائم المختصة بالفصل فيها، إنما لا يجوز للمحكمة الجزئية أن تحكم بالحبس لأزيد من ثلاثة أشهر أو بغرامة تزيد عن عشرة جنيهات مصرية، كما لا يجوز للمحكمة الخصوصية أن تحكم بالحبس لأزيد من سنة واحدة أو بغرامة تزيد عن 50 جنيها مصريا.
المادة الثانية عشرة:
تحكم المحاكم بناء على طلب الخصوم أو بموافقة أغلبية العدول بالعقوبات التي تقضي بها العوائد المحلية الثابتة بدلا من العقوبات التي يجوز لها الحكم بها بمقتضى المادة السابقة إذا كان ما تقضي به العوائد المذكورة غير مخالف للعدالة والآداب. (2)
في التحقيق وفي الإجراءات التي تتبع في المواد الجنائية:
المادة الثالثة عشرة:
إذا رأى مأمور قضائي من بلاغ قدم له أو من أي طريق آخر وقوع جريمة؛ فعليه أن يشرع في إجراءات التحقيق التي يرى لزومها، وله بنوع خاص أن يأمر بتفتيش المنازل، وأن يسمع شهادة كل شخص يرى فائدة في سماع شهادته، وله أن يحضر أمامه كل شخص توجد دلائل قوية على اتهامه ليسمع أقواله.
المادة الرابعة عشرة:
إذا ظهر للمأمور القضائي أن ما أبداه المتهم من الدفاع غير مثبت لبراءته؛ جاز له أن يبقيه محبوسا لمدة لا تزيد عن شهر واحد إلا بإذن من المحافظ، ولا عن ثلاثة أشهر إلا بإذن من ناظر الحربية.
المادة الخامسة عشرة:
إذا رأى المأمور القضائي بعد التحقيق ألا وجه لإقامة الدعوى وجب الإفراج عن المتهم فورا، وإذا وجد وجها لإقامتها وكانت الجريمة قليلة الأهمية؛ وجب عليه أن يشرع في تقديمها للمحكمة الجزئية للحكم فيها في أقرب زمن ممكن، أما إذا كانت الجريمة ذات أهمية ورأى أن العقوبات التي يجوز للمحكمة الجزئية الحكم فيها غير كافية؛ وجب عليه إحالة القضية على المحافظ؛ لتنظر بمعرفة إحدى المحكمتين العليين مع ملاحظة ما نص عنه في المادة العاشرة.
المادة السادسة عشرة:
يصدر ناظر الحربية بموافقة ناظر الحقانية قرارا شاملا للإجراءات التي تتبع أمام المحاكم في المواد الجنائية. (3)
في اختصاص المحاكم في المواد المدنية:
المادة السابعة عشرة:
يكون للمحاكم المشكلة بمقتضى هذا القانون اختصاص في المواد المدنية والتجارية بالكيفية الآتية: (أ)
يجوز للمحكمة الجزئية أن تحكم في كل دعوى مدنية أو تجارية لا تتجاوز قيمة المدعى به فيها عشرين جنيها. (ب)
يجوز للمحكمة الخصوصية أن تحكم في كل دعوى مدنية أو تجارية ، لا تتجاوز قيمة المدعى به فيها مائة جنيه مصري. (ج)
يجوز للمحكمة العليا أن تحكم في كل دعوى مدنية أو تجارية مهما كانت قيمة المدعى به فيها.
ويجوز في جميع الأحوال رفع المنازعات المدنية والتجارية باتفاق الخصوم إلى محكمة يكون نصاب اختصاصها أقل من قيمة المدعى به، وإذا رفعت أمام إحدى المحاكم الخصوصية أو أمام المحكمة العليا دعوى هي من اختصاص محكمة أدنى، جاز للمحافظ أو من ينوب عنه من تلقاء نفسه إحالة الخصوم على المحكمة الأدنى.
المادة الثامنة عشرة:
تحكم المحاكم في المواد المدنية والتجارية بمقتضى قواعد العدل والقانون الطبيعي مع مراعاة ما لا يخالفها من العوائد المحلية الثابتة. (4)
في الشهود:
المادة التاسعة عشرة:
لكل مأمور قضائي أن يكلف بالحضور الشهود الذين يرى فائدة في سماع شهادتهم، سواء كان ذلك في الدعوى الجنائية أو الدعاوى المدنية أو التجارية.
المادة العشرون:
يكون تكليف الشهود بالحضور على يد شخص يندب لذلك الغرض بمعرفة المأمور القضائي وعلى الأخص لمشايخ القبائل.
وعلى كل شيخ كلفه المأمور المذكور بتكليف شاهد بالحضور أن يحضره أمامه في الميعاد الذي حدده لذلك، فإذا أهمل جوزي بغرامة لا تزيد عن أربعة جنيهات مصرية.
المادة الحادية والعشرون:
يجب على الشهود أن يحلفوا اليمين، وذلك مع عدم الإخلال بما للمأمور القضائي وللمحاكم من الحق في سماع أقوال أي شخص على سبيل الاستدلال متى رأى أو رأت فائدة في ذلك.
المادة الثانية والعشرون:
إذا تخلف شاهد عن الحضور بعد تكليفه بذلك قانونا، أو حضر وامتنع عن أداء الشهادة جاز الحكم عليه حكما انتهائيا لا يستأنف بغرامة لا تتجاوز أربعة جنيهات مصرية، فإذا حضر بعد ذلك وأبدى عذرا مقبولا عوفي من الغرامة. (5)
في طرق الطعن في الأحكام:
المادة الثالثة والعشرون:
يجوز للمحافظ في جميع الأحوال من تلقاء نفسه أو بناء على طلب أحد الخصوم أن يلغي أو يعدل أي حكم صادر بعقوبة من محكمة جزئية، ويجوز له في المواد المدنية أو التجارية بناء على طلب أحد الخصوم أن يلغي أو يعدل أي حكم صادر من محكمة جزئية ، وهذا وذاك في خلال الثلاثين يوما التالية لصدور الحكم.
المادة الرابعة والعشرون:
يجوز لناظر الحربية من تلقاء نفسه أو بناء على طلب المحكوم عليه من الخصوم أن يلغي أو يخفض الأحكام الصادرة بالعقوبة في المواد الجنائية من إحدى محاكم الدرجتين العلييين المشكلتين بمقتضى هذا القانون، وذلك في خلال الثلاثة أشهر التالية لصدورها، ويقدم الطلب المذكور إلى المحافظ وهو يبلغه إلى الناظر، ولا تصير - بأي حال من الأحوال - الأحكام الصادرة بعقوبات مقيدة للحرية لمدة تزيد عن سنتين نهائية إلا بعد موافقة الناظر المشار إليه. (6)
في طلب الدعاوى:
المادة الخامسة والعشرون:
إذا رأى ناظر الحقانية أن إحدى الدعاوى الجنائية يجب بسبب صفة المتهم أو المجني عليه فيها ومراعاة لصالح العدالة أن يكون الحكم فيها بمعرفة إحدى المحاكم الجزئية العادية، أو إحدى محاكم الجنايات، وجب عليه إحالتها على النيابة ليصير تحقيقها والحكم فيها بنفس الطريقة التي تتبع بالنسبة للجرائم التي تقع في دائرة اختصاص أقرب محكمة جزئية، وفي هذه الحالة تعتبر جميع إجراءات التحقيق التي سبقت ذلك كأنها أجريت بمعرفة أحد مأموري الضبطية القضائية مندوبا من قبل النيابة.
ويجوز للمحافظ أو من ينوب عنه أن يحيل على ناظر الحقانية بواسطة ناظر الحربية كل قضية يرى وجوب تطبيق هذه المادة عليها، وفي هذه الحالة يجب عليه إيقاف الحكم فيها إلى أن يصدر قرار الناظر بشأنها، والإحالة واجبة إذا كان المتهم من غير سكان محافظة سيناء، وقدم له طلبا بذلك قبل انعقاد المحكمة المرفوعة أمامها الدعوى.
المادة السادسة والعشرون:
لناظر الحقانية أيضا أن يطلب كل دعوى مدنية أو تجارية، ويحيلها على إحدى المحاكم الجزئية العادية أو إحدى المحاكم الكلية، ويكون ذلك بناء على طلب يقدم من أحد الخصوم إلى المحكمة المرفوعة أمامها الدعوى، ويبلغ بمعرفة المحافظ إلى الناظر، ويجب أن يكون تقديم الطلب قبل المرافعة، وفي هذه الحالة يجوز للمحكمة أن تأمر باتخاذ كل الإجراءات الوقتية التي ترى لزوم اتخاذها مراعاة لصالح العدالة إلى أن يصدر قرار الناظر بشأن الدعوى . (7)
في الصلح في المواد الجنائية :
المادة السابعة والعشرون:
يجوز للمحكمة في أي حالة كانت عليها الدعوى أن تقبل الصلح في المواد الجنائية إذا رضي به من أضرت به الجريمة، وكان من رأي أغلبية العدول أنه موافق للعوائد المحلية.
ويجب أن يصدق على قيمة الصلح من أغلبية العدول ومن المحكمة، ويجوز للخصوم أن يطلبوا تقديره بمعرفة العدول إنما يجب موافقة المحكمة على هذا التقدير.
المادة الثامنة والعشرون:
يجوز للمحكمة في حالة قبول الصلح أن تحكم على الأثيم بعقوبة إلا أنها تتخذ الصلح ظرفا مخففا للعقوبة، ويجوز إبقاء المتهم محبوسا إلى حين القيام بجميع شروط الصلح.
المادة التاسعة والعشرون:
يترتب على القيام بشروط الصلح انقضاء الدعوى العمومية. (8)
في التنفيذ:
المادة الثلاثون:
يكون تنفيذ الأحكام في كل من المواد الجنائية والمواد المدنية أو التجارية بمعرفة المحافظ أو مأمور قضائي مندوب من قبله.
المادة الحادية والثلاثون:
يجوز الإكراه البدني لتنفيذ الأحكام الصادرة بالغرامات في المواد الجنائية، ويترتب على الإكراه المذكور إبراء ذمة المحكوم عليه بواقع عشرة غروش عن كل يوم قضاه في الإكراه، ولا يجوز بحال من الأحوال أن تزيد مدة الإكراه عن تسعين يوما.
المادة الثانية والثلاثون:
كل حكم بالإعدام يجب عرضه علينا طبقا لأحكام المادة 258 من قانون تحقيق الجنايات.
المادة الثالثة والثلاثون:
الأحكام القاضية بعقوبات مقيدة للحرية يجوز تنفيذها خارج حدود المحافظة، وإذا تراءى للمحافظة تنفيذ حكم خارج حدود المحافظة؛ وجب عليه إخبار ناظر الحربية؛ ليتخذ الإجراءات اللازمة لذلك.
المادة الرابعة والثلاثون:
يصير تنفيذ الأحكام الصادرة في المواد المدنية أو التجارية بطريق الحجز على ما للخصم المحكوم عليه من الأموال المنقولة وبيعها.
المادة الخامسة والثلاثون:
إذا رأت المحكمة أن الخصم المحكوم عليه بالتعويضات، أو بما يجب رده امتنع عن تنفيذ الحكم مع قدرته على القيام بما حكم به؛ جاز لها مع عدم الإخلال بأحكام المادة السابقة أن تحكم عليه بالإكراه البدني إلى أن يقوم بالدفع أو الرد على حسب الأحوال، ولا يجوز بحال من الأحوال أن تزيد مدة الإكراه المذكور عن ثلاثين يوما.
المادة السادسة والثلاثون:
على ناظري الحقانية والحربية تنفيذ هذا القانون كل منهما فيما يخصه، ويجب العمل به بعد ثلاثين يوما من تاريخ نشره بالجريدة الرسمية.
صدر بالإسكندرية في 5 رجب سنة 1329
أول يوليو سنة 1911
بالنيابة عن الحضرة الخديوية
محمد سعيد
ناظر الحربية
إسماعيل سري
ناظر الحقانية بالنيابة
محمد سعيد
بأمر الحضرة الخديوية رئيس مجلس النظار
محمد سعيد (3) الإدارة المالية (3-1) ميزانية محافظة سيناء
هذا، ومنذ تولت نظارة الحربية إدارة سيناء التفتت إلى إصلاح حالها وحال سكانها وحكومتها، ولا سيما بعد حادثة الحدود، وقد رقت ميزانيتها تدريجا من 3856 جنيها في سنة 1906 إلى 14,711 جنيها في سنة 1914. (3-2) رواتب مشايخ سيناء السنوية
وكانت حكومة مصر بعد فتحها درب الحاج المصري في سيناء قسمت الدرب إلى «دركات»، وألزمت كل قبيلة من القبائل النازلة عليها المحافظة على دركها، وجعلت لمشايخها رواتب سنوية من نقود وحبوب وكساء، ترسل إليهم من قلم الرزنامة بالمالية، ويوزعها عليهم أمير الحاج المصري في طريقه إلى مكة، فلما أهملت درب الحاج وسلمت مصر آخر القلاع الحجازية سنة 1892 إلى الحكومة العثمانية، قطعت رواتب المشايخ القاطنين على درب الحاج في الحجاز من الوجه إلى العقبة، ولكنها أبقت على رواتب مشايخ اللحيوات والتياها القاطنين سيناء، كما أبقت على رواتب المشايخ القاطنين درب الحاج من الوجه إلى مكة، وهذه أسماء المشايخ الذين قطعت رواتبهم من الوجه إلى العقبة منذ سنة 1893 مع راتب كل منهم تجاه اسمه:
مليم
جنيه
990
98
الشيخ محمد حسين جاد
شيخ عربان العلويين
100
128
الشيخ سالم حسن محمد رشيد
من مشايخ العلويين
110
57
الشيخ عواد نصار جازي
من مشايخ العلويين
976
13
الشيخ حسن سليم
شيخ عربان بني عقبة
795
25
الشيخ عليان رفيع
شيخ عربان السواعدين
225
50
الشيخ خضر مقبول
شيخ عربان العمران
660
13
الشيخ سلامة هليل
شيخ عربان العصابين
856
387
المجموع
144
292
وكان يعطى لهؤلاء المشايخ من الفول والدقيق والأرز والعدس والشعير والقمح والبقسماط عينا ما قيمته نحو 292 جنيها
680
المجموع الأكبر
وأما المشايخ الذين أبقت الحكومة على رواتبهم في سيناء، فهذه أسماؤهم ورواتبهم:
مليم
جنيه
271
26
الشيخ سليمان سالم نجم
شيخ اللحيوات من النجمات
165
26
الشيخ قاسم الخليفي
من الخلايفة اللحيوات
875
11
الشيخ حمد مصلح
شيخ التياها من الصقيرات
وفي سنة 1907 قطعت راتب الشيخ قاسم الخليفي؛ لأنه خرج في التحديد الأخير من حكم سيناء، ودخل في حكم الحجاز، وأبقت على راتب الشيخين الباقيين ينقدهما إياه كل سنة محافظ سيناء مع زيادة قليلة جدت، ويأخذ منهما الإقرار الآتي:
أنا الواضع اسمي وختمي فيه أدناه شيخ قبيلة «كذا»، أقر وأعترف أنه حيث كان معينا لنا راتب سنوي من الحكومة المصرية وقت طلوع المحمل الشريف نظير حفظ «دركنا»، ودوام الأمن، وملازمتنا لخدمة المحمل «طلعة رجعة»، وكون الحكومة قررت طلوع المحمل من طريق البحر ابتداء من طلعة سنة 1301 / 1884م، وأحسنت علينا بصرف الراتب المذكور لنا ولجماعتنا رحمة منها بنا قصد استدامة قيامنا بحفظ دركنا ودوام الأمن به لجميع الواردين والمترددين عليه، وما يكون معهم من التجارة وغيرها والمحافظة على بناء القلعة من التخريب ودوام عمارتها، قد تعهدت أنا وجماعتي بقيامنا بهذه الواجبات جميعها مع الشكر لأفضال الحكومة، وإذا - لا سمح الله - حصل بدركنا ما يغاير ذلك، سواء كان من جهة فقدان شيء من أربابه أو إعدام نفوس، فنكون مسئولين ومدانين بكل ما يحدث، وقابلين كل ما يترتب علينا من الجزاءات، وملزمين باسترجاع كل ما يفقد بدون قبول أدنى عذر منا، فضلا عن قطع رواتب القبيلة من نقود وغيره.
وقد حررت هذا التعهد برضائي بدون إجبار، كما أني أقر وأعترف بأن جماعتي أفراد القبيلة موجودون على قيد الحياة، وأن رواتبهم طلعة سنة «كذا» رجعة سنة «كذا» التي قد استلمتها بتاريخه مع راتبي، فإني بحال وصولي إلى جهتي أعطي كل ذي حق حقه بيده، وإذا حصل تشك من أحدهم بعدم استلامه حقه فأكون ملزما بإعطائه إياه من عندي في الحال، وأكون قابلا ما يترتب علي من الجزاء بحسب ما يتراءى للحكومة. ا.ه.
هذا، ولما رأت نظارة الحربية بعد دخول بلاد الطور وبلاد التيه في إدارتها أنها تستخدم مشايخ قبائلهما في مصالحها منحت كلا منهم راتبا سنويا يختلف من 12 جنيها إلى 48 جنيها ، ثم بعد حادثة الحدود سنة 1906 منحت مشايخ بلاد العريش رواتب سنوية حتى بلغت رواتب مشايخ سيناء سنة 1914: «400 جنيه م». (3-3) مصلحة البريد في سيناء
بريد العريش:
للعريش إلى مصر بريد قديم العهد كما مر، ولها الآن إلى القنطرة بريد أسبوعي على الهجن يمر بالدرب الوسطانية، يخرج من العريش الثلاثاء الظهر، فيصل القنطرة الخميس العصر، يستريح يوما في القنطرة، ثم يعود الجمعة الظهر فيصل العريش الأحد العصر وهكذا، وللعريش بريد إلى رفح مرتين في الأسبوع.
بريد الطور:
كان بريد الطور يحمل إلى السويس على الهجن مرة في الشهر، فلما انتظم محجر الطور سنة 1907 كانت شركة البواخر الخديوية قد أنشأت طريقا تجاريا من السويس إلى سواكن فجدة، فصارت تمر بالطور مرة في الأسبوع وتحمل بريدها، فأسبوع تحمله إليها من السويس، وآخر تحمله منها إلى السويس، وفي موسم الحج تمخر بين السويس والطور باخرة خاصة للبريد مرتين في الأسبوع.
بريد نخل:
كان لنخل عند أول إنشاء قومندانية سيناء سنة 1892 بريد إلى السويس، وآخر إلى الطور يحمل على الهجن مرة في الشهر.
ثم في سنة 1903 صار يحمل إلى السويس مرتين في الشهر.
ثم سنة 1906 صار يحمل إلى السويس مرة في الأسبوع ولا يزال يخرج من نخل الإثنين صباحا، فيصل السويس الأربعاء صباحا، فينتظر يوما، ثم يعود الخميس مساء، فيصل نخل السبت وهكذا، وكان بريد نخل إلى الطور يحمل بالبر بطريق نقب الراكنة، فلما انتظم بريد السويس إلى الطور بحرا صار يحمل إليها بطريق السويس.
ثم إن لنخل إلى العريش بريدا أسبوعيا يحمل على الهجن، يقوم من نخل السبت الظهر، فيصل العريش الإثنين صباحا، ثم يخرج من العريش الإثنين مساء فيصل نخل العريش صباحا وهكذا، ولنخل بريد مرتين في الشهر إلى مراكز القصيمة ومشاش الكنتلة وبئر الثمد، ومرة في الشهر إلى النويبع.
ويحمل البريد الآن في سيناء كلها عساكر البوليس الهجانة، إلا بريد العريش، فيحمله هجانة مقيدون بضمانات مالية كما كان الحال في نخل قبل سنة 1909. (3-4) مصلحة التلغراف في سيناء
خط العريش:
إن أول خط تلغرافي أنشأته الحكومة المصرية في سيناء هو خط العريش، فوصلت فيه مصر بالشام على الدرب السلطاني، وطوله من القنطرة إلى رفح 113 ميلا، أخبرني حسن مدخل أحد عمال التلغراف المصري الذي اشتغل بهذا الخط قال: وصل عمال تلغراف الشام إلى رفح قبلنا بعشرة أيام، وكان وصولنا نحن في آخر ذي الحجة سنة 1281ه/26 مايو سنة 1865م.
خط الطور:
وفي سنة 1896 أنشأت السردارية المصرية خطا تلغرافيا من السويس إلى الطور على طريق البريد القديم طوله 125 ميلا، وفتح للعموم في 20 ديسمبر سنة 1897، ثم دخل بعد ذلك محجر الطور، فكان رحمة للحجاج المصريين وسكان الطور معا. (3-5) مصلحة التليفون في سيناء
خط نخل إلى السويس:
ما أتمت محافظة سيناء تحديد التخوم الشرقية حتى شرعت في إنشاء خط للتليفون من نخل إلى السويس بطريق بئر المرة، فتم لها ذلك في 26 سبتمبر سنة 1906، وكان طوله من نخل إلى شط السويس 120 كيلومترا، وإلى مركز نائب الحربية في بورت توفيق 128 كيلومترا.
خط نخل إلى الثمد فالكنتلة:
ثم مدت خطا آخر من نخل إلى الثمد فالكنتلة.
خط نخل إلى القصيمة فالعريش فرفح:
وآخر من نخل إلى القصية 68 كيلومترا، فمن القصيمة إلى العريش 87 كيلومترا، فمن العريش إلى رفح 45 كيلومترا.
وبذلك يمكن محافظ سيناء الآن وهو في نخل أن يخاطب جميع مراكز البوليس في سيناء كلها إما بالتلغراف أو بالتليفون إلا النويبع، وربما أنشأ إليها خطا تليفونيا من الطور بطريق فيران والدير ليتم ربط جميع مراكز سيناء المهمة كلها بعضها ببعض، وفي ذلك من تسهيل الأشغال وترويجها في البلاد ما فيه. (3-6) دخل محافظة سيناء
إن أهل سيناء من بادية وحضر معفون من القرعة العسكرية ومن جميع الضرائب والرسوم، فلا ضريبة ولا رسم على أنفسهم أو عقارهم أو نخيلهم أو زرعهم أو معادنهم أو ملاحاتهم أو صيدهم البري والبحري إلا بحيرة بردويل في شمال بلاد العريش، فإن الحكومة تؤجرها بالمزاد العلني، وتربح منها الآن ألف جنيه في السنة، ونخيل قطية وقطية فإنها كانت داخلة في ضرائب المديرية الشرقية قبل فتح ترعة السويس، فلما فتحت الترعة وضمت قطية وقطية إلى محافظة العريش بقيت الضرائب على نخيلها إلى اليوم، وقد بلغت قيمة عشور النخيل سنة 1913 نحو 1160 جنيها.
وكانت الحكومة تؤجر بحيرة الزرانيق بالمزاد العلني أيضا، فتربح من ذلك نحو 150 جنيها في السنة، فلما كانت سنة 1907 تركتها للأهلين ليصيدوا فيها مجانا، وكذلك كانت الحكومة تؤجر ملاحات العريش وهي ملاحات الشيخ زويد، وسبيكة ومخيزن، وحواش، والمرقب، قيل وهي تغل في السنة نحو 50000 طن من الملح، فتركتها للأهلين لينتفعوا بها بلا مقابل رفقا بهم.
وليس في سيناء كلها مصلحة ذات ريع يذكر إلا إذا حسبنا دخل تلغراف العريش والطور ومحجر الطور ومحكمة العريش وضريبة الإبل والأغنام التي تمر بسيناء من الحجاز وسوريا إلى القنطرة والإسماعيلية والسويس، وهذا تفصيل ما دخل مصر من الإبل والخيل والأغنام من بلاد الشام والحجاز في سنة 1906 مثلا:
الإبل
البغال
الخيل
الغنم
9187
1303
457
22,491
عن طريق القنطرة من الشام
16787
45
316
18,729
عن طريق الإسماعيلية من الشام والعقبة
1635
3
4
13,640
عن طريق السويس من النبك والعقبة
27,609
1,351
777
54,850
الجملة
وحكومة مصر تتقاضى التجار 8 في المائة من أصل الثمن، وأما إذا دخل أهل سيناء مصر بأنعامهم قصد بيعها تقاضتهم جمارك القنطرة والإسماعيلية والسويس رسما قدره 4 في المائة من أصل الثمن، ويقدر ثمن الكبير من إبلهم بأربعة جنيهات ونصف والصغير بجنيه ونصف جنيه، ورأس الضأن بأربعين غرشا والماعز بعشرين غرشا.
وإذا دخل أحدهم مصر بجمل له أخذت منه مصلحة الجمارك نصف جنيه تأمينا، حتى إذا عاد بجمله أعيد له التأمين وإلا فلا. (4) رجال حكومة سيناء
فمركز «محافظ سيناء» مركز عسكري قضائي إداري، ويختلف عن مركز سائر المحافظين؛ لأنه على الحدود؛ ولأن أهل محافظته كلهم أو جلهم بادية.
وهو يرجع بأحكامه عموما إلى «مدير المخابرات» بمصر القاهرة، ومدير المخابرات ينظر بنفسه في المسائل العسكرية والإدارية مستمدا رأي ناظر الحربية وسردار الجيش المصري في المهم منها، ويبعث بالمسائل المالية إلى «سكرتير مالي الحربية»، والهندسية إلى مدير أشغال الجيش المصري، والقضائية إلى ناظر الحربية وناظر الحقانية، ومسائل المحاجر والعربان والبوليس إلى نظارة الداخلية، والمسائل الدينية والجوامع إلى نظارة الأوقاف ، ومسائل البريد إلى مصلحة البوسطة العمومية، والتلغراف إلى مصلحة التلغرافات، ومسائل الأراضي والرخص للبحث عن المعادن إلى مصلحة المعادن بإدارة المساحة بنظارة المالية.
وبالجملة فإن حكومة سيناء منوطة بناظر الحربية وسردار الجيش المصري ومدير المخابرات بمصر ومحافظ سيناء: (4-1) ناظر الحربية الحالي
أما ناظر الحربية الحالي فهو السر إسماعيل سري باشا، المتولي في الوقت نفسه نظارة الأشغال العمومية، وقد سن قانون سيناء الجديد في عهده، وهو من نوابغ هذا القطر المشهود لهم بالتفوق في العلوم الهندسية واستنباط المشروعات النافعة الفنية؛ حتى إن بعض حكومات أوروبا وأميركا سألته زيارة بلادها وإبداء رأيه في طرق ريها، وله مؤلفات نفيسة في الري والهندسة، وقد زان الله هذا الوزير الخطير بأحسن ما زان به وزراء الملوك من خلق كريم وعلم غزير ورأي سديد ولطف ودعة وإيناس. (4-2) السردارون
أما السردارون الذين تولوا أمر سيناء بعد إحالتها على نظارة الحربية فهم:
الجنرال السر فرنسيس غرنفيل باشا:
بطل طوشكي الذي تولى السردارية من سنة 1885 إلى 11 أبريل سنة 1892، وفي عهده في 21 مايو سنة 1885 نمرة 131 قرر مجلس النظار إحالة القلاع الحجازية من قلم الرزنامة بالمالية إلى نظارة الحربية، ثم سلمت القلاع التي في الحجاز إلى تركيا كما مر.
اللواء كتشنر باشا:
بطل الخرطوم، وهو اللورد كتشنر أوف خرطوم واسبال معتمد إنكلترا السياسي في مصر حالا الذي تولى السردارية من 12 أبريل سنة 1892 إلى 21 ديسمبر سنة 1899، وقد عني عناية خاصة بسيناء، وأجرى فيها من الإصلاح كل ما سمحت به ميزانيتها، فضم بلاد الطور إلى بلاد التيه، وجعلها قومندانية واحدة سنة 1892، وبنى قلعة النويبع سنة 1893، وأنشأ خط التلغراف من السويس إلى الطور سنة 1896.
وكان قبل دخوله الجيش المصري قد ندبته الجمعية الجغرافية الإنكليزية مع جماعة من كبار المهندسين لمسح بلاد فلسطين، ثم ندبته من مصر في نوفمبر سنة 1883 لمسح وادي العربة مسحا فنيا، فسافر من السويس مخترقا سيناء إلى العقبة فالبتراء فالبحر الميت فبئر السبع، ومن هناك بالدرب المصري مارا بصنع المنيعي والمقضبة إلى الإسماعيلية ومصر، وقد كتب في ذلك تقريرا نفيسا نشر ملحقا في كتاب سمي «جبل سعير» للأستاذ إدورد هل، وطبع في لندن سنة 1884.
السردار الحالي الفريق الجنرال السر رجينولد ونجت باشا:
بطل 22 ديسمبر سنة 1899، وقد قلد مع السردارية منصب حاكم السودان العام، ومع ذلك يجد من وقته الثمين متسعا للنظر في إصلاح سيناء وحكومتها، وأهم ما كان في سيناء في أيامه تعيين حد سيناء الشرقي، وجعلها كلها محافظة واحدة، وقد عرف السردار الحالي بحب العرب وبلاد العرب ولغة العرب، وقد نال العرب في سيناء والسودان من الخير على يده ما يخلد له في تاريخ القطرين أجمل الذكرى. (4-3) مديرو المخابرات بمصر
شكل 6-2: الكونت كليخن مدير المخابرات سابقا.
شكل 6-3: اللورد إدورد سسل مستشار المالية المصرية الحالي، ومدير المخابرات سابقا.
شكل 6-4: اللواء ستاك باشا السكرتير الملكي لحكومة السودان الحالي، ومدير المخابرات سابقا.
شكل 6-5: الكولونل كليتن. مدير المخابرات ووكيل حكومة السودان الحالي، وفي الحرب الحاضرة تولى أيضا رئاسة أركان حرب القائد العام للجيوش البريطانية بمصر «لقسم المخابرات»، ورقي إلى رتبة «بريجادير جنرال» في 12 أبريل سنة 1916.
أولهم الميرالاي ونجت بك السردار الحالي:
وقد بدأ خدمته بالجيش المصري في 31 مايو سنة 1886، وفي 1 يناير سنة 1894 سمي مديرا للمخابرات الحربية، ثم رقي إلى وظيفة إدجوتانت جنرال في 31 يناير سنة 1899، فبقي إلى 22 ديسمبر سنة 1899 إذ سمي سردارا للجيش المصري وحاكما للسودان العام ولا يزال.
اللواء الشريف تلبوت باشا:
تولى إدارة المخابرات الحربية بعده مدة قصيرة.
الكونت كليخن:
من أمراء العائلة المالكة الإنكليزية، تولى إدارة المخابرات ووكالة حكومة السودان بمصر من 17 فبراير سنة 1901 إلى 14 أكتوبر سنة 1903.
اللورد إدورد سل باشا:
ابن اللورد سلسبري الشهير، تولى إدارة المخابرات ووكالة حكومة السودان العامة بمصر من 15 أكتوبر سنة 1903 إلى 14 نوفمبر سنة 1905، وهو الآن المستشار المالي للحكومة المصرية.
الميرالاي أوين بك:
تولى إدارة المخابرات ووكالة حكومة السودان بالنيابة، ثم بالأصالة من 15 نوفمبر سنة 1905 إلى 27 فبراير سنة 1908، وفي أيامه حصلت حادثة الحدود، فعين رئيسا للجنة الحدود المصرية، ثم نقل مديرا إلى منقلة ولا يزال.
الميرالاي ستاك بك:
تولى إدارة المخابرات، ووكالة حكومة السودان بمصر من 28 فبراير سنة 1908 إلى أكتوبر سنة 1913، وهو الآن اللواء ستاك باشا سكرتير حكومة السودان الملكي بالخرطوم.
الميرالاي كليتن بك:
مدير المخابرات، ووكيل حكومة السودان بمصر الحالي، وكان قبلا السكرتير الخصوصي للسردار وحاكم السودان العام.
ولقد خدمت إدارة المخابرات الحربية في عهد هؤلاء السردارين ومديري المخابرات جميعا، وما زلت في هذه الإدارة، ولي علاقة ماسة بأكثرهم إلى اليوم؛ لذلك ألجم القلم عن امتداحهم وتقريظ أعمالهم، ولكني أغتنم هذه الفرصة وأنا في آخر عهدي في الخدمة؛ لأصرح بمزيد شكري مما لقيته لديهم مدة الثلاثين سنة التي قضيتها معهم من المودة واللطف، وأتمنى لكل بلاد تحبها نفسي أن تحظى برجال راقين يشتغلون فيها بالغيرة والهمة والمقدرة التي اشتغل بها هؤلاء النبلاء في مصر وسيناء، والله أسأل أن يوفقنا جميعا إلى ما فيه مصلحة هذا القطر السعيد، والسلام. (4-4) قومندانات سيناء ومحافظوها
شكل 6-6: الميرالاي سعد بك رفعت. (أ) القائمقام سعد بك رفعت من سنة 1892 إلى 22 أغسطس سنة 1900
أول من تولى قومندانية سيناء بعد دخولها في حوزة الحربية البكباشي سعد أفندي رفعت، وكان اختياره لهذا المنصب عين الحكمة؛ لأنه عربي صميم وضابط باسل شهم، وقد خلق ليحكم العرب، فكان يجالسهم ويؤاكلهم كأنه شيخ لهم، حتى إنه تزوج منهم، وكان يفصل في جميع خصوماتهم بالصلح وسلو العرب، وكان كلما أنهى لهم خصومة نصبوا له «رجما» اعترافا بفضله حسب عادتهم، حتى نصب له في الجزيرة عدة رجوم، ونظموا في مدحه القصائد، وبقي إلى أن نقل إلى حكومة السودان في 23 أغسطس سنة 1900، ثم أحيل على المعاش برتبة ميرالاي، وخلفه على قومندانية سيناء:
شكل 6-7: الميرالاي حامد بك مختار. (ب) القائمقام حامد بك مختار من 23 أغسطس سنة 1900 إلى فبراير سنة 1904
وقد أحسن حامد بك سياسة العرب وأصلح في البوليس، ولكنه لم يحب الخدمة في سيناء، فما صدق أن تخلص منها، وأحيل على المعاش برتبة ميرالاي، وأهم ما كان في أيامه قتال جرى بين اللحيوات على بئر الثمد، وجاء بعده: (ج) القائمقام محمد بك كامل من فبراير سنة 1904 إلى 30 يونيو سنة 1905
وكان أستاذا للعلوم في المدرسة الحربية بالعباسية، فقضى في هذه الوظيفة عدة سنين، وكان من خيرة الأساتذة علما وأخلاقا، وما عتمت الحربية أن رأت أن نفعه في المدرسة الحربية أكثر منه في سيناء، فأعادته إلى المدرسة ورقته إلى ميرالاي ثم إلى لواء وأحالته على المعاش، وأهم ما حصل في سيناء على عهده: خلاف بين الطورة.
ودير سيناء بشأن تأجير الإبل، وقتل رجلين من التياها لرجلين من أهل نخل، وكثر غزو البدو بعضهم لبعض حتى خيف على اختلال الأمن كما سيجيء. (د) الميرالاي سعد بك رفعت قومندانا مؤقتا، والمستر براملي مفتشا ثم قومندانا من 9 يونيو سنة 1905 إلى 17 نوفمبر سنة 1906
فصدر أمر السردار إلى سعد بك رفعت في 30 يونيو سنة 1905 بالسفر إلى
سيناء، وتسلم زمام القومندانية مؤقتا ففعل، وكان قد سمى المستر براملي مفتشا على سيناء في 9 يونيو سنة 1905، وسبق إلى نخل فاتحدا على العمل وسكنا الحال، ولكن لم تنته حركة القبائل حتى بدأت حادثة الحدود في أوائل سنة 1906، فندب سعد بك لبعض مأمورياتها ثم أعيد إلى المعاش، وبقي المستر براملي وحده مباشرا الإصلاح في الجزيرة إلى 17 نوفمبر سنة 1907، إذ ندب إلى وظيفة في حكومة السودان ولا يزال، وسمي على سيناء: (ه) القائمقام باركر بك من 17 نوفمبر سنة 1906 إلى 2 فبراير سنة 1912 مديرا ثم محافظا، والبكباشي بيمش مفتشا
شكل 6-8: اللواء محمد باشا كامل.
وكان باركر بك قبل انتدابه إلى سيناء مساعدا لمدير المخابرات بمصر، وكان من كبار العاملين في تسوية حادثة الحدود، وفي عهده ضمت محافظة العريش إلى قومندانية سيناء، وسميت مديرية ثم محافظة وسمي حاكمها محافظا، وسن قانون سيناء القضائي الجديد نمرة 15 المار ذكره، وقد أحب باركر بك سيناء حبا جما، واشتغل لمصلحتها ومصلحة أهلها بكل جهده، وهو من نوابغ الضباط البواسل المتحلين بالذكاء الفطري والاستعداد العلمي الراقي، ومن أصحاب الرأي والحزم، فسارت البلاد في عهده شوطا بعيدا نحو الإصلاح، واستتب الأمن والراحة في جميع أنحائها، وبقي إلى أن سمي مديرا لمدرسة البوليس في القاهرة بعد أن رقي إلى رتبة ميرالاي، فترك محافظة سيناء في 2 فبراير سنة 1912، وخلفه فيها: (و) القائمقام بيمش بك من 3 فبراير 1912 إلى 1 فبراير سنة 1913 محافظا، والبكباشي بارلو مفتشا
وانحرفت صحة بيمش بك، فاضطر إلى ترك البلاد بعد خدمة سنة، وخلفه عليها: (ز) القائمقام براملي بك المحافظ الحالي
شكل 6-9: اليوزباشي عيسوي أفندي أحمد.
وبقي البكباشي بارلو مفتشا والمحافظ الحالي هو شقيق المستر براملي، وهو محب لسيناء وأهلها، وباذل منتهى الجهد في اطراد الإصلاح الذي تم في عهد أسلافه، وله من البكباشي بارلو سند قوي خبير، وفقهما الله.
هذا، ومن نظار المراكز الذين امتازوا في سيناء:
اليوزباشي عيسوي أفندي أحمد:
بدأ خدمته ناظرا على مدينة الطور سنة 1903 في عهد حامد بك مختار، ثم نقل إلى العريش ثم إلى نخل ولا يزال، وهو من الضباط النجباء المتحلين برقة الطبع، وصحة العزم، وحب الحق والواجب، وقد تقلب عليه ستة من الرؤساء وكلهم أثنوا عليه الثناء الأوفر، وله منزلة رفيعة في نفوس الأهلين من بادية وحضر، ولما نقل من مركز الطور كتب له أعيانها من مسلمين ونصارى كتابا وداعيا بتاريخ 28 نوفمبر سنة 1907 هذا نصه:
تذكار من أهالي الطور إلى حاكمهم عيسوي أفندي أحمد ناظر قلعة الطور السابق
نحن وكلاء دير طور سيناء الشريف بمركز الطور، والأهالي نظهر مزيد الأسف لمبارحتكم بلدتنا التي لا تنسى أيامكم العادلة مدى الدهر، وإننا مهما بالغنا لا يمكننا حصر أعمالكم الجليلة وحسن رعايتكم باللطف والإنسانية التي أظهرتموها مدة توليكم مركز الطور، ولنا العشم من حضرة الخلف أن يتبع خطوات حضرتكم بحسن الرعايا، ويتم ما بدأتموه من الأعمال التي كنا نرجو أن تتم على يدكم، ونرجو أن تذكرونا كما سنذكركم بآثاركم الباقية. رافقتكم السلامة، وأكثر الله من أمثالكم ونسأل الله أن يرقيكم ويسمعنا عنكم ما يسرنا بمركزكم الجديد. (ويلي ذلك عشرون ختما.)
شكل 6-10: اليوزباشي ميخائيل أفندي حبيب.
ومن الخدمات التي أتى بها عيسوي أفندي في سيناء، وتذكر له بالشكر: الإشراف على بناء منشية عباس وجامعها في ضواحي مدينة الطور سنة 1905، ومساعدة مفتش سيناء البكباشي بارلو في تسوية «مسألة الزقبة» من أعمال العريش، وتقسيمها على العربان سنة 1914، بعد أن اشتد الخلاف بين العربان بسببها، وامتد عدة سنين حتى إن كلا من ناظر الحربية والسردار أرسل إليه، كما أرسل إلى البكباشي بارلو، كتابا رسميا بقلم مدير المخابرات بمصر، يشكره فيه على الهمة والمقدرة اللتين أظهرهما في تسوية هذه المسألة بالحكمة والسداد، وعيسوي أفندي لا يزال في أوائل العقد الرابع من عمره، وسيكون له شأن يذكر في الحكومة إذا ساعدته الأقدار.
واليوزباشي ميخائيل أفندي حبيب:
فإنه خدم ناظرا في الطور ونخل والعريش، وذلك من عهد قومندانية محمد بك كامل سنة 1904 إلى عهد القائمقام باركر بك، وهو من أصل لبناني، ولكنه مولود في مصر، وقد امتاز في سيناء - كما امتاز أبوه وجده في لبنان - بالبسالة واقتحام الأخطار، وكان ممن أحسنوا سياسة العرب، فأحبوه وأسفوا على فراقه، وهو الآن مأمور في أحد جبال كردوفان بحكومة السودان.
وأحمد أفندي توفيق:
شقيق الفريق إبراهيم باشا فتحي، مدير الغربية الحالي، كان رئيس القلم العربي بإدارة المخابرات الحربية، فلما كانت حادثة الحدود، وصارت محافظة العريش تحت إدارة الحربية؛ سمي أحمد أفندي ناظرا للعريش في 17 مايو سنة 1906، فبقي فيها إلى 13 ديسمبر سنة 1913، إذ نقل ناظرا لمدينة الطور ولا يزال، وهو من خيرة موظفي الحكومة خلقا وآدابا، وكان في كل مدة خدمته في العريش كما كان في إدارة المخابرات، وكما هو الآن في الطور مظهرا من مظاهر المروءة والنزاهة وحب الخير والسلام لجميع الناس حتى لقبه بعض أهل العريش «بالولي توفيق».
هذا، والقلم العربي الذي خلت رئاسته بنقل توفيق أفندي إلى العريش قد ضم إليه فرع إنكليزي، وجعل برئاسة الشاعر الناثر أسعد أفندي داغر من كبار أساتذة اللغة العربية في مصر والشام، فكان هو والشاعر المطبوع ولي الدين يكن الموظف بنظارة الحقانية، والشاعر الظريف الأصولي حفني بك ناصف المفتش الأول للغة العربية في نظارة المعارف، والكاتب الصحافي المشهور محمد أفندي مسعود الموظف في قلم المطبوعات بنظارة الداخلية - من الأفراد المعدودين الذين رقوا «لغة الدواوين» في حكومتي مصر والسودان، واستحقوا من أبناء هذه اللغة ومحبيها كل ثناء وشكران. •••
ومن وكلاء النظار الذين امتازوا في خدمة سيناء:
الحاج شهاب وكيل ناظر نخل:
وهو من أنجب أهل نخل وأكثرهم خبرة بأحوال البادية وسياستها، «ومحمد آغا أبو جمعة، وكيل ناظر القصيمة»، من نجباء نخل أيضا، وله خبرة واسعة في سلو العرب، «وقطامش آغا عيد، وكيل ناظر رفح» من أهل العريش، وله خدمات تشكر في مأمورية الحدود سنة 1906. •••
ومن الضباط المصريين الذين امتازوا في خدمة سيناء حديثا:
اليوزباشي إسماعيل أفندي المفتي:
من ضباط قسم الهندسة الممتازين بالجيش المصري، ندب سنة 1906 مع ضابطين آخرين من النجباء، وهما الملازم الأول والآن يوزباشي غالي أفندي زكي، والملازم أول والآن يوزباشي علي أفندي حلمي لبناء العمد التي أقرت لجنة الحدود إقامتها على حد سيناء الشرقي، فقاموا بذلك أحسن قيام كما سيجيء، وكانت محافظة سيناء قد أضافت إلى ميزانيتها سنة 1906 مركز ضابط للأعمال الهندسية من بناء وترميم وحفر آبار في الجزيرة، فلما أتم إسماعيل أفندي بناء العمد سمته لهذا المركز، فأجرى بإدارة المحافظ الأسبق والذي قبله من الإصلاح ما يذكر له بأجمل الثناء، وقد اكتشف حجارة جيرية وطبقات جبسية على وجه الأرض في جهات نخل والثمد والقصيمة والحسنة، واكتشف حجارة جيرية في جبل لحفن وقمينة قديمة لباني قلعته، فصنع الجير في القمينة، واستخدمه لبناء مركز رفح وترميم قلعة العريش، وفي سنة 1913 نقل إلى مركز حسن للبوليس في القاهرة، وسمي في مكانه الآن الملازم أول محمد أفندي أمين سرور.
وللحربية مندوب سام في السويس، وهو «المستر فلكونر» ينوب تارة عن مدير المخابرات، وتارة عن محافظ سيناء في قضاء مصالح سيناء في السويس، وفي فض المشاكل التي قد تقع بين بدو سيناء والمسافرين إليها، أو بين بعض عربان سيناء وبعض.
ولمحافظة سيناء مندوب في القنطرة، وهو الأديب أسعد أفندي عرفات المتقدم ذكره، سمي في سنة 1906 لمساعدة موظفي سيناء على تسهيل أسباب السفر إلى العريش، وقضاء مصالح المحافظة والحربية في القنطرة.
شكل 6-11: المستر جننس براملي مفتش ثم مدير سيناء سابقا.
وفي إدارة المخابرات بمصر الآن قلمان يختصان بإدارة سيناء: قلم إنكليزي يرأسه المستر أفنس، وقلم عربي يرأسه يوسف أفندي غنوم، وكلاهما من خيرة رؤساء الأقلام. (5) الإصلاح في سيناء
وأما الإصلاح الذي تم في سيناء منذ خصت إدارتها بنظارة الحربية إلى الآن فهو: (1)
جعل سيناء كلها محافظة واحدة. (2)
تعيين حدها الشرقي بحدود ثابتة بين رفح ورأس طابا. (3)
وضع نظام إداري قضائي لضبط أحكامها ومنع الفوضى بين عربانها. (4)
إنشاء بوليس منظم فيها، وبناء مراكز للبوليس في الطور، والشط، والنويبع، ونخل، والعريش، ورفح، والقصيمة، ومشاش الكنتلة، والثمد.
شكل 6-12: القائمقام باركر بك محافظ سيناء سابقا.
شكل 6-13: القائمقام بيمش بك محافظ سيناء سابقا.
شكل 6-14: القائمقام براملي بك محافظ سيناء الحالي. (5)
بناء منزل لمأمور الحربية في القنطرة، ومحل استراحة للمسافرين إلى العريش. (6)
بناء منشية عباس في ضواحي مدينة الطور. (7)
تعيين مرتبات سنوية لمشايخ العربان في الجزيرة. (8)
ترميم قلعتي نخل والعريش. (9)
مد خط تلغراف من السويس إلى الطور. (10)
مد خطوط تليفونية بين نخل والسويس، وبين نخل والثمد فالكنتلة، وبين نخل والقصيمة فالعريش فرفح. (11)
حفر آبار جديدة في رفح ونخل والكنتلة والطور، وترميم آبار رفيح وخربة الرطيل، وبعض آبار العريش، وبئر القريص، وبئر مبعوق. (12)
بناء سد زراعي في وادي العريش قرب نخل، وإنشاء حديقة متسعة في نخل وغير ذلك، ولا تزال الهمة مبذولة في إطراد الإصلاح في جميع مرافق البلاد.
الفصل السابع
في أجر الإبل في سيناء وقسمة المنافع بين قبائلها
(1) في بلاد الطور
أهم ما ينتفع به قبائل سيناء تأجير إبلهم للسياح والحجاج وزوار الدير ورهبانه ورجال الحكومة والتجار الذين يجتابون بلادهم، وهم يقتسمون أجر الإبل وغيرها من المنافع فيما بينهم بالنسبة إلى قوى القبائل وقدمها في البلاد، ولكل قبيلة حق معين لا تتعداه إلى غيره من حقوق القبائل الأخرى في البلاد الواحدة، كما أن لقبائل كل بلاد حقوقا معينة منذ القديم، فلا تتعداها إلى غيرها من حقوق البلاد الأخرى. •••
أما في بلاد الطور، فقد تقدم أن الصوالحة والعليقات اقتسموا منافع البلاد بينهم بالسوية، فكان لفريق الصوالحة وهم العوارمة وأولاد سعيد والقرارشة «ومعهم بقية بني واصل وبني سليمان» النصف، ولفريق العليقات وهم العليقات «ومعهم النفيعات والسواعدة وبقية الحماضة» ومزينة النصف.
ثم إن فريق الصوالحة يقتسمون نصيبهم في أكثر المنافع على النسبة الآتية: لأولاد سعيد الثالث، وللقرارشة ثلث الثلثين، وللعوارمة الذين هم في الأصل الصوالحة الباقي، أي يكون لأولاد سعيد 3 / 9، وللقرارشة 2 / 9، وللعوارمة 4 / 9 كما سيجيء.
وأما فريق العليقات، فإنهم يقتسمون نصيبهم بالنسبة الآتية: للعليقات النصف، ولمزينة النصف في جميع منافع البلاد إلى «منافع الدير» - أي نقل الرهبان وأمتعتهم وحبوبهم، ونقل حجاج الدير من المسكوب وغيرهم من السويس أو الطور إلى الدير - فإن مزينة لم يكن لهم فيها نصيب، فكان العليقات والصوالحة ينتفعون بها وحدهم، ثم حدث في عهد أجداد الجيل الحاضر أن عليقيا قطع ذراع مزيني، فهب مزينة لأخذ الثأر وهم أكثر عددا من العليقات، فخشي العليقات العاقبة وعقدوا صلحا مع مزينة على أن يعطوهم خمس نصيبهم من بعض منافع الدير، أي من نقل الحبوب من السويس أو الطور إلى الدير ومن نقل السياح الإفرنج الذين يزورون الدير ما عدا الدليل فإنهم لم يشركوهم فيه، وأجرة الدليل مع جمله 20 غرشا صاغا في اليوم الواحد بدلا من 16 غرشا صاغا لغير الدليل، وله فوق أجرته في كل سفرة جنيهان يأخذهما من السياح باسم «كسوة».
وفي ذلك العهد لم يكن يدخل الجزيرة من الإفرنج إلا زوار الدير، فلما كثر تردد الإفرنج إلى الجزيرة قصد النزهة والصيد والتنقيب على المعادن أشرك العليقات مزينة في النصف في نقل الإفرنج الذين لا يزورون الدير، وادعوا أنهم لم يشركوهم في الدليل، فشكا مزينة من ذلك إلى محافظ سيناء الأسبق، وطلبوا منه حقهم في الدليل، فحكم لهم بالنصف كالعليقات، فشكا العليقات إلى محافظ سيناء السابق، فأحالهم على مجلس عرفي، فحكم للعليقات، ولكن المجلس بنى حكمه على شهادة رجل عليقي، قيل إن بعض مزينة الذين حضروا المجلس رضوا بشهادته، فلما درت قبيلة مزينة بذلك هبت طالبة نقض الحكم العرفي من المحافظ الحالي، فعقد مجلسا في نخل في يوليو سنة 1913 حضره جميع مشايخ الطورة ، وندب كاتب هذه السطور لحضوره من مصر، وبعد أن درس المحافظ الحالي القضية درسا مدققا أيد حكم المحافظ الأسبق على قاعدة «أن الحكومة تضع القبائل كلها في مستوى واحد، فلا تميز قبيلة عن أخرى في المنفعة العامة»، فضلا عن أن العليقات عجزوا أن يأتوا بدليل واحد خطي، أو شاهد واحد من غير قبيلتهم على أنه ليس لمزينة حق في الدليل. •••
هذا في قسمة المنافع بين فريقي الصوالحة والعليقات، وأما «الجبالية» خفراء الدير المار ذكرهم، فإنه لم يكن لهم نصيب في منافع البلاد إلا فيما يأتي عن طريق الدير كنقل حبوب الدير وأمتعته ورهبانه وحجاج المسكوب والسياح الذين يزورونه، فإنهم يشتركون في ذلك كله مع العليقات والعوارمة وأولاد سعيد، لكل منهم الربع.
أما الجبالية فلا يشاركون أحدا في ربعهم هذا، وأما القبائل الثلاث الأخرى، فإنهم يشاركون سائر قبائل الطورة على نسبة معينة يأتي ذكرها. •••
ثم لما كثر تردد السياح الإفرنج إلى الجزيرة قصد النزهة والصيد أو التنقيب عن الآثار أو المعادن؛ طلب الجبالية من سائر قبائل الطورة أن يكون لهم نصيب من تأجير الإبل للسياح، فأبوا جريا على قاعدة «ترك القديم على قدمه»، فنصر الدير الجبالية ورفع الأمر رسميا إلى السردار سنة 1905، وشكا العربان من قلة الأجور التي يدفعها الدير لنقل أمتعته وحبوبه، فأصدر السردار أمره إلى الميرالاي سعد بك رفعت وكاتب هذه السطور بالتوجه إلى بلاد الطور وفصل الخلاف، فزرنا الدير وعقدنا فيه مجلسا حضره مطران الدير ومجلس شوراه وجميع مشايخ الطورة، ثم عدنا إلى مدينة الطور وعقدنا اتفاقين: اتفاقا بين قبائل الطور والحكومة، وآخر بين قبائل الطور والدير بشأن تأجير الإبل، أثبتنا فيهما الأجر والشروط القديمة المكتوبة وغير المكتوبة، وفصلنا فيهما حقوق كل قبيلة، ولكنا أحدثنا تحويرا في أجر الإبل، فإننا أقنعنا الرهبان فرفعوا أجرة نقل الحبوب والأمتعة قليلا بالنظر لارتفاع أسعار الأشياء، وأقنعنا القبائل فأعطوا الجبالية قيراطين من حقهم في نقل السياح الذين لا يدخلون الدير. وبذلك رضي الفريقان وصدق السردار الاتفاقين في 26 مارس سنة 1905، فأصبحا مرعيين من ذلك الحين لمدة ثلاث سنوات.
وبعد مضي هذه المدة كان القائمقام باركر بك قد سمي مديرا على سيناء، فعقد اجتماعا في السويس حضره أقلوم الدير ومشايخ القبائل، وحضره كاتب هذه السطور بالنيابة عن مدير المخابرات، فأثبتنا الشروط الأولى مع تحوير طفيف.
ثم اجتمع المدير المذكور ونواب الدير ومشايخ الطورة في مدينة الطور سنة 1906، فحوروا الاتفاقين تحويرا طفيفا، ووقعوا الشروط الآتية التي لا تزال مرعية إلى اليوم: (1-1) اتفاق
بين دير طور سيناء الشريف ومشايخ عرب الطور بشأن تأجير الجمال لنقل رهبانه وحجاجه وزائريه من السياح، ونقل حبوبه وأمتعته وجميع لوازمه من الطور إلى الدير وبالعكس، ومن السويس إلى الدير وبالعكس.
إنه في يوم الجمعة الواقع أول يناير سنة 1909، الموافق 8 الحجة سنة 1326 قد حصل الاتفاق بين سيادة بورفيريوس الثاني مطران دير طور سيناء ومشايخ عربان الطور بحضور جناب القائمقام باركر بك مدير سيناء بشأن تأجير الجمال للآتي ذكرهم وهم: (أ)
حجاج المسكوب والأروام وغيرهم الذين يزورون الدير زيارة دينية. (ب)
السياح الذين يزورون الدير. (ج)
رهبان الدير وحبوبه وأمتعته وجميع لوازمه.
أما بشأن (أ) حجاج المسكوب والأروام الذين يزورون الدير زيارة دينية، فقد تم الاتفاق على ما يأتي:
أولا:
أجرة الجمل الواحد لركوب حجاج الدير المذكورين أو لنقل أمتعتهم من الطور إلى الدير ثلاثون غرشا صاغا.
ثانيا:
أجرة الجمل الواحد لركوب حجاج الدير المذكورين، أو لنقل أمتعتهم من الدير إلى الطور نصف بنتو.
ثالثا:
أجرة الجمل الواحد لركوب حجاج الدير المذكورين، أو لنقل أمتعتهم من السويس إلى الدير وبالعكس، أي من الدير إلى السويس، جنيه إفرنجي.
رابعا:
أن القبائل الأربع الأساسية المسئولة عن تقديم الجمال اللازمة للحجاج المذكورين هم العليقات، والعوارمة، وأولاد سعيد، والجبالية.
خامسا:
هؤلاء القبائل يقدمون الجمال بالسوية، أي كل قبيلة منهم تقدم ربع العدد المطلوب، إلا أن العوارمة يشركون القرارشة في الخمس، أي إنهم يأخذون من القرارشة خمس ما يصيبهم من الجمال لنقل الحجاج، ويعطونهم خمس ما يصيبهم من الأجرة؛ أي خمس الربع، وأما باقي القبائل فلا يشركون أحدا في نصيبهم.
وأما بشأن (ب) السياح الإفرنج وغيرهم الذين يزورون الدير، فقد تم الاتفاق على ما يأتي:
أولا:
أجرة الجمل الواحد للسياح المذكورين، وأمتعتهم من مصر إلى الدير ثلاثة جنيهات إفرنجية، ومن السويس إلى الدير جنيهان إفرنجيان ونصف جنيه، إلا جمل الدليل فأجرته أربعة جنيهات إفرنجية ونصف جنيه؛ أي جنيهان ونصف أجرة جمله، وجنيهان باسم «كسوة» له.
ثانيا:
أجرة الجمل الواحد للسياح المذكورين وأمتعتهم من الدير إلى السويس، أو من الدير إلى نخل، أو من الدير إلى العقبة (بما فيه جمل الدليل) جنيهان إفرنجيان.
ثالثا:
أجرة الجمل الواحد للسياح المذكورين وأمتعتهم من الطور إلى الدير أو بالعكس، أي من الدير إلى الطور 120 غرشا صاغا، هذا إذا كان السفر بطريق إسلا وبطريق حبران، أما إذا كان السفر بطريق فيران، فأجرة الجمل 150 غرشا صاغا.
رابعا:
أن القبائل الأربع الأساسية المسئولة عن تقديم الجمال اللازمة للسياح المذكورين وأمتعتهم هم قبائل العليقات، والعوارمة، وأولاد سعيد، والجبالية، فهم يقدمون الجمال اللازمة بالسوية، ويقسمون الأجرة بينهم بالسوية، أي لكل قبيلة منهم الربع، إلا أن العليقات يشركون قبيلة مزينة في الخمس من نصيبهم وذلك في نقل السياح وأمتعتهم فقط لا في الدليل، والعوارمة يشركون القرارشة في الثلث من نصيبهم في نقل السياح والأمتعة وبالسدس في الدليل، وأما أولاد سعيد والجبالية فلا يشركون أحدا في ذلك كله، فيكون نصيب هذه القبائل في تقديم الجمال وقسمة الأجرة في هذا الشأن كما يأتي: أولاد سعيد الربع، والجبالية الربع، والعليقات الخمس، ومزينة خمس الربع يأخذونه من نصيب العليقات «ما عدا الدليل»، والعوارمة السدس، والقرارشة ثلث الربع «يأخذونه من نصيب العوارمة» والسدس في الدليل مع الوارمة، أي كلما قدم العوارمة الدليل خمس نوبات قدم القرارشة الدليل سادس نوبة.
تنبيه : الجمال التي تؤجر باليومية من الدير تؤخذ من القبائل الأربع حسب هذا البند (انظر بند (3) فصل (أ) من اتفاق الحكومة).
خامسا:
للجبالية وحدهم الحق في مرافقة السياح إلى الأماكن المجاورة للدير، مثل جبل سيدنا موسى، وجبل الصفصافة، وجبل القديسة كاترينا، وغيرها من محلات الزيارة.
وأما بشأن (ج) نقل رهبان الدير وحبوبه وأمتعته وجميع لوازمه، فشروطه:
أولا:
أجرة الجمل الواحد لركوب الراهب، أو لنقل عفشه ومئونته من الطور إلى الدير أو بالعكس؛ أي من الدير إلى الطور 25 غرشا صاغا.
ثانيا:
أجرة الجمل الواحد لركوب الراهب، أو لنقل عفشه ومئونته من السويس إلى الدير أو بالعكس؛ أي من الدير إلى السويس خمسون غرشا صاغا.
ثالثا:
أجرة الجمل الواحد لنقل إردب غلة أو ما يوازي الإردب، أو 120 أقة من أمتعة ومهمات ونحوها، سواء كانت في صناديق أو براميل أو أكياس، من الطور إلى الدير أو بالعكس؛ أي من الدير إلى الطور 25 غرشا صاغا.
رابعا:
أجرة الجمل الواحد لنقل 120 أقة من الخشب والحديد والقرميد من ميناء الطور، أو من ميناء وادي فيران إلى الدير ثلاثون غرشا صاغا.
خامسا:
ثمن القنطار الواحد من حجر البناء والبلاط وحجر الجير المستخرج من جبال القنة واصلا للدير أربعة غروش صاغ، وثمن قنطار الجبس المستخرج من الجبال المذكورة واصلا للدير خمسة غروش صاغ.
سادسا:
إن القبائل الأربع الأساسية المسئولة في تقديم الجمال اللازمة للدير لنقل رهبانه وأمتعته ومهماته وسائر لوازمه هم: العليقات، والعوارمة، وأولاد سعيد، والجبالية، فهم يقدمون الجمال المطلوبة للدير بالسوية، وتقسم الأجرة بينهم بالسوية؛ أي لكل قبيلة منهم الربع، إلا أن العليقات يشركون قبيلة مزينة في الخمس من نصيبهم في نقل الحبوب فقط؛ أي إنهم يأخذون من مزينة خمس ما يصيبهم من الجمال لنقل الحبوب، ويعطونهم خمس ما يصيبهم من الأجرة، أي خمس الربع، ثم إن العوارمة يشركون القرارشة أيضا في الخمس من جميع مطالب الدير؛ أي إنهم يأخذون من القرارشة خمس ما يطلب منهم من الجمال في جميع مطالب الدير، ويعطونهم خمس نصيبهم من الأجرة أي خمس الربع. وأما أولاد سعيد والجبالية فلا يشركون أحدا من القبائل في أي طلب من مطالب الدير.
سابعا:
إذا احتاج الدير إلى جملين فقط يطلبهما من الزهيرات، وهم بدنة من قبيلة أولاد سعيد، إلا إذا كان الطلب مستعجلا فله أن يطلبهما من أية قبيلة أقرب منها إليه.
وفي هذه الشئون الثلاثة تراعى الشروط الآتية:
أولا:
إذا احتاج الدير إلى ثلاثة جمال فصاعدا، يبعث برسول إلى مراكز القبائل الأربع الأساسية المذكورة ويعلنهم بالمطلوب، فمركز الجبالية في الدير، ومركز أولاد سعيد في وادي صلاف أو وادي الشيخ، ومركز العوارمة في وادي السدرة، ومركز العليقات في وادي النصب، فإذا كان الطلب إلى الدير يذهب الرسول رأسا إلى وادي النصب لإعلان العليقات بالطلب، ثم إلى السدرة لإعلان العوارمة، ثم إلى وادي صلاف أو وادي الشيخ لإعلان أولاد سعيد، ولا يجوز له الانحراف عن هذه الطريق إلا إذا صادف أولاد سعيد في طريقه إلى النصب، فيعلنهم ويستطرد السير إلى النصب، أما إذا كان الطلب إلى الطور، فيعلن العليقات والعوارمة الذين في الطور، ثم يذهب إلى الدير بطريق حبران؛ ليعلن أولاد سعيد في وادي صلاف أو وادي الشيخ والجبالية في الدير، وأية قبيلة صادفها في طريقه من القبائل المذكورة.
وأما الميعاد المحدد لحضور الجمال بعد وصول الرسول، فإن كان الطلب إلى السويس فثمانية أيام، وإن كان الطلب إلى الدير فأربعة أيام، وإن كان إلى الطور فأربعة أيام أيضا، إلا إذا كان الطلب لنقل الحبوب فخمسة عشر يوما، ثم إن الميعاد المحدد لنقل الحبوب كلها من الطور إلى الدير ثلاثون يوما من يوم وصول الجمال إلى الطور، والميعاد المحدد لنقل الحمل الواحد من الطور إلى الدير ثلاثة أيام أو أربعة، ومن تأخر عن هذه المواعيد كان مسئولا عن العطل والضرر.
ثانيا:
يكون على كل جمل إلى ثلاثة جمال جمال واحد على الأقل، وصاحب الجمل مسئول عن سلامة المنقول على جمله، سواء كان راكبا أو حملا، فإذا حصل عطل أو ضرر من تقصير صاحب الجمل - لا بالقضاء والقدر - فهو مسئول عنه، وللدير الحق في فرز الجمال ورفض المريض أو الضعيف منها الذي لا يصلح للنقل.
ثالثا:
يدفع الدير الأجرة إلى القبائل في المكان الذي ينتهي إليه النقل، سواء كان في الدير أو في الطور أو في السويس، ويعطي الدير قسائم فيما ينقلونه من حبوب وغيرها، فبعد وصولها إلى محلها تكال أو توزن، فإذا ظهر نقص في الكيل من قدح فأكثر أو في الوزن من ثلاث أقات فصاعدا في حمل الجمل الواحد يحق للدير أن يخصم قيمة النقص من أصل الأجرة.
رابعا:
حيث إن المشايخ المعينين من قبل الحكومة قد يشتغلون بمطالب الحكومة في الوقت الذي يحتاجهم الدير لمطالبه؛ فعلى كل قبيلة أن تعين معتمدا عنها يرضاه الدير ويصدقه جناب مدير الجزيرة يدعى «شيخ الدير»، وذلك للقيام بمطالب الدير فيما يخص قبيلته، ويكون هو المسئول عنها، ولشيخ الدير 20 غرشا صاغا عن كل جمل يؤجر من جمال قبيلته إلى السياح، وذلك نظير أتعابه يأخذه من نصيب القبيلة قبل قسمة الأجرة على أصحابها.
خامسا:
إذا قصرت قبيلة من القبائل الأساسية عن تقديم ما عليها من الجمال في الميعاد كله أو بعضه في أي حال كان، فإن كان لها شريكة فشريكتها تقوم مقامها في سد النقص كله، وإلا قامت القبائل الأساسية الأخرى بتوزيعه عليها بالسوية، أي إذا كان التقصير من الجبالية أو من أولاد سعيد، فالمطلوب من القبيلة المقصرة يوزع على القبائل الأخرى بالسوية، وأما إذا قصر العوارمة فشركاؤهم القرارشة يقومون بالمطلوب كله، وكذلك إذا قصر العليقات فشركاؤهم مزينة يقومون بالمطلوب كله.
ثم إن القبيلة المقصرة في تقديم الجمال عند الطلب تتعرض لأن تدفع للقبيلة التي سدت مسدها غرامة قدرها 25 غرشا صاغا عن كل جمل قصرت به في نقل الحبوب والتبن والأمتعة السهلة الحمل، و50 غرشا صاغا عن كل جمل قصرت به في نقل الأخشاب والحديد، فإذا أبت دفع الغرامة حق للدير فسخ هذا الاتفاق معها، وحذف اسمها من القبائل الأساسية، وفي هذه الحالة إن كان لها شريكة تعطى حصتها إلى شريكتها، وإلا توزع على القبائل الأساسية الأخرى بالسوية، هذا إذا كان التقصير من جميع بدنات القبيلة، وأما إذا كان التقصير من بعض بدنات القبيلة دون البعض الآخر، فلباقي البدنات الحق في تقديم المطلوب كله من الجمال ودفع الغرامة عن قبيلتهم، فإذا عجزوا عن القيام بالمطلوب كله قاموا بما استطاعوا، وما بقي فإن كان للقبيلة شريكة قامت به، وإلا قسم على القبائل الأساسية الأخرى بالسوية، وطولبت البدنات المقصرة بدفع الغرامة للقبيلة، أو القبائل التي سدت مسدها من غير قبيلتها، فإذا أبت حق للدير فسخ هذا الاتفاق معها وإعطاء نصيبها لباقي بدنات قبيلتها، فإذا عجزوا عن القيام به وحدهم قاموا بما استطاعوا، وما بقي فإن كان للقبيلة شريكة قامت به وإلا وزع على القبائل الأساسية الأخرى بالسوية.
سادسا:
يعمل بهذه الشروط لمدة ثلاث سنوات من تاريخه، وعند تمام هذه المدة، فإذا لم يطلب أحد الفريقين تغييرها، فيسري مفعولها لمدة ثلاث سنوات أخرى، وهكذا حتى يطلب أحد الفريقين تغييرها، فتغير بما يناسب الفريقين.
سابعا:
لا يسري مفعول هذه الشروط إلا إذا أمضاها كل من سيادة مطران الدير أو وكيله بالنيابة عنه، وكل من مشايخ القبائل الست، ومشايخ الدير أصحاب الشأن، وشيخ مشايخ عرب الطور بعد موافقة جناب مدير سيناء، وتصديق سعادة السردار، أو جناب مدير المخابرات بالنيابة عن سعادته.
ثامنا:
يعطى من هذا الاتفاق نسخة للدير، ونسخة إلى كل من المشايخ الذين وقعوا عليه، ونسخة إلى جناب مدير سيناء، والنسخة الأصلية تحفظ في إدارة المخابرات بمصر.
شيخ قبيلة العوارمة: سليمان غنيم
شيخ قبيلة أولاد سعيد: صالح بن علي
شيخ قبيلة القرارشة: موسى بن نصير
شيخ قبيلة العليقات: خضر عامر فرحات
شيخ قبيلة مزينة: مدخل سليمان
شيخ الدير عن الجبالية: عطية أبو غنيمان
شيخ الدير عن العوارمة: عوض عتيق
شيخ الدير عن أولاد سعيد: ربيع بن زهير
شيخ الدير عن العليقات: زيدان مدخل
شيخ مشايخ عربان الطور: موسى بن نصير
مطران دير طور سيناء: بورفيريوس الثاني
مدير جزيرة سيناء: باركر
كتب في الطور في أول أبريل سنة 1909، الموافق 10 ربيع أول سنة 1327، مصر في 23 مايو سنة 1909
مدير المخابرات عن سردار الجيش المصري: ستاك (1-2) اتفاق
بين جناب مدير سيناء، وبين مشايخ عرب الطور بشأن تأجير الجمال إلى موظفي الحكومة والسياح الذين يتجولون في الجزيرة بإذن الحكومة.
إنه في يوم الجمعة الواقع أول يناير سنة 1909، الموافق 8 الحجة سنة 1326 صار الاتفاق بين جناب مدير سيناء ومشايخ عرب الطور بشأن تأجير الجمال كما يأتي: (أ)
السياح الإفرنج وغيرهم الذين يتجولون في الجزيرة للصيد أو للسياحة في بلاد الطور بإذن الحكومة. (ب)
موظفو الحكومة.
أما بشأن (أ) السياح الإفرنج وغيرهم الذين يتجولون في الجزيرة للصيد أو للسياحة في بلاد الطور بإذن الحكومة، أي بتصريح من حضرة مدير المخابرات بمصر، فقد تم الاتفاق على ما يأتي:
أولا:
أجرة الجمل الواحد للسياح المذكورين أو أمتعتهم في اليوم ستة عشر غرشا صاغا، إلا جمل الدليل فأجرته في اليوم عشرون غرشا صاغا.
ثانيا:
أن القبائل المسئولة عن تقديم الجمال اللازمة للسياح المذكورين هم العليقات، والعوارمة يشركون بها مزينة، وأولاد سعيد، والقرارشة، والجبالية على النسبة الآتية: للجبالية قيراطان من أربعة وعشرين قيراطا، والعليقات ومزينة أحد عشر قيراطا، لكل منهما خمسة قراريط ونصف، والعوارمة وأولاد سعيد والقرارشة الأحد عشر قيراطا الباقية يقسمونها هكذا: لأولاد سعيد ثلثها والثلثان الباقيان يأخذ القرارشة ثلثها وما بقي للعوارمة، أي يكون للجبالية 1 / 12، وللعليقات 11 / 48، ولمزينة 11 / 48، وللعوارمة 11 / 54، ولأولاد سعيد 11 / 72، وللقرارشة 11 / 108، فإذا جعل نصيب الكل 432 جزءا كان نصيب الجبالية 36، والعليقات 99، ومزينة 99، والعوارمة 88، وأولاد سعيد 66، والقرارشة 44.
ثالثا:
إذا زار هؤلاء السياح الدير بعد تجولهم في الجزيرة، فإن كان مرادهم الذهاب رأسا من الدير إلى خارج برية الطور، أي إلى مدينة الطور أو إلى السويس أو نخل أو العقبة، فتستلمهم من الدير القبائل المسئولة عن السياح الزائرين كما في حرف (ب) من الاتفاق بين الدير ومشايخ الطورة، وإلا فإذا عادوا إلى تجولهم تحسب سبعة الأيام الأولى منذ خروجهم من الدير على أجرة السياح الزائرين، ثم تعود القبائل إلى أجرة السياح المتجولين المنصوص عليهم في البند السابق، ثم إن السياح بعد تجولهم في الجزيرة إذا أرادوا الدخول إلى الدير أو الصعود إلى الجبال المحيطة به كجبل موسى وجبل القديسة كاترينا وجبل الصفصافة وغيرها؛ يلزم أن يأخذوا كتاب توصية من وكالة الدير بمصر، ومتى دخلوا الدير أو صعدوا إلى الجبال المذكورة تجري عليهم الشروط المبينة في حرف (ب) من الاتفاق المعقود بين الدير ومشايخ عرب الطور.
أما بشأن (ب) موظفي الحكومة الذين يذهبون إلى الجزيرة لأشغال رسمية، فقد تم الاتفاق على ما يأتي:
أولا:
أجرة الجمل الواحد لموظف الحكومة عشرة غروش صاغ في اليوم للتجول.
ثانيا:
أجرة الجمل الواحد لموظف الحكومة من الطور إلى السويس مائة وعشرون غرشا صاغا، وكذلك الأجرة من السويس إلى الطور.
ثالثا:
أجرة الجمل الواحد لموظف الحكومة من الطور إلى النويبع أو من النويبع إلى الطور مائة وعشرون غرشا صاغا.
رابعا:
أجرة الجمل الواحد لموظف الحكومة من الطور إلى نخل أو من نخل إلى الطور مائة وعشرون غرشا صاغا.
خامسا:
إن القبائل الأساسية المسئولة عن تقديم الجمال لموظفي الحكومة وأمتعتهم هم: العليقات، والعوارمة يشركون فيه مزينة، وأولاد سعيد، والقرارشة، على هذه النسبة: للعليقات مع مزينة النصف يقسمونه بالسوية؛ أي لكل منهما الربع، وللعوارمة النصف الباقي، يشركون فيه أولاد سعيد في الثلث، والثلثان الباقيان يشركون القرارشة بثلثهما والباقي لهم، فتكون أنصبة هذه القبائل في هذا الشأن كما يأتي: للعليقات الربع، ولمزينة الربع، وللعوارمة التسعين، ولأولاد سعيد السدس، وللقرارشة التسع.
وفي جميع هذه الشئون تراعى الشروط الآتية، وهي:
أولا:
أن الميعاد المحدد لحضور الجمال بعد وصول الرسول ثمانية أيام، إذا كان الطلب إلى السويس، وأربعة أيام إذا كان الطلب إلى الطور.
ثانيا:
يكون على كل جمل إلى ثلاثة جمال جمال واحد على الأقل، وصاحب الجمل مسئول عن سلامة جمله، سواء كان عليه راكب أو متاع، وإذا حصل عطل أو ضرر من تقصير صاحب الجمل، فصاحب الجمل مسئول لدى الحكومة عن العطل والضرر، وللحكومة أو وكيلها الحق في فرز الجمال، ورفض المريض أو الضعيف منها الذي لا يصلح للنقل.
ثالثا:
تدفع الأجرة في المكان الذي ينتهي إليه النقل.
رابعا:
حيث إن المشايخ المعينين من قبل الحكومة قد يشتغلون في مطالب الحكومة في وقت حاجة السياح إليهم، فعلى مشايخ الدير النظر في مطالب السياح فيما يخص قبائلهم، ولشيخ الدير عشرون غرشا صاغا عن كل جمل يؤجر من جمال قبيلته إلى السياح ، وذلك في نظير أتعابه، يأخذه من نصيب القبيلة قبل قسمة الأجرة على أفرادها.
خامسا:
إذا قصرت قبيلة من القبائل الأساسية عن تقديم ما عليها من الجمال في الميعاد كله أو بعضه في أي شأن كان، فإن كان لها شريكة فشريكتها تقوم مقامها في سد العجز، وإلا قامت به القبائل الأساسية الأخرى بتوزيعه عليها بالسوية.
ثم إن القبيلة المقصرة في تقديم الجمال عند الطلب تتعرض لأن تدفع للقبيلة أو القبائل التي سدت مسدها غرامة قدرها خمسة وعشرون غرشا صاغا عن كل جمل قصرت به، فإن أبت دفع الغرامة حق للحكومة فسخ هذا الاتفاق معها، وحذف اسمها من القبائل الأساسية، وفي هذه الحالة فإن كان لها شريكة تعطى حصتها إلى شريكتها، وإلا توزع على القبائل الأساسية الأخرى بالسوية.
هذا إذا كان التقصير من جميع بدنات القبيلة، وأما إذا كان التقصير من بعض بدنات القبيلة دون البعض الآخر، فلباقي البدنات الحق في تقديم المطلوب من الجمال كله، ورفع الغرامة عن قبيلتهم، فإذا عجزوا عن القيام بالمطلوب كله قاموا بما استطاعوا، وما بقي فإن كان للقبيلة شريكة قامت به، وإلا وزع على القبائل الأساسية الأخرى بالسوية، وطولبت البدنات المقصرة بدفع الغرامة للقبيلة أو القبائل التي سدت مسدها من غير قبيلتها، فإذا أبت حق للحكومة فسخ هذا الاتفاق معها وإعطاء نصيبها لباقي بدنات قبيلتها، فإذا عجزوا عن القيام به وحدهم قاموا بما استطاعوا، وما بقي فإن كان للقبيلة شريكة قامت به وإلا وزع على القبائل الأساسية الأخرى بالسوية.
سادسا:
يعمل بهذه الشروط لمدة ثلاث سنين من تاريخه، وفي آخر هذه المدة فإذا لم يطلب أحد الفريقين تغييرها يسري مفعولها لمدة ثلاث سنين أخرى وهكذا.
سابعا:
لا يسري مفعول هذه الشروط إلا إذا وقع عليها جناب مدير سيناء، وكل من مشايخ القبائل، ومشايخ الدير صاحبة الشأن، وشيخ مشايخ الطورة، وصدقها سعادة سردار الجيش المصري، أو جناب مدير المخابرات بالنيابة عنه.
ثامنا:
يجعل من هذا الاتفاق نسخ، فيعطى منها نسخة إلى حضرة مدير جزيرة سيناء، وإلى كل من مشايخ القبائل الذين وقعوا عليه للعمل به، ونسخة إلى الدير للعلم به، والنسخة الأصلية تحفظ في إدارة المخابرات في مصر القاهرة.
تاسعا:
يكون للحكومة الحق أن تلغي هذا الاتفاق في أي وقت شاءت بعد أن تعلن المشايخ بذلك قبل إلغائه بشهر.
شيخ قبيلة العوارمة: سليمان غنيم
شيخ قبيلة أولاد سعيد:صالح بن علي
شيخ قبيلة مزينة: خضر عامر فرحان
شيخ قبيلة العليقات: مدخل سليمان
شيخ قبيلة القرارشة: موسى بن نصير
شيخ الدير عن الجبالية: عطية أبو غنيمان
شيخ الدير عن العليقات: زيدان مدخل
شيخ الدير عن العوارمة: عوض عتيق
شيخ الدير عن أولاد سعيد: ربيع بن زهير
شيخ مشايخ عربان الطور: موسى بن نصير
مدير سيناء: باركر
كتب في الطور في أول أبريل سنة 1909، الموافق 10 ربيع أول سنة 1327، مصر في 23 مايو سنة 1909
مدير المخابرات عن سردار الجيش المصري: ستاك
على أن الناقد لهذه الشروط يرى أن الأجرة المضروبة على السياح الذين يزورون الدير أعظم منها على الذين لا يزورونه، والسبب في ذلك أن رهبان الدير كانوا قديما في حاجة إلى مداراة العربان وترغيبهم في الدير، فرفعوا الأجرة على السياح الذين يدخلون ديرهم إرضاء للعربان، وصار من الصعب جدا خفض هذه الأجرة الآن؛ لأنه لا شيء يكدر العربي ويعظم شكواه مثل حمله على تغيير عادة جرى عليها السنين الطول، خصوصا إذا كان في ذلك التغيير خسارة مالية عليه، وعربان الطور الآن في غاية الفقر، وأسباب المعايش عندهم ضيقة جدا؛ لا سيما بعد انقطاع درب الحج عنهم، وقد ارتفعت أسعار الأشياء في بلادهم كما ارتفعت في مصر والشام، فليس من الحكمة أن تخفض الأجر المفروضة على السياح دفعة واحدة، ولكن لا بد من تحين الفرصة لخفض هذه الأجر أو رفع الأجر الأخرى؛ لتكون كلها على وتيرة واحدة.
هذا، ولما كان السياح الذين ينوون زيارة الدير لا بد لهم من أخذ الإذن بذلك من مطران سيناء المقيم غالبا في مركز الدير بمصر، وكانت القبائل تتناوب نقل السياح، وكان الدير حافظا لنوب القبائل ، كان تراجمة السياح يكتبون الشروط بينهم وبين أدلة القبائل في مركز دير سيناء في مصر أو السويس، وقد أصدر الدير صورة الشروط التي يوقعها كل من الترجمان والدليل، وتنطبق على الاتفاقين السابق ذكرهما، وهي:
شروط
بين حضرة الخواجة ... التابع ل... ومقيم ب... ترجمان الخواجات ... التابعين لدولة ... القاصدين السياحة في جزيرة سيناء فريق أول.
وبين الشيخ ... الدليل من قبيلة ... التابعة لدير طور سيناء الشريف فريق ثان، قد حصل الرضا والاتفاق على ما هو آت:
أولا:
على الشيخ الدليل المذكور أن يحضر في يوم ...، ... جمال لركوب السياح والترجمان المشار إليهم، ونقل أمتعتهم وجميع لوازمهم من مؤنة وخلافها، على أن تكون الجمال خالية من الأمراض كالجرب وغيره، ولائقة للسفر إلى الجهات المرغوب السفر إليها.
ثانيا:
ميعاد سفر السياح والترجمان وأتباعهم من ... إلى الدير بالبر عن طريق ... تحدد يوم ... فإذا حصل أدنى تأخير أو تقصير من الشيخ الدليل؛ فيكون هو المسئول عن العطل والضرر.
ثالثا:
حمل الجمل الواحد لا يزيد عن ثلاثة قناطير مصرية، ويمكن للترجمان بأن يضع على كل جمل من جمال الخدم أمتعة خفيفة، لا يزيد وزنها عن الخمسين أقة.
رابعا:
أجرة الجمل الواحد للسياح والترجمان وأمتعتهم من مصر إلى الدير بالبر ثلاثة جنيهات إفرنجية، ومن السويس إلى الدير بالبر جنيهان إفرنجيان ونصف.
وأما من الدير إلى السويس أو إلى نخل أو إلى العقبة، فأجرة الجمل الواحد جنيهان إفرنجيان.
خامسا:
أجرة الشيخ الدليل من مصر إلى الدير بالبر ثلاثة جنيهات إفرنجية، ومن السويس إلى الدير بالبر جنيهان إفرنجيان ونصف جنيه. وأما من الدير إلى السويس أو إلى نخل أو إلى العقبة فجنيهان إفرنجيان، وله علاوة على ذلك جنيهان إفرنجيان باسم «كسوة».
سادسا:
أجرة الجمل الواحد بما فيه أجرة جمل الشيخ الدليل من الطور إلى الدير عن طريق حبران أو إسلا مائة وعشرون غرشا صاغا، وعن طريق وادي فيران مائة وخمسون غرشا صاغا، وبالعكس؛ أي في الإياب من الدير إلى الطور، تسري على السياح والترجمان هذه الأجرة نفسها.
سابعا:
لمشايخ دير طور سيناء الحق بأن يستولوا على عشرين غرشا صاغا من المائة وعشرين غرشا أو المائة وخمسين المبينة آنفا، والباقي يكون حقا للجمال، وهذا في الذهاب من الطور إلى الدير، وأما في الإياب من الدير إلى الطور فالعشرون غرشا صاغا من المائة وعشرين غرشا صاغا والمائة وخمسين غرشا فيستولى عليها الدير، والباقي يكون حقا للجمال.
ثامنا:
على الترجمان أن يدفع لوكيل الدير بمصر مقدما «رسم» الدير المقرر، وقدره خمسة جنيهات إفرنجية عن كل سائح، وأجرة جميع الجمال المذكورة في البند الأول، وثمن كسوة الدليل المذكورة في البند الخامس، أما أجرة الجمال التي يحتمل إضافتها على العدد المقرر في البند الأول، فالترجمان يدفعها لوكيل الدير بالسويس بواقع الجمل الواحد جنيهان إفرنجيان ونصف جنيه، وهذا كله إذا كان بدء السفر من مصر أو السويس، أما إذا كان السفر من الطور فالذي يدفعه الترجمان لوكيل الدير بمصر مقدما هو رسم الدير فقط، وأما أجر الجمال المطلوبة أو التي ستطلب، فإن الترجمان يدفعها لوكيل الدير بالطور مقدما أيضا طبقا للأجر المبينة في البند السادس.
تنبيه : بعد وصول السياح إلى محلاتهم سالمين، يوزع الدير هذه الأجر، فيحفظ منها نصف جنيه عن كل جمل لمشايخ الدير وللنفقات التي يتحملها، ويدفع الباقي لأصحاب الإبل.
تاسعا:
أجرة الجمل الواحد من نخل إلى السويس جنيهان إفرنجيان، ومن العقبة إلى السويس أربعة جنيهات إفرنجية يدفعها الترجمان للشيخ الدليل مقدما.
عاشرا:
أجرة الدليل المذكور من نخل إلى السويس جنيهان إفرنجيان، ومن العقبة إلى السويس أربعة جنيهات إفرنجية يدفعها له الترجمان مقدما.
حادي عشر:
مدة السفر من مصر إلى السويس أربعة أيام، ومن السويس إلى الدير بالبر ثمانية أيام، إذا كان السفر بطريق الرملة أو سرابيط الخادم، أما إذا كان بطريق وادي فيران فتسعة أيام، ومن الطور إلى الدير عن طريق إسلا أو حبران ثلاثة أيام، وعن طريق وادي فيران خمسة أيام، ومن الدير إلى نخل أو العقبة سبعة أيام، ومن الدير إلى السويس ثمانية أيام .
ثاني عشر:
في أثناء السفر أيام الآحاد هي تحت تصرف السياح والترجمان، فهم مخيرون إما أن يستريحوا فيها، فلا يدفعون عنها شيئا للدليل والجمالة من أجر وغيرها، أو أن يفضلوا استطراد السفر، فتحسب أيام الآحاد من الأيام المقررة للسفر.
ثالث عشر:
بعد سفر السياح والترجمان من مصر إلى السويس فالدير بطريق فيران، يجب على الدليل والجمالة أتباعه انتظارهم يوما واحدا في السويس، ويوما في فيران، وثلاثة أيام في الدير بلا مقابل، وكذلك في إياب السياح والترجمان من الدير، فإذا سافروا إلى نخل ثم إلى العقبة ينتظرونهم يوما واحدا في كل مكان بلا مقابل.
رابع عشر:
إذا أراد السياح والترجمان التجول في الجزيرة في أثناء السفر بقصد الصيد أو السياحة، فعلى الترجمان أن يدفع للشيخ الدليل عن كل يوم يزيد عن الأيام المقررة بالبند الحادي عشر عشرين غرشا صاغا عن كل جمل، وعشرين غرشا صاغا أجرته الشخصية، ثم في أثناء إقامتهم في الدير إذا أرادوا الصيد، فعلى الدليل أن يحضر الجمال التي تطلب منه بهذه الأجرة عينها، أما إذا أراد السياح والترجمان الإقامة في الدير مدة طويلة للمطالعة في مكتبته، واستغنوا عن الجمال بعد مضي ثلاثة الأيام المقررة للانتظار، فعلى الدليل البقاء تحت أوامر السياح والترجمان مقابل أجرة خمسة غروش صاغ في اليوم يدفعها له الترجمان.
خامس عشر:
إذا رأى الترجمان في أثناء السفر أن بعض الجمال أو كلها غير صالح للسفر بسبب مرض أو ضعف طرأ عليه؛ فعلى الدليل إحضار جمال أخرى من غير أن يزيد على الأجرة المتفق عليها في هذه الشروط.
سادس عشر:
إذا أراد السياح والترجمان بعد وصولهم إلى نخل أو العقبة التوجه إلى غزة أو إلى وادي موسى (البتراء)، واتفق عدم وجود جمال عند عربان تلك الجهات؛ يكون لهم الحق أن يأخذوا معهم الدليل وأتباعه، ولكن على الترجمان بعد اتفاقه مع مشايخ الجهات المشار إليها، ودفع الرسوم المقررة لهم أن يدفع للدليل مقدما أجرة ما يلزمه من الجمال على مقتضى الشروط الجارية بالجهات المذكورة، وهذا كله إذا كانت الحكومة تأذن لهم في المرور.
سابع عشر :
إن الدليل وأتباعه مسئولون على التضامن بينهم عما يفقد من أمتعة السياح والترجمان في أثناء السفر، ويجب عليهم أن يخدموهم خدمة تامة، ويحافظوا على راحتهم باجتناب المشاجرات والضوضاء، فإذا قصروا عن أداء واجباتهم، وحصل عطل للجمال، أو حدث عن تقصيرهم (لا بالقضاء والقدر) حادث أقلق راحة السياح والترجمان، فيكونون جميعهم مسئولين عن العطل والضرر.
ثامن عشر:
على السياح والترجمان أن يحترموا قوانين مكتبة الدير ونظامه الداخلي.
كتبت هذه الشروط على نسختين، وأخذ كل من المتعاقدين نسخة للعمل بموجبها عند الاقتضاء.
في ... سنة ...19
الترجمان
الدليل
كفيل الدليل (2) في بلاد التيه
هذا في أجر الإبل وتقسيم المنافع بين القبائل في بلاد الطور، أما في بلاد التيه، فقد جرت العادة من قديم الزمان أن الطورة ينقلون السياح على إبلهم من السويس إلى نخل أو من الدير إلى نخل، وهناك يسلمونهم إلى الصقيرات التياها، فإذا انتظر الطورة 24 ساعة، ولم يحضر التياها الإبل اللازمة للسياح حق للطورة البقاء بخدمة السياح مع إبلهم على جعل، يدفعه السياح للتياها يدعى «التخريج» قدره نصف جنيه إفرنجي عن كل جمل، وآخر يدعى «أرضية» قدره ريال مصري عن كل جمل يدفعونه لشيخ التياها خاصة.
وأكثر السياح الذين يأتون نخل أو كلهم يذهبون إلى غزة بطريق المويلح أو بطريق العريش، وأجرة الجمل الواحد في كلتا الطريقين جنيهان إفرنجيان. فإذا بقي الطورة في خدمتهم دفعوا لهم هذه الأجرة بعد دفع «التخريج» للتياها «والأرضية» لشيخهم، وأما إذا أحضر التياها الإبل المطلوبة في الميعاد عاد الطورة إلى بلادهم، ودخل التياها في خدمة السياح، وإذ ذاك يدفع السياح للشيخ الأرضية، وللتياها أجرة الجمل الواحد جنيهين إفرنجيين ونصف جنيه، فعلى كلتا الحالين يدفع السياح أجرة الجمل الواحد من نخل إلى غزة جنيهين إفرنجيين ونصف جنيه وريالا.
شكل 7-1: الخبير زيدان اللحيوي، ولسان حاله ينادي: «هيا بنا إلى سيناء.»
وليس لغير التياها الصقيرات حق في تأجير الإبل للسياح في جميع بلاد التيه، ومن أقوال العرب المأثورة في سيناء: «منافع السياح في الجزيرة بين ابن نصير، وابن عامر، وابن جاد»، فيكنى بابن نصير عن الطورة، وآخر حدهم شمالا نخل وشرقا «حجر علوي» قرب وادي طابا، ويكنى بابن عامر عن الصقيرات التياها وآخر حدهم غزة، وبابن جاد عن حويطات العقبة وآخر حدهم شمالا خرائب البتراء وشرقا على درب الحج المصري رجم الدرك في نقب العقبة، وعلى خليج العقبة حجر علوي المار ذكره.
هذا فيما خص الإبل التي تلزم السياح في بلاد التيه، وأما الإبل التي تلزم رجال الحكومة فتؤخذ من جميع القبائل على السواء بأجرة معلومة، وكانت أجرة الجمل الواحد لموظف الحكومة 10 غروش صاغ في اليوم، ثم زيدت إلى 11 غرشا لجمل الحملة، و16 غرشا للهجين كما سيجيء. (3) في بلاد العريش
أما في بلاد العريش، فالذين يتولون أمر تأجير الإبل للسياح، والتجار وموظفي الحكومة هم على الخصوص أهل مدينة العريش، وقد تقدم لنا ذكر النسبة التي بها يقتسمون المنافع بينهم في الكلام عن مدينة العريش.
وكانت أجرة الجمل الواحد في اليوم لموظف الحكومة 8 غروش صاغ، وأجرة الجمل للسفرة من العريش إلى القنطرة أو بالعكس 50 غرشا صاغا، فلما دخلت بلاد العريش تحت إدارة الحربية، وكثرت الحاجة إلى الإبل لكثرة مشروعات الإصلاح في الجزيرة؛ رأى محافظ سيناء الأسبق أن معاملة العربان حسب سلوهم القديم متعب له ومؤخر للعمل، فعرض تأجير الإبل في بلاد العريش وبلاد التيه للمناقصة، فوقعت على الشيخ أحمد أبو زكري من أهل العريش وله شريك من أهل نخل، وانتهت مدة الشروط، وجددت مرارا، فرست على الشيخ أحمد أبو زكري نفسه، وهذه هي الأجر التي صار الاتفاق عليها بينه وبين محافظ سيناء الحالي القائمقام براملي بك، وصدقتها مالية الحربية في 11 فبراير سنة 1914:
أجرة الجمل الواحد.
مليم
جنيه
من نخل:
520
إلى الشط وبالعكس
500
إلى العريش وبالعكس
400
إلى القصيمة وبالعكس
500
إلى الكنتلة وبالعكس
300
إلى الثمد وبالعكس
250
إلى الحسنة وبالعكس
400
إلى عجرود وبالعكس
200
1
إلى النويبع وبالعكس
800
1
إلى النويبع ذهابا وإيابا
200
1
إلى الطور وبالعكس
800
1
إلى الطور ذهابا وإيابا
من العريش:
180
إلى رفح وبالعكس
460
إلى القصيمة وبالعكس
330
إلى غزة وبالعكس
520
إلى القنطرة وبالعكس
500
إلى بور سعيد وبالعكس
250
إلى الحسنة وبالعكس
100
إلى لحفن وبالعكس
140
إلى المقضبة وبالعكس
500
إلى الإسماعيلية وبالعكس
180
من رفح إلى غزة
مليم
جنيه
12
أجرة نقل الفنطاس المملوء ماء من نخل إلى كوشة الجير بعجرة الشي.
50
أجرة نقل متر الحجر المكعب إلى قلعة نخل والعمارات المجاورة لها.
200
أجرة نقل متر الجير أو الجبس من عجرة الشي إلى قلعة نخل والعمارات المجاورة لها.
500
2
ثمن ونقل الحطب الكافي لحريق كوشة جير بعجرة الشي «وتكسير الحطب على المحافظة».
300
1
ثمن ونقل الحطب الكافي لحريق كوشة جبس بعجرة الشي «وتكسير الحطب على المحافظة».
30
ثمن ونقل قنطار الحطب إلى قشلاق القسم العسكري بنخل.
100
أجرة نقل متر الحجر المكعب من شاطئ البحر بالعريش أو النبي ياسر إلى قلعة العريش والعمارات المجاورة لها «والعبوة من المحافظة».
300
أجرة نقل متر مكعب من الجير أو الجبس من جبل لحفن إلى قلعة العريش والعمارات المجاورة لها «والعبوة من المحافظة».
160
أجرة هجين الركوب في اليوم بدائرة المحافظة.
110
أجرة جمل الحملة في اليوم من بلاد التيه.
100
أجرة جمل الحملة في اليوم من بلاد العريش.
تنبيه 1 : الحد الفاصل المتفق عليه بهذه الشروط بين بلاد العريش وبلاد التيه يمتد من الإسماعيلية إلى جبل المغارة فشمال جبل الحلال.
تنبيه 2 : تؤخذ أجرة يوم كامل عن أربع نقلات من الوقود اللازم لحرق كوشة جير بلحفن وزن كل نقلة أربعة قناطير.
الفصل الثامن
في السفر إلى سيناء ولوازمه
(1) فصل السفر
تقدم أن سيناء، وعلى الأخص بلاد الطور من أفضل البلاد للسياحة والنزهة، وأن أجمل الفصول التي يحسن السفر فيها إلى سيناء هو الربيع من أواسط فبراير إلى أوائل مايو، وأول الشتاء من أول أكتوبر إلى أواسط نوفمبر، وفي غير هذين الفصلين فالهواء إما حار جدا أو بارد جدا. (2) منافع السفر
وقد نصحت للمتعبين من كثرة الأشغال وجلبة المدن أن يفسحوا لأنفسهم ردحا من الزمان يتنزهون به في سيناء، والآن فإني أعيد النصح للقراء الكرام، وأخص منهم إخواني المصريين أصحاب سيناء، فإنهم يملكون قرب بلادهم بلادا واسعة الأطراف، وهم قلما يزورونها أو يعلمون شيئا من أمرها ، مع أن الإفرنج يدخلونها أفواجا كل سنة قصد الصيد والنزهة وزيارة الدير، أو البحث عن المعادن، أو التنقيب عن الآثار، أو السير في طريق موسى وتطبيقها على رواية التوراة أو غير ذلك، فإذا لم يستهونا غرض من هذه الأغراض لزيارة سيناء فلنزرها قصد الراحة والصحة، لا سيما وأنها بلاد عربية محضة، يعيش الإنسان فيها على الفطرة كأنه معاصر لإبراهيم وموسى، وله عقل الشيوخ وقلب الأطفال، بلاد تتجلى فيها الطبيعة بأبهى مظاهرها حتى إنه لا يمكن العاقل السليم الشعور أن يقف على قمة نقب حبران، أو قمة جبل سربال، أو جبل موسى، أو سرابيت الخادم، أو نقب الراكنة، أو جبل الحلال، أو جبل لحفن، ويرى ما تمثله الطبيعة هناك من المناظر البهجة الفسيحة في ذلك الجو الصافي الجاف، حيث الهواء يدل دائما على الربيع والشمس على الصيف؛ إلا وينشرح صدره مما يراه، ويسمو بفكره إلى السماء، ويقول مع داود النبي: «ما أعجب أعمالك يا الله! كلها بحكمة صنعت»، فإلى سيناء، إلى سيناء، بالصفاء والهناء، وإليكم إرشاد من خبير يسهل لكم الأسباب. (3) إذن الدخول
أول ما يجب على طالب السفر إلى سيناء الحصول على إذن الدخول إليها من مدير المخابرات في نظارة الحربية بمصر القاهرة.
فإذا كان مصريا، فليقدم الطلب رأسا إلى مدير المخابرات، ويبين فيه اسمه وعنوانه في مصر مع ذكر الجهة التي ينوي السفر إليها، والطريق التي يسير فيها، والغرض الذي يسافر لأجله، وإن كان معه أسلحة فليبين نوعها ومقدار الطلقات التي تصحبها، ثم إنه لا بد له من ذكر أسماء الرفاق وعدد الخدم.
وإن كان الطالب أجنبيا، فليقدم ذلك عن يد قنصله، أو يد شركة من شركات التسفير المعروفة في مصر، إلا إذا كان معروفا لإدارة المخابرات، فيقدم إليها الطلب رأسا.
وبعد الحصول على إذن الدخول إلى سيناء من إدارة المخابرات، فإن كان غرضه زيارة دير سيناء، فليستأذن في الدخول مطران الدير أو وكيله في مصر أو السويس، وإلا منعه الأقلوم هناك عن الدخول.
وإن كان غرضه تعدي الحدود إلى سوريا لزيارة العقبة أو البتراء أو القدس الشريف، فلا بد له من الحصول على الإذن في ذلك من السفارة العثمانية في القاهرة، وإلا منعه الضباط العثمانيون على الحدود من استمرار السفر.
وإن كان مراده البحث عن المعادن، فليأخذ الإذن في ذلك من قلم المعادن التابع لقلم المساحة بالجيزة، أو كان مراده التنقيب عن الآثار فليستأذن مصلحة الآثار بمصر.
هذا، وأكثر السياح والمسافرين إلى سيناء يستخدمون التراجمة، أو شركة كوك أو غيرها من شركات التسفير لتدبر لهم ما يلزمهم من إبل وخيام ومأكل ومشرب وغيرها بأجرة معينة في اليوم، ومنهم من يعتني بذلك كله ويدبره لنفسه. (4) الدليل
وأول ما يجب الاهتمام به قبل الشروع في السفر انتقاء الدليل الذي يعرف طرق الجزيرة، وأمكنة مياهها حق المعرفة لخطر السير فيها بلا دليل خبير كما بينا في باب الطرق. (5) إبل الحملة وهجن الركوب
ثم يجب الاعتناء التام بانتقاء الهجن للركوب والجمال لحمل الأمتعة ولوازم السفر، فيجب على المسافر أن يتفقدها بنفسه، ويتحقق أنها سليمة من المرض أو الجروح، وأن سروجها وأحزمتها متينة، وأن هجن الركوب لينة الظهر سهلة المراس، وإلا فإن هجينا قاسي الظهر، صعب المراس، أو جملا ضعيفا، أو سرجا غير محكم يؤخر المسافر في مسيره ويسلب راحته.
وأما الخيل فلا تصلح للسفر في بادية سيناء؛ لقلة مياهها وطول مسافاتها، وعدم صبر الخيل على العطش والحر، بخلاف الإبل فإنها تصبر على العطش أياما كما مر.
ولا بد في تدبير الدليل والإبل اللازمة للسفر من الاسترشاد بإدارة المخابرات في مصر، أو وكالة الدير في مصر أو السويس، أو وكيل الحربية في السويس أو القنطرة؛ لأنهم يعرفون نوب القبائل، وأدلة الطرق، وغير ذلك مما يلزم لراحة المسافر؛ حتى إن تراجمة السياح لا يعقدون الشروط مع أصحاب الإبل إلا بحضور وكيل الدير في مصر أو السويس، وقد تقدم ذكر تلك الشروط مع أجر الإبل في جميع بلاد سيناء بالإسهاب في الفصل السابق. (6) الخيام والأثاث
هذا، ولا بد للمسافر من خيمة يتقي فيها حر الشمس في النهار والبرد في الليل، فليس في طرق سيناء أشجار أو صخور يستظل بها إلا نادرا.
وأصلح الخيام وأخفها للسفر الخيام المنسوبة للضباط المصريين، ولا بد لمن أحب الترفه في السفر من أربع خيام: خيمة لمنامه، وخيمة لأكله وشربه وجلوسه في النهار، وخيمة لمطبخه وخدمه، وخيمة صغيرة للمستراح.
ومما يلزمه من الأثاث أبسطة يفرشها في خيمة النوم، وسرير سفري، وفرشة وحرامات أغطية، وكراسي سفرية، وفيها كرسي طويل يستريح عليه في النهار، وطاولة للمائدة، ومغسلة، وكلها من الأثاث الذي يمكن طيه ويسهل حمله، وصحون وملاعق وشوك، وصناديق ذات طبقات، وعيون مختلفة الحجم لحفظ الآنية الزجاجية والصيني، يجعل لها حلق ليسهل حملها، وخيش لحزم الخيم والصناديق الجلدية؛ لأجل صيانتها من العطب في السفر. (7) الملبس
وأما الثياب فليس من الحكمة اختيار الثياب الدقيقة؛ لأن الشمس تخترقها إلى الجسم، فيشعر صاحبها بالحر أكثر مما لو لبس الثياب المتوسطة في ثخانتها.
ويحسن بالمسافر لبس برنس أبيض يقيه حر الشمس والعفار، وأحسن منه عباءة من وبر الإبل، فإنها تقيه حر النهار كما تقيه برد الليل.
ولا بد للمسافر في جبال سيناء وسهولها من جزم متينة تتحمل أنياب الحجارة الغرانيتية ورمال الصحراء، ومن أحسن الجزم التي جربتها في سيناء وظهرت جودتها في التجربة جزم «مخزن نيويورك» لأصحابه «شحادة إخوان» في شارع المناخ قرب الأوبرا الخديوية بالقاهرة.
أما لبس الرأس «فالكوفية والعقال» أو «العرقية والعمامة» أو برنيطة فلين خفيفة واسعة يجعل لها «زناق» يعقد تحت الذقن؛ لئلا ينسفها الريح، ويحسن ربط «شاشة» حول البرنيطة يتدلى منها عذبة على مؤخر الرأس، ويحسن فوق هذا كله حمل مظلة زيادة في التحوط، وأما الطربوش فلا يصلح لبسه إلا في المساء، فإن لبسه في الحر قد يسبب ضربة شمس أو ضربة حر، ولا بد من قص الشعر قصيرا قبل السفر؛ لأنه ليس هناك من يحسن قص الشعر إلا في المدن، وذلك نادر. (8) المآكل
يتيسر للمسافر شراء بعض أنواع الفاكهة والخضر كالبطيخ والرمان والعنب واللوز والبلح والبامية والملوخية والبصل في مدن الطور ونخل والعريش في فصولها، وقد يتيسر له في هذه المدن شراء البيض والفراخ واللحم والبن والشاي والسكر وبعض اللحوم والفواكه والخضر المحفوظة بالعلب، ولكن الأفضل أن يتزود المسافر مئونته من مصر حتى البيض والفراخ والفاكهة والخضر، ويمكنه حفظ البيض أسابيع بوضعه في الملح على ما هو مشهور، وأفضل فاكهة يتزودها من مصر ويستعذبها جدا في السفر البرتقال والليمون والتفاح، ويمكن حفظها في السفر بوضعها في أقفاص من الجريد والاعتناء بتحميلها، وإذا طال مكث المسافر في سيناء، فلا بد من تعيين هجان يذهب إلى الطور أو السويس أو القنطرة، ويأتيه برسائله، وما يلزمه من فاكهة وخضر ومئونة، وتروج في سيناء كلها النقود المصرية على أنواعها، وفي العريش تروج النقود الشامية والمصرية، وأما عملة الورق فغير معروفة عندهم. (9) المشرب
ثم إن أكبر صعوبة يجدها المسافر في سيناء «الماء»؛ فإن المسافة بين ماء وآخر تختلف من يوم إلى ثلاثة أيام أو خمسة، ومتى وصل الماء وجده آسنا أو مسوسا، إلا في بلاد الطور الغرانيتية، فإن هناك ينابيع صالحة للشرب، وبكل حال يحسن بالمسافر أن يصحب معه مرشح باستور؛ لترشيح الماء قبل شربه أو استخدامه للطبخ، وإذا أحب زيادة التحوط فليشرب المياه المعدنية، وأفضلها ماء أفيان، وماء أبولينارس، وقد يستغنى عن المياه المعدنية بإغلاء مياه سيناء بعد ترشيحها ومزجها بشاي خفيف مع السكر والحامض.
هذا، ومن أهم ما يجب على المسافر في بادية سيناء الاحتفاظ بالماء، وذلك بوضعه في براميل من خشب أو فناطيس من حديد محكمة السد والاعتناء بتحميله، وجعله بعناية رجل مسئول لا ينفق منه إلا بمقدار ما يكفي الركب للوصول إلى ماء جديد، ويلذ في بادية سيناء شرب الماء مبردا، وأفضل وسيلة لتبريده وضعه في قرب نظيفة لا رائحة لها، وأما المياه المعدنية فتبرد بوضع زجاجتها في أدل من جلد أو صفيح ملآنة ماء وتعريضها لمجرى الهواء في الظل. (10) الأدوية
وأما الأدوية فقلما يحتاج إليها المسافر في برية نقية الهواء صافية الجو كبرية سيناء، ولكن لا بد من أخذ مجموعة من الأدوية المركبة أقراصا أو حبوبا تختار بإرشاد الطبيب، وتحفظ في صندوق خصوصي من حديد، فإذا لم يحتج إليها المسافر فربما احتاج إليها رجال حملته، أو البدو الذين يلتقيهم في طريقه، وأهم الأدوية التي تلزم:
الكينا للحمى، وحبوب خلاصة الكسكارة لمنع الإمساك، وزيت الخروع أو عرق الذهب، أو ملح إنكليزي للدوسنطاريا وتنظيف المعدة، ومسحوق دوفر والكلورودين أو سلسيلات البزموت لمنع الإسهال ووجع المعدة، وكلورات البوتاس لالتهاب الحلق، وفناستين للتعريق ووجع الرأس، والسليماني لغسل الجروح، ومسحوق البوزيك وحمام للعين لغسل العيون، وروح النشادر للسع العقرب، وعصير الليمون لمنع الإسقربوط، والكونياك في زجاجة بغلاف من قش لمنع المغص، وحزام صوف لتدفئة المعدة والأمعاء، ونفتالين لوقاية الثياب والكتب من العث، وثرمومتر طبي، ومقص ونسالة وقطن وأربطة لضمد الجروح.
وقد رأيت في مخزن الأدوية لنجيب أفندي غناجة صناديق صغيرة خاصة للسفر رخيصة الثمن، في كل منها مجموعة مما يلزم المسافر من الأدوية والأدوات الطبية، ورأيت له قطرة دعاها «قطر الندى» أعلنها بهذين البيتين:
لغناجة الفضل طول المدى
على صنع قطرة «قطر الندى»
فقد كان فيها الشفاء لعيني
وفي غيرها عالجوني سدى (11) معدات شتى
ومن المعدات التي تلزم المسافر: ساعة معصم، ونظارة مكبرة لتقريب الأبعاد، ونظارة ملونة لتوقي الغبار، وبوصلة لمعرفة جهة السير، وثرمومتر لمعرفة حرارة الجو، وبارومتر لمعرفة علو الجبال، وسنارة لصيد الأسماك، وبندقية لصيد الطير والحجل، وأخرى لصيد التيتل والغزال، على أن صيد التيتل سيكون مقيدا بشروط بعد الآن، فإن نظارة الحربية شارعة في إصدار قانون لحمايته حتى لا يصاد منه إلا عدد معلوم في السنة منعا لانقراضه.
ومما لا غنى للمسافر عنه: إبر وخيطان وأزرار ودبابيس تجعل في محفظة من قماش، ودفاتر مفكرات، وحبر وأقلام حبر أميركية، وأوراق ومغلفات، وبعض الكتب التي لا تحتاج إلى كد الفكر ككتب السياحات، ولا سيما ما يتعلق بسيناء.
ومن أشهر المكاتب التي تبيع هذه المكتب والأدوات في مصر القاهرة: مكتبة المعارف لصاحبها وصاحب مطبعة المعارف الشهيرة «نجيب أفندي متري» بأول شارع الفجالة، ومكتبة الهلال المنسوبة إلى مجلة الهلال الغراء بجانبها، ومكتبة هندية بشارع الموسكي.
ومن المعدات التي تلزم المسافر على هجينه: كيس صغير يضع فيه شيئا من الطعام الناشف، وزمزمية ماء، وخرج يضع فيه بعض الكتب والأوراق والأغراض التي تهمه، وفوق الخرج عباءة أو حرام ومخدة صغيرة حتى إذا ما انقطع عن الركب برهة من الزمن كان عنده شيء من الطعام والشراب، وما يلزم لراحته حتى يجتمع بالركب.
الجزء الثاني: في بداوة سيناء
الباب الأول
في لغة بدو سيناء وديانتهم ومعارفهم وزراعتهم وصناعتهم وتجارتهم
الفصل الأول
في لغتهم
(1) ألفاظهم الغريبة
لغة أهل سيناء العربية، يتكلمونها بلهجة حسنة، تقرب من لهجة بادية الشام، ويلفظون الثاء ثاء والذال ذالا والجيم جيما والضاد ضادا كلفظ قريش، ولكنهم يلفظون القاف معطشة كالجيم المصرية.
ثم إن بدو التيه أفصح لسانا، وأعرق في البداوة من بدو الطور والعريش، وكلهم يستحبون لفظ التصغير، ويكثرون في كلامهم من استعماله، ومن استعمال جمع المؤنث السالم ونون النسوة ونون التوكيد الخفيفة والثقيلة كما سترى.
ويستعملون ألفاظا كثيرة غير مألوفة في مصر والشام، ومنها:
ارجب:
انتظر.
أترج في الوادي:
سار فيه نزلا.
أسند أو سند في الوادي:
سار فيه مصعدا.
أضوى:
حضر قبيل الغروب.
أرع:
انظر، تطلع.
البلاد:
الأرض.
البطران:
الغني.
حب على يده:
قبلها، والحبة القبلة.
حرد:
بجانب.
الحمادة، ج: الحماد:
الأرض المرتفعة.
خرف:
تحدث.
الخراف:
الحديث.
الدبش:
الضأن والمعزى، والطرش الإبل.
الدلة:
كوز ماء.
الدوار، ج: دواوير:
مخيم البدو.
رجم:
حجر أو حجارة موضوعة في طريق المارة للدلالة على واقعة مهمة.
رش:
اصبر، اسكت.
ريض:
استرح، انتظر.
رمادة عليهم:
تبا لهم.
زمالة، ج: الزمل أو الزوامل:
بعير أو جمل.
الزلمة:
الرجل.
زين:
طيب.
سخيف:
دقيق.
سلو العرب:
عاداتهم وتقاليدهم.
الشفقان:
العاشق.
شين:
بطال، ردي.
صدر:
عكس ورد.
الضنى، ج: الضنيات:
الولد «الصغير».
الضعوف:
الأولاد الصغار.
الطرش:
الإبل، والدبش الغنم والمعزى.
الطنيب:
الجار.
طوحه في البلاد:
رماه في الأرض.
الغريب:
السائمة من الإبل والغنم إذا باتت في غير مراحها.
عقد:
ذهب، انصرف.
فكر:
انظر.
قيل:
استراح نصف النهار في القايلة، وفي اللغة سقى في القايلة.
قوطر:
ذهب: قوطب طب مصر، سافر نزل مصر.
كود:
ربما: «كود يجينا ضيف» أي ربما يأتينا ضيف. «وكود يواتي» أي ربما يناسب.
وتأتي بمعنى عسى: «كود وادي العريش يسيل» أي عسى يسيل، وتأتي بمعنى إما، أو: هات لي ركوبة كود فرس كود جمل.
كيف:
مثل: يخجل كيف الشاة أي مثل الشاة.
لقى:
ذهب، انصرف.
للا:
لا لا.
المقوي:
من بات بلا عشاء.
المريوق:
من لم يذق طعام الصبح.
مرح:
بيت ليلا.
ناجم:
ناجح.
نهاز القربة:
ملؤها تحت جمامها.
ه الحين:
هذا الحين.
الهرج:
الكلام. هرج: تكلم.
يم:
تمام. (2) أمثالهم
وهم يكثرون في كلامهم من إيراد الأمثال، وأفضل ما سمعت من أمثالهم:
احفظ قديمك ولو كان الجديد أغناك.
بين الغطاس والميلاد لا تسافر يا هذا، وإن سافرت خذ تحتك سجادة.
اللي ما بيعرف الصقر يشويه.
الأولاد إما تجارة أو عوض أو خسارة.
الحي يشوف الحي.
بارك الله في المرأة المطيعة والفرس السريعة والدار الوسيعة.
خيرا تعمل شرا تلقى.
خذ بنت السبع ولو بارت، ودر مع الدرب ولو دارت، وفوت بنت الأنذال ولو زينها غاطي جبينها.
بشر القاتل بالقتل، والزاني بالفقر.
البياع طماع، والشاري حرامي.
البيع عازة مش عادة.
دار خير من دار، وجار خير من جار.
الدم ما بيسوس.
الكل ريقه في فمه حلو.
الدقن اللي يقطعها الحق تطلع خصاب.
الكفل يموت الطلابة.
ذقن الشاكي مبلولة «يقوله من يحب يأخذ حقه بيده».
الكفال جبال لا تنشال ولا تنهال.
اللص زاده في الكيس، ومراحه عند إبليس.
الرأس ما بيسع طربوشين.
الليل رزقه ضيق.
الرأس ما بيشيل مريرتين.
المركب اللي ما فيها شيء لله تغرق.
راعي النية الطيبة يرزق.
المقاعد ملازم.
الرفيق لزم ما منه منهزم، والطلاق عدم، والجيرة كرم.
مشيك في المعزة أربعين يوم، ولا في المذلة ألف عام.
رغاية الإبل ودعاية النسا أبرك الأيام يوم يزيحها.
ما بيجي أبو خناق إلا أبو فراج يباريه .
من أخذ أمي صار عمي.
الشمس لا يغطيها الرغيف.
من رمي سلاحه حرم قتله.
طير المربي غال.
مطرح ما تأمن خف.
الطويلة بتمشي هز، والقصيرة حب الرز.
المغرم من النار.
عوضك من الجمل قيده.
ما على الأجواد عقب الإجهاد لايم.
العيشة شعير والمية من البير.
المال اللي يجمع بالحلال يأخذ إبليس نصفه، والمال اللي يجمع بالحرام إبليس يأخذ صاحبه.
عمار البر من شامه لدامه.
قال وايش يغبي يا رسول الله قال اللي ما صار الكبر عبر.
النار جبار.
النار سوت غدانا ودفت عضانا (أعضاءنا).
كذب مرصوص ولا صدق مبعزق.
الولد خال ومن أخذ من قوم على ناره قعود.
لا بد للعدود من الورود
ولا بد للحماد من الكتام «الزوابع» •••
والله لأعلمك ماني عليك جاحد
من صاحب اثنين كدب على واحد (3) الشعر والغناء والرقص وآلات الطرب (3-1) آلات الطرب
ليس في جزيرة سيناء من آلات الطرب سوى ثلاث:
الربابة:
وهي تشبه الربابة المستعملة في السودان.
والشبابة:
المعروفة في مصر بالصفارة وفي الشام بالمنجيرة.
والمقرون:
المعروف في مصر بالزمارة وفي الشام بالزمور.
واختص الله العرب بأربع: «العمائم تيجانها، والجنن حيطانها، والسيوف سيجانها، والشعر ديوانها. وسمي الشعر ديوان العرب؛ لأنهم كانوا يرجعون إليه عند اختلافهم في الأنساب والحروب وإجراء الأرزاق من بيت المال، كما يرجع أهل الديوان إلى ديوانهم عند اشتباه شيء عليهم، أو لأنه مستودع علومهم وحافظ آدابهم ومعدن أخبارهم.»
وعرب سيناء على فقرهم وقلتهم، لم يخرجوا عن حد هذا القول، فإنه قلما يحدث حادث مهم، أو يقع قتال في صحرائهم إلا نظم فيه شعراؤهم وحفظوه جيلا بعد جيل على نحو ما كان يفعل أجدادهم، وقد أخذت كثيرا من أخبار حروبهم الحديثة عن أشعارهم كما سيجيء. (3-2) الشعر والغناء والرقص
كل شعر في سيناء يغنى، والشعر والغناء عندهم أربعة أنواع: القصيد، والمواليا، وحداء الإبل، وغناء الرقص وهو ثلاثة أنواع: الدحية والسامر والمشرقية، والشعر في هذه الأنواع الثلاثة يرتجل كالقرادة والمعنى في لبنان، والزجل في مصر، ولغة الشعر عندهم على أنواعه اللغة العامية. (3-3) القصيد
أما القصيد فينشد على الربابة، ويشمل باب المدح، ومما سمعته قصيدا قاله سلامة بن عودة في الميرالاي سعد بك رفعت قومندان سيناء المار ذكره، ومنه:
والبك نور البداوة وصاحب راي
يحيي بضيف الله يوم يلقيه
والبك نور البداوة وصاحب راي
قاعد على المصطبة يا زين هرجه وحكاويه
والبك نور البداوة وصاحب راي
يلبش الكداب يوم يحاكيه
والبك سبع في وسط النمارة
يا نعمين يوم تلفيه
والبك نور لو سرهد الليل
واللي يشوف الضوء لازم بيقديه
وسمعت قصيدا قاله المحسحس بن صالح ابن أخي الشيخ موسى نصير في غرق الوابور يارودال سنة 1890 في جهة راية جنوبي مدينة الطور، ومنه:
صلوا على النبي يا غانمين
صلوا على النبي واقروا الجواب
جا وابور من عند النصارى
هذا خنون فيه ستين باب
طوح حملته في طول راية
وصار الناس عنده كالذباب
فيه بالات مطوية بحديد
فيهن جوخ وفيه عال السباب
فيهن تيل وفيهن دبلان
وفيهن بفت من عال الثياب
وفيه قماش يقولوا له خميم
وفيه ملكان زي ورق الكتاب
وفيه احرم وفيه مشمعات
وفيه شيلان ما لهن حساب
خيط الشيت يسووا له دروب
غير الموت معي ه الكلاب!
ونظم بعض البدو شعرا في سلك التلغراف فقال:
يا راكب اللي ما هي مطية
وأسرع من اللي على القاع يمشون
عبدين مع حرين ربع النشامى
وبأرض الخلا ما يذلون
ومن طول عمره خادم العسكرية
وكل الوزر لقوله يصنون (3-4) المواليا
أما المواليا فهو الغناء على ظهور الإبل على مدى الصوت، ومن ذلك:
يا كم بنية نوبة
قيلت أنا وياها
والجذلة عشب ثريا
قبل العرب ترعاها
حفين مواطي رجلي
من بعدكم يا أهيلي
والريق زي الحنظل
والزاد ما يحلو لي
شوقي طلبني الحبة
ومن الجهل عييته
بحسب زماني مطول
واغدي حليلة بيته
ولد يا راعي الشقرا
ومن إيدها حفيانه
يمك على عربنا
يا مداوي الوجعانه
راعي القعود الأشقر
طيري وليف طيرك
قلبي صندوق الفضة
ما بينفتح لغيرك
الحمد لك يا ربي
عقب الضنا سراحة
اللون لون القطنة
والنهد ز التفاحة (3-5) حداء الإبل
وأما حداء الإبل فهو الغناء للإبل وهي تشرب أو تسير، قيل لأنها تستعذب الشرب وتستحب السير على صوت الحداء، ومما حكي في تأثير الحداء على الإبل أن أميرا مر بشيخ عرب، فرأى عبدا مقيدا بالحديد، فقال الأمير: ما الذي جناه هذا العبد حتى استحق هذا الجزاء؟ فقال الشيخ: اتبعني، وأخذه إلى مراح الإبل، فرأى الإبل متعبة منهوكة لا تستطيع حراكا، فقال للعبد: غن لها، فغنى، فنهضت لساعتها متحمسة، كأن لم يكن بها شيء، فقال الشيخ: هذا العبد أتى بالإبل من مكان بعيد وهي تحمل أثقالا، وأخذ يغني لها حتى ضاعفت سيرها، فصارت إلى هذه الحال.
هذا، ولكل قبيلة ألحان ومقاطيع في الحداء، تختلف فيها عن الأخرى، وقد رأيت التياها على بئر نخل ينشدون الحداء لإبلهم وهم يمقونها، وكانوا ينشلون الماء اثنين اثنين بأدل من جلد، ومما سمعته منهم:
يا مرحبا يابلنا
حين ما روينا شلنا
يا مرحبا وارحابي
وتسوق فيها ركابي
يا واردين على المي
عنيق المهايا سلمي
يا حسن طلي وشوفي
زين الخيال وقوف
عشيرك يا رية
على الركايب عيا
فاطري وأنا لها
يا لبنها لي عشا
ذود بلا حيران
عسكر بلا ديوان
أبشري بالروا
ما زال الخمسة سوا
أبشري بالروي
ما دام أنا قوي
علي ري الفاطر
لما يطيب الخاطر
علي ما رويها
وازرع جمايل فيها
لبنها اللي شربناه
على المي ودها ياه
واللي يرن سوارها
نحلب لها الخوارة
يا بو خديد أبيض
ريض على ألمي ريض
والحرص يا خيالة
من نومة القيالة
وايش تشتهي وتذوقي
مشمش على برقوق
أم حنيك المنقوش
أنكس لها الطربوش
يا بو شنيف فضة
والهرج عنه غضه
ما هدني وأضناني
غير انت يا الفيداني
يا ام شنيف لاويته
ليش النذل مهاويته
يا بو قنيع محجر
والزين توه صدر
يا بو قرون طوال
لا تعاشر البطال
وإن كان ودك خدي
تعال والصق حدي
يا رب سلمها لي
من كل فج خال
والشايب القباني
عن ملعبي عداني
يا بير يا مليان
يا ملعب الصبيان
طيبة يا طابا
غضيان جوها صحابها
ومن مقاطيع الحويطات التي سمعتهم يغنونها على بئر نخل:
تعا هل، تعا يا دلو
عطشان وطالب ريه
يكررونها مرارا.
ومن قبيل الحداء ما ينشدونه وهم يحصدون الزرع:
رن حجل البدوية
رن واعجبني دويه
يا جميل الصالحية
وين بت البارحية
بت في حنة ورنة
والعطور الفايحية (3-6) الدحية
أما الدحية فهي أعظم تسلية للبدو في باديتهم، فإذا اجتمع البدو للدحية وقف المغنون صفا واحدا، وبينهم شاعر أو أكثر يعرف «بالبداع» يرتجل الشعر، وأمامهم غادة ترقص بالسيف تدعى «الحاشية»، فيبدأ المغنون بقولهم: «الدحية الدحية» يكررونها مرارا، ويصفقون بأيديهم، ويهزون رءوسهم، ثم يبدأ البداع بالقول، فكلما بدع شطرا من الشعر كرر الكل «الردة» وهي: «رايحين نقول الريدة»، يكررونها وهم يصفقون بأيديهم، ويهزون رءوسهم وأعطافهم يمينا ويسارا، ويتقدمون نحو الحاشية، والحاشية تتقهقر أمامهم وهي ترقص رقصه حتى يصلوا إلى منتهى ساحة اللعب، فيقعدون القرفصاء، فتقعد الحاشية مثلهم ويغنون برهة، ثم يتقهقر الرجال إلى الوراء رويدا والحاشية تتبعهم مواجهة لهم، حتى يعودوا إلى حيث وقفوا أولا، فيعودون إلى الرقص كما بدءوا. والبداع يبدع القول وهم يكررون الردة، وقد يكون بينهم أكثر من بداع واحد، فيتناوبون القول إلى انتهاء اللعب.
ثم قد يرقص لهم راقصتان أو ثلاث، يد الواحدة في يد الأخرى، فإذا رقص اثنتان حملت السيف الواقفة عن اليمين، وإذا رقص ثلاث حملته الواقفة في الوسط.
قالوا: حضر بداع ظريف دحية، فرقصت فيها حاشية رشيقة القد والحركة، فعلق بها قلبه، فأنشد:
أنا مجيرك يا الغالي
مد ايدك سلم علي
فمدت يدها وسلمت عليه، فقال:
أنا مجيرك يا الغالي
تلعب بأركان الدحية
فتحمست ورقصت رقصا بديعا، فقال:
وإن كنت مطيع من زمان
رد الركبة مثنية
فركعت على ركبة ونصف فقال:
هيدي بروك المخاليف
ودي بروك المطية
فركعت على الركبتين، فقال:
أنا قصدتك يا الحاشي
ودي أشوف العطية
فناولته السيف التي كانت ترقص به، فقال:
الحاشية أعطاني السيف
والسيف يقطع يدي
أنا ودي شناف الفضة
شرع قبال الكلية
فنزعت شنافها من أنفها وناولته إياه، فقال:
أنا ودي خاتم الفضة
وحطه بأيدي اليمنية
فنزعت خاتمها الفضة وناولته إياه، فأرجعه إليها ومعه قطعة من الفضة، وقال:
هذي عطيتك يا الحاشية
وهي حرام علي
واختم كلامي بمحمد
يا مصلين على النبي
محمد يا نور الشرق
والسيد نور الغربية
ومن مقاطع الدحية:
يا معلاني هاوشني
من شان طلين غديته
وماك يا نهاز القربة
للأجواد مسقيته
وان جاني الخير عطشان
ع المي ماني معييته
وان جاني الخير جيعان
من غداي مغديته
وان جاني الخير زعلان
بالخراف مسليته
وان جاني الخير بردان
بطرف القنعة مغطيته
وإن طلب مني الحبة
والله ماني معطيته!
ومنها:
يا حلالي خراف الحبيب
مثل السكر ع الحليب
ومنها:
الطويلة بتمشي هز
والقصيرة حب الرز
ومنها:
الشايب العايب
عن الزينات مش تايب (3-7) السامر
أما السامر فنوعان: «الخوجار» ويبدع فيه النساء، «والرزعة» ويبدع فيه الرجال، وفي الرزعة يقف الرجال فريقين في صف منحن على شكل هلال مقطوع من الوسط، ويقف مع كل فريق بداع وأمامه امرأة ترقص بالسيف تدعى حاشية أو بعير، فيبدأ بداع الفرقة الأولى فيبدع بيتا من الشعر، وكلما قال شطرا كرره أصحابه من بعده، وكلا الفريقين يصفقون ويهزون رءوسهم، ويتقدمون نحو الحاشية كما يفعلون في الدحية، ثم يبدأ بداع الفريق الآخر فيبدع بيتا من الشعر، ويكرره أصحابه بعده، وهم يصفقون على نحو ما فعل الفريق الأول، وهكذا إلى منتهى اللعب.
وأما «الخوجار»: فهو على نحو الرزعة، لكن النساء فيه يقفن بين صفي الرجال، وفيهن شاعرتان تغني كل منهما لفريق من فريقي الرجال، ولا يتحركن من أماكنهن إلى انتهاء اللعب، ومن مقاطيع السامر:
يا طالعين البراري في سموم ورياح
لا القلب ساكن هنا ولا شوقكم مرتاح
على الله يا حلو لو انك من بني عمي
لاذبح جمل صاحبي واثنين من زملي
يا طالعين الجبل والصيد في الوادي
ومنقرشات الحنك بنات الأجواد
يا ريتني ما وردت الماء ولا جيته
صدرت عطشان حتى القلب خليته
يا قلب وايش متعبك يا قلب وايش مشقيك
يا قلب اللي سقى عود القنا يسقيك
أصفر شبه البلح شبك الرفق منه
يا ناس من طال ريقه وجاب لي منه
سايق عليك النبي والحي واللي مات
يا حلو رد الغنم نقعد أنا وياك
يا ساكنين الصحاري وبلادكم مظماه
قاعد على دربكم والحلو ما بلقاه
يا اهل المحنات يا اهل الناقة الزرقا
ما يجرح القلب غير الموت والفرقة
لاكتب مكاتيب وارسلهم معك يا طير
في ضية المال مسي صاحبي بالخير
مسيك بالخير يا اللي جيت متعني
في ايدك خواتم ذهب والكف متحني
أبيض من الشاش والين من حرير هندي
ع اليوم يا حلو لو انك في المنام عندي
ع اليوم يا حلو تربط ع الرفق وتدوم
لا غز رايات وابني ع الطريق رجوم
عاهدتني في الخلا ما عندنا واحد
ويا خاينين العهد منين اجيب شاهد
نريدكم تسلموا ويعيش غاليكم
ويعيش حتى الطنيب اللي يواليكم
حن يا تور لما ينجرح زورك
واصبر على فرقتك لما يجي دورك (3-8) المشرقية
وأما المشرقية، فهي على نحو لعب الرزعة بكل تفاصيلها، إلا أن الشعراء ينشدون فيها أبياتا أطول من أبيات الرزعة، ويغنى بها بلحن يختلف قليلا عن لحن السامر.
وغالب اللعب في بلاد التيه الدحية والمشرقية، وفي بلاد الطور السامر، وفي بلاد العريش الرزعة والدحية والمشرقية، وقد دخلت الدحية حديثا إلى سيناء من الشرق، فلم يكن معروفا فيها غير السامر والمشرقية. ومن مقاطيع المشرقية:
جوزوني وأنا طفلة وما دريت
طلقوني من النذل وإلا جليت
ويا أهلي لئن مت وفارقت الحياة
اقبروني على العد دريب البنات
يا رويع يا البكرة ه النايفة
خاطري عشرتك ومن أهيلي خايفة
اطلع تنزه ليالي العز ما دامت
يا أكحل العين ما أحلى دقة وشامك (3-9) اللذة
قالوا: وفي الرميلات من شرق بلاد العريش عادة تعرف «باللذة»، وهي أنهم بعد فراغهم من السامر يأخذ كل شاب شابة من الحضور فيوصلها إلى منزلها ثم يعود إلى منزله. (3-10) الخلاط
هذا، وفي بلاد التيه عادة تدعى «الخلاط» يجتمع فيها الشبان والشابات ليلا في موعد معين قرب مخيمهم، وذلك بغير علم أهلهم، فيأخذون الطعام والشراب: الشبان يأتون بالخروف والدقيق والماء، والبنات يأتين بالسمن واللبن، فيذبحون ويأكلون ويتآنسون سوية، ثم ينصرفون إلى خيامهم بدون أن تمس أعراضهم، وإذا مس شاب عرض شابة في الخلاط وظهر ذلك ألزموه بزواجها أو قتلوه.
الفصل الثاني
في ديانتهم
يعترف بدو سيناء بالإسلام دينا لهم، ولكن ليس فيهم من يعرف قواعد الإسلام، بل ليس فيهم من يعرف قواعد الصلاة، وقد مازجتهم عدة سنين فلم أر منهم من يصلي إلا نفر يعدون على الأصابع ممن يخالطون المدن، وهؤلاء لا يصلون الأوقات الخمسة على الترتيب، بل يصلون كلما خطر ببالهم أن يصلوا، ولولا احتفال بدو سيناء بعيد الضحية وذكرهم النبي وحلفهم به والصلاة عليه لما علمت أنهم مسلمون. (1) الأولياء الصالحون
ولكن لهم في باديتهم قبور أولياء يعدون بالعشرات، يحترمونهم الاحترام الديني، ويحلفون بهم، وينذرون لهم النذور، ويزورونهم كل سنة في المواسم، وعند زيارتهم ينيرون قبورهم ويذبحون للأنبياء منهم جملا، ولسائر الأولياء رأس ضأن أو ماعز، أما الأولياء الأنبياء فهم: النبي هارون، والنبي صالح، والنبي أبو طالب، ومناجاة النبي موسى، وكلهم في وسط بلاد الطور.
ومن الغريب أن بدو سيناء مع شدة اعتقادهم بأوليائهم تراهم لا يعرفون لهم أصلا ولا فصلا، إلا القليل منهم الذين دفنوا في هذا الجبل والذي قبله، فإن أصولهم معروفة؛ لأن بدو سيناء ما زالوا كلما مات لهم شيخ يعتقدون صلاحه بنوا له ضريحا، وبنوا فوق الضريح قبة أو مقاما، وجعلوا للضريح قفصا من الخشب مجللا بنسيج قطني ملون، وجعلوا للقفص رأسا معمما، أو تركوا الضريح عطلا من البناء والقفص، وقد مر ذكر الأولياء جميعا في الفصول السابقة، وستأتي سردا في فهرس المواضيع في آخر الكتاب فلا داعي لذكرها هنا.
وقد عرفنا ضريح الولي الذي فوقه قبة بالقبة، والذي فوقه كوخ بالمقام، والذي ليس فوقه شيء بالقبر.
وهم يدفنون موتاهم بجانب أوليائهم، ويزورونهم في المواسم عند زيارة الأولياء، ويذبحون الذبائح فداء عنهم، ويقولون عند الذبح: «الله أكبر، منك وإليك، وثوابها لفلان المتوفى »، وأكثر مدافنهم أو كلها بقرب الماء.
وترى بجانب أضرحة أكثر الأولياء «عريشة» فيها حلة للطبخ، وبكرج للقهوة، وجرة للماء، «وباطية» لعجن الدقيق، وأخرى لوضع الطعام فيها، وغير ذلك من الآنية التي تلزم الزوار لتحضير الطعام والشراب عند قدومهم لتقديم الذبيحة. (2) الشيخ الفالوجي
ولا يقتصر بدو سيناء على تكريم أوليائهم، بل يكرمون أولياء جيرانهم، ففي اعتقاد بدو العريش أن الشيخ الفالوجي المدفون على نصف يوم شرقي غزة من الأولياء الكبار أصحاب الكرامات، وأن من يحلف به زورا لا بد أن يلقى مغبة كذبه في نفسه أو ماله أو عياله.
وفي مدة إقامتي برفح سنة 1906 حضر بدويان يتقاضيان في مبلغ من الدراهم، ادعى أحدهما أنه نقده لوالد الآخر المتوفى ولم يأخذ فيه وصلا، فطلب المدعى عليه اليمين من المدعي على الفالوجي ولم يرض بالشيخ زويد، ولا بالحلف المعتاد عند البدو، ولكن توفقت إلى فض الخلاف بينهما بطريق الصلح، فأخذ المدعي قسما من المبلغ المدعى به وسامح بالباقي. (3) الأولياء المفسودون
هذا ولبدو سيناء أولياء مفسودون، يصبون عليهم الشتائم ويرمون قبورهم بالحجارة، كما أن لهم أولياء صالحين يقدمون لهم الذبائح، وقد مر بنا ذكر اثنين منهم: «مصبح» الولي المفسود على درب الحج المصري في وادي المشيتي، «وعمري» الولي المفسود في أعلى وادي الأبيض على 10 أميال من خرائب العوجاء على درب غزة. (4) زيارة البحر
وعند السواركة والبياضيين والأخارسة من بادية العريش عادة قديمة جدا في تقديم الذبائح للبحر تشبه أن تكون وثنية، وذلك أنهم في كل سنة بعد الربيع يزورون البحر بخيامهم، ومعهم خيلهم وإبلهم وغنمهم، فيغسلونها بالبحر ثم يذبحون الذبائح، ويرمون رءوس الذبائح وأرجلها وجلودها في البحر، ويقولون عند رميها: «هذا عشاك يا بحر» ويطبخون باقي اللحم، فيأكلون منه ويطعمون المارة.
أما السواركة فيتمون هذه الزيارة بلا احتفال ولا أبهة في يوم واحد من المغرب إلى صباح اليوم التالي، ويذبحون في أي مكان على شاطئ البحر بين رفح والعريش، وأما البياضيين والأخارسة من سكان قطية، فإنهم ينزلون على شاطئ البحر عند المحمدية المار ذكرها قرب الفرما، ويحتفلون بذلك احتفالا عظيما، فيتسابقون على الخيل والهجن ، والنساء تزغرد لهم، وذلك مدة ثلاثة أيام. (5) زيارة الشجر
وعلى نصف ساعة جنوبي بئر رفح شجرتا سدر، الواحدة بجانب الأخرى، تدعيان «المقرونتين»، ويقال لكل منهما الفقيرة، وللغربية منهما غصن مجوف ينحني حتى يمس الأرض، وجدت في تجويفه قطعا صغيرة من النقود القديمة والحديثة، ومسامير وخرز وحب عدس، وقد علق في أغصان الشجرتين أباريق الزيت، فسألتهم في ذلك، فقالوا: إن نساء البدو يكرمن هاتين الشجرتين، وينذرن لهما النذور، ومتى جئن للزيارة وضعن شيئا من آثارهن فيهما، وأنرنهما بسرج الزيت كما يفعل البدو كافة عند زيارة الأولياء.
وعلى نحو نصف ساعة من العريش في طريق لحفن غابة صغيرة من شجر الطرفاء، تدعى الفقيرة، تزورها العرب للتبرك بها، وهم ينيرونها ويودعون عندها حبالهم وأشياءهم.
وفي صحن قلعة نخل شجرة سدر قديمة العهد، كان الأهلون يعتقدون أنها ولية، وينيرونها بالسرج إلى عهد قريب، ولا عجب في ذلك، فإن شجرة ظليلة في صحاري سيناء المحرقة لمن أكبر النعم على أهلها. (6) روحهم الديني
هذا، والروح الديني في بدو سيناء لا يزال على الفطرة، فإذا وقع أحدهم في ضيق ثم فرج عنه قبل الأرض بيده وقال: «يوم ما نطول سماه نقبل وطاه.»
وكنت أكلم الشيخ سليمان معيوف من الرميلات في العمل الطيب، فقال: إني أصلي إلى الله في خلاي أن يميتني قبل أن أظلم أحدا، وأن يبعد عني الظالم، فإني طالب دار الآخرة، والعمل الطيب الذي يلقاه الإنسان بعد الموت، قلت: وأين تذهب الروح بعد الموت، قال العرب تعتقد أن الأرواح تجتمع في بئر القدس إلى يوم الحساب، فيذهب الصالحون إلى الجنة والأشرار إلى النار، وقال: قيل لبدوية فجعت بابنها أن روحه في بئر القدس، فذهبت إلى البئر ووقفت عند فمها، ونادت ابنها باسمه فأجابها الصدى، فلما سمعت الصوت ظنت أن ابنها يجيبها، فرمت بنفسها في البئر وماتت، ومن ذلك الوقت وضعوا شبكة من الحديد على فم البئر، وهذه البئر هي بئر الورقة في هيكل سليمان الذي حوله الإمبراطور يوستينيانوس إلى كنيسة، وحوله الإسلام إلى الجامع المعروف الآن بالجامع الأقصى.
الفصل الثالث
في معارفهم
إن بدو سيناء أميون لا يقرءون ولا يكتبون، وليس فيهم طبيب واحد، بل الدجال فيهم قليل، وأما المدارس المتقدم ذكرها في مدن الطور ونخل والعريش، فندر من يتعلم فيها من أهل البادية.
وهم يعبرون عن الأعداد بأصابع اليدين، فكل أصبع مرفوعة بواحد، والعشرة برفع أصابع اليدين كلها وضربها في الهواء مرة، والعشرون بضربها في الهواء مرتين وهكذا إلى التسعين، ويعبرون عن المائة بضم أطراف أصابع اليدين، وضرب أطراف أصابع اليد الواحدة بأطراف أصابع اليد الأخرى مرة واحدة، حاسبين كل أصبع عشرة، وعن المئتين بضربها مرتين وهكذا.
وأسماء الجهات الأربع عندهم: الشمال أو البحري، القبلي، الشرق، الغرب.
وأسماء الفصول: الشتاء، الربيع، الصيف أو القيظ، الخريف أو السجيج أو الخوبة. وأوقات النهار: الفجر، طلعة الشمس، الضحى، القايلة أو الظهر، العصر، الغروب.
وأيام الأسبوع معروفة عند الخاصة، وأما العامة فأكثرهم لا يعرفونها ولا حاجة لهم بها، فإنهم إذا أعطوا ميعادا جعلوا أول القمر أو الهلال مبدأ لميعادهم، وليس عندهم حساب غير القمر، ولكن لم أجد أحدا منهم استطاع أن يعد الأشهر القمرية حسب اصطلاحنا، وقد عدها لي بعضهم هكذا:
عاشوراء أي محرم، صفر، ربيع أول، ربيع ثان، جماد أول، جماد ثان، الغرة أي رجب، القصير أي شعبان، رمضان، الفطر الأول أي شوال، الفطر الثاني أو شهر الحج وهو القعدة، والضحية وهو شهر الحجة.
والأنجم المشهورة عندهم ما عدا الشمس والقمر: الثريا ونجيدح وهو الدبران، والجوزاء أو الميزان، والبربارة وهي الشعرى، والسماكان والمرزم، وهما السماك الرامح والسماك الأعزل، وسهيل، والشعالة؛ أي نجمة الصبح أو الزهرة، والعقرب.
قالوا: تطلع الثريا أولا أول الصيف قبل الفجر، وبعد ذلك بأربع عشرة ليلة تطلع ويطلع نجيدج وراءها، فخمس وعشرون ليلة أخرى تطلع الجوزاء، فأربع عشرة ليلة أخرى تطلع البربارة، فخمس وعشرون ليلة أخرى يطلع السماكان والمرزم: تطلع كلها من الشرق في صف واحد، الواحد وراء الآخر، وبعد طلوع البربارة بأربع عشرة ليلة؛ أي في أول الخريف يطلع سهيل من الجنوب، وتدوم هذه الأنجم في الفلك عشرة أشهر قمرية، وعشرين يوما إلى أواخر الربيع، ثم تبدأ في الغياب الواحد بعد الآخر، فتغيب أربعين يوما، ثم تعود إلى الظهور الثريا في المقدمة وهكذا.
أما العقرب عندهم فسبعة أقسام تعرف بأسمائها، وهي من الغرب إلى الشرق: التربيعة، اليدان، خشم العقرب، القلب، ذيل العقرب، الشولة وهي آخر الذيل محنيا، سعد الذابح.
ففي أثناء سير القمر في فلكه لا بد له من نزول العقرب سبع ليال متوالية في كل شهر؛ أي ينزل ليلة بكل قسم من أقسام العقرب، ويدعى نزوله بالقران، ينزل أول ليلة التربيعة، وثاني ليلة اليدين، وثالث ليلة خشم العقرب، ورابع ليلة القلب، وخامس ليلة ذيل العقرب، وسادس ليلة الشولة، وسابع ليلة سعد الذابح، ثم لا يكون قران إلى الشهر التالي، فينزل التربيعة أول ليلة وهكذا.
قالوا: وفي أول الخريف عند مطلع سهيل ينزل القمر العقرب وهو ابن ليلة، فيسمى القران قرين ليلة، وفي الشهر التالي ينزلها وهو ابن ثلاث، فيدعى قرين ثلاث، وفي الشهر الثالث ينزلها وهو ابن خمس، فيدعى قرين خمس، وفي الشهر الرابع وينزلها وهو ابن سبع، فيدعى قرين سبع وهو أول الشتاء، وفي الشهر الخامس ينزلها وهو ابن تسع، فيدعى قرين تسع، وفي الشهر السادس ينزلها وهو ابن اثنتي عشرة ليلة، فيدعى قرين 12، وفي الشهر السابع يعود إلى دوره الأول فينزل العقرب وهو ابن ليلة، فيدعى قرين ليلة، ويخرج منها وهو ابن ثمان وهكذا.
وفي ليالي القران السبع من كل شهر لا يسافر البدو، ولا يغزون، ولا يباشرون عملا جديدا إلا مضطرين، فإنها في اعتقادهم ليالي شؤم، خصوصا الليلة السادسة إذ يكون القمر في الشولة، ومن ذلك قول شاعرهم:
أحثك من العقرب وشولتها
ولو فاتك من الرزق كل مطلوب
سيفي هرب على عرقوب ناقتي
وخلى دماها ع الحماد كبوب
وأما الليالي التي لا يكون بها قران فلا يتشاءمون منها، ومن ذلك قولهم:
ليالي عشار الصيد وليالي ولاده
ليالي سعايد ما بهن قران
ويعنون بالصيد التيتل والغزال، فإنه يعشر في أول الخريف بين قرين ليلة وقرين ثلاث، ويولد بعد ذلك بخمسة أشهر؛ أي بين قرين 12 وقرين ليلة، وذلك في الربيع، وهي حكمة طبيعية؛ لوجود الخضر والأعشاب للأمهات في ذلك الفصل.
الفصل الرابع
في زراعتهم
(1) الفصول الزراعية
زراعة أهل سيناء كلها على المطر، فإذا لم يقع مطر كاف حرموا الزرع، وقل الكلأ، واشتد الكرب، وهاجر الكثير منهم إلى سوريا ومصر، وإذا هطلت الأمطار غزيرا وسالت الأودية، زرعوا القمح والشعير والذرة والدخان توا بعد المطر وزرعوا البطيخ في الصيف.
شكل 4-1: الإبل تدرس الحنطة.
وأكثر المطر يقع في بلاد العريش، وأكثر الزراعة في جهاتها الشرقية، وهي هناك بيد السواركة والترابين، وأكثر زراعة أهل التيه في وادي العريش بيد التياها، وأما بلاد الطور فالزراعة فيها قليلة؛ لقلة أراضيها الزراعية. (2) الآلات الزراعية
وهم يفلحون الأرض بمحاريث كالمحاريث المصرية والشامية إلا أنها أصغر وأقصر، يحرثون بها على الإبل، ويحصدون الزرع ويجمعونه في البيادر، ويدرسونه بالنوارج وهذا قليل، أو بالإبل وهو الغالب، وذلك بأن يربطوا عددا من الإبل بعضها برقاب بعض، ويدورون بها على السنابل، فتفعل فعل النوارج.
وفي شمال بلاد العريش يستخدمون الحمير والبقر لدرس السنابل، وقد رأيت رجلا في جهة رفح يدرس الحنطة على جمل وحمار، وبقرة مربوطة بعضها برقاب بعض في حبل واحد، وهم يذرون الحبوب المدروسة بالمذراة «أم خمس أصابع» كالمذراة المصرية. (3) المطامير القمري والكمور
ويخزنون حبوبهم في مطامير، وهي حفر في الأرض على هيئة الجرة المصرية؛ أي إنها تضيق عند فوهتها وتتسع كلما اتجهت إلى الأسفل، ويجعلون أكداس التبن بجانب فم المطمورة للدلالة عليها، ويغطونها بتراب المطمورة، أو يبنون أكواخا من الحجر الغشيم والطين تدعى قرى (م: قرية) يخزنون فيها التبن والمحاريث والخيام والفرد ونحوها، أو يخزنونها في حفر مربعة تحت الأرض على عمق قامة أو أكثر، يجعلون لها في أحد جوانبها سلما من الأرض، ويسقفونها بأغصان الشجر والتراب تدعى كمور (م: كمر). (4) الأقيسة الزراعية
وأهم الأقيسة المستعملة في مسح أراضيهم الزراعية:
المعناه (ج: معاني):
طولها في بلاد التيه 50 خطوة بطول الوادي، وفي بلاد العريش 40 خطوة أو 40 مترا.
المارس (ج: مرس):
وهو قطعة صغيرة من الوادي صالحة للزراعة، تخترق الوادي من الجانب الواحد إلى الجانب الآخر، وإذا كان المارس كبيرا سمي «المزرع». (5) حجج الأراضي
هذا وكل قطعة أرض صالحة للزراعة في سيناء لها مالك من أهلها، ملكها بوضع اليد أو بالوراثة، ولكن ندر من بيده حجة مكتوبة في أرضه، لذلك فالبدو في خلاف مستمر بشأن حدود أراضيهم وملكيتها، وقد طالما جر الخلاف بينهم إلى حرب، وقد بدأت الحكومة الحاضرة تسجل كل ما جد من بيع أو شراء في الأراضي والعقار منعا للمشاكل.
وهذه صورة حجة من حججهم القديمة:
إنه في يوم الثلاثاء 24 القعدة سنة 1319، أنا الواضع اسمي وختمي فيه أدناه مصلح بن عودة بن حسين، من عربان التياها العقفان، قد بعت بيعا شرعيا، وأنا بالأوصاف المعتبرة شرعا قطعة الأرض التي برأس عودة «بالخفجة» بوادي العريش وقدرها ثلاث معاني ونصف، أعني 175 خطوة بالوادي أتراج، وحدودها الأربعة من جهة الغرب وادي العريش، ومن جهة الشرق الحمادة، ومن القبلي أعني من فوق علي أحمد أبو سلامة، ومن الشمال أعني من تحت حسن حسين الجندي، وصارت قطعة الأرض المبينة حدودها ملكا إلى محمد بن جمعة القاطن بنخل، يتصرف فيها كيف يشاء، وأنا قد استلمت ثمنها عدا ونقدا، وقدره خمسة عشر جنيها مصريا بالوفا والتمام، والضامن على البيع إبراهيم بن حسن من عربان التياها، وقد أذنت لمن يشهد علي بذلك، والله تعالى خير الشاهدين.
ويليها إمضاء البايع وستة شهود.
الفصل الخامس
في صناعتهم
أما الصناعة فيعرفون منها ما هو خليق بلوازمهم، وأهمها: (1) غزل الصوف
وهو خاص بالنساء، وقد تضع المرأة الصوف على رأسها والمغزل في يدها وتغزل وهي ماشية. (2) الحياكة
وهي خاصة بالنساء، فهن يحكن بيوت الشعر، والأغطية، والفرش، والغفور، والغراير أو الفراد، والأخراج، والمزاود، والمخالي، والمراير، وغير ذلك من لوازم الخيام والأثاث والملبس، يحكنها من شعر المعزى وصوف الضأن ووبر الإبل، وقد رأيت بعض النساء يحكن بيوت الشعر بأنوال بسيطة إلى الغاية، والنول عبارة عن عارضتين من خشب متقابلتين ومرفوعتين قليلا عن الأرض، بينهما «مدة» نسيج من الصوف داخلة في «مشط» من التيل، فتجلس المرأة الحائكة في طرف المدة، وفي يدها قرن غزال تدخل به «اللحمة»، والحياكة بهذا النول بطيئة جدا، حتى إن المرأة تشتغل النهار بطوله فلا تحيك أكثر من مترين.
شكل 5-1: بدوية تحيك على نولها، وإلى يمينها بدوية على حضنها طفل. (3) الصباغة
وهي من شغل نسائهم، يصبغن خيوط الصوف التي تدخل في حياكة الأخراج ألوانا حمرا وخضرا وصفرا، يستخرجنها من بعض الأعشاب البرية، وأمهر بدو سيناء في حياكة الأخراج نساء التياها، وثمن الخرج جنيه أو أكثر. (4) الخياطة والتطريز
ولأكثر نسائهم مهارة خاصة فيهما. (5) عمل البارود
قالوا: يأتون بالصفصاف من وادي العربة، وبملح البارود من جهة حسما على يوم شرقي العقبة، ويشترون الكبريت من مصر أو الشام، ويصنعون البارود على نسبة رطل من ملح البارود لأقة صفصاف وأوقية كبريت، وقد سألت خبيرا منهم عن كيفية صنعه، فقال: تذيب ملح البارود بالماء بنسبة فنجان ملح لخمسة فناجين ماء، ثم تغليه على النار حتى يتبخر الماء كله، فتتركه إلى أن ينشف، ثم تحرق خشب الصفصاف في حفرة حتى يصير فحما وتغطيه بالصاج، ثم تجعل مزيجا من ملح البارود المغلي وفحم الصفصاف على نسبة اثنين من الملح إلى واحد من فحم الصفصاف، وتضيف إلى المزيج من الكبريت سدس كمية فحم الصفصاف، أو ثلث كمية ملح البارود، وتدق المزيج في جرن من خشب بيد من حجر حتى يتم مزجه، فتجربه بتقريب شيء منه إلى النار فإذا التهب فاعلم أنه «طاب» وإلا فعد إلى دقه حتى يطيب، ثم تسقيه ماء وأنت تدقه حتى يصير رطبا، فتغطيه على غربال وتدحرجه عليه، ثم تضعه في قصعة وتشمسه حتى ينشف، فإذا به البارود الذي نستعمله. (6) عمل الرصاص
وهم يشترون الرصاص من السويس ويسبكونه بقوالب عندهم. (7) عمل الفحم
ويصنعون الفحم من خشب السيال والرتم والطرفا، ويدخلونه في المتجر، وأفضله فحم السيال، ثم فحم الرتم، ثم فحم الطرفا، فحمل الجمل من فحم السيال بعشرين غرشا صاغا ، ومن الطرفا بعشرة غروش صاغ. (8) الحراثة
وهم يحرثون الأرض على الإبل بمحاريث كالمحاريث المصرية كما مر.
شكل 5-2: الحراثة على الإبل. (9) البناء والنجارة وإصلاح السلاح
ولأهل مدن سيناء معرفة في صناعة البناء والنجارة، ولبعضهم مهارة في إصلاح السيوف والبنادق، يشتغلون بها في المدن والبادية. (10) حجارة الرحى
ويصنعون في باديتهم حجارة الرحى، فيأخذون منها كفايتهم، ويدخلون ما يفيض عنهم في المتجر، ويستخرجون «القلي» من نبته ويتجرون به. (11) الصيد
ولبعض البدو مهارة في صيد التيتل والغزال والأرنب، يصيدونها لأجل لحمها وجلدها وقرونها، ويجعلون صيدها صناعة لهم، كذلك صيد الطير في بلاد العريش كما مر، وكثيرون من أهل المدن والشطوط البحرية يصيدون السمك، وبعض سكان شواطئ خليج العقبة يغوصون على اللؤلؤ، ولبعضهم معرفة في عمل الشباك. (12) قص الأثر
هذا ولبدو سيناء مهارة عجيبة في قص الأثر؛ من ذلك أن «مصري بن نابع القراشي» حضر إلى السويس بتجارة من الفيروز سنة 1900، فباعها وقفل راجعا بالثمن إلى بلاده، وكان يرقبه في السويس سلام أبو سعيد من فرنجة مزينة، فسبقه وكمن له عند مطخ النسر جنوبي عيون موسى، حتى أقبل على هجينه فرماه برصاصة أصابت رأسه فخر قتيلا، فجره إلى شاطئ البحر، واعتقل هجينه بجانبه وتركه، فتفقده قومه فوجدوه ميتا بعد ستة أيام من الحادثة، وجمله لا يزال معتقلا بجانبه، فاقتفوا آثار أقدام القاتل، فحكموا أنها آثار أقدام رجل من فرنجة مزينة، فذهبوا إلى الفرنجة وقالوا: أحضروا غريمنا لنثأر منه وإلا فما بيننا إلا الحرب، فأنكروا الجريمة أولا، ثم اعترف القاتل بها فقتلوه رميا بالرصاص على رأسه كما قتل رجلهم وانطفأ الشر.
الفصل السادس
في تجارتهم
(1) الإبل والخيل والغنم
يعتني أهل سيناء بتربية الإبل والخيل والغنم، ويستولدونها ويتجرون بمواليدها الذكور، أما الخيل فلا يقتنيها إلا الرميلات والترابين في شرق بلاد العريش، وأما الإبل والغنم فقنية أهل سيناء كلهم من بادية وحضر كما مر، وأكثر إبل سيناء في بلاد التيه عند التياها واللحيوات.
وفي كل سنة يذهب تجار الحويطات من مصر إلى بلاد التيه، فيشترون ما يفيض عن حاجة البدو، أو يذهب البدو به إلى مصر ويبيعونه، وقد تقدم في فصل سابق ذكر الإبل والخيل والغنم التي تمر بسيناء من سوريا والحجاز عن طرق العريش ونخل والنبك، وأكثر التجار الذين يأتون بطريق نخل إلى السويس أو الإسماعيلية، هم عرب الوجه، وضبا، والمويلح، والعقبة، ومعان، والكرك، والذين يأتون بطريق العريش إلى القنطرة هم عرب عقيل، والذين يأتون بطريق النبك إلى السويس هم حويطات مصر. (2) الفيروز
ثم إن أعظم تجارة للبدو بعد الأنعام «الفيروز»، ولكن هذه التجارة يتفرد بها الطورة وحدهم؛ لوجود معدن الفيروز في بلادهم، وكان يعدنه قديما «الحماضة» سادة البلاد الأصليون، ثم عدنه سائر الطورة، ويبلغ عدد المشتغلين به الآن نحو 200 رجل، ودخلهم نحو 2000 جنيه في السنة كما مر.
وأغنى أهل سيناء تجار الفيروز القرارشة، وكان أغناهم المرحوم الشيخ موسى أبو نصير، قدرت ثروته ب 2000 جنيه، و30 ناقة حلوبة، و200 رأس غنم، ويأتي بعده في الغنى ربيع بن جمعة وأخواه: بنية، وحمدان من القرارشة. (3) حجارة الرحى
هذا وكانت تجارة حجارة الرحى قبل استعمال مصر لوابورات الطحن البخارية تجارة متسعة في سيناء، وكان يشتغل بها على الأخص عرب مزينة في بلاد الطور، وعرب البدارة في جنوب بلاد التيه، أما البدارة فيبيعونها في بلاد غزة إلى اليوم، وأما مزينة فكانوا يبيعونها في مصر، يحملونها على الإبل كل أربعة على جمل، ويبيعونها الحجر بريال، وكانوا يبيعون مئات من الأحمال في مديرية الشرقية ومصر القاهرة، وأما الآن فلا يطلبها إلا تجار المغاربة، يشترونها من السويس بكميات قليلة، وبذلك انقطع عن عرب مزينة رزق واسع. (4) المن
وأهل الطور يجمعون المن من شجر الطرفاء، ويجعلونه في أحقاق صغيرة من صفيح، ويبيعونه للسياح في السويس ومصر، وللحجاج المسكوب في دير سيناء. (5) العجوة
وفي أيام الصيف في موسم البلح يستخرجون النوى من البلح، ويجعلون في مكانها قلوب اللوز، ثم يجعلونها في أجربة صغيرة من جلد، يسع الجراب الواحد منها رطلا أو نصف رطل، ويبيعونها في السويس أو مصر القاهرة وغيرها. (6) الغاب
ويجمعون الغاب أو القصب الذي ينبت لنفسه في أوديتهم، ويبيعونه في مدينة الطور المائة بخمسة غروش صاغ. (7) السمار
ويجمعون السمار الذي ينبت على العيون، ويبيعونه في المدن لنسج الحصر. (8) الحنظل
هذا وبعض بدو العريش يتجرون بالحنظل، يجمعونه من صحاريهم المرملة، ويبيعونه للصيادلة في المدن لإدخاله في المواد الطبية.
ومما تقدم ترى أن أهم «موارد الرزق» لبدو سيناء هي من تأجير الإبل للسياح والحجاج ورجال الحكومة وغيرهم، ومن صيد الأسماك والطير والتيتل والغزال، ومن بيع الإبل والغنم والمعزى والصوف والسمن، ومن بيع الفيروز، وحجارة الرحى، والفحم، والسمار، والغاب، والمن، والعجوة، والقلو، والحنظل، ومما يفيض عنهم من الفاكهة، ومن الأنسجة الصوفية كالفراد والأخراج والمزاود والمخالي والمراير وغيرها.
هذا وأهم ما يتطلبه بدو سيناء من مواد التجارة: الحبوب، والأقمشة القطنية، والأسلحة يشترونها من مدنهم، أو من مدن مصر، أو سوريا القريبة منهم، كغزة والسويس والإسماعيلية والقنطرة وبورسعيد، وفي موسم الحصاد من مايو إلى يوليو يذهب بعض تجار العريش ببضائعهم وخيامهم، ويسكنون بين العرب، فيقايضون بضائعهم بالشعير والقمح والذرة والغنم والسمن، وآخر ما تصل إليه خيام العرايشية لجهة الجنوب جبل إخرم والمنبطح، وإلى جهة الشرق الجورة ورفح، وقد رأيت في أثناء سفري مع لجنة الحدود سنة 1906 خياما للعرايشية في وادي الجايفي، ووادي الصبحة، وبيرين، والمربعة، ورفح، ورأيت في خيامهم من الملبس والمأكل ما يأتي:
دفافي (م: دفية) وهي العباءة، ودبلان، وخام أبيض ومصبوغ، وخرز، وسبح، وأمشاط، ومرايات، ودخان، وغلايين، وقيود جمال من حديد، وصفن (ج: صفانة)، وبراقع بيض وحمر، ومراير، وعمائم، ووقايات لرءوس النساء، وغرابيل، وزمامير، وسكاكين، وأمشاط، وبيوت للطبنجات، وصابون، وزيت، وعسل، وتين، وعجوة، وسكر، وبن، وقمر الدين، وزبيب، وملبس، وغيرها.
الباب الثاني
في أخلاق البدو وعاداتهم وخرافاتهم
الفصل الأول
في أوصافهم الخلقية
أشهر أوصاف البدو الخلقية، رشاقة القد، وخفة الحركة، وذكاء العيون، وسمرة اللون، وقلة شعر العارضين، وقنا الأنف، وبدو سيناء لا يخرجون عن هذه الأوصاف، والجمال في نسائهم قليل، ولكنه يؤيد قول المتنبي:
حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب
إلا أن البدويات يولعن بوشم الشفاه ، ويعدونه من الجمال، وقد وصف الشيخ ضيف الله سالم شيخ الخناطلة اللحيوات الجمال في عرفهم فقال:
يا بنت يا اللي هالعة باللثام
يا اللي تحطي ع الحنك حبر ووشام
يا للي تقولوا وصفنا مطر شاني
حب البرد بيض الثنايا ولو قام
مسهى برمش العين رقد الحمام
وتقول موجوعا على نعاس لو نام
وشعور مكفيات عرجون زام
على الصدر مرخيات والصلب بحزام
ونهود رويانات والخد باني
وتقول فينار يضوي بالظلام
وزراع ز الصابون وأحسن مداني
وسوار فضة ما تشفوه غريان
وختوم مرصوصات والذبل باني
والصدر نوار الضحى يوم نديان
لاهي من البيض ولا مخضراني
وصف المعاني بالروا يوم عطشان
ولا هي مربوعة ولا في الطوال
قليلة الوصف بدو وحضران
لو سمتها بالمال تشري بغال
وإن صبحت ما قلت يا حيف ندمان
لو هفت لها بالعين ما قلت ثان
تجيب مطلوبك على فكر الأذهان
شمع العسل لو شمخنها رناني
قطف الزهر ما قلبها كل شفقان
وقال بعض شعرائهم في رقص الدحية:
يا عيونها اللي بدت لي
يا شبه غدير الصفية
يا قرونها اللي بدت لي
يا حبال البيت العودية
يا خشيمها اللي بدا لي
يا ضيق الخاتم وشوية
يا نهيدها اللي بدا لي
بيض الحمام الرقدية
يا صليبها اللي بدا لي
فتلة حرير ومطوية
يا ساقها اللي بدا لي
يلمع لميع الشبرية
الفصل الثاني
في أخلاقهم
اشتهر البدو في كل زمان ومكان بحب الضيافة، والكرم، والغزو، والنجدة، والأخذ بالثأر، ومراعاة الجار، وتعظيم الجميل، وتكريم الإبل، واحترام العرض، والوفاء بالعهود، والافتخار بالنسب، والشجاعة، وعلو الهمة، وبذل المعروف، والأنفة، وعزة النفس، وعدم احتمال الضيم، وكره التقيد بنظام، والجراءة في طلب الحق، والأريحية، وحب المساواة والحرية، والشورى في الشئون العمومية.
وترى أثر هذه الأخلاق كلها في بدو سيناء، لكن ضعف حالهم وقلة عددهم يفقدانهم رونق هذه الأخلاق، فلا تراها رائعة متأصلة فيهم كما في بدو مصر والشام.
وبدو التيه أعرق في البداوة من بدو الطور والعريش، لكنهم ليسوا أكرم أخلاقا ولا أطيب أعراقا منهم، ولست أذكر أخلاقهم هنا خلقا خلقا، ولكني أذكر ما خبرته بنفسي من تلك الأخلاق. (1) الضيافة
وأول خلق رأيته فيهم حب الضيافة، فإذا أقبل الضيف أنزلوه على الرحب والسعة، وأضافوه بالتناوب إلا إذا كان عزيزا لديهم جميعا، فإنهم لا يراعون النوبة ويتسابقون إلى ضيافته، فإذا اختلفوا في من يضيفه رفعوا الأمر إلى كبير القوم، وهو يسمي المضيف، وحكمه نافذ، وقد اتفق لنا في رجوعنا من دير طور سيناء في يناير سنة 1905، أننا مررنا على مخيم الشيخ صالح شيخ قبيلة أولاد سعيد، فاستقبلنا أهل المخيم واختلفوا في من يضيفنا، وكان الشيخ موسى أبو نصير كبير مشايخ الطورة معنا، فرفعوا الأمر إليه، فقضى بأن نكون ضيوف الشيخ صالح؛ لأنه حضر معنا من الدير، فذبح خروفا وسلقه وطبخ بمرقه أرزا، وجعل الأرز في قصاع من خشب، وجعل في كل قصعة بضع قطع من اللحم، وفي قصاع أخرى أرغفة من الخبز، وكان قد حضر إلى خيمة الضيوف جميع رجال المخيم، فجلسوا حول القصاع فئات، كل فئة حول قصعة، فأكل الجميع إلا المضيف، فإنه بقي على خدمة الموائد إلى أن فرغ الجميع، فأكل ووزع ما بقي من الطعام على النساء فأكلن في خيامهن، والعادة أن كبير الضيوف يرسل من قصعته نصيبا من اللحم إلى راعية البيت، إذ النساء لا يأكلن إلا فضلات الرجال، ومما يذكر أن اليدين والرجلين ولحم الرقبة ولحم البطن، لا تقدم على موائد الرجال، بل تحفظ للنساء، قالوا: ويعد تقديمها على موائد الرجال إهانة لهم، وبعض العرب لا يحتفلون بالذبيحة إلا إذا رأوا رأسها على المنسف، ومنهم عربان ضبا والمويلح، ولكن عربان سيناء يتركون الرأس للنساء، ويجعلون الكبد على المناسف بدل الرأس. (2) العداية
ومما يذكر عنهم في هذا الصدد ما يعرف «بالعداية»، وهي ما يأخذه المضيف من غنم جاره لإكرام ضيفه، فإذا فاجأ البدوي ضيف ولم يكن عنده ما يضيفه به، فله أن يأخذ رأسا من قطيع جاره، سواء كان من قبيلته أو من غير قبيلته ليذبحه للضيف، بل له أن يعدو على قطيع جاره، ولو كان الضأن والمعزى ملء داره، بل لا يشترط أن تكون الذبيحة التي أخذها من قطيع جاره أليق للذبح مما عنده، ولكن يشترط رد مثل الذبيحة في مدة أربعة عشر يوما، ومن أمثالهم: «الكرم سداد»، فإذا لم يرد المضيف العداية في هذه المدة، حق للجار الوثاقة عليه - أي الإغارة على غنمه - وحجز ما أمكنه منها حتى يسترد العداية.
ومن عادة المضيف أن يلطخ رقبة جمل ضيفه بدم الذبيحة، حتى إذا ما جاء أحد يطلب الوثاقة منه لا يقرب هذا الجمل احتراما للضيافة. (3) الإباء والحرية
ومن أجمل ما رأيت في أخلاقهم الإباء والحرية في القول والعمل، رأيت في بلدة نخل رجلا من عامة البنيات التياها يدعى سلام أبو عكيرش، كان يخاطب حاكما أعجبه حكمه قال: «أنت كبيري، أنت راجل حق تخاف منك العرب، العرب جبابرة، الهين ما يحكمهم»، وخاطب حاكما لم يعجبه حكمه فقال: «أنا عارفك وكل الناس تقولك: إنك لا تصلح للحكم ووكيلك خير منك.»
وحكي عن هذا الرجل نفسه أنه استأجره بعض العسكر؛ لجلب بعير له من مرعى على عشرة أميال من نخل بأجرة ريال واحد، فذهب في أثر للبعير فلقيه على نحو خمسة أميال من البلدة، فأتى به إلى صاحبه، وقال له إنه لقيه بمحل كذا فما استحق غير نصف الأجرة التي اشترطها لنفسه، وأبى أن يأخذ إلا نصف الأجرة.
واستأجره رجل من نخل؛ لينظف له أرضا يريد زرعها على أن يدفع له ريالا مصريا، فلما نظف الأرض وجد أن الشغل أيسر مما ظنه، فقال لصاحب الأرض: إن الشغل في أرضك لا يستحق ريالا فخمسة عشر غرشا تكفيه، وأبى أخذ الزيادة.
وترى البدوي يخاطب شيخه، ويعامله كأنه مثيل له بلا تهيب ولا مداراة. (4) الفروسية
وهم يعظمون الفارس الشجاع، ويسقون أطفالهم من ريقه، وذلك بأن يأخذ الفارس ريقه بحد السيف، ويلقمه الولد أو يلقم الولد الريق رأسا في فمه.
وهم يغنون في سيرهم إلى القتال الأناشيد الحماسية، ومن ذلك قولهم:
اللي يموت خليه يموت، خليه يزور المقبرة، يا بيض لا تحدن عليه، وقولهم:
عيب على اللي ما يحضر المنايا
ويشتري في سوقها ويبيع
والعز في ظهور الصفايا
والعمر عند الله وديع (5) قتالهم
وإذا أرادوا الغزو ركبوا الهجن، وقصدوا العدو حتى يصلوا إلى مقربة منه، فيأتون خورا أو منخفضا من الأرض، ويبركون الإبل ويعقلونها ويجعلون عندها بعضهم لحمايتها، ثم يتقدمون صفا واحدا، حتى إذا ما رأوا العدو أطلقوا عليه نيرانهم، فإذا فرغت النيران حملوا بالسيوف حملة صادقة، فلا يعودون إلا ظافرين أو منكسرين.
وفارسهم في ساحة القتال يتكنى باسم أخته أو بنته، فيقول: أنا أخو فلانة، وأنا أبو فلانة، وينادي: «الذبح! الذبح!» (6) احترام العرض
وقصاص الزاني عندهم القتل، وأما مزينة والتياها فيقبلون الفدية. (7) الأخذ بالثأر
وأهم ما اشتهر به البدو وتحققته في بادية سيناء الأخذ بالثأر، فما يموت لبدوي ثأر مهما قل شأنه أو مهما طال عليه العهد، وإذا مات قبل أن يثأر من خصمه خلف الثأر لابنه ولنسله من بعده، لكنه قد يعرف حقه ويتركه.
حدثني القائمقام محمد بك كامل قومندان جزيرة سيناء سابقا قال: اختصم موسى بن نصار من عرب أولاد سعيد مع عيد بن محمد من عرب العليقات سنة 1905 على جمال، ورفعا الأمر إلي، فدافع موسى عن حقه بكل حماسة وشدة، وأقسم ألا يرجع عن خصمه حتى يثبت حقه، فلما قال الخصم لك عندي هذا الحق يا أبا فلان خمدت ناره، وسكن جأشه، وأجابه على الفور لقد تركته لك. (8) النجدة
ومن أكبر المعايب عندهم أن يفر الرجل من القتال أو يجبن عن نجدة رفيقه، أو يسرق مطمورة جاره، فمن فعل هذه الجرائم كلها أو واحدة منها؛ احتقر ورذل، ورفضت البنات زواجه، قالوا: وإذا دخل مجلسا ووزعت القهوة على الجلوس مد الساقي يده بالفنجان موهما أنه يقدم له القهوة، حتى إذا ما مد يده لتناول الفنجان كبه الساقي في الأرض استخفافا به واحتقارا لشأنه، فينصرف من المجلس من غير أن ينبس ببنت شفة، وفي غالب الأحيان يرحل إلى بلاد لا يعرف أحد فيها بجنايته.
ومما يدل على مروءتهم وحبهم النجدة ما حكاه لي الشيخ إبراهيم أبو الجدائل المار ذكره، قال: «إن رجلا من القرارشة يدعى حسن أبو نميرة، استدان مني 12 بنتو، فطالبته مرارا فلم يفها، وفي كل مرة يعتذر بالعدم، فلما كانت سنة 1900 ذهبت إلى غوطة فيران في موسم البلح لتحصيل ديوني من العربان، فوجدت حسن أبو نميرة هناك فطالبته بالدين، فاعتذر بالعدم كعادته، فسألت قومه عن حاله فأقسموا أنه لا يملك شيئا غير الثوب الذي عليه، فقلت لهم: إذن أنتم أهله تفون دينه؛ لأني أنا لم أقرضه مالا إلا لقرابته بكم، فقالوا: ولكنا نحن لم نكفل لك دينه ولا سألناك أن تقرضه، قلت: إذن فاحسبوني واحدا منكم وتحملوا الخسارة معي، قالوا: «المفرط أولى بالخسارة»، فلما ضاقت بي الحيل قلت: أريد منكم شيئا بدل مالي، وهي أن تربطوا عمتي هذه في رقبته، فأقوده بها من أول فيران إلى آخره، قالوا: ولأي شيء تفعل ذلك؟ قلت: أريد أن أقوده إلى العوارمة لعلهم يفتدونه بوفاء دينه، فقالوا: أنسمح بابن عمنا أن يجر كالخروف إلى قبيلة أخرى، ثم قام واحد منهم وقال: علي باثنين بنتو من دينه، فقام الحاج موسى أبو خشني وقال: علي بالدين كله يا أبا الجدايل، ووفاه عن آخره!»
هذا، ومع تغلب هذه الأخلاق العالية في البدو، فإنك قد تجد فيهم الكذب والخداع والغدر والخيانة والجبن كسائر الناس، خصوصا إذا اختلطوا بالحضر!
ومن وصايا البدو التي تدل على أخلاقهم:
احفظ وصاتي يا ولد يوم بوصيك
وإن شلتها تصبح كثير الربوح
أوصيك عن جارك وضيفك واللي يعانيك
تدر عليهم در حمرا مسوح
أوصيك على بنت اللاش لو كان تهنيك
يطلع ولدها مثل طير شنوح
أوصيك خذ بنت سبع ولو كان يعاديك
يطلع ولدها مثل صقر اللموح
إن غلقت البيبان يفتح ويعطيك
وإن قضيته حسب ما يروح
ومن وصاياهم:
أوصيك يا ولدي مبارك
وحياة اللي كبيره غاب عنه
أوصيك عن واجب طنيبك
وسيور الظعون يفارقنه
أوصيك عن سنك سلاحك
تجيك أوقات ما تقدر تسنه
أوصيك عن حزب المخالف
وسيور الديون يخلصنه
أبعد عن عدوك يوم يعاديك
وإن تابعك اضربه ضرب ما فيه كنه
ومن أقوالهم في تكريم النسب:
إنسب وليدك إنسبه
والنار من مقباسها
والعز في اوراك النسا
اللي بعيد ساسها
والجري في ربع النضا (الإبل)
والخيل في أسداسها
الفصل الثالث
في عاداتهم
(1) خيامهم وعرائشهم (1-1) الخيام
يسكن البدو في خيام من الشعر، تحيكها النساء، ويبنونها على شكل ظهر الثور، جاعلين أبوابها إلى الشرق، وللخيمة المستوفاة تسعة أعمدة، ثلاثة في الوسط، وثلاثة في كل من الجنبين، أما عمد الوسط فهي «المقدم» في صدر الخيمة في الشرق، «والواسط» وهو أعلى العمد في الوسط، «والزافرة» في الغرب، وأما عمد كل من الجنبين فهي: «اليد والعامر والرجل».
هذا هو هيكل الخيمة يكبرونه أو يصغرونه حسب الاقتضاء، ثم يضعون فوق هذه الأعمدة السقف، مؤلفا من «شقاق»، يحيكونها من شعر الماعز، ثم الأجناب وتدعى «الرواق»، تحاك من وبر الإبل وصوف الغنم وأكثرها من الصوف، ويجعلون في وسط الخيمة ستارا يدعى«المعند»، يمد من المقدم إلى الزافرة فيقسم الخيمة قسمين، قسما للنساء وقسما للرجال، ويحاك من الصوف أو الوبر، وأكثره من الصوف، وأما باب الخيمة فهو الوجه الشرقي كله، يترك مفتوحا إلا في أيام المطر والبرد فإنه يقفل، وتثبت جوانب الخيمة في الأرض بالأوتاد والحبال، يشترونها من المدن أو يجدلونها في باديتهم من نبت السمار.
شكل 3-1: بعض الطورة في خيمة لهم. (1-2) العرائش
وهم لا يسكنون الخيام إلا في الشتاء والربيع؛ اتقاء المطر والبرد، فإذا ارتفع المطر وزال البرد خبئوا خيامهم في «القرى»، وبنوا لأنفسهم أكواخا من القش وأغصان الشجر؛ اتقاء الحر والرياح تدعى «عرائش». (2) أثاثهم
وأهم أثاث خيامهم وعرائشهم:
المنسف:
وهو طبق مستدير واسع من الخشب، يقدمون عليه الطعام للضيوف.
والباطية:
وهي منسف صغير يستعملها رب العائلة الكبيرة.
والكرمية:
أو الزلفة: أصغر من الباطية، وتستعمل لعجن الدقيق وتقديم الطعام.
والهنابة:
أصغر من الكرمية وأعمق جوفا منها، وتستعمل استعمال الكرمية.
والقدح:
وهي آنية من خشب في شكل مربع مستطيل ولها يد وفم، تستعمل لحلب الإبل وشرب الماء .
وحجارة الرحى:
يستعملونها لطحن الدقيق، ويتجرون بها كما مر.
والغرابيل:
لغربلة الحبوب وتنظيف الدقيق، يشترونها من المدن.
والصاجات:
من الحديد للخبز وعمل الأرغفة.
والحلل النحاسية:
للطبخ، يشترونها بلا أغطية.
وعدة القهوة:
وهي مؤلفة من: «المحماصة» وهي طاسة من الحديد، يحمصون بها البن، «والهون» وهو هاون من الحجر أو الخشب أو الفخار، يستخدمونه لسحن البن، ومعه يد من خشب تعرف «بالسحانة»، «والبكرج» وهو إبريق من نحاس لغلي القهوة، «والفناجين» وهي من الصيني الثخين واسعة الفم، يشترونها من المدن ويستعملونها بلا صحون، «والصينية» من نحاس يشترونها من المدن، أو من خشب، وتصنع عندهم بيد من أصل الخشب.
والأغطية:
ينسجونها من الوبر أو الصوف، ويستعملونها كالألحفة.
والغفور (م: غفرة):
ينسجونها من الصوف المصبوغ أحمر وأخضر، ويستعملونها أغطية أو يطوونها ويستعملونها وسائد.
والفرش (م: فراش):
يستعملونها كالبسط والسجاد.
والغرائر (م: غرارة):
أو «الفراد» (م: فردة) وهي أكياس من الوبر أو الصوف أو الشعر؛ لحفظ الحبوب وحملها.
والأخراج:
وهي أهم أثاثهم ولا بد لهم منها في أسفارهم، يصنعونها من الصوف الأبيض والملون أخضر وأصفر وأحمر، ويصنعون لها شراريب من الصوف والشعر.
والمزاود (م: مزوادة):
تشبه فردة الخرج، وتصنع مما يصنع منه الخرج، وتستخدم في السفر لحمل الدقيق.
والمخالي:
للخيل، تصنع من الصوف أو الوبر.
وكل هذه الأنسجة الصوفية تحاكم عندهم «بأنوال» بسيطة تقدم لنا وصفها.
والقرب:
وهي آنية الماء المشهورة، وتصنع من جلود المعزى، وهي أفضل الآنية لتبريد الماء، وأما في بلاد العريش الشرقية، فيستخدمون أجرار الفخار السود بدل القرب، يشترونها من غزة واستخدامهم للقرب قليل.
والمجارب (م: مجرابة):
وهي أكياس للدخان، تصنع من جلود الغزلان وجداء المعز.
والغلايين:
لشرب الدخان، أما عودها فيصنع من شجر الأثل أو شجر الكرز يشترونه من السويس، وأما حجرها فيستخرجونه من جبل كتيفة بجوار يلك، أو من جبل العرف شرقي العقبة، وهم يعلقون في الغليون سلسلة، وفيها مبرد يدعى «الإبرة» لتنظيف الحجر، وملقط صغير يدعى «الماشة» لالتقاط الجمر.
وأسرجة الإبل والخيل والحمير:
ويعرف سرج الحمار عندهم بالبردعة، وسرج الفرس بالسرج، وسرج جمل الحمل «بالوتر أو الحوية»، وسرج جمل الركوب «بالغبيط أو الشداد» وللغبيط حزامان من الشعر، وهما «البطان»، ويحزم مقدم بطن الجمل، «والحقب» ويحزم مؤخر بطنه.
وقد ورد في القرآن الكريم وصف مساكن البدو وأثاثهم، وأمتعتهم بعبارة في منتهى الرقة والجزالة، وهي:
وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين . (3) لبسهم وسلاحهم (3-1) لبس الرجال
ولبس البدو قميص قصيرة، فوقها قميص طويلة من الخام أو البفتا، تدعى «الثوب أبو أردان»، سميت بذلك لطول ردنيها، فإن لابسها لو وقف وألقى يديه إلى جنبيه يكاد ردنا ثوبه يمسان الأرض، ولكنهما في الغالب يعقدان وراء الظهر.
وقد يلبسون فوق الثوب أبو أردان «الكبر» وهو ثوب من البفتا كالقفطان، ويلبسون فوق الكل عباءة سوداء تدعى «دفية»، وهم يستعملونها لأغراض شتى.
وفي الشتاء يتردون «بالفري» أو «الجعدان»، أما الجعدان فمفردها الجاعد، وهو جلد من الضأن غير مدبوغ، يلبس فوق الثوب مقلوبا، حتى يكون صوفه لجهة الظهر، ويؤتى بطرف منه فوق الكتف الأيمن، والطرف الآخر من تحت الإبط الأيسر، ويعقد الطرفان فوق الصدر، وأما الفري فهي الجعدان مفصلة تفصيل السترة الإفرنجية بأكمام وأزرار.
ثم إن أكثر الطورة يلبسون السراويل، وأما سائر بدو الجزيرة فلبسهم للسراويل نادر، وكلهم يلبسون في أرجلهم «النعال» من جلد الحيوان، ويلبس كبارهم الجزم أو البلغ المصرية، يشترونها من غزة أو السويس.
ويلبسون على رءوسهم «العمامة والمريرة» فوق عراقية من وبر الإبل، إلا بدو الطورة وأهل مدينة العريش، فإنهم يلبسون الطربوش المغربي فوق العراقية، وعلى الطربوش عمامة من الشاش أو الحرير الملون، غير أن كثيرين من بادية العليقات ومزينة يلبسون العمامة والمريرة، كبادية التيه والعريش، أما العمامة فهي منديل أبيض من قطن، وأما المريرة فهي العقال من صوف الضأن أو وبر الإبل، وقد يلبسون فوق العمامة «كوفية» من حرير ملون، أو «شال» من الصوف الأبيض، ويعقدون الاثنين بالمريرة. (أ) سلاحهم
وكلهم يتحزمون بكمر يجعلون فيها نقودهم، أو بسيور من جلد، ومنهم من يعلق بحزامه سكينة محدبة ذات حدين تدعى «الشبرية»، يخيط قرابها بالحزام. (ب) سيوفهم
ولا بد لكل منهم من سيف يحمله تحت إبطه الأيسر، وأكثر سيوفهم محدبة، محلاة أغمادها بالفضة، وهي أنواع:
العجمية:
وهي سيوف مستقيمة ذات حدين كسيوف عرب السودان، وهي من صنع العجم، وقد رأيت سيفا من هذا النوع مع الحاج حمدان الزيت من القرارشة، عليه كتابة هذا نصها: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، نصر من الله وفتح قريب.»
والدمشقية أو الشاكرية:
وهي سيوف محدبة ذات حدين تأتي من الشام، وهي أجود الأنواع.
والسليمية:
وأكثر سيوف بدو سيناء من هذا النوع، وهي سيوف مستقيمة محنية من رأسها، وهي أردأ الأنواع، وأكثر سيوف بدو سيناء منها، قيل وتنسب إلى السلطان سليم الفاتح العثماني. (ج) بنادقهم
ثم إن أكثر بدو سيناء يحملون البنادق مع السيوف، وبنادقهم أنواع:
بنادق بالفتيلة:
وهي أقدم الأنواع، يولعون الفتيلة قبل إرادة إطلاقها بقليل، ويستخدمونها لصيد التيتل والنمر، وغيره من الحيوانات الكاسرة.
وبنادق بالشطفة:
أي بالقداحة والصوانة، وهي تلي البنادق بالفتيلة قدمية.
وبنادق بالكبسول:
مفردة أو متومة، ويقال للمتومة «بنادق بروحين».
وبنادق رمنتون:
ويقال: إن في الجزيرة نحو ألف بندقية منها، التقطها البدو من أرض مصر بعد الثورة العرابية، ولكنهم لا يحملونها في البنادر.
وبعضهم يحمل «طبنجات» بالشطفة من الطرز القديم، أو المسدسات المعروفة «بالريفلفر»، وهم يعلقون «الذخيرة» على الكتف اليسرى مدلاة من تحت الإبط الأيمن، «والصفن» على الكتف اليسرى مدلى من تحت الإبط الأيسر، أما الذخيرة فهي سير من جلد، يشدون إليه مكاحل من قصب الغاب ملأى بالبارود وقرنا فيه المستحفظ من البارود، وأما الصفن فهو كيس مربع من جلد، يجعلون فيه الدراهم، والموسى، والسكين، والزناد، والقداحة، ورصاص البنادق وغيرها، وقد يحملون للرصاص صفنا خاصا، وإذا ساروا حملوا «الغلايين» بأيديهم، «والمجارب» أو أكياس الدخان في أرساغهم، وإذا ركبوا الإبل حملوا «المحاجن» (م: محجن) وهو قضيب معقوف الرأس، وإذا ركبوا الخيل حملوا «الرماح» الطويلة كما مر.
ويحمل رعاة الإبل «الدبوس» وهو عصاة قصيرة في رأسها كتلة.
هذا في لبس أهل البادية وسلاحهم، وأما الحضر في مدنهم الثلاث فيلبسون القفاطين القطنية والحريرية، والستر الإفرنجية والطرابيش المغربية أو الإسلامبولية، والأحذية الحمراء والسوداء كعامة مدن مصر.
وكلهم من عرب وحضر، يحلقون شعور رءوسهم ويدورون لحاهم ويهذبون شواربهم، وبعضهم يتركون خصلة في قمة الرأس، فيضفرونها ضفيرة واحدة أو أكثر، تتدلى تحت العراقي، وأكثر الطورة يحفون شواربهم من تحت الأنف.
وكلهم يتختمون بخواتم من الفضة بفصوص من العقيق أو الفيروز أو حجر الدم، ويفضلون العقيق على الفيروز؛ لأنهم يعتقدون أنه مانع للرعاف، وقد يتختمون بمحابس من النحاس، ولبسهم للذهب نادر. (3-2) لبس النساء
هذا في لبس الرجال، وأما النساء فإنهن لا يلبسن إلا الثوب أبو أردان، يشترونه مصبوغا أزرق، ثم يغمقون لونه بصبغة من جذور النبات، ويتحزمن بحزام من شعر أسود أو أبيض، يلففنه حول الخصر ثلاث لفات ويحكنه في البادية، وقد يلبسن فوقه حزاما أحمر يسمى «السفيفة»، تتدلى منه شراريب عن الجنب الأيمن إلى حد الركبة، ويلبسن في أرجلهن النعال أو الأحذية الحمراء، ولبسهن للأحذية قليل.
ونساء بادية التيه والعريش يضفرن شعورهن ضفائر يرخينها على الكتفين، وأما نساء الطورة فإنهن يضفرن شعور رءوسهن ضفيرة واحدة بارزة فوق جباههن، وتدعى عندهم «بالقبلة» (انظر شكل
5-2 )، وقد يعلقن في رأس القبلة خرزة زرقاء؛ لرد العين الشريرة، ويرخين على الصدر ضفيرة من كل صدغ، وفي ذلك تغنى شاعرهم فقال:
حبة عشيري سكر
ومنقعه بالدله
والجدلة حوف الراية
على النهد منهله
قبلة عشيري سمرا
بين الحواجب ظله (أ) البرقع
وهن يتبرقعن ببرقع كثيف يغطي الوجه كله، فلا يبقى ظاهرا منه إلا العينان، وهو مؤلف من (1) «الوقاة»، وهي قطعة من نسيج قطني أسود اللون، مطرزة بخيوط حريرية، مختلفة الألوان تغطي الرأس والأذنين، وتعقد بشريطتين تحت الذقن. (2) «والبرقع بالذات» وهو قطعة مربعة مستطيلة من كريشة حمراء أو صفراء أو بيضاء، مطرزة بخيوط حريرية ومزينة بقطع صغيرة من النحاس أو الفضة أو الذهب، مرصوصة صفوفا عن جانبيه وأسفله، يغطي الوجه من الأنف إلى ما تحت الذقن، وقد يصل إلى الحزام. (3) «والجبهة» وهي قطعة من نسيج البرقع، تلبس على الجبهة فتغطيها، وقد جعل لها حلقتان من الجنبين، في كل جنب حلقة، يتدلى منهما على الصدغين والكتف سلاسل من قطع النقود القديمة أو الودع، تدعى الواحدة منها «شكة»، ثم يعقد بكل حلقة شريطتان، شريطة تتدلى إلى أسفل تربطها بالبرقع، وشريطة ترد إلى الوراء وتشد برفيقتها في مؤخر الرأس، فتثبت البرقع والوقاة معا، ويتدلى من وسط الجبهة شريطة أخرى تجيء فوق الأنف فتشد البرقع من الوسط، وبذلك أشبه برقع البدويات الشجرة التي تعلق بها الخرق تبركا، ولعله أقبح لبس للرأس استنبطه البشر إلى اليوم، والظاهر أن القصد الأول من اختياره على هذا الشكل هو وقاية الوجه من لذع الشمس، ثم أضيفت إليه سلاسل الخرز والنقود للزينة. (ب) القنعة
وتلبس النساء فوق البرقع وشاحا أسود اللون يدعى «القنعة» يغطي الرأس والظهر، ويتلثمن به عند مقابلة الرجال. (ج) الخلى
وهن يعلقن في أعناقهن عقودا من الخرز والسوميت والفضة، ويتختمن كالرجال بخواتم ضخمة من الفضة أو القصدير، ويلبسن أساور الفضة في أرساغهن، وأساور الزجاج في زنودهن، وحجول الفضة في أرجلهن، وهن لا يثقبن آذانهن، بل يثقبن أنوفهن من جهة واحدة، ويلبسن فيها الأشناف من فضة أو ذهب، أما نساء المدن فإنهن يثقبن آذانهن ويلبسن فيها الأقراط كنساء الحضر. (د) الوشم
وجميع نساء سيناء مغرمات بالوشم، فيشمن الشفة السفلى، وظاهر اليدين من ظهر الكف إلى المعصم إلى الكوع، وقد يشمن الخد بدقة كرجل الطير، ورجال البادية تحب الوشم وتتغزل به، التقى فارس بدوي ببدوية فعلق بها قلبه فأنشدته:
ولد يا راعي الشقرا
بتتلفت علامك
إن كان تريد الضيفة
أرع العرب قدامك
فأجابها:
والله ما أريد الضيفة
ودي خضار وشامك (3-3) لبس الأولاد
أما الأولاد فإنهم يلبسونهم قميصا مفتوح الصدر، ويكحلون أعينهم، ويتركونهم حفاة عراة الرأس، إلى أن يبلغوا سن الرشد.
ومما يستحق الذكر أن لبس الرجال في بادية سيناء أبيض ما عدا العباءة ، ولبس النساء مصبوغ أزرق، وأن لبس الأحجبة غير معروف عندهم، وهم يغسلون الثياب ببلها بالماء وضربها على حجر ملس، أو يغسلونها بالقلو، وكثيرا ما يغسلون أيديهم بورق القلو أو ورق الطرفاء، ولكن بدو سيناء في الغالب لا يعتنون بالنظافة، وقد يلبس البدوي الثوب جديدا فلا يغسله، بل قد لا يخلعه حتى يتهرأ، ومن أمثال النساء:
جبت سبع صبيان وبنية
والمي ما طاحت علي
ولكن هذا القول قد يصدق على الذين يعز الماء في بلادهم. (4) طعامهم (4-1) حبوب الطعام
وطعامهم الشعير، والذرة، والقمح، والأرز، والعدس، والبلح، وأفخر الحبوب عندهم الأرز، يشترونه من مصر، ولكن أكثر أكلهم الشعير، ثم الذرة، ثم القمح، ثم الأرز، ثم البلح، وكثير منهم يأكل دقيق الشعير مخلوطا بدقيق الذرة، أو بدقيق القمح، أو بكليهما، ويسمونه «البغت». (4-2) الأرغفة والأقراص
وهم يطحنون الحبوب بالرحى، ويعجنون الدقيق بالباطية، ويخبزونه فطيرا على الصاج أرغفة رقاقا، أو يخبزونه على الجمر أقراصا وهو أكلهم في السفر، وقد طالما رأيتهم في البادية يطحنون الحب بهاون من خشب؛ لعدم وجود الرحى، ثم يعجنونه بقصعة صغيرة، ويجعلونه قرصا ثخينا، ويوقدون الحطب على الأرض، حتى يصير جمرا فيزيلون الجمر عن الرماد، ويطمرون القرص في الرماد، ثم يردون الجمر عليه إلى أن يجف وجهه الأول، فيكشفونه ويقلبونه ويعيدون الرماد ثم الجمر عليه، حتى يجف وجهه الثاني فيقسمونه كسرا صغيرة ويأكلونه، وما يستغرق عمل القرص بهذه الطريقة أكثر من ساعة، ويدعى «قرص الملة». (4-3) الآدام
وهم يأكلون خبزهم بلا آدام أو بآدام من قمر الدين، أو اللبن الحليب، أو السمن، أو الزيت، أو الكشك، أو اللحم، أو السمك، وكثيرا ما رأيت العرايشية في السفر جالسين حلقة حول قصعة من الطعام، يأكلون بأيديهم الفتة من عيش الذرة، وعليها من الآدام الكشك، والزيت، والبصل، والثوم، والفلفل، وأهل نخل يأكلون قرص الملة بغموس من قمر الدين. (4-4) أنواع الأطعمة
وللبدو في مخيماتهم أطعمة بسيطة إلى الغاية متشابهة تركيبا وطبخا، وقوامها كلها أو أكثرها الحليب والسمن والدقيق والخبز، وأشهرها:
الجريشة:
يجرشون القمح بحجر الرحى حتى يصير برغلا خشنا، ويسلقونه جيدا، ثم يسكبونه في قصاع، ويصبون عليه من الآدام اللبن، أو السمن، أو الزيت.
والعصيدة:
يغلون الماء في حلة، ويصبون عليه الدقيق شيئا فشيئا، وهم يحركونه حتى يكون له قوام، فيصبونه في القصاع ويأكلونه، أو يغلون اللبن الحليب بدل الماء وهو «التلبانة».
والمطبوخة:
يضعون فتات قرص الملة في الحليب، ويغلونها في حلة حتى تنضح، فيسكبونها في القصاع، ويأكلونها بآدام من السمن الحار أو بلا آدام، وعلى نحو ذلك «البازينة، وأم جلة، والفطيرة، والمردودة».
والدفينة:
وهي فتة من الخبز أو مسلوق الأرز بمرقة اللحم، واللحم منثورا قطعا فوقها، وأكثر أكل البدو القرص والعصيدة والجريشة، ومن أطعمة مدن سيناء:
الكشري:
وهو طعام من الأرز والعدس، مطبوخا بالسمن أو الزيت.
والمفروكة:
وهي نوع من الشعيرية تؤكل بالسمن والسكر. (4-5) الشوية
وللبدو طريقة حسنة في شواء الضأن أو الماعز، وذلك أنهم يبنون زربا من الحجارة على هيئة كوخ صغير له باب، ويوقدون فيه الحطب حتى يصير جمرا، ويذبحون جدي الضأن أو الماعز ويسلخون جلده، ثم يبقرون بطنه ويستخرجون منه الأمعاء والكرش، ثم ينظفون الكرش ويلفون به الذبيحة ويضعونها في الزرب ويطمرونها بالجمر، ثم يسدون باب الزرب ويتركونه نحو ساعة ويخرجونه، فإذا به شواء لذيذ شهي للغاية. •••
والبدو يستخدمون الملح، ولكنهم لا يستخدمون البهارات في أطعمتهم، وأكلهم للخضر والفاكهة قليل، وكذلك أكلهم اللحم والسمك، وفي أيام الربيع ينبت في صحاريهم كثير من الأعشاب التي يأكلونها كما مر، وهم يأخذون أغصان الزقوح والعليجان، والربيان، والشيح، والجرجير، والقريص، والزعتر، وينشفونها ويطحنونها بحجر الرحى، ويمزجونها ويغمسون قرص الملة بها، ويأكلونها «كالدقة». (5) شرابهم (5-1) الماء واللبن
وشرابهم الماء ولبن الإبل والضأن والمعزى، ومن فضائلهم أن ليس لهم مسكر من أي نوع كان، وأكثر شربهم من ماء الآبار أو الينابيع، ولكنهم لا يعتنون بنظافتها، وإذا نزل المطر وجرى السيل شربوا من ماء الغدران.
وهم يحفظون ماءهم بالقرب إلا في بلاد العريش الشرقية، فإنهم يحفظونها في أجرار سوداء يشترونها من غزة، ويشربونها بالأقداح الخشبية أو من أفواه القرب والأجرار. (5-2) الدخان
وكلهم مولعون بشرب الدخان، يزرعونه في أرضهم أو يشترونه من الخارج، ويدخنون بغلايين طويلة تبلغ نحو 30 قيراطا، ولا يمضغون التبغ مضغا كما في السودان، وإذا عدم البدوي الدخان وعن له شربه تناول بعرة يابسة من بعر الإبل، وجعلها في غليونه ودخنها. (5-3) القهوة
ثم إن ولعهم بالقهوة ليس بأقل من ولعهم بالدخان، ولا يشربون القهوة إلا مصنوعة في وقتها، فتراهم أينما نزلوا أوقدوا النار وجلسوا حولها حلقة يدخنون التبغ بغلايينهم، وأتوا بعدة القهوة فحمصوا البن بالمحماصة، ثم سحنوه بالهاون، وعملوا القهوة وسكبوها في الفناجين، ووزعوها على الحضور دورا أو دورين أو أكثر على الترتيب، مبتدئين من اليمين، وهم يشربونها صرفا إلا في الأفراح، فإنهم يشربونها بالسكر، وربما مزجوها بحبهان أو قرنفل أو زنجبيل، وليس لهم عادة شرب الشاي لكن إذا قدم لهم شربوه واستعذبوه.
ولعرب سيناء صبر على الجوع والعطش، وإذا جاع أحدهم ولم يجد طعاما شد حجرا مستطيلا على معدته، واحتمل الجوع بصبر غريب، واكتفى بأكل العشب.
ومن بات بلا عشا سمي «المقوي»، ومن لم يأكل طعام الصبح سمي «المريوق».
قال شاعر لهم:
يا كم ليلة بتنا مقاوي
وصبح غزير الحزام بدين
وقال آخر:
والله لاعلمك ماني عليك جاحد
اليوم مريوق والبارح رغيف واحد (6) سلاحهم ومجالسهم
شكل 3-2: بدوية تسلم على بدوي من أقاربها.
إذا التقى بدوي ببدوية من أقاربه أحنى لها رأسه فتقبله في جبينه وتصافحه، وإذا دخل بدوي على صديق له في مجلس وقف له وصافحه، ثم أدنى رأسه من رأسه، حتى يمس حاجبه الأيمن حاجب صديقه الأيمن، ويشرع يقبله في الهواء، ثم يجلسان في الأرض ويدور بينهما السلام الآتي أو نحوه: - سلامات يا فلان. - الله يسلمك. - سلامات. - الله يبقيك. - كيف أنت عساك طيب؟ - والله نحمد الله طيب بخير. - كيف عيالك؟ - طيبين بخير في أمان الله. - كيف الربيع؟ - نحمد الله زينه. - الزرع كيفنه؟ - خصاب الحمد لله، يعوض بذاره، شراقي بطال.
وإذا التقى صديقان في الطريق دار بينهما السلام الآتي أو نحوه: - السلام عليك. - مرحبا. - الله يمسيك بالخير. - الله يمسيك بالخير والرضى. - العوافي يا فلان. - الله يعافيك. - القوة يا فلان. - الله يقويك ، الله يزيدك قوة.
وعند الودع يقول له: أودعتك الله، فيجيبه: في عقد الله، الله يسهل عليك، فالك حسن.
ومن أغرب ما رأيت من عامتهم أنهم إذا قابلوا حاكما أو كبيرا لا يعرفونه؛ رفع الواحد منهم يده مبسوطة، وضربها في الهواء مرتين إشارة إلى السلام.
وإذا اجتمع البدو في مجلس قعدوا مربعين على الأرض أو على الفرش، وقد يجلسون ركعا على الركب كركوعهم للصلاة، أو يجلسون على ركبة واحدة.
أما النساء فلا يجلسن في مجالس الرجال، ولا يعقدن مجالس بينهن كالرجال، بل تزور البدوية جارتها وقتا قصيرا ثم تعود إلى خيمتها.
وإذا كانت المرأة راكبة ومرت بمجلس رجال ترجلت ومشت على قدميها، وهي إذا ركبت الإبل لا تركب على الغبيط بل تركب على صلب الجمل، وأما إذا ركبت الحمير ركبت ركوب الرجال. (7) البدوي في مخيمه
يطلب العرب المرعى في أيام القيظ بيتين بيتين، أو ثلاثة ثلاثة، فمتى جاء الربيع اجتمعوا أفخاذا في الجهات التي يكثر فيها الكلأ، وجعل كل فخذ منهم مخيمه صفا واحدا، وفتحوا أبواب خيامهم للشرق، وجعلوا أمامها أنعامهم، وقد وصف لي أحد مشايخهم معيشته في مخيمه قال:
شكل 3-3: الجنرال السير رجينولد ونجت باشا. سردار الجيش المصري وحاكم السودان العام الحالي، ومدير المخابرات سابقا.
شكل 3-4: السير إسماعيل سري باشا. وزير الحربية والبحرية والأشغال الحالي.
نقوم كل يوم عند مطلع الشمس، فيذهب الرعاة بالإبل والأغنام إلى المراعي: الشبان لرعي الإبل، والشابات والفتيان لرعي الأغنام، وتبقى النساء في البيت لتحضير الطعام، ويجتمع باقي رجال المخيم في خيمتي، يأتون من الصبح ومع كل منهم حفنة من البن، فنوقد النار ونصنع قرص الملة ونأكله، ثم نعمل القهوة ونشربها معا، ونجلس نتحدث في شئوننا الخاصة، وأكثرها عن الإبل والغزوات السابقة واللاحقة، أو نلعب السيجة المعروفة في مصر، وليس عندنا من الألعاب غيرها، أو نغني على الربابة ونشرب الدخان إلى الضحى، فينصرف كل منا إلى خيامه، فيجد طعام الظهر قد أعد له، فيتغدى ويرجع إلى المجلس، فنتحدث أو ننام أو نلعب السيجة إلى العصر، فنصنع القهوة ونشربها، ونعود إلى التحدث أو اللعب إلى الغروب، إذ تعود الإبل والأغنام من مراعيها، ويكون طعام العشاء قد أعد، فيذهب كل منا إلى خيامه، فيشاهد ماله ويتعشى، ثم يعود إلى المجلس فيبقى إلى وقت العشا، ثم ينصرف كل منا إلى منامه، إلا إذا كان عندنا فرح فنلعب الدحية أو السامر إلى نصف الليل أو أكثر وهكذا، فنحن نأكل ثلاث وجبات في النهار، «الفطور» عند طلوع الشمس، «والغذاء» عند الظهر، «والعشاء» عند الغروب، أما الرعاة فيأكلون وجبتين، «الفطور» قبل قيامهم للمرعى، «والعشاء» في الغروب بعد رجوعهم بالسائمة، وقد يضطر الراعي في بعض الأحايين أن يبيت وحده في الخلا، فيأكل قرص الملة ويشرب من لبن الإبل، ومن ذلك قولنا فيه: «يا واكل قرص الملة، يا شارب لبن أم قردان، يا بايت في الخلا وحده.»
هذه حالنا في الربيع، وأما في الشتاء فإذا نزل المطر وارتوت الأودية، اهتم الناس بالزرع ثم بالحصاد، وبعد حصد الزرع يكون النخيل قد نضج ثمره، وآن وقت جمعه، فيذهب كل من كان له نخيل إلى الطور أو فيران أو قطية أو العريش، فيبقون هناك إلى أن يجمعوا الثمر، ثم يتفرقون إلى مصالحهم.
شكل 3-5: مخيم بعض معدني الفيروز في وادي المغارة.
وقد دعاني الشيخ سليمان معيوف شيخ الرميلات إلى مخيمه شرقي الشيخ زويد في ربيع سنة 1906، فقبلت الدعوة؛ لأزداد علما بأحوال البدو، فاستقبلني مع جماعة من فرسانه في ظاهر المخيم، ثم أخذني إلى خيمة قد فرشت بالبسط، وجعلت فيها الغفور كالمساند، وكان الوقت قرب الغروب، وقد اجتمع من العربان نحو مائة رجل فيهم 20 فارسا، فأخذ الفرسان يتسابقون على الخيل أمام الخيمة والنساء يزغردن لهم نحو نصف ساعة، ثم أوقدوا النار وعملوا القهوة وقدموها للحاضرين.
ثم قدم الطعام في منسفين كبيرين، منسف فيه الأرز مسلوقا يسع 12 شخصا، وآخر فيه الخبز وقطع اللحم، فأخذ المضيف يقسم اللحم والخبز على الحضور، ويدعوهم إلى منسف الأرز، فدعا أولا 12 شخصا من كبارهم، فأكلوا ثم قاموا، وأتى 12 شخصا غيرهم حتى أكل الكل، فقعد المضيف هو وأولاده وأكلوا ما بقي.
وكان بين الحاضرين شاعران من الرميلات، وهما: سلام سليمان من السننة، وفرج أبو سليمان عبد لعيد بن عبيد الله من البسوم، فما انتهوا من الطعام حتى بدءوا الرقص والغناء، فلعبوا السامر والمشرقية والدحية، وارتجل الشاعران في ذلك أقوالا ذكر بعضها في باب الشعر والغناء، وكان كلما سر الجمع قول شاعر رماه واحد منهم بكوفيته وتركها له هبة حسب عادتهم. (8) البدوي في السفر
أحب شيء إلى البدوي الغزو والسفر على حد قولهم:
لشرط البداوة كل يوم مغزى
وعز البداوة كل يوم رحيل
وإذا عزم البدوي على السفر أحضر الجمل والماء والدقيق والدخان والقهوة، فإذا نزل في مكان عقل جمله وتركه يرعى، ثم أوقد النار وشرب الدخان والقهوة، وعمل قرص الملة، وقد بعثنا مرة رسولا على قدميه، فحمل مخلاة من الدقيق على ظهره وقربة ماء في يده وسار ماشيا، ولسان حاله ينادي:
يا أكحل العين وبلادك نويناها
الزاد مطحون والقربة مليناها (9) أفراحهم (9-1) الزواج بين الأقارب
وبدو سيناء كسائر البدو، يحبون الزواج الباكر والزواج بين الأقارب، وسن الزواج عندهم سن البلوغ، وأقرب قريبات الرجل التي يحل له زواجها بنت العم، فإذا بلغ الرجل تخير واحدة من بنات عمه، أو من بنات قبيلته، وقلما مال إلى غيرهن، وإذا مال تخير من الأنساب كفؤا له، فإن احترام البدو للنسب عظيم.
والرجل يخطب البنت من أبيها أو وليها رأسا، بلا واسطة أو بواسطة أبيه، وأما البنت فإذا كانت بكرا فلا يؤخذ رأيها في خاطبها، بل لا بد لها من الرضى بمن رضي به أبوها أو وليها، وإذا كانت ثيبا فلا بد من سؤالها ورضاها بمن تقدم لها. (9-2) المهر
ومهر بنت العم من جمل إلى خمسة جمال، ومهر الأجنبية من خمسة جمال إلى عشرين جملا، ومهر بنت العم في اصطلاح النجمات اللحيوات: «لبني ومربوط وجنيهان». (9-3) القصلة
وإذا رضي أب البنت أو وليها بالخاطب، أخذ غصنا أخضر وناوله إياه وقال: «هذه قصلة فلانة بسنة الله ورسوله، إثمها وخطيتها في رقبتك من الجوع والعري ، ومن أي شيء نفسها فيه وأنت تقدر عليه»، فيتناول الخاطب القصلة ويقول: «قبلتها زوجة لي بسنة الله ورسوله.» (9-4) البرزة
ومتى أخذ الخاطب قصلة عروسه نصب له أهله خيمة على نحو 50 مترا من خيامهم، تدعى «البرزة»، وزفوا إليها العروسة بالغناء والزراغيد، ومن غنائهن في هذا المقام للعروس: «عروس مباركة، وكعيبها أخضر»، وللعريس: «طبنجاته باذنجان، وسيفه عجوره محنية».
وإذا كان مخيم أهل العريس بعيدا عن مخيم أهل العروس، ذهب العريس مع بعض أهله وأحضروا العروسة إلى مخيمهم وأدخلوها «البرزة»، وأدخلوا معها أقرب قريباتها، وأما سائر النساء فيجلسن خارج البرزة مع الرجال. (9-5) النقوط
وأقارب العريس يقدمون له الهدايا من الغنم والقمح والدراهم على سبيل «النقوط»، وهي دين عليه لا بد له من وفائه، فإذا لم يفه من نفسه طولب به. (9-6) الذبائح
ويذبح أهل العريس الذبائح من الغنم لأهل الفرح عند باب البرزة على زراغيد النساء، ثم يطبخون أصناف الأطعمة المحبوبة عندهم، فيأكلون ويشربون القهوة، ثم يبعدون قليلا عن البرزة ويلعبون الدحية والسامر إلى ما بعد نصف الليل. (9-7) شهر العسل
وفي أثناء اللعب تخرج النساء من البرزة، فيدخل العريس على عروسه ويمكث معها في البرزة من يوم إلى ثلاثة أيام، والعادة عندهم أن العروس تفر من البرزة قبل مضي ثلاثة الأيام الأولى، ويتبعها العريس ويقيم معها في الخلاء بعيدا عن مخيم قومه، وأهله يرسلون لهما الطعام مدة أسبوع إلى شهر، وفي أثناء ذلك ينصبون لهما خيمة بجانب خيامهم، ويفرشونها بالفرش والغفور وغيرها، ثم يذهب أحدهم ويأتي بهما إلى منزلهما الجديد.
والمرأة لا تأكل مع زوجها على مائدة واحدة حياء، ولا تناديه باسمه، بل تكنيه باسم ولده البكر ذكرا كان أو أنثى فتقول «يا أبا فلان أو يا أبا فلانة»، وإذا لم يكن له ولد كنته باسم أبيه، وتحلف المرأة برأس أبيها لا برأس زوجها، وبذراع ولدها، فتقول: «من رأس أبي» أو «من ذراع ولدي» أو تقول «وحياة ضعوفي»؛ أي أولادي. (9-8) الصبي والبنت
وأهل البادية كأهل الحضر يفرحون للصبي ويتكدرون للبنت، وليس عندهم مولدات، بل المرأة تولد نفسها أو تولدها أقرب قريباتها، وقد تلد البدوية وهي سائرة في الطريق ولا رفيق معها، فتلف ولدها «بمزفر» وتستطرد السير إلى أن تصل أهلها.
أما «المزفر» فهو خرقة مربعة مستطيلة من شعر يشد إلى كل من طرفيها «عود»، ويعقد الطرفان بحبل، فإذا سارت الوالدة جعلت ولدها بالمزفر وعلقته برأسها.
أخبرني محمد النخلاوي قال «إنه كان في قلعة النويبع ومعه امرأته البدوية واثنتان من قريباته، وكانت امرأته حاملا فخرجت ليلة إلى شاطئ البحر، ولم تغب نصف ساعة حتى عادت والولد في كمها، ودخلت البيت فنامت إلى صباح اليوم التالي، فقامت ووضعت الولد في المزفر وسرحت في غنمها.» (9-9) تسمية الأولاد
وهم يختنون الأولاد ويسمونهم قبل ختانهم. (9-10) البدوية والحضر
على أن بنات البدو يأنفن التزوج بالحضر حبا بالبداوة وحريتها، أخبرني حضري تزوج ببدوية من بنات اللحيوات وبنى لها علية في نخل، فكانت تمل من الإقامة في الحضر، وتقول له: «بحياة والدك يا أبا محمد تطلقني أسرح في الخلا»، فتذهب إلى أهلها وتقيم عندهم أياما ثم تعود إليه، ولكن أكثر رجال نخل الذين يتزوجون من بنات البدو يتركونهن في البادية لرعي أغنامهم.
ومن البدويات من لا يمكن إقناعهن بالتزوج بالحضر في أي حال كان، أعطى سلامة جمعة من اللحيوات الخناطلة قصلة بنته البكر إلى شمس إسماعيل من أهالي نخل، وأخذ مهرها منه بدون أن يسألها على عادة الأب في تزويج بنته البكر، فلما جاءوا يزفونها إليه فرت منهم ولم تدخل البرزة، فلحقوها وحملوها على جمل، وأدخلوها البرزة بالرغم عنها فأغمي عليها، ولما أفاقت قالت: لو قطعت إربا ما أتزوج حضريا، ثم غافلتهم وفرت إلى الجبال، وكان ذلك سنة 1905، وفي شرع العرب أنه إذا بقيت البنت مصرة على رفض زوجها سنة بطولها حل للقاضي طلاقها، فما زالت هذه البنت تفر من جبل إلى جبل حتى مضت السنة، وسمعت بأن مدير المخابرات المشرف على حكومة سيناء في رفح، فجاءت إليه متظلمة وقالت : «إن كان الحضري قد تزوجني بسنة العرب فقد مضى على زواجي به السنة وأنا لا أريده، فوجب عليه طلاقي بشرع العرب، وإن كان قد تزوجني بالشرع الشريف، فكان الواجب على أبي أن يسألني قبل أن يرضى به، وأبي لم يسألني؛ وعليه فأنا طالقة منه على الحالين.» قلت لها: «أراك قد نفرت من الرجل قبل اختباره فلربما لو خبرته كان أصلح لك من كل بدوي، خصوصا وأنه يحبك حبا جما، وهو رجل ذو يسار يريحك من رعي الأغنام وشظف العيش في البادية»، فأجابتني بنحو ما أجابت به أختها البدوية منذ أجيال:
لبيت تخفق الأرياح فيه
أحب إلي من قصر منيف
وقد علمت من بعض ذويها أنها علقت بحب ابن عم لها، فبعثها مدير المخابرات بكتاب إلى قاضي نخل؛ لتحقيق أمرها وعدم إجبارها على الزواج بمن لا تحب، فحكم القاضي بطلاقها وتزوجت بابن عمها. (9-11) واجبات الزوجين
ولكل من الزوجين واجبات قررتها العادات والتقاليد.
أما الزوجة فعليها غزل الشعر والصوف، وحياكة الخيام والأخراج والغرائر والفرش، وجلب الماء من الآبار والعيون، والحطب من الأودية، وطحن الحبوب، والعجن، والخبز، وحلب الإبل والأغنام، والخض (استخراج الزبدة من اللبن)، ورعي الأغنام عند الاقتضاء.
وأما واجب الزوج فهو رعي الإبل، وجلب الغلال والغنم، وأحجار الرحى والفحم، والغربال والصاج والحمار، ومن الثياب على قدر الطاقة، فإذا قصر أحدهما بشيء من واجباته نحو رفيقه ألزمه «العقبي» به كما سيجيء.
قالوا: وأحب خصال المرأة عند البدو، الخصال التي اشتهرت بها «وضحة» زوجة نمر بن عدوان من قبيلة العدوان ببر الحجاز وهي «أنها لم تكن تنام قبل رجوع زوجها إلى منزله، ولم تكن توليه ظهرها ما دامت في حضرته، بل كانت إذا أحبت الانصراف توليه وجهها وترجع القهقرى، ولم تكن تقترض شيئا من جارتها مهما اشتدت حاجتها إليه، ولم تكن تحضر السامر ولا الدحية، وما قالت لزوجها «لا» طول عمرها، بل كانت تطيعه بكل أمر، وما زارت أهلها قط إلا برأيه وإرادته، وما استطاع أحد من الطائشين أن يراودها»، قالوا: وكان زوجها يحبها حبا جما، فلما ماتت شق عليه دفنها في التراب، فأنشد يقول :
كيف العزاء والصبر يا حج يا سليم
في الصاحب اللي ما مشى في نكدها
الله ما أصبرني صبرت أمس واليوم
والصبر مرمرني وريقي عقدها
ولئن خيروني بين بدو وحضران
لاختار وضحة نور عيني وحدها
لئن جئت زعلان لنها تسليك
مثل الشفوق اللي تلهله ولدها
وإن سمعت السمار ما بين فريقين
ما شقت الفرقان تذرع بيدها
ولا عمرها رافقت كل شمشول
ولا عمر أبو العملات كبر جهدها
سايق عليك الله يا حافر الأساس
لو أنك توسع لها في لحدها (9-12) حكاية قوت وفهيد
وعند نزولنا في عرب أولاد سعيد سنة 1905، طلبت من أحدهم أن يقص علينا حكاية من حكاياتهم، فقص علينا رواية «قوت وفهيد» قال: كان في إحدى قبائل نجد فارس مشهور بالشهامة والإقدام يدعى «فهيدا»، وكان في قبيلة أخرى تجاورها غادة مشهورة بالفصاحة والجمال تدعى «قوتا»، فكان كلما التقى فهيد برجل وجرى ذكر النساء، يقول له: لا يصلح لك زوجة غير قوت، وكذلك كلما التقت قوت بامرأة وجرى ذكر الرجال، تقول لها: لا يصلح لك زوج غير فهيد، ولم تكن قوت تعرف فهيدا ولا فهيد يعرفها، فتولد في قلب كل منهما حب للآخر وشوق لرؤيته، «والأذن تعشق قبل العين أحيانا.»
وكان لقوت جارية تعرف مورد فهيد، فأخذت جاريتها وأتت بها إليه، فاتفق أن فهيدا لم يرد الماء في ذلك اليوم، ولكن وردها أخوه وهو فتى صغير، فتقدمت إليه قوت وقالت له: أأنت شقيق فهيد الفارس المشهور، قال: نعم، فدنت منه وقبلته قبلة وقالت: «هذه لك»، ثم قبلته قبلة ثانية وقالت: «هذه لأخيك فهيد»، وعادت إلى قبيلتها، فذهب الولد وأخبر أخاه بما كان، فاشتعل إذ ذاك فهيد حبا، وأخذ يسعى رؤية قوت والاجتماع بها، فلبس لبس راع ودخل قبيلة قوت، وقال فقدت «ناقة» لي وجئت أفتش عليها بين نياقكم، فقالوا: هذه إبلنا ففتش على ناقتك بينها، فدخل فهيد بين الإبل وكانت قوت هناك، فلما رآها لم يشك أنها هي؛ لفرط جمالها ورشاقة قدها، فتقدم إليها وحياها بأبيات جميلة، فعرفت أنه فهيد، فردت عليه التحية شعرا أحسن رد، وخاف فهيد إذا أطال المكث أن ينكشف سره، فودعها مرغما وبعث يخطبها من أبيها بأي مهر شاء، وكان لقوت ابن عم لها يريد الاقتران بها وكان أبوها راضيا به، فرفض طلب فهيد، ولكنه خاف بطشه، فنقض خيامه وسار راحلا إلى أرض بعيدة، فركب فهيد فرسه ولحق بالقوم، وأخذ منهم قوت عنوة وهي في هودج على جملها، وسار بها قاصدا قومه، وفي الطريق قالت قوت: أخاف يا فهيد إذا تزوجتني على الرغم من أهلي أن يعير العرب أولادنا بأنهم أولاد «قلاعة»، فالرأي أن تردني إلى أهلي وتسوق «الجاهة» إلى أبي فيزوجك برضاه، وأنا أعدك وعد حب صادق أني لن أرضى بأحد غيرك قرينا لي، فاقتنع بوجاهة رأيها وردها إلى أهلها، فلما دخل الظعن رماه عمها وطفان برمحه غدرا فقتله، فحزنت عليه قوت حزنا شديدا، ثم أخذت تندبه وترثيه بالأشعار، وقد انقطعت عن الطعام والشراب إلى أن ماتت، ومن قولها فيه:
يا طيور حومه يا طوال الصناقير
أوصيكم عن فهيد لا تنقدنه
يا كم عودة طوح لها الرمح تطويح
وأعطى اللحم لعشوشكم تنقلنه
ومنه:
يا عمي يا وطفان ما بي خلاف
وأبكي صبيا يدفق السمن يمناه
يا عمي يا وطفان ما بي خلاف
وأبكي صبيا يذعر الخيل طرياه
يا ونتي ونة ثلاث الهرافي
اللي جلود حيرانهم مبواه
يا ونتي ونة عجوز كبيرة
وشافت ولدها سبق الخيل تنحاه
يا ونتي ونة شايب على الدار
والبدو شايل عنه وخلاه
يا ونتي ون طير الخلا لو انطاح
والدم من كل الجوال يبراه
يا ونتي ون الظمايا على البير
وحيضان يبس وصفيهن تلاظاه
بالله تجيبوا مفرشي واللحاف
وهاتوا هويه الزمل مشيه مداناه (10) ختان الأولاد
وهم يختنون أولادهم صبيانا وبناتا: البنات في سن الثامنة إلى العاشرة، والصبيان في سن السادسة إلى الثانية عشرة، أما البنات فختان السنة «لا ختان فرعون»، ويختنهن أمهاتهن أو قريباتهن، أو نساء الغجر الماهرات بهذه الصناعة ، وذلك على انفراد بلا احتفال، وأما الصبيان فيحتفل بختانهم احتفالا أعظم من الاحتفال بزواجهم، ويحتفل في الغالب بختان جماعة من الصبيان في وقت واحد، فإنه إذا أراد أحدهم ختان ابنه أعلن أهل قبيلته عن المكان والزمان اللذين ينوي الختان فيهما، فيجتمع أفراد قبيلته في الميعاد، وتضرب الخيام، وكل من أراد ختان ابنه رفع راية بيضاء فوق خيمته، ثم تضرب خيمة شرقي المخيم تدعى «خيمة الطهور» ترفع فوقها راية بيضاء، وتقام الأفراح من يوم إلى سبعة أيام، يتسابق الرجال فيها على الخيل أو الإبل نهارا، ويرقصون الدحية والسامر ليلا، وفي عشية يوم الختان يذبح أهل الصبيان المراد ختانهم الذبائح من الإبل أو الضأن أو الماعز، ويطبخون أنواع الأطعمة ويوزعونها على الخيام، وتغني النساء في كرم صاحب الوليمة ومن ذلك قولهن:
الشيخ فلان ملأ البكرج
واللي ما شرب يشرب
وفي صباح يوم الختان يتسابق الرجال سباقا عاما على الخيل أو الهجن، وفي الضحى يركبون الصبيان المراد ختنهم على الإبل، ويطوفون بهم حول الخيام والنساء وراءهم يزغردن لهم ويغنين، ومن غنائهن:
من دور البيضا لزوم يلقاها
يستاهل البيضا غلام جابها
ومنه:
احمر حجر داركم من كثر رداتي
من كثر ما أمشي وأرجع بحسراتي
ثم يدخلون الصبيان إلى «خيمة الطهور» ويأتي الشلبية (م: شلبي) المنوط بهم الختن، ويبدءون في الختن الظهر، وإذ ذاك يقف الرجال أمام باب الخيمة والنساء من ورائهم، وكل امرأة يختن ولدها تجعل على ظهرها حجر الرحى والسيف في يدها، تضرب بقفاه الخيمة دفعا للعين الشريرة، فعندما يقطع الشلبي غلفة ولدها يناديها ولدها «لعينك يا أماه أرمي حجر الرحى عنك ولك ناقتي» فتزغرد له، ثم يلتفت إلى عمه ويقول «لعينك يا عماه»، فإن كان لعمه بنت تناسبه علم أن الولد يخطب بنته فيجيبه: «مرحبا بك بفلانة جاءتك عطاء»، وإن لم يكن له بنت أجابه: «مرحبا بك لك الناقة الفلانية، أو لك رأس معز أو ضأن» هدية أو نقوطا.
وبعد ختن الأولاد يعلقون رءوس الذبائح في أوتاد على بعد 40 إلى 100 خطوة حسب قوة بنادقهم، ويتبارون في رميها بالرصاص، ويبدأ بالرمي أهل الفرح ثم الحضور ، وكل منهم يطلق رصاصة واحدة، فأي من أصاب رأسا أخذه وأخذ معه فخذا من اللحم، وكذلك يفعلون في ذبائح الأفراح، ويسمى هذا الكسب عندهم «طعمة البارودة»، وتغني النساء للفائز فيه بقولهن:
قرم رمى شارته
البيض مختارته
ومن غنائهن في السامر بعد الطعام:
الشيخة ما هي بالجوخه
ولا بكبر العباية يا بنية
الشيخة كب القهاوي
زي العيون الرويه
الشيخة جر المناسف
في السنين الردية (11) أمراضهم وأطباؤهم
تقدم أن جفاف هواء سيناء ونقاوته يمنعان تفشي الأمراض بين أهلها، وهم أنفسهم يتحصنون من الأمراض بمحافظتهم على العرض واهتمامهم بالزواج الباكر، ولو راعوا النظافة وسائر شرائط الصحة، لعاشوا بلا مرض وعمروا طويلا.
وفيهم آل خبرة في الطب من النساء والرجال، ورأس الدواء عندهم «الكي»، قالوا: «لما غضب لقمان الحكيم من الدواء رماه في النار»، فهم يستعملون الكي لوجع الرأس، والمعدة، والظهر، وسائر الأمراض الباطنية، وعندهم عدد ليس بقليل من الأعشاب الطبية يداوون بها مرضاهم وقد تقدم ذكرها.
وفيهم الجراحون يعالجون الجراح التي كثيرا ما يصابون بها في غزواتهم، فهم يخيطونها ويغسلونها كل يوم بمستحلب بعر الحمير مدة أربعة أيام، ويغلون البصل بالماء، ويصفونه ويغسلون به الجرح، ويسقون العليل منه؛ لمنع تعفن الجرح ودفع أذى الرائحة، ثم يغلون المر بالسمن، ويجعلونه دهانا، فيدهنون به الجرح أربعين يوما حتى يبرأ.
ومن الأمراض التي تنتابهم بالعدوى من الحضر: الجدري والحمى «الوخم»، وهم لا يعرفون لهما علاجا، ولكن يبخرون المصاب بهما بشعر الضبع أو بجلد القنفد، وأما الكوليرا فغير معروفة في سيناء، وقد أصيب بها السواركة مرة في شرق بلاد العريش، جاءتهم من بر الشام ففتكت بهم حينا ثم فارقتهم.
وجرت عادة النساء أن يحرقن صغار العقارب ويسحنها بهاون، ويرششن منها على حلمات أثديتهن عند إرضاع أطفالهن تطعيما لهم؛ حتى لا يؤذيهم لسع العقارب.
ويعتني بالمريض أمه وأخته وزوجته وعمته وخالته، ويعوده أهل قبيلته، فيقولون: «عساك طيب، يزول الشر.» فيجيب: «يزول إن شاء الله.» (12) مآتمهم
يبكي الميت أمه وأخته وزوجته وعمته وخالته وبنت عمه، وهن يحللن شعورهن ويحثين التراب على رءوسهن ويندبنه بقولهن: «يا ويلي يا حزني يا ولدي يا سبع.»
وأما الرجال فلا يبكون الميت ولا يندبونه إلا نادرا، ويقولون: «الميت لما مات عشاك أفيد منه»، ويقولون في التعزية «الله يرحمه، والله سوى اللي عليه أبو حمده»؛ أي قرى الضيف وأنجد الرفيق، وهم يغسلون الميت ويكفنونه ويصلون عليه قبل دفنه.
ولكل قبيلة تربة أو ترب خاصة بهم، وغالب تربهم قرب الماء؛ وذلك لأجل غسل الميت قبل دفنه، وإذا مات أحدهم بعيدا عن الماء جعلوه في غرارة، وحملوه على جمل في الجنب الواحد، وجعلوا ما يوازنه حجارة في الجنب الآخر، وأتوا به إلى الماء وغسلوه وكفنوه، وإذا تعذر عليهم جلب الماء والمصلي دفنوه بلا غسيل ولا صلاة، وهم يفضلون دفن موتاهم في الترب المدفونة فيها أولياؤهم كما مر.
والقبر عندهم حفرة واسعة في أحد جانبيها حفرة ضيقة، يضعون الميت في الحفرة الضيقة على جنبه الأيمن، متجها نحو الكعبة ويسدونها بالحجارة، ثم يردمون الحفرة الواسعة ردما محدبا كسنام البعير، ويدل على القبر حجر فوق رأس الميت، وحجر فوق قدميه، أو فرشة من الحصى فوق القبر كله.
وهم يجعلون بدلة من ثياب الميت فوق قبره، فتبقى حتى تبلى أو يأخذها عابر سبيل، وفي بلاد الطور يعلقون بدلة من ثياب الميت في شجرة، أو يضعونها على صخرة قرب التربة، ويقولون عند الدفن: «يا رحيم، يا رحيم، ارحم القبر المقيم» يكررون ذلك مرارا، ويقفون عند رأس الميت ويقولون: «شجرة الدر عمتك وأمك النخلة.»
أما «الحداد» على الميت فالرجال لا نصيب لهم فيه، وأما النساء فيحددن من أربعين يوما إلى سنة كاملة، لا يلبسن فيها الحلي ولا جديد الثياب، ويخلعن البراقع فيتلثمن بخرقة سوداء، أو يغشين البرقع كله بالسواد وينقطعن عن الأفراح والمآدب، ثم في ليلة جمعة من شهر رمضان يذهب أهل الميت نساء ورجالا إلى القبر ويذبحون ذبيحة جملا، أو رأس معز تصدقا عن نفس الميت، يجعلون اللحم عند القبر ويقولون: «هذا عشاك ودع فلان وفلان (من الذين ماتوا قبله أو بعده ) يأكل معك»، وكذلك يقدمون في نهاية السنة ذبيحة ناقة أو رأس معز، ويتصدقون بها على الفقراء.
الفصل الرابع
في خرافاتهم
ومصدر الخرافات الجهل؛ ولذلك فخرافات البدو كثيرة، منها: اعتقادهم «الإصابة بالعين»، وهم يعلقون الخرز الزرق في أعناق أطفالهم وإبلهم وخيلهم العزيزة عندهم؛ لدرء العين الشريرة، ورأيت بعض شبانهم يعلقون الخرز الزرق في مرائرهم لدرء العين.
شكل 4-1: الجلوس: محمد خواص، الحاج شهاب، شمس إسماعيل، محمد أبو جمعة.
وهم يتشاءمون من رغاء الإبل ومن عواء الكلب من بطنه ومن صباح الأجرود، ويتفاءلون بفلج الأسنان والسفر يوم الجمعة أو الإثنين، ويتشاءمون من السفر أو الغزو يوم الأربعاء إذا اتفق أنه آخر أربعاء في الشهر، ويوم الخميس إذا اتفق أنه الخامس في الشهر، ومن السفر أو الغزو إذا كان القمر في القران مع العقرب كما مر.
وفي العمر في شرق بلاد التيه رجل من الترابين يدعى عامر أبو رواع، يعتقد أهل سيناء أن له معرفة بعلم النجوم ونحسها وسعدها، فإذا نهاهم عن سفر أو غزو انتهوا وإذا بشرهم صدقوه.
وعند رؤية الهلال يقولون: «يا اللي سلمتنا في اللي زل سلمنا في اللي هل، يا الله حلوبة يا الله جلوبة، يا الله دعوات أولاد الحلال»، ويهنئون بعضهم بعضا بظهوره، فيقول الواحد: «مبارك شهركم» فيجيبه الآخر: «لنا ولكم.»
وهم يرقون الحية والذئب والضبع والنمر لئلا تؤذي أغنامهم، فرقية الذئب والضبع والنمر واحدة وهي: «معزانا كورة كورة، عليهم قطيفة النبي منشورة، إذا جاء من الوادي لجامه هادي، وإذا جاء من العدوة لجامه هدمه، وإذا جاء من البطين (رأس الجبل) لجامه شريط، في آذانه فاس، وفي خشمه فاس، وفي يديه فاس، وفي رجليه فاس، نرميه في البحر الدواس، بيننا وبينه الخلة، وسبع جمال محملة غلة.»
الباب الثالث
في قضاة البدو ومحاكمهم وشرائعهم
الفصل الأول
في قضاة البدو
أما القضاء في جزيرة سيناء فموكول إلى قضاة من خواص رجالهم، يحكمون بينهم بالعرف والعادة، وهم أنواع:
كبار عرب :
وهم بمثابة «رجال الصلح» ترفع إليهم جميع المسائل الهامة التي لا يمكن صرفها إلا بالصلح؛ لعدم توفر الشهود فيها أو لجسامة ما ينجم عنها من الأضرار والأخطار إذا لم يتلاف أمرها كقضايا القتل والسلم والحرب والتعدي على العرض والمال، وهم ينتخبون من بين المشايخ والكبراء الذين بيدهم زمام الأمور، وعليهم يتوقف السلم أو الحرب.
المنشد:
ويعرف بالمسعودي؛ لأن أهم قضاته من قبيلة المساعيد التابعة لمحافظة العريش، وهو يحكم في المسائل الشخصية الخطيرة كقطع الوجه والتسويد ومس الشرف والإهانة الشخصية.
والقصاص:
وهو قاضي العقوبات أو قاضي الجروح، يعين الجزاء الذي يستحقه كل جرح حسب طول الجرح وعرضه وموضعه، وأكثر القصاصين في بلاد نخل من السلالمة الحويطات، وفي بلاد العريش من عرب بلي، وفي بلاد الطور من القرارشة ومزينة.
والعقبي:
وهو قاضي النساء، يحكم في المسائل المتعلقة بهن من طلاق ومهر وتعد على العرض، وقد سمي بالعقبي؛ لأن أكثر قضاة هذا النوع من بني عقبة.
والزيادي:
وهو قاضي الإبل يقضي في أمور سرقتها ووثاقها وكل ما يتعلق بها.
والضريبي:
وهو قاضي الإحالة، فإذا اختلف اثنان في القاضي الذي يحكم بينهما رفعا الأمر إلى الضريبي، وهو يعين القاضي الذي من شأنه فصل دعواهما، ويختار الضريبي في الغالب من الحويطات.
المبشع:
وهو قاضي الجرائم المنكورة التي لا شهود لها، وذلك باختبار المتهم بالنار أو بالماء أو بالرؤيا، أما اختباره بالنار فذلك أن المبشع يحمي إناء نحاس كطاسة البن على النار ويمسحها بكفه ثلاث مرات، ثم يأمر المتهم فيغسل لسانه بالماء ويريه شاهدين، ثم يتناول الطاس المحماة من البشع فيلحسها ثلاث مرات بلسانه ثم يغسله بالماء ويريه المبشع والشاهدين، فإذا رأوا أثر النار على لسانه حكم المبشع بالدعوى لخصمه وإلا حكم له، وقالوا في تعليل ذلك: إن المتهم إن كان مجرما جف ريقه وأثرت النار في لسانه وإلا فلا.
وأما اختبار المتهم بالماء فهي أن المبشع يأخذ إبريقا من نحاس، ويجعل الحضور ومعهم المهتم في حلقة، ثم يشرع في التعزيم على الإناء، قالوا: فيتحرك الإناء من نفسه! فإن كان المتهم مجرما وقف الإناء عنده، وإن كان بريئا وقف عند المبشع!
وأما اختباره بالرؤيا فهو أن المبشع يفكر في المتهم ثم ينام، فيظهر له الجاني في الحلم، وعندما يصحو يحكم عليه. وليس في الجزيرة كلها إلا مبشع واحد وهو «الشيخ عامر عياد» من قبيلة العيايدة، أخذها عن أبيه عياد وعمه عويمر، وقد رأيته في رفح سنة 1906 فأخذت عنه ما أثبته هنا في البشعة.
ويدخل في حكم القضاة عندهم آل الخبرة، وهم:
المسوق:
وهو الخبير بالإبل وأسنانها، فتسلم على يده غرامات الإبل.
وأهل القطاعات:
وهم آل الخبرة بالزرع والأراضي الزراعية، ويحكمون في القضايا التي تتعلق بهذه الأراضي.
وأهل العرائش:
وهم آل الخبرة بالنخيل، ويحكمون في القضايا التي تختص بالنخيل.
قصاصو الأثر:
وهم آل خبرة في قص الأثر، وهم في بلاد الطور مزينة والقرارشة، وفي بلاد نخل الحويطات السلالمة، وفي بلاد العريش عرب بلي.
لحاسة الختوم:
وهم المشايخ المعينون من قبل الحكومة ويتناولون رواتبها، ولهم القضاء في المسائل التي تتعلق بالحكومة ورجالها، خصوصا في ما يتعلق بأجر الجمال وحقوق القبائل فيها ونحو ذلك، قالوا: وقد سموا لحاسة الختوم؛ لأن من عادتهم لحس أختامهم عند ختم وصولات رواتبهم.
الحسباء أو نقالة العلوم:
وهم آل الخبرة في المسائل التي تتعلق بتقاليد العرب والعهود المقررة بينهم، فإذا نقض أحدهم عهدا لقبيلة عد أنه قطع وجه الحسيب لتلك القبيلة، ووجب على الحسيب المطالبة بالحق الضائع ورده إلى احبه، ومن أمثالهم: «ما يرد المرازيم (الإبل) غير حق الملازيم.»
الفصل الثاني
في محاكمهم
(1) درجات القضاء
ثم إن درجات القضاء عندهم ثلاث، لكل درجة قاض، فثلاثة من كبار عرب وثلاثة من المنشد وثلاثة من القصاص وثلاثة من العقبي وثلاثة من الزيادي وثلاثة من الضريبي، إلا المبشع فإنه واحد.
فالأول منهم بمنزلة المحكمة الابتدائية، والثاني بمنزلة محكمة الاستئناف، والثالث بمنزلة النقض والإبرام، فيرفع المتقاضيان أمرهما إلى الأول بحضور القاضيين الآخرين أو بغيابهما، فإذا لم يرضيا بحكمه رفعا الأمر إلى الثاني، وإذا لم يرضيا بالثاني رفعا الأمر إلى الثالث، وحكمه نهائي نافذ، إلا إذا كان حكم الثاني كالأول فلا ترفع الدعوى إلى الثالث، بل ينفذ الحكم على علاته، ومن أقوالهم: «حكم اثنين يأكل حق واحد.» (2) الكفيل
والحق في تسمية القضاة للمدعي، ولكن لا بد من رضاء المدعى عليه بهم، وبعد الاتفاق على القضاة يسمى المدعى عليه «كفيل وفا» أي كفيلا يفي الحق الذي يحكم به القاضي، والمدعي «كفيل دفا» أي كفيلا يضمن التعدي على المدعى عليه في أثناء الدعوى. (3) الضمانة
ويشترط في الكفيل أو الضامن: الصدق والوفاء، والرجل الصادق الوفي لا يطلب منه ضامن ولا كفيل، بل يؤمنه البدو على مالهم بلا شاهد. (4) الرزقة
وإذا مثل المتداعيان أمام القاضي؛ جعل كل منهما عنده رهنا لرسم الدعوى المعروف «بالرزقة»، وذلك بأن يضع سيفه أو بندقيته أو جمله أو يسمي كفيلا يضمن وفاء الرزقة، فمن خسر الدعوى قام بدفع الرزقة، وتختلف «رزقة» القاضي بحسب أهمية الدعوى من نعجة إلى ثمانية جمال، وأكبرها الرزقة التي تؤخذ في القضايا الخاصة بالنساء «وقطع الوجه». (5) الشهادة
وشاهد واحد يكفي عندهم لإثبات الدعوى، لكن يشترط في الشاهد أن يكون «التقي النقي اللي تدور على عيبه ما تلتقي»، ولا تقبل شهادة رجل أتى أمرا منكرا كأن يكون أتى امرأة جاره أو فر من القتال أو ترك نجدة رفيقه أو نحو ذلك، ولكن تقبل شهادة اللص على اللص، وشهادة المرأة وشهادة الولد البالغ كشهادة الرجل، وإذا أراد أحدهم أن يشهد أحدا على شيء وقع بحضوره عقد له عمامته وقال: «هذه شهادة معك تضوي وياك في المراح وتمشي في المسراح توكلة وأمانة»، وللشاهد أجرة ينقده إياها الطالب قبل تأدية الشهادة تعرف «بالآكال» وهي في قضايا الإبل خمسة «بنتو». (6) الحلف أو اليمين
ولا بد للشاهد من حلف اليمين قبل تأدية الشهادة واليمين عندهم أنواع:
الخطة والدين:
وهي دائرة ترسم على الأرض برأس السيف، ويرسم في وسطها صليب، فيقف الشاهد في مركز الدائرة ووجهه إلى الكعبة ويحلف «بست كلمات أولها الله وآخرها الله» ثم ينطق بالشهادة، وهذا الحلف خاص بقضايا الإبل وغيرها من القضايا الهامة.
والحلف بالرأس:
وهو أن يضع المدعي يده على رأس المدعى عليه ويحلفه «بثلاث كلمات أولها الله وآخرها الله» ثم يسأله أن يقول الحق.
والحلف بالحزام:
وذلك بأن يضع المدعي يده في حزام المدعى عليه ويحلفه «بثلاث كلمات أولها الله وآخرها الله» ثم يسأله أن يقول الحق.
والحلف بالعود:
وهو عند القصاص: يأخذ الشاهد عودا في يده ويقول: «وحياة هذا العود والرب المعبود ومن أخضره وأيبسه رأيت كذا.» (7) الحلف بالردن
هذا وفي الجريرات السواركة الآن رجل يدعى جريرا، يعتقد به أهل الجزيرة أنه من أهل الكشف والصلاح، فيأتون إليه من كل الجهات ويحلفون بردنه، وكثيرا ما يأتي الخصوم ويتقاضون عنده، وهو يتفرس في المتهم، فإذا توسم البراءة في وجهه أذن له في أن يأخذ ردنه ويحلف به بقوله «بالله العظيم (ثلاث مرات)، وحياة ردن الشيخ جرير إني بريء.»
وظهر بين السواركة حديثا رجل آخر يدعى «أبو نجر» يدعي الكشف والصلاح، فتبعه الناس وصاروا يحلفون بردنه كما يحلفون بردن أبي جرير. (8) التفويل
وإذا كان أحد المتقاضيين قاصرا؛ فلوليه أو وصيه رفض الحكم وطلب إعادة الدعوى بقوله: «أضربه على زوره وأرده عن شوره وأني مفول» ويعرف ذلك عندهم «بالتفويل». (9) الفلج
هذا وإذا اتفق خصمان على ميعاد يحضران به للقضاء، وغاب أحدهما حق للقاضي الحكم غيابيا، إلا إذا ظهر بعد ذلك أنه غاب لعذر شرعي مقبول، فينقض الحكم، ويعرف نقض الحكم عندهم «بالفلج». (10) الغرم بالمال
ومادة الأحكام عند جميع قضائهم الغرم بالمال، فليس عندهم حبس ولا ضرب ولا قتل لا في القضايا الجنائية ولا المالية، وهذا خلل كبير في شريعتهم كما سيجيء.
الفصل الثالث
في شرائعهم وأحكامهم
ليس للبدو شريعة مكتوبة، بل يحكم قضاتهم بالعرف والعادة كما مر، وأهم جرائمهم: القتل، والسرقة، والشتم، وخطف البنات، وحرق زرع الغير، والاعتداء على أرضه، وردم آباره، وعدم وفاء دينه، وشن الغارة بعضهم على بعض ونحو ذلك، وأما شريعة البدو فيمكن حصرها تحت الرءوس الآتية، وهي: (1) روابط القبائل. (2) شريعة القتل. (3) شريعة الجروح . (4) شريعة النساء. (5) شريعة الإبل. (6) شرائع أخرى. (1) روابط القبائل (1-1) حفظ النسب والعصبية
وبدو سيناء كسائر البدو يعنون بحفظ أنسابهم ويتفاخرون بها ويبالغون في استقصائها حتى يردوها إلى الآباء الأولين، وأقرب أسباب العصبية عندهم الأبوة والأخوة والعمومة ومنها تتألف العائلة، ومن العائلات تتألف الفصيلة، ومن الفصائل يتألف الفخذ، ومن الأفخاذ يتألف البطن، ومن البطون تتألف العمارة، ومن العمائر تتألف القبيلة، ومن القبائل يتألف الشعب وهو النسب الأبعد.
ثم إن القبائل يتعصب بعضها لبعض حسب ارتباطها في العصبية، فتجتمع القبائل أو فروعها الأقرب فالأقرب على الأبعد فالأبعد، أي تجمع الفصائل من الفخذ الواحد على فخذ آخر ولو كانوا جميعا من بطن واحد، والأفخاذ من العمارة الواحدة على عمارة أخرى ولو كانوا جميعا من قبيلة واحدة، وهكذا. (1-2) سمات القبائل
ولكل قبيلة من قبائل البدو سمة خاصة تسم بها إبلها وحميرها وغنمها، أي تضع عليها علامة ما بميسم كيا بالنار، وذلك في الرقبة أو الرأس أو الصلب، وأما الخيل والبقر فتترك بلا وسم. (1-3) حدود القبائل
ولكل قبيلة جهة محدودة من الجهات الأربع معروفة عندهم بعلامات طبيعية بارزة. وفي الجهات التي ليس فيها علامات بارزة يضعون رجوما من الحجارة للدلالة على الحدود. (1-4) المراعي والمياه
ولكل قبيلة مراع ومياه وأراض زراعية معروفة، أما المراعي والمياه فمشاع لجميع القبائل، فلا تمنع قبيلة قبيلة أخرى عن مراعيها ومياهها إلا في زمن الحرب، وأما الأراضي الزراعية فهي ملك لأفراد القبائل، فلا يتعرض أحدهم لأرض غيره ولا يزرعها إلا بإذنه.
وفي عرفهم أنه إذا اكتشف أحدهم ماء لم يكن معروفا أو احتفره في مكان لم يكن فيه من قبل أصبح الماء ملكا له وأقام بجانبه رجما ووسمه بوسمه، وإن كان بقرب الماء أرض صالحة للزراعة استولى عليها وزرعها لنفسه، هذا إذا كان الماء في أرض قبيلته وإلا فإذا كان في أرض أجنبية حق له الانتفاع به كغيره من أبناء القبيلة التي وجد الماء في أرضها، ولم يكن له حق بالأرض التي حوله. (1-5) الحلف والقلد
وكل قبيلة من قبائل سيناء مرتبطة بسائر القبائل بحلف أو قلد، ولها «حسيب» حافظ لعهودها مع القبائل، ويعرف بالعقيد أو بنقال الأقلاد أو نقال العلوم، أما «الحلف» فهو المحالفة بعينها، وهو معاهدة دفاعية هجومية، وأما «القلد» فهو معاهدة سلمية لمنع الحرب أو الغزو وحفظ السلام بين القبائل.
وفي عقد الحلف بين قبيلة وأخرى يجتمع حسيبا القبيلتين وكبارهم في بيت وجيه من قبيلة ثالثة، فيجعل الحسيب الواحد يده في يد الآخر، ويعيد كل منهم القسم الآتي: «الله الله، محمد رسول الله، نحن وإياكم الحوض واحد والروض واحد، الذي يضركم يضرنا، والذي يسركم يسرنا، بيننا وبينكم عهد الله، لا يصير بيننا غزو ولا حرب، أعداء من عاداكم وأصدقاء من صادقكم ما دام البحر بحر والكف ما ينبت شعر»، وأما قسم القلد فهو: «الله الله، محمد رسول الله، ما بيننا عهد الله ما يتعدى أحد على أحد.»
ويشترط في من يعقد عنده الحلف أو القلد أن يكون «مشهور مذكور وسيع المراح راعي مال وعيال»، ويدعى «راعي البيت» وبيته «بيت العمارة»، وهو الشاهد الحكم بين المتعاهدين، ويورث علمه هذا للأرشد من أولاده.
وهذه حال الحلف والقلد بين قبائل سيناء في وقتنا الحاضر.
بين الحويطات واللحيوات والترابين والطورة حلف قديم، وبين كل من هذه القبائل والتياها قلد، وقد تم حديثا بين التياها شياخة حمد مصلح وبين الترابين حلف جديد، ثم إن بين السواركة والعيايدة من جهة وبين الترابين من جهة ثانية قلد، وبين السواركة وكل من التياها واللحيوات قلد، وبين البياضيين والسماعنة حلف.
قيل وهذه العهود ترجع إلى قسمة قديمة العهد بين البدو كافة، فهم بوجه الإجمال شطران: شطر «سعد» وشطر «حرام»، وقد اختلفوا في تعليل ذلك، فمنهم من قال: إن انقسامهم هذا يرجع إلى مقتل الحسين، فالذين غلبوا في تلك الواقعة قالوا: «اليوم حرمنا النصر»، فكانوا شطر حرام، والذين فازوا قالوا: «اليوم سعدنا» فكانوا شطر سعد، وقال آخرون: إن «سعد وحرام» شقيقان عشقا في ما مضى من الزمان بنت أمير عرب، فانقسمت العرب بهما قسمين: قسم انحاز إلى سعد وآخر إلى حرام، وحصلت حرب عامة بين البدو بسببهما، فسمي كل قسم بالأمير الذي انتمى إليه.
وأما عرب سيناء: فالذين هم في شق سعد: التياها والسواركة والرميلات والعيايدة والسماعنة والأخارسة وأولاد علي والبياضيين، والذين في شق حرام: الطورة والحويطات واللحيوات والترابين والعقليين، وأما حسباء قبائل سيناء الآن فهم:
الشيخ نصير بن موسى بن نصير، حسيب الطورة.
الشيخ عودة بن بنية أبو طقيقة، حسيب الحويطات.
الشيخ سلام البرعصي، حسيب التياها.
الشيخ سليمان القصير بن نجم، حسيب اللحيوات.
الشيخ فريج سلام أبو صفيح، حسيب الصفايحة اللحيوات.
الشيخ سلامة بن جازي، حسيب الترابين الحسابلة.
فالقبائل التي يربطها القلد لا ترفع خصوماتها إلى الزيادي رأسا، بل إلى الحسيب، فإذا اعتدت قبيلة منها على جمال الأخرى؛ ذهب صاحب الإبل إلى الحسيب وهو يرد له الإبل مع غرامة جنيهين عن كل جمل، وأما القبائل التي يربطها الحلف فترفع خصوماتها إلى الزيادي بعد رفعها إلى الحسيب، فإذا سرق أحدهم جمالا من قبيلة مرتبطة مع قبيلته بحلف؛ ذهب صاحب الجمال إلى حسيب قبيلة السارق فيرد له الجمال المسلوبة ويجر السارق إلى الزيادي فيغرمه غرامة شديدة. (1-6) النفاض
وإذا أراد قليد «نفض» العهد مع قليده لسبب من الأسباب؛ بعث له برسول من قبيلة ثالثة على هجين له، فيقول الرسول: «جايب لك النفاض من فلان، وهذا حد العهد بينك وبينه، والعرض من العرض أبيض (أي إنه حذره ولم يغدر به)، ومعك ثلاثون يوما تلم بها أطرافك وبعد هذا الميعاد حرب، عليك النقا بذبح الرجال وشل المال»، ثم تدور رحى الحرب بينهم فإما أن يغزو بعضهم بعضا وتنهب كل قبيلة من جمال الأخرى وتقتل من رجالها ما تصادفه في طريقها، أو يلتقي رجال القبيلتين في معركة دموية فاصلة يستخدمون بها الأسلحة النارية والأسلحة البيضاء، ومتى استعرت حرب بين قبيلتين استنجدت كل قبيلة بالقبائل المرتبطة معها بحلف فتنجدها. (1-7) العطوة
وقد يطلب أحد الفريقين هدنة، وتعرف عندهم «بالعطوة» فيعقدانها ثم يعودان إلى الحرب، ومدة الهدنة عندهم من 3 أيام إلى سنة وشهرين، ومن خان رفيقه أثناء العطوة اقتص منه ضعفين. (1-8) الصلح
ومتى أرادت القبيلتان الصلح اجتمع حسيباهما وكبارهما وهدروا كل دم لم يعلم قاتله، وأما الرجل المعروف قاتله فديته ألف غرش تعريفة أي خمس جنيهات مصرية، وأما المال المنهوب فلا يرد، ثم يعقد الصلح بحلف أو قلد. (1-9) الأخوة أو الطلوع
وقد تضعف قبيلة أصيلة في حرب مع قبيلة أخرى؛ فتنضم إلى قبيلة ثالثة بالأخوة للمحافظة على كيانها، فيجتمع شيخ القبيلة اللاجئة بشيخ القبيلة الملجوء إليها في مجلس خاص ويقول له: «أنا طالع معك وأخوك من كتاب الله العزيز، دمي يسد عن دمك، ومالي يسد عن مالك، ورجالي تسد عن رجالك، وابني يسد محل ابنك، وبنتي تسد محل بنتك، أطرد مطرادك، وأشرد مشرادك، وفي الخير إخوان، وعلى الشر أعوان، عهد الله بيننا، والقلب صافي، هل قبلتني؟»
فيقول الثاني: «قبلتك على الرحب والسعة»، فتصبح القبيلتان من ذلك الحين كأنهما قبيلة واحدة، مقعدهم واحد وحربهم واحد وفزعهم واحد وقولهم واحد، ويعرف ذلك عندهم «بالطلوع»، ومن ذلك طلوع الرميلات مع السواركة، والخلايفة اللحيوات مع الشوافين، ومزينة مع العليقات في جزيرة سيناء.
وقد «يطلع» نفر من البدو من شياخة فخذ إلى شياخة فخذ آخر في القبيلة الواحدة، كما فعل هويشل بن سليم، فإنه طلع من شياخة الصفايحة اللحيوات إلى شياخة الخناطلة اللحيوات. (1-10) الخاوة
وأما التجاء قبائل هتيم إلى القبائل الأصيلة فيعرف بالخاوة كما مر. (1-11) الطنب
وإذا جار شيخ قبيلة على جماعة من رجال قبيلته، وأحس هؤلاء من أنفسهم القدرة على مقاومته قاوموه، وإلا أطنبوا على شيخ قبيلة أخرى بأن ينصبوا خيامهم في حذاء مخيمه، ويطلبوا إليه أن ينصفهم من شيخهم، ففي الغالب يرحب بهم ويذبح لهم الذبائح، ثم يذهب معهم إلى شيخهم ويصلحهم، ويعرف ذلك عندهم «بالطنب». (1-12) الوثاقة
ومما اعتاده أهل البادية وأصبح عندهم شريعة «الوثاقة» وهي رهائن من الإبل تؤخذ خلسة للحصول على حق ممطول، فإذا ادعى رجل على آخر بحق ولم يذعن المدعى عليه للحق ولا سمى قاضيا للفصل في الدعوى أشهد عليه بذلك وأصبح له الحق بأخذ الوثاقة من إبله أو إبل عشيرته، وإذا كان خصمه من قبيلته أشهد عليه بذلك أربع مرات متوالية في أربع جلسات والشمس طالعة قبل أن يشرع بأخذ الوثاقة، إلا في رمضان فإنه يجوز له أن يشهد على خصمه ليلا.
ويشترط لصحة الوثاقة أن تناخ الجمال الموثوقة عند بيت رجل مهوب، وأن يقال لرب البيت: «إني أضع هذه الوثاقة عندك في حقي عند فلان»، فإن أدرك صاحب الإبل الموثوقة إبله قبل إدخالها في بيت الرجل المهوب قاتل أحدهما الآخر، وأكثر شرور البدو في سيناء وغيرها تنجم من الوثاقة.
وفي عرفهم أن الهجن الأصيلة لا توثق ما دام يوجد غيرها، ومن أمثالهم: «الهجن منذرة الطلب» فإذا أخذت بالوثاقة جر صاحبها الواثق إلى الزيادي وحاكمه وحكم عليه، ومن الهجن التي لا توثق هجن الضيوف كما مر، ومن أمثالهم: «الضيف من المحصنات». (1-13) الرجم
الرجم حجر أبيض أو مجموع من الحجارة البيضاء، تقام على ماء شهير أو درب جهير اعترافا بجميل أو ردا لشرف أو تخليدا لأثر، فإذا فعل رجل مع آخر جميلا بأن أنقذه من خطر أو نشله من فقر؛ نصب له رجما على درب جهير أو ماء شهير، وجعل عليه وسم قبيلته إشهارا لجميله، وإذا عاب بعضهم شخصا حكم المنشد عليه بإقامة رجم للمعتدى عليه على درب جهير أو ماء شهير ردا لشرفه، وإذا ثقل عليه إقامة الرجم افتداه بجميل ظهير، ثم إذا وقعت واقعة عندهم تستحق الذكر أقاموا في مكان الواقعة رجما من الحجارة تخليدا لها، وقد يخطون بدل الرجم دوائر أو حفرا وثلما في الأرض لا يزالون يحيونها كلما طمرت، وهذه العادة هي من أجمل عاداتهم خصوصا وأن ليس عندهم كتب يدونون بها أخبارهم، وقد اهتديت بها إلى كثير من وقائعهم وحروبهم.
أما عادة نصب الرجوم في البادية تخليدا للحوادث الخطيرة فعادة قديمة العهد جدا، نرى شواهدها في التوراة: فقد جاء في سفر يشوع ص4 عدد 7:
فدعا يشوع الاثني عشر رجلا الذين عينهم من بني إسرائيل، رجلا واحدا من كل سبط، وقال لهم يشوع : اعبروا أمام تابوت الرب إلهكم إلى وسط الأردن وارفعوا كل رجل حجرا واحدا على كتفه حسب عدد أسباط بني إسرائيل لكي تكون هذه علامة في وسطكم إذا سأل غدا بنوكم قائلين: ما لكم وهذه الحجارة؟ تقولون لهم: إن مياه الأردن قد انفلقت أمام تابوت عهد الرب، عند عبوره الأردن انفلقت مياه الأردن، فتكون هذه الحجارة تذكارا لبني إسرائيل إلى الدهر.
ويستدل من التوراة أنه كان من عادة البدو قديما نصب الرجوم عهدا بين فريقين، فهي بمثابة الرجوم التي تنصب الآن لصانعي السلام بين قبيلتين أو شخصين.
جاء في سفر التكوين ص31 عد43 إلخ: «فأجاب لابان وقال ليعقوب: ... هلم نقطع عهدا أنا وأنت فيكون شاهدا بيني وبينك، فأخذ يعقوب حجرا وأوقفه عمودا، وقال يعقوب لإخوته: التقطوا حجارة، فأخذوا حجارة وعملوا رجمة، وأكلوا هناك على الرجمة ... وقال لابان ليعقوب ... شاهدة هذه الرجمة وشاهد العمود أني لا أتجاوز هذه الرجمة إليك وأنك لا تتجاوز هذه الرجمة وهذا العمود إلي للشر.»
وجاء في سفر يشوع ص42 عد25 إلخ: «وقطع يشوع عهدا للشعب في ذلك اليوم، وجعل لهم فريضة وحكما في شكيم ... وأخذ حجرا كبيرا ونصبه هناك تحت البلوطة التي عند مقدس الرب، ثم قال يشوع للشعب: إن هذا الحجر يكون شاهدا علينا؛ لأنه قد سمع كل كلام الرب الذي كلمنا به فيكون شاهدا عليكم لئلا تجحدوا إلهكم.» (1-14) التبييض والتسويد
التبييض نصب راية بيضاء على ماء شهير أو درب جهير إشهارا لفضل أو إشعارا بجميل، فهو كالرجم إلا أن الرجم من حجر وهذا من قماش، وضده التسويد وهو نصب راية سوداء على ماء شهير أو درب جهير تشهيرا لقبيح أو للتقصير في وفاء دين أو غرامة، فإذا كفل رجل آخر في سداد حق لثالث ولم يف بكفالته نشر المكفول له عباءته كعلم في ملإ من الناس وقال: هذه راية فلان، فإنه نكث بعوده وقصر في كفالته، ونحو ذلك من العبارات التي تسود وجه الكفيل، فإن كان المكفول له محقا سكت الكفيل، وإلا طلبه للمنشد وغرمه غرامة شديدة.
أخبرني قومندان سيناء أن المنشد حكم لبعضهم سنة 1904 برباع ورباعية وجنيهين؛ لأن خصمه سود عليه بلا سبب موجب، وقال المنشد: لو كان التسويد قد حضره أهدبان شائبان معتبران؛ فلصاحب الوجه فوق ذلك أربعون جملا، فطلب أحد الحضور من صاحب الوجه التنازل عن الجنيهين، وطلب القومندان التنازل عن الرباعية؛ فبقي لصاحب الوجه رباع واحد فأخذه وانصرف. (1-15) رمي الوجه
وهو الاستنجاد برجل وجيه مهوب لمنع شر أو خصومة، فإذا هب رجلان أو قبيلتان للقتال وقال أحد الحضور: «رميت وجهي أو وجه فلان بينكما» كف الفريقان عن القتال في الحال، فإن «للوجه» حرمة عظيمة عندهم فلا يمتهنه إلا كل فظ مجازف، فإذا استمر أحد الفريقين على القتال بعد رمي الوجه؛ قال صاحب الوجه: «فلان قطع وجهي» ودعاه إلى المنشد، فإذا أبى أشهد عليه أربعة شهود وشرع في أخذ الوثاقة من إبله حتى يذعن للمنشد، ولا بد للمنشد من الحكم عليه بعقوبة تختلف من جملين رباعيين إلى أربعين جملا «حسب درجة الوجيه المقطوع الوجه» ونصب رجم لمقطوع الوجه على ماء شهير أو درب جهير، فإذا لم ينصب الرجم في مدة 3 أيام اضطر أن يعوض عنه بجمل ظهير، وقد يحكم المنشد عليه بقطع قيراطين من لسانه فيفتدي ذلك بعدد من الإبل. (1-16) الجاهة
وإذا كان قاطع الوجه المحكوم عليه بالغرامة فقيرا لا طاقة له على دفع الغرامة كلها أو بعضها؛ قام بما استطاع القيام به «وساق الجاهة» بما بقي من الغرامة على صاحب الوجه، فيأخذ نساءه ونساء جيرانه وذبيحة وكيس دقيق وشيئا من البن ويأتي مخيم صاحب الوجه وينصب خيمته بجانبه، ثم يولم وليمة ويدعو إليها صاحب الوجه ويسترحمه للتنازل عما بقي من المغرم، فيتنازل عنه كرما وشهامة، وإذا أبى التنازل عنه بعد الاسترحام عد بخيلا عديم المروءة. (1-17) الأخذ بالثأر
أما الأخذ بالثأر فمشروع عندهم، فلا حرج على آخذ الثأر ولا ملام: فالعين بالعين والسن بالسن والنفس بالنفس، وإذا تخاصم اثنان وجرح أحدهما الآخر وذهبا إلى القصاص فإن تساوى الجرحان حكم ببراءة الاثنين، وإذا زاد جرح واحد جرح الآخر قدر القصاص الغرامة بقدر الزيادة، وإذا مات صاحب الثأر قبل أن يثأر لنفسه من خصمه ورث الثأر لأولاده من بعده كما قدمنا. (1-18) الحسنة
وكما أن البدوي لا ينسى السيئة فهو لا ينسى الحسنة، فإذا فعل أحد معه جميلا «شال له الحسنة» أي حفظ له هذا الجميل وأورث الجميل لأبنائه من بعده إلى انقراض الذرية، ولا فرق إن كان صاحب الجميل بدويا أو حضريا، أما أهل العريش فيحرصون على حسناتهم مع البدو ويدونونها في كتبهم، وأما أهل البادية فيحفظونها في صدورهم.
وقد رأيت عند طائفة العرايشية دفترا قديما دونوا فيه الحسنات التي فعلوها مع عرب باديتهم، وهذا بعض ما وجه في الدفتر بحرفه:
يوم تاريخه فكينا سعد بن حسن الزريعي من تحت سيف درويش باشا، وقعد هو وأبوه بحسنة دم إلى جميع العرايشية (والتاريخ غير ظاهر).
فكينا سلامة بن عيسى المسعودي من حبس درويش باشا من غزة بحضور أخيه سليم، وقعد لنا بحسنة إلى جميع العرايشية بشهادة كثيرين من العرب سنة 1202ه.
يوم تاريخه المبارك انحبس سلامة بن السعدي في مصر عند محمد بك الألفي، وفكه الحاج قاسم جربجي وخسر عنه دراهم، وقام الحاج هزاع وأخوه سلامة إلى أولاد خليل جربجي بحسنة هم وتوابعهم من اليوم لآخر يوم الزرية في العرايشية. غرة جماد أول سنة 1204ه.
عند يونس بن محيسن الترباني من الرميحات حسنة يوم أخذ منا شربة السعر يوم دق فيه الكلب وطاب.
نهار تاريخه جاب لنا حسانينا النبعات ابن أبو الرمان لحيوي مقتول قتلوه النصارى الفرنسيس، ودفناه بحسنة بشهادة النبعات، في رجب سنة 1912.
عند أبو زغيبي حسنة يوم طاحوا في المطمارة وطلعناهم، وكسينا الاثنين الطيبين ودفنا الموتى. عند أهديب بن عرادة يوم فكيناه من درويش باشا من تحت السيف وهو بحسنة دم.
عند محمد بن سلمان أبو عمرة العرادي حسنة يوم غرق ابنه في العريش وطلعناه.
عند شنيبات الترباني من النبعات حسنة فكوه يوم كان معلقا على المدفع.
عند عودة الزريقي الترباني حسنة يوم فكوه من الحبس.
يوم شنق حميد العر نزلناه من المشنقة ودفناه وقاموا أولاد عمه مساعد وعوده بحسنة.
وفائدة العرايشية من هذه الحسنات في البادية عظيمة جدا؛ فإنه إذا فقد لأحدهم بعير فتش «الحساني» عليه حتى يجدوه، وإذا ضاع له حق عند أحد البدو ساعدوه على رده، وإذا كان له حاجة في البادية وأضافهم أكرموه وقضوا له حاجته، وإذا اختصم اثنان من الحساني على ضيافته حكم بالضيافة لصاحب الحسنة الأهم؛ لأن الحسنات درجات في الأهمية، وإذا حصلت حرب بين قبيلة المحسن وقبيلة المحسن إليه؛ فالمحسن إليه لا يحارب المحسن ولا يقربه بسوء.
ومما سمعته من أهل العريش بشأن الحسنات أن اللحيوات قتلوا رجلا من أولاد سليمان، فاصطلحوا معهم على الدية أربعين جملا، فدفع اللحيوات نصف الدية وأبقوا النصف الآخر أي عشرين جملا بصفة حسنة، فدون أولاد سليمان ذلك في دفتر الحسنات.
وأخبرني الشيخ سليمان القصير شيخ اللحيوات الأسبق بشأن الحسنات بين العرب بعضهم وبعض؛ أن التياها قتلوا أخاه حسينا في جهة الطور منذ نحو أربعين سنة وتركوه في مكانه، فمر به الزميلي شيخ العليقات في ذلك الحين فحمله على جمل ودفنه في تربة لهم في جهة الرملة، فأتيت إلى الشيخ الزميلي وشكرت جميله ونقلت له الحسنى وقلت: «ناقل لك الحسنة ع الخمسة (أي خمسة جدود) لا هاملة ولا مرعية»، وأنا لا زلت أحفظ له هذا الجميل وسأورثه لأولادي من بعدي لخامس جد. (1-19) الشريك
هذا وكان حضر الطور وحضر السويس من المسلمين يشترون «حسانيهم» من البدو بالمال، فكل تاجر له مصلحة في البادية يختار له «شريكا» أو حسنى من البدو فيجعل له مرتبا من القماش والغلة يدفعه له كل سنة على شرط أن يقضي له مصالحه مع أهل البادية.
حكى لي الشيخ إبراهيم أبو الجدايل قال: إن إبراهيم بك جريدان من أعيان تجار السويس كان له «حسنى» من العوارمة يدعى نصار بن حسن، وكان لنصار مرتب من أرز وقمح وثياب ونحوها يأخذه من إبراهيم بك كل سنة، وكان تجار السويس قديما يرسلون نقودهم صرا مع البريد إلى مصر، فحدث في نحو سنة 1860 أن بدويا قابل البريد وسلب منه الصر وكان فيه صرة إبراهيم بك جريدان، فلما حضر نصار بن حسن إلى السويس رفع له إبراهيم بك راية سوداء فسأله في ذلك فقال: كيف تكون «حسناي» ويسرق صري من البريد، فقال: أنزل هذه الراية وأعطني كيلين غلة زاد الطريق ففعل، فذهب نصار بن حسن وما زال يفتش عن الجاني حتى وجده فقال له: يا فلان إن حسناي رفع لي راية سوداء بسببك، فإما أن ترد لي صرته أو بيني وبينك الحرب، فناوله الصرة بذاتها فحمله وأتى بها إلى إبراهيم بك في السويس، وأما باقي الصرر فما زالت مخفية إلى الآن. (1-20) الخفير
هذا ما كان بين البدو ومسلمي الحضر، وأما نصارى الحضر في الطور، فقد كان للبدو عليهم خفارة، فكل عائلة من نصارى الحضر كان لها عائلة من البدو تخفرها وتحافظ عليها وعلى مالها، قيل وكان للدير قديما 25 خفيرا، وكان من سنة البدو أن الخفير يرث مخفوره إذا لم يترك وارثا.
واتفق أنه منذ نحو 35 سنة مات ناصر المسيحي في الطور عن كرم في وادي الحمام، ولم يكن له وريث غير أخته زوجة الخواجا قسطندي عنصرة، فاستولت على الكرم، وكان خفراء ناصر قديما النفيعات فلما دروا بموته قاموا يطالبون بالكرم مع أن النفيعات تركوا سيناء من زمان ولم يبق منهم إلا شرذمة قليلة كما مر؛ فرفع العناصر الأمر للداخلية، ولما رأى النفيعات أن الداخلية لا تنصرهم سألوا عن خفراء العناصرة من البدو، فوجدوا أن خفراءهم أولاد سعيد؛ فأغاروا على جمال أولاد سعيد وأخذوا منها جملين بطريق الوثاقة وقالوا لهم: «إنكم خفراء العناصرة فأنتم مسئولون لنا عن حقنا منهم»، ثم دخل الشيخ موسى أبو نصير شيخ مشايخ الطورة في الصلح فأعطى النفيعات 20 جنيها فوق الجملين وحسم النزاع. (2) شريعة القتل
إذا وقعت حادثة قتل في البادية؛ فأهل القتيل الأقربون من الأب والجد فصاعدا إلى الدرجة الخامسة، ومن الابن وابن الابن والأخ وابن الأخ والعم وابن العم فنازلا إلى الدرجة الخامسة يطاردون القاتل وأهله الأقربين إلى الدرجة الخامسة صاعدا أو نازلا طلبا للأثر، فإذا فازوا بثأرهم وقتلوا القاتل أو أحدا من أهله الأقربين انتهى الأمر، وإلا فإذا فاز القاتل وأهله بالانجلاء عن بلادهم واحتموا بقبيلة أخرى قبل أن يلحقهم أهل الثأر توسط لهم عقلاء القبيلة التي احتموا بها عند أهل الثأر. (2-1) المدة
فإذا رضوا بالصلح نقلوا لهم «الجيرة» وهي جمل رباع، وقدموا «كفيل وفا» وأخذوا منهم «كفيل دفا»، وامتنع أهل القتيل من ذلك الوقت عن مطالبة أهل القاتل، وجعلوا الميعاد بينهم بيت رجل مشهور مذكور يأتون إليه بالدية، وتعرف عندهم «بالمدة» وهي أربعون جملا وناقة هجين تعرف بالطلبة، والأربعون جملا أولها ذلول (أي هجين صاف) وآخرها دحور (أي فيها لبن) والثمانية والثلاثون الباقون منها 14 رباعا بما فيها «الجيرة» الموضوعة قبلا و12 جذعة و12 حقا، وأما الطلبة فإذا لم توجد ففداؤها خمسون ريالا مجيديا. (2-2) الغرة
هذا في دية القتيل إذا كان من قبيلة غير قبيلة القاتل، أما إذا كان القتيل والقاتل من قبيلة واحدة وجب على أهل القاتل أن يقدموا فوق الدية المعتادة «غرة» أي بنت بكر يأخذها أحد أقارب القتيل بلا مهر بصفة زوجة وتبقى عنده حتى تلد ولدا فيصير لها الخيار بين أن تعود إلى أهلها حرة وبين أن تجدد زواجها وتبقى مع أبي ولدها بعد أخذ مهرها، ويراد «بالغرة» إعادة الروابط العائلية إلى ما كانت عليه قبل القتل، على أن البنات الأبكار يأنفن من هذه العادة لما فيها من المعرة عليهن؛ ولذلك جوزوا فداء الغرة بخمس رباعيات والغالب الفداء. (2-3) الدليخة
ومن قتل غدرا واختلاسا في مكان منقطع وأنكر ثم ثبت عليه القتل عدت فعلته دليخة وطولب بأربع ديات، فإذا أخذ أهل القتيل بالثأر من واحد ودخل العقلاء بالصلح حكم القصاص على أهل القاتل بثلاث ديات، فيأخذ أهل القتيل دية واحدة ويتصدقون بواحدة ويسامحون بواحدة، وكذلك من قتل طفلا عد قتله دليخة ووجب عليه أربع ديات، وأما من قتل امرأة فقد وجبت عليه ثماني ديات.
وتدفع الدية في الغالب أقساطا مؤجلة، من قسط إلى أربعة، في ميعاد شهر إلى سنة، ولكنها في بعض الأحيان تدفع كلها فورا دفعة واحدة، وهي توزع بين أقارب المقتول الذين يطاردون بدمه، ومن أمثالهم: «من طارد في الدم أخذ فيه.»
ويكفي لوجوب الدية ومنع المطاردة للدم رضا واحد من أقارب القتيل الأخصاء، فإذا رضي واحد اضطر الكل إلى الرضا برضاه على نحو ما هو مشروع في الإسلام.
وإذا لم يكن عند القاتل قيمة دية ولم ترض قبيلته دفع الدية عنه علق «الجيرة» وأخذ ميعادا طويلا من أصحاب الدم وطاف في القبائل يستعطي الدية حتى يستوفيها. (3) شريعة الجروح
أما جزاء الجروح فبحسب مقدارها ونوعها وموضعها، فإذا كان الجرح ظاهرا للعيان كأن يكون في الوجه وشوه الوجه، كان قصاصه أعظم من الجرح الذي لا يظهر للعيان، يقيس القصاص الجرح بأصابعه وهي لاصقة بعضها ببعض، ويجعل غرامته كل أصبع بجمل أو أقل، وأما الجرح الظاهر للعيان فإما أن يقيسه كما قاس الجرح غير الظاهر ويضعف الغرامة أو أن يضع فيه ورقة بيضاء ويتقهقر إلى الوراء وهو ينظر إلى الورقة، فكل خطوة يخطوها إلى الوراء بجمل كبير أو صغير أو بنتو أو نصف بنتو حسب أهمية الجرح حتى تغيب الورقة عن نظره، فيقف ويجمع خطاه ويوجب على الجاني بعددها إبلا أو بنتوات.
أما كسر الساق أو الذراع أو إتلاف العين أو أي عضو من الأعضاء الرئيسية في الجسم فغرامتها نصف الدية، وغرامة قطع الأصبع الشاهد خمسة بعران، والخنصر بعير، وكسر السن بعير.
وإذا أطلق أحدهم بندقية على رجل فلم تصبه حوكم عند كبار العرب، وحكموا للمدعي بالبندقية «وطيبة خاطر»، أو يلزمون المدعى عليه باليمين أنه لم يكن يقصده.
أما الضربة التي لا تسبب جرحا فغرامتها من 100 إلى 200 غرش إلا إذا كان الضرب بالكف أو بالعصا أو بالغليون أو بطاسة البن؛ فإن الضرب بها عندهم أعظم من الضرب بالسيف، إذ يقولون: إن الضرب بهذه الأدوات فيه امتهان للمضروب. والغرامة المعتادة على ضرب الكف جمل «مفرود»، ولكن كثير منهم لا يرضى بالقصاص في مثل هذه الجنايات، بل يطلب الجاني إلى المنشد ويطلب منه رد شرفه. (4) شريعة النساء (4-1) الشرود بالبنات
تقدم أن القاعدة عند البدو الزواج بين الأقارب، فقلما يطلب شاب التزوج ببنت من غير قبيلته، وكذلك الشابة قلما ترضى التزوج بشاب من غير قبيلتها، ولكن سلطان الحب الذي لا يخضع لسلطان قد يستولي على شاب وشابة بكر أو ثيب من قبيلة واحدة بينهما قرابة بعيدة، أو من قبيلتين مختلفتين، ويكون للشابة خاطب من أهلها تكرهه فتتبع هواها وتشرد مع محبها إلى بلاد بعيدة؛ فتقوم قيامة أهل الشابة على أهل الشاب.
فإذا شرد شاب بشابة بكر من غير قبيلته؛ اجتمع أهل الشابة وأخذوا جملا لأهل الشاب بصفة «جيرة» ورموا وجه أحد الكبار بينهم وبين أقارب البنت منعا للشر، ثم فزعوا وراء الشابين وردوا الشابة إلى أهلها وجروا الشاب إلى المنشد، فيحكم عليه بخمسة جمال إلى خمسة عشر جملا وفيها جمل أوضح «شيال حمل الفام»؛ أي حمل التركي، فإن التركي مشهور عندهم بتحميل الجمل جهد طاقته، ويبقى لأهل البنت الخيار فإما أن يزوجوه إياها ويأخذوا منه مهرها، أو يفصلوه عنها، إلا إذا حملت منه فإنهم يأخذون منه مهرها ويزوجونه إياها اضطرارا.
وأما إذا كان الشاب والشابة من قبيلة واحدة؛ كانت غرامة الشاب أخف كثيرا أي جملا واحدا، إلا إذا حملت منه فيضطر أهلها أن يزوجوه إياها ويلزموه بدفع مهرها على التمام أي خمسة جمال. (4-2) الشرود بالزوجات
وإذا شرد أحدهم بزوجة رجل من قبيلته أو من غير قبيلته؛ أسرع أهل الشارد إلى نقل «الجيرة» لأحد أقارب الزوجة دفعا لشر أهل الزوجة، وكل ما يفعله أهل الزوجة قبل قبول الجيرة من ضرب رجال أو شل مال يذهب هدرا؛ لأنه مباح عندهم، ثم إن أهل الشارد والشاردة يحضرونهما إلى العقبي فيحكم «بأربعين جمل وقوف أو غلام مكتوف» ويراد بالغلام المكتوف المعتدي بعينه مكتوفا مقدما للقتل، فيتوسط الحضور بالصلح فترسو الغرامة على عشرة جمال. (4-3) اغتصاب البنات
وإذا اغتصب أحدهم بنتا بكرا من غير قبيلته؛ تذهب البنت لبعض الجيران من غير أهلها وتقول لهم: «أنا شاكية» فيصل الخبر إلى أبيها؛ فيرمي أحد المصلحين «وجها» بين أهل البنت وأهل الشاب، ثم يطلب الأب الجاني إلى المنشد، فيحكم عليه بثمانية جمال.
وإذا اغتصب بنتا بكرا من قبيلته يحكم عليه بستة جمال.
وإذا اغتصب ثيبا من قبيلته يحكم عليه بأربعة جمال.
وإذا اغتصب ثيبا من قبيلته يحكم عليه بجملين، هذا إذا شكت الثيب في الحال، وإلا فيحكم عليه بجمل صغير. (4-4) العدل بين النساء
وغالب البدو يتزوج بامرأة واحدة، ولكن الكثير منهم يتزوج بامرأتين، وأما المتزوج بثلاث أو أربع فقليل.
ومن تزوج بأكثر من واحدة لا بد له من العدل بين نسائه بأن يجعل لكل منهن خيمة ويأتيها ليلة، فإذا أهمل دور إحداهن أخذت خيطا وعقدته عقدة، ثم كلما أهمل ليلة عقدت عقدة أخرى حتى يفرغ صبرها، فتأخذ الخيط المعقد وتذهب به إلى ذويها فيأخذونها إلى العقبي فيحكم لها بناقة رباعية عن كل ليلة تخلى زوجها عنها. (4-5) ضرب النساء
وإذا ضرب رجل زوجته بكفه ولم يسبب الضرب جرحا كانت «رضاوتها» غرشا واحدا عن كل كف، وإذا سبب الضرب جرحا وكان خفيفا كانت رضاوتها نعجة رباعية أو جنيها واحدا، وأما إذا كان الجرح بليغا ساقته إلى القصاص وغرمه غرامة كبيرة، وإذا طلبت منه طلاقها ساعدها عليه.
وقد سألت بعض قضاتهم عن السبب في جعل رضاوة المرأة في ضربة الكف زهيدا إلى هذا الحد، قال: «لكي تبقى المرأة مكسورة الجناح، ويبقى الرجل قيما عليها.» (4-6) الطلاق
وقلما يطلب الرجل عندهم الطلاق، فأكثر الطلاق يكون من جانب المرأة، فإذا أراد الرجل الطلاق ذهب بامرأته إلى أحد الناس، وقال لها في حضرته: «أنت طالقة، وهذا كفيل طلاقك»؛ فيأخذها الكفيل إلى بيت أبيها، وإذا أرادت المرأة الطلاق من زوجها ذهبت إلى أحد أقاربها، لا إلى أبيها، واستنجدته للخلاص من زوجها فيأتي بها إلى العقبي، فيأخذ العقبي في تطييب خاطرها وردها عن عزمها وتهوين الأمر عليها، ويحكم على الزوج في الغالب بأن يأتيها ببضع نعجات وحلة «ورحاية» وغربال وحمار تجلب عليه الماء، وأن يجعل خيمتها بين خيمتين من خيام أقاربها، فإذا فعل الزوج ذلك وبقيت الزوجة كارهة له مصرة على طلاقها طلقها العقبي منه.
وعدة الطلاق عندهم تسعون يوما، فإذا ظهر أنها غير حامل جاز لها أن تتزوج بغيره، وإذا ظهر أنها حامل بقيت بلا زواج حتى تلد وتفطم ولدها، وفي هذه الحالة فإن كان الطلاق من الرجل يعود في الغالب فيستردها؛ لأنه يكون قد اشترط هذا عند الطلاق، وإن كان الطلاق من المرأة لزمه كسوتها وطعامها إلى أن تلد الولد وتفطمه، أما الكسوة فبدلتان، وأما الطعام فأربعة أرادب غلة في السنة.
ويجوز للبدوي أن يرد امرأته بعد طلاقها بمهر زهيد، إلا إذا طلقها ثلاثا فتحرم عليه حتى تتزوج بآخر كما سن الشرع، ويجوز لمن توفيت امرأته أن يتزوج أختها بمهر زهيد. (5) شريعة الإبل
أما شريعة الإبل فصارمة جدا، والدليل على صرامتها أن الإبل تترك في المراعي وحدها فلا يجسر أحد أن يمسها، ولكن هناك ظروفا خاصة تسوغ للبدوي استعمال غير إبله؛ فللملسوع أو العطشان أو الفار من خطر أن يركب أية ناقة وجدها في طريقه بلا حرج عليه، ولكنه إذا ركب ناقة غيره لأنه تعب فهو مسئول.
وأجرة الراعي لثلة من الإبل من الخمسين فصاعدا «مفرود» في السنة، ومن خمسين فنازلا «مباري»، ومن أقوالهم: «يا راعي الزودين كراك مفرودين»، ومنها: «الراعي ركبه عشاه وجلده غطاه» فلا تمنع عنه أجرته بأي حال كان. (6) شرائع أخرى (6-1) الحوالة
والحوالة عندهم مقبولة وجائزة. (6-2) الرهن
وهم يرهنون أراضيهم الزراعية على مال يستدينونه لسنين معلومة، فيزرع المرتهن الأرض ويستغلها بفائدة ماله، وإذا لم يفه الراهن حقه في الميعاد بقيت الأرض بيده يستغلها إلى أن يسترد ماله، ومن أمثالهم: «دار الرهن عمار»، ولكن في أكثر الأحيان يبيع الراهن أرضه للمرتهن سدادا للمال. (6-3) الشفعة
والشفعة مرعية عندهم لسابع جار على الترتيب، فسابع جار أحق بالشراء من الأجنبي، وشهادته في الأرض أقوى وأقبل، ويعرف الجار عندهم «بالحديد»، وإذا كان للأرض حديدان وأراد صاحبها بيعها؛ فلكل منهما حق بشراء جزء منها. (6-4) قانون الوراثة
ويرث البكر عندهم وظيفة أبيه؛ من شيخ قبيلة أو قاض أو حسيب أو عقيد، إلا إذا كان غير صالح لها فيختار قومه للوظيفة الأصلح في العائلة، الأقرب فالأقرب. وليس للبنت عندهم ميراث معين، بل إذا مات أب عن بنات وبنين ومال، قسم البنون المال والبنات فيما بينهم، وإذا لم يكن للمتوفى ذكور تولى ماله وبناته أقرب الذكور إليه، فإذا مات رجل عن زوجة وبنت ورث ماله أقرب الذكور إليه من أهله، فيعطي الزوجة جملا ويدخل البنت في كنفه، وهو يزوجها ويأخذ مهرها، أو يبقيها في بيته وينفق عليها، وعند زواج البنت فأخوها أو وليها يأخذ مهرها لنفسه ويعطيها عنزة أو عنزتين، ثم متى زارته في السنة التالية لزواجها أعطاها عنزة أو عنزتين، «وكان الله يحب المحسنين.» (7) أمثلة من أحكام قضاة البدو (7-1) حكم كبار العرب في قضية أرض زراعية
في نحو سنة 1900 لما كان عثمان بك فريد محافظا في العريش، اختلف حماد القديري وعلي بن خلف - وكلاهما من السواركة - على ملكية أرض في القريعي، فاتفقا أمام المحافظ أن يحلف علي بن خلف اليمين على الأرض ويأخذها، فذهبا إلى الأرض، وذهب معهما بعض هجانة المحافظة وجماعة من العربان، فمشى علي بن خلف على حد الأرض التي يدعيها ثم نادى حماد القديري ووضع يده في حزامه ونطق بالقسم الآتي: «والله والله والله، وفي ولدي الفالح ومالي السارح، هذا هو حد الأرض التي ورثتها عن أبي وجدي.» فأصدرت المحافظة أمرها لعلي بن خلف بملكية الأرض. (7-2) حكم قصاص في قضية جرح
اتفق أنه مدة وجودي بنخل سنة 1905 حضر إليها العوارمة والحويطات يتقاضون عند القصاص سلامة الشويكي من البنيات التياها في قضية جرح، وكان المجروح عودة الحويطي وجرحه بليغ في ظهره، فقاس الشويكي الجرح وحكم له بسبعة وعشرين جملا و13 بنتو، فشكا العوارمة من ثقل الغرامة، وطلبوا من الحويطات تخفيضها، فخفضوها جملا واحدا، فبقي على العوارمة 26 جملا بين رباع وجذع ولبني و13 بنتو، تقدم أقساطا ثلاثة في 180 يوما، بين القسط الواحد والآخر 60 يوما، وذلك عن يد المسوق في نخل، ابتداء من 27 مايو سنة 1905، ونفذ الحكم. (7-3) المبشع والمنشد في قضية رد شرف
ومنذ بضع سنين عقد العوارمة والقرارشة شركة لاستخراج الفيروز من وادي المغاورة، فجمعوا صرة كبيرة وجعلوها في «قرية» حسن بن فيض القراشي، وبعد أيام افتقدوها فلم يجدوها، فاتهم العوارمة بها رجلا من القرارشة يدعى خليل ابن أخي الشيخ موسى بن نصير، وأخذوه إلى المبشع في بلاد الحجاز؛ فألحسه الطاس المحماة، ولما لم تترك أثرا على لسانه أصدر المبشع حكما ببراءته، فعاد القرارشة على العوارمة برد شرف المتهم وطلبوهم إلى المنشد، ولما أبوا «ردوا عليهم النقا» وأعطوهم ميعادا 35 يوما، فوصل الخبر إلى سعد بك رفعت قومندان سيناء في ذلك الحين، فرمى وجهه على الفريقين وأرسل في طلب المشايخ إلى نخل فحضروا، وأقام منشدا في نخل فحكم على العوارمة بأربعين جملا يؤدونها للقرارشة وغز رجم لهم في وادي فيران لرد شرفهم، وبذلك انطفأ الشر وأقام الفريقان رجما لسعد بك على ربع ساعة من نخل في طريق الطور إعلانا لفضله واعترافا بجميله. (7-4) حكم المنشد في قضية خطف بنت
خطف شاب من الصفايحة بنتا من التياها سنة 1899، وشرد بها إلى معان؛ فأشهر أهلها الحرب على الصفايحة، فأسرع سعد بك قومندان سيناء ورمى وجهه عليهم لمنع التياها عنهم، ثم أمر مشايخ الصفايحة بإحضار الشاردين إليه، فلم يمض 15 يوما حتى كانا في قلعة نخل، فعقد سعد بك مجلسا من مشايخ التياها والصفايحة، وأقام فيهم منشدا للفصل في المسألة، فحكم على الصفايحة بأربعين جملا يؤدونها لأهل البنت، فتوسط الحضور مع التياها وخفضوا الغرامة إلى ثمانية جمال، وأقام الفريقان رجما لسعد بك رفعت عند عجيرة الشي قرب الخفجة اعترافا بفضله.
وأخذ رجل من الصفايحة منديلا أبيض فعقده إلى رأس عصا وطاف في البلدة ينادي: «هذه راية البيك، بيض الله وجهه، وشكر فضله، وأعلى شأنه، وستر عرضه.» (7-5) الزيادي في قضية سرقة ناقة
أخبرني محمد آغا أبو جمعة ضابط هجانة نخل قال: سرق لي ناقة سنة 1900، فوجدتها عند الشيخ حماد الصوفي كبير الترابين في بلاد غزة، وحلف لي أنه اشتراها بعشرة جنيهات من رجل لا يعرفه، والعادة في مثل هذه الحالة أن الشاري وصاحب المال يتقاسمان الخسارة بينهما مناصفة، والخيار لصاحب المال، فإن شاء دفع نصف الثمن للمشتري وأخذ ماله، أو أخذ نصف الثمن وتركه للمشتري، فخيرني الشيخ حماد بين اتباع العادة أو التفتيش عن السارق، فقلت: أفتش عن السارق أولا، فإذا لم أجده أعود فأنقدك الثمن وآخذ ناقتي، فرضي بذلك وأصحبني برجل يعرف ملامح السارق، فبقيت أبحث عنه حتى وجدته عند نهر الشريعة، وهو رجل من التياها يدعى سلمان سليم، فقال: استر علي يا محمد وخذ ما تريد، فقلت: أطلب أولا ليرتين فرنساويتين أجرة الدليل الذي هداني إليك، وثمن الناقة، ثم أطلبك إلى الزيادي تأديبا لك على السرقة، فنقدني أجرة الدليل وثمن الناقة، وتوسل إلي أن أعفو عنه وأنجيه من الزيادي، فأبيت ودعوته إلى نخل فحضر، ولما كان حق تسمية الزيادي لي؛ لأني المدعي سميت القضاة الثلاثة: الشيخ سليمان العوارمة من كبار التياها واثنين آخرين، وبعد أن دفع المدعى عليه «الرزقة» (وهي من 4 جنيه إلى 8 جنيه) واصطف الناس نصف حلقة حول الزيادي قلت: «إيش عندك يا زيادي، أول ما أجيك بهدي وأثني عليك بقضي، ولا تنقضي الحاجات إلا بالصلاة على النبي، إيش عندك في رفيقي هذا اللي من عماه وقلة هداه وإبليس غواه، ومشى لناقتي وخانها وأخذها من فلاها ووداها مهفاها، وباعها وقبض ثمنها، وهي بطنها باع وسمنتها ذراع، ملحقة الطلب منذرة العرب، والله ومشيت وراه لما استقصيت عليه وجبته، وبركته ركبته مثنية قدام جماعة محنية، إني أجرمه وأغرمه وألحقه بالمهافي والمسافي، وأنا داخل على الله وعليك على حق بين لك وغبي علي.»
فقال المتهم: «وايش عندك يا زيادي في ناقة رفيقي هذا اللي زليت فيها زلة، وإن شاء الله أقول من عندك هذه الزلة لا تلحقني فيها غرامة ولا جرامة، والله أخذتها في الليل وأحسبها من الطير الأجنبي، وهذا الذي جسرني على أخذها، والله على بالي لما أخذتها لا غاويني شيطان وما جربني الرحمن وأنها غنيمة باردة، وهذا عقاب حجة البليم عند القاضي الفهيم.»
فقال الزيادي: «أنا من عندي أن الناقة اللي وسمها على خشمها ويخونها حديدها اللي الحوض واحد والروض واحد، أنا من عندي إنها مربعة (أي يغرم سارقها بأربع نياق)، ومن عندي حقها من خلاها لما وصلها مهفاها، كل خطوة بجنيه يدفعها لصاحب الناقة، فصاح المتهم من ثقل الغرامة، وطلب مني هو وجميع الحضور تخفيفها، فسامحته بالخطوات إكراما للجمهور، وأخذته منه غرامة الأربع نياق، ومن ذلك الحين لم يعد يجسر أحد من البررة أن يعتدي على إبل العساكر إلى هذا اليوم.» ا.ه.
الفصل الرابع
في نقد شريعة البدو وحكومتهم وطرق إصلاحهم
هذه هي خلاصة شريعة البدو في سيناء وحكومتهم كما أخذتها عن قضاتهم وأكابر ثقاتهم، وهي وإن كانت ترمي إلى العدل والمساواة إلا أن في مبادئها الأساسية من أسباب الخلل ما يستحيل معه استتباب الأمن وتعميم السلام في البادية، وقد كانت ولا تزال علة الفوضى التي اشتهر بها البدو في كل زمان ومكان، وأهم تلك الأسباب:
حصر العقوبات كلها في المال، وإجازة البشعة، والوثاقة، والأخذ بالثأر، والإجحاف بحقوق النساء.
أما «العقوبة في المال» فقد رأيت أن كل عقوبة في شريعتهم مهما كان سببها من قتل أو ضرب أو سرقة أو غيرها إنما هي في المال ليس إلا، ومعلوم أن الغرم في المال ليس بالوازع الذي يزجر المرء عن المفاسد، بل ربما كان باعثا على زيادة المفاسد لاستسهال الغرم في جانب الحصول على الغرض؛ فيبقى القوم فوضى؛ مستطيلة أيدي بعضهم على بعض، فلا يستقيم لهم عمران ولا يقرون على أمان، وعليه فلا بد من إدخال بعض العقوبات البدنية في الأحكام كالقتل والسجن والأشغال الشاقة؛ لتكون الوازع الكافي للصغير والكبير، المعدم والميسر، الضعيف والقوي.
وأما «البشعة» فقد رأيت مما تقدم بطلانها وبعدها عن العدالة، ويجب منعها بتاتا من البادية، والضرب على يد المبشع حتى لا يعود إلى هذه الصناعة الكاذبة.
وأما «الوثاقة والأخذ بالثأر» فإنهما يبطلان من طبيعتهما متى وثق البدو من حزم الحاكم واهتمامه في تحصيل حقوقهم والأخذ بثأرهم؛ لأن البدوي الذي يكف عن الوثاقة والأخذ بالثأر لمجرد رمي وجه كبير من كبار البادية عليه لحري بأن يكف عنهما إذا رمي عليه وجه الحاكم وكان الحاكم هو الناصر له على خصمه في الحق، أما سلو البدو في أخذ الثأر من الجاني وأهله الأقربين لخامس جد صعدا أو نزلا لمن أعظم الكبائر التي يرتكبها البدو في باديتهم ولا بد من حملهم على تركها في أي حال.
وأما «إجحافهم بحقوق النساء» فظاهر من حرمان المرأة نصيبها في الوراثة، وتزويج البنت البكر البالغ من أي رجل اختاره لها أبوها أو وليها بدون أخذ رأيها، وهذا الغض من حقوق النساء - الذي لم يقتصر على البادية بل تعداها إلى الحضر - لمن أكبر الأدلة على ميل النفس الفطري إلى الاستبداد وهضم القوي حق الضعيف.
هذه هي أهم الأسباب التي تدعو إلى دوام الفوضى في البادية، ولا يصلح حال البدو ويستتب الأمن في باديتهم إلا بإزالة هذه الأسباب من شريعتهم. ورجال الحربية المسئولون عن حكومة سيناء قد تلافوا هذه الأسباب بالقانون القضائي الإداري الذي استصدروه من الجناب العالي حديثا، وبه تحكم بادية سيناء في وقتنا الحاضر، وقد تقدم ذكره برمته، فهو يجوز العقوبات البدنية ويقضي على البشعة والوثاقة والأخذ بالثأر ويبقي لقضاة البادية العارفين بأحوالها صفة استشارية.
على أن القانون وحده مهما صلح حاله لا يكفي لإصلاح قوم ما زالوا على البداوة، فلا بد للبدو من الحاكم العادل الحكيم الذي يمزج الرهبة بالرغبة، ويتخير أسلوب الحكم الذي يناسب حالهم وتتقبله نفوسهم الأبية المنطبعة على الشورى والحرية.
ولعل أفضل سياسة لحاكم البدو أن يكون الرئيس الناصح المرشد لهم، لا الحاكم الشديد الصارم عليهم المتحجب عنهم، بل أن يكون بمثابة كبير مشايخهم، فيعمر مجلسه بأفاضلهم، ويوصل خيره إلى أكابرهم وأصاغرهم، ويشجع الشريف من طباعهم وعاداتهم، ويكون الرقيب على أعمالهم ورغباتهم، فكلما بدت هفوة منهم عالجها بما يصلحها برفق وتؤدة لا بعنف وشدة.
هذا وقد تقدم أن كل قبيلة من قبائل البادية دولة مستقلة بذاتها، وأن قبائل سيناء مرتبطة بعضها ببعض بحلف أو قلد حفظا للسلام، ولكن ربط الوفاق في البادية واهنة إلى الغاية؛ فأقل سبب يزيلها ويوقع الشر بين قبائلها، فمتى تولاها الحاكم العارف بعاداتها وأساليبها الراغب في إصلاح حالها متن ربط الوفاق بين قبائلها، وحسم أسباب الخلاف بين أفرادها فتصبح كلها كأنها قبيلة واحدة هو رئيسها الأعظم وشيخها الأرشد، وهذا الذي تراعيه نظارة الحربية الآن عند اختيارها محافظي سيناء؛ ولذلك فقد خطت البلاد خطوات واسعة نحو الإصلاح كما بيناه في محله.
وإذا رفقت السياسة بسيناء، وقدر لها أن تكون همزة وصل لا همزة قطع، رأينا فيها سكة حديد تربط القطرين الشقيقين - قريبا إن شاء الله، وكان من ذلك خير كبير للقطرين وسيناء معا، وفي كل حال فإن النية معقودة على اضطراد الإصلاح في سيناء إلى ما شاء الله.
الجزء الثالث: في تاريخ سيناء «القديم والحديث»
الباب الأول
في تاريخ سيناء القديم
تمهيد
في اسم سيناء القديم وسكانها الأصليين
عرفت سيناء على الآثار المصرية باسم «توشويت» أي أرض الجدب والعراء، وعرف أهلها في الشمال باسم «هيروشايتو» أي أسياد الرمال، ونسبوا إلى جنس «الآمو» المعروف عندنا بالجنس السامي، وعرف أهلها في الجنوب باسم «مونيتو».
وكان المونيتو والهيروشايتو متشابهين في الهيئات والملابس والعيشة البدوية، وقد دلت صورهم الباقية على الآثار إلى اليوم أن هيئاتهم في تلك العصور الخالية تقرب جدا من هيئات بدو سيناء في هذه الأيام، وكانوا يمشون حفاة ويشدون أوساطهم بالأحزمة ويتردون بالأعبئة، وسلاحهم القوس والنبل والحربة والنبوت والسكين والفاس والترس، وكانوا يقتنون قطعانا من الأغنام، أما الجمل والحصان فلم يكونا معروفين عندهم، كما أنهما لم يكونا معروفين في مصر، وكان معظم طعامهم ألبان المواشي وأثمار النخيل، ويشتغل بعضهم بالزراعة فيسكنون جوار الينابيع والآبار، ويزرعون ما خصب من الأرض على قلته، وينشئون الحدائق من النخيل والتين والزيتون والكرم، ولم يكن يكفيهم محصول أرضهم فكانوا ينتابون أسواق شرق مصر وجنوب سوريا يبيعون فيها العسل والصوف والصمغ والمن والفحم من محصول صحرائهم، ويأتون منها بما أعوزهم من الحبوب والملابس على نحو ما يفعل بدو هذه الأيام (والتاريخ يعيد نفسه).
وفي أخبار المصريين القدماء أن أولئك الأقوام كان يغرهم خصب مصر، فكانوا كلما سنحت لهم فرصة غزوا أطرافها الشرقية فنهبوا وسلبوا وعادوا إلى صحرائهم، وذلك منذ بدء التاريخ حتى قيل إن الآلهة كانت تحتاط لنفسها من غزواتهم.
وكان يحول بينهم وبين مصر خليج السويس من الجنوب، وبحيرة الطينة من الشمال، فلم يكن لهم منفذ إلى مصر إلا ثغرة بين هذين التخمين تؤدي إلى الوادي المعروف الآن بوادي الطميلات، وكان المصريون يحصنون تلك الثغرة بصف من القلاع والأبراج كالتي نرى خرائبها إلى اليوم على ضفتي النيل، وقيل إنهم في زمن من الأزمان حصنوها بسور منيع امتد من رأس خليج السويس إلى الطينة.
وكان حراس الأبراج والقلاع يولون وجوههم جهة الصحراء، حتى إذا ما أحسوا بغزاة البدو أيقظوا الحامية وانقضوا عليهم كالنسور، فكان البدو يترقون غفلة من الحراس فيخترقون خط القلاع متوارين بحزون الأرض، فينزلون على بلدة أو أكثر يختطفون كل ما وصلت إليه أيديهم من نساء وأولاد ومتاع، وينقلبون راجعين إلى الصحراء.
وكان الفراعنة كلما كثر عيث البدو؛ وجهوا حاكم الشرقية أو ذهبوا هم أنفسهم بجيش صغير وانتقموا منهم، وأول من اشتهر بغزوهم من الفراعنة الملك سنفرو من ملوك الدولة الثالثة، وقد بنى وجدد القلاع والأبراج في الثغرة الشرقية زيادة في التحصن منهم، ولكن غزاهم قبله ملوك مصر منذ عهد الدولة الأولى كما سيجيء.
وكان البدو يمتنعون في معاقل الجبال ومنعطفات الأودية، فيبنون فيها أبراجا من الحجر الغشيم أسطوانية الشكل أو بيضية بأقراص مخروطية كقفير النحل، وهي المعروفة عند بدو هذه الأيام «بالنواويس» وكانوا يدافعون فيها بثبات وصبر على رجاء أن مهاجميهم يعوزهم الماء والزاد فيرتدون عنهم.
شكل 1: مثال من نواويس سكان سيناء الأصليين في وادي البيار.
وكانت منازل أولئك البدو أكواخا من الحجر الغشيم يجعلونها صفا في دائرة، فيسكنون فيها هم وعيالهم، ويجعلون مواشيهم في الوسط، ثم يحيطون دائرة الأكواخ بزرب متين من الحجر وأغصان الشجر «كدوارات» البدو في هذه الأيام.
وما زالت آثار أبراجهم ومنازلهم باقية في سيناء إلى اليوم كما قدمنا، ولكن تلك الأبراج والمنازل وإن كانت منيعة على البدو لم تكن لتثبت طويلا في وجه الغزاة المصريين المجهزين بجميع معدات الهجوم، وكثيرا ما كان المصريون يدكونها إلى الأساس، ويعيثون بأرض البدو فيقطعون أشجارهم المثمرة ويحرقون زرعهم ويعودون إلى مصر، فكانت الحملة الواحدة في أيام معدودة تصد البدو عن مصر عدة سنين (ا.ه. ملخصا بتصرف عن فجر العمران للأثري الشهير مسبرو).
وذكر العلامة هسكنز الأميركي في كتابه النفيس «من النيل إلى نبو»: «أن قد وجد حديثا في «سوسة» في خرائب مملكة بابل نصب تاريخي دلت ترجمته التي نشرت سنة 1907 أن سيناء كانت تسمى قديما أرض «مجان»، وأن «نرام سين» غزا مجان سنة 3750ق.م فقهر صاحبها «مانيوم»، وحمل إلى عاصمته «عقادي» قطعا من حجرها المعروف بحجر الحية
Green Diorite
فصنع منها تماثيل لنفسه ونقش على قاعدة أحدها خبر هذه الغزوة.»
قلت: ولعل مدين، الاسم الذي عرفت به سيناء عند مؤرخي العرب محرف عن اسم «مجان» المذكور في هذا الأثر البابلي.
الفصل الأول
في تاريخ سيناء في عهد الدول العشرين الأولى المصرية
من سنة 5291 إلى سنة 1156ق.م (1) تعدين الدول العشرين الأولى للفيروز والنحاس في بلاد الطور
اكتشف المونيتو سكان بلاد الطور الأصليين - منذ بدء التاريخ - طبقات معدنية في الشمال الغربي من بلادهم، استخرجوا منها الفيروز والنحاس والمنغنيس والحديد، وكانوا يأخذونها إلى الدلتا ويبيعونها للمصريين كما يفعل بدو هذه الأيام بالفيروز، وكان الفيروز من الجواهر المستحبة عند المصريين، فحرك ذلك أطماع ملوكهم؛ فأرسلوا الحملات إلى بلاد المونيتو ففتحوها عنوة واستثمروا معادنها ولا سيما الفيروز.
وقد عدنوا الفيروز أولا في وادي المغارة منذ عهد الدولة الأولى، ثم بعد ذلك بأجيال عدنوه أيضا في سرابيت الخادم، وعدنوا النحاس في وادي النصب الغربية، والمنغنيس والحديد في غيره كما سيجيء.
وقد أطلقوا على البلاد التي عدنوا فيها الفيروز اسم «مفكة»، فجعل بعض علماء التوراة هذا الاسم أصلا «لدفقة» المذكورة في طريق الإسرائيليين في سيناء، لا سيما وأن محل دفقة في الطريق ينطبق على وادي المغارة أحد معادن الفيروز.
على أن المونيتو لم يرضخوا لاغتصاب أملاكهم بالسهل، فكان المصريون يشترون سكوتهم بمال ينقدونهم إياه قبل التعدين، أو يعدون قوة من العساكر لدفع هجماتهم في أثناء التعدين.
وقد دون المصريون خبر غزواتهم وحملات التعدين على صخرات وأنصاب في جوار المعادن، فظهر مما دونوه على أنصاب سرابيت الخادم وغيرها أنهم كانوا كلما أرادوا التعدين أرسلوا العمال، ومعهم الجند، والكتاب، والبنائين، والنقاشين، والنحاتين، وآل الخبرة في التعدين، والأمناء؛ لحفظ ما يجمع من المعدن، والمفتشين والأطباء وغيرهم.
وكان أكثر العمال من أسرى الحرب وأرباب الجنايات، وعليهم المقدمون، وعلى كل عشرة مقدمين شيخ، وكان يساعدهم في التعدين «الآمو» وعليهم نظار، «والرتنو» وعليهم مشايخ، أما الآمو فيظن أنهم من سكان سوريا، وأما الرتنو فمن سكان سيناء وجنوب فلسطين، وكلاهما من الجنس السامي.
وقد جاء في أخبار حملة لأحد ملوك الدولة الخامسة أن قد رافقها ثلاثة تراجمة، فدل لك على أن الرتنو والآمو لم يكونوا يفهمون لغة المصريين، وأن رجال الطبقة العليا من المصريين لم يتكلموا اللغة السامية.
أما عدد رجال الحملات فكان يختلف باختلاف عدد أسرى الحرب والمجرمين في مصر، وقد ذكر على بعض الصخرات الهيروغليفية في وادي المغارة أن 734 رجلا أتوه ثلة واحدة للتعدين فيه.
وكانوا يستخدمون المراكب في البحر والحمير في البر لنقل المؤن والمياه، وقد ورد في خبر بعض الحملات ذكر 500 حمار عليهم 43 حمارا من الفلاحين.
وكان رجال الحملة يجتمعون أولا عند رأس خليج السويس، ومعهم ماؤهم وزادهم، فيسيرون بالمراكب في البحر وينزلون ميناء أبو زنيمة إذا كانت وجهتهم سرابيت الخادم، وميناء أبو رديس إذا كانت وجهتهم وادي المغارة، ويسير الحمارة بقرب الماء في البر حتى إذا ما وصلوا الميناء المقصود حملوا الزاد والماء على الحمير إلى المعدن.
وهناك كان يشتغل البعض بالبناء، والبعض بتدوين أخبار الحملة وذكر رجالها على الصخور والأنصاب ، ولكن أكثرهم كان يشتغل بالتعدين.
وكانوا إلى أيام الدولة الثانية عشرة يستخدمون للتعدين أزاميل من الصوان بنصب من خشب يقطعون بها الحجارة من جبل الفيروز ، ويفتتونها بحجارة كبيرة من الرخام الأسود
Basalt ، ثم استعملوا معها أزاميل النحاس ومطارق الحديد كالأزاميل والمطارق التي يستعملها بدو هذه الأيام.
وقد عثر العلامة بتري أستاذ فن الآثار المصرية في كلية لندن على بقايا أزاميل الصوان والمطارق الحجرية وبعض أزاميل النحاس في وادي المغارة وسرابيت الخادم.
وكانت حملات التعدين تذهب من مصر مرة كل سنة أو سنتين أو عدة سنين، وموعد قيامها من مصر فصل الشتاء في شهري نوفمبر وديسمبر فتبقى في سيناء إلى أن يشتد الحر في شهر مايو؛ فتنقلب راجعة بما استخرجته من المعدن إلى مصر بعد أن تترك لها أثرا في محل التعدين، وقد ترك المصريون بجانب المعادن - في وادي المغارة وسرابيت الخادم ووادي النصب الغربية وغيرها - من الآثار ما دل بأجلى بيان على أنهم غزوا الجزيرة وعدنوا الفيروز والنحاس والمنغنيس والحديد فيها من عهد الدولة الأولى إلى الدولة العشرين، وأهم تلك الآثار هي لملوك الدولة الأولى إلى الدولة السادسة، ثم للثانية عشرة، ثم للثامنة عشرة إلى العشرين، وبعد الدولة العشرين بطلت حملات التعدين إلى اليوم، ولعل السبب في ذلك أن غلة التعدين لم تعد تفي بنفقاته.
شكل 1-1: بدوي يشوه صخرة هيروغليفية في وادي المغارة.
ومن الغريب أن تلك الآثار ثبتت على الدهر آلافا من السنين حتى قام طلاب الفيروز في الجيل الحاضر، فأخذوا يعيثون فيها ويشوهون الصخرات الهيروغليفية نفسها طمعا باستخراج الفيروز منها.
وكان علماء القرن الغابر قد اكتشفوا تلك الآثار وعرفوا أهميتها، ولكن لم يهتم أحد بالمحافظة عليها حتى ذهب الأثري الشهير العلامة فلندرس بتري المار ذكره إلى سيناء لدرس آثارها، ورأى عيث طلاب الفيروز في آثار وادي المغارة، فرفع الأمر إلى حكومة مصر ونصح بوجوب نقل الآثار إلى مصر؛ ففعلت الحكومة بنصحه وعهدت إلى المستر كورلي من رجال نظارة الأشغال بهذه المهمة، فقام بها خير قيام ونقل كل ما أمكن نقله من تلك النفائس إلى المتحف المصري بالقاهرة، وكان محبو الآثار الذين زاروا تلك الجهات قد نقلوا بعض النفائس إلى المتحف البريطاني بلندن أو غيره من متاحف أوروبا، فلم يبق هناك من آثار الفراعنة إلا ما لا أهمية له أو ما لا خوف عليه من عيث البدو وطلاب الفيروز.
وقد نقب العلامة بتري في آثار المصريين في وادي المغارة وسرابيت الخادم ودرسها درسا فنيا وافيا، وفي سنة 1906 أصدر كتابه «مباحث في سيناء» زينه بكثير من الرسوم والخرط وضمنه وصف تلك الآثار وصفا دقيقا، واستخلص منها آراء جديدة في تاريخ مصر وسيناء والخروج فلخصت من كتابه هذا كلما يدخل بموضوعنا وتهم الجمهور معرفته. (2) آثار الفراعنة في وادي المغارة
إن أهم الآثار التي تركها الفراعنة في وادي المغارة هي: الصخرات الهيروغليفية، ومغاور الفيروز، ومساكن المعدنين، وسد في الوادي، وأهمها جميعا: (2-1) الصخرات الهيروغليفية
وقد كان منها فوق الثلاثين صخرة، فعبثت بها أيدي طلاب الفيروز فأتلفوا أكثرها أو شوهوها كما قدمنا، وبقي إلى يومنا هذا:
صخرة سمرخت (5291-5273ق.م) سابع ملوك الدولة الأولى:
عليها رسم هذا الملك في ثلاث هيئات: الأولى في هيئة ملك مصر العليا وعلى رأسه تاج مصر السفلى، والثانية في هيئة ملك مصر السفلى، والثالثة في هيئة ملك مصر العليا غير متوج، وقد قبض بيسراه ناصية بدوي جاث أمامه وبيمناه نبوتا قد رفعه ليضرب به البدوي، إشارة إلى إخضاعه سيناء قوة واقتدارا، وعلى طرف الصخرة قائد جيشه واقفا وهو غير ظاهر في الشكل المنقول هنا، وهذه الصخرة هي أقدم أثر للفراعنة في سيناء، وقيل هي أقدم أثر من نوعه في العالم كله، وقد تركت في الجبل؛ لأنها في مكان حصين يعلو 400 قدم عن سطح الوادي وبعيد عن طريق المارة.
شكل 1-2: صخرة سمرخت سابع ملوك الدولة الأولى، أقدم أثر في سيناء.
وصخرتا سانخت (4945-4917ق.م) مؤسس الدولة الثالثة:
إحداهما فوق مغارة للفيروز مشوهة قليلا وعليها صورة هذا الملك. تدل سيماؤها على أصل إثيوبي، فتبين من ذلك أن الدولة الثالثة المصرية قد اختلطت بدم إثيوبي، وقد نقلت هذه الصخرة إلى المتحف المصري بالقاهرة، والصخرة الثانية مشوهة كثيرا ولم يبق منها إلا قطعة صغيرة نقلت إلى المتحف البريطاني بلندن.
وصخرة زسر (4917-4888ق.م) من ملوك الدولة الثالثة:
وعليها رسم هذا الملك في هيئة غاز يضرب بدويا.
وصخرتا سنفرو (4787-4757ق.م) من ملوك الدولة الثالثة:
على إحداهما صورته وقد قبض بيسراه ناصية بدوي جاث أمامه، وبيمناه هراوة لضربه، وحول الصورة كتابة بالهيروغليفية مفادها: «سنفرو الإله العظيم فاتح البلدان وواهب القوة والثبات والصحة والحياة وراحة البال إلى الأبد»، وعلى الأخرى صورته في ثلاث هيئات لابسا تاج مصر السفلى وتاج مصر العليا، وقد قبض بيمناه على عصا لضرب بدوي، وكلتا الصخرتين الآن في المتحف المصري تحت رقمي 111 و112، ويظن أن الملك سنفرو هو أول من عدن الفيروز في سرابيت الخادم، وقد كان تعدين الفيروز قبله محصورا في وادي المغارة.
وصخرة ساحورة (4426-4413ق.م) من ملوك الدولة الخامسة:
وهي صخرة كبيرة مشوهة، قد ذهب منها ثلثها وأتي ببقيتها إلى المتحف المصري، فوضعت تحت رقم 113.
وصخرة زوسر من ملوك الدولة الخامسة:
مساحتها مائة قيراط وقيراطان في ثلاثة وستين قيراطا، وهي أكبر الصخرات التي وجدت في وادي المغارة، ولكنها ليست أتقنها صنعا، وعليها رسم هذا الملك وخبر تغلبه على بدو سيناء، وقد نقلت إلى المتحف المصري بالقاهرة وجعلت تحت رقم 87.
وصخرة منكوهر (4292-4283ق.م) من ملوك الدولة الخامسة:
وهي صخرة صغيرة عليها اسمه وليس عليها رسمه، وقد نقلت إلى المتحف المصري بالقاهرة.
وصخرة أمنمحت الثالث (3303-3259ق.م) من ملوك الدولة الثانية عشرة:
وهي صخرة كبيرة عليها كتابة هيروغليفية تدل على تعدين ذلك الملك للفيروز في وادي المغارة، وقد وجد بتري قطعا من صخرات كسرها المعدنون المحدثون:
للملك خوفو (4702-4639ق.م):
من ملوك الدولة الرابعة.
وللملك أسا (4283-4239ق.م):
من ملوك الدولة الخامسة.
وللملك ببي الأول (4167-4114ق.م):
من ملوك الأسرة السادسة، ولغيرهم. (2-2) مغاور الفيروز
أما مغاور الفيروز التي تركها الفراعنة في وادي المغارة فكلها في طبقة من الجبل تعلو نحو 170 قدما عن سطح الوادي و1170 قدما عن سطح البحر، وأهمها مغارة سانخت المار ذكره طولها 20 قدما وعلوها 5 أقدام، ولا يزال البدو يعدنون الفيروز فيها وفي غيرها من مغاور القدماء ويوسعونها إلى اليوم. (2-3) مساكن المعدنين القدماء
هذا وكان المعدنون القدماء في وادي المغارة يسكنون أكواخا من الحجر قرب مغاور الفيروز، وترى إلى الآن على أكمة منفردة تجاه المغاور أنقاض منازل تسع نحو 200 رجل، وكلها مبنية من الحجر الغشيم بلا طين، بعضها مستدير الشكل وبعضها مربع مستطيل، ولها أبواب ضيقة جدا حتى لا يدخلها السمين من الرجال إلا بالجهد. (2-4) السد
والظاهر أن مياه عين وادي إقنة في جوار المعدن وعين وادي لبن على نحو ساعتين شرقيه لم تكن تكفيهم؛ فأقاموا سدا منيعا من الحجارة في سيل وادي المغارة، وصل الأكمة التي كانوا يسكنونها بالأكمة التي كانوا يعدنون فيها، فنشأ من ذلك بحيرة عظيمة من مياه الأمطار كانوا يصيدون فيها السمك، ولا يزال أثر هذا السد ظاهرا هناك إلى اليوم. (3) هيكل سرابيت الخادم وآثار الفراعنة فيه
أما سرابيت الخادم فجبل صغير مستطيل الشكل مسطح الرأس في شمال بلاد الطور، يعلو نحو 2650 قدما عن سطح البحر، ويبعد نحو يومين بسير القوافل عن ميناء أبو زنيمة، وهو يطل من الشمال على سهل الرملة الفسيح ونقب الراكنة العظيم.
في ذلك الجبل عدن الفراعنة الفيروز منذ عهد الدولة الثالثة إلى الدولة العشرين، وتركوا فيه عدة مغاور كلها في الطبقة العليا من الجبل، وهي تعلو نحو 1150 قدما عن طبقة الفيروز في وادي المغارة، ولكن أهم ما تركه الفراعنة في ذلك الجبل: (3-1) هيكل سرابيت الخادم
فقد دلت مباحث العلامة بتري أن هذا الهيكل هو من الأهمية التاريخية بمكان عظيم؛ لا لأنه حوى من الآثار الهيروغليفية ما أزال كثيرا من الشكوك في تاريخ مصر فقط، بل لأنه زاد على تاريخ مصر بل على تاريخ العالم صفحتين جديدتين:
الأولى:
أن المصريين مارسوا في هذا الهيكل الطقوس السامية لا المصرية، وأن هذا الهيكل هو أقدم هيكل معروف استخدمت فيه هذه الطقوس.
الثانية :
أن العمال الساميين الذين ساعدوا المصريين في التعدين في سرابيت الخادم كان لهم كتابة خاصة لا تزال مجهولة عند علماء الآثار إلى اليوم.
شكل 1-3: مثال هيكل سرابيت الخادم. (3-2) كهف الإلهة هاتور
شكل 1-4: الإلهة هاتور.
وكان هذا الهيكل في أول نشأته كهفا صغيرا منحوتا في سفح أكمة صغيرة على سطح الجبل، وله باب صغير إلى الغرب، وقد أقيم لعبادة هاتور إلهة الشمس أو النور الملقبة بسيدة الفيروز، وهي معبودة سكان البلاد الأصليين، ولعلها عشتروت معبودة الفينيقيين المشهورة، فلما جاء المصريون لتعدين الفيروز في سرابيت الخادم عبدوا هذه الإلهة بالطقوس التي كان يعبدها بها أهلها على عادة تلك الأعصار من عبادة الأجنبي آلهة البلاد التي ينزلها وممارسته طقوس أهلها.
وأما قدم هذا الكهف فيرجع إلى عهد الملك سنفرو (4750ق.م) المار ذكره، وقد وجد فيه شعاره وهو تمثال صقر، فكان هذا التمثال أقدم أثر للمصريين في ذلك الهيكل. (3-3) كهف الإله سوبدو
ثم بعد أن عبد المصريون هذه الإلهة وحدها زهاء ثلاثة آلاف سنة أقاموا معها عبادة سوبدو إله الشرق، وهو من أشهر آلهتهم، فنحتوا له كهفا في أصل الصخر بجانب كهف الإلهة هاتور، ومارسوا في عبادته أيضا الطقوس السامية، وهذا الكهف هو في الأرجح من آثار الملكة هتشبسوت سنة 1503-1481ق.م من ملوك الدولة الثامنة عشرة.
شكل 1-5: الإله سوبدو والملك أمنمحت الثالث في معبد الملوك. (3-4) غرف الهيكل
وظاهر من بناء الهيكل ومما عليه من الآثار الهيروغليفية أنه امتد تدريجا من هذين الكهفين نحو الغرب في صف واحد من الغرف والأروقة حتى أصبح طوله 230 قدما وعرضه من 15 إلى 45 قدما، وله سور من الحجارة غير المنحوتة طوله 80 مترا وعرضه 35 مترا، وثخن حائطه 26 سنتيمترا.
وأقدم غرف الهيكل وأقربها إلى كهف هاتور هي للملك أوسرتسن الأول سنة 3439-3395ق.م من ملوك الدولة الثانية عشرة، ثم أخذ بعده ملوك هذه الدولة ثم ملوك الدولة الثامنة عشرة إلى العشرين يبنون الغرف والأروقة تباعا إلى أن بلغ الحد المذكور. (3-5) الأنصاب
وكان كلما بنى ملك غرفة في الهيكل جعل أمامها نصبين يدلان على مدخل الهيكل، وكان الخلف يبقي على النصبين فيبني غرفة متصلة بهما، ويجعل أمام الغرفة نصبين آخرين على مدخل الهيكل الجديد وهكذا.
ويدل على الهيكل من بعيد نصب لساتي الأول سنة 1326-1300ق.م من ملوك الدولة التاسعة العاشرة، قائم فوق كهف هاتور، ونصب آخر جنوبيه.
وفي الهيكل داخل السور تسعة أنصاب، وخارج السور في طريق الهيكل من الغرب 12 نصبا، يحيط بكل نصب دائرة من الحجارة غير المنحوتة، قطرها من 10 أقدام إلى 15 قدما، وعلو الأنصاب من 5 أقدام إلى 12 قدما قد نقش على جانبيها أو على جانب واحد منها بالهيروغليفية أخبار الحملات التي أرسلها الفراعنة لتعدين الفيروز في تلك الجهة، وقد استخرج العلامة بتري من تلك الأنصاب خبر 15 حملة، وفيها أسماء القواد ورؤساء العمال مذكورة بالترتيب حسب رتبهم، وأسماء الملوك الذين أمروا بالحملات، ونظام سير الحملات، وعدد رجالها، ونحو ذلك.
شكل 1-6: نصب أمنمحت الثالث.
وأقدم الأنصاب في الهيكل نصب لأوسرتسن الأول (3400ق.م) المار ذكره، وبين الأنصاب التي خارج السور نصب موظف من رجال الدولة الثانية عشرة يقول فيه: «أنه جمع من الفيروز أكثر من كل من عدنه قبله من عهد الملك سنفرو.»
ومن الأنصاب التي في الهيكل نصب لأمنمحت الثالث سنة 3303-3259ق.م من ملوك الدولة الثانية عشرة أقيم فوق مذبح من الحجر «شكل
1-7 »، وقراءته: «قربان ملكي يقدم إلى هاتور سيدة الفيروز من أكل «كا» رئيس حجاب سبكهرهب «أمنمحت الثالث» ومن أجل «كا» حامل الختم وكيل مراقب حملة الأختام «كمناع» المولود من «كاهوتب».» ا.ه.
وأحدث الأنصاب نصبان في مدخله الحالي: الأول للملك رعمسيس الثاني سنة 1300-1234ق.م، والثاني للملك ستنخت سنة 1203-1202ق.م، وكلاهما من ملوك الدولة التاسعة عشرة.
وأحدث أثر في الهيكل كتابة على عمودي إحدى الغرف للملك رعمسيس السادس سنة 1161-1156ق.م من ملوك الدولة العشرين.
وجميع ما في الهيكل من بناء وأنصاب مأخوذة حجارته من مقلع رملي قرب الهيكل.
قلت: وقد سمي هذا الجبل سرابيت الخادم نسبة إلى هذه الأنصاب؛ لأن «السربوت» في عرف أهل سيناء الصخرة الكبيرة القائمة بنفسها، وجمعه سرابيت، والخادم عندهم الجارية السوداء، فلعلهم نسبوا هذه السرابيت إلى الخادم؛ لأن الصور التي في الهيكل تشبه الخدم السود، والله أعلم. (3-6) معبد الملوك
هذا وإلى شمالي الهيكل من داخل السور أنقاض «معبد الملوك»، وهو بناء فخم من آثار الملكة هتشبسوت المار ذكرها، ومما على جدرانه من الرسوم: الملكة هتشبسوت تقدم القرابين للإلهة هاتور والإله سوبدو والإكرام للملك سنفرو. (3-7) تلة الرماد
وإلى جنوب الهيكل خارج السور تلة مرتفعة عليها أكداس من الرماد، وفي غرف الهيكل أيضا رماد، وقد قدر العلامة بتري ما بقي للآن على التلة وفي الهيكل من الرماد بخمسين طنا. (3-8) الطقوس السامية
فهذا الرماد والأنصاب وأشياء أخرى في الهيكل، بل كيفية بناء غرف الهيكل هي التي دلت العلامة بتري على أن المصريين لم يستخدموا في عبادتهم الطقوس المصرية، بل استخدموا الطقوس السامية كما قدمنا.
أما غرف الهيكل فقد كان المعدنون ينامون فيها على رجاء أن ربة الهيكل وسيدة الفيروز تهديهم في الحلم إلى المحل الذي يكثر فيه الفيروز، وقد كانت عادة الساميين أنه إذا طلب أحدهم الاستشفاء من مرض أو أحب الاهتداء إلى سبيل ينقذه من شر أو يوصله إلى خير؛ ذهب إلى الهيكل ونام فيه أو في جواره؛ ليرى في الحلم وحيا يوصله إلى الغرض، ولا تزال هذه العادة متبعة عند نصارى الشرق إلى اليوم.
ثم إن الأنصاب ومن حولها دوائر الحجر داخل سور الهيكل وخارجه تشبه المراقد التي كان اليهود يسمونها قديما «بيت إيل» أي مقام الإله، جاء في سفر التكوين ص28 عدد 16 ... إلخ عند خروج يعقوب من بئر سبع فرارا من أخيه عيسو:
فاستيقظ يعقوب من نومه، وقال: حقا إن الرب في هذا المكان ... وأخذ الحجر الذي وضعه تحت رأسه وأقامه عمودا وصب زيتا على رأسه ودعا اسم المكان بيت إيل.
والظاهر أن المعدنين في سرابيت الخادم كانوا أولا يقيمون أنصابا من الحجارة قرب كهف سيدة الفيروز، ويحيطونها بدوائر من الحجارة ينامون فيها، ثم تدرجوا إلى بناء الغرف أمام الكهف ، ولعل الغرف كانت لرءوس الحملة وكبار العمال، ودوائر الحجارة حول الأنصاب أو الزرائب لسائر العمال.
ومما وجده العلامة بتري ودل على استعمال المصريين الطقوس السامية في الهيكل: «أربعة أحواض» للوضو أمام كهف سوبدو، كان لا بد للمتعبد أن يمر بها قبل دخوله الكهف، وقد كان الوضو عادة دينية عند اليهود كما نرى في سفر الخروج ص40 عد30 و31: «ووضع المرحضة بين خيمة الاجتماع والمذبح، وجعل فيها ماء للاغتسال؛ ليغسل منها موسى وهارون وبنوه أيديهم وأرجلهم.»
ومما وجده بتري في الهيكل: «عدة مذابح» صغيرة من حجر لحرق البخور، وجدها في الكهف نفسه، وحرق البخور في الهياكل عادة دينية مشهورة عند اليهود.
ثم إن الرماد الذي على التلة المار ذكرها دل على أن المتعبدين في هذا الهيكل كانوا يذبحون ويوقدون على تلك التلة، وهذه العادة - أي عادة حرق الذبائح على المرتفعات - عادة قديمة عند الساميين اقتبسها اليهود عنهم: جاء في سفر الملوك الأول ص3 عد3: «وأحب سليمان الرب سائرا في فرائض داود أبيه، إلا أنه كان يذبح ويوقد في المرتفعات، وذهب الملك إلى جبعون ليذبح هناك؛ لأنها هي المرتفعة العظمى، وأصعد سليمان ألف محرقة على ذلك المذبح»، وجاء في سفر الملوك الثاني ص12 عد3: «إلا أن المرتفعات لم تنتزع، بل كان الشعب لا يزالون يذبحون ويوقدون على المرتفعات» وفي السفر نفسه ص16 عد4 في الكلام عن آحاز ملك يهوذا 741ق.م: «وذبح وأوقد على المرتفعات وعلى التلال ...»
وفي السفر نفسه ص17 عدد 9: «وعمل بنو إسرائيل سرا ضد الرب إلههم أمورا ليست بمستقيمة، وبنوا لأنفسهم مرتفعات في جميع مدنهم من برج النواطير إلى المدينة المحصنة، وأقاموا لأنفسهم أنصابا وسواري على كل تل عال، وتحت كل شجرة خضراء.» قلت: وأما إقامة الأنصاب تحت كل شجرة خضراء، فلا نزال نرى آثارها إلى اليوم في برية سيناء كما قدمنا.
وبقيت هذه العادة بين اليهود حتى أبطلها حزقيا ملك يهوذا (726ق.م): جاء في سفر الملوك الثاني ص18 عد4: «هو أزال المرتفعات، وكسر التماثيل، وقطع السواري، وسحق حية النحاس التي عملها موسى؛ لأن بني إسرائيل كانوا إلى تلك الأيام يوقدون لها.»
وفي السفر نفسه ص23 عد13-15: «والمرتفعات التي قبالة أورشليم التي عن يمين جبال الهلاك التي بناها سليمان ملك إسرائيل لعشتورت رجاسة الصيدونيين ولكموش رجاسة الموابيين ولملكوم كراهة بني عمون نجسها الملك، وكسر التماثيل، وقطع السواري، وملأ مكانها من عظام الناس، وكذلك المذبح الذي في بيت إيل في المرتفعة التي عملها يربعام بن نباط الذي جعل إسرائيل يخطئ، فذانك المذبح والمرتفعة هدمهما وأحرق المرتفعة وسحقها حتى صارت غبارا وأحرق السارية.»
هذا وقد وجد العلامة بتري بين أنقاض الهيكل كثيرا من الدمى والتماثيل والآنية الزجاجية والتمائم والأسورة والحجول والكئوس والآنية الفخارية عليها أسماء بعض الفراعنة وقضبان العاج ونحوها مما كان يقدمه المتعبدون هدايا لسيدة الفيروز، وقد وجد في كهف سوبدو حجرين من الحجار الرملية المخروطية الشكل التي اعتاد الساميون تقديمها لآلهتهم. فأخذ أحدهما إلى المتحف البريطاني بلندن. (3-9) لغة مجهولة
شكل 1-7: تمثال غريب عليه كتابة مجهولة.
شكل 1-8: تمثال غريب غير مصري.
ومن أهم ما وجده العلامة بتري في أنقاض هذا الهيكل تماثيل غير مصرية هي أقل إتقانا من التماثيل المصرية، وعليها كتابة مجهولة غير هيروغليفية، وكذلك وجد هذه الكتابة على أنصاب الهيكل المار ذكرها، كأن العمال غير المصريين كانوا بعد ذهاب المصريين من المعبد يضعون أسماءهم وبعض أخبارهم على حواشي تلك الأنصاب الخالية من الكتابة، وقد رجح بتري أن هذه الكتابة المجهولة هي لغة سامية، واستدل من ذلك أن اليهود عند خروجهم من مصر كان لهم كتابة خاصة بهم.
هذا ما لخصته عن كتاب مباحث في سيناء بتصرف كثير، وقد زرت هيكل سرابيت سنة 1910 بعد أن نقب فيه بتري وأعوانه؛ فلم أجد فيه أثرا يستحق الذكر سوى الكهفين وتلة الرماد وبعض الأنصاب والأعمدة. (3-10) خيمة الاجتماع وهيكل سرابيت
على أن رؤية هذا الهيكل - بعد الوصف الذي أتى به العلامة بتري - ذكرتني بخيمة الاجتماع أو خيمة الشهادة التي صنعها موسى في جبل سيناء سنة 1492ق.م عند خروجه بالإسرائيليين من أرض مصر كما سيجيء، فإنه وجه الشبه بينهما قريب جدا حتى إنه من المحتمل أن يكون موسى قد اتخذ هيكل سرابيت الخادم قاعدة لبناء خيمته.
أما خيمة الاجتماع فكانت هيكلا نقالا من خشب السنط وعمد النحاس ونسيج الشعر وغيره من الأنسجة الثمينة، طولها 30 ذراعا عبرانية «والذراع العبرانية
الذراع السلطانية» وعرضها 10 أذرع وعلوها 10 أذرع، ولها باب واحد في أحد جنبيها من العرض يفتح إلى الشرق، وكانت مقسومة قسمين غير متساويين: «قدس الأقداس» وهو الأصغر، «والقدس» وهو الأكبر، بينهما حجاب من نسيج.
وللخيمة دار يحيط بها سور مربع مستطيل من العمد والسجف طوله 100 ذراع عبرانية وعرضه 50 ذراعا، وله باب يفتح إلى الشرق تجاه باب الخيمة، وكانت الخيمة داخل السور أقرب إلى جانبه الغربي منها إلى جانبه الشرقي الذي فيه الباب.
شكل 1-9: مثال خيمة الاجتماع.
أما القدس فما كان يحل لأحد أن يدخل إليه إلا الكهنة، وفيه مذبح البخور والمائدة والمنارة، وأما قدس الأقداس فما كان يجوز أن يدخل إليه إلا عظيم الكهنة مرة في السنة، وفيه تابوت الشهادة أو تابوت العهد، وهو صندوق من خشب السنط مصفح بالذهب من الداخل والخارج، طوله ذراعان ونصف وعرضه ذراع ونصف وارتفاعه كذلك، وقد وضع فيه لوحا العهد، وأما الدار فقد كان فيها بين بابها وباب الخيمة: المرحضة للاغتسال قبل الدخول إلى الخيمة، ومذبح المحرقة، وكان جميع العبرانيين (الإسرائيليين) يقدمون قرابينهم ونذورهم وصلواتهم في هذه الدار.
فوجه الشبه بين خيمة الاجتماع وهيكل سرابيت الخادم ظاهر للعيان، فإن قدس الأقداس في خيمة الاجتماع يقابله الكهوف في هيكل سرابيت، والقدس يقابله الهيكل، ودار الخيمة يقابلها دار الهيكل، ثم إن في الخيمة مذبح البخور والمرحضة ومذبح المحرقة كما في هيكل سرابيت.
ومعلوم أن موسى على رواية التوراة عاش في أرض مدين 40 سنة، وسيناء هي جزء من أرض مدين، وهيكل سرابيت الخادم كان في ذلك العهد الهيكل الوحيد في قلب الجزيرة كدير طور سيناء في هذا العهد؛ فلا يعقل أن موسى، وهو ربيب بيت فرعون، يعيش في سيناء أو جوارها أربعين سنة ولا يزور هيكلها الوحيد، بل من المحتمل المعقول أن يكون قد زاره مرارا وعرفه كما هو، وأنه لما جاء ليصنع معبدا لشعبه جعل هيكل سرابيت الخادم قاعدة للعمل، وهذا لا ينفي قول الكتاب: إن موسى صنع الخيمة كما أمره الرب؛ لأن الغرض الأساسي من بناء الخيمة هو منع الإسرائيليين من عبادة الأوثان، وتعليمهم عبادة الإله غير المنظور، وقد تم هذا الغرض بخلو الخيمة من كل صنم أو تمثال، كما خلت الشريعة من كل ما يدعو إلى الوثنية أو يقرب منها.
واختار موسى لشعبه بعض الطقوس التي كانت مستعملة في هيكل سرابيت الخادم؛ لأنها طقوس سامية وشعبه يألفها، وليس فيها ما يضر بعبادة الخالق، وقد جعل باب خيمته إلى الشرق لا إلى الغرب كما هو باب هيكل سرابيت؛ لأن الشرق كان وجهته أو لأن ذلك كان عادة البدو في تلك الأيام كما هو عادتهم في هذه الأيام.
ومعلوم أن هيكل سليمان الذي بني بعد خيمة الاجتماع بنحو أربع مائة وثمانين سنة قد بني على مثال هذه الخيمة، فإذا صح أن موسى صنع خيمته على مثال هيكل سرابيت؛ فيكون لهيكل سليمان أصل في هيكل سرابيت، والله أعلم. (4) آثار الفراعنة في وادي النصب الغربية
عدن الفراعنة النحاس في وادي النصب كما عدنوا الفيروز في وادي المغارة وسرابيت الخادم، ولا يزال إلى الآن في ذلك الوادي مسابك لسبك النحاس وأكداس عظيمة من الرزالة المتخلفة من إذابة النحاس، وفي تلة فوق الوادي صخرة بالهيروغليفية قد تهرأ ما عليها من الكتابة مع الزمان، لكن ما بقي منها يدل على أن تاريخها في السنة العشرين من ملك أمنمحت الثالث من ملوك الدولة الثانية عشرة المار ذكره.
هذا وقد استخرج المصريون القدماء «أكسيد النحاس والمنغنيس» في وادي النصب وغيرها من أودية سيناء، فاستخدموهما في عمل المين الزرق الجميلة التي كانوا يجلونها كثيرا، وكان المعدنون يأتون معهم من سيناء بصخور من «الغرانيت أو حجر الحية» لعمل التوابيت والتماثيل.
الفصل الثاني
في تاريخ سيناء مدة تغرب بني إسرائيل فيها
مع ذكر تاريخ بني إسرائيل منذ نشأتهم إلى دخولهم أرض الميعاد (من سنة 1921 إلى 1450ق.م)
إن أهم أنباء هذه البلاد قديما تغرب بني إسرائيل فيها مدة أربعين سنة على ما نراه مفصلا في أسفار موسى الخمسة، وخلاصته:
أنه بعد الطوفان ببرهة من الزمان عزم نسل نوح على بناء برج بابل، فبلبل الله ألسنتهم حتى لم يعد أحدهم يفهم لغة الآخر، فتبددوا في الأرض وعبدوا الأوثان، فشاء الله أن يختار له شعبا يحفظ به الدين الحقيقي، فدعا إبراهيم من أور الكلدنيين (أم قير)، وأمره بترك بلاده والذهاب إلى أرض كنعان (فلسطين) ونشر الدين الحقيقي فيها، ووعده بتكثير نسله ومجيء المسيح من ذريته.
وكانت دعوة إبراهيم في نحو سنة 1921ق.م؛ فسار إلى أرض كنعان ومعه امرأته ولوط ابن أخيه وحاشيته وخدمه ومواشيه (مارا بدمشق الشام في الأرجح)، حتى أتى شكيم المعروفة الآن بنابلس، وهي من أهم مدن أرض كنعان، وهناك تجلى له الرب وجدد وعده له بأن تكون هذه الأرض لنسله.
وفي نحو سنة 1920ق.م حصل قحط في أرض كنعان، فشخص إبراهيم إلى مصر وأقام فيها نحو سنة، ثم عاد إلى أرض كنعان، فسكن جهة حبرون المعروفة الآن بالخليل، وهناك ظهر له الرب في الرؤيا، ووعده بأن يعطي نسله الأرض بعد أن يستعبدوا في أرض غريبة 400 سنة، وأن الأرض التي يعطيهم إياها تمتد من نيل مصر إلى نهر الفرات (تك ص15)، وعاش إبراهيم بالعز والمنعة إلى أن مات سنة 1820ق.م وهو ابن 175 سنة، ودفن في حبرون في مغارة مكفيلة، وقبره ظاهر إلى اليوم.
وكان لإبراهيم زوجة تدعى سارة توفيت قبله، وجارية تدعى هاجر، فولدت الجارية ولدا سمته إسماعيل، وكان أبا للعرب، وأما سارة فلم تلد ولدا حتى بلغ عمر إبراهيم المائة سنة، فولدت إسحاق، وإسحاق ولد يعقوب الملقب إسرائيل، وخلف يعقوب اثني عشر ولدا صاروا رؤساء أسباط بني إسرائيل الاثني عشر، وكان يوسف أحد أولاد يعقوب أنجب إخوته وأحبهم لدى أبيه، فحسده إخوته وأبغضوه وباعوه للإسماعيليين سنة 1728ق .م، فأنزله هؤلاء إلى مصر وباعوه عبدا، فدخل في خدمة فرعون ملك مصر، ولم يمكث إلا القليل حتى بدا من نجابته وسمو مداركه وحسن تدبيره ما رفعه في عين فرعون؛ فرقاه إلى منصب الوزارة.
وحدث في تلك الأثناء جوع في أرض كنعان، فجاء يعقوب وأولاده إلى مصر فرارا من الجوع، فعرف بهم يوسف وعرفهم بنفسه، وأنزلهم على الرحب والسعة، وأسكنهم أرض جاسان (في أطراف المديرية الشرقية)، وكان عدد ذكورهم سبعين ، فأقاموا بمصر على معيشتهم البدوية وعبادة الإله الحق، فنموا وتكاثروا وعاشوا أجيالا وليس ما يكدر صفاءهم حتى مات يعقوب ويوسف، «وقام على مصر ملك لا يعرف يوسف»، فظلم الإسرائيليين وأذلهم، وأمر بإلقاء كل مولود ذكر لهم في النيل قصد إبادتهم.
وفي هذه الأثناء ولد موسى (سنة 1571ق.م) فخبأته أمه ثلاثة أشهر، ولما لم يعد يمكنها إخفاؤه عن أعين الرقباء صنعت له سفطا من البردي جعلته فيه، ووضعته على شاطئ النيل في طريق ابنة فرعون، فلما رأته ابنة فرعون رقت له وأخذته إلى منزلها، وأحضرت له أمه لترضعه؛ فنشأ ربيبا لها مصري التربية إسرائيلي العواطف، فرأى ذات يوم مصريا يضرب إسرائيليا فهاج الدم في رأسه، فضرب المصري فأصابت الضربة مقتلا؛ ففر إلى أرض مدين، وكان له من العمر أربعون سنة، وهناك تزوج بنت يثرون كاهن مدين، وأقام مع حميه أربعين سنة، وفيما هو يرعى غنم حميه عند جبل سيناء ظهر له الرب في عليقة مشتعلة، وأمره بالذهاب إلى مصر لإنقاذ بني إسرائيل من الذل، وقد حضر له أخوه هارون إلى جبل حوريب بأمر الرب، فسارا معا وطلبا من فرعون ملك مصر الإذن في إخراج بني إسرائيل من أرضه فأبى، فضرب الله مصر عشر ضربات حتى أذن فرعون للإسرائيليين في الخروج من بلاده، فخرجوا في سنة 1491ق.م وساروا من مدينة رعمسيس إلى سكوت فإيثام ففم الحيروث على بحر سوف (البحر الأحمر)، ثم ندم فرعون على إطلاقهم فسار بخيله ورجله ومركباته وراءهم «فأجرى الرب البحر بريح شرقية شديدة كل الليل، وجعل البحر يابسة، وانشق الماء فدخل بنو إسرائيل في وسط البحر على اليابسة والماء سور لهم عن يمينهم وعن يسارهم، وتبعهم المصريون، فرجع الماء وغطى مركبات وفرسان جميع جيش فرعون ... ولم يبق منهم ولا واحد» (خر 14: 21).
وأنشد بنو إسرائيل لنجاتهم بهذه الأعجوبة أنشودة بتسبيح الله (خر ص15) تعد من أبدع آثار الشعر العبراني القديم، وساروا في برية شور ثلاثة أيام حتى وصلوا ماء يدعى «مارة» وكان الماء مرا، فتذمر الإسرائيليون على موسى، فأراه الرب شجرة فطرحها بالماء فصار عذبا، ثم جاءوا إلى «إيليم» فوجدوا فيها 12 عينا و70 نخلة، ثم إلى برية «سين» بين إيليم وسيناء، حيث أنزل الله عليهم المن والسلوى طعاما، أما المن فقد كان طعامهم إلى أن دخلوا أرض الموعد، وأما طائر السلوى فقد أنزل عليهم أيضا في حضيروت، ثم ارتحلوا إلى «دفقه»، فألوش، فرفيديم.
وكان يسكن تلك البرية العمالقة فوقفوا في طريق الإسرائيليين ومنعوهم الماء، فعطشوا وتذمروا على موسى، فضرب الصخرة بأمر الرب فانفجرت منها المياه وشربوا.
وأمر موسى كبير قواده يشوع بن نون، فانتقى الأشداء من قومه وحارب العمالقة، وصعد موسى إلى تلة تشرف على محل الواقعة ويداه مرتفعتان إلى السماء يدعو بنصر قومه على الأعداء؛ فنصرهم الله وامتلكوا الماء.
وفي الشهر الثالث من خروجهم من مصر ارتحلوا من رفيديم، وجاءوا برية سيناء مقابل الجبل، وهناك أنزل الله على موسى الوصايا العشر المدرجة في سفر الخروج ص20، القاضية بوحدة الله والجامعة لأسس الآداب، ثم أنزل عليه الشرائع السياسية ثم الطقسية التي لا تزال أساسا لأحكام الإسرائيليين إلى هذا العهد.
وفي اليوم الأول من الشهر الأول من السنة الثانية لخروج بني إسرائيل من مصر، أي سنة 1490، أقام موسى بأمر الرب خيمة الشهادة أو خيمة الاجتماع المار ذكرها.
وبعد أن أقام موسى في ذلك الجبل سنة إلا بضعة أيام خرج بقومه قاصدا أرض الموعد، فساروا بطريق حضيروت، فعصيون جابر ... فبرية صين وهي قادش.
ومن هناك أرسل موسى رجلا من كل سبط من أسباط إسرائيل الاثني عشر، وفيهم يشوع بن نون من سبط إفرايم، وكالب بن يفنة من سبط يهوذا، فذهبوا وتجسسوا الأرض إلى «مدخل حماة» وعادوا إلى قومهم في قادش وقالوا: «حقا إن الأرض تفيض لبنا وعسلا، غير أن الشعب الساكن في الأرض معتز، والمدن حصينة عظيمة، يسكنها العمالقة في الجنوب، والحثيون واليبوسيون والأموريون في الجبل، والكنعانيون على البحر وجانب الأردن، وليس لنا طاقة على حربهم»، أما يشوع بن نون وكالب بن يفنة فإنهما قالا: لا، بل في طاقتنا حربهم، فمال الشعب لقول الأكثرية وجبنوا عن التقدم، وكان الرب قد أمرهم بالتقدم فغضب عليهم وقضى بتيههم في البرية إلى تمام الأربعين سنة من خروجهم من مصر حتى يموت كل ذلك الجيل ما عدا كالب ويشوع.
وفي نهاية الأربعين سنة أرسل موسى رسلا من قادش إلى ملك أدوم يستأذنه في المرور بأرضه قائلا «إذا شربنا أنا ومواشي من مائك أدفع ثمنه ... أمر برجلي فقط. فقال: لا تمر»، ونهى الرب بني إسرائيل عن حربه فتحولوا عنه، وارتحلوا من قادش إلى جبل هور في طرف أرض أدوم، وهناك مات هارون ودفن سنة 1452ق.م.
ثم ارتحلوا من جبل هور في طريق بحر سوف، فساروا بوادي العربة إلى أيلة وعصيون جابر، وساروا في شرق بلاد أدوم حتى وصلوا أرض مواب، وقطعوا نهر أرنون إلى بلاد الأموريين، فسألوا ملكهم سيحون المرور بأرضه فأبى وخرج لمحاربتهم فهزموا جيشه وقتلوه واستولوا على أرضه، ثم تقدموا شمالا إلى أرض باشان وتمتد إلى جبال حرمون، وكان يسكنها بنو عمون وعليهم ملك يدعى عوج فضربوه وأخذوا أرضه، وبذلك استولى الإسرائيليون على جميع البلاد الواقعة في شرقي الأردن والبحر الميت (بحر لوط) من نهر أرنون جنوبا إلى جبل حرمون شمالا، فأقطعها موسى سبطي رأوبين وجاد ونصف سبط منسي، ثم صعد إلى جبل نبو حيث كان معبد آلهة مواب، ورأى منه أرض الميعاد، وهناك مات «ودفنه الله ولم يعرف أحد قبره»، وكانت وفاته سنة 1451ق.م عن 120 عاما. «يشوع بن نون» وخلف موسى على قيادة الإسرائيليين يشوع بن نون، فعبر بقومه الأردن إلى أرض كنعان سنة 1450ق.م، وفتحها بعد حرب عوان، ووزعها على سائر أسباط بني إسرائيل، فتم لهم بذلك وعد الرب. ا.ه.
هذه هي خلاصة ما جاء في أسفار موسى الخمسة وسفر يشوع عن أصل بني إسرائيل وتغربهم في مصر، وعن تيههم في جزيرة سيناء إلى أن دخلوا أرض الميعاد، فأسسوا فيها مشيخة ثم ملكا، وامتدت مملكتهم من جبال لبنان إلى وادي العريش شمالا وجنوبا ومن صحراء بلاد العرب إلى سواحل البحر المتوسط شرقا وغربا، فكان طولها نحو 150 ميلا وعرضها نحو 50 ميلا، وكان لهم شأن مع مصر في كل العصور إلى أن دالت دولتهم وتشتتوا في الأرض كما سنبينه بالتفصيل، وقد عرفوا قديما في سوريا «بالعبرانيين» قيل لأنهم أتوا من عبر الفرات، ثم عرفوا باليهود نسبة إلى مملكة يهوذا الآتي ذكرها وهو الاسم المعروفون به الآن. (1) مباحث الخروج
ولنعد إلى الخروج، فإن هذا الحادث العجيب على عظم أهميته لا نعلم عنه شيئا صريحا إلا عن طريق التوراة والقرآن، ولم يعثر بعد على أثر من الآثار المصرية أو السورية يشير إليه صريحا، ويرجح عدم وجود أثر له في مصر؛ لأن ملوكها لم يحيوا من الحوادث إلا ما خلد لهم من الفخر وطيب الذكر، لا الخيبة والفشل كحادث الخروج.
هذا وقد باد سكان سيناء الأصليون، وبادت لغتهم، وتغيرت أسماء الأمكنة التي مر بها الإسرائيليون عند اختراقهم سيناء؛ حتى إنه لم يكد يبقى مكان معروف باسمه القديم؛ لذلك اختلف الباحثون في تفاصيل خبر الخروج: في الملك الذي خرج الإسرائيليون في عهده، والمكان الذي خرجوا منه من مصر، والمكان الذي عبروا منه البحر الأحمر، والطريق التي ساروا بها في سيناء، والمكان الذي حاربهم فيه العمالقة، والجبل الذي نزلت عليه الشريعة، والبلاد التي تاه بها الإسرائيليون، وعدد الإسرائيليين الذين خرجوا من مصر، وحقيقة المن والسلوى، وغير ذلك من مباحث الخروج.
ولعلماء التوراة والمؤرخين المحققين في هذه المباحث آراء شتى وتخمينات كثيرة، ألمعنا إلى بعضها في باب الجغرافية، وأظهر تلك الآراء:
أن الإسرائيليين خرجوا من مصر في عهد منفتاح بن رعمسيس الثاني، من ملوك الدولة التاسعة عشرة، وأن مدينة رعمسيس التي خرجوا منها هي الخرائب المعروفة الآن بتل المسخوطة في مديرية الشرقية، وأنهم عبروا البحر الأحمر بالقرب من مدينة السويس، وأن شق البحر الأحمر بريح عاصفة عند عبور بني إسرائيل ورجوعه عند مرور مركبات فرعون يعللان بالمد والجزر المشاهدين إلى الآن في رأس البحر الأحمر، وأنهم بعد دخولهم سيناء ساروا «بطريق البتراء» فأتوا عيون موسى فعين الهوارة «مارة»، فعين غرندل «إيليم»، فسهل المرخا «برية سين»، فوادي فيران «رفيديم»، وأن العمالقة حاربوهم في هذا الوادي قرب العين في المكان المعروف الآن «بحصى الخطاطين»، وأنهم ساروا من هذا الوادي إلى جبل موسى، وأن جبل الصفصافة هو الجبل الذي وقف عليه موسى لتلقي الوصايا العشر، وأن سهل الراحة تجاهه هو السهل الذي وقف فيه الإسرائيليون وتلقوا الشريعة من فم موسى، وأنهم بعد أن قضوا نحو سنة عند جبل موسى عادوا إلى طريق البتراء، فمروا بعين حدرة «حضيروت»، وهبطوا شاطئ خليج العقبة عند النويبع، وساروا إلى عصيون جابر وأيلة على رأس الخليج، ومن هناك ساروا بوادي العرب «أو بوادي طابا أو بوادي العين» إلى أن أتوا وادي الجرافي، ثم ساروا منه شمالا إلى برية عين قديس فقضوا فيها بقية الأربعين سنة، ثم عادوا إلى عصيون جابر وأيلة وداروا حول بلاد أدوم من الشرق، فذهبوا بوادي اليتم إلى أن أتوا طريق دمشق الشام، فساروا فيها إلى شرق الأردن، ثم عبروا هذا النهر إلى أرض الميعاد، وإن المن الذي كان طعامهم كل مدة تغربهم في سيناء، ليس صمغ الطرفاء الذي قال به البعض؛ لأن هذا لا يظهر إلا عند اشتداد الحر في شهري يونيو ويوليو، وكل ما يمكن جمعه منه في السنة لا يكفي شخصا واحدا ستة أشهر، بل هو حب عجيب كان ينزل لهم مع الندى، ويقول الكتاب: إنه «كبزر الكزبرة، أبيض وطعمه كرقاق بعسل»، وأن طائر السلوى الذي نزل عليهم في برية سين ثم في عين حضيروت هو طائر السمان أو طائر الجراد.
وقد نشر الإفرنج عدة كتب في هذه المباحث كلها، ومن أنفسها وأحدثها كتاب «من النيل إلى نبو» للعلامة الدكتور هسكنز من كبار المرسلين الأميركان في بيروت، نشره في أميركا سنة 1911، وبسط فيه آراءه وأهم آراء الباحثين في جميع المواضيع المشار إليها، ولست أقصد في كتابي هذا بسط تلك الآراء وإبداء رأي فيها كلها؛ لأنه لا يسع الكاتب أن يبدي رأيا مسموعا في مثل هذه المباحث الهامة الغامضة، إلا إذا سار في طريق الخروج من أولها إلى آخرها، وكان له الإلمام التام بجغرافية مصر وتاريخها القديم والحديث، وفي تاريخ الكتاب المقدس وتفسيره كالدكتور هسكنز، ولكن لما كان موضوع كتابي هذا يقضي علي بطرق هذه المواضيع، وكنت قد زرت أكثر الأمكنة الواقع الخلاف عليها لم أر بدا من إلقاء دلوي في الدلاء وأن أقول كلمتي في الأمور الآتية، وهي: (1)
طريق موسى أو طريق الإسرائيليين في سيناء. (2)
عدد الإسرائيليين الذين خرجوا من مصر بطريق سيناء. (3)
الجبل الذي نزلت عليه الوصايا العشر. (4)
البلاد التي تاه بها بنو إسرائيل. (1-1) طريق موسى
أما «بشأن طريق الإسرائيليين في سيناء» فقد بينت في باب الطرق أن لسوريا وبلاد العرب من مصر سبع طرق لا ثامن لها، وهي من الشمال: طريق الفرما، وطريق العريش، والدرب المصري، ودرب الحج المصري، ودرب الشعوي، وطريق النبك، وطريق البتراء، وأنه لم يكن في عهد موسى إلا طريقان مشهورتان وهما طريق الفرما وطريق البتراء، وأما سائر الطرق فإنها كلها أو أكثرها طرق مستحدثة أنشئت أو اشتهرت بعد الخروج بأزمان، بل لو وجدت في زمن موسى ما اختار واحدة منها لصعوبتها وقلة مياهها، ثم لو خير موسى في ذلك العهد بين طريق الفرما وطريق البتراء ولم يكن ثمت محذور في اتباع أحد الطريقين لاختار طريق الفرما بلا تردد؛ لأنها أخصرهما وأسهلهما، ولكن طريق الفرما كانت محمية بحصون المصريين من جهة، ومؤدية إلى بلاد الفلسطينيين الأشداء الممالئين للمصريين من جهة أخرى، هذا وفي سفر الخروج ص1 عدد 13: 18، نص صريح على السبب الذي أوجب ترك طريق الفرما، وهو:
وكان لما أطلق فرعون الشعب أن الله لم يهدهم في طريق أرض الفلسطينيين مع أنها قريبة؛ لأن الله قال: لئلا يندم الشعب إذا رأوا حربا ويرجعوا إلى مصر؛ فأدار الله الشعب في طريق برية بحر سوف» ا.ه. (وهي طريق البتراء المتقدم وصفها.)
ولكن مع وجود هذا النص الصريح في التوراة وشهادة الطبيعة والتاريخ أنه لم يكن لسوريا في ذلك العهد غير الطريقين المذكورتين، وانطباق طريق البتراء على رواية التوراة، فإنك ترى جماعة من علماء التوراة يرتابون في كون طريق الإسرائيليين هي طريق البتراء وظن البعض أنها درب الحج المصري.
على أن القائلين بهذا الرأي لا يعرفون سيناء إلا على الخارطة، ولو أتوها وجالوا في طرقاتها والتوراة في أيديهم لم يروا أمامهم إلى رأيا من رأيين: إما لا خروج البتة، وإما خروج بطريق البتراء! (1-2) عدد الإسرائيليين
وأما «عدد الإسرائيليين الذين خرجوا من مصر بقيادة موسى» فظاهر عبارة الكتاب أنهم كانوا «ستمائة ألف ماش من الرجال ما عدا الأولاد» (خر12: 37)، وإذا حسبنا النساء والأولاد كان عددهم نحو ثلاثة ملايين نفس ما عدا البهائم، وليس في قواد البشر قائد يستطيع جمع جيش هذا مقداره والفرار به من وجه ملك قوي شديد البطش كفرعون مصر، وإن وجد هذا القائد فإنه يستحيل عليه أن يعد لجيش كهذا الماء والزاد والركائب في برية مجدبة كبرية سيناء كانت منذ الخليقة ولا تزال إلى اليوم قليلة المياه قليلة النبت والزرع والضرع والسكان، وقد تقدم لنا أن سكان سيناء من حضر وبادية لا يزيد عددهم عن خمسين ألف نسمة، وأن سكان بلاد الطور التي اخترقها الإسرائيليون لا يزيدون عن أحد عشر ألف نسمة، ولا نعلم أن عدد سكان سيناء في أي عصر من عصور التاريخ يزيد كثيرا عما هو الآن، ولا أن طبيعة جو سيناء كانت غير ما هي الآن.
إذن يستحيل تسيير جيش هذا مقداره في برية سيناء إلا بتقدير سلسلة متصلة من العجائب الإلهية كل مدة بقائهم في سيناء، وهذا مما لا تتطلبه رواية الكتاب.
وفوق ذلك فإننا نرى من رواية الكتاب أن العمالقة عند محاربتهم الإسرائيليين في رفيديم وقفوا في وجههم النهار بطوله إلى مغيب الشمس، وقد قدمنا أن سكان بلاد الطور ما كانوا في عصر من العصور أكثر كثيرا من 11 ألف نسمة أو نحو 3000 مقاتل، فلو كان عدد مقاتلة الإسرائيليين ستمائة ألف كما هو ظاهر عبارة الكتاب ما أمكن العمالقة الوقوف في وجههم كل تلك المدة، بل ما كانوا وقفوا في وجههم البتة.
وعليه فلا بد أن يكون المراد من عبارة الكتاب غير ظاهرها، وهذا هو رأي أكثر المحققين الذين درسوا الموضوع في أرضه، ومن هؤلاء العلامة بتري المار ذكره، وقد أتى في كتابه «مباحث في سيناء» على تفسير لهذا المعمى فقال: إن لفظة «ألف» تطلق في التوراة على العدد المعروف كما تطلق على عائلة أو خيمة.
وتناول هذا التفسير هسكنز في كتابه المشار إليه آنفا، فأتى بعدة أدلة من الكتاب على صحة رأي بتري في كلمة ألف، ثم طبق رواية التوراة عليه؛ فكان عدد الإسرائيليين الذين خرجوا من مصر نحو «مائة ألف نسمة»، وهذا العدد أيضا في رأيي أكثر مما تتحمله حال سيناء وتقتضيه رواية التوراة، وعليه فلا بد لعلماء التوراة من استئناف البحث في هذا الموضوع وإيجاد تفسير جديد للأرقام الواردة في الكتاب يحل هذا المعمى تمام الحل حتى لا يزيد عدد الإسرائيليين الذين اجتازوا سيناء عن ستة آلاف مقاتل أو عشرين ألف نسمة على أعظم تقدير، والله أعلم. (1-3) جبل الشريعة
أما «بشأن الجبل الذي نزلت عليه الشريعة» فقد انقسم الباحثون فيه إلى فريقين: فريق يقول: إنه جبل سربال، وفريق إنه جبل الصفصافة أحد قمم جبل موسى، ولكل لمن الفريقين أدلة وبراهين يؤيد بها رأيه، على أن المنتصرين لسربال لم يأتوا لنا إلى الآن في كل ما كتبوه بتفسير معقول لما جاء في سفر الخروج (ص19 عدد 1: 12) وهذا هو بنصه:
في الشهر الثالث بعد خروج بني إسرائيل من أرض مصر، في ذلك اليوم جاءوا إلى برية سيناء، ارتحلوا من رفيديم إلى برية سيناء فنزلوا في البرية. هناك نزل إسرائيل مقابل الجبل، فقال الرب لموسى ها أنا آت إليك في ظلام السحاب لكي يسمع الشعب حينما أتكلم معك، اذهب إلى الشعب وقدسهم اليوم وغدا، وليغسلوا ثيابهم، ويكونوا مستعدين لليوم الثالث؛ لأنه في اليوم الثالث ينزل الرب أمام عيون جميع الشعب على جبل سيناء، وتقيم للشعب حدودا من كل ناحية قائلا: احترزوا من أن تصعدوا إلى الجبل أو تمسوا طرفه، كل من يمس الجبل يقتل قتلا ...
فهذا النص نص يخص جبل الشريعة بثلاث حالات: الأولى أنه يطل على برية أو سهل يسع جمهور الإسرائيليين، والثانية أنه قائم كسور على ذلك السهل حتى يمكن الواقف في السهل أن يمسه بيده، والثالثة أن كل من في السهل يستطيع أن يرى من على رأس الجبل ويسمع صوته، وهذه الحالات الثلاث ليست في جبل سربال، وهي متوافرة كل التوافر في جبل الصفصافة.
أما جبل سربال فإنه فضلا عن كونه متحدرا تحدرا عظيما، ورأسه يبعد عن سفحه بعدا سحيقا، ليس في سفحه سهل كبير أو صغير (انظر شكل 3-3 الجزء الأول: في جغرافية سيناء الطبيعية، الفصل الثالث: في جبالها).
وأما جبل الصفصافة فإنه قائم كسور على سهل الراحة، ولا يعلو عنه سنة 1760 قدما، ومساحة ذلك السهل ميل مربع أو يزيد كما قدمنا (انظر شكل 3-2 الجزء الأول: في جغرافية سيناء الطبيعية، الفصل الثالث: في جبالها).
وفوق ذلك فإن أنصار «سربال» لا يمكنهم تعيين المكان الذي عسكر فيه جيش إسرائيل مدة السنة التي أقاموها في جبل سيناء، سواء كان ذلك الجيش ثلاثة ملايين نفس أو مائة ألف نفس أو عشرين ألف نفس، فقد قدمنا أنه ليس في سفح جبل سربال سهل كبير أو صغير، وليس هناك إلا وادي فيران وفرعه وادي عليات الآتي من جبل سربال، وكلا الواديين ضيق حتى إنه ليصعب إيجاد ساحة لعشر خيام منصوبة بعضها بجانب بعض فضلا عن آلاف الخيام التي لزمت جيش إسرائيل، زد عليه أن وادي فيران عند النبع لا يصلح للسكنى؛ ليس لضيقه فقط بل لكثرة بعوضه، وقد رأيت أن الحماضة سكان فيران الأصليين كانوا يرحلون ليلا من عند النبع إلى رجامات البيض على نحو 3 ساعات غربا هربا من البعوض والحميات، ثم إن بدو هذه الأيام الذين يجتمعون في الواحة في موسم البلح يتركون إبلهم وأغنامهم خارجا عن الواحة، فيمكثون ريثما يجنون الثمر ثم يرحلون عنها، فلا يبقى فيها إلا أفراد قليلون من سكانها الأصليين يذكرون نخيلها ويزرعون القليل الصالح للزرع من أرضها، ثم إن النساك الذين سكنوا هذا الوادي في صدر النصرانية اتخذوا المغاور ورءوس الجبال سكنا لهم، وجعلوا كنائسهم على رءوس التلال لعدم صلاحية الوادي للسكنى خصوصا في الشتاء، فإن الوادي لشدة ضيقه يخنقه السيل ويرتفع الماء فيه إلى حد عال عن جانبيه.
هذا والمفهوم من عبارة التوراة المتقدم ذكرها أن الإسرائيليين قطعوا المسافة من رفيديم إلى جبل سيناء في مرحلة واحدة؛ فحار الفريقان أنصار سربال وأنصار جبل موسى في تعليل ذلك؛ إذ المسافة من عين فيران إلى سفح سربال لا تزيد عن خمسة أميال ومنها إلى جبل موسى نحو 30 ميلا بطريق نقب الهاوية و37 ميلا بطريق الوطية، فهي إذن أقل من مرحلة إلى جبل سربال، وأكثر من مرحلة إلى جبل سيناء، على أن لأنصار جبل موسى مخرجا من هذه الحيرة، فقد قدمنا في باب الجغرافية أن هذا الوادي المعروف الآن باسمين: «وادي الشيخ» من منشئه من جبل موسى إلى بويب فيران، «ووادي فيران» من البويب إلى مصبه في البحر الأحمر، لم يكن معروفا في القديم إلا باسم واحد وهو رفيديم، وأن القسم الأعلى منه لم يسم بوادي الشيخ إلا بعد دفن الشيخ صالح عليه بعد الخروج بأزمان، فقول الكتاب: إن الإسرائيليين رحلوا من رفيديم لا يوجب أنهم كانوا كلهم مجتمعين عند عين فيران حين ارتحالهم فضلا عن أنه ليس هناك محل يسعهم كما مر، فلا بد أنهم كانوا منتشرين من العين صعدا في الوادي في القسم المعروف الآن بوادي الشيخ، وأن مقدمتهم لم تكن أبعد من مرحلة عن جبل موسى، والله أعلم.
وفوق ذلك كله فإن جبل الصفصافة بما له من الضواحي ينطبق على رواية التوراة كل الانطباق، فعلى هذا الجبل وقف موسى لتلقي الوصايا العشر، وفي السهل غربيه وقف الإسرائيليون لتلقي تلك الوصايا، وعلى الجبل شرقي الدير المعروف الآن بجبل المناجاة الذي يطل على سهل الراحة جعل موسى خيمة الشهادة، وعلى التل الذي في طرف السهل الشمالي الشرقي (حيث مقام النبي هارون الآن) عبد الإسرائيليون العجل الذهبي الذي صنعه لهم هارون في غياب موسى في رأس الجبل (خر 32)، وأما الجبل المعروف الآن بجبل موسى، فهو الجبل الذي كان يختلي به موسى عن شعبه.
وقد طرق الدكتور هسكنز في كتابه المشار إليه هذا البحث فكان من أنصار جبل الصفصافة، ولكنه أراد التوفيق بين القائلين بجبل الصفصافة والقائلين بجبل سربال، فأتى برأي جديد غريب في بابه وهو أن معظم الإسرائيليين عسكروا في سفح جبل سربال وكبار الإسرائيليين ومعهم خيمة الشهادة في سفح جبل الصفصافة، وأن الذين شهدوا موسى على جبل الشريعة هم الفريق الذي كان عند جبل الصفصافة لا الإسرائيليون كلهم، والذي حمله على اتخاذ هذا الرأي وجود النبع الغزير في واحة فيران قرب سربال، على أن نص التوراة صريح بأن الإسرائيليين «ارتحلوا من رفيديم ونزلوا في برية سيناء»، «وأن الرب نزل أمام عيون جميع الشعب على جبل سيناء»، وفوق ذلك فإنه لا يحتمل أن موسى وهو قائد عظيم ينشر جيشه أشهرا من جبل موسى إلى جبل سربال مسافة 37 ميلا في بلاد غربة تحتاطه فيها الأعداء من كل الجهات، لا سيما وأن الماء وهو الأصل في هذا الرأي متوافر في جبل موسى، فإن فيه من الينابيع الصافية الغزيرة (وقد تقدم وصفها في باب الجغرافية) ما يكفي جيش إسرائيل ويزيد، وهذه الينابيع تروي الآن عدة بساتين متسعة للدير فيها أنواع الفاكهة والثمر، وقد قيل في كرمة سيناء:
بطور سيناء كرم ما مررت به
إلا تعجبت ممن يشرب الماء (1-4) التيه
أما «البلاد التي تاه بها بنو إسرائيل» فإذا صح أن عين قديس هي بقية اسم قادش برنيع فلا بد أن تكون قادش شملت جميع البلاد الواقعة بين وادي صرام ووادي الأحيقبة شمالا وجنوبا، وبين جبل خراشه وجبل الحلال شرقا وغربا؛ لأن هذه البلاد تكون بلادا واحدة مستقلة عما يجاورها، تتحدر فيها السيول من الشرق إلى الغرب فتفيض في وادي العريش العظيم، وفيها أراض زراعية متسعة وعيون وآبار شهيرة غزيرة، أهمها آبار مايين وعين قديس وعين القديرات وفرعاها عين القصيمة وعين المويلح، وربما كان مخيمهم الأكبر عند عين القديرات الغزيرة، وكان سهل التيه العظيم الذي يخترقه وادي العريش مسرحهم العام، ومن ذلك اسمه، والله أعلم. (1-5) آثار الخروج
هذا وفي سيناء الآن كثير من الأسماء التي تشير إلى مرور بني إسرائيل فيها بقيادة موسى، وتيههم في بريتها، ومن ذلك:
اسم سيناء:
المعروفة في البلاد في التوراة والقرآن.
وعيون موسى:
قرب السويس.
وحمام موسى:
قرب الطور.
وجبل موسى:
في وسط الجزيرة.
وجبل المناجاة:
أحد قمم جبل موسى.
وعليقة موسى، وبئر موسى:
في دير طور سيناء.
وصخرة موسى، وجبل مناجاة موسى:
في وادي فيران.
وحمام فرعون:
على البحر الأحمر عند فم وادي وسيط.
وعين قديس:
في شرق الجزيرة.
وبلاد التيه:
في وسط الجزيرة، والتقاليد التي يحفظها سكانها الحاليون في سبب تسميتها بالتيه، وقد مر ذكرها.
وعين حدرة:
في شرق الجزيرة في طريق البتراء.
ومدينة أيلة:
على رأس خليج العقبة.
ووادي موسى، وقبر النبي هارون:
شرقي وادي العربة.
وسمك موسى:
المسمى في سوريا «المر» وعند الإفرنج
sole
وهو سمك مسطح البطن، كأن واحده شطر سمكة قسمت نصفين، وفي تقاليد أقباط مصر أن موسى لما عبر البحر الأحمر وانشق الماء أمامه انشق السمك مع الماء شطرين، فكان كل شطر في جهة فسمي سمك موسى!
الفصل الثالث
في تاريخ سيناء من بعد الدول العشرين الأولى المصرية إلى الفتح الإسلامي لمصر
من سنة 1156ق.م إلى سنة 640م
لا نرى للمصريين أثرا يذكر في سيناء بعد الدولة العشرين إلى الدولة الحادية والثلاثين؛ لأن هذه الدول لم تهتم بالتعدين في سيناء كما اهتم أسلافها، ولكنها اشتغلت كما اشتغل أسلافها بالحروب في سوريا وبلاد العراق وجزيرة العرب كما سنبينه فيما بعد.
ثم تملك اليونان مصر وسوريا على يد الإسكندر المكدوني سنة 332ق.م، فقام خلفاؤه البطالسة في مصر والسلوقيون في سوريا وما زالوا في حرب مستمرة يأتي ذكرها، إلى أن تغلب الرومان عليهم جميعا فملكوا سوريا سنة 64ق.م ومصر سنة 30ق.م، ودام ملك الرومان على القطرين إلى أن قام الإسلام في جزيرة العرب فانتزعوا منهم سوريا سنة 638م، ثم مصر سنة 640م.
وقد ترك اليونان والرومان في سيناء، ولا سيما القسم الشمالي منها، وفي حدودها الغربية، كثيرا من الآثار النفيسة التي تقدم وصف أكثرها في باب الجغرافية.
وأهم آثار الرومان «البيزنتيين» دير طور سيناء الشهير المار ذكره تفصيلا، وقد أفردنا لتاريخه فصلا خاصا فيما ما يلي.
هذا وبينما كان البطالسة في مصر يتطاحنون بالحروب هم والسلوقيون في سوريا، نرى النبط خلفاء الأدوميين في البتراء قد شادوا ملكا امتد غربا إلى البحر الأحمر فشمل جزيرة سيناء كلها، لذلك أفردنا لهم في هذا التاريخ فصلا خاصا وهو الفصل التالي.
الفصل الرابع
في تاريخ مملكة النبط في البتراء وعلاقتها بسيناء قديما وحديثا
(1) مدينة البتراء
شكل 4-1: السيق في وادي موسى.
البتراء
مدينة حجرية حصينة فخمة للنبط في وادي موسى - أحد فروع العربة - وهي الآن خراب، ومدخل المدينة من الشرق في مضيق يعرف بالسيق، يرتفع عنده جانبا الوادي عموديا كسورين عظيمين، طوله نحو ميلين وعرضه من عشر أقدام إلى ثلاثين قدما حتى إنه لا يسع الفرسان المرور به إلا اثنين اثنين وهو سر حصانته.
شكل 4-2: مدينة البتراء.
وفي نهاية هذا السيق ينفرج الوادي عن الجانبين نحو كيلومتر، وفي هذا المنفرج معظم أبنية البتراء، ثم يعود الوادي فيجري في مضيق آخر صعب المسلك جدا يعرف بالسيق الغربي إلى أن ينتهي في وادي العربة.
وفي رأس الوادي نبع ماء غزير يجري فيه فيرويه، وهو حياته وأصل وجود المدينة في القديم، وقد كان مجرى الماء قديما مسقوفا بالحجر، ونقر النبطيون في قلب الصخر عند مدخل المدينة نفقا عرضه نحو 17 قدما وعلوه نحو 20 قدما وطوله 330 قدما.
وأكثر منازل المدينة وهياكلها، وقبورها منحوتة في الصخر؛ لذلك سماها اليونان «بترا» أي الحجر، وسموا البلاد التابعة لها «أرابيا بترا» أي العربية الحجرية تمييزا لها عن «أرابيا فيلكس» أي العربية السعيدة، وهي بلاد اليمن.
ولا يعلم بالتأكيد الاسم الذي أطلقه مؤرخو العرب على هذه المدينة؛ لأننا لا نرى لها ذكرا في كتبهم، وارتأى البعض أنها «الرقيم» التي ذكرها المقدسي في كتاب أحسن التقاسيم. قال: «الرقيم قرية على فرسخ من عمان على تخوم البادية»، والتي ذكرها الإصطخري في قوله: «الرقيم مدينة بقرب البلقاء، وهي صغيرة منحوتة بيوتها وجدرانها في صخر كأنها حجر واحد» ا.ه. ولكن «بترا» هذه هي على نحو 12 فرسخا من عمان وبعيدة جدا عن البلقاء، وفوق ذلك فإن في تلك الجهات كثيرا من الأماكن غير «بترا» منحوتة بيوتها في الصخر، وعلى كل حال فإننا نعني «بالبتراء» المدينة التي عرفها اليونان قديما باسم «بترا».
وأول من ذكر البتراء في التاريخ ديودورس الصقلي، المتوفى في القرن الأول قبل الميلاد، فقال: «إنها بلاد صخرية، وفيها ينابيع قليلة، ويصعب جدا الوصول إليها.»
وقال سترابو المؤرخ الروماني المتوفى سنة 24م: «البتراء مدينة صخرية قائمة في منبسط من الأرض، تحيط به الصخور كالسور المنيع، وليس وراءها غير الصحراء المجدبة.»
وقال بليني النباتي الروماني الذي عاش في القرن الأول بعد المسيح عند ذكر النبط: «إنهم يسكنون مدينة تدعى البتراء في مجوف من الأرض، يقل محيطه عن ميلين، تكتنفه الجبال من كل الجهات، ولها نبع يجري في وسطها.» (2) مملكة أدوم
وظاهر من موقع هذه المدينة وإجمال حالها أنها عاصمة مملكة أدوم القديمة المشهورة في التوراة، وقد سماها اليهود «سالع» أي الحجر، وسمي الجبل الذي يخترقه واديها جبل «سعير»، وكان أول من سكنها الحوريون سكان الكهوف، ثم طردهم منها الأدوميون ذرية أدوم وهو عيسو بن إسحاق، جاء في سفر التثنية ص2: 12: «وفي سعير سكن قبلا الحوريون فطردهم بنو عيسو وأبادوهم من قدامهم وسكنوا مكانهم»، وقد تقووا مع الأيام حتى صاروا مملكة يرهب جانبها امتدت من البحر الميت إلى البحر الأحمر، وكان لهم مدينة على رأس خليج العقبة اشتهرت في التاريخ تدعى أيلة، وقد مر ذكرها تفصيلا.
وقد أبنا في الفصل السابق ما كان من منع الأدوميين لموسى عن العبور بأرضهم إلى نهر الأردن حتى اضطر أن يدور حول بلادهم ويمر بوادي اليتم، والظاهر أن الإسرائيليين لم ينسوا هذا المنع من الأدوميين، مع أنهم كانوا من جهة النسب إخوانا لهم، بل كانت سببا لعداوة استمرت بين الشعبين إلى انقضاء ملك الأدوميين، فإننا نرى في تاريخ مملكة اليهود أن داود النبي (سنة 1055-1015ق.م) أخضعهم لسلطانه (صموئيل الثاني ص8: 14)، ثم عصوا في أيام سليمان (1015-975ق.م) فأعادهم إلى الطاعة وبنى في بلادهم ميناء عصيون جابر قرب مدينة أيلة، ثم عادوا فنقضوا فأذلهم يهوشافاط ملك يهوذا (سنة 914-898ق.م) ثم عادوا إلى الاستقلال، فتغلب عليهم أيضا أمصيا ملك يهوذا (سنة 838-810ق.م) (انظر أخبار الأيام الثاني ص25: 11 وملوك الثاني ص14: 7)، ثم تراهم في أيام أحاز ملك يهوذا (سنة 741-726) قد غزوا اليهودية واكتسحوها وأخذوا من أهلها أسرى، ثم لما حاصر نبوخذنصر أورشليم وسبى اليهود إلى بابل سنة 587ق.م اشترك الأدوميون في حصر المدينة وسلبها وأخذوا قسما من اليهودية. (3) مملكة النبط
ثم نرى النبط بعد ذلك قد حلوا محل الأدوميين، وأسسوا مملكة في البتراء امتدت من دمشق الشام إلى وادي القرى قرب «المدينة» شمالا وجنوبا، ومن بادية الشام إلى خليج السويس شرقا وغربا، فشملت شمال غرب جزيرة العرب وجزيرة سيناء، ووجدت آثارهم في الحجر (مدائن صالح للثموديين) وحوران ودمشق الشام وجزيرة سيناء.
وأما آثارهم في سيناء فهي صخرات كتابية في طريق القوافل من البتراء إلى السويس، وفي طريق العقبة إلى مدينة الطور، وفي الأماكن المقدسة في جبل موسى ووادي فيران، وفي معادن الفيروز والنحاس في وادي المغارة ووادي النصب الغربية، وفي غيرها من الأماكن في بلاد الطور كما بيناه في باب الجغرافية ، وقد دل ذلك على أن النبط استخدموا طرق التجارة في سيناء وعدنوا الفيروز في وادي المغارة والنحاس في وادي النصب، وكانوا يزورون أماكنها المقدسة في جبل موسى وجبل سربال، وسنرى في تاريخ الدير أن رهبانا من البتراء سكنوا سيناء في صدر النصرانية، وأن أبرشية فيران كانت قبل بناء الدير تابعة لأبرشية البتراء.
وأول من ذكر النبط في التاريخ ديودورس الصقلي وخلاصة قوله «أن النبط يعيشون في بادية جرداء لا نهر فيها ولا سيول، ومن أمهات قوانينهم منع بناء المنازل أو زراعة الحبوب أو استثمار الأشجار وتحريم الخمر مع التشديد في العمل بذلك.
ويقتات بعضهم بلحوم الإبل وألبانها والبعض الآخر بالماشية أو الغنم، ويشربون الماء المحلى بالمن، ومنهم قبائل عديدة تقيم في البادية، ولكن النبطيين أغنى تلك القبائل، وثروتهم من الاتجار بالأطياب والمر وغيرها من العطور يحملونها من اليمن وغيرها إلى مصر وشواطئ البحر المتوسط، ولم تكن تمر تجارة في أيامهم بين الشرق والغرب إلا على يدهم، ويحملون إلى مصر القار لأجل التحنيط، وهم حريصون على حريتهم، فإذا داهمهم عدو يخافون بطشه فروا إلى الصحراء وهي أمنع حصن لهم؛ لأنها خالية من الماء فلم يدخلها سواهم إلا مات عطشا.» ا.ه.
وقد ذكرهم ديودورس في كلامه عند إغارة أنتيغونس سيد آسيا الصغرى على البتراء سنة 312ق.م وارتداده عنها بالفشل قال: «إن النبطيين خلفوا الأدوميين في بلادهم، وإنهم عشرة آلاف مقاتل لا شبيه لهم في قبائل البدو، وإن بلدهم الوعر القاحل ساعدهم على التمتع بالحرية والاستقلال؛ لأنهم كانوا يستغنون عن سائر العالم بصهاريج سرية مربعة الشكل منقورة في الصخور تحت الأرض يخزنون فيها الماء، ولكل منها فوهة ضيقة وباطن واسع اتساعه ثلاثون مترا مربعا، يملئونها بماء المطر في الشتاء، ويحكمون سدها بحيث يخفى مكانها على غير العارف، ولها على فوهاتها علامات ترشدهم إليها لا يعرفها غيرهم» ا.ه. قلت: وهي «كالهرابات» التي لا يزال يستعملها بدو سيناء إلى اليوم. (3-1) غزوة أنتيغونس للنبط في البتراء سنة 312ق.م
أما غزوة أنتيغونس للنبط المشار إليها، فخلاصتها مما رواه المؤرخ شارب الإنكليزي في تاريخ مصر القديم:
إن أنتيغونس كان ينوي غزو مصر ونزعها من يد بطليموس الأول، وكان بطليموس قد استرجع عساكره من سوريا الجنوبية وترك الصحراء بينه وبين أنتيغونس، ولم يكن عند أنتيغونس مراكب تحمي جيشه البري وتساعده على اختراق الصحراء؛ فرأى أن يخضع النبط أو يكتسب صداقتهم ليهاجم مصر بطريق البتراء؛ لأن هذه الطريق أغزر ماء من طريق الفرما، ولأن مصر لم تكن محصنة من جهة السويس كانت من جهة الفرما، وكان النبط إذ ذاك يتجرون مع سوريا ومصر، ففضلوا البقاء على الحياد، فاستاء أنتيغونس منهم ونوى إذلالهم، فبلغه يوما أنهم خرجوا من معقلهم لسوق قريبة، ربما ليلاقوا قافلة آتية من الجنوب ويقايضوا بضائع صور الصوفية بعطور اليمن، وأنه لم يبق في المدينة منهم إلا نفر قليل، فانتقى أربعة آلاف من المشاة وستمائة فارس فدخلوا المدينة عنوة وامتلكوها، فلما بلغ النبط ما كان عادوا ليلا ونزلوا على اليونانيين من طرق شاقة لا يعرفها غيرهم وأعملوا فيهم السيف والحربة حتى إنه لم يبق منهم سوى 50 رجلا تمكنوا من الفرار وأخبروا أنتيغونس بما كان، وأرسل النبط يلومون أنتيغونس لغزوه بلادهم بعد أن أمنهم، وكان أنتيغونس عند مجيء رسل النبط يتميز من الغيظ لما حل بجيشه ولكنه لجأ إلى المخادعة، فكظم غيطه وأظهر للرسل أن مستنكر هذه الغزوة وأن قائده إنما فعل ذلك بغير علمه، ووعدهم بالأمان، وفي الوقت عينه أرسل ابنه ديمتريوس بأربعة آلاف من المشاة وأربعة آلاف من الفرسان لينتقموا للجيش الأول ويفتحوا المدينة، وكان العرب هذه المرة متيقظين، وكانت حصانة موقعهم تساعدهم على الدفاع؛ لذلك عجز جيش ديمتريوس هذا وهو زهرة جيش أبيه عن دخول المدينة وعاد بالخيبة، واضطر أنتيغونس إلى مصالحة بطليموس والعودة إلى آسيا الصغرى كما سيجيء. (3-2) ملوك النبط
واستفحل أمر النبط بعد هذا النصر واتسع سلطانه، لا سيما في أثناء انحطاط مملكة البطالسة في مصر والسلوقيين في سوريا في أواخر القرن الثاني قبل المسيح، فأنشئوا دولة منظمة تولاها ملوك ضربوا النقود بأسمائهم واستوزروا الوزراء، وهذه هي أسماء ملوك النبط الذين اتصلت بنا أخبارهم إلى الآن مع سني حكمهم بوجه التقريب:
الحارث الأول (سنة 169ق.م):
وهو أول ملك عرف من ملوك النبط، ذكر في سفر المكابيين الثاني ص5: 8.
زيد إيل (سنة 146ق.م):
ذكر في سفر المكابيين الثاني.
الحارث الثاني المقلب إيروتيمس (سنة 110-96ق.م).
عبادة الأول (سنة 90ق.م).
ريبال الأول ابنه (سنة 87ق.م).
الحارث الثالث الملقب فيلهلن ابنه (سنة 87-62ق.م):
كان لهذا الملك شأن عظيم في تاريخ هذه الدولة، وكان السلوقيون في سوريا قد ضعف أمرهم لانشقاقهم بعضهم على بعض، فدعاه الدمشقيون ليتولى أمرهم، فتولاهم سنة 85ق.م ولقبوه «فيلهلن» أي محب اليونان، وهو أول من ضرب النقود من الأنباط، اقتبس ذلك من السلوقيين في أثناء سلطانه على دمشق، ثم توالى بعده الملوك فضربوا النقود بأسمائهم، إلا الأخير فإنه لم يوجد نقود باسمه، وكان لملوك النبط سكة خاصة تدل على إكرامهم زوجاتهم ترى فيها رأس الملك على وجه من النقود ورأس الملكة على الوجه الآخر، وهذه العادة غير معروفة في غير نقود النبط.
وفي آخر أيام الحارث حصل أول قتال بين النبط والرومان، فإنه تدخل في النزاع الذي وقع بين الأميرين المكابيين هركانوس وأخيه أرستوبولس، وكانت سوريا في ذلك العهد قد آلت إلى الرومانيين، فنصروا أرستوبولس ورفعوا الحصار عن المدينة، قالوا: ولحق أرستوبولس أخاه هركانوس والحارث وواقعهما في مكان يدعى مابيرون، فقتل من جيشيهما 6000 رجل، وكان ذلك سنة 64ق.م.
وفي هذه السنة قدم بمبيوس صاحب رومية وأقام في دمشق، فوفد عليه الشقيقان هركانوس وأرستوبولس بالهدايا، ورفع كل منهما دعواه بالملك، فلم يحكم لأحدهما، بل أمرهما أن ينتظرا إلى أن يفرغ من محاربة العرب، وشرع في ذلك سنة 63ق.م قالوا: وسار إلى البتراء وأخذها وقبض على الحارث ملكها، ثم أخلى سبيله لقبوله الشروط التي اقترحها عليه، وعاد إلى دمشق.
عبادة الثاني ابنه (سنة 62-47ق.م).
مالك الأول ابنه (سنة 47-30ق.م):
كان معاصرا لهيرودس الكبير. قالوا: وكانت بينهما حروب طويلة كان النصر فيها تارة له وتارة لهيرودس، وأنه تدخل في المنازعات التي كانت بين القواد الرومانيين طلبا لمصلحته ومنعا لمطامعهم.
وقد وجد ده فوكوى خطا نبطيا في بصرى حوران منقوشا على مذبح، قيل فيه: «أقام هذا المذبح نترال بن نترال للإله كاسيوس في السنة الحادية عشرة لمالك الملك.»
عبادة الثالث ابنه (سنة 30-9ق.م):
وفي أيامه كانت حملة أليوس غالوس القائد الروماني على بلاد العرب، وقد استعان فيها بالنبط، وكان سترابو المؤرخ معاصرا وصديقا لهذا القائد، وقد ذكر خبر هذه الحملة. قال: «إنه في سنة 18ق.م جرد أغسطس قيصر حملة بقيادة أليوس غالوس عامله على مصر لفتح جزيرة العرب، واستنصر النبطيين فأظهروا رغبتهم في نصرته على يد وزير لهم يومئذ يسمى سيلوس، ولكن هذا الوزير خدعه فذهب به في طرق وعرة أعجزه المرور فيها، فقضى مع جيشه أياما قاسوا بها العذاب ألوانا، وأقصى مكان بلغه بعد ذلك العذاب مدينة الرحمانية وعليها ملك يدعى أليسارس، فحاصرها ستة أيام، لكن العطش اضطره إلى رفع الحصار والرجوع نحو مصر، وبعد تسعة أيام من رجوعه وصل إلى نجران ومر بالجوف الجنوبي، وما زال يتنقل من بلد إلى بلد حتى وصل الحجر وسار منها إلى البحر الأحمر ومنه إلى مصر، بعد أن قضى في هذه الحملة ستين يوما.» ا.ه.
قلت: ويرى أهل النقد أن سترابو نسب الفشل في هذه الحملة إلى خيانة سيلوس وزير النبط تبرئة لصديقه أليوس غالوس.
الحارث الرابع المقلب فيلومتر شقيقه سنة (9ق.م:40ب.م):
وهو حمو هيرودس أنتيباس رئيس ربع في الجليل، وأراد هيردوس أن يتزوج بهيروديا امرأة أخيه فيليب وذلك سنة 27م، فشق ذلك على ابنة الحارث فرجعت إلى منزل أبيها، وانتشبت حرب بين الحارث وهيرودس كان الظفر فيها للحارث، فاستنجد هيرودس بطيباريوس إمبراطور رومية، فبعث إلى فيتالس قائده في سوريا أن يرسل إليه الحارث مكبلا بالحديد، وإذا قتل في الحرب فليرسل إليه رأسه، فشرع فيتالس في الاستعداد للحملة على البتراء ، ولكنه تأخر في أورشليم لحضور الفصح، وفي أثناء ذلك مات طيباروس سنة 37م وخلفه على رومية الإمبراطور غاليغولا، فرضي عن الحارث ووسع تخوم مملكته وأعطاه دمشق الشام، وفي سنة 39م نرى على دمشق واليا يحكمها من قبل الحارث، وقد أراد الوالي أن يلقي القبض على بولس الرسول، ولكن بولس أفلت من يده (كورنثوس ص11: 32).
وعزا ده فوكوى إلى الحارث هذا خطا وجد في صيدا على صفيحة من رخام جاء فيها: «هذه الصفيحة قدمها، الحاكم بن زويلا للإلهة دوزارا (ربة كان يعبدها العرب في حجر وأذرع وبصرى وغيرها) في شهر، سنة 32 للحارث.»
ووجد منقوشا على قبر في الحجر كتابة بالنبطية تاريخها حوالي الميلاد هذه ترجمتها: «هذا القبر الذي بنته قمقم بنت وائلة بنت حرم وكليبة ابنتها لهما ولذريتهما في شهر طيبة من السنة التاسعة للحارث ملك النبطيين محب شعبه ... فعسى ذو الشرى، واللات وعمند ومنوت وقيس أن تلعن من يبيع هذا القبر أو يشتريه أو يرهنه أو يخرج منه جثة أو عضوا أو يدفن فيه أحدا غير قمقم وابنتها وذريتهما، ومن يخالف ما كتب عليه فيلعنه ذو الشرى وهبل ومنوت خمس لعنات ويغرم الفاعل غرامة مقدارها ألف درهم حارثي إلا من كان بيده تصريح من يد قمقم أو كليبة ابنتها ... صنع ذلك وهب اللات بن عبد عبادة.»
مالك الثاني ابنه (سنة 40-75م):
حكم مع امرأته صقيلة، ويظهر أنه ابن الحارث من خط ذكر ده فوكوى أنه وجد مكتوبا على صفيحة فوق باب كنيسة صرخد حوران، قيل فيه: «هذا الأثر أقامه رواهد بن ماتابو ... للات ربتهم المستقرة في صرخد ... في شهر آب سنة 17 لمالك ملك النبط ابن الحارث ملك النبط المحب لشعبه.» قالوا: وهو الذي أتى بجيش لنجدة فسباسيان القائد الروماني في حربه مع اليهود سنة 67م.
ريبال الثاني الملقب سوتر ابنه (سنة 75-101م):
وكانت أمه صقيلة وصية عليه، ثم أشرك معه في الحكم امرأته جميلة. ذكر في خط وجده ده فوكوى فوق شبابيك كنيسة صرخد قيل فيه: «أقامه قصيو بن أذينة ... لامرأته وغدة في السنة الخامسة والعشرين للملك ريبال.»
مالك الثالث (سنة 101-106م):
وهو آخر ملوك النبط، فإن الرومان بعد استيلائهم على سوريا ومصر ما زالوا يناوئون هذه المملكة قصد إدخالها تحت سلطتهم حتى فازوا بالغرض سنة 106 في عهد الإمبراطور تراجان، وقد ضربوا نقودا خاصة بذلك الفتح على سبيل التذكار. (3-3) البتراء ولاية رومانية
وأصبحت البتراء بعد ذلك الفتح ولاية رومانية، ولم يقم للأنباط بعده قائمة، ومع هذا نرى البتراء سنة 358م ولاية قائمة بذاتها باسم «فلسطينا ترتيا» وفيها أبرشية للنصارى وعليها مطران، والمشهور أن أبرشية فيران في قلب سيناء كانت في ذلك الحين تابعة لها.
وقد بقيت البتراء تحرسها حامية من الجند الروماني إلى عهد الإمبراطور فالنس (سنة 365-378م)، ثم هجرت وخمد ذكرها، حتى إنه في عهد النبي محمد لم يكن لها شيء من الأهمية، حتى إن مؤرخي العرب لم يذكروها في فتوحات الإسلام، وقد ذكروا أيلة على ما مر. (أ) الصليبيون في البتراء
هذا ولما جاء الصليبيون إلى سوريا استولوا عليها وبنوا فيها قلعة، وبنوا قلعة في الشوبك، وأخرى في الكرك في طريق القوافل إلى الشام من مكة، ولكن ما زال العرب المسلمون يجاهدون حتى أخرجوهم من تلك القلاع في عهد صلاح الدين الأيوبي (سنة 1171-1193م)، ولكنهم لم يعمروا البتراء فخربت وصارت مرتعا لعرب البادية، ويسكن واديها الآن عند النبع عرب اللياتنة يدلون السياح على خرائبها كما مر، وقد ضمها السلطان عبد الحميد الثاني إلى أملاكه الخاصة. (ب) آثار البتراء
وبقيت خرائب البتراء محجوبة عن العالم المتمدن أجيالا عديدة حتى أحيا ذكرها في هذا العصر الرحالة الشهير بورخارت، دخلها عن طريق الشام في 22 أغسطس سنة 1812، ومن ذلك الوقت أمها كثير من السياح الإفرنج من دمشق والقدس وسيناء، وكتبوا فيها المجلدات، ووصفوا آثارها وصفا يشوق القارئ إلى زيارتها، وهي تدل على عظمة المدينة وغنى أهلها في القديم، وأنها زهت كثيرا في عهد الرومان، وأهم تلك الآثار:
شكل 4-3: خزنة فرعون في البتراء.
خزنة فرعون:
في منتصف السيق الشرقي الذي يدخل منه إلى المدينة، وهو هيكل عظيم فحم وردي اللون منقور في الصخر، أقامه في الأرجح الإمبراطور هدريان الروماني للمعبود أيسس، إذ زار المدينة سنة 131م.
المرسح:
وهو ملعب عظيم منحوت في الصخر في شكل نصف دائرة، مؤلف من 33 صفا من المقاعد بعضها فوق بعض بهيئة درج، تسع نحو 3000 شخصا، وموقع المرسح في آخر السيق الشرقي على نحو 20 دقيقة من خزنة فرعون، ومنه تنفرج الوادي حتى إن الجالس على مقاعد المرسح يرى قسما كبيرا من المدينة.
قصر فرعون:
وهو هيكل جميل في غرب المدينة بقرب مدخل السيق الغربي، وبقربه البوابة المثلثة، وهي في الأرجح مدخل الهيكل الخارجي.
الدير:
على نحو ساعة من قصر فرعون إلى الشمال الغربي منه، وهو هيكل فخم على ارتفاع نحو 700 قدم من بطن الوادي، وهو يطل على جبل هارون ووادي العربة، أما جبل هارون فهو على يسار القادم إلى البتراء من العقبة في رأس وادي خشيبة، علوه نحو 4600 قدم عن سطح البحر، وعليه مقام النبي هارون المشهور.
شكل 4-4: مقام النبي هارون قرب البتراء.
المذابح:
على المرتفعات في جوار الهياكل، وأهمها المذابح التي على تل النجر قرب خزنة فرعون.
القلاع:
وفيها قلعة للصليبيين وسور حول المدينة.
القبور:
ومنها ما ينيف عن 750 قبرا، كلها منحوتة في الجبل في جميع أنحاء المدينة، وأفخم تلك القبول هي التي حول المرسح، وأقدمها القبور التي على تل النجر، وقبر على تل عند وادي التركمانية على «واجهته» كتابة بالنبطية. (3-4) تجارة النبط
وكان النبط شعبا تجاريا، وقد ساعدهم موقع عاصمتهم وحصانتها ووجود النبع الغزير فيها على جعلها محطة للقوافل البرية التي كانت تتردد بين البحر الهندي والبحر المتوسط، فكانت بضاعة الهند تنقل إلى بلاد اليمن عن طريق عدن، وكان أهل اليمن ينقلونها مع محصولاتهم إلى الحجاز، وكان النبط ينقلونها من الحجاز إلى البتراء، ومن هناك تتفرع إلى مصر «بطريق البتراء» وإلى فلسطين وفينيقية بطريق بئر سبع، وإلى شمالي سوريا بطريق دمشق الشام.
وأما «الطريق من عدن إلى البتراء فالشام» فما زالت مطروقة للآن مع تقدم الملاحة في البحار؛ لأنها طريق الحجاج إلى مكة المكرمة، تمر الطريق من عدن إلى لحج فتعز فزبيد فمكة، وقد حج الشاعر الصوفي الشيخ عبد الرحيم بن أحمد البرعي اليمني، من أهل القرن الخامس للهجرة، فنظم قصيدة صوفية ذكر فيها المدن والأودية والآبار التي مر بها في طريقه من جبل برع باليمن إلى مكة، قال: وضمير المؤنث راجع إلى الإبل: «فلعسان» «فسردد» ثم «مور» «فحيران» لهن به رسيم
إلى «حرض» إلى «خلب» تراءت
إلى «جيزان» جازت وهي هيم
ومرت في ربى «ضمد» «وصبيا» «ولؤلؤة» «وغوان» تهيم «وذهبان» وفي «عمق» «وحلي»
تساورها المفاوز والرسوم
وفي «يبت» وفي كنفي «قنونا»
سرت والليل منعكر بهيم «فدوقة» «فالرياضة» فاستمرت
بجنب «الحفر» يطربها النسيم
إلى «الميقات» ظلت خائضات «غمار الآل» يلفحها السموم
وباتت عندما وردت «إداما»
نحن فلا تنام ولا تنيم
وفي «أم القرى» قرت عيون
عشية لاح زمزم والحطيم
ومن مكة تتبع طريق الحج الشامي المشهورة مارة بالمدينة، فوادي القرى فتبوك فمعان قرب البتراء فدمشق الشام، وفي سنة 1906 مدت سكة حديد من دمشق إلى المدينة متبعة طريق الحج الشامي، عرفت «بسكة حديد الحجاز»، وأما طريق القوافل القديمة من البتراء إلى دمشق فكانت تمر بالشوبك فطفيلة فالكرك فضبان فحسبان فعمان فجرش بالمزيريب فدمشق، وذكر القاضي شهاب الدين العمري الذي عاش في القرن الثامن للهجرة في كتابه «التعريف بالمصطلح الشريف» مراكز الطريق من دمشق إلى الكرك في أيامه، وهي حسب تعريفه: «طفس فالقنية فالبرج الأبيض فحسبان فديباج فأكريه فالكرك»، وقد أصلح الرومان قديما طريق القوافل من البتراء إلى دمشق كما أصلحوها من البتراء إلى أيلة.
وظلت مدينة البتراء مركزا تجاريا بين الشرق والغرب إلى أوائل القرن الثالث للمسيح، إذ قامت مملكة الفرس في الشرق ومملكة تدمر في الشمال، وفاز الفرس بتحويل تجارة الهند واليمن عن طريقها القديم وصرفها إلى خليج العجم والفرات.
وفي ذلك العهد كانت الإسكندرية قد صارت مركزا عظيما للتجارة بين الشرق والغرب، وأخذت مركز صور، فكانت بضاعة الهند وجزيرة العرب تجيء ميناء بيرنيس على البحر الأحمر فتنقلها القوافل المصرية إلى قفط، وتنقل من قفط بالنيل إلى الإسكندرية، فكان تحويل التجارة عن البتراء أكبر ضربة منيت بها، بل كانت الضربة القاضية عليها. (3-5) أصل النبط
هذا وقد اختلف المؤرخون في أصل النبط، فقال فريق: إنهم آراميون وآخر إنهم عرب، أما القائلون: إنهم آراميون فحجتهم أن لغة النبط آرامية، وأن لفظ النبط عند العرب يطلق على أهل العراق. قالوا: لما تغلب نبوخذنصر الثاني على أورشليم وأزال مملكة يهوذا سنة 587ق.م زحف على مملكة أدوم فأخضعها وجعل في عاصمتها حامية من الجند، وسكن مع الحامية قوم من التجار الآراميين فاشتغلوا بالتجارة وساعدهم مركز البلاد فقووا مع الأيام وأسسوا ملكا!
وأما القائلون إنهم عرب فحجتهم؛ أولا: أن مؤرخي اليونان واليهود الذين كتبوا عنهم سموهم عربا. ثانيا: أن النبط استعملوا أداة التعريف «ال». ثالثا: أن أسماء ملوكهم كلها عربية محضة كالحارث وعبادة وريبال ومالك وجميلة.
ويؤخذ من تاريخ مصر للمؤرخ شارب الإنكليزي المار ذكره أنهم هم الأدوميون أنفسهم، قال: كان النبط قبلا يسمون أدوميين، ثم فقدوا هذا الاسم بعد أخذهم القسم الجنوبي من اليهودية (كما مر) المعروف باسم «أدوميا» إذ اليهود لما استرجعوا «أدوميا» سموا أدوميي الصحراء نباووث أو «النبط.» ا.ه.
وفي التعريفات: «النبط جيل من العجم ينزلون بالبطائح بين العراقين. قيل سموا بذلك لكثرة النبط عندهم وهو الماء، هذا أصله ثم استعمل في أخلاط الناس.»
وأما قول الفريق الأول: إن النبط تجار آراميون سكنوا مع الحامية التي وضعها نبوخذنصر بعد أخذه أورشليم سنة 587ق.م فقول تخميني لم يثبته مؤرخ ثقة، ثم لا يعقل أن تجارا مستضعفين وحامية صغيرة من الجند كلهم أجانب بعيدين بعدا سحيقا عن مركز سلطانهم يؤسسون ملكا قويا في وسط بلاد عربية محضة كالملك الذي أسسه النبط في البتراء، بل لو أسسوا ملكا لنسب إلى سلطانهم وزال بزواله. (3-6) القلم النبطي وبحث في اللغات والأقلام الشرقية
وأما كون النبط قد كتبوا باللغة الآرامية، فليس بدليل على أنهم آراميون؛ إذ لغة التدوين عند قوم لا تدل دائما على جنسهم أو لغتهم، فإن جميع المتكلمين باللغة العربية الآن على اختلاف لهجاتهم وأجناسهم يكتبون باللغة الفصحى التي هي لغة قريش، وليست قريش إلا فرعا صغيرا منهم، بل إن كثيرا من متكلمي العربية الآن أعاجم أصلا وفرعا، ثم إن اللغة اللاتينية التي هي لغة الدولة الرومانية ظلت لغة العلم والنقش على الآثار في أوروبا كلها أجيالا بعد ذهاب دولتها.
وأما اختيار النبط اللغة الآرامية فيحتاج إلى تمهيد تعليلي: يقول العارفون باللغات الشرقية: إن اللغات الكلدانية والسريانية والعبرانية (التي غدت الآن لغات طقسية) والعربية والحبشية (اللتين لا تزالان حيتين) أخوات لأم واحدة أو فروع لأصل واحد تنوعت بتنوع المكان والزمان، وبعبارة أخرى أن في ألفاظ هذه اللغات واشتقاقاتها وتراكيبها وصرفها ونحوها من التشابه والتقارب ما لا يترك أقل ريب في أن أصلها البعيد واحد، وقد عرفوه «بالأصل السامي» نسبة إلى سام بن نوح، ثم إن اللغتين الكلدانية والسريانية هما في الحقيقة لغة واحدة، وإنما تختلفان في قاعدة الكتابة واللهجة، وأما اختلافهما في اللهجة فهو كاختلاف اللهجات العربية في مصر والشام والعراق وتونس، والفصل الأعظم المميز لكل منهما اختلافهما في لفظ الألف، فإن الكلدان ينطقون بها صريحة فيقولون في لفظ «إله» مثلا «إلاها» والسريان ينحون بها إلى الواو فيقولون «ألوهو»، وهذه الألف كثيرة في لسانهم، ولهذا كان الفرق بينا في كلامهم، فاللغة المكتوبة واحدة تماما في صرفها ونحوها وبيانها في السريانية والكلدانية، وإنما تختلف قليلا في كتابتها وقراءتها، فكل فريق يكتبها على قاعدته ويقرؤها على لهجته.
قالوا: وهذه اللغة عينها هي المعروفة «باللغة الآرامية» نسبة إلى آرام بن سام، وقد كانت لغة مملكة الكلدان الأولى أو مملكة بابل، فمملكة آشور، فمملكة الكلدان الثانية في العراق والجزيرة، كما كانت لغة مملكة آرام في دمشق الشام، ولكنها تحولت عن أصلها القديم وتطورت على ألسنة متكلميها في تلك الممالك مع الأيام شأن جميع اللغات حتى صارت إلى ما هي عليه الآن في فرعيها القريبين الكلدانية والسريانية.
وقد كتبت قديما بالقلم المسماري أو السفيني، سمي بذلك ؛ لأن حروفه تشبه المسمار أو السفين، ثم لما اخترع أجدادنا الفينيقيون النجباء الحروف الهجائية وعمت العالم المتمدن لسهولتها اختارها الآراميون وكتبوا بها لغتهم وانتسخ القلم المسماري.
أما اللغة الفينيقية فقالوا: إنما هي لهجة من لهجات اللغة العبرانية، وقد صدق ما قلت في السريانية والكلدانية العلامة المطران يوسف دريان الماروني السرياني والخوري بطرس عابد الكلداني في مصر، وهما من الثقات باللغات الشرقية.
ومن الثابت المؤكد الآن أنه في القرون الأخيرة قبل الميلاد والقرون الأولى بعده كانت اللغة الآرامية لغة المخابرات السياسية والتجارية ولغة التدوين في جميع بلاد العراق وسوريا وشمال جزيرة العرب، كما كانت اللغة اليونانية في ذلك العهد وتلك البلاد لغة العلوم والآداب. قالوا: وكان العرب في شمال الجزيرة يخالطون الآراميين بالتجارة والسياسة، ولم يكن لهم قلم يكتبون به فاضطروا إلى تعلم اللغة الآرامية واستخدام قلمها، وتفرع القلم الآرامي بذلك إلى بضعة فروع منها القلم السامري في السامرة (وفيه كتبت التوراة السامرية)، والقلم التدمري في تدمر، والقلم النبطي في البتراء.
وبقي العرب يستخدمون القلم الآرامي إلى أن قام الإسلام في جزيرة العرب، ودوخوا البلدان، فدونوا لغتهم وأصبحت اللغة العربية لغة المخابرات السياسية والتجارية والتدوين بدل اللغة الآرامية في جزيرة العرب كلها وفي جميع البلاد التي افتتحها العرب المسلمون في سوريا ومصر والعراق وتونس وغيرها.
هذا وقد كان المشهور إلى هذا العهد أن لغة المصريين القدماء حامية غير سامية، ولكن العلامة أحمد بك كمال المتضلع في اللغة الهيروغليفية يؤكد أن اللغة المصرية القديمة واللغة العربية هما من أصل واحد، وأن كثيرا من ألفاظ اللغتين ومبانيهما واحد، فاليد في لفظهم يد، والعين عين، والأصبع صباع، ونحو ذلك، وهو الآن يؤلف معجما للغة المصرية القديمة لإثبات هذا القول.
وقال في «القلم الهيروغليفي»: إن المصريين القدماء في الدور المعروف بالدور المجهول أو دور الكهنة سكنوا بين الشلال الأول ومنف عند مفترق النيل، وشرعوا في تدوين لغتهم، فجعلوا لكل اسم أو فعل صورته للدلالة عليه، فرسموا الشمس للدلالة على الشمس، والقمر للدلالة على القمر، واليد تحمل سوطا للدلالة على الحدث ونحو ذلك، ثم وجدوا أن الصور وحدها لا تفي بالمراد؛ إذ لا يعلم منها ألفاظ اللغة، فاتخذوا من الصور حروفا تعبر عن النطق وكتبوا بها الألفاظ وجعلوا رسم كل اسم أو فعل بعد لفظه تأييدا له، وهذا هو «القلم الهيروغليفي» في أصله، وفي حوالي الدولة الحادية عشرة اختزلوا هذا القلم لصعوبة التدوين به وسموه «القلم الهيراطيقي» ثم في حوالي الدولة الحادية والعشرين اختزلوا هذا الاسم وسموه «القلم الديموطيقي»، ثم لما تولى اليونان مصر كتبوا اللغة المصرية بالحروف اليونانية المأخوذة عن الحروف الفينيقية وزادوا عليها بعض الحروف التي تنقص اليونانية للتعبير عن جميع ألفاظ اللغة المصرية، فكان من ذلك «القلم القبطي» الذي أصبح الآن قلما طقسيا كنسيا، وأما الأقباط فإنهم الآن يكتبون ويتكلمون اللغة العربية إلا من ندر.
ويقول العارفون بالخطوط العربية: إن العرب قديما كانوا في بلاد سبأ واليمن يكتبون بالقلم الحميري أو المسند، وأما في الحجاز فلم يكن لهم قلم يكتبون به حتى نزل حرب بن أمية القرشي جد معاوية بن أبي سفيان الحيرة، فرأى أهلها يكتبون العربية بالقلم الآرامي النبطي، فنقل هذا القلم إلى الحجاز، وذلك قبل ظهور الإسلام بقليل، ولما ظهر الإسلام لم يكن من يحسن الخط في مكة والمدينة إلا نفر معدود، ثم بنيت الكوفة وزهت في صدر الإسلام، فاشتهر القلم العربي باسم القلم الكوفي، وانتشر في البلاد الإسلامية كلها لشهرة أهل الكوفة إذ ذاك بالعلوم والآداب، وقد تنوع هذا القلم بحسب الزمان والمكان حتى صارت قواعده تعد بالعشرات، وفي أثناء ذلك قام في الإسلام بعض الكتاب فابتكروا قواعد في الخط أسهل وأوضح من القاعدة الكوفية؛ فأهملت هذه القاعدة تدريجا حتى انقرضت في نحو سنة 930ه/1524م.
وأشهر الكتاب المبتكرين في القلم العربي: ابن مقلة البغدادي المتوفى سنة 328ه، وابن البواب المتوفى سنة 413ه، وابن عبد الملك المتوفى سنة 698ه، وابن الشيخ الذي عاش في القرن الثامن للهجرة، ثم كانت الدولة العثمانية فاشتهر فيها القاعدة الفارسية والرقعة، وأشهر القواعد المستعملة الآن في مصر وسوريا والعراق هي: النسخ والرقعة والثلث والفارسي، ثم إن لكل من عرب اليمن والحجاز والمغرب والسودان قاعدة خاصة يكتبون بها تميزها عن غيرها.
وهذا مثال من الحروف النبطية التي قيل إنها أصل الحروف العربية، مما رأيته في أسفاري في سيناء:
شكل 4-5: صخرة نبطية في وادي المكتب، وبجانبها كتابة نبطية على صخرة في وادي فيران.
شكل 4-6: تاريخ دير طور سيناء مصورا. «بيان»: هذا رسم أيقونة في الدير عليها صورة الدير وحديقته، وقد خرج من هيكل كنيسة الدير مريم العذراء وعلى حضنها المسيح الطفل، وإلى يمين الدير موسى يخلع نعليه عند اقترابه من العليقة، وإلى يسار الدير مطران الدير يستقبله الرهبان عند قدومه من مصر، أمامه العربان يتهددون رهبان الدير فيدلون لهم الطعام بسلة من الشباك المعلق، ومن وراء الدير طور سيناء وعلى قمته موسى يتلقى الوصايا العشر، ورسم الطريق الذي يصعد به إلى القمة من الدير، وعن يمينه جبل المناجاة، وعن يساره جبل كاترينا، وقد حملت الملائكة جثة القديسة كاترينا إلى قمته، ومن وراء الجبال بعيدا عنها البحر الأحمر تمخر فيه المراكب الشراعية، وغير ذلك من الحوادث الشهيرة في تاريخ الدير، وهي من صنع راهب سينائي يدعى الأب ثيودوسيوس عاش في أواسط القرن الثامن عشر. وقد طبع من هذه الصورة آلاف من النسخ، وهي توزع على زوار الدير من المسكوب وغيرهم تذكارا لزيارتهم.
الفصل الخامس
في تاريخ دير طور سيناء القديم والحديث
(1) النساك في سيناء واضطهاد أهل البادية لهم
يظهر أن النساك بدءوا بالمهاجرة إلى جزيرة سيناء والإقامة في أماكنها المقدسة منذ القرن الثاني للمسيح على أثر الاضطهادات التي أثارها الوثنيون ضد المسيحيين في مصر وسوريا، وأهم الأماكن التي نزل بها النساك والرهبان: جبل موسى، ووادي فيران، ووادي الحمام شمالي مدينة الطور المسماة قديما «ريثو» أو «راية».
ومما لا ريب فيه أن هذه الأماكن كانت في أوائل القرن الرابع للمسيح غاصة بالنساك والرهبان، وقد هرب أولئك المساكين من اضطهاد أهل الحضر ليقعوا في اضطهاد أهل البادية، فقد أبنا في الفصل السابق أن الأنباط الذين كانوا يتجرون مع مصر بطريق سيناء، وقد أمنوا هذه الطريق، دالت دولتهم بعد استيلاء الرومان على عاصمتهم سنة 106م، وأصبح أهل البادية من نهر الأردن إلى البحر الأحمر لا وازع لهم، يعيشون على الغزو والنهب، وقد طالما غزوا رهبان سيناء ونهبوهم ونكلوا بهم وزادوا الشقاء الذي جلبوه على أنفسهم شقاء.
وأول من كتب عن رهبان طور سيناء والاضطهادات التي أصابتهم ديونيسيوس البطريرك الإسكندري سنة 205م.
وفي تقاليد الكنيسة أن القديسة هيلانة أم قسطنطنين الكبير (سنة 323-337م) بنت لهم برجين في المكان الذين بني عليه الدير الحالي؛ لحمايتهم من غارة البدو، وذلك بالقرب من كنيسة العليقة التقليدية التي كلم الله عندها موسى النبي، ولعل القديسة هيلانة هي التي بنت أيضا كنيسة العليقة الباقية داخل سور الدير إلى الآن.
ولكن بناء هذين البرجين لم يمنع اضطهاد العربان لهم، ثم إن الاضطهاد لم يكن من بادية العرب وحدهم، بل كان يعبر إليهم من العدوة الغربية للبحر الأحمر أقوام من البجاة فيكتسحون بلادهم وينكلون بهم، وقد روى الراهب أمونيوس الإسكندري الذي زار سيناء عن طريق القدس سنة 373م أنه في أثناء زيارته غزا العرب رهبان طور سيناء فقتلوا أربعين راهبا منهم، وغزا البجاة رهبان راية فقتلوا منهم أربعين راهبا أيضا، وقد دون الراهب المذكور خبر هذه الغزوة عند رجوعه إلى الإسكندرية بالقبطية، وبقي حتى عثر عليه راهب يوناني يدعى يوحنا يجيد القبطية فترجمه إلى اليونانية، والظاهر أن راهبا عربيا من رهبان الدير يحسن اليونانية نقله إلى العربية، وعند زيارتي الدير سنة 1905 اطلعت على الترجمة العربية، فإذا هي مكتوبة بأسلوب كنائسي بسيط يدل أتم الدلالة على حال الرهبنة والرهبان في تلك الأعصر الغابرة، فرأيت أن أثبتها كما هي بعد تنقيح عبارتها قليلا إتماما للفائدة: (1-1) خبر الراهب أمونيوس عن الآباء القديسيين الذين قتلهم البربر في «طور سيناء وراية»
كنت جالسا يوما في قلايتي الصغيرة قرب الإسكندرية في الموضع المدعو قانوبوس، فخطر لي أن أسافر إلى فلسطين؛ أولا لأني لم أعد أطيق رؤية المصائب والتعديات الواقعة كل يوم على المؤمنين من عداة الناموس المردة، وكان أبونا الزائد قدسه بطرس بطريركنا يفر متنكرا من مكان إلى مكان غير متمكن من أن يرعى رعيته الجليلة براحة ومجاهرة، وثانيا لأني اشتهيت أن أعاين الأماكن المقدسة وأسجد لقيامة ربنا يسوع المسيح المحيية الطاهرة، وللأماكن المقدسة التي جال فيها مكملا أسراره الرهيبة، فمضيت إلى تلك الأماكن وسجدت لها وسررت بكل صنائع الله، ثم أحببت أن أشاهد الجبل الأقدس العلي (طور سيناء) فسرت في البرية وصادفت رفاقا محبين للمسيح ذاهبين إلى ذلك الجبل، فوصلنا إليه بمعونة الله بعد ثمانية عشر يوما، فأقمت هناك أياما قليلة متمتعا بالآباء القديسين، وكنت أزورهم في قلاليهم كل يوم قصد المنفعة؛ لأنهم كانوا يجلسون سكوتا كل الأسبوع إلى عشية السبت؛ إذ كانوا يجتمعون كلهم في موضع واحد ويقيمون الصلوات الليلية، وفي صباح الأحد يأخذون أسرار المسيح الطاهرة ويعود كل منهم إلى موضعه، وكانت سيرتهم ملائكية ووجوهم مصفرة وأجسامهم ذائبة من شدة النسك والحمية، حتى كانوا كأنهم بلا أجسام؛ لأنهم ما اقتنوا شيئا مما يتنعم الإنسان به، لا خمرا ولا زيتا ولا خبزا إلا يسرا قليلا كانوا يقتاتون به وبأطراف الشجر حفظا لأجسادهم، وكان رئيس المكان يحفظ عنده خبزات يسيرة لإضافة الغرباء الواردين إلى هناك للصلاة.
فلما مضت علي هناك بضعة أيام إذ وفد بغتة جمهور من العرب، فقتلوا جميع من وجدوهم في المساكن التي حول الدير، ولما أحس الذين كانوا مقيمين بقرب البرج بالشغب والجلبة لجئوا إلى كنف الأب القديس ذولاس الرئيس الذي كان بالحقيقة عبد المسيح؛ لأنه كان ذا وداعة وطول أناة لم تكن لغيره حتى كان كثيرون يسمونه موسى الثاني، وبعد أن قتل العرب من وجدوه في المكان المسمى تتراقن، وفي حوريب وقيدار وغيرهما من الأماكن المجاورة للجبل المقدس وصلوا إلينا، وقد كادوا يقتلوننا لولا لطف الله بنا، فإن الله يمد يده إلى المستغيثين به؛ فقد أمر أن يظهر لهيب عظيم في أعلى الجبل، وعاينا الجبل كله دخان والنار صاعدة إلى السماء، فخفنا كلنا، وانحلت قوانا من رهبة المنظر، وخررنا على وجوهنا ساجدين للرب، وتضرعنا إليه أن يفرجنا من هذه الشدة التي دهتنا، ولما عاين البربر ذلك المنظر المخيف ارتعدوا كلهم وركبوا جمالهم وفروا هاربين، فشكرنا الله لأنه أراحنا منهم، ثم نزلنا من البرج وفتشنا المواضع التي قتل فيها الآباء فوجدنا ثمانية وثلاثين نفسا قتلى، وجريحين وهما شعيا وسابا، وكان من القتلى في تتراقن وحدها 12 نفسا وكلهم بحال تفتت الأكباد، فمنهم من كان رأسه لا يزال معلقا بجسده يمسكه الجلد، وآخر مقطوع من وسطه، وآخر قد بترت يداه ورجلاه وانطرح كعود يابس، فدفنا القتلى بنوح عظيم واهتممنا بالجريحين، أما شعيا فإنه توفي بعد ليلة واحدة، وأما سابا فقد كان يؤمل له الشفاء؛ لأن الضربة التي أصابته لم تكن خطرة، فجعل يشكر الله على الأشياء التي عرضت له، ولكنه استعظم الأمر لأنه لم يؤهل لمرافقة القديسين، وقائلا «ويلي! أنا الخاطي! ويلي! أنا غير المستحق لمصاف الآباء القديسين الذين قتلوا من أجل المسيح، ويحي! أنا المطروح عند الساعة الحادية عشرة الذي رأى ميناء الملك وما دخل إليه»، وقال: «أيها الملك الضابط الكل، يا من أرسل ابنه الوحيد لتخليص الجنس البشري، أيها الصالح والمحب للبشر، لا تفرقني من الآباء القديسين الذي سلفت وفاتهم، وليتم بي عدد عبيدك الأربعين.» قال هذا وأسلم الروح في اليوم الرابع من وفاة القديسين.
وفيما نحن نائحون والحزن ملء قلوبنا والدموع في عيوننا من أجل القديسين وافانا رجل إسماعيلي فقال: إن النساك الساكنين في البرية الجوانية المسماة «راية» قتلهم السودان، والمكان المذكور على مسيرة يومين منا على شاطئ البحر الحمر، وبعد أيام قليلة جاءنا ناسك نجا من الواقعة، فرحب به الرئيس ذولاس وسأله أن يحدثه عما جرى للآباء القديسين والفضائل التي اتصفوا بها، وكيف كانت نجاته هو، فقال: أما أنا فقد سكنت في ذلك الموضع منذ نحو عشرين سنة، وأما الرهبان الآخرون فقد سكنوه منذ عهد بعيد، البعض منذ أربعين سنة والبعض منذ خمسين سنة والبعض منذ ستين، والمكان سهل فسيح جدا يمتد إلى الجهة القبلية، وعرضه من جهة الشرق اثنا عشر ميلا، تحيط به الجبال كسور، وهي وعرة جدا، يتعذر سلوكها على من لا يعرفها، ويحده من جهة الغرب البحر الأحمر، وفوق هذا البحر جبل تخرج منه اثنتا عشرة عينا تسقي أكثر النخل، وعلى أقل من فرسخ منه آبار أخرى وشجر نخيل ليس بقليل، في منحدر هذا الجبل كان مسكن كثيرين من المتوحدين يقيمون في المغاور والكهوف، ولم تكن كنيستهم على الجبل نفسه بل بقرب الجبل، وكانوا أناسا سماويين يشبهون الملائكة، وقد اقتنوا سيرتهم بأتعابهم ونسكهم وزهدهم في هذا العالم متهاونين بأجسادهم كأنها غريبة عنهم، ولا يمكنني أن أصف جهادهم والمحن التي كانوا يقاسونها كلها فأذكر سيرة اثنين منهم على سبيل المثال:
كان بينهم راهب اسمه موسى، ترهب من صغره وسكن ذلك الموضع، وكان أصله من فاران، عاش هذا في السيرة الملائكية ثلاثا وسبعين سنة مقيما في الجبل في مغارة ليست بعيدة عن الكنيسة، وكان ثاني إيليا النبي في سيرته؛ لأن كل الطلبات التي كان يطلبها من الله كان يمنحه إياها، وقد أعطاه سلطانا على الأرواح النجسة، حتى إنه شفا كثيرين منها وطردها بصلاته من المصابين، وقد شابه الرسل القديسين؛ لأنه جعل أكثر الإسماعيليين القاطنين في تخوم فاران مسيحيين، فإن هؤلاء لما عاينوا تلك الآيات التي صنعها الله على يديه آمنوا بالرب وأقبلوا على الكنيسة الجامعة طالبين المعمودية المقدسة، وهذا البار منذ نسك في مغارته ما ذاق خبزا البتة؛ لأن رجال الموضع كانوا يجلبون حنطة من مصر فوق ما كانوا يأكلونه من ثمر النخل، وأما هو فقد كان غذاؤه بسرا قليلا وشرابه من الماء الذي عنده ولباسه من الليف، وكان يحب الصمت جدا ويستقبل من يقصده بنشاط، وله أجوبة مقنعة معزية، وينام بعد الصلوات الليلية قليلا ثم يقضي ليله ساهرا، وفي صوم الأربعين المقدس كان يقفل باب قلايته ولا يفتحه إلا يوم الخميس الكبير، وما كان يدع عنده شيئا لغذائه كل تلك المدة سوى عشرين تمرة وقسط واحد من الماء، هذا ما حدثنا به التلميذ الذي كان يخدمه، وفي أحد هذه الأيام الأربعين المقدسة قدم إليه رجل يسمى أفاديانوس فيه روح نجس جاءه مستشفيا، فلما أصبح على نحو غلوة من قلاية الشيخ طرحه الروح النجس وصرخ صوتا عظيما قائلا: يا للغضب! أما أمكنني أن أصرف الشيخ عن «قانونه»؟ وإذ قال هذا خرج من الرجل وبرئ الرجل للحال، فعاد إلى منزله معافى ممجدا الله، وقد آمن بالمسيح وكثيرون غيره، ثم إن هذا الولي تلمذ رجلا يسمى بسويس في نواحي الصعيد كان يسكن فوق قلايته، وقد أقام معه ستا وأربعين سنة لم ينقص من قانونه شيئا، بل كان مقتفيا أثره ومثاله، وكنت أنا قد أقمت معه عند أول وصولي إلى هناك ثم فارقته لأني لم أطق الصبر على تقشفه ونسكه.
وكان بين هؤلاء الرهبان راهب آخر اسمه يوسف، إلياوي الجنس، يعني من أهل أيلة، يسكن في تلك البقعة على ميلين من الماء، وقد بنى مسكنه بيده، وكان جلا بارا متمما لجميع وصايا المسيح، وقد أقام في ذلك المكان أكثر من ثلاثين سنة، فقصده يوما أخ ليسأله عن أمر، فقرع بابه فلم ينل جوابا، فنظر إليه من المدخل فرآه كله من رأسه إلى قدمه قائما كلهيب النار، فارتعد من هذا المنظر وخارت قواه، فسقط على الأرض كميت، وبقي على ذلك ساعة واحدة ثم نهض وجلس قدام الباب، أما الشيخ فلاشتغاله بالمشهد الروحي لم يعلم ما جرى، وبعد مضي ثلاث ساعات ظهر كعادته وفتح الباب وأدخل ذلك الأخ وأجلسه معه، ثم سأله متى جاء، فأجابه: إني جئت منذ أربع ساعات، لكني لم أقرع الباب لكي لا أزعجك، فعرف الشيخ أن الله قد عرفه بأموره، فأجابه عن جميع المسائل التي سأله إياها وصرفه بسلام، ثم اختفى عن عيون الناس فلم يعد يظهر لهم؛ لأنه خشي مجد الناس، وكان له تلميذ يدعى أبا جلاسيوس يسكن بالقرب منه، فجاءه فلم يجده، فأقام مكانه في قلايته مغموما، وبعد مضي ست سنين عند الساعة التاسعة قرع باب القلاية فخرج أبو جلاسيوس، فإذا بمعلمه واقف عند الباب، فدهش من رؤيته ولكنه لم يخف، بل قال له: صل أيها الأب، وإذ صلى قبله القبلة المقدسة مسرورا، فقال له الأب: ما أحسن ما فعلت يا ولدي إذ التمست الصلاة أولا؛ لأن فخاخ العدو كثيرة! فقال التلميذ: أيها الأب الكريم ماذا رأيت في مفارقتك إياي وتركي يتيما مغموما لأجلك؟ فقال له: أما السبب في أني لم أظهر فالله يعلمه، ومع ذلك فإني لم أبعد عن هذا المكان ولا مر يوم لم أتناول فيه أسرار المسيح المقدسة معكم كلكم، فتعجب ذلك التلميذ من معلمه كيف كان يدخل إلى الكنيسة مع الإخوة ولم يبصره أحد! ثم سأله: لأي شيء جئت الآن إلى عبدك؟ فأجابه: إني اليوم أسافر إلى الرب وأخرج من هذا الجسد الشقي، فجئت أتركه عندك لتدفنه كما تشاء، وحدثه كثيرا عن النفس والسعادة المقبلة ثم بسط يديه ورجليه ورقد بسلام، وجاء الأخ وأعلمنا بذلك فمضينا للحال بالسعف والترتيلات، وحملنا جسده المقدس، وكان وجهه مشرقا، ووضعناه مع الآباء السالف رقادهم. وأحدثكم الآن عن مجيء البربر وفعالهم: كان الآباء القديسون المذكورون نامين بكل فضيلة، راضين بالمسكنة وعدم القنية من أجل الرب، مصابرين التعب والشقاء، مشتغلين بالصلوات والطلبات، عابدين المسيح الإله، وكان عددنا كلنا ثلاثة وأربعين ناسكا، وفيما نحن كذلك إذ جاءنا جماعة من الأماكن التي على البحر، وقالوا: إن طائفة كبيرة من البجاة قد عبروا اللجج على أطواف من خشب من جهة الحبشة، وهم الآن محاصرون مركبا راسيا عند الشاطئ فيه ركاب من أهل أيلة يريدون المضي إلى القلزم «السويس» في البحر، فأمسكوا المركب وقالوا لنا: خذونا إلى القلزم فما نقتلكم، فوعدناهم بذلك وتظاهرنا أننا نترقب هبوب الريح القبلية حتى دخل الليل، ففررنا منهم وجئنا نخبركم لتأخذوا حذركم لئلا يرسوا في هذا الموضع ويقتلوكم، وعددهم ثلاثمائة رجل، فلما سمعنا هذا احتطنا لأنفسنا وأقمنا حراسا عند البحر حتى إذا ما أبصروا المركب يخبروننا، وصلينا إلى الله أن يفعل بنا ما يوافق نفوسنا، وبعد ليلة واحدة شوهد المركب مقلعا ومقبلا نحونا، وكان الفارانيون الموجودون في ذلك المكان قد صمموا على محاربة البربر (البجاة) من أجل نسائهم وأولادهم وقطارات جمالهم، فاصطفوا فوق النخيل، وكان عددهم مائتين عدا النساء والأولاد، وأما نحن فقد هربنا إلى كنيستنا التي كان يحيط بها حجارة كبيرة ارتفاعها قامتان، ثم إن البرير بلغوا الميناء الذي أرشدهم إليه النوتية وأقاموا تلك الليلة في جانب الجبل من ناحية المغرب عند العيون، فلما أصبحوا أوثقوا النوتية وتركوهم في ذلك الموضع، وتركوا في المركب رجلا يحفظه، ووضعوا واحدا منهم يرقبه لئلا يقلع به، ثم أقبلوا نحو العيون، فالتقاهم الفارانيون للحرب، وانتشبت واقعة قرب العيون بين الجبال، وكان رشق النشاب من الفريقين غزيرا كالمطر، ولما كان البربر أكثر عددا من الفارانيين ومرتاضين على القتال غلبوا الفارانيين وقتلوا منهم مائة وسبعة وأربعين رجلا، وفر من بقي منهم إلى الجبال، واختبأ بعضهم بين الشجر، وأسر البربر النساء والأولاد وجعلوهم عند العيون، ثم أقبلوا علينا عدوا كالوحوش الضارية إلى الموضع المدعو «القصر» ظانين أنهم يجدون عندنا أموالا جزيلة مخبوءة، فطافوا بالسور وجلبوا وصاحوا بأصوات بربرية، فحصل لنا كآبة عظيمة وحرنا في ما نعمل، فرفعنا عيوننا إلى الله وبكينا بقلب موجع وهتفنا كلنا بصوت واحد: يا رب ارحم، ثم نهض أبونا القديس بولس، من أهل «بتراء»، ووقف في وسط الكنيسة وقال: «أيها الآباء والإخوة، اسمعوا مني أنا الخاطي الصغير فيكم، أنتم تعلمون أننا من أجل سيدنا وربنا يسوع المسيح اجتمعنا في هذا المكان، وأننا من أجل محبته فصلنا أنفسنا عن هذا العالم الباطل، وقصدنا هذه البرية المقفرة متحملين الجوع والعطش ونهاية الفقر؛ لنؤهل نحن الخطاة غير المستحقين أن نصير شركاءه في ملكه، والآن فما يقع علينا شيء بغير علمه، وهو لا يعرض عنا في هذه الساعة، فإن شاء أن يعتقنا من هذه الحياة الباطلة الزائلة لنكون معه فسبيلنا أن نبتهج ونفرح ونشكره، ولا نحزن البتة؛ لأنه لا شيء أشهى وأحلى من معاينة وجهه المحبوب ومجده، اذكروا يا إخوتي كيف كنا نطوب القديسين ونشتهي أن نكون معهم، فها أن مشتهانا قد تم وآن أن نكون معهم إلى الأبد، فلا تحزنوا ولا تجبنوا ولا تأتوا أمرا يشينكم، بل انشطوا وصابروا الموت فيقبلكم الله في ملكه بفرح ومحبة»، فأجابوا كلهم قائلين: «أيها الأب الكريم، كما قلت لنا نصنع؛ لأنه بماذا نكافئ الرب عن كل ما صنع لنا، نأخذ كأس الخلاص ونستغيث باسم الرب»، ثم دار أبونا وجهه إلى الشرق، ورفع يديه إلى السماء وقال: «أيها الرب يسوع المسيح، إلهنا القابض الكل، رجاءنا ومعونتنا، لا تنس عبيدك، لكن اذكر مسكنتنا وأيدنا في ساعة الشدة هذه، واقبل أرواحنا ذبيحة مرضية نسيما طيبا، فإنه بك يليق الإكرام والمجد الآن وإلى الدهر.» وإذ قلنا: آمين، خرج صوت من المذبح سمعناه كلنا يقول: «تعالوا إلي أيها المتعبون والثقيلو الأحمال وأنا أريحكم»، فأحاط بنا الخوف والجزع عند سماع ذلك الصوت وانحلت قوانا؛ لأنه كما قال الرب: «الروح نشيط ولكن الجسد ضعيف .»
أما البربر فإذ لم يكن أحد يقاومهم أحضروا أخشابا طويلة وصعدوا بها إلى داخل السور، وفتحوا الباب ودخلوا إلينا كذئاب برية وسيوفهم مجردة بأيديهم، فصادفوا أولا راهبا اسمه أرميا كان جالسا على باب الكنيسة فسألوه، وكان أحد النوتية يترجم لهم: «أين رئيسكم؟» فقال بكل شهامة: أنا لا أخاف منكم، ولا أدلكم على من تطلبون لأنكم أعداء الله، فاغتاظ البربر من جرأة ذلك الراهب واحتقاره لهم، وربطوا يديه ورجليه، وأقاموه مجردا ورشقوه بالنشاب حتى إنه لم يبق في جسمه موضع إلا أصابته سهامهم، فلما رأى أبونا بولس هذه الأمور تقدم إليهم وقال: أنا هو الذي تطلبونه مشيرا بأصبعه إلى نفسه، فقبضوا عليه وسألوه: «أين أموالك؟» فأجابهم بكلام لين ووداعة كجاري عادته: صدقوني يا أولادي إني لم أقتن في عمري كله سوى هذين الثوبين الشعريين العتيقين اللذين تعاينونهما على جسدي، فشرعوا يضربون عنقه بحجارة ويخزون وجهه بمزاريقهم قائلين له: هات أموالك، وبعد أن عذبوه ساعة واستهزءوا به، ولم يجدهم ذلك نفعا ضربوه بالسيف على رأسه فانشق ذلك الرأس المقدس فلقتين، وتدلى على كتفيه من الجانبين وطعنوه طعنات أخرى في بدنه، وهو طريح عند رجلي الأب الذي قتل قبله.
أما أنا الشقي، فإني لما رأيت هذه الأهوال ورأيت دماء القديسيين منسكبة وأمعاءهم مطروحة على الأرض استولى علي الخوف والجزع، والتمست موضعا أهرب إليه لأنجو من القتل، وكان في زاوية البيت سعف نخل قليل، وكان البربر مشتغلين ببولس الريس خارج البيت، فاختبأت تحت سعف النخل على أن يصير أحد أمرين: إما ألا يلحظني البربر فأنجو، وإما أن يعثروا بي فلا أصبر على أكثر مما كنت أصبر عليه لو لم أختبئ، ثم إن البربر بعد قتل الراهبين خارج الكنسية دخلوا إلى الكنيسة وهم يصيحون ضاربين الهواء بسيوفهم ثم أعملوها في الرهبان بصور تقشعر منها الأبدان.
كان الراهب يحدثنا بهذه الأمور وهو يبكي بكاء مرا، وقد حركنا نحن أيضا إلى البكاء، ثم قال: كيف أصف الأهوال التي رأتها عيناي؟ كان بين الرهبان فتى حسن الوجه قد ترهب وسنه خمس عشرة سنة، فلما أبصره البربر أرادوا أن يستبقوه عبدا لهم فاجتذبه أحدهم إلى خارج الكنيسة بيده، فلما رأى الأخ أنه لم يؤهل للموت مع الإخوة وأنه يستعبد لقوم جفاة متوحشين، بكى وولول، ثم رأى أنه لم ينتفع بالبكاء فتشدد واستبسل واختطف سيفا من أحد البربر وضرب به كتفه، وقد قصد بذلك أن يستفزهم لقتله؛ فكان كما أراد، فإنهم انقضوا عليه بسيوفهم وقطعوه إربا.
ثم إن البربر لما قتلوا جميع الرهبان فتشوا كل مكان في الكنيسة ظانين أنهم يجدون أمتعة وأموالا، ولم يعلم هؤلاء الذين لا إله لهم أن الشهداء لم يكن لهم شيء على الأرض، بل كانت قنيتهم كلها في السماء، وكان البربر لما شرعوا في التفتيش انقطع قلبي من الخوف؛ لأني قلت: لا بد أن يفتشوا سعف النخل الذي اختبأت به فيقتلونني شر قتلة، وكنت أتضرع إلى الله أن يعمي قلوبهم عني، فجاءوا إلي ونظروا إلى الحوض فاحتقروه وانصرفوا عنه، ثم عادوا إلى العيون وفي عزمهم أن يتموا طريقهم إلى القلزم، فلما ذهبوا إلى الشاطئ وجدوا المركب مكسرا؛ لأن الرجل الذي أقاموه على حراسته كان مسيحيا، فقتل البربري الذي ترك معه وقطع حبال المركب وفر هاربا إلى الجبال، وقد قذفت الأمواج بالمركب إلى الصخور فحطمته، فاغتاظ البربر وحاروا فيما يعملونه؛ لأنه لم يعد لهم سبيل للعودة إلى بلادهم، ومن شدة غيظهم بدءوا بقتل الذين استبقوهم من النساء والأولاد، وكانوا كثارا، ثم أوقدوا نارا عظيمة وشرعوا في حرق النخيل بلا رحمة، وبينما هم مشتغلون بهذا إذا بستمائة رجل من الإسماعيليين أهل فاران كلهم مسيحيون ورماة بالقوس والنشاب قد أقبلوا مهاجمين، فلما شعر البربر بهم استعدوا للحرب وانتشبت بينهم حرب عند شروق الشمس في بسيط من الأرض، وتراموا بالنشاب مدة طويلة، وأما البربر فإذ لم يكن لهم سبيل إلى الفرار حاربوا مستقتلين إلى الساعة التاسعة من النهار، وقد قتلوا من أهل فاران في ذلك اليوم 74 رجلا وجرحوا كثيرين، ولكن الفارانيين غلبوهم بكثرة العدد وظلوا يقاتلونهم حتى قتلوهم عن آخرهم.
هذا ولما كان البربر مشتغلين بالحرب مع أهل فاران حصلت لي جرأة يسيرة، فخرجت من مخبئي وتفقدت أجساد القديسين فوجدتهم كلهم قد قضوا نحبهم إلا ثلاثة منهم وهم دمنس وأندراوس وأوريانس، أما دمنس فإنه كان طريحا يتألم من جراحه؛ لأنه كان في جنبه ضربة قتالة، وأما أندراوس فقد كانت فيه جراحات ليست بالغة فشفي منها، وأما أوريانس فإنه لم يمس بسوء لأن بربريا ضربه بالسيف فوقعت ضربته في ثوبه الشعري، فمزقت ثوبه ولم تمس جسده، فظن البربري أنه قتله فتركه وطرح أوريانس نفسه بين جثث الشهداء متظاهرا بالموت، هذا قام معي فتفقدنا أجساد القديسين ونحن ننتحب ونبكي من هذه الأهوال.
ثم إن أهل فاران بعد أن قتلوا البربر تركوا جثثهم على شاطئ البحر مأكلا للوحوش وطير السماء، وجمعوا أجساد أهلهم المقتولين في هذه الوقعة والتي قبلها، وأقاموا عليهم مناحة عظيمة ودفنوهم في مغاور في سفح الجبل بقرب العيون، ثم جاءوا إلينا مع رئيسهم أفاذيانوس وساعدوا في دفن أجساد القديسين، وكان البربر قد مثلوا بهم تمثيلا: فكان أحدهم قد أصابته ضربة قطعته من كتفه إلى صرته، وآخر قد شطر شطرين، وآخر قد قطعت الضربة رأسه إلى عنقه، وآخر نصف أمعائه في جوفه والنصف الآخر متدل إلى الأرض، ولما جمعنا أجسادهم كلهم جاء أفاذيانوس وباقي رؤساء فاران وقدموا ثيابا بيضاء وأكفانا ثمينة، وكفنوا أجساد القديسين، وكان عددهم تسعة وثلاثين؛ لأن دمنس الرومي لم يكن قد توفي بعد، وحمل جميع الحضور سعف النخل وجاءوا لاستقبال القديسين، فحملوا أجسادهم المقدسة بقراءات وفرح عظيم، ودفناهم كلهم في مكان واحد شرقي القصر، أما دمنس فإنه أسلم الروح عند المساء، فحملناه ودفناه في موضع منفرد؛ لأننا لم نشأ أن نفتح القبر لندفنه معهم، وكان قتل هؤلاء الشهداء في الرابع عشر من شهر كانون الثاني في الساعة التاسعة من النهار، وأما أندراوس وأوريانس فإنهما أقاما هناك ورأيهما منقسم في الإقامة في ذلك الموضع أو الانصراف عنه، وأما أنا فلما كنت لم أطق الصبر على البقاء في ذلك الموضع بعد خرابه على تلك الصورة جئت إليكم، وقد تملقني المحب لله أفاذيانوس كثيرا لأبقى هناك، ووعد بأن يتعهدنا دائما ويخدمنا بنشاط، فلم أذعن له للأسباب التي تقدمت. ا.ه. ثم سألنا الناسك أن نحدثه بما جرى لنا فحدثناه، وكان عدد المقتولين هنا وهناك متساويا، فصار البكاء والنحيب على الفريقين، ثم قام الأب ذولاس الرئيس وقال: «أما أولئك الإخوان فقد أهلوا للفرح العظيم والملك الدائم بعد تلك الجهادات والأحزان، ولبسوا تاج الشهداء، فلنهتم الآن بأنفسنا ونتضرع إليهم أن يتشفعوا بنا إلى الرب ليكون لنا حظ معهم، ونخدم الله بكل قوانا، ونشكره لأنه نجانا من أيدي الأشرار.»
وأما أنا الخاطي أمونيوس فقد عدت إلى مصر وسطرت هذه الأخبار كلها في كتاب، وما سكنت الموضع القديم المدعو قانوبوس، بل سكنت بقرب منف في مسكن جميل بقيت فيه باكيا ذاكرا للصديقين شهداء المسيح وآلامهم، ممجدا الإله الضابط الكل مع الابن الوحيد والروح القدس، الآن وإلى أبد الدهور، آمين. ا.ه.
هذه الأخبار وجدتها أنا يوحنا الراهب بتوفيق الله عند راهب متوحد، مكتوبة باللغة القبطية، وكنت أجيد هذه اللغة، فنقلتها إلى اليونانية لمجد الله ومذبح الشهداء القديسين، وكانت شهادة هؤلاء الأبرار القديسين في عهد ديوقلتيانوس، الملك الكافر، فصلواتهم تحفظنا أجمعين، آمين! ا.ه.
هذه هي رواية أمونيوس الراهب عن غزوة البجاة والعرب لرهبان سيناء في أواخر القرن الرابع كما وصلت إلينا، وأما قول المترجم اليوناني: إن ذلك كان في عهد الإمبراطور ديوقلتيانوس (248-313م) فالراجح خطؤه، نعم إنه كان في عهد هذا الإمبراطور بطرك على الإسكندرية يسمى بطرس (300-311م) ولكن زيارة أمونيوس لسيناء كانت على الأرجح في عهد بطرس الثاني (373-380م)؛ لأن روايته تنبئ أن رهبان طور سيناء لما هاجمهم العرب لجئوا إلى برج كان لهم هناك قرب مكان العليقة، وهذا البرج في المشهور هو من بناء القديسة هيلانة أم قسطنطين الكبير (323-337م) كما مر، أي بعد عهد ديوقلتيانوس وبطرس الأول بسنين، وفوق ذلك فقد رأيت أن أمونيوس حج إلى القدس، ثم ذهب منها مع جماعة من الحجاج إلى طور سيناء، والمشهور أن طرق الحجاج النصارى لم تؤمن إلا في عهد قسطنطين الكبير الذي اعتنق النصرانية ونصرها وأمن طرقها، بل المشهور أنه لم تكن للنصارى عادة الزيارة إلى القدس وطور سيناء إلا بعد أن زارت أم قسطنطين القدس باحتفال ملكي عظيم، وبنت فيها كنيسة القيامة سنة 336م، وأمرت ببناء برجين وكنيسة العليقة عند طور سيناء، فأصبح الحج إلى القدس وسيناء عادة للنصارى إلى هذا العهد، والله أعلم. (1-2) خبر نيلس الراهب
هذا وممن كتب عن غزو العرب لرهبان طور سيناء نيلس الراهب، من أعيان القسطنطينية، جاء في سيرة هذا الراهب أنه كان محافظا لمدينة القسطنطينية، وقد تزوج فيها فولد له صبي وبنت، وكان معاصرا ليوحنا فم الذهب، وقد تتلمذ عنده واشتهر منذ صغره بالصلاح والتقوى وزهد الدنيا، فلما بلغ نحو الأربعين سنة من العمر تمكن زهد الدنيا في قلبه، فصمم على ترك وظيفته وهجر عائلته وبلاده والتنسك في طور سيناء حيث كلم الله موسى، فترك ماله كله لامرأته وبنته، وأخذ ابنه واسمه عبد الله وذهب به إلى طور سيناء، وذلك في نحو سنة 395م، وأقام هناك قرب مغارة إيليا النبي في الأرجح إلى أن مات في نحو سنة 411م، وقد كتب عدة رسائل ونسكيات روحية مشهورة، وكتب عن غزوة غزاها العرب لرهبان سيناء في عهده، فنقل لي المطران بورفيريوس الثاني مطران سيناء الحالي خلاصة ما كتبه عن هذه الغزوة. قال: روى نيلس:
إنه في ليلة الأحد الواقع في 11 يناير سنة 400م نزلت أنا وابني من الجبل إلى كنيسة العليقة، حيث اجتمع الرهبان للصلاة، وبقينا نصلي إلى الصباح، إذ هجم علينا جماعة من العرب فقتلوا منا الكاهن ثيوذولس والراهبين بولس وحنا، وأخذوا ابني عبد الله أسيرا، وكان بين شيخ العرب وشيخ فيران عهد صلح لتأمين طريق التجارة، فذهبت ليلا إلى شيخ فيران وأخبرته بما كان من غدر العرب وأسر ابني، فأرسل وفدا إلى شيخ العرب في طلب الترضية، وعدت إلى الجبل فوجدت العرب قد قتلوا سبعة رهبان آخرين في ضواحي العليقة، وعاد الوفد إلى فيران بعد أربعة أيام وقال: إن شيخ العرب أظهر مزيد الأسف مما جرى، وتعهد بكل ما يرضي الفارانيين، وأما ابني فقال: إنه لا يزال حيا، ولكنه لا يعلم أين هو، فلما رجع الوفد إلى شيخ العرب بمطالب الفارانيين صحبته للتفتيش عن ابني، وفي الطريق التقيت بدويا أخبرني أن ابني في الخلصة قرب بئر السبع، فأخذت دليلا وجئت الخلصة، فوجدت ابني في كنيستها فوقعت عليه أقبله، وسألته عما جرى له مع العرب، فقال:
كان العرب الغزاة قد أسروا معي عبدا لأهل فيران، فسمعهم في الطريق يقولون: إنهم سيقدمونني أنا وإياه ذبيحة «لنجمة الصبح» التي كانوا يعبدوها، فلما نزلوا للمبيت فر العبد وبقيت أنا وحدي أبكي الليل كله وأصلي إلى الله لينقذني من أيدي أولئك القساة، وكانوا قد سكروا تلك الليلة فناموا إلى ما بعد شروق الشمس، أي بعد فوات وقت الذبيحة، فأخذوني إلى سوق وباعوني عبدا لبعض التجار، فافتداني مطران الخلصة منه، وجعلني في هذه الكنيسة خادما. قال نيلس: فشكرت المطران وشكرت الله على نعمه، وعدت بابني إلى طور سيناء مسرورا. ا.ه.
هذا وكان نيلس يفاخر اليهود بقوله: «إنه بالرغم عن النكبات والاضطهادات التي كانت تحل بالرهبان فإنهم قضوا أيامهم راضين فرحين في نفس الصحراء التي لم يستطع شعب الله الخاص أن يمر بها مرورا بلا شكوى ولا تذمر.» ا.ه. (2) أبرشية فيران
والواقع أنه على رغم غزوات العرب وتعدياتهم نرى لرهبان سيناء في بدء القرن السادس للمسيح أبرشية في وادي فيران، فيها عدة أديرة وكنائس، حتى إن المجمع الذي عقد في القسطنطينية في أيام بطريركها «مينا» سنة 536م ضد الهرطوقيين أنتيموس وسافيروس حضره الكاهن ثيوناس نائبا عن أبرشية فيران، وأمضى اسمه في جلسات المجمع هكذا: «أنا ثيوناس الكاهن بنعمة الله، النائب عن رهبان طور سيناء، وراية وأبرشية فيران المقدسة.»
وكانت أبرشية فيران قبل هذا العهد تابعة لأبرشية البتراء كما مر، إلى أن خمد ذكر البتراء في آخر عهد الإمبراطور فالنس الروماني (365-378م) فغدت أبرشية قائمة بذاتها. (2-1) خبر أنطونيوس الشهيد
وزار أنطونيوس الشهيد سيناء في القرن السادس للمسيح بعد بناء الدير بقليل، وكتب رحلته إليها فقال: «إنه رأى كثيرا من مغاور النساك عند جبل سيناء وجبل حوريب، وإن عرب البادية أقاموا على جبل حوريب صنما من الرخام الأبيض كان يتغير لونه في أثناء احتفالهم بتكريم القمر! وإنه رأى المن الذي كان يهبط من السماء في الوادي بين جبل حوريب وجبل سيناء، وذكر كيف كان الرهبان يجمعونه ويأتون به إلى الدير، وهناك يضعونه في علب صغيرة ويقدمونه للزوار بركة، وقد أعطوا منه شيئا لأنطونيوس وصنعوا منه شرابا وقدموه له فشرب منه.
ثم ذكر أنطونيوس سفره من جبل حوريب إلى جبل سيناء وقال إنه عندما اقترب من جبل سيناء استقبله عدد لا يحصى من الرهبان يحملون الصليب وينشدون المزامير، ولما وصلوه انطرحوا على الأرض، وكذلك فعل أنطونيوس ورفاقه وبكوا جميعا.
ثم دخل أنطونيوس الدير فأراه الرهبان النبع الذي رأى موسى عنده العليقة، وكان للدير ثلاثة رؤساء: رئيس يعرف اللاتينية وآخر اليونانية وثالث مصري.
ثم صعد أنطونيوس إلى قمة جبل سيناء في سلم عظيم له ستة آلاف درجة، فلما وصل وسط الطريق رأى غار إيليا النبي، وفي قمة الجبل رأى كنيسة صغيرة مساحتها 6 أقدام مربعة، قال: ولم يكن أحد يجسر أن يقيم هناك، ولكن كان من عادة الرهبان أن يتسلقوا القمة عند الفجر ويصلون، وكان من عادة الزوار أن يحلقوا شعور رءوسهم ولحاهم، فحلق أنطونيوس شعر رأسه ولحيته.» (3) خبر بناء الدير ورجال حاميته المعروفين بالجبالية
بقي رهبان سيناء يقاسون الشدائد من اعتداء البدو عليهم إلى عهد الإمبراطور يوستنيانوس الروماني الذي حكم في القسطنطينية من أول أبريل سنة 527 إلى سنة 566م، فسمعوا بغيرته على الدين وأهله، فأرسلوا إليه وفدا يسألونه أن يبني لهم حصنا يقيهم هجمات البدو، وكان الرومان قد هجروا حصن البتراء من عهد الإمبراطور فالنس، وبطلت طريق البتراء التجارية إلى مصر بسبب تحويل التجارة من خليج فارس إلى تدمر كما مر، وأصبح البدو من البحر الميت إلى البحر الأحمر يعيثون وينهبون بلا وازع، فرأى الإمبراطور يوستنيانوس وجوب حماية الرهبان وتأمين طريق مصر من العقبة، فأجاب طلب الرهبان وأرسل مهندسا وبنائين، فبنوا الدير الحالي وكان الفراغ من بنائه نحو سنة 545م كما قدمنا في باب الجغرافية.
وبعد بناء الدير أرسل الملك يوستنيانوس مائتي رجل بعائلاتهم حامية له، أي مائة رجل من بلاد الروم ومائة رجل من مصر، وأمر بمرتب من الحبوب يرسل إليهم سنويا من مصر لقوتهم، فسكنوا محلة بنوها لأنفسهم في جوار الدير، وكانوا كلهم يدينون بالنصرانية.
ثم كان الإسلام في جزيرة العرب سنة 622م، وفتح العرب المسلمون مصر سنة 640م، وانقطع الزاد الذي كان يرسل إلى الحامية من مصر، ولم يكن للدير طاقة على إمدادها بالقوت، ولا في طاقتها حماية الدير بعد ذهاب دولتها، فاضطر رجالها إلى ترك محلتهم عند الدير وسكنوا البادية حول الدير، ودخلوا في الإسلام، وذلك من عهد بعيد، ولكنهم ما زالوا يعيشون في جوار الدير ويخدمون الرهبان بأجرتهم، والرهبان يحسنون إليهم ويأخذون بناصرهم إلى اليوم، وقد عرفوا بالجبالية نسبة إلى جبل موسى، ويعرفون أيضا بصبيان الدير؛ لأنهم في خدمته.
واطلعت في الدير على خبر وضعه الرهبان عن بناء الدير والجبالية في دفتر صغير (منقول عن الدفتر الكبير عن سنة 530م) فآثرت إثباته هنا زيادة في التبيان، وهذا هو بنصه بعد ضبط عبارته:
نقول نحن القسوس والرهبان القاطنين في طور سيناء: إننا لم نعد نستطيع احتمال اضطهاد العربان الغرباء الذين كانوا يأتوننا من البحر الأحمر والحبشة ومن كل ناحية، ينهبوننا ويذبحوننا ويفعلون بنا كل الشرور التي يلهمهم بها الشيطان، وقد نصحنا الزوار الذين كانوا يأتون من كل الجهات لزيارة الأماكن المقدسة أن نرسل وفدا إلى الملك يوستنيانوس في القسطنطينية ليبني لنا حصنا يقينا هجمات العرب، لذلك اجتمعنا يوما ما في جبل الله الذي كلم عليه سيدنا موسى، واخترنا أناسا منا يذهبون إلى الملك ويلتمسون منه بناء الحصن، وهم الشيخ المتوحد ثاوضوسيوس وبروكوبيوس وبخوميوس وأنطونيوس وسابا، فسافروا بحرا إلى القسطنطينية ودخلوا على الملك وقدموا له الدعاء والصلوات المرسلة من الآباء، وخروا أمامه ساجدين وبكوا بكاء مرا وأخبروه بجميع الشرور التي يأتيها البربر ضدنا من النهب والذبح، فرحب الملك بهم وبالغ في إكرامهم وأجابهم إلى طلبهم، فأرسل كبير أراخنته جاورجيوس وأرسل معه كتابا بختم يده إلى نائبه في مصر ثاودورس يأمره بأن يجهز جاورجيوس بما يلزم من المال والمعلمين والأدوات لبناء الحصن، ففعل ثاودورس بأمر الملك ووصل الأرخن جاورجيوس إلينا ومعه كل ما يلزم الحصن من بنائين وأدوات وأموال، وبحث في كل الجهات فلم يجد مكانا يبني عليه الحصن أفضل من مكان العليقة؛ لأنه في بسيط من الأرض وفيه الماء وهو موضع مقدس فبنى عليه الحصن وهو الدير الحالي.
على أن هذا الحصن لم يق الرهبان وزواره من اعتداء البدو؛ لأن هؤلاء كانوا يختبئون في المغاور والجبال، وكلما وجدوا زائرا أو راهبا منفردا انقضوا عليه وقتلوه وسلبوه ماله، فلما بلغت هذه الأخبار الملك يوستنيانوس؛ أحضر من بلاد الفلاح جهة البحر الأسود مائة رجل بعائلاتهم، وأرسلهم إلى سيناء، وكتب إلى ثاودورس نائبه في مصر فأرسل إليها أيضا مائة رجل بعائلاتهم، فبنى الجميع لهم محلة وراء الجبل الشرقي على نحو ثمانية أميال من الدير، وسكنوا فيها وأقاموا هناك في حراسة الدير وخدمة الرهبان، وأمر الملك يوستنيانوس أن يكونوا عبيدا للدير وفي طاعة الرهبان هم وأولادهم إلى أن يرث الله الأرض وما عليهم، ومن أخطأ منهم فللرهبان الإذن في تأديبه ومجازاته.
ولما كان القفر يابسا لا يخرج معاشا أصدر الملك أمره إلى ثاودورس والي مصر أن يجعل للدير راتبا مستديما قدحا من كل إردب من كل الحبوب كالقمح والشعير والعدس وغيرها؛ لأجل مئونة الرهبان وخدمة الدير، وقد أقر هذه العطية الملوكية بعد ذلك الرسول محمد أول ملوك الإسلام كما هو مثبت في العهدة التي أعطاها للرهبان.
وبقي الصبيان محافظين على دينهم وأمانتهم في طاعة الدير إلى أن قدم السلطان سليم مصر فاتحا، وذهب عربان البر من كل جنس إلى مصر لتقديم الطاعة له، فذهب صبيان الدير معهم وقالوا للسلطان: جئنا إليك لندخل في دين الإسلام ونخرج من خدمة الدير، فأجابهم السلطان : أما أن تدخلوا في دين الإسلام فحسنا تفعلون، وأما أن تخرجوا من خدمة الدير فلا؛ لأن أوامر الملوك لا تنقض؛ لأني إن أنا نقضت أمر الملك يوستنيانوس يأتي غيري بعدي فينقض أمري، ثم أمر فدخلوا في دين الإسلام وبقوا في خدمة الدير، وقد ثبت جميع الهبات التي وهبها الملك يوستنيانوس لرهبان الدير، وكتبها النبي محمد في عهدته. ا.ه.
واطلعت في الدير على رواية أخرى لبناء الدير والجبالية مكتوبة على رق سعته شبران وقبضة في نحو شبرين، وهي تختلف عن هذه الرواية في التعبير وتتفق في المبنى، ومما جاء فيها ولم يكن في الرواية الأولى «أن المهندس بنى أولا كنيسة مار أثناسيوس ودير راية وكنيسة على رأس جبل المناجاة، ثم بنى دير طور سيناء، وأنه أراد أولا أن يبني هذا الدير فوق جبل سيناء، ثم لما لم يجد ماء فوق الجبل بناه في مكانه الحالي وهو في واد ضيق بين جبلين يكشفه الجبل الشرقي، فإذا صعد أحد إلى هذا الجبل ورمى حجرا وقع في الدير، فلما عاد المهندس إلى الملك يوستنيانوس ووصف له موضع الدير غضب من بنائه في موضع مكشوف للعدو، وأمر بضرب عنقه.
وأن السلطان سليما فرض على الجبالية نقل تسعين حمل جمل كل سنة من شون مصر إلى الحرمين إكراما لفقراء الحرمين، فبقوا على ذلك مائة سنة ونيفا حتى ضجوا من هذه السخرة والتمسوا من الرهبان مساعدتهم على الخلاص منها، فبذل الرهبان مالا جزيلا وأراحوهم منها منذ تسعين سنة.» ا.ه.
وقد وقع هذا الخبر الرئيس جرمانوس، والأقلوم رومانوس، والراهب توما الشامي، وغيرهم من القسس والرهبان ومشايخ العرب، وعدد الكل 12 رجلا.
ويؤخذ من حواشي معلقة على بعض كتب الدير «أن الصبيان قديما اقتتلوا فيما بينهم، فقتل البعض وفر البعض إلى بلاد الشام، والذين بقوا عجزوا عن حماية أنفسهم من العربان فضلا عن حماية الدير، فعقد الرهبان مجلسا في جامع الدير، حضره بعض مشايخ الزهيرات (من أولاد سعيد) والعوارمة، وجعلوا الصبيان في حمى المحاسنة (فرع من العوارمة)، وأعطى الرهبان المحاسنة مقابل حمايتهم للصبيان بستانا لهم في جبل الفريع يستغلونه، ولكن المحاسنة استملكوه ولا يزال في حوزتهم إلى اليوم.» (4) العهدة النبوية
تقدم في باب الجغرافية أن في دير طور سيناء صورة «عهد» قديم منسوب إلى محمد نبي الإسلام يعرف «بالعهدة النبوية»، وفي تقاليد رهبان هذا الدير أن النبي محمدا كتب لهم هذا العهد في السنة الثانية للهجرة أمانا لهم وللنصارى كافة على أرواحهم وأموالهم وبيعهم، وأن السلطان سليما العثماني عند فتحه مصر سنة 1517م أخذه منهم وحمله إلى الآستانة وترك لهم صورة مع ترجمتها في التركية.
وقد رأيت في دير طور سيناء وفي وكالته في مصر القاهرة عدة صور لهذه العهدة بالعربية والتركية، بعضها منسوخ في كتاب صغير، وبعضها على رق غزال، وكل صورة من هذه الصور تختلف عن الأخرى قليلا، وفي كل منها أغلاط تدل على أن النساخ الذين نسخوها كانوا أعاجم أو عربا يجهلون قواعد اللغة العربية، وأصح هذا النسخ وأقدمها ثلاث مكتوبة في 3 كراريس صغيرة بالعربية والتركية ومحفوظة في وكالة الدير بمصر القاهرة، وقد وسمت بالأحرف الإفرنجية
A. B. C.
حسب قدميتها، وأقدمها الموسومة بحرف
A ، وهذه صورتها مع تصحيح أغلاط النسخ في الحاشية:
بسم الله الرحمن الرحيم وبه العون. نسخة سجل العهد، كتبه محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى كافة النصارى.
هذا كتاب كتبه محمد بن عبد الله إلى كافة الناس أجمعين، بشيرا ونذيرا ومؤتمنا على وديعة الله في خلقه؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما، كتبه لأهل ملته ولجميع من ينتحل دين النصرانية من مشارق الأرض ومغاربها قريبها وبعديها، فصيحها وعجميها، معروفها ومجهولها، كتابا جعله لهم عهدا، فمن نكث العهد الذي فيه وخالفه إلى غيره وتعدى ما أمره كان لعهد الله ناكثا ولميثاقه ناقضا وبدينه مستهزئا، وللعنة مستوجبا، سلطانا كان أم غيره، من المسلمين المؤمنين، وإن احتمى براهب أو سايح في جبل أو واد أو مغارة أو عمران أو سهل أو رمل أو ردنة أو بيعة، فأنا أكون من ورائهم ذابا عنهم من كل عدة لهم بنفسي وأعواني وأهل ملتي وأتباعي؛ لأنهم رعيتي وأهل ذمتي، وأنا أعزل عنهم الأذى في المؤن التي يحمل أهل العهد من القيام بالخراج إلا ما طابت به نفوسهم، وليس عليهم جبر ولا إكراه على شيء من ذلك، ولا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا حبيس من صومعته ولا سايح من سياحته، ولا يهدم بيت من بيوت كنايسهم وبيعهم ولا يدخل شيء من بناء كنايسهم في بناء مسجد، ولا في منازل المسلمين، فمن فعل شيئا من ذلك فقد نكث عهد الله وخالف رسوله، ولا يحمل على الرهبان والأساقفة ولا من يتعبد جزية ولا غرامة، وأنا أحفظ ذمتهم أين ما كانوا من بر أو بحر، في المشرق والمغرب والشمال والجنوب، وهم في ذمتي وميثاقي وأماني من كل مكروه، وكذلك من يتفرد بالعبادة في الجبال والمواضع المباركة لا يلزمهم مما يزرعوه ولا خراج ولا عشر، ولا يشاطرون لكونه برسم أفواههم، ويعاونوا عند إدراك الغلة بإطلاق قدح واحد من كل إردب برسم أفواههم، ولا يلزموا بخروج في حرب ولا قيام بجزية ولا من أصحاب الخراج وذوي الأموال والعقارات والتجارات مما أكثر من اثنا عشر درهما بالجمجمة في كل عام، ولا يكلف أحدا منهم شططا، ولا يجادلوا إلا بالتي هي أحسن، ويحفظ لهم جناح الرحمة ويكف عنهم أذى المكروه حيث ما كانوا وحيث ما حلوا، وإن صارت النصرانية عند المسلمين فعليه برضاها وتمكينها من الصلاة في بيعها، ولا يحيل بينها وبين هوى دينها، ومن خالف عهد الله واعتمد بضده من ذلك فقد عصى ميثاقه ورسوله، ويعاونوا على مرمة بيعهم وصوامعهم، ويكون ذلك معونة لهم على دينهم وفعالهم بالعهد، ولا يلزم أحدا منهم بنقل سلاح، بل المسلمين يذبوا عنهم ولا يخالفوا هذا العهد أبدا إلى حين تقوم الساعة وتنقضي الدنيا، وشهد بهذا العهد - الذي كتبه محمد بن عبد الله رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لجميع النصارى والوفاء بجميع ما شرط لهم عليه - من أثبت اسمه وشهادته آخره:
علي بن أبي طالب
أبو بكر بن أبي قحافة
عمر بن الخطاب
عثمان بن عفان
أبو الدرداء - أبو هريرة
عبد الله بن مسعود
العباس بن عبد المطلب
فضيل بن عباس
الزبير بن العوام
طلحة بن عبد الله
سعيد بن معاذ
سعيد بن عبادة
ثابت بن نفيس
زيد بن ثابت
أبو حنيفة بن عبية
هاشم بن عبية
معظم بن قرشي
حارث بن ثابت
عبد العظيم بن حسن
عبد الله بن عمرو العاص
غاز بن ياسين
وكتب علي بن أبي طالب هذا العهد بخطه في مسجد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بتاريخ الثالث من المحرم ثاني سني الهجرة، وأودعت نسخته في خزانة السلطان وختم بخاتم النبي، وهو مكتوب في جلد أدم طايفي، فطوبى لمن عمل به وبشروطه ثم طوباه وهو عند الله من الراجين عفو ربه، والسلام.
نقلت هذه النسخة التي نقلت من النسخة المنقولة الكائنة بخط أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - بالأمر الشريف السلطاني لا زال نافذا بعون المعين السبحاني، ووضعت في أيدي طايفة الرهبان القاطنين بجبل طور سيناء لكون النسخة المنقولة من النسخة الكائنة بخط أمير المؤمنين «ضائعة»، وليكون سندا على ما يشهد به المراسيم السلطانية والمربعات والسجلات التي في أيادي الطايفة المزبورة. ا.ه.
وهذه النسخة مذيلة بختم المولى بمصر المحروسة، وتصديقه بخطه غير المنقوط هكذا:
حرر بأمري وقرر بمعرفتي، راجعي العفو إلى العلي العلام محمد بن عبد القادر المولى بالمحروسة مصر، حميت عن البلية والإحن، عفي عنهما. ا.ه.
الختم
الواثق بالملك الأقدر محمد بن عبد القادر
ويقول بعض العارفين: إن هذا المولى قام على مصر في عهد السلطان سليمان الثاني سنة 926-974ه/1520-1566م. •••
وأما النسخة الثانية التي في وكالة الدير الموسمة بحرف
B
فقد ذيلت بما يأتي:
صورة نقلت عن الأصل بدون الفصل والوصل، نمقه أضعف عباد الباري نوح بن أحمد الأنصاري، القاضي بمصر المحروسة، عفي عنهما. ا.ه.
الختم
وقد سعيت لدى المحكمة الشرعية بمصر لمعرفة مدة هذا القاضي فلم أوفق إلى ذلك. •••
وفي الدير نسخة عرفت بالنسخة الطورية تختم بعد قوله: «عفو ربه والسلام» بالعبارة الآتية:
وفي الأصل المنقول منه هذه النسخة المتوجه بالنشان الشريف السلطاني ما صورته:
نقلت هذه النسخة من النسخة التي نقلت من النسخة المنقولة من النسخة الكاينة بخط أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - بالأمر الشريف السلطاني لا زال نافذا بعون المعين السبحاني، ووضعت في أيدي طايفة الرهبان القاطنين بجبل طور سيناء؛ لكون النسخة المنقولة من النسخة الكاينة بخط أمير المؤمنين «باقية»، وليكون سندا على ما تشهد به المراسيم السلطانية والمربعات والسجلات التي في أيدي الطايفة المزبورة.
تمت وسطرت هذه النسخة في ثاني رجب المرجب سنة 968 / 19 مارس 1561م، ما تضمنته هذه العهدنامة المنسوبة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في حق طايفة القسيسين والرهبان على وفق الشروط، والله أعلم بالصواب. ا.ه.
الختم
طه بن محمد سعد
هذه صورة العهدة المحفوظة في الدير إلى اليوم ، ولا سبيل لنا إلى الأصل الذي يقال: إنه صدر عن النبي، بل لا سبيل لنا إلى الصورة الأصلية التي قيل إنها أعطيت إلى الرهبان عوضا عن الأصل لكثر النسخ التي في أيدي الرهبان واختلاف بعضها عن بعض، وعدم الاهتداء إلى تاريخ لكل منها؛ لذلك أنكر بعض الباحثين، وفي جملتهم البحاثة أحمد زكي باشا سكرتير مجلس النظار، صحة هذه العهدة وصدورها عن النبي، وقالوا: إن رهبان سيناء اختلقوها للاستعانة بها على دفع ظلم الحكام والغوغاء، وقد أيدوا قولهم هذا بثلاثة أسباب مهمة، وهي: (1)
أن لغة العهدة تختلف عن لغة عصر النبي، ففيها من التراكيب والألفاظ ما لم يكن مألوفا في ذلك العصر. (2)
أنها مؤرخة في السنة الثانية للهجرة، مع أن الهجرة لم يؤرخ لها إلا في السنة الثامنة عشرة، أي بعد وفاة النبي بسبع سنين، فضلا عن أن بعض الشهود المذكورين في ذيل هذه العهدة كأبي هريرة وأبي الدرداء لم يكونوا قد أسلموا في السنة الثانية للهجرة. (3)
أن مؤرخي الإسلام الذين أحصوا كل قول أو أثر للنبي لم يذكروا هذه العهدة ولا أتوا بأقل إشارة تدل عليها. ودفعا لهذه الأسباب نقول: (أ)
إن الرهبان لا يدعون أن هذه العهدة هي الأصل الذي صدر عن النبي ولا صورة طبق الأصل، بل هي الصورة التي أعطيت لهم بعد أخذ «العهد» منهم. (ب)
إن ثاني سني الهجرة ليس هو تاريخ الأصل، بل إن العهدة التي بأيدينا تذكر أن الأصل أعطي في ثاني سني الهجرة، والظاهر أنه ثامن لا ثاني سني الهجرة فحرفه النساخ، ومثل هذا التحريف كثير الاحتمال جدا لا سيما من النساخ الأعاجم. (ج)
إن عدم ذكر أحد المؤرخين للأصل لا يطعن بصحته؛ لأنه لا يمكن أن يكون المؤرخون قد أحصوا كل أثر للنبي، وقد حفظ هذا العهد في الدير إلى أن أخذ منهم، فكان يشار إليه في كل فرمان أو منشور أعطي للرهبان إلى اليوم كما سيجيء.
إذن فالأسباب التي يقدمها المنكرون - على أهميتها - لا تنفي أصل العهدة وصدورها عن النبي، ومن المحتمل جدا أن يكون النبي قد أعطى رهبان سيناء عهدا بقي معهم إلى أن أخذه منهم أحد السلاطين السالفين، وعوضهم عنه عهدا بروح العهد النبوي ولغة ذلك العصر مع تفصيل اقتضاه الزمان والحال، وهو العهدة التي بيد الرهبان، وتأييدا لذلك نقول: من المعلوم أن دير طور سيناء هو في طريق بلاد العرب إلى مصر، وقد تبين من أخبار نيلس الراهب قبل بناء الدير أنه كان بين شيخ فاران في الجزيرة وشيخ العرب شرقيها عهد لتأمين الطريق، وبعد بناء الدير سنة 545م وانتقال أبرشية فيران إلى طور سيناء أصبح النظر في عقد العهد مع العرب من خصائص رهبان الدير، ولما قام النبي محمد في جزيرة العرب سنة 622م أصبح هو المرجع الأعلى للعرب كافة.
ويدل تاريخ الإسلام أنه في السنة السابعة للهجرة سنة 628-629م أرسل النبي محمد كتبه إلى الملوك والأمراء مثل كسرى وقيصر والمقوقس نائب الرومان في مصر يدعوهم إلى الإسلام، وأن المقوقس أكرم رسول النبي وزوده بالهدايا إلى النبي، وليس لرسول النبي طريق إلى مصر أخصر من طريق سيناء المار بالدير ، فمن المعقول جدا أن يكون الرسول قد مر بدير سيناء ذهابا وإيابا، وأن رهبان سيناء قد احتاطوا لأنفسهم وأرسلوا معه وفدا يطلع النبي على حال ديرهم ويطلب منه العهد تأمينا للطريق وصيانة لديرهم ومصالحهم، هذا من جهة الرهبان، وأما النبي محمد فيحتمل جدا أن يكون قد أعطاهم العهد وأمنهم وأوصى بهم خيرا للأسباب الآتية:
أولا:
أن دير طور سيناء هو في طريق مصر من بلاد العرب، ومن مصلحة العرب كما هو من مصلحة الرهبان تأمين الطريق إلى مصر.
ثانيا:
أن التاريخ يدلنا أن النبي قد حبب إليه النسك والزهد، وكان كثيرا ما يذهب إلى غار حراء قرب مكة ليتعبد ويذكر الله فيه، حتى بعث للناس بشيرا ونذيرا؛ لذلك كان يميل إلى الرهبان والنساك ويوصي بهم خيرا، جاء في سورة المائدة:
لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ، وقد ورث النبي هذا الميل لخلفائه من بعده، خطب أبو بكر الصديق في جيشه عند إرساله لفتح سوريا فقال:
إذا لقيتم العدو فقاتلوه مستبسلين والموت أولى بكم من القهقرى، وإذا انتصرتم فلا تقتلوا الشيوخ ولا النساء ولا الأطفال، ولا تقطعوا النخيل، ولا تحرقوا الزرع، ولا تذبحوا من الماشية إلا ما كنتم في حاجة إليه لقوتكم، وأمنوا من ذل لكم ورغب في أداء الجزية، ولا تخلفوا وعدكم ولو لأعدائكم، «وسترون في طريقكم رجالا متوحدين ناسكين، فاحتفظوا بهم ولا تمسوا أديارهم بضرر»، وأهلكوا اليهود إلا أن يسلموا.
ثالثا:
لقد جرت عادة النبي وخلفائه من بعده إعطاء العهود للنصارى، ومعاملتهم بروح التسامح، من ذلك: (أ)
عهد النبي لأهل أيلة، وقد مر ذكره برمته. (ب)
عهد النبي لأهل أذرح ومقنا. (ج)
عهد خالد بن الوليد لأهل القدس. (د)
عهد أبي عبيدة لأهل بعلبك. (ه)
عهد عبد الله بن سعد لعظيم النوبة.
رابعا:
أن رهبان طور سيناء قد سكنوا أرضا يقدسها اليهود والنصارى والمسلمون والوثنيون على السواء، وفي تقاليد بدو سيناء والرهبان أن النبي زار طور سيناء بنفسه وترك فيه أثرا كما مر، وقد ذكر النبي طور سيناء مرارا في القرآن الكريم ودل على أنه يقدسه كما سيجيء، فيبعد جدا أنه يخيب طلب سكانه، ولا سيما الرهبان والنساك الذين كان من طبعه الميل إليهم، مع أنه أعطى العهد لجيرانهم أهل أيلة كما قدمنا.
خامسا:
أن سلاطين المسلمين منذ القديم أقروا هذه الامتيازات المبينة في العهدة التي بين أيدينا، وذكروها في فرماناتهم ومنشوراتهم لمطارنة الدير، بل ذكروا أنهم إنما أعطوهم هذه الامتيازات بناء على العهد الذي أخذوه عن النبي وأيده الخلفاء الراشدون، وأقدم ما وصل إلينا من تلك المنشورات منشور الإمام العاضد لدين الله أبي محمد عبد الله آخر الخلفاء الفاطميين (556-567ه/1160-1171م)، وهذا المنشور يشير إلى «مرسوم» أخذه الرهبان من الأيام الحاكمية أي الحاكم بأمر الله (386-411ه/996-1021م)، وعليه جرى جميع السلاطين المسلمين الذين أتوا بعدهما إلى زمان المطران الحالي، بل نرى أن نابوليون بونابرت وقواده عند دخولهم مصر منحوا الرهبان نفس الامتيازات التي منحهم إياها السلاطين المسلمون كما سيجيء.
سادسا:
أنه لا يعقل أن قوما مستضعفين كرهبان سيناء يقدمون في وسط بلاد إسلامية على اختلاق عهد عن لسان نبي الإسلام لا أصل له البتة، ويطلبون فيه من السلاطين المسلمين الامتيازات الجمة، بل لو أقدم رهبان سيناء على مثل هذا العمل فلا يعقل أن سلاطين الإسلام من عهد الخلفاء الراشدين أو من عهد الحاكم بأمر الله إلى هذا العهد يقرون رهبان سيناء على ما اختلقوه، ويمنحونهم من الامتيازات ما فيه خسارة لبيت المال بدون تثبت أو تحقيق عن الأصل، والأقرب إلى العقل أن يكون لهذه العهدة أصل تاريخي، فإذا لم يكن رهبان سيناء قد نالوا عهدا كأهل أيلة، فلا يبعد أن يكون العهد الذي أخذه أهل أيلة قد شمل رهبان طور سيناء أيضا؛ لأن أيلة كانت في ذلك العهد بعد انحطاط البتراء الملجأ الأكبر للنصارى في تلك الجهات، وأن هذا العهد حفظ في الدير إلى أن أخذ منهم، وعوضوا عنه العهدة التي بين أيديهم، والله أعلم.
ولنذكر الآن بعضا من الآيات القرآنية التي ذكر فيها جبل الطور وسيناء، والمنشورات السلطانية المشار إليها آنفا تأييدا للعهد النبوي:
الآيات التي ذكر فيها جبل الطور وسيناء في القرآن الكريم:
عن سورة البقرة:
وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون .
عن سورة مريم:
وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا .
عن سورة طه:
يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى * كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ...
وهل أتاك حديث موسى * إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى * فلما أتاها نودي يا موسى * إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى * وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى * إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري .
عن سورة القصص:
وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون .
عن سورة الطور:
والطور * وكتاب مسطور * في رق منشور * والبيت المعمور * والسقف المرفوع * والبحر المسجور * إن عذاب ربك لواقع .
عن سورة التين:
والتين والزيتون * وطور سينين * وهذا البلد الأمين * لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم .
عن سورة المؤمنون:
فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون * وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين . •••
مقتطفات من منشور الإمام العاضد لدين الله أبي محمد عبد الله، كما نقلته سنة 1913 عن درج في وكالة دير طور سيناء بمصر يبلغ طوله نحو عشرة أمتار:
الحمد لله رب العالمين، بسم الله الرحمن الرحيم، منشور، مولانا وسيدنا الإمام العاضد لدين الله أمير المؤمنين، صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه الأكرمين ...
ولما عرضت بحضرتنا رقعة مترجمة باسم مقام أسقف دير طور سيناء ورهبانه، ضمنوها انقطاعهم للعبادة وجريهم فيها على رسم مألوف لهم وعادة، وأن لهم رسوما مقررة من الأيام الحاكمية وبأيديهم سجلات شرفوا بها من هذه الدول العالية العلوية، وسألوا تجديد ما بأيديهم؛ خرج أمرنا بإيداع هذا المنشور ما رسمناه من الوصية بهم، والبعث على رعاية جانبهم، وتسهيل مطالبهم، وحملهم على عاداتهم، وإنالتهم من الاحتفاء بهم؛ غاية إدارتهم وإعانتهم على ما يعود بإصلاح أمورهم، ويوجب انبساط آمالهم، وشرح صدورهم، ورعايتهم حيث كانوا من البلاد، وانتخابهم بما يجمع لهم من الطرايف من الخيرات والبلاد، وحملهم على مضمون ما بأيديهم من إعفائهم مما أحدثه الولاة بالحصون الطورية عليهم من الرسوم لأنفسهم التي يعتنون في طلبها فينفقون بسببها وأن يعفي آثارها، ويمنع العربان من الدخول عليهم في دياراتهم واختطاف ما يحصلونه من أقواتهم ويذخرونه لقرى المجتازين بهم وضيافاتهم، ويحملوا في المسامحات بالحقوق والرسوم والأحكار والمقاسمات والأعشار والمقاطعات على ما تضمنته السجلات النبوية التي بأيديهم، والمنع من التطرق إليها بتبديل، وسد الطريق إلى التأويل؟ في شيء منها، وقطع السبيل ورعاية كافة أصحابهم والمتصرفين في سبلهم والمستخدمين في جباية أجر أحباسهم وحماية أجرايهم في تحصيل المستغلات، وإيناسهم، وكف الضرر عمن يقدم عليهم، وقصر الأيدي المتطاولة إلى أذى من يتوجه إليهم من الأعمال المصرية، ومن يؤمنونه لتحصيل أقواتهم من البلاد القريبة والقصية، ونهي الحاضرة عن إعناتهم والبادية وقصرهم بإبطال الرسوم المحدثة وقصر الأيدي العادية، فمن قرأه أو قرئ عليه من كافة الأمراء وولاة الحرب بالشرقية أدام الله تأييدهم وولاة الحصون الطورية أدام الله عزهم وجميع المشارفين النواب والحماة والشاكين والمتصرفين أجمعين؛ فليعمل الممثل فيه ولينتبه إلى ما يوجبه حكمه ويقتضيه، وليحذر من تجاوزه وتعديه بعد ثبوته بالدواوين بالحضرة المطهرة صلوات الله عليها، وإقراره بأيديهم بعد العمل بمقتضاه والانتهاء إلى مضمونه وفحواه إن شاء الله تعالى.
حرر في جمادى الآخرة من سنة أربع وستين وخمسمائة. ا.ه.
مارس 1169م
ترجمة فرمان السلطان مصطفى الأول بن محمد إلى المطران غفريل الرابع سنة 1618م:
إلى أكابر قضاة بلاد الروملي والأناضول والقطر المصري ومصر المحروسة، وإلى أعاظم قضاة ولاية دمشق الشام التي يفوح عبيرها كنفح الجنان ، ومدينة بغداد التي تحاكي الفردوس، وإلى نخبة قضاة سائر الأقطار الإسلامية قادة قضاة الإسلام، وإلى القضاة ونوابهم، وإلى جباة الأموال والمأمورين العسكريين ومديري الجمارك والمواني، ونظار بيت الأمانة وسائر رجال السلطة، زادهم الله اقتدارا.
عند وصول فرماني الملوكي هذا ليكن معلوما بأن القسيس غفريل مطران دير طور سيناء القائمة أساساته على ذلك الجبل المبارك من قديم الزمن قد رفع إلى سدتنا الملوكية التماسا مختوما منه، مستعطفا استصدار فرمان مقدس طبقا للصكوك التي بيد رهبان دير طور سيناء، وكنص العهد المقدس المنعم به على أولئك الرهبان من سيد الأنبياء «محمد» يوم قاموا للقائه، ورضوا بالحال التي قر عليها الأقوام غير المسلمين، عندما كان قاصدا البرية المقدسة وزار قبر كليم الله «موسى» عليه السلام، ثم وصل بركابه الشريفة إلى طور سيناء، وعلى مقتضى الأوامر الكريمة الممنوحة لهم من الخلفاء صلوات الله عليهم جميعا، ومن السلاطين السابقين حماة الدين ... وبالجملة فمن فحوى هذه الصكوك وسجلاتها وشروحاتها المحفوظة في الدفترخانة الملوكية ... وبموجب معاهدة مقدسة احتفظ بها رهبان الديرين القائمين على جبل موسى عليه السلام في طور سيناء، منذ العصور الجاهلية لا يجوز لأحد من المأمورين العسكريين ولا من رجال السلطة أن يتصدوا لرهبان أو قسوس أو مستوطني الديرين المذكورين حال سفرهم أو زيارتهم لبلاد الروملي والأناضول ومصر ودمشق وجهات البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود، وسائر المدن والبلاد والقرى التي في الولايات الإسلامية، أو عند تأدية طقوسهم الدينية، وعند جبي الصدقات من النصارى لأجل قوت وكساء الفقراء القاطنين في الديرين المذكورين؛ ولأجل قوت الأغراب الذين يحجون إلى ديرهم، ولا يكلف رهبان ذينك الديرين في أي صقع من الأصقاع بدفع عوائد شخصية أو ضريبة، ولا تضرب عوائد أو رسوم جمركية على بضائعهم.
ثم عند حصول وفاة أحدهم لا يجوز لمقسمي المواريث أو نظار بيت الأمانة أو أي موظف آخر التدخل في الممتلكات أو الأمتعة المخلفة عن المتوفى؛ لأن ممتلكات الرهبان المتوفين تصبح ملكا للرهبان الأحياء، كما وأن رهبان هذين الديرين لهم حق الامتلاك بطريق الوقف في أديرتهم وكنائسهم ومزارعهم وفنادقهم وبيوتهم وحقولهم وكرومهم وبساتينهم وسائر ممتلكاتهم من أراض ومراع شتوية ببلاد الروملي والأناضول، ومن كنائس وبساتين النخيل على شاطئ البحر «في مدينة الطور»، ومن أديرة وأملاك موقوفة بحي الجوانية بباب الناصر بعاصمة القطر المصري، ومن جنائن وأراض ومراع شتوية بالإسكندرية ورشيد، وبسائر المواني والأقاليم والمديريات والمدن والبلاد والقرى، ولهم حق الامتلاك في الأملاك والأراضي الملحقة التي ابتاعوها، وفي الأملاك والأراضي الموقوفة أو الموهوبة لهم من المسيحيين بدون معارضة لهم في التصرف فيها من أي كان، وبدون أن تضرب عليهم ضرائب، وألا توضع عليهم مغارم بأي وجه من الوجوه، لا من مديري المديريات ولا الحكمداريين ولا وكلاء المديريات ولا نظار الأوقاف السلطانية ولا الجباة ولا مأموري الإيرادات ولا وكلاء بيت الأمانة ولا محصلي الجزية الشخصية، ولا مفتشي الضرائب ولا من سائر الموظفين الحربيين والملكيين ووكلائهم ...
ولا حق لأي بطريرك أو مطران أو أسقف بأي إقليم أو أية مديرية أن يتدخل في شئونهم أو يستبد بهم؛ لأن هذا من اختصاص الأسقف المعين رئيسا عليهم في الجبل المذكور، ولا يجوز لأي كان أن يكدر صفوهم أو يعاملهم بما يخالف نصوص المعاهدة المقدسة وفرمانات السلاطين السالفين الممنوحة لهم ...
وقد أصدرت أمري لكم حتى تسيروا بمقتضى الأوامر السامية الصادرة من سلفائي الأجلاء، وطبقا لأمري الرفيع القدر مع الاجتناب الكلي لما عساه يكون مخالفا له، فعوا ذلك وثقوا بمرسومي المقدس.
تحريرا في اليوم الحادي عشر من صفر سنة ألف وسبعة وعشرين هجرية ا.ه (الموافق 7 فبراير سنة 1618).
ترجمة فرمان السلطان عبد الحميد إلى المطران بورفيريوس الثاني مطران سيناء الحالي سنة 1904:
الطغراء العثمانية: «الغازي عبد الحميد بن عبد المجيد خان دام نصره.»
عرضت إلينا الخديوية المصرية أن بورفيريورس أفندي رئيس أساقفة طور سيناء استعفى لشيخوخته ومرضه، وأن جماعة رهبان الدير وخوارنته اجتمعوا وانتخبوا في مكانه الأرشمندريت بورفيريورس بوغوتيس أفندي، والتمست منا إصدار براءتنا السلطانية بقبول هذا الانتخاب وتعيين الموما إليه رئيسا مع درج الشروط القديمة، وقد روجعت القيود فوجد أن انتخابهم رئيسا هو من جملة حقوقهم الممنوحة لهم، فلذلك تعلقت إرادتنا السنية بإصدار براءتنا هذه السلطانية بتعيين الأرشمندريت بورفيريورس بوغوتيس أفندي الموما إليه رئيسا لأساقفة دير طور سيناء.
وقد أمرنا بألا يتعرض لهم أحد في ديرهم وكنائسهم وجنائنهم التي في جبل موسى المقدس وطور سيناء، ولا في كنيستهم وجنينة النخيل والزيتون التي على البحر (في مدينة الطور)، ولا في ديرهم في حارة الجوانية بباب النصر في مصر المحروسة، ولا في الوكالتين اللتين لهم عن يمين الحارة المذكورة وشمالها، ولا في المعبد الواقع بجهة كاترينة، ولا في عبادتهم وصلواتهم، ولا في منازلهم ووكالاتهم وغيرها من الأوقاف التي لهم في مصر القاهرة، وألا يدخل محلاتهم ولا يتعرض لهم أحد من خفراء المدينة المذكورة.
وألا يؤخذ منهم رسم ما على بساتينهم وكرومهم وفواكههم ونخيلهم وزيتونهم وجميع حقوقهم ورسومهم وأحكارهم وأعشارهم في بلاد الطور والشام ومصر، وألا يتعرض لهم أحد في حريرهم وأطلسهم الأسود وأوقافهم وكرومهم ومزارعهم التي لهم في جزيرة قبرص، وألا يكلفوا دفع رسوم جمارك أو دخولية في مواني البحر المالح والبحر الغربي في الإسكندرية ورشيد ودمياط وقبرص ودمشق الشام ونديس وحوران وقسطه وغزة وبيروت وصيدا وطرابلس الشام واللاذقية وغيرها من المواني، وألا تؤخذ الرسوم الجمركية على الصابون والزيت والحبوب والنذور والصدقات الواردة لهم من الثغور الإسلامية.
وأن لهم أن يزوروا قمامتهم في دمشق الشام حسب عادتهم القديمة، وأن لا يتعرض لهم أحد في دفن موتاهم ولا يتعرض لقبورهم.
وأن يحصل لهم الحكام فورا كل حق يثبت لهم على تمامه، ويمنعوا الناس من التعرض لهم في ذلك بدون وجه حق، وألا يتعرض لهم في أمورهم أحد من القضاة والميرميرانات والميرلواءات والملتزمين والأمناء والعمال.
وألا يتعرض لهم بطرك الإسكندرية أو غيره من بطاركة الإيالات الأخرى بسوء، ولا أن يتدخلوا في أمورهم بأي وجه من الوجوه، فإنهم مستقلون تحت سيادة رئيسهم.
وحيث إن سيدنا محمدا رسول الله - عليه أفضل الصلاة وأكمل التحية - أعطاهم عهدا مباركا، واتبع مثاله الشريف الخلفاء الراشدون والسلاطين السالفون؛ وتعظيما للعهد النبوي ومحافظته على الأحكام الشرعية بأن الطائفة المذكورة تقيم في الجبل المنوه به بتمام الأمان والاطمئنان، وعملا بموجب العهد النبوي المذكور والبراءات الشريفة والأوامر المنيفة الواجبة الاتباع بألا يتعدى عليهم أحد من الناس ولا يتعرض لهم بسوء، ومن خالف ذلك العهد والأوامر استحق العقاب الشديد والجزاء الصارم؛ لذلك أعطيت براءتي هذه السلطانية لهم للعمل بموجبها.
تحريرا في اليوم الخامس عشر من شهر رمضان المبارك سنة اثنين وعشرين وثلاثمائة وألف ا.ه (23 نوفمبر سنة 1904م).
ترجمة المنشور الذي أصدره نابليون بونابرت لرهبان طور سيناء:
الجمهورية الفرنساوية «حرية ومساواة» مركز رئاسة الجيش.
مصر المحروسة في 29 فريمير من السنة السابعة للجمهورية الفرنساوية المتحدة غير المنفصمة (20 ديسمبر سنة 1799م).
أنا بونابرت أحد أعضاء الجمعية العلمية الوطنية والقائد العام: (1)
حبا بإسداء الجميل إلى دير طور سيناء؛ لينقلوا خبر فتحنا إلى الأجيال المقبلة. (2)
واحتراما لموسى والأمة الإسرائيلية التي يرجع تاريخها إلى أقدم الأجيال. (3)
ولأن دير طور سيناء مأهول بطبقة من الرجال المتنورين والمتهذبين الذين يعيشون وسط سكان البادية الهمج؛ أمرت بما هو آت:
لا يجوز لأعراب البادية المتحاربين أن يمتنعوا أو يحتموا داخل أسوار دير طور سيناء، ولا أن يأخذوا زادا أو شيئا آخر منه مهما كان الحزب الذي ينتمون إليه.
يعين ضابط في الجهة التي يسكن فيها الرهبان لأجل حمايتهم، وعلى الحكومة أن تزيل كل عائق يقف في سبيل ممارسة فرائضهم الدينية.
يعفى الرهبان من دفع الرسوم الجمركية على البضائع وخلافها الصادرة والواردة التي تستعمل في الدير، وخصوصا ما كان له علاقة بتجارة الحرير الذي لهم، وأيضا محصولات أراضي معاهدهم الدينية، وجميع أملاكهم في جزيرتي ساقص وقبرص.
يجب إعفاؤهم من دفع الضرائب والجزية السنوية كالسابق بموجب الحقوق العديدة التي ما زالوا يتمتعون بها.
يبقون متمتعين بسلام بالامتيازات الممنوحة لهم في أنحاء عديدة من سوريا ومصر، سواء كان فيما يختص بأراضيهم أو بمحصولات تلك الأراضي.
في حالة التقاضي يعفون من رسوم المحاكم أو الغرامات التي يفرضها القضاة.
لا يجوز مطلقا منعهم عن تصدير أو مشترى الغلال اللازمة لمئونة الدير.
لا يجوز لأي بطرك أو أسقف أو أي رئيس من الأكليروس الخارج عن رهبنتهم أن يتسلط عليهم أو على ديرهم؛ إذ هذه السلطة تنحصر في يد مطرانهم ومجالس الرهبان في دير طور سيناء.
على كل من السلطتين الملكية والعسكرية أن يمنعوا كل عائق يحول دون تمتع رهبان طور سيناء بحقوقهم وامتيازاتهم المذكورة آنفا.
الإمضاء
بونابرت
ترجمة منشور القائد «داماس» الفرنساوي يخول فيه الرهبان سلطة حبس المعتدين على الدير من العربان، عن الأصل المحفوظ في دير طور سيناء إلى اليوم:
الجمهورية الفرنساوية «الحرية والمساواة» جيش الشرق.
عن مركز القيادة العام في اليوم العاشر من شهر بريمير من السنة الثامنة للجمهورية الفرنساوية المتحدة غير المنفصة (1 نوفمبر سنة 1800م).
من داماس قائد الفيلق ونائب القائد العام أن الجنرال كليبر القائد العام - رغبة منه في تأييد الحماية الممنوحة من الجنرال بونابارت إلى رهبان دير طور سيناء حفظا لأملاكهم وعقاراتهم وصيانة لحقهم في التمتع بها - قد خولهم السلطة بإلقاء القبض على العربان الذين يتجرءون على انتهاك حرمتهم في ديرهم ونهب فواكههم وغلالهم، ووضعهم في السجن، ولكن أوجب عليهم أن يبلغوا دائما القائد العام أسماء الذين يوقعون عليهم الجزاء مع أسماء القبائل التي ينتمون إليها.
الإمضاء
داماس
بعد الاطلاع قد فوضنا تنفيذ المرقوم أعلاه
الإمضاء
قائد اللواء في جيش القائد العام: لكرنج (5) جامع الدير
إنه على رغم وجود العهدة النبوية مع الرهبان، والتسامح الذي يوجبه الإسلام على الحكام المسلمين في معاملة النصارى عموما والرهبان خصوصا، فإن رهبان طور سيناء اضطروا منذ عهد بعيد أن يشيدوا جامعا في وسط ديرهم إلى جانب كنيسته الكبرى لا يزال قائما فيه إلى اليوم كما بينا تفصيلا في باب الجغرافية، وقد عرف هذا الجامع في بعض أوراق الدير بالجامع العمري، حتى ظن بعضهم أن بانيه عمرو بن العاص فاتح مصر سنة 640م، ولكن بناء الدير لا يدل على هذه القدمية ولا بد أن يكون لفظ العمري محرفا عن الآمري، فإن الكتابة على «كرسي الجامع» المتقدم ذكرها تصرح أن باني الجامع هو «الأمير الموفق المنتخب منير الدولة وفارسها أبو المنصور أنوشتكين الآمري»، كما صرحت الكتابة على «منبر الجامع» أن منشئ ذلك المنبر هو «أبو القاسم شاهنشاه» وزير «أبي علي المنصور الإمام الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين سنة 500ه»، وهذان الأثران لا يزالان في الدير إلى اليوم، وقد دلا أن الجامع بني وأثث في عهد الآمر بأحكام الله الفاطمي (سنة 495-524ه/1101-1130م).
ولكن تقاليد الرهبان المحفوظة خطا في الدير تصرح أن هذا الجامع بني في عهد الحاكم بأمر الله (سنة 386-411ه/996-1021م) قالوا:
إنه في نحو سنة 1008م قام على مصر حاكم ظالم غشوم يكره النصرانية يدعى الحاكم، فأمر بهدم جميع الأديرة في مصر وفلسطين حتى كان ما هدم في فلسطين وحدها نحو 400 دير، وسمع بدير طور سيناء فأرسل سرية من الجند يصحبها شيخ عرب سيناء لهدمه، فلما علم الرهبان بخبر السرية فكروا في الحيلة التي تنجيهم، فبنوا جامعا بالطوب الني والحجر الغشيم على عجل، وكان بينهم راهب مصري ذو دهاء وحيلة يحسن العربية يدعى سليمان، فجمع كنوز الدير وذهب معه ثلاثة من شيوخ الدير لملاقاة الجند، فالتقاهم على مرحلة من الدير وسألهم عن الغرض من قدومهم إلى سيناء، فقالوا: إننا آتون بأمر الحاكم لهدم الدير، فقال: إن كان القصد من ذلك الاستيلاء على كنوز الدير، فها هي كنوزه كلها بين أيديكم، وإن كان القصد الرهبان فعندنا عهد من نبي الإسلام يحمينا ويحمي ديرنا، وفوق ذلك ففي الدير الآن جامع تقام فيه الصلاة فيحرم عليكم هدمه دينا، فأخذ الجند الكنوز وتقدموا إلى الدير فرأوا الجامع قائما بجانب كنيسته الكبرى، فعادوا إلى مصر وأخبروا ملكهم بما كان فاكتفى به. ا.ه.
ذكر هذا الخبر المطران نكتاريوس (سنة 1658م) نقلا عن خبر قديم مدون بالعربية في بعض كتب الدير، والظاهر أن المؤرخ العربي خلط بين الحاكم بأمر الله والآمر بأحكام الله، وفي كل حال فإن بناء الجامع من الطوب النيء والحجر الغشيم يدل على أن بناءه كان على عجل، وأن بانيه لم يكن ذا اقتدار وحنكة في البناء.
وقد ظن البعض أن ليس بناء الجامع فقط ، بل أخذ العهد النبوي من الرهبان، وإسلام الجبالية كانا أيضا في عهد الآمر بأحكام الله في مبدأ الحروب الصليبية، والله أعلم.
هذا وفي الدير محررات كثيرة بالعربية والتركية، رسمية وغير رسمية، تدل على اضطهاد حكام الطور والعربان للرهبان منذ تأسيس الجامع، ومحررات أخرى تدل على انتصارهم لهم، وها أنا أذكر مثلا من كل منها:
مثال من المحررات الدالة على اضطهاد حكام الطور لرهبان دير طور سيناء:
عرضحال إلى حضرة مولانا الوزير صاحب الدولة - حفظه الله تعالى وحرسه من كل سوء بمحمد وآله وصحبه أجمعين، آمين.
وبعد، فالمعروض لحضرتكم العلية أن جماعة من الرهبان الذميين قاطنون بدير مبني كالحصار في جبل الطور، وبالدير كنيسة لكفرهم وضرب الناقوس كالكهنة السابقة، وفي وسط الدير المذكور مسجد ومنارة لصلاة المسلمين وإقامة شعائر الإسلام، وكان للمسجد باب متصل لخارج الدير لا يحجب المسلمين عن الصلاة في المسجد، فجعل الرهبان المذكورون الباب المتصل بالمسجد بابا لديرهم، وصار المسجد لا يصل إليه أحد من المسلمين إلا بإذنهم، والذي يريدونه بالمسجد يفعلونه من شرب خمر وغيره، وفي كل عام يأتي إلى الدير المذكور من بلاد النصارى جماعة يتبركون بكفرهم ويأتون معهم بشيء كثير من المال، ففي هذا العام المبارك جمعة تاريخه حضر جماعة من الكفار من بلاد النصارى إلى الدير المذكور، فمات منهم رجل ودفنوه وأخذوا ماله، فمن بعض ما بلغنا أنهم وجدوا معه من النقود ألفين أحمر سكة غير الذي خفي ... ولهم في ذلك المحل حكام وبيت مال.
فإن كان حضرة مولانا صاحب الدولة يرضى بذلك الفعل في الإسلام، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ... والكفار تفعل مرادها من غير جزية يدفعونها ... وللرهبان المذكورين بمصر المحروسة وكالتان تسميان بالجوانية، وأملاك كثيرة غير ذلك، ولهم في بندر الطور غيط نخيل فوق العشرة آلاف نخلة يجمعون ثمره في كل عام ويعملونه خمرا، وذلك كله من غير خراج عليه، ولهم بالبندر المذكور أنطوش، وهو حوش فيه طاحون كانوا يطحنون فيه للمسلمين بأجرة، وقد أبطلوا ذلك الطاحون من غير علة ولا سبب، وطلعوا إلى الدير المذكور يفعلون بمرادهم، وكل شيء لا يرضي الله تعالى ولا رسوله، فها نحن عرفناكم بذلك كله والأمر لكم، والله تعالى يديم عزكم وينصر مولانا السلطان وعساكره بمحمد وآله وصحبه أجمعين.
جرى ذلك كله وحرر في السادس والعشرين من شهر جمادى الآخرة سنة 1103 من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام (25 مارس 1692م).
الإمضاءات: الفقير إلى الله تعالى محمد آغا وزدار قلعة الطور حالا، الفقير شرف الدين نائب الشرع الشريف إمام بالقلعة حالا، الفقير إبراهيم مراد طوبجي باشي بالقلعة حالا، الفقير علي جوربجي بالقلعة حالا، الفقير أحمد محمد طوبجي حالا، الفقير بيرم محمد سنجق حالا، الفقير علي رمضان حسن، الفقير عمر محمد سنجق بالقلعة حالا. ا.ه.
مثال من المحررات التي تدل على نصرة حكام الطور لرهبان دير طور سيناء:
أمضاه الفقير إلى الله سبحانه وتعالى عبد الله القاضي بمصر المحروسة غفر له.
ختمه
الحمد لله وحده، الأمر كما ذكر والله أعلم، كتبه الفقير إبراهيم بن المرحوم سليمان الأزهري، نائب الشرع الشريف بالطور، عفي عنه.
ختمه
شهد بذلك: علي جوربجي كتخدا بالطور «ختم».
محمد آغا الطور سابقا «ختم».
صفر آغا بالطور حالا عفي عنه «ختم».
محمد آغا «ختم». ... ينهون أن جماعة من الرهبان المساكين قاطنون في دير جبل مناجاة سيدنا موسى كليم الله عليه أفضل الصلاة والسلام من قديم الزمان، من عهد الصحابة والتابعين، ومن زمن خلافة سيدنا عمرو بن العاص، ومن قبل دولة الجراكسة وغيرهم، وأن الدير المذكور معمور بالرهبان، ومن داخل الدير مسجد يزوره المسلمون ويصلون فيه، وهو مكمل بالفرش والقناديل، قايم الشعائر، وأن رهبان الدير المذكور يجمعون الصدقة من جميع الأطراف والأكناف، ويطعمون فقراء المسلمين والنصارى والقصاد والزوار وأبناء السبيل والغرباء والمترددين والمنقطعين من طريق الحاج وغيرهم، وأن الدير المذكور يطمئن إليه الحزين ويأوي إليه الخائف ويشبع منه الجائع ويكتسي منه العريان، وهو مورد لجميع من يقصده من المسلمين وغيرهم إذا جازوا عليه، وأن أهل هذا الدير يطعمون ما ينوف عن مائتي نفس من المسلمين وغيرهم في كل يوم، وأن نفعه على الخاص والعام الحاضر والبادي ...
والحال يا صاحب الدولة الشريفة أن بطرك القدس حالا المسمى دوسيثيوس توجه الآن إلى إسطنبول، وحرم على النصارى إعطاء رهبان الدير المذكور صدقة أو شيئا ما، وأن هذا الدير ما له صدقة إلا من النصارى وغيرهم من أهل الخير، والآن لما تنقطع الصدقة يرحل الرهبان ويتشتتون ويخرب الدير ويخلى، فتخلى البلاد ويصير بسبب ذلك خوف عظيم من عدم الرهبان وهياج العربان والعصاة في البلاد؛ فتنقطع الطرق على المراكب وغيرها، وينزح العربان القاطنون في البلاد ويصير ضرر عظيم في بندر السلطان نصره الله تعالى، ولا يبقى أمان في البلاد، وتحصل متعبة عظيمة للناس خصوصا بخراب الطاحون ...
فالمسئول من صدقاتكم العميمة وعواطفكم الرحيمة الأخذ بيد الفقراء الرهبان، ومنع ما يتعرض لهم، والاهتمام بمصالح الفقراء، جعلكم الله من سعداء الدارين، وختم لكم بصالح الأعمال، وأرشدكم إلى الطريق المستقيم، ووقاكم شر الأعداء والحاسدين، وأوجب لكم شفاعة سيد المرسلين، وأدام الله تعالى أيامكم الزاهرة، وجمع لكم بين خيري الدنيا والآخرة، بجاه سيدنا محمد
صلى الله عليه وسلم ، وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم. ا.ه.
ويلي ذلك 27 إمضاء من موظفي قلعة الطور وغيرهم، ذكر بعض المؤرخين أنه كان لهذا الكتاب تأثير عظيم في الآستانة، حتى إن البطرك دوسيثيوس وهو من بطاركة القرن السابع عشر، اضطر أن يتخفى بثياب النساء لينجو بنفسه من اضطهاد الأتراك. (6) خفر الدير
كان رهبان الدير قديما يدفعون جعلا معلوما لكل قبيلة من قبائل سيناء القوية القاطنة في جوار الدير أو في طريقه من مصر أو سوريا؛ لأجل حمايتهم في السفر والإقامة، وحماية القوافل التي تنقل لهم الزاد والمؤنة من الخارج، وكانت تسمى هذه القبائل «خفراء الدير»، وبقي عرب السواركة يطالبون الدير بمرتب الخفر إلى سنة 1870 كما مر، أخبرني المرحوم الشيخ موسى أبو نصير شيخ مشايخ الطورة المار ذكره قال: «كنت أسمع أنه كان للدير 35 خفيرا.»
وكان للدير قديما وكالة في فلسطين قرب غزة، ثم انتقلت إلى الجوانية بمصر كما مر، وكان الرهبان يعقدون شروطهم مع القبائل الخفراء، فيصدقها حاكم مصر أو شيخ عرب العايد في مصر ويضمن إنفاذها، وهذه صورة اتفاق عقد بين العربان الخفراء والرهبان وأقره المولى بمصر المحروسة سنة 1540م:
الأمر كما ذكر من عبد ربه الفقير حمد بن سعيد الحنفي المولى بالقاهرة المحروسة، بالمحكمة الشرعية بالجامع الحاكمي عمره الله تعالى بذكره، بين يدي سيدنا العبد الفقير إلى الله تعالى الشيخ الإمام العالم العلامة العمدة نور الدين حمزة الرومي الحنفي، خليفة الحكم العزيز بالديار المصرية، وقاضي المحكمة المذكورة أعلاه، أيد الله تعالى أحكامه، أشهد على ما يذكر فيه - بعد أن أقسموا بالله العظيم، وبنعمة مولانا السلطان الأعظم والخاقان المكرم، مالك رقاب الأمم، سلطان العرب والعجم، إمام الإسلام والمسلمين، قامع الكفرة والمشركين، السلطان ابن السلطان إلى تاسع جد فأكثر، مولانا «سليمان بن عثمان»، خلد الله ملكه وثبت قواعد دولته ونصره نصرا عزيزا، وفتح له فتحا مبينا، وجدد له في كل يوم نصرا وملكه بساط الأرض برا وبحرا، وأعز أنصاره ونصر جيوشه وأعوانه بمحمد وآله - وهم: حميد بن سالم بن رحمة، عرف بجده، ومحمد بن أحمد بن مسلم، وسليمان بن سلام بن إبراهيم، عرف بوالده، وسالم بن موسى بن خريش، عرف بجده، ونصير بن سويعد بن مسعود، عرف بالقرارشي، الجميع من الصوالحة ومن عرب الطور - الإشهاد الشرعي أنهم من يوم تاريخه يحفظون درك دير طور سيناء وجميع رهبانه القاطنين به والمترددين إليه وجميع تعلقاتهم ومواشيهم وما لهم من الكنائس والبساتين والنخيل بالجبل وبوادي فاران وبساحل الطور بأنفسهم، وبمن يستعينون به ليلا ونهارا صباحا ومساء، وردع من يتعرض إليهم بسوء وتشويش من العربان ورفقتهم ويذبون عن الدير المذكور ورهبانه وتعلقاته.
وإذا حضر أحد من الزوار لا يدخل أحد من العربان معهم إلى الدير المذكور، ولا ينزل أحد بالقرب منه إلا مسافة يوم، ولا يحضرون بخيول إلى الدير ولا يدخلونه بالجملة الكافية، ولا يتعرضون للقوافل الواردة إليه من مصر وغيرها، وعليهم حفظ القوافل المذكورة، وكف أسباب الأذى والضرر عنهم وعن الدير المذكور وعن رهبانه والقوافل المترددين إليه من المسلمين والنصارى.
ويدخلون تحت شروط الدير المذكور الجاري به العادة من قديم الزمان وإلى تاريخه، وهو أنه متى مد أحد يده من العربان إلى راهب، أو أخذ منه شيئا، أو شوش عليه في طريق أو غيره، أو دخل على كرم من الكروم المتعلقة بهم، أو كسر باب الكرم، أو هدم حائطا، أو قطع حبل الدوار، أو حرق باب الدير، أو عارضهم في طرقاتهم، كان عليه «أسيه» يأخذ شيخ العرب جمله، وإذا قتل أحد من الرهبان أو من الزوار المسلمين أو النصارى كان عليهم إحضار الجاني، ويكون عليهم القيام لديوان الذخيرة الشريف بألف دينار ذهبا سلطانيا جديدا حسبما التزموا بذلك على جاري عاداتهم التزاما مقبولا، وشهد بالتوكيل مرسوم الحكم في ثالث عشر صفر سنة سبع وأربعين وتسعمائة/19 يونيو سنة 1540م. «شهد عليهم بذلك: محمد محمد الدميري، محمد دنين.» ا.ه.
واطلعت في الدير على اتفاقية تعرف «بالشورة» عقدت بين الرهبان في عهد «الأسقف كير يواصف» وبين مشايخ الصوالحة وأولاد سعيد والعليقات «في منزل شيخ العرب منصور ابن المرحوم الشيخ صيام العائدي في البرقوقة (العباسية الآن) في يوم السبت 24 شعبان سنة 1053ه/الموافق 21 أكتوبر سنة 7152 لآدم» 8 نوفمبر سنة 1643 للمسيح.
وقد ذكر فيها أسماء المتعاقدين، وهم الأسقف و12 راهبا و16 شيخا، وأمضاها وتعهد بإنفاذها «منصور صيام» المذكور وحده، وهي تتفق معنى ومبنى مع الاتفاق السالف الذكر، لكنها مفصلة تفصيلا تاما، حتى إنها لم تترك حالة كان من الممكن وقوعها في ذلك العهد بين العربان والرهبان إلا ذكرتها وعينت الجزاء عليها، ومما ذكر فيها من التفصيل ولم يذكر في الاتفاق السالف الذكر: ... وأشهد جماعة العربان على أنفسهم أن كل من دخل منهم بين الصبيان وبين الرهبان في خلاص حقوقهم يكون عليه جمل، وألا يعارضوا الصبيان ولا المتسببين إذا حضروا للبيع على الرهبان من فاران وغيره، وكل من عارضهم كان عليه جمل، ولا أحد يغصب الرهبان بأن يشتروا منه عنبا أو غيره فكل من فعل ذلك كان عليه جمل لشيخ العرب، وكل من عارض بني واصل الذين يجلبون الحوت والسمك أو الملح ومنعهم من البيع والشراء على الرهبان كان عليه لشيخ العرب جمل، وليس لأحد من العربان أن يجيء الدير ويطلب طبيخا أو شيئا من الأكل أو أداما سوى نصف القدح والملح لا غير، ولا يطلب لأبيه ولا لابنه ولا لأخيه، وكل من يقول: أنا ما أخذت البارحة، أو يطلب لثاني يوم عيشه أو طلب غير نصف القدح المعلوم كان عليه جمل لشيخ العرب، ولا يطلب أحد من الرهبان دراهم قرضا أو قمحا أو نبيذا أو فراشا أو غطاء، وكل من أغصبهم في شيء من هذا كان عليه جمل لشيخ العرب، ولا ينام أحد في الدير ولا في أنطوش الدير جملة كافية، وكل من كان في الدير ولا يرضى يخرج بل ينام فيه كان عليه جمل لشيخ العرب ... ا.ه.
وما زالت هذه الشروط تتغير وتتبدل وتزيد أو تنقص حسب الحال والزمان؛ حتى صارت إلى الصورة التي أثبتناها تفصيلا في باب الجغرافية، وأصبحت وزارة الحربية المصرية نفسها ضامنة تنفيذها وإقرار الأمن والسلام في الجزيرة كلها كما مر. (7) رؤساء رهبان طور سيناء ومطارنة الدير وفيران (1)
عن كتاب «التاريخ المقدس القديم والحديث من موسى النبي إلى السلطان سليم» باليونانية للمطران نكتاريوس سنة 1658م، وقد أخذ أكثر معلوماته عن كتاب عربي قديم في الدير يدعى «تاريخ السنين في أخبار الرهبان والقديسين» مفقود الآن، وعن كتب أخرى عربية ويونانية في الدير. (2)
عن «تاريخ دير طور سيناء المقدس» باليونانية، لكير بارا كليس غراغوريادس، أستاذ الفلسفة في كلية أثينا، سنة 1875م. (3)
عن مطران الدير الحالي ورهبانه ومكتبته. (7-1) مطارنة أبرشية فيران
تقدم أنه قام في سيناء قبل بناء الدير أبرشية عظيمة للنصارى، ولها مطران يقيم في فيران، وقد اشتهر من مطارنتها ثلاثة، وهم: (1)
المطران موسى سنة 320-360م، ويظن أنه أول مطران قام على فيران، وأنه هو الذي حول أهل فيران عن عبادة الأوثان وأدخلهم في النصرانية. (2)
المطران نيتره سنة 465م، قالوا: إنه كان تلميذ سلفانوس رئيس رهبان طور سيناء الآتي ذكره. (3)
المطران ثيودورس سنة 649م، وهو آخر مطران لفيران، وكان من القائلين بأن للمسيح طبيعتين ومشيئة واحدة، فحرمه مجمع الآستانة سنة 649م، والظاهر أنه بعد هذا الحادث انتقل مركز الأبرشية رسميا إلى طور سيناء. (7-2) رؤساء رهبان طور سيناء
كان للرهبان المقيمين في طور سيناء رئيس، وكانوا تابعين لأبرشية فيران إلى أن انتقل مركز الأبرشية إلى طور سيناء، واشتهر من رؤساء طور سيناء إلى ذلك العهد أربعة، وهم: (1)
الرئيس ذولاس سنة 373م: وهو أول رئيس ذكره التاريخ لرهبان طور سيناء، وفي أيامه غزا البجاة رهبان راية عند مدينة الطور، وعرب الشرق رهبان طور سيناء كما مر في خبر أمونيوس الراهب. (2)
الرئيس سلفانوس سنة 465م: قالوا: إنه أتى طور سيناء من القدس الشريف زائرا، فاختاره الرهبان رئيسا عليهم، وقد اشتهر بالحكمة وأصالة الرأي، ومما يروى عنه أنه قد أتى الدير زائر من مصر وهو يشتغل مع الرهبان في حقل لهم هناك، فقال الزائر: كنا نظن أنكم معاشر الرهبان طلبتم النسك للتفرغ لعبادة الخالق وترك مهام الجسد، فأراد الرئيس أن يعطيه درسا نافعا في أن الشغل ضروري حتى للرهبان، فأدخله غرفة وأعطاه كتابا وسأله أن يطالعه إلى أن ينتهي من الشغل فيتفرغ لمحادثته، فبقي الزائر يطالع في الكتاب ساعات حتى عضه الجوع بنابه، وكان الرهبان قد فرغوا من الشغل وأكلوا ولم يدعوه لتناول الطعام معهم، فلما استحكم به الجوع خرج من غرفته وصاح بالرهبان قائلا: لقد خرت جوعا، أفلا تأكلون أنتم معاشر الرهبان هنا؟ فقال الرئيس: عفوا أيها الزائر الكريم، لقد حسبناك ملاكا لا تحتاج إلى طعام أو شراب، أما وقد شعرت بالحاجة إلى القوت فنرجو أن تعذرنا بعد الآن إذا كنا نكرس بعض ساعات النهار للشغل لتحصيل قوتنا، فاعتذر الزائر إذا ذاك ثم قدم له الطعام، فأكل وشكر الرئيس على الدرس النافع الذي ألقاه عليه. (3)
الرئيس لونجينوس سنة 530م: وفي أيامه أرسل الرهبان وفدا منهم إلى الملك يوستنيانوس وبني الدير، بدليل وجود صورته في قبة هيكل الكنيسة الكبرى كما مر. (4)
يوحنا المقلب أقليمقوس سنة 580-603م: قالوا: إن يوحنا هذا كان شماسا للرئيس لونجينوس، فلما مات خلفه في الرئاسة، وقد كتب للرهبان كتابا سماه الأقليمقوس فقلب به، ومعنى الأقليمقوس سلم فسمي بالعربية «سلم الفضائل» وفيه آداب الرهبنة وواجب الرهبان نحو أنفسهم وخالقهم والناس، وهو يقرأ في أيام الصوم الكبير في دير سيناء وفي كثير من الأديرة النصرانية إلى هذا العهد.
هذا ورأيت في الدير في صدر عظة موضوعها تجلي المسيح لتلاميذه الأطهار بطرس الصفا ويعقوب ويوحنا في جبل طابور ما نصه: «هذا قول الأب القديس نسكاسيوس رئيس طور سيناء»، ولكني لم أقف على تاريخ قيام هذا الرئيس. (7-3) مطارنة دير طور سيناء
قد يستدل من تاريخ الدير أن رهبان طور سيناء لم يسكنوا الحصن الذي بناه لهم الملك يوستنيانوس توا بعد بنائه، بل بقوا يسكنون المغاور والكهوف حول الحصن إلى أن انتقل مركز الأبرشية من فيران إلى طور سيناء بعد سنة 649م، وكان الإسلام قد امتد إلى الشام ومصر، واشتد الحال على الرهبان، فهجروا المغاور والكهوف وسكنوا الحصن، فجعلوه ديرا ومركزا لأبرشية سيناء، وأصبح رئيس الدير مطرانا للأبرشية، ولقبه «مطران دير طور سيناء وفيران وراية» وما زال كذلك إلى اليوم، ودير طور سيناء هو الدير الوحيد الذي يلقب رئيسه مطرانا وبالإفرنجية
archevêque, archbishop ، وقد اتصل بنا خبر 53 مطرانا من مطارنة دير طور سيناء، وهم: (1)
المطران مرقس سنة 869م: وهو أول مطران معروف للدير، ذكر في كتاب «تاريخ السنين» المار ذكره. (2)
المطران قسطنطين، وقيل إنه هو أول مطران للدير ومرقس الثاني. (3)
المطران سليمان: عن كتابة في هيكل كنيسة العليقة هذا نصها: «كان الفراغ من هذا العمل (الفسيفساء) في أيام المطران سليمان»، ويتبين من حالة الفسيفساء أنه من أقدم ما في الهيكل. (4)
المطران غبريل أربسارو: عن كتابة على مذبح كنيسة العليقة هذا نصها: «اذكر يا رب عبدك الفقير غبريل أربسارو يعني مطران طور سيناء»، ويظهر من الشغل أن المذبح بني بعد الفسيفساء. (5)
المطران أيوب الفلسفي: عن كتابة فوق باب الكنيسة الكبرى هذا نصها: «أيوب الفلسفي رسم مطرانا.» (6)
المطران يوحنا سنة 1091م: وهو من أهل أثينا. قيل وهو الذي قتله عساكر مصر، ورواية الخبر المأثور في تاريخ نكتاريوس أنه في عهد هذا المطران اعتدى العربان على قافلة من الحجاج كانت ذاهبة إلى مكة، فأرسل صاحب مصر جندا لتأديب العربان ودخل الجند الدير، فسألوا: أين الرئيس؟ فبرز الرئيس لهم، وقال: أنا هو، فقالوا: أين مال الدير؟ فقال: لا مال للدير؛ فقتلوه، والله أعلم بالصواب. (7)
المطران زخريا سنة 1103م: قيل وهذا التاريخ مأخوذ عن فرمانه المفقود الآن، وهذا المطران تقع مدته في مدة الآمر بأحكام الله الفاطمي. (8)
المطران جرجس سنة 1133م: قيل وهذا التاريخ أخذ عن فرمانه المفقود أيضا، وهو يقع في مدة الحافظ لدين الله الفاطمي خلف الآمر بأحكام الله. (9)
المطران غبريل الثاني سنة 1146م: عن فرمانه المفقود، وهو يقع في مدة الحافظ لدين الله. قالوا: وكان عالما بالعربية، وقد كتب فيها كتاب «تعليم مسيحي» موجود الآن في الدير. (10)
المطران يوحنا الثاني سنة 1164م: وله رسالة بالعربية إلى رهبان الطور. (11)
المطران سمعان سنة 1203م: جال مدة في أوروبا يجمع الإحسان للدير ثم استعفى. (12)
المطران أفتيموس سنة 1223م. (13)
المطران مكاريوس سنة 1224م. (14)
المطران جرمانوس الأول سنة 1228م. (15)
المطران ثيودوسيوس سنة 1229م. (16)
المطران سمعان سنة 1258م: خدم مدة ثم استعفى. (17)
المطران يوحنا الثالث سنة 1265م.
وهذه المطارنة الثمانية الأخيرة ذكرت في كتاب «تاريخ السنين» المار ذكره. (18)
المطران أرسانيوس سنة 1290م. (19)
المطران سمعان الثالث سنة 1306م. (20)
المطران دوروثيوس سنة 1324م: عن فرمانه المفقود، وهو يقع في مدة السلطان الناصر محمد بن قلاوون من المماليك البحرية صاحب مصر والشام.
جاء في كتاب «تاريخ السنين»:
يوم الإثنين الواقع في 30 أبريل سنة 1312م عند الغروب حصلت زلزلة، وفي نصف الليل زلزلة، وفي صباح الثلاثاء أول مارس حصلت زلزلة عظيمة حتى ظن أن القيامة قامت، وانهدم حائط سور الدير الشرقي والحائط الغربي والبرجان، وهدمت منازل الرهبان بعضها للأرض وبعضها هدمت سقوفها، فخاف الرهبان خوفا شديدا وخرجوا إلى الجنينة، ودامت الزلازل خمسة أيام، وفي اليوم السادس نظر الرهبان إلى سهل الراحة فإذا بخيالة وجمالة مقبلين نحوهم، فذهبوا لاستقبالهم فإذا هم بناءون ومعهم زاد كثير، فسألوهم عن قصدهم فقالوا: إن «غفريل» رئيس أساقفة بتراء علم أن الدير قد تهدم فأرسلنا إليكم لنعيد بناءه، فساعدهم الرهبان وأعادوا بناء ما تهدم من الدير، وعادوا إلى بلادهم. ا.ه. (21)
المطران جرمانوس الثاني سنة 1333م: وقد مر بنا أنه كان في جملة من وقع الخبر بشأن إسلام الجبالية «الرئيس جرمانوس»، فإن كان جرمانوس الأول (سنة 1229م) وأخرجنا من تاريخ ولايته 90 سنة كان تاريخ الخبر وخلاص الجبالية من السخرة سنة 1138م، ثم إذا أخرجنا مائة سنة ونيفا قل 118 سنة المدة التي سخر بها الجبالية كان إسلامهم سنة 1020م، وهو يقع في مدة الحاكم بأمر الله ، وإن كان الرئيس الذي وقع الخبر جرمانوس الثاني هذا كان إسلام الجبالية في عهد الآمر بأحكام الله كما ظن بعضهم، وفي أي الحالين يكون إسلامهم بموجب ذلك الخبر في عهد الفاطميين لا في عهد السلطان سليم العثماني كما في تقاليد الرهبان، والله أعلم. (22)
المطران مرقص الثاني سنة 1358م. (23)
المطران إثناسيوس. (24)
المطران سابا. (25)
المطران إبراهيم. (26)
المطران غفريل الثالث. (27)
المطران ميخائيل. (28)
المطران سلفانوس. (29)
المطران كيرلس. (30)
المطران لازاروس. (31)
المطران مرقص الثالث.
ويستدل من بعض كتب في وكالة الدير بمصر أن مدة المطرانين الأخيرين امتدت من سنة 1486-1510م، أما مرقص الثالث فقد رقي بطريركا على القدس الشريف سنة 1510م، وبقي الدير بعده بلا مطران مدة 30 سنة، وفي أثنائها فتح السلطان سليم مصر وأصبحت ولاية عثمانية. (32)
المطران سفرونيوس سنة 1540م: وفي أيامه عقد الرهبان اتفاقا مع الرهبان الخفراء وصدقه المولى بالمحروسة كما مر. (33)
المطران مكاريوس الثاني القبرصي سنة 1545م: كان رجلا سيئ السيرة مبذرا، فرفع الرهبان أمره إلى البطاركة الثلاثة فحرموه سنة 1547م، وبقي الدير بلا مطران مدة؛ لأن البطاركة قرروا عدم لزوم مطران كما ذكر في كتاب «تاريخ السنين»، ثم رأى الرهبان أن حالهم لا تصلح بلا مطران فرفعوا الأمر لأرميا الثاني بطريرك الآستانة سنة 1567، فسمى عليهم: (34)
المطران أفيانيوس سنة 1567-1583م، وخلفه: (35)
المطران أنسطاسيوس سنة 1583-1592م.
رأيت في بعض كتب الدير «أن القديس أنسطاسيوس رئيس جبل طور سيناء المقدس صار مطرانا على البتراء». (36)
المطران لفرنديوس سنة 1592-1617م. (37)
المطران غفريل الرابع سنة 1618: عن فرمانه المار ذكره. (38)
المطران يواصف الرودسي سنة 1618-1658م: وفي أيامه كتبت «الشورى» المار ذكرها بين خفراء الدير والرهبان سنة 1643م. (39)
المطران نكتاريوس سنة 1658م: هو راهب سينائي، ذهب إلى القدس الشريف ليرسم مطرانا على سيناء، ولم يكن في القدس بطركا فرسموه بطركا عليها، وهو صاحب «التاريخ المقدس» باليونانية المار ذكره. (40)
المطران حنانيا البيزنطي سنة 1658-1668م: بقي مطرانا للدير عشر سنوات ثم استعفى، وقد سعى أن يكون بطريركا للآستانة فلم يفلح. (41)
المطران أيوانيكيوس سنة 1668-1703م: ترى على وجهة مذبح كنيسة الدير الكبرى كتابة باليونانية، مؤداها أن هذا المذبح جدد في عهد المطران أيوانيكيوس سنة 1675، وفي أيامه سنة 1691 أهدي إلى الدير صندوق من الفضة عليه رسم القديسة كاترينا كما مر. (42)
المطران كوزماس من الآستانة سنة 1704م: وقيل سمي سنة 1705م، وبعد سنة سمي بطريركا على الآستانة ثم على الإسكندرية. (43)
المطران أثناسيوس فارباسيوس سنة 1706 / 1718م: وفي عهده سنة 1715 جدد بلاط كنيسة الدير الكبرى كما مر. (44)
المطران أيوانيكيوس الثاني من جزيرة مدلين سنة 1718-1729م: كتب على نسخة من «سلم الفضائل»: «صارت زلزلة في شهر حزيران سنة 1728م.» (45)
المطران نيكوفورس مارثالس من كريت سنة 1729-1749م: أقام مطرانا على الدير 20 سنة ثم استعفى ومات في بلده، وقد رأيت في «كتاب الأم» المار ذكره كتابة بالرومية بخط هذا المطران، مفادها «أن قد تم ببندر الطور اتفاق بين أقلوم الدير نيكفورس وكاتب الدي جرجس تلحمي من جهة وبين جماع أبو هديب وموسى ولد علي وغيرهما من جهة أخرى بشأن إنارة الجامع وتنظيفه سنة 1157ه/1744م.» (46)
المطران قسطنديوس من كريت سنة 1749-1759م: أقام مطرانا على الدير عشر سنين ثم استعفى، وذهب إلى الآستانة فمات في الطريق. (47)
المطران كيرلس الأول سنة 1759-1790م: أقام مطرانا على الدير 30 سنة و3 أشهر، ومات في بلاد بلاخيته في 12 يناير سنة 1790، وفي أيامه سنة 1765 رممت كنيسة الدير، وجعل فوق بابها رخامى نقش عليها باليونانية تاريخ ترميمها واسم مرممها، وفي سنة 1787 أهدي إلى الكنيسة الكبرى منبر من الرخام جميل الصنع يصعد إليه بسلم يرى عن يسار الداخل. (48)
المطران دورثيوس من الآستانة سنة 1794-1797م.
رأيت على كتاب «معنى الحياة أو المركب الساير في مياه النجاة» هذه الحواشي: «نظر في هذا الكتاب المبارك العبد الحقير في المسيحيين فليوثاوس، من قرية شحرور قرب ثغر بيروت، وهو بالزي راهب سنة 1798م»، وبخطه: «في سنة 1797 جاء جراد كثير وأكل الأشجار والأثمار، وما فضل خضرة في هذا البر جميعه.» «وفي 18 كانون أول صار مطر ثقيل دام أربعا وعشرين ساعة، ومنه انهدم حائط الدير الشمالي من الزاوية الشرقية إلى كنيسة القديس جاورجيوس.» «وفي شهر حزيران سنة 1798 جاء الإفرنج وفي عشرة أيام أخذوا مصر.» قلت: وقد رمم حائط الدير المتهدم الجنرال كليبر الفرنساوي سنة 1801م كما مر. (49)
المطران قسطنديوس الثاني سنة 1804-1859م: كان بطرك الآستانة ومطران الدير، وقد اطلعت في بعض أوراق الدير على هذه العبارة: «وفي 25 أغسطس سنة 1844 حضر الراهب جناديوس من قبل رهبان دير طور سيناء المقيمين بالجوانية «بالقاهرة»؛ لجمع أثمار كرم النخيل بالطور، فرأى ثمر الكرم ضامرا بسبب عدم تلقيحه، فألزم المواطرة بالخسارة.» (50)
المطران كيرلس الثاني من 25 نوفمبر سنة 1859-1867م: سيم مطرانا على الدير في الآستانة، وفي أيامه بنيت بوابة حوش الدير، وأسست المدرسة العبيدية سنة 1860، وفي هذه السنة عينها أهدت الحكومة اليونانية تابوتا من الفضة وعلى غطائه صور القديسة كاترينا، وقد رصعت بالحجارة الكريمة كما مر. (51)
المطران كاليستراتس من أزمير سنة 1867-1885م: مات في مدينة الطور، وفي أيامه سنة 1870 جعل للكنيسة قبة، وعلق فيها أجراسا مختلفة كما مر. (52)
المطران بورفيريوس الأول من جانتا سنة 1885م: مرض واستعفى سنة 1904، وأقام في جزيرة صاقس إلى أن توفي فيها في 15 يوليو سنة 1909م، ثم نقلت رفاته إلى معرض الجماجم في الدير، ولا تزال هناك مع رفات مطارنة آخرين كما مر. (53)
المطران بورفيريوس الثاني مطران دير طور سيناء الحالي. سيم مطرانا على سيناء بعد استعفاء سلفه في 23 أبريل سنة 1904، وقد تقدم لنا ذكر لمع من سيرته المجيدة عند الكلام عن جغرافية الدير.
شكل 5-1: الأرشمنتدريت ثيودسيوس، الوكيل العام الحالي لدير طور سيناء (انظر الباب الثاني: في جغرافية سيناء الأدارية - الفصل الثاني: في دير طور سيناء - في دخل الدير ونفقاته، وهو من أسلم رهبان الدير قلبا وأسدهم رأيا وأشدهم غيرة).
وقد ذهبت إلى الدير في 27 يناير سنة 1905 مندوبا من قبل سعادة السردار لعقد اتفاق بين رهبان الدير وعرب الطور بشأن تأجير جمال لنقل الرهبان وأمتعتهم من مدينة الطور والسويس إلى الدير وبالعكس، فقضيت في الدير أربعة أيام إلى أن تم الاتفاق بين الفريقين، وقد ذكر برمته في باب الجغرافية، وكان في الدير وضواحيه إذ ذاك نحو عشرين راهبا ، وفي الجهات التابعة للدير خارج سيناء نحو 40 راهبا، وعليهم السيد الكريم بورفيريوس رئيسا ومطرانا، والأب بوليكربوس وهو شيخ جليل خزاندارا، والأب أفيانيوس أقلوما أي مديرا عاما للدير وجميع الأديرة التابعة له في مصر والشام وأوروبا، والأب بنيامين، وهو من القدس ولكنه مترب تربية يونانية، أقلوما خاصا للدير.
ثم ذهبت بمأمورية خاصة إلى جبل الفيروز، فزرت الدير ثانية ومكثت فيه من 13-17 أبريل سنة 1907 أطالع في مكتبته العربية، فاطلعت فيها على كثير من حقائق تاريخ الدير التي ضمها هذا الكتاب، وقد لقيت من الرهبان في زيارتي الأولى والثانية من العناية والحفاوة واللطف وخصوصا من سيادة مطرانه بورفيريوس الثاني وأقلومه الأب بنيامين ما أود أن أسجله هنا بمداد الشكر والثناء. (8) عود إلى المدرسة العبيدية
قدمنا في باب الجغرافية عند ذكر المدرسة العبيدية التي يرأس مجلسها مطران سيناء أن الأروام استأثروا بالمدرسة حتى لم يعد فيها تلميذ واحد من أبناء العرب، وأني وجهت نظر مطران سيناء الحالي إلى ذلك، فأكد لي أنه بعد إتمام البناء المزمع إقامته للمدرسة قريبا في ضواحي القاهرة سينشئ قسما خاصا ينطبق في كل الفروع على بروجرام وزارة المعارف المصرية؛ ليكون لأبناء العرب من المدرسة نصيب، وكان أبناء العرب من الروم الأرثوذكس قد تنبهوا إلى إجحاف مجلس المدرسة بحقوقهم وهبوا للمطالبة بها، فأعلمتهم بما وعد المطران فلم يكتفوا به، فعقدوا اجتماعا عاما في نادي الاتحاد السوري بالقاهرة في 31 مايو سنة 1914 وعينوا لجنة مؤلفة من ثمانية من الأعيان للدفاع عن حقوقهم المهضومة، فأرسلت اللجنة إلى مطران سيناء بصفته رئيسا لمجلس المدرسة كتابا بسطت فيه كيفية حرمان أبناء العرب من المدرسة بجعل اللغة اليونانية اللغة الأساسية للتدريس، وطلبت إليه تدريس العلوم بالعربية التي هي لغة البلاد أو بالفرنساوية التي هي لغة عامة حية يستفيد منها الطلبة من جميع الأجناس على السواء، وطلبت إليه أيضا تعيين عضو سوري ثالث في محل خال من مجلس المدرسة طبقا للوقفية ... فأجابها المطران بما معناه أن المادة الثانية من قانون الواقف لا تسمح لأحد بالتدخل في أعمال المجلس وإدارة المدرسة، وأن المدرسة لم تقفل أبوابها قط في وجه أبناء العرب.
فردت اللجنة عليه بما مفاده أن المادة الثانية التي تشيرون إليها تقضي بعدم تدخل أحد في إدارة المدرسة، والترتيب السنوي الذي يصير عليه المعول من الوكلاء المحصور في أيديهم سياسة المدرسة، وأما نحن فلم نتعرض لإدارة المدرسة والترتيب السنوي ولا هو المراد من كتابنا، وإنما مرادنا توجيه نظر المجلس لعدم مخالفة إرادة الواقف وروح الوقفية في تلك الإدارة وذلك الترتيب، وهذا حق لكل وطني وقفت المدرسة لفائدته، وأما قولكم: إن المدرسة لم تقفل أبوابها في وجه الطلاب أبناء العرب فنجيب عنه بأن بروجرام المدرسة القاضي بجعل اللغة اليونانية اللغة الأساسية لتدريس العلوم فيها هو الذي أقفل المدرسة في وجه أبناء العرب؛ لأنه لا فائدة لأبناء البلاد من التضلع باللغة اليونانية، فلم يجب اللجنة على جوابها هذا.
وقد قدمنا في باب الجغرافية أن قنصلية روسيا بمصر جعلت المدرسة تحت حمايتها، ونزيد عليه هنا أنه لما أقرت الدولة الروسية على المحاكم المختلطة في مصر قد استثنت منها قضايا المدرسة العبيدية، واشترطت أن يبقى الفصل فيها لمحاكم القنصلية الروسية، وهذه هي صورة المادة القاضية بذلك من اتفاق المحاكم المختلطة المؤرخ في 9 أكتوبر سنة 1875م عن كتاب المرحوم جلاد بك الجزء الثالث:
المادة الرابعة: المدرسة المؤسسة في مصر من المرحوم روفائيل عبيد الروسي، الحائزة على الحماية الروسية، لا تحاكم أمام المحاكم الجديدة، وتستمر كما في الماضي تابعة للمحاكم القنصلية الروسية عدا عن الدعاوي المتعلقة بالعقارات ملكها، وأنه لمن المفهوم أن إخراج المدرسة المذكورة من دائرة اختصاص المحاكم الجديدة هو بصفتها طائفة (شخص أدبي)، وبناء على ذلك الكاهن والأساتذة وكل من كان تابعا للمدرسة المذكورة يبقون تابعين لجهة القضاء المقررة في مصر للجنسية التابعين لها. ا.ه.
الإمضاء
ده لكس
وكيل قنصل جنرال الروسيا
رياض
ناظر الحقانية
فلما رأت اللجنة من المطران عدم التلبية لمطالبها التجأت إلى جناب الموسيو سميرنوف قنصل روسيا الجنرال في مصر، وطلبت إليه إنصافها بصفته حامي المدرسة والقاضي الفصل بمشاكلها، وكانت تطلعه على ما يجري بينها وبين المطران في حينه، ففاوض المطران في مطالب اللجنة فأنكر عليه التدخل في أمر المدرسة كما أنكره على اللجنة وأصر على رأيه أو يعفى من رئاسة المجلس، فأمر القنصل الجنرال بإعفائه مؤقتا وسمى الوجيه ميشال بك لطف الله عضو السوريين في الجمعية التشريعية وأحد أعضاء لجنة الدفاع عضوا في مجلس المدرسة، وسمي الوكيل الميتر نقولا عبيد رئيسا مؤقتا للمجلس.
وفي 18 يونيو سنة 1915 بحث المجلس الجديد في مطالب اللجنة، فأصدر القرار الآتي: «تقرر تشكيل فصل سنة أولى مبتديان للقسم العربي.» قالوا: وفي النية أن يتدرج هذا القسم في الصفوف حتى يصبح مساويا للقسم اليوناني، وهو يتبع في الوقت نفسه بروجرام المدارس الأميرية مع ما فيه من الصفوف الإنكليزية؛ ليتمكن الطالب به من نيل شهادة الكفاءة ثم شهادة البكلوريا، فاستحق المجلس على هذا القرار وهذه النية كل ثناء وشكران. نعم إن في قسمة صفوف المدرسة إلى قسمين عربي ويوناني زيادة في النفقات؛ لما تتطلبه هذه القسمة من زيادة الغرف والمعلمين؛ إلا أنه يمكن تلافي هذه الزيادة بتقليل عدد الطلبة أو بجعل الصفوف كلها قسما واحدا تدرس فيه العلوم بالفرنساوية مع تدريس العربية واليونانية اللغتين الأخريين المشروطتين في الوقفية في صفوف خاصة، وإلزام كل فريق إتقان لغته مع درس مبادئ لغة الفريق الآخر.
إلا أن في إنشاء القسم العربي على ما ينويه المجلس مزايا قد تربو فائدتها على جعل الصفوف كلها قسما واحدا؛ لأن القسم العربي يوجب إتقان اللغة العربية التي هي لغة البلاد وإتقان اللغة الإنكليزية التي هي لغة حماة القطر والتي لا بد من إتقانها لطلاب وظائف البلاد الأميرية والتجارية، وهو في الوقت نفسه لا يحرم طلابه تعلم اللغة الفرنساوية ومبادئ اللغة اليونانية المشروط تعلمها في الوقفية.
وقبل إقفال هذا الموضوع لا بد لي من إبداء أشد الأسف من وقوع الأزمة الحاضرة وإعفاء مطران سيناء ولو مؤقتا من رئاسة المجلس، فقد قضيت في صحبة هذا السيد الجليل عشر سنوات متوالية، وخبرته في كثير من الأعمال الرسمية والخصوصية؛ فلم أر منه إلا كل خلق كريم وقلب سليم مع عزة في النفس وشرف في المبدأ وزهد في الدنيا، ولربما كان معذورا لتمسكه برأيه في ما يتعلق بنظام المدرسة؛ لأن أروع خلق فيه تناهيه في الغيرة على أبناء جنسه، وهذه الغيرة المتناهية مع سكوت أبناء العرب عن نصيبهم في المدرسة سنين طويلة حملاه على التدرج إلى النظام الحالي، فأصبح من الصعب جدا الرجوع عنه دفعة واحدة، والتنازل عن نصف منافع المدرسة للغير بعد أن كانت كلها لأبناء جنسه، وفي كل حال فإني أرجو أن يعود إلى رئاسة المجلس قريبا ويأخذ أبناء العرب حقهم من المدرسة على يديه، وتتفق جميع الآراء على ما فيه مصلحة الطلبة والمدرسة والبلاد والسلام العام.
الباب الثاني
في تاريخ سيناء الحديث
الفصل الأول
في تاريخ سيناء منذ الفتح الإسلامي لمصر إلى عهد الأسرة المحمدية
العلوية
(سنة 640-1805م) (1) عصر النبي محمد
صلى الله عليه وسلم (سنة 1-11ه/622-632م)
كان أول آثار الإسلام وأنفسها في سيناء العهد الذي أعطاه النبي محمد لأهل أيلة، ثم العهد الذي قيل إنه أعطاه لرهبان سيناء، وفي تقاليد بدو سيناء ورهبانها أن النبي محمدا زار طور سيناء على جمل، فترك الجمل أثر قدمه على قمة الطور كما مر. (2) عصر الخلفاء الراشدين سنة 11-41ه/632-661م
ثم كان الفتح الإسلامي لمصر في عهد الخليفة عمر بن الخطاب على يد عمرو بن العاص، وقد دخل مصر بطريق الفرما مارا برفح والعريش كما قدمنا، وكان أول موضع قوتل فيه الفرما. قاومه الروم فيها مقاومة ضعيفة فاستولى عليها في أواخر سنة 639م بعد قتال شهرين، ثم تقدم إلى بلبيس ففتحها، وأخذ يفتح مصر بلدا بلدا حتى فتحها كلها، وآخر بلد فتحها الإسكندرية سلمت له يوم الخميس غرة محرم سنة 20ه/21 ديسمبر سنة 640م.
وكان العرب المسلمون قد أتموا فتح الشام سنة 638م، وملكوا جزيرة العرب كلها والعراق؛ فأصبحت سيناء محاطة بالمسلمين من كل الجهات، وهاجر كثير من العرب المسلمين جزيرتهم إلى مصر وسوريا، فتخلف بعضهم في سيناء وأخضعوا أهلها وأدخلوهم في دين الإسلام، أو أجلوهم عنها واستوطنوها إلى اليوم. (3) الدولة الأموية سنة 41-132ه/661-750م (4) الدولة العباسية سنة 132-656ه/750-1258م
وبعد الخلفاء الراشدين قام على الإسلام الدولة الأموية، فجعلت مركزها دمشق الشام، ثم الدولة العباسية فجعلت مركزها بغداد، وقام على مصر في عهد هذه الدولة دولتان اغتصبتا الملك من العباسيين وهما:
الدولة الطولونية 254-293ه/868-905م.
والدولة الإخشيدية 324-358ه/935-969م.
ولم يكن لملوك هذه الدول الأربع على شهرتها آثار تذكر في سيناء، إلا أن سيناء كانت طريق سراياهم وسابلتهم، وقد أوقعوا بعض وقائعهم فيها.
ذكر في تاريخ خمارويه أحد ملوك الدولة الطولونية أنه زوج ابنته «قطر الندى» للخليفة المعتضد، فجهزها جهازا يضرب به المثل. من ذلك 4000 منطقة مرصعة وعشرة صناديق مملوءة جواهر وألف هاون من الذهب، ولما فرغ من جهازها أمر فبني لها قصر على رأس كل مرحلة تنزل بها فيما بين مصر وبغداد، وجعل في كل قصر من أسباب الراحة والترف ما يصلح لمثلها في حال الإقامة. (4-1) وقعة في العريش سنة 905م
وكان ببلدة العريش وقعة بين إبراهيم الخليجي الخارجي وعساكر المكتفي بالله في سنة 905م، وحاصل ذلك على ما نقل في دائرة المعارف لابن الوردي: «أن الخليجي الخارجي واسمه إبراهيم كان أحد قواد بني طولون وكان في نواحي مصر، تخلف عن محمد بن سليمان من قوادهم أيضا، وذلك لما ولى المكتفي عيسى بن محمد النوشري على مصر سنة مائتين واثنتين وتسعين، فكتب عيسى إلى المكتفي بالخبر، وكثرت جموع الخليجي وزحف إلى مصر، وخرج النوشري هاربا إلى الإسكندرية وملك الخليجي مصر، وبعث المكتفي العساكر مع فاتك مولى أبيه المعتضد وبدر الحمامي وعلى مقدمتهم أحمد بن كيغلغ في جماعة من القواد، ولقيهم الخليجي على العريش في صفر سنة مائتين وثلاث وتسعين (ديسمبر سنة 905م)، فهزمهم ثم تراجعوا وزحفوا عليه، وكانت بينهم حروب فني فيها أكثر أصحاب الخليجي وانهزم الباقون، فظفر عسكر بغداد ونجا الخليجي إلى فسطاط مصر واختفى به، ودخل قواد المكتفي المدينة وأخذوا الخليجي وحبسوه ، فأخبر المكتفي بذلك فكتب بحمله إلى بغداد فبعث به فاتك فحبس ببغداد.» ا.ه. (4-2) وقعة في العريش سنة 939 «وفي سنة 328ه/939م أعطى الخليفة الراضي بالله لقب أمير الأمراء لمحمد بن رائق حكمدار فلسطين، وكان مستقلا بالحكم عنه، فلاح له أن يغزو سوريا وكان عليها الأمير بدر من قبل محمد الإخشيد (والي مصر) فحاربه، فهرب بدر، فنهض محمد الإخشيد لإنجاده مستخلفا في مصر أخاه الحسن وعسكر في الفرما، وكانت جيوش محمد بن رائق قد بلغت تلك البلد، فتدخل بعض الأمراء فتصالحا، وعاد محمد الإخشيد إلى الفسطاط، وما بلغها حتى جاءه الخبر أن محمد بن رائق برح دمشق وفي نيته مهاجمة مصر، فأسرع الإخشيد لملاقاته فالتقى مقدمة جيش ابن رائق في العريش، فأوقع فيهم وهزمهم وأسر خمسمائة رجل منهم ...» ا.ه. (5) الدولة الفاطمية سنة 358-567ه/969-1171م
ثم كانت الدولة الفاطمية على مصر، فكان من آثارها في سيناء الجامع الذي بناه الآمر بأحكام الله عاشر خلفائها في وسط الدير كما مر. (6) الحروب الصليبية 489-669ه/1096-1270م
وفي عهد المستعلي ابن المستنصر سلف الآمر بدأت الحروب الصليبية الشهيرة التي أثارتها أوروبا على الشرق، وكان السبب الأعظم الذي استفز أوروبا لها «ظلم الأتراك السلجوقيين» لنصارى الشام وحجاج بيت المقدس. وكان الممثل الأكبر لهذا الظلم في أوروبا راهب فرنسي يدعى «بطرك الناسك»، وقد دامت هذه الحروب 200 سنة ونيفا غزا الأوربيون في أثنائها الشرق ثماني مرات، وكان بينهم وبين مصر والشام والعراق وقائع شتى لا نذكر منها هنا إلا ما كان له علاقة بتاريخ سيناء.
حرق الفرما: «ففي أواخر سنة 511ه/1117م خرج بلدوين ملك الصليبيين من بيت المقدس لافتتاح مصر بجيش جرار، فوصل الفرما فاستولى عليها وذبح أهلها وأحرق جوامعها، وهم أن يدخل مصر فداهمه مرض اضطره إلى العود حالا، فعاد قاصدا بيت المقدس، فمات قبل أن أدرك العريش بقليل، فنزعوا أحشاءه ودفنوها على تلة في الطريق وأقاموا على قبره حجرا كبيرا، ولا يزال ذلك المكان معروفا إلى أيامنا هذه باسم بردويل كما مر في باب الجغرافية، أما جثته فحملوها إلى بيت المقدس ودفنوها هناك بجانب جثة أخيه فردريك.»
نهب الفرما: «وفي سنة 548ه/1153م جدد الصليبيون هجماتهم على سوريا ومصر، ونزلت العمارة السيسيلية على سواحل مصر وأحرقت مدينة تنيس في منتصف بحيرة المنزلة ونهبت الفرما، إلا أنها لم تتقدم أكثر من ذلك فأخذت ما أمكنها حمله من الغنائم وعادت من حيث أتت.» «وفي سنة 562ه/1167م هاجم الصليبيون مصر عن طريق العريش وبلبيس ودخلوا القاهرة، ثم انسحبوا إلى سوريا بغنيمة.» (7) الدولة الأيوبية 567-648ه/1171-1250م
وفي زوال الدولة الفاطمية قام على مصر صلاح الدين الأيوبي رأس الدولة الأيوبية، وهو من أعظم رجال التاريخ وأكبر ملوك الإسلام وأعرضهم جاها وأعلاهم قدرا وأكرمهم خلقا، وكان قائدا عظيما وسياسيا محنكا.
شكل 1-1: الملك المنصور السلطان يوسف صلاح الدين بن نجم الدين أيوب بن شادي. «ولد بمدينة تكريت سنة 532ه / 1138م، وتوفي يوم الأربعاء 27 صفر سنة 589ه/4 مارس سنة 1193م، ودفن بمدينة دمشق الشام، أما أبوه نجم الدين أيوب فتوفي ودفن بمصر يوم الثلاث 27 الحجة سنة 568ه، وبعد سنتين نقلت جثته إلى المدينة المنورة مع جثة أخيه أسد الدين بأمر صلاح الدين، ودفنا في قبر جمال الدين الأصفهاني بالمدينة المنورة، أما الملك الأفضل علي نور الدين أكبر أولاد صلاح الدين فتوفي ودفن بمدينة سميساط سنة 620ه.» (7-1) فتح أيلة 1170م
وكان له شأن كبير مع الصليبيين في أيلة ومصر وسوريا، أما شأنه معهم في أيلة فقد تقدم ذكره في الكلام على أيلة عن وزيره القاضي الفاضل، وخلاصته «أنه في سنة 1170م سار من مصر بعصابة من رجاله الأشداء ومعه مراكب مفككة حملها على الإبل، ولما وصل عند أيلة (جزيرة فرعون) ركب المراكب وأنزلها البحر ونازل أيلة برا وبحرا، وما زال حتى فتحها في 20 ربيع آخر سنة 566ه/31 ديسمبر سنة 1170م، وجعل فيها جماعة من ثقاته وقواهم بما يحتاجون إليه من سلاح وميرة، وعاد إلى مصر في آخر جمادى الأولى.»
شكل 1-2: حفيد صلاح الدين الأيوبي محمد علي علوي . «ابن محمد علوي بك ابن علي بن محمود بن إسحاق بن إبراهيم بن علي بن يوسف بن مصطفى بن محمد بن البشير بن مصطفى بن علي بن إبراهيم بن محمد بن يوسف بن عثمان بن علي بن يوسف ابن الملك الأفضل علي نور الدين، ملك دمشق الشام، أكبر أولاد الملك المنصور السلطان يوسف صلاح الدين الأيوبي.»
والظاهر أنه هو أول من أنشأ «طريق العريش» بعد خراب تنيس والفرما حوالي سنة 1165، وأنه في محاربة الصليبيين في أيلة طرق «درب الشعوي»، وقد أقام على هذه الطريق بقرب عين سدر قلعة حصينة تعرف بقلعة الجندي، وكل القرائن تدل أنه هو باني قلعة مبعوق بوادي الراحة وقلعة فرعون في جزيرة فرعون كما مر. (7-2) قلعة الجندي
أما قلعة الجندي، فإنها قائمة على رأس أكمة مرتفعة على نحو ميل شمالي عين سدر، وهذه الأكمة تنفصل عن جبال الراحة إلى الشرق وتكشف سهولا وأودية وجبالا شتى إلى كل الجهات، وقد مررت بهذه القلعة في رجوعي من نخل سنة 1905، فقضيت نصف ساعة في تسلق أكمتها إلى أن وصلتها، فإذا هي متهدمة ولكن أنقاضها تدل على أنها كانت من الحصانة والفخامة والإتقان على جانب عظيم، ولها باب كبير في الجهة الشمالية الغربية، وفوق عتبة الباب حجر تاريخي عربي كبير مربع الشكل، نقش عليه بحروف ناتئة اسم باني القلعة وتاريخها، وهذه صورته:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على محمد. خلد الله ملك مولانا الملك الناصر صلاح الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، الملك يوسف بن ... العادل الناصري في جمادى الآخرة سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة ه (أغسطس 1187م).
شكل 1-3: قلعة الجندي، وتعرف أيضا بقلعة الباشا.
وفي الجهة الجنوبية من القلعة جامعان متجاوران: أحدهما الكبير ما زالت جدرانه قائمة تدل على ما كان عليه في الأصل من جمال الصنعة والإتقان، وعلى بابه حجر تاريخي عليه كتابة متآكلة لم يبق منها إلا اسم الجلالة: «الله»، وفي محرابه كتابة متآكلة أيضا باق منها هذه العبارة: «بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم صل على محمد.»
وتحت هذا الجامع صهريج ماء كبير كالصهاريج التي في قلعة جزيرة فرعون، وله باب في سقفه في صحن الجامع، وباب من الخارج في أسفل حائط الجامع الشرقي، ينزل منه إلى الصهريج بسلم، ولهذا الباب سد من حجر نقش عليه هذه العبارة:
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا محمد، خلد الله ملك مولانا الناصر صلاح الدنيا والدين ملك الإسلام والمسلمين خليفة أمير المؤمنين. عمر هذا الصهريج والجامع الملك علي بن محمد بن الناصري العادل المظفر ... الملك، وكان فراغه شهر شعبان سنة تسعين وخمسمائة ه/1193م.
وأما الجامع الثاني الصغير إلى الشمال منه فقد أدركه الخراب، ولم يبق منه إلا أساس محرابه، وقد قرأت على حجارته التي كانت مبعثرة بجانبه هذه الكتابة:
مما استعمله الملك الناصر صلاح الدنيا والدين الملك العادل سيف الدين، وتولى عمارته الأمير صلاح الدين عبد القادر، وكان فراغه في ذي القعة سنة ثمان وتسعين وخمسمائة ه/1201م.
ومات صلاح الدين ودفن في دمشق الشام سنة 589ه/1193م، ولكن ذكره لن يموت، وفي الشام ومصر والعراق عدة بيوت تنتسب إليه، ومنهم في مصر القاهرة محمد علي علوي بك، وهو ينتسب إلى الملك الأفضل أكبر أولاد صلاح الدين من جهة أبيه، وإلى النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
من جهة أمه، وقد رأيت عمودي النسب اللذين يحفظهما من جهة أبيه وأمه، وأثبت الأول منهما هنا، بل لو غاب عنا أصله لدلتنا عليه الأخلاق النبيلة التي انطبعت على جبينه وتجلت في أقواله وأفعاله. وأروع تلك الأخلاق: الشمم والمروءة والنجدة وعلو الهمة وسلامة القلب وشرف القصد والجرأة في الحق، ورأيت عنده فرمانا سلطانيا بالتركية تاريخه 14 صفر سنة 1321ه قال: «بهذا الفرمان أملك حصة في خدمة الحرم النبوي الشريف في المدينة قدرها نصف قيراط، ومرتبها في السنة من الوقف ست ليرات عثمانية يتناولها وكيلنا في المدينة الريس علي عبيد الويشي المؤذن بالحرم الشريف لأدائه الخدمة بالنيابة عنا، ونصف القيراط هذا أملك نصفه لأني من سلالة صلاح الدين الأيوبي، والنصف الآخر يملكه أكبر أولادي أحمد فؤاد؛ لأنه الوارث لوالدتي فاطمة التي هي من سلالة النبي
صلى الله عليه وسلم ، ولقد كان عندي من آثار جدي صلاح الدين سيفه وسبحته، أما السيف فقد استفزني عباس باشا الخديوي السابق وأنا صغير السن فأهديته إليه في 25 يناير سنة 1901م، وأما السبحة فقد أرسلتها هدية إلى مولاي عبد العزيز سلطان مراكش على يد وزيره المنبهي لما جاء إلى مصر سنة 1906، ولكن هذا الوزير لم يوصلها إلى صاحبها، بل أهداها إلى الشريف عون الرفيق أمير مكة الأسبق رحمه الله.» ا.ه.
قلت: ولمحمد علي علوي بك نجل يسمى باسمه له ملامح الرسم الذي قيل إنه رسم صلاح الدين كما ترى من مقابلة الرسمين هنا. (8) دولة المماليك البحرية (648-784ه/1250-1382م)
وبعد الدولة الأيوبية قام على مصر دولة المماليك البحرية، وأعظم ملك قام فيها السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري (658-676ه/1260-1277م)، وقد حارب الصليبيين نحو عشر سنوات من سنة 1261-1271، وكانوا قد عادوا إلى أيلة فاسترجعها منهم سنة 665ه/1267م، وكانت طريق الحج المصري إلى هذا العهد تمر بعيذاب في الصحراء الشرقية، فلما فتح الملك الظاهر أيلة زار مكة بطريق السويس وأيلة سنة 667ه/1229م، وصارت هذه الطريق طريق الحج المصري من ذلك الحين إلى سنة 1884 إذ اتخذت طريق البحر إلى جدة كما مر.
واشتهر من ملوك هذه الدولة: السلطان منصور قلاوون (678-689ه/1279- 1290م)، وكان من آثاره في سيناء أنه مهد نقب العقبة في درب الحج المصري، كما مر، والملك الناصر محمد بن قلاوون (693-741ه/1293-1340م)، وقد حج إلى مكة على درب الحج المصري على السويس وأيلة سنة 719ه/1319م. (9) دولة المماليك الشراكسة 784-922ه/1382-1516م
ثم قامت دولة المماليك الشراكسة، فكان أشهرها السلطان قانصوه الغوري 906-922ه/1501-1616م، وهو أكثر سلاطين مصر المسلمين آثارا في سيناء، فإنه بنى القلاع على درب الحج المصري، ومنها قلعة نخل وقلعة العقبة، ومهد دبة البغلة ونقب العقبة كما مر في باب الجغرافية. (10) الدولة العثمانية 923-1213ه/1517-1798م
ثم كان الفتح العثماني لمصر على يد السلطان سليم الفاتح (918-926ه/1512-1520م)، وذلك أنه قام بينه وبين السلطان قانصوه الغوري صاحب مصر خلاف أدى إلى الحرب، وكان قانصوه الغوري قد زحف بجيوشه من مصر فالتقى السلطان سليم في مرج دابق قرب حلب سنة 1516م فقتل في الواقعة وانهزم جيشه، وسار السلطان سليم فافتتح غزة والعريش وقطية، ثم تقدم إلى الصالحية فالقاهرة ففتحها عنوة وقبض على الملك الأشرف طومان باي آخر سلاطين المماليك على مصر وشنقه على باب زويلة سنة 1517م، ومن ذلك الحين بقيت مصر تحت سلطة الأتراك أو سيادتهم إلى أن قامت الحرب الحاضرة سنة 1914 فخرجت من سيادتهم كما سيجيء.
وقد كان للسلطان سليم شأن مع رهبان طور سيناء، والمشهور أنه هو باني قلعة الطور التي خربت من أساسها ولم يبق من آثارهم إلا سجل «الأم» كما مر.
وقد قدمنا أن السلطان سليمان (926-974ه/1520-1566م) هو باني قلعة العريش ومرمم قلعة نخل، وأن السلطان مرادا الثالث (982-1003ه/1574-1594م) رمم قلعة نخل ووسعها ورمم قلعة العقبة، وأن السلطان أحمد الثالث ابن السلطان محمد الرابع رمم قلعة نخل سنة 1117ه/1705م. (11) الاحتلال الفرنساوي لمصر سنة 1213- 1216ه/1898-1801م
شكل 1-4: نابوليون بونابارت الكبير.
شكل 1-5: اللورد نلسون الشهير.
ثم كان الاحتلال الفرنساوي لمصر على يد نابوليون بونابرت الشهير سنة 1798، وكان من آثاره في سيناء أنه أقر امتيازات الدير، ورمم قائده كليبر سور الدير كما مر، وكان له مع الأتراك والإنكليز شأن في قلعة العريش ومصر، وتفصيل ذلك: أنه لما قام بونابرت في فرنسا كانت مصر تتعثر بيد المماليك تحت سلطة الأتراك، وكان العداء مستحكما بين فرنسا وإنكلترا، فخطر لبونابرت احتلال مصر طمعا بثروتها وأملا بعرقلة تجارة الإنكليز في الهند، فسار إليها بجيش مؤلف من نحو 40 ألف مقاتل و122 رجلا من العلماء وأرباب الفنون، تقله 700 سفينة وتصحبه عمارة بحرية مؤلفة من نحو 100 مركب حربي كبير وصغير، أكبرها مركب «الشرق» بقيادة الأميرال برويس، فنزل الإسكندرية في 2 يوليو سنة 1798 وافتتحها عنوة، ثم تقدم إلى مصر القاهرة فالتقاه مراد بك بنحو 60000 مقاتل عند إمبابة قرب الأهرام في 21 يوليو، فصف جنوده للقتال وخطب بهم قائلا جملته المأثورة: «أيها الجند، إن أربعين قرنا تنظر إليكم اليوم من أعلى هذه الأهرام.» ثم أمرهم بالهجوم فأوقعوا بعساكر مراد بك موقعة هائلة كان النصر فيها لهم، وملك بونابرت مصر.
على أن دخول بونابرت مصر أثار عليه الأتراك والإنكليز معا، فاتحدوا على إخراجه منها؛ فأرسل الإنكليز إلى مصر عمارة معقودة اللواء للأميرال نلسن، فأدرك العمارة الفرنساوية في أبي قير في أول أغسطس فدمرها كلها تقريبا وقتل أميرالها برويس، وبذلك قطع على الفرنساويين المواصلة مع أوروبا وترك للإنكليز السيادة المطلقة في البحر، فأخذوا يجهزون جيشا لإنزاله مصر، وأصدر السلطان سليم الثالث منشورا أعلن فيه الحرب على الفرنساويين، وشرع يحشد جيشا كبيرا في رودس وآخر في دمشق الشام لإجلاء بونابرت عن مصر، وأمر أحمد باشا الجزار والي عكا فأنفذ جيشا احتل العريش، فبعث إليه بونابرت أن يخلي المدينة؛ لأنها ضمن حدود مصر فأبى.
وكان نابليون عالما بما يعده الأتراك والإنكليز من الجيوش لمقاومته، فرأى ألا بد له لقمعهم وتثبيت قدمه في الشرق من فتح سوريا، فأعد لذلك حملة مؤلفة من 13 ألف مقاتل من المشاة والطوبجية، وقد عهد في قيادة القاهرة والإسكندرية والصعيد إلى ثلاثة من قواده وحصن رشيد ودمياط، وفي 1 فبراير سنة 1799 أمر الجنرال كليبر والجنرال رينير فسارا في مقدمة الجيش إلى العريش، وأرسل المثقلات وأدوات الحصار سرا في البحر، وفي 10 فبراير سار برا ببقية الجند وأخذ العريش في 19 فبراير سنة 1799. (11-1) فتح نابليون العريش
وجاء في تاريخ الجبرتي من حوادث سنة ألف ومائتين وثلاث عشرة (1798م) «أن بونابرت سر عسكر الفرنساوية استولى على مدينة العريش في توجهه إلى الشام، وكان فيها جملة من المماليك ونحو ألف عسكري من المغاربة والأرنئوط، فحضر إليه الفرنسيس الذين كانوا في المقدمة في آخر شعبان (5 فبراير 1799م) وأحاطوا بالقلعة ووقع القتال بين الفريقين، واستمر من بالقلعة يدافعون عن أنفسهم إلى أن حضر بونابرت بجيوشه بعد أيام؛ فاشتد الحصار، فأرسل من بالعريش إلى غزة يستنصرون بهم، فأرسلوا لهم نحو السبعمائة عسكري وعليهم قاسم بك أمير البحرين، فلم يتمكنوا من الوصول إلى القلعة لتحلق الفرنساوية بها وإحاطتهم حولها، فنزلوا قريبا من القلعة، فكبسهم عسكر الفرنسيس بالليل، فاستشهد قاسم بك وجماعته وانهزم الباقون، ولم يزل أهل القلعة يحاربون إلى أن فرغ منهم البارود والذخيرة ، فطلبوا عند ذلك الأمان فأمنوهم، وذلك بعد حصار أربعة عشر يوما، فلما نزلوا على أمانهم أرسلوا المماليك والكشاف إلى مصر مع الوصية بهم وتخلية سبيلهم، فحضروا مصر في الخامس والعشرين من رمضان (2 مارس سنة 1799) وأخذوا سلاحهم وخلوا سبيلهم، وأما باقي العسكر الذين كانوا بقلعة العريش فبعضهم انضاف إلى الفرنساوية فأعطوهم جامكية وعلوفة وجعلوهم بالقلعة مع عسكرهم، والبعض لم يرضوا بذلك فأخذوا سلاحهم وأطلقوهم» ... «ثم سار بونابرت إلى الشام قصد فتحها، فأخذ غزة بلا قتال، ثم أخذ يافا، وتقدم إلى عكا فحاصرها، وكان الإنكليز قد حضروا لنجدة الترك (بعمارة حربية يقودها السر سدني سمث)، فاضطر نابليون أن يرفع الحصار عن عكا ويرجع إلى مصر، وفي 2 يونيو وصل الفرنساويون العريش، فأمر نابليون بتحصينها، وكان ماؤها كثير العلق فقاسى الفرنساويون كثيرا منها، واستمروا راجعين إلى مصر فوصلوها (21 مايو) بعد أن قاسوا المشاق بها من حر الصحراء وفتك الطاعون.» ا.ه.
ولم يكادوا يستريحون من مشاق هذه الحملة حتى وصل مصر الجيش الذي أعده السلطان في رودس، وكان يبلغ نحو 18000 مقاتل، فنزلوا في أبي قير بقيادة مصطفى باشا، وقامت على حمايتهم في البحر العمارة الإنكليزية بقيادة السر سدني سمث، وكانت هناك حامية فرنساوية فهزموها، فأسرع بونابرت إليهم بنحو 6000 مقاتل، واشتد القتال بينه وبينهم، ففاز نابليون وأخذ مصطفى باشا أسيرا (25 يوليو)، وكان بين المقاتلين في صفوف العثمانيين «محمد علي» الذي كان له الشأن الأكبر في تاريخ مصر الحديث.
وحدث في فرنسا إذ ذاك ما استوجب رجوع نابليون إليها، فبرح مصر سرا في 23 أغسطس سنة 1799 وأناب عنه في مصر الجنرال كليبر، ولم يكن من رأي هذا القائد الحكيم احتلال مصر احتلالا دائما لعدة أسباب: (1) اختلاف هوائها عن هواء بلاده. (2) اختلاف أهلها عن أهله في العادات والأخلاق. (3) نفرة الأهلين من الفرنساويين بسبب الاختلاف الديني. (4) لأن الفرنساويين في احتلالهم مصر كان لا بد لهم من محاربة دولتين عظيمتين وهما إنكلترا وتركيا.
هذا ولم يكن لدى كليبر إذ ذاك من الجنود والذخائر ما يكفيه للقيام بما يستوجبه احتلال مصر والدفاع عنها زمنا طويلا، ولم تكن هناك عمارة تعزز مركزه بحرا أو تمده بنجدة عند الحاجة، وكان الجيش الفرنساوي قد نقص عدده، والجيش العظيم الذي كان يعده السلطان في دمشق الشام قد زحف قاصدا مصر بقيادة الصدر الأعظم يوسف باشا وقد وصل يافا؛ لذلك عقد كليبر النية على إخلاء القطر المصري بأول فرصة، فأخذ يفاوض السر سدني سمث أميرال العمارة الإنكليزية في الإسكندرية والصدر الأعظم يوسف باشا في أمر وفاق يوقفون فيه هذه الحرب؛ فانتهت المفاوضة بمؤتمر عقد في العريش مؤلف من الصدر الأعظم من العثمانيين والجنرال ديزه والموسيو بوسيلك من الفرنساويين، وأقروا على معاهدة صلح أمضيت في 3 ديسمبر سنة 1799. (11-2) استرجاع العريش
لكن هذه المعاهدة لم تطل مدتها، فإن العثمانيين خرقوها وهاجموا العريش وأخذوها عنوة في 30 ديسمبر 1799، قال الجبرتي: «وفي شهر رجب سنة 1214ه وصل الوزير الأعظم يوسف باشا وصحبته نصوح باشا إلى العريش وحاصروها، وبعد قليل استولوا عليها في تاسع عشر الشهر، وقتلوا من بها من الفرنساوية، واستحوزوا على ما كان فيها من الذخيرة والجبة خانة وآلات الحرب، وصعد مصطفى باشا الذي باشر الاستيلاء على القلعة مع جملة من العسكر وبعض الأجناد المصرية إلى داخل القلعة، فاتفق أن وقعت نار على مكان بجبخانة البارود المخزون هناك؛ فاشتعلت وطارت القلعة بما فيها واحترقوا وماتوا، وفيهم الباشا المذكور، ومات كثير ممن كان خارجا عنها وبقربها بما نزل عليهم من النار والأحجار.» ا.ه.
ولما اتصل خبر سقوط العريش بالجنرال كليبر استشاط غضبا، ولكنه كان عالما بعجزه، فعاد إلى المفاوضة بشأن الصلح، وعقد مؤتمر ثان في العريش في 24 يناير سنة 1800 ممن عقدوا المؤتمر الأول وعثماني آخر، وأقروا على معاهدة عرفت «بمعاهدة العريش» مآلها أن يخرج الجيش الفرنساوي حرا من مصر، وأن تقله المراكب الإنكليزية على نفقتها إلى فرنسا دون أن ينزع منه سلاحه، ولكن إنكلترا أبت الموافقة على هذه المعاهدة وطلبت من كليبر التسليم والجلاء بلا شرط، فعد طلبها هذا إهانة، وكان يوسف باشا قد وصل بجيشه الكبير (نحو 70 ألفا) إلى المطرية، ولم يكن مع كليبر من الجنود إلا 10 آلاف، فهاجمه في 20 مارس سنة 1800 وهزمه شر انهزام.
وفي 14 يونيو سنة 1800 هجم على كليبر وهو يتمشى في القاهرة شرير مأجور يدعى سليمان الحلبي، وطعنه بخنجر طعنات قضت عليه حالا، فخلفه الجنرال «مينو».
شكل 1-6: محمد علي باشا الكبير.
وفي 8 مارس سنة 1801 أنزل الإنكليز إلى البر في أبي قير جيشا (نحو 14 ألفا) بقيادة السر رلف أبركرومبي على رغم حامية الإسكندرية، وانتهى الخبر إلى «مينو» فترك في القاهرة 5000 مقاتل بقيادة «بليارد» وسار لملاقاة الإنكليز، فقابلهم قرب الإسكندرية في 21 مارس فغلب وانهزم إلى الإسكندرية، وجرح القائد الإنكليزي أبركرومبي في هذه المعركة ومات لثمانية أيام من نصره، فخلفه على الجيش الإنكليزي الجنرال هتشنسون، وقد أمكن تركيا في هذه الأثناء أن تمده بنجدة جديدة ضاعفت قوته فأرسل 12000 مقاتل ففتح رشيد (19 أبريل) وزحف بجيشه على القاهرة، ثم لحق به يوسف باشا الصدر الأعظم بعد أن فتح دمياط، فاجتمع الجيشان تحت أسوار القاهرة فقاومهما «بليارد» حينا ثم اضطر إلى مفاوضتهما في الصلح على شروط معاهدة العريش، وسلم القاهرة في 26 يونيو سنة 1801، وفي 7 أغسطس نقلته المراكب الإنكليزية هو وعساكره إلى فرنسا.
ولما علم «مينو» بتسليم «بليارد» اغتم جدا وصمم على الدفاع حتى النفس الأخير.
وكان الإنكليز قد أرسلوا نجدة من الهند 6400 مقاتل من الإنكليز والهنود بقيادة الجنرال بيرد، فأتت بطريق القصير وقنا ووصلت القاهرة في 10 أغسطس، فسار هتشنسون بجيوشه إلى الإسكندرية وحصرها برا وبحرا من كل الجهات، فاضطر «مينو» إلى التسليم في 2 سبتمبر بالشروط التي سلم بها «بليارد»، وتم جلاء الفرنساويين عن مصر في منتصف أكتوبر سنة 1801، وقد فقدوا عمارتهم وفوق العشرة آلاف من جندهم.
وهكذا عادت مصر إلى تركيا بمعونة إنكلترا، ولكن ما ولى الإنكليز ظهورهم مصر حتى وقع نزاع شديد على السلطة فيها بين الألبانيين والمماليك، فتغلب حزب الألبانيين واختار المصريون «محمد علي باشا» حاكما عليهم، فثبته الباب العالي، فكان رأس الأسرة المحمدية العلوية الكريمة التي ما زالت حاكمة في مصر وسيناء إلى هذا العهد.
الفصل الثاني
في تاريخ سيناء في عهد الأسرة المحمدية العلوية
(سنة 1805-1914م) (1) محمد علي باشا مؤسس الأسرة (سنة 1805-1848)
لما تولى محمد علي باشا مصر كانت سيناء في جملة ما دخل في حوزته من أملاك مصر، وكان عرب سيناء يحكمهم قضاة منهم بحسب عرفهم وعاداتهم، وكانت مدينة الطور تابعة في الإدارة لمحافظة السويس، وقلعة نخل وغيرها من القلاع الحجازية ملحقة بقلم الرزنامة بالمالية المصرية، ونظارة العريش تابعة رأسا لنظارة الداخلية. (1-1) الثورة الوهابية سنة 1811-1818م
ولما كانت الثورة الوهابية في نجد والحجاز سنة 1811م عهد السلطان محمود الثاني بأمر إخمادها إلى محمد علي باشا، ففكر في الطريق التي يسلكها بجيوشه، فرأى أنه إذا سار بطريق سيناء فإن قلة الماء توقعه في الفشل، فآثر طريق البحر الأحمر إلى ينبع، ولم يكن عنده عمارة بحرية تقل جيشه إليها فأسس دار الصناعة في بولاق وبنى السفن قطعا وحملها إلى السويس، فركبت فيها سفنا كاملة الأدوات والعدد، وسير بها جيشا مؤلفا من 8 آلاف مقاتل بقيادة ابنه الثاني طوسون باشا، فسار إلى ينبع واتخذها قاعدة لأعماله الحربية وأرسل بعض مهماته العسكرية بطريق سيناء، وزحف طوسون باشا من ينبع ففتح المدينة ومكة بعد مواقع دموية. وفي سنة 1229ه/1814م سار محمد علي باشا لنجدته، وأدى فريضة الحج ثم عاد إلى مصر قبل أن يجهز على الوهابيين، وتبعه طوسون باشا فأصابه صرع شديد قضى عليه ولم يمهله إلا بضع ساعات.
وفي سنة 1816 سير محمد علي باشا جيشا جديدا بقيادة ابنه الأكبر إبراهيم باشا، فسار إلى ينبع بطريق قنا والقصير، وزحف على نجد بطريق المدينة، فأجهز على الوهابيين وخرب عاصمتهم درعية وأسر زعيمهم عبد الله وأرسله إلى مصر ومنها إلى الآستانة حيث احتز رأسه سنة 1818، فكافأ السلطان إبراهيم باشا بلقب «والي مكة» وكافأ محمد علي بلقب «خان» وأعطاه طشيوز ملكا له لقربها من قولة مسقط رأسه، فوقف محمد علي ريعها على ما أنشأه في قولة من المدارس والتكايا، وما زال وقفه نافذا للآن. (1-2) الحملة على سوريا سنة 1831-1841
هذا وكانت بلاد اليونان في هذا العهد تعمل على خلع سلطة الأتراك واستعادة استقلالها ، فهبت للثورة سنة 1821 وأيدتها أوروبا، فطلب السلطان نجدة من محمد علي، وكان قد فرغ من فتح السودان، فأنجده بعمارة تقل 17 ألف مقاتل تحت قيادة ابنه إبراهيم باشا سنة 1824 ففتح في بلاد اليونان مدنا وحصونا وكاد يخضعها كلها لولا أن إنكلترا وفرنسا وروسيا أرسلت مراكبها الحربية، فشتتت العمارة التركية والعمارة المصرية في موقعة نفارين الشهيرة في 20 أكتوبر سنة 1827م، فسلمت تركيا باستقلال اليونان وعاد إبراهيم باشا إلى مصر، وتنازل السلطان عن جزيرة كريت لمحمد علي لقاء ما خسرته مصر من المال والرجال، قيل وكان محمد علي يرمي إلى امتلاك البلاد العربية كلها، وقد أمل أن ينال سوريا من السلطان فلما لم ينلها أخذ يتحين الفرص لضمها إلى مصر بالقوة.
وفي سنة 1831 وقع بينه وبين عبد الله باشا والي عكا خلاف، فاتخذ ذلك حجة لاحتلال سوريا، فجرد حملة في البر والبحر بقيادة ابنه إبراهيم باشا فسير هذا في البر بطريق العريش (1 نوفمبر سنة 1831) 24 ألفا من المشاة معهم 80 مدفعا ونيفا، وسار هو في البحر إلى يافا، ومنها إلى عكا، فحصرها بحرا وبرا نحو ستة أشهر، وأخذها عنوة في 27 مايو سنة 1832، ثم توغل في البلاد فملك دمشق الشام واشتهر ملكه بالعدل.
ولما علم السلطان محمود بما كان من محمد علي في سوريا أصدر فرمانا بعزله وتجريده من ألقابه، وأنفذ إلى سوريا الشمالية 35 ألف مقاتل بقيادة محمد باشا والي طرابلس لمقاومة إبراهيم باشا، فالتقاه بقرب حمص في 9 يوليو سنة 1832، ففاز إبراهيم باشا عليه وهزمه، وتقدم إلى حلب فسلمت له في 21 سبتمبر فترك فيها حامية وتابع مطاردة جيش حمص، فأدركه في مضيق بيلان في جبل اللكام وهزمه مرة ثانية وغنم كثيرا من مدافعه، وجرد السلطان محمود جيشا آخر فكان نصيبه كالأول.
ولما تم لإبراهيم باشا فتح سوريا تقدم إلى آسيا الصغرى، فاستولى على أطنة وطرسوس، ثم انتهى إليه أن السلطان أعد جيشا ثالثا بقيادة الصدر الأعظم رشيد باشا فجد للقائه، وفي ديسمبر التقاه في قونية فمزق شمله وأسر قائده وهدد الآستانة، فخافت أوروبا العاقبة وقامت لتوقفه عند هذا الحد، فأبرمت «معاهدة كوتاهيا» سنة 1833، وفيها تنازل السلطان محمود لمحمد علي عن مصر والحجاز وكريت، ولإبراهيم باشا عن سوريا وأطنة على أن يكون كلاهما تابعا للباب العالي ويدفع له جزية سنوية.
ولكن السلطان محمود ما لبث أن استعد لاستعادة سوريا من إبراهيم باشا، فأرسل لقتاله 80000 مقاتل بقيادة حافظ باشا، فالتقاهم إبراهيم باشا في سهل نزيب غربي عين تاب في 24 يونيو سنة 1839 وهزمهم إلى مرعش وقتل وأسر وغنم، وكانت الدولة قد أرسلت عمارة بحرية إلى ثغر الإسكندرية، فسلمت إلى محمد علي بلا قتال.
ومات السلطان محمود بعد موقعة نزيب بثمانية أيام فخلفه السلطان عبد المجيد، وعقد مع روسيا وبروسيا وأوستريا وإنكلترا «معاهدة لندن» في 15 يوليو سنة 1840 سلم بمقتضاها أن يكون حكم مصر لمحمد علي وذريته الأكبر فالأكبر من بعده، على قاعدة الوراثة في السلطة العثمانية، وأن تكون ولاية عكا له مدة حياته على أن يتنازل لقاء ذلك عن سائر فتوحاته، وبعثت الدولة إلى محمد علي تبلغه رسميا هذه المعاهدة فأبى التسليم بها واستعد للقتال وكانت فرنسا تعضده، فأصدر السلطان فرمانا بعزله عن مصر وخرجت عمارات الدول المتحالفة إلى سوريا لترغم إبراهيم باشا على الجلاء عنها، ففتحت سواحل سوريا وأقلعت العمارة الإنكليزية إلى الإسكندرية ففاوضت محمد علي في أمر الصلح على أن يسلم سوريا والعمارة العثمانية في الحال، وأن يكتفي بمصر له ولذريته، وألا يتجاوز عدد الجيش المصري 18 ألف جندي، وأن يضرب النقود باسم السلطان»، وقد صدر الفرمان الشاهاني بذلك بتاريخ 13 فبراير سنة 1841م، ولم يكن محمد علي بعد فتوحاته المجيدة راضيا بهذه النتيجة، ولكنه قبلها مضطرا اختيارا لأهون الشرين، وقد أمر جنوده - قبل صدور الفرمان - بالرجوع عن سوريا. قيل فعادوا منها 50 ألفا وكانوا قد ذهبوا إليها 130 ألفا.
هذا وكان إبراهيم باشا قبل قيامه بالحملة على سوريا قد رمم بئر قطية وبئر العبد وبئر الشيخ زويد، ونظم بريدا على الهجن إلى غزة، وجعل له المحطات الآتية: القنطرة، قطية، بئر العبد، بئر المزار، العريش، الشيخ زويد، خان يونس، غزة، ووضع الخفراء على الآبار لحمايتها، ولما رجع بجيشه من سوريا نقض عليه السواركة والترابين، فنهبوا محطات البريد في الشيخ زويد وبئر المزار، فجرد عليهم عرب الهنادي من مصر لتأديبهم فساروا في طريق العريش وكانوا كلما صادفوا عربيا في طريقهم جردوه من ماله، فنفرت العربان إلى الجبال فجمع الهنادي ماشيتهم وساقوها أمامهم إلى خان يونس؛ فاجتمع منها هناك شيء كثير حتى قيل إن رأس الماعز بيع بغرشين. (2) إبراهيم باشا ابنه (من يونيو إلى نوفمبر سنة 1848م)
وفي يونيو سنة 1848 انحرفت صحة محمد علي حتى لم يعد في استطاعته إدارة الأحكام؛ فتولى مصر ابنه الأكبر إبراهيم باشا، ولكنه لم يلبث أن راجعه انحراف كان قد طرأ على صحته واشتد عليه بغتة، ففارق هذا العالم في 10 نوفمبر سنة 1848 قبل أن يخرج إلى حيز العمل ما كان قد نواه من الخير لبلاده، ثم توفي محمد علي باشا بعده في 2 أغسطس سنة 1849م تغمدهما الله برحمته وأسكنهما فسيح جناته.
هذا وفي أيام محمد علي باشا، سنة 1810، طرق سيناء الرحالة الشهير «بوخارت»، فكان أول سائح جال في سيناء وكتب عنها في هذا العهد.
وفي سنة 1825 أرسل محمد علي مهندسا فرنساويا، يسمى الموسيو «لينان» إلى بلاد الطور، فدرس معادنها ورسم خارطتها، وسمى نفسه هناك «عبد الحق»، وكانت الخارطة التي رسمها أول خارطة وضعت لسيناء في التاريخ الحديث. (3) عباس باشا الأول بن طوسون باشا ابن محمد علي (سنة 1848-1854م)
وبعد وفاة إبراهيم باشا تولى مصر عباس باشا أكبر أولاد الأسرة العلوية، وقد زار سيناء واهتم بها اهتماما كبيرا، وظهر أنه نوى أن يجعلها مصيفا له، فبنى فيها الحمام فوق النبع الكبريتي في قرب مدينة الطور، ومهد طريقا من دير طور سيناء إلى قمة جبل موسى، وشرع في بناء قصر جميل على جبل «طلعة» غربي جبل موسى، وشرع في مد طريق للعربات من مدينة الطور إلى القصر، ولكن عاجلته المنية قبل أن يتمها، وكان لرهبان الدير والجبالية حدائق عند جبل طلعة فأخذها منها وعوض عنها الجبالية مبلغا كبيرا يساوي أضعاف الثمن، وعوض الرهبان «أبعدية» في سرياقوس بمصر مساحتها نحو مائة فدان من أجود الأطيان، وهي الآن من أفضل أملاكهم وأنفعها. (4) سعيد باشا نجل محمد علي باشا سنة 1854-1863م
وخلفه سعيد باشا نجل محمد علي باشا، وهو الذي أذن في حفر ترعة السويس سنة 1856م، وأسس محجر الحجاج في سيناء سنة 1858م كما مر. (5) إسماعيل باشا ابن إبراهيم باشا (سنة 1863-1879م)
وخلفه إسماعيل باشا ابن إبراهيم باشا، وفي أيامه سنة 1868م أرسل الإنكليز لجنة علمية برئاسة الأستاذ هنري بلمر للتنقيب في بلاد الطور، فأقامت فيها ستة أشهر رسمت في أثنائها عدة خرائط وأخذت نحو 300 صورة شمسية تمثل أخص مواقع البلاد، ونشرت خلاصة أعمالها وآرائها سنة 1872م في كتاب كبير.
وفي أيامه تمت ترعة السويس، فاحتفل بافتتاحها في 17 نوفمبر سنة 1869 احتفالا شائقا لم تر مصر مثله في تاريخها الحديث، وقد أنشأ عند منتصف الترعة بلدة خاصة لهذا الغرض سماها باسمه «الإسماعيلية»، ودعت الحاجة إلى إنشاء قرية في طريق العريش على شاطئ الترعة الشرقي لجهة سيناء سميت «بالقنطرة» وقد مر وصفها.
وكان إسماعيل باشا كبير المطامع شديد الرغبة في إصلاح بلاده وتمدينها، وكانت الولاية في مصر إلى عهده لا تزال تنتقل إلى الأكبر فالأكبر من أفراد الأسرة المحمدية العلوية، فسعى في جعلها لبكر أبنائه ولبكر هذا من بعده، فأصدر السلطان عبد العزيز فرمانا بذلك في 8 يوليو سنة 1873م، وأجاز له زيادة الجيوش البرية والبحرية حسب الحاجة، وعقد قروضا ومعاهدات تجارية، ومنحه لقب خديوي وهو أكبر ألقاب الدولة، وأنشأ إسماعيل باشا كثيرا من القصور والمدارس والمعامل والمتاحف والشوارع، وحفر الترع، ومد خطوط السكك الحديدية والأسلاك التلغرافية، وأسس مصلحة البريد في مصر وأدخلها في اتحاد البوسطة العام، فضلا عما أتاه في السودان والحبشة من الحروب والفتوحات، فاستغرقت كل هذه الأعمال والإصلاحات القناطير المقنطرة من الأموال، واستنفدت أموال البلاد؛ فاضطر إلى عقد قروض مالية في أوروبا حتى بلغ دين الحكومة المصرية نحو 91 مليون جنيه، فأصبحت حملا ثقيلا على الخزينة المصرية وعلى أهالي البلاد؛ لأنه كان يضرب الضرائب الفادحة ليوفي منها فائدة تلك الديون ويستخدم العنف في تحصيلها، ومع ذلك فقد عجز عن تسديد الأقساط المستحقة في حينها، فآل الأمر إلى مداخلة الدول الأجنبية للمحافظة على أموال رعاياها أصحاب الديون، فتشاورت في أحسن الوسائل لضمان تلك الديون واستهلاكها، فألفت لجنة دولية مشتركة سميت صندوق الدين العمومي، وصدر الأمر العالي بتشكيله في 2 مايو سنة 1876، وكانت أعمال الحكومة المصرية إلى هذا العهد تجري بمقتضى إرادة الخديوي رأسا، فحملت الدول الخديوي على تأليف مجلس النظار كما هو الآن وتعيين ناظرين أحدهما إنكليزي للمالية والآخر فرنساوي للأشغال العمومية، فاستعظم إسماعيل غل يديه بمجلس فيه ناظران أجنبيان، فقلب هيئة المجلس في 7 أبريل سنة 1879 وأخرج منه الناظرين الأجنبيين، فساء ذلك إنكلترا وفرنسا فسعتا لدى الباب العالي، فصدر الأمر الشاهاني بإقالته في 26 يونيو سنة 1879، وفي 30 منه غادر مصر إلى نابولي، ثم استدعاه السلطان عبد الحميد إلى الآستانة، فبقي فيها إلى أن توفي في 6 مارس سنة 1895 فنقلت جثته إلى مدفن آبائه في مصر، طيب الله ثراه. (6) محمد توفيق باشا ابن إسماعيل باشا (سنة 1879-1892م)
وخلفه ابنه الأكبر محمد توفيق باشا، فأراد السلطان عبد الحميد حرمانه الامتيازات التي منحها السلطان عبد العزيز لأبيه، فتصدت للدفاع عنه إنكلترا وفرنسا صاحبتا المراقبة على أموال مصر، لكن السلطان عبد الحميد فاز في تحديد عدد الجند فجعله 18 ألفا، وأصدر الفرمان بذلك في 14 أغسطس سنة 1879. (6-1) الثورة العرابية سنة 1882م
وأهم ما جرى في عهد توفيق باشا: الثورة العرابية في مصر، ثم الثورة المهدية في السودان سنة 1882، وكان الباعث الأكبر لهما في البلادين «ظلم الترك للعرب»، وقد ظهر ظلم الترك على الخصوص في الجندية، فكان للتركي الرتب العالية والرواتب الفادحة والكلمة النافذة، وما على العربي إلا الطاعة، وكان أول من رفع صوته وجاهر بالشكوى في مصر «عرابي باشا» فنسبت الثورة إليه. (6-2) قتل الأستاذ بلمر ورفاقه في 11 أغسطس سنة 1882
وأهم ما جرى في سيناء في أثناء الثورة العرابية قتل الأستاذ بلمر الإنكليزي ورفاقه، وتفصيل ذلك «أنه لما ثار عرابي وانبرى الإنكليز لإخماد ثورته حبا بإعادة السلام إلى مصر والمحافظة على القنال بنوع خاص؛ أوفدوا إلى سيناء الأستاذ هنري بلمر المار ذكره وأوفدوا معه ضابطين من الإنكليز، وهما الكبتن جل من المهندسين واللفتننت تشارنتون من البحارة بمهمة سرية غايتها الظاهرة شراء الجمال للحملة الإنكليزية والخفية قطع خط التلغراف بين مصر وسوريا وتهدئة العربان ومراقبتهم؛ لئلا يعبثوا بالقنال أو المراكب التي تمخر فيه، وقد وضعت البحرية الإنكليزية تحت أمره عشرين ألف جنيه لإتمام هذه المهمة، فأخذ منها 3000 جنيه وخرج من السويس مع رفيقيه في 8 أغوسطوس سنة 1882 قاصدا بلدة نخل بطريق وادي سدر، وقد صحبه مترجم سوري يدعى «خليل عتيق» وطباخ إسرائيلي يدعى «بخور حسون»، وكان خبيره ومعتمده من عربان سيناء «مطير أبو صفيح» أحد كبار الصفايحة اللحيوات، ومعه «سالم» ابن أخيه، وتسعة جمالة: ثمانية من العليقات ورجل من مزينة.
شكل 2-1: اللفتننت تشارنتون.
شكل 2-2: الأستاذ بلمر.
شكل 2-3: الكبتن جل.
وفي هذه الأثناء كان شرر الثورة العرابية في مصر قد تطاير إلى سيناء، فما أوغلوا في وادي سدر حتى انقض على الحملة عصابة من اللصوص الترابين والحويطات، فقتلوا بالمر ورفيقيه الضابطين والمترجم والطباخ وأبقوا على البدو، وأما النقود فقد فر بها الشيخ مطير وابن أخيه، وكان ذلك في 11 أغسطس سنة 1882.
ولما أخمد الإنكليز الثورة العرابية في مصر أرسلوا إلى سيناء وفدا برئاسة الكولونل السر تشارلس ورن، فبحث عن الجناة حتى وجدهم وجاء بهم إلى مصر، فحوكموا في طنطا وحكم على خمسة منهم بالقتل وعلى سبعة آخرين بالسجن المشدد مددا مختلفة. وقد وجد الوفد بعض رفات الأستاذ بلمر ورفاقه الأربعة، فنقلوها إلى لندن فدفنت في دار كنيسة القديس بولس، وجعل فوق المدفن صخرة تاريخية ذكرت فيها أسماؤهم ومقتلهم وغرض رسالتهم، ونشر الكولونل السر تشارلس ورن كتابا وفى فيه الكلام على مقتل بلمر ورفاقه، وكيفية البحث عن الجناة والقبض عليهم ومحاكمتهم، ولكني لم أذكر عن هذه الحادثة إلا ما علمته بنفسي من عرب سيناء سنة 1906م.
وقد كان بين الجمالة العليقات الذين رافقوا حملة الأستاذ بلمر «مدخل سليمان» شيخ العليقات الحالي، فسألته أن يقص علي خبر مقتل بلمر ورفاقه، فقال: كان الشيخ عبد الله (وهو الاسم الذي اختاره الأستاذ بلمر لنفسه في سيناء) عند مجيئه إلى السويس قد طلب من شيخنا عودة الزميلي أن يصحبه في سفرته هذه إلى سيناء، فأبى قائلا: إن «البر مهزوز» فما أضمن سلامتكم فيه، ولكن الشيخ عبد الله أصر على الذهاب، فأخذ «مطير بن صفيح» خبيرا ومعتمدا، وقمنا من عيون موسى (في 9 أغسطس سنة 1882)، وقيلنا في مطخ النسر، فأتانا هجان حويطي يدعى سالم أبو صبحي يصحبه راجل، فأسرا كلاما إلى مطير وعاد الراجل إلى حيث أتى وبقي الهجان، ثم استطردنا السير فنزلنا للمبيت في وادي الأحثا.
وكنا قد التقينا في الطريق ثلاثة رجال: حويطي وعليقي وترباني قاصدين عيون موسى، فما حططنا رحالنا حتى رأيناهم رجعوا ونزلوا للمبيت معنا.
وكان الشيخ عبد الله قد بدأ بشراء الإبل من عيون موسى، فاشترى فيها عشرة جمال وساقها معه، فلما أصبحنا «في 10 أغسطس» وجدنا الرجال الثلاثة قد سرقوا منها جملين وفروا بهما، فركبت في الحال مع ثلاثة من الجمالة وسرنا في أثرهم حتى رأيناهم في أعالي وادي غرندل، ولما رأونا تركوا الجملين وفروا هاربين، فعدنا بالجملين إلى المخيم الساعة واحدة بعد الظهر، وفي عودتنا سألت عن سالم أبو صبحي الهجان الحويطي المذكور آنفا فقالوا: مشى، فقلت لمطير: «أرى الدنيا قائمة، فالأفضل أن نرجع بالخواجات إلى العيون»، فهزأ بكلامي وقال: «إن عادتكم أنتم الطورة الخوف.»
ثم رأيته يسار الشيخ عبد الله، وفي العصر ناداني الشيخ عبد الله وقال: نحن الضباط والترجمان نتقدم مع مطير وابن أخيه إلى عين سدر، وأنتم والطباخ تبقون هنا إلى قرب الغروب، وتسيرون ليلا فتبيتون في عد أبو جراد في بطن وادي سدر ، ثم تلحقون بنا في اليوم التالي إلى العين، وطلب هجيني ليركبه فأعطيته إياه، وسار هو ورفيقاه الضابطان والترجمان ومعهم مطير وابن أخيه والنقود، وبقينا نحن إلى قرب الغروب فسرنا وبتنا على عين أبو جراد، على نحو 7 ساعات من عين سدر، حسب الأمر.
أما الشيخ عبد الله ورفاقه فإنهم بقوا سائرين بوادي سدر إلى ما بعد الغروب، فأتوا عدا في أسفل عين أبو رجوم على نحو ساعتين من عين سدر، وكان بعض اللصوص من الحويطات والترابين فوق عين أبو رجوم متربصين لهم، فلما أحسوا بهم شرعوا في إطلاق النار عليهم، فوقفوا وبركوا هجنهم، وفيما هم يبركون الهجن أصابت رصاصة ناقة سلامة ابن أخي مطير فماتت، وكان عليها النقود في خرجين، فوضع مطير الخرجين على هجينه وأركبه ابن أخيه وسيره إلى بلاده، ثم ركب هجينا من هجن الضباط ولحق بابن أخيه، فبقي الضباط والترجمان وحدهم، فأخذ الترجمان ينادي اللصوص: الأمان يا قوم، الأمان، تعالوا هنا، فأتوا وقبضوا عليهم وجردوهم من ثيابهم إلا الألبسة، ثم قالوا: هاتوا فلوسكم وإلا قتلناكم، فقالوا: «الفلوس أخذها مطير وابن أخيه وفرا بها»، فقالوا: أين بقية حملتكم؟ قالوا: «تركناها على أن تمرح الليلة في عد أبو جراد»، فتركوا سبعة منهم يخفرون الأسرى وانحدروا إلينا على عين أبو جراد.
وفي صباح اليوم التالي؛ أي 11 أغسطس، فيما نحن نحمل الإبل قصد استطراد السير إذا بهم يطلقون الرصاص علينا، ثم اقتربوا منا وسألونا عن مطير وابن أخيه، فأقسمنا أننا لم نرهما، فساقوا الإبل والطباخ وسندوا في الوادي، وفر الجمالة الذين معنا بأربعة جمال عريانة، وأما أنا فقد رأيت من فعل هؤلاء اللصوص أن شرا لحق بالضباط والترجمان، وكان هجيني معهم كما قدمت، فتبعت اللصوص لأفتش عن هجيني فلم نبعد عن العين ساعة حتى جاءنا هجان من السبعة الذين تركهم اللصوص لخفارة الضباط والترجمان، وقال: إن مطيرا عاد ومعه عشرة من الحويطات الدبور والصفايحة لإنقاذ الضباط والترجمان، وكان هذا الهجان راكبا هجيني، فأقسمت للقوم أنها لي فسمحوا لي به فامتطيته وقفلت راجعا به إلى منزلي.
وأما اللصوص فإنهم جدوا السير حتى لحقوا بمطير والضباط، فقالوا له: إن كنت تحب نجاة الضباط فهات الفلوس وإلا قتلناهم لا محالة، فألح الضابط إذ ذاك على مطير أن يعطيهم الفلوس، فقال لهم: إن كان هؤلاء ينوون الشر فإنهم لا بد أن يقتلوكم أعطيناهم الفلوس أو لم نعطهم، فقاد اللصوص الأستاذ بلمر والضابطين والترجمان والطباخ إلى شاهق يطل على عين أبو رجوم وأوثقوهم وقذفوا بهم إلى بطن الوادي، ثم أجهزوا عليهم رميا بالرصاص، وجروا جثثهم إلى مكان قرب العين فيه «ديس»، فخبئوها هناك وتفرقوا إلى بلادهم.
وبعد أن هدأت الثورة العرابية طلبت إلى مصر شاهدا، فشهدت بما رأيت وسمعت، وكان الإنكليز قد ساءهم من شيخنا عودة الزميلي إباءه مرافقة الضباط فعزلوه عن المشيخة ونصبوني في مكانه شيخا على العليقات، وما زلت كذلك إلى اليوم. ا.ه.
وحدثني الشيخ موسى أبو نصير شيخ مشايخ الطورة عن هذه الحادثة قال: اهتم الإنكليز لهذه الحادثة كل الاهتمام، وصمموا على معرفة الجناة ومعاقبتهم، وكان بدو مصر قد ألصقوا الجناية بالطورة وقالوا: إني أنا شخصيا مسئول عنها، فقبل أن أخمد الإنكليز الثورة في مصر أرسلوا مركبا حربيا إلى الطور يطلبونني بالاسم، وكان على مدينة الطور إذ ذاك ناظر من قبل محافظة السويس يدعى عفيفي أفندي، فجاءني بنفسه إلى وادي فيران وتوسل إلي أن أذهب معه لمقابلة قائد المركب، وقال: إذا أنت لم تحضر معي فالله يعلم ماذا يكون جزائي، وكان عرب الطورة إذ ذاك في أشد الهياج، وقد جاءهم بعض البدو من مصر وأخبروهم أن عسكر المسلمين ذبحوا الإنكليز، وقام المسلمون على النصارى في مصر وذبحوهم وغنموا مالهم، فتعالوا نذبح نصارى الطور ونغنم مالهم، فقلت للناظر: لا بد لي في مثل هذه الأحوال من البقاء بين قومي لمنع هذه الفتنة التي تعود علينا جميعا بالوبال، وإن شاء الله بعد وصولك إلى الطور بأربعة أيام أكون عندك، ولما كان الميعاد أخذت عشرة رجال من قبيلتي وسرت بهم قاصدا الطور بطريق وادي حيران، فبت في فم الوادي في أول سهل القاع، فلما درى العرب بقيامي أسرعوا بخيلهم ورجلهم لاحقين بي، وقالوا: لا بد لنا من ذبح نصارى الطور.
قال الشيخ أبو الجدائل: «وقال واحد من القوم: لنبق على إلياس عنصرة ليكشف لنا «كتاب الأم»، فصاح حسين أبو ربيع من عرب مزينة: «جلدي»؛ أي لنقتلهم جميعا ولا نبقي على أحد، فلقب «بحسين جلدي » إلى اليوم.
قال الشيخ موسى: فقلقت لإصرارهم على هذا العزم؛ لأني رأيت فيه خراب جزيرتنا، فأخذت السيف ورسمت برأسه خطا في عرض الطريق وصحت بالقوم قائلا: إن من يتعدى هذا الخط إلى جهة الطور أقتله أو يقتلني، وبعد جدال طويل سلموا بالرجوع إلى فيران ولكنهم شرطوا علي أن أعود معهم، فعدت تلافيا للشر، وبعثت برسول إلى الطور ليخبر الناظر بما كان وينذر أهل الطور ليأخذوا الحيطة لأنفسهم، وما وصلنا فيران حتى أتانا الخبر أن الإنكليز قهروا عرابي وأخذوه أسيرا، فرأى العرب إذ ذاك صواب رأيي وشكروني ولم يعد أحد منهم يخالفني برأي.
ثم جئت إلى الطور فوجدت المركب الحربي قد عاد إلى السويس، فعدت إلى فيران وبعثت إليه بالخبر، فجاءني منه رسول يدعى «مبارك أبو عطوة» من النفيعات، فصحبته إلى السويس ووصلناها (في 19 أكتوبر سنة 1882) ودخلت دار المحافظة فوجدت فيها ثلاثة من الضباط الإنكليز على كراسيهم ومعهم مترجم، فحييتهم فلم يحفلوا بي ولا أمروا لي بكرسي أجلس عليه، وأخذ المترجم يسمع لهم ثم يلتفت إلي ويقرعني لأني تأخرت عن المجيء إلى الطور في الميعاد، فاعتذرت بجملة مقتضبة، ولكن الغيظ كان قد أخذ مني كل مأخذ حتى لم أعد أستطيع الكلام، فصار المترجم يكلمني وأنا ساكت، ثم قلت: «قل لهؤلاء الإنكليز ما أنا قتلت الشيخ عبد الله حتى أعنف وأهان وأترك واقفا أمامهم كمجرم قاتل، وإني رجل محترم في قومي وفي مجالس الحكام، وأكبر حاكم يقف لي ويشير إلي بالجلوس قبل أن يبادئني بخطاب.»
فلما ترجم لهم هذا القول وقد رأوا من لهجتي الصدق والبراءة تبسموا وأمروا لي بكرسي وقهوة وسيجارة، ثم سألوني عدة أسئلة دلت أن عربان مصر قد ألصقوا التهمة بالطورة، وكنت أعلم أن الطورة أبرياء منها، وأن أهل التيه هم الجانون، فقلت للمحققين: تعالوا معي في الطريق التي سار بها بلمر والضباط وأنا أهديكم إلى القاتلين إن شاء الله، ففرحوا لقولي وقاموا معي يصحبهم مترجم وبعض المشايخ من مصر، فسرنا في طريق وادي سدر ونحن نحقق الأمر حتى وصلنا إلى محل القتال والمكان الذي خبئوا فيه الجثث عند عين أبو رجوم، وكانت الضباع قد عبثت بها، وكان أول من دلني عليها وهداني إلى الجناة رجل من العليقات مستخدم عند حسن بن مرشد الترباني أحد الجناة الملقب بأبي عديمة.
ودلنا على الشاهق الذي دهور منه الأستاذ بلمر ورفاقه الأربعة، فأقام الإنكليز فوقه «رجما» عظيما من الحجارة الغشيمة على شكل هرم باق هناك إلى اليوم.
شكل 2-4: رجم مقتل الأستاذ بلمر ورفقائه.
ثم ذهبنا كلنا إلى نخل وشرعنا في التحقيق حتى عرفنا الجناة فردا فردا، فألقي القبض على أكثرهم وسيقوا إلى القطر المصري، فحوكموا في طنطا، فحكم على بعضهم بالشنق وعلى البعض بالسجن خمس عشرة سنة وعشر سنين وخمس وثلاث، وممن حكم عليهم بالشنق: سالم الشيخ من الغناميين الحويطات (مات في السجن قبل تنفيذ الحكم)، وسالم أبو تلحيظة من الدبور الحويطات، وعلي الشويعر من الترابين، وحسن بن مرشد الثرباني الملقب بأبي عديمة «وقد فر من السجن».
أما مطير أبو صفيح فقد أنكر الدراهم أولا ثم اعترف بها، ودلنا على مخبئها في الجبل، فوجدنا الصندوق مفتوحا والدراهم ناقصة ألف جنيه، فاستدللنا من ذلك على طمعه وعدم إخلاصه، وقد مات هو وابن أخيه في السجن قبل صدور الحكم عليهما. ا.ه.
وحدثني أحد أعيان السويس عن لسان حسن بن مرشد الترباني المذكور قال: إن الإنكليز بذلوا الجهد في القبض علي، فألزموا سلامة بك شديد شيخ الحويطات أن يحضرني إليهم، فأرسل سلامة بك الرسل بطلبي، ثم أتى بنفسه وقال لي: «أنت بوجهي تواجه سالم وتطلع غانم»، فذهبت معه فأخذني إلى العباسية، وحال وصولي وضعوا الحديد في رجلي وحبسوني في خيمة، ولما كانت الساعة 3 بعد الغروب سمعت الحراس يقولون همسا: باق من عمر هذا المسكين ليلة، فلما سمعت هذا القول قلت: هذا وقتك يا حسن، وصممت على الفرار، وبعد نصف الليل اغتنمت غفلة الحراس وفررت والقيد في رجلي فاختبأت في كهف في جبل المقطم، ولم يكن إلا القليل حتى سمعت وقع حوافر الخيل - خيل الحراس - بالقرب مني، ولكن الله سبحانه أعمى أبصارهم فلم يروني، فأخذت أعالج القيد الذي برجلي حتى فككته ونجوت بنفسي في تلك الليلة، وما طلعت الشمس حتى كنت في جزيرة سيناء وقد عبرت الترعة سباحة شمالي السويس. واجتمع علي خمسة من أولاد عمي فتسلحنا وكنا نقضي النهار كله على رأس جبل الراحة وفي الليل نعود إلى أهلنا، وقد علمت أن الإنكليز عادوا فطلبوني مرة ثانية من سلامة بك، فقال لهم: إنه فر إلى بلاد الشام فأرسلوا العساكر إلى مخيمي فأخذوا امرأتي ومالي: حمار و20 رأس غنم وبيت شعر، فأبقوا المال وأرجعوا امرأتي بعد أن ولدت في السجن، وأما أنا فبقيت محاذرا مهاجمة العساكر مدة ستة أشهر، ولما رأيت الطلب قد كف عني عدت إلى عيشتي السابقة. ا.ه.
قال محدثي: لم يمض على الحادثة سنتان حتى صار حسن المذكور يجيء إلى السويس ويعود بلا خوف رقيب أو واش؛ لأنه كان محبوبا من الجميع من بدو وحضر، وكان رجلا عاقلا بصيرا، سخي الكف سديد الرأي، وكان العرب يقصدونه لفض مشاكلهم، وقد مات في البرية نحو سنة 1894م. ا.ه. (6-3) تحويل درب الحج المصري عن سيناء
ثم إن من أهم ما حدث في سيناء في عهد المغفور له توفيق باشا انقطاع الحج المصري منذ طلعة 1301ه/1884م عن طريق سيناء، واتخاذه طريق البحر إلى جدة. وقد وسع محجر الطور ومد إليه خط تلغرافي من السويس سنة 1900م، فكان في تغيير هذه الطريق راحة للحجاج تفوق الوصف؛ لأنهم كانوا يقاسون كثيرا من الشدائد والأخطار بطريق البر، ولكن شق على البدو انقطاع الحج عن بلادهم، وكان في جملة من خسروا بذلك الحويطات، واتفق أن الحكومة في ذلك الحين حاولت تجنيدهم فهالهم الأمر جدا، وخرجوا من بلادهم راحلين إلى الحجاز، فأرسل الخديوي من أعادهم وأعفاهم من الجندية، وفي ذلك قال شاعرهم:
يا راكبين من فوق حيال وعفور
في جيرة الله غنوا لهن
تلفوا علي أبو طقيقة يا عد مذكور
وياكم حائل يرمي شحمهن
قولوا لفانا علم ما هو على البدو ممرور
حتى بنات البدو عين لا يقنعن
والحج صبح عن مشاحيه مدحور
وصارت «غلايين البحر» ينقلنه
ول من دنيا لك سبعة أركان
ولك لوالب بس تبرم بهن
من طاع للنمرة قاود كما التور
ويصبر لما ينزل النير عنه
ثم بعد انقطاع الحج المصري عن سيناء صدر قرار مجلس النظار في 21 مايو سنة 1885 نمرة 131 بإلحاق القلاع الحجازية الحربية وكانت تابعة للرزنامة بالمالية، فقامت تركيا تطالب مصر بهذه القلاع، وكانت مصر تنفق عليها بلا جدوى فسلمت الوجه سنة 7-1888، ثم ضبا فالمويلح فالعقبة سنة 1-1892 كما مر. (7) عباس حلمي باشا الثاني ابنه (سنة 1892-1914م) (7-1) فرمانه
وخلف توفيق باشا ابنه الأكبر عباس حلمي باشا الثاني، ولما أرسل السلطان عبد الحميد فرمان توليته خديويا على مصر أخرج جزيرة سيناء كلها من حدود مصر، فاعترض المعتمد الإنكليزي السر إفلن بارنج (اللورد كرومر) على ذلك وأوقف قراءة الفرمان رسميا حتى جاء التصحيح من الآستانة. (7-2) زيارته الطور سنة 1896
وفي 22 يونيو سنة 1896 أبحر عباس باشا إلى مدينة الطور، فزار محجرها وجامعها وحمام موسى، وعاد إلى مصر. (7-3) زيارته العريش سنة 1898
شكل 2-5: تاريخ زيارة عباس حلمي باشا الثاني لرفح.
وفي سنة 1898 زار برا بلاد العريش، فوصل عمودي الحدود عند رفح واستراح هناك ساعة، وكان محافظ العريش إذ ذاك عثمان بك فريد فأمره بأن يكتب تاريخ زيارته الحدود على العمود الذي إلى جهة مصر، فخط التاريخ الشيخ إبراهيم محمد قاضي المحكمة الشرعية بالعريش، خطه على صحيفة كبيرة ونقشه في العمود مصطفى أفندي البيك من أهالي العريش، وكان القاضي قد عمل مسودة للتاريخ، فبقيت عند عبد الحميد أفندي وهبة كاتب المحكمة، فسلمني إياها في العريش في 9 سبتمبر سنة 1906، وهذه هي صورتها مصغرة بالفوتوغرافية:
ومما أجراه عباس باشا من الإصلاح عند زيارته العريش أنه جدد بناء جامع العريش كما مر، ورمم بئر قطية، وحفر بئرا جديدة عند النبي ياسر على ساحل العريش، وأما ما جرى من الإصلاح في سيناء عموما على عهده فقد مر الكلام عليه تفصيلا.
ومن الحوادث التي جرت في عهده في سيناء قتل الهنداويين، وتفصيل ذلك: (7-4) قتل الهنداويين على درب الحج سنة 1905
أنه في 7 مارس سنة 1905 خرج محمد الهنداوي وأخوه إبراهيم من بلدتهما نخل في طريق الحج المصري قاصدين العقبة للاتجار ومعهما جملان يحملان من بضاعة البن والسكر والزيت والحنطة والأقمشة ما لا تزيد قيمته على 15 جنيها، وقد رافقهما من نخل رجل ترباني وعبد من العقبة معه جمل يحمل بضاعة لسيده، فلما كانوا على نحو عشرة أميال من نخل صادفهم خمسة من الصقيرات التياها مسلحين ببنادق رمنتون آتين من الشمال لغزو الصفايحة في الجنوب طلبا للثأر، وكان بين هؤلاء الصقيرات الخمسة: «سليم الأطرش» فتى في الثلاثين من عمره و«صباح حسين» في الخامسة والعشرين، فقال هذان لرفاقهما: هلموا نتبع هؤلاء التجار فنقتلهم ونغنم مالهم، فأبى الرفاق عليهما ذلك وبقوا مستمرين في طريقهم لغزو الصفايحة، أما هما فإنهما صمما على إنفاذ رأيهما وتتبعا التجار إلى أن نزلوا للمبيت في وادي «أبو قويعة» على نحو عشرين ميلا من نخل، وما أوقدوا النار وشرعوا في تهيئة الطعام حتى كان الرفيقان قد اقتربا من الوادي متسترين بالظلام، فأطلق سليم الأطرش عيارا ناريا أصاب محمد الهنداوي فجندله قتيلا، وحاول صباح حسين إطلاق عياره فلم ينطلق لأنه كان فاسدا، ثم هاجما المحلة ففر العبد والترباني وبقي إبراهيم الهنداوي مدهوشا مما دهاه، فأوثقاه وربطا عنقه برجل أخيه المقتول وحملا الإبل الثلاثة بما خف وغلا، ثم حشا صباح حسين بندقيته بعيار صالح وأطلقه على إبراهيم فأرداه، ثم أخذا جمال القافلة الثلاثة وأوغلا شمالا في بلاد التيه.
وفي صباح اليوم التالي (8 مارس) حضر الترباني ثم العبد إلى نخل، وكان فيها الميرالاي محمد بك كمال قومندانا، فأخبراه بما كان، فأمر للحال ناظر نخل النشيط الملازم ميخائيل أفندي حبيب ونفرا من البوليس الأهلي وبينهم من يقص الأثر لمطاردة الجناة، فوصل الناظر ورجاله محل الحادثة الساعة 3 بعد الظهر، فوجدوا الأخوين المقتولين وإبراهيم لا تزال عنقه مربوطة برجل أخيه محمد وبضاعتهما منهوبة مبعثرة، فوضعوا كل جثة في كيس وحملوهما على جمل وأرسلوهما إلى نخل، ثم تتبعوا الأثر فوجدوا أن القاتلين هما اثنان من الصقيرات، بل عينوهما بالاسم، فذهبوا إلى مخيم الصقيرات وسألوا عنهما، فقيل لهم: إنهما غائبان منذ أيام، فأخذوا اثنين من أقرب أقربائهما رهينة وانقلبوا راجعين إلى نخل، وفي الطريق التقوا رفاق الجانيين الثلاثة المار ذكرهم عائدين من غزو الصفايحة، فساقوهم إلى نخل، وقد أخبروا كيف أن رفيقيهم تركاهم ليقتلا رجال قافلة نخل وينهبا مالهم، ووصل الناظر بمن معه إلى نخل في 14 مارس وأخبر القومندان بما كان، فأصدر القومندان أمره إلى الشيخ حمد مصلح شيخ التياها فطارد الجانيين إلى بلاد غزة، وأحضرهما إلى نخل في 26 مارس، فأنكرا جنايتهما أولا ثم اعترفا بها، وكان عند القومندان بنخل أمر عال مؤرخ 3 يناير سنة 1888 يقضي بتأليف «قومسيون» رئيسه القومندان وأعضاؤه ستة من مشايخ الجزيرة لمحاكمة الجناة، واتفق أنهم كانوا جميعا في نخل، فعقدوا مجلسا وحكموا على الجانيين بالقتل، ولما أرسل الحكم إلى مصر وجد أن الأمر العالي المشار إليه قد فات وقته، فاستصدرت الحربية أمرا عاليا لمحاكمة الجانيين من جديد، وهذه صورته:
نحن خديوي مصر
بناء على ما عرضه علينا ناظر الحربية وموافقة رأي مجلس النظار أمرنا بما هو آت:
المادة (1):
يشكل قومسيون من: نعوم بك شقير نائبا عن قلم المخابرات بنظارة الحرابية، والميرالاي سعد بك رفعت، وعلي بك حسين وكيل النيابة تحت رئاسة نعوم بك شقير للتوجه إلى شبه جزيرة سيناء؛ لسماع الدعوى المتهم فيها سليم الأطرش وصباح بن حسين بقتل محمد الهنداوي وإبراهيم الهنداوي في 7 مارس الماضي والحكم فيها.
المادة (2):
المرافعة والإجراءات أمام هذا القومسيون تكون علنية إلا في ما يتعلق بالمداولة.
المادة (3):
يعمل محضر عن كافة إجراءات القومسيون.
المادة (4):
يعاون القومسيون في سماع الدعوى أربعة مشايخ ينتخبهم الرئيس من أعيان الجهة بصفة عدول، ويجوز لكل واحد من هؤلاء العدول أن يقترح على الرئيس تكليف أي شخص بالحضور أمام القومسيون بصفة شاهد وتوجيه أي سؤال إلى أي شاهد من الشهود، ويأخذ القومسيون رأي كل واحد منهم عن مجموع القضية قبل أن يفصل هو فيها، وتدون آراؤهم في محضر الإجراءات.
المادة (5):
يراعي القومسيون في حكمه ما يكون معلوما من عوائد الجهة ما لم يكن مغايرا للعدالة أو الذمة، وفي حالة عدم وجود عوائد معلومة أو إذا كانت هذه العوائد مخالفة للعدالة أو الذمة يراعي القومسيون مبادئ العدالة، ويجوز للقومسيون بما له من واسع السلطة أن يحكم بأي عقوبة جائزة بمقتضى قانون العقوبات، أو أي عقوبة تقل عنها بشرط أنه إذا حكم القومسيون بالإعدام فلا ينفذ إلا بعد عرض الحكم علينا للتصديق عليه.
المادة (6):
يكون محافظ شبه جزيرة سيناء مسئولا عن إحضار أي شخص يكون حضوره ضروريا أمام القومسيون بصفة متهم أو شاهد.
المادة (7):
يقدم القومسيون تقريرا عن إجراءاته إلى ناظر الحربية.
المادة (8):
على ناظر الحربية تنفيذ أمرنا هذا.
صدر بسراي عابدين في 12 سفر 1323
17 أبريل سنة 1905
ناظر الحربية
محمد العباني
عباس حلمي
بأمر الحضرة الخديوية رئيس مجلس النظار
مصطفى فهمي
فوصلنا نحن أعضاء القومسيون الجديد نخل في 25 أبريل وبعثنا في طلب الشهود، وفي 7 مايو ذهبنا فشاهدنا محل الحادثة وعدنا إلى نخل في اليوم نفسه، وكان المشايخ والشهود قد حضروا، وجاء العرب من جميع أنحاء الجزيرة لحضور المحاكمة، فانتخبنا أربعة من أعيان الجزيرة ليكونوا «عدول» الجلسة حسب الأمر العالي وهم: سلام سلامة البرعصي من التياها، وسلمان سلام أبو صفية من الصفايحة اللحيوات، وسلامة بن جازي من الترابين، وسعد سلمان أبو نار من الحويطات.
وفي 9 مايو الساعة 9 صباحا عقدت الجلسة لمحاكمة المتهمين، حضرها نحو مائة رجل من عرب سيناء وموظفيها، فبدأ رئيس القومسيون بكلام تمهيدي اقتضاه المقام، ثم فتحت الجلسة باسم الجناب العالي، وسئل المتهمان كل منهما على حدة، فاعترف سالم الأطرش أنه قتل محمد الهنداوي، واعترف حسين صباح أنه قتل إبراهيم الهنداوي، وأتيا على تفصيل ذلك كما مر، وقد صدق إقرارهما عدة شهود.
ثم سئل المشايخ العدول الأربعة عن رأيهم، فقالوا إنه ليس عندهم أقل ريب في أن المتهمين هما الجانيان، وقد وجب عقابها، قالوا: ولكن عادات البلاد تعطي أهل القتيل - من الأب فصاعدا، أو من الابن والأخ والأب فنازلا لخامس جد - حق الثأر أو العفو بأخذ الدية من القاتل أو من أقاربه الأدنين لخامس جد، وأن أقارب القاتلين والمقتولين يجب أن يسألوا هل جرت بينهم المفاوضات المعتادة في مثل هذا الحادث بشأن العفو عن الجانيين بدفع الدية، ثم إن الدية في الشرع الإسلامي مائة جمل، أما في سيناء فالدية 41 جملا، وعرف البدو في سيناء كالشرع الإسلامي في أن لأقارب المتقول حق العفو التام عن القاتل أو العفو عن أخذ الدية أو قسم منها، وأنه إذا عفا واحد من ورثة المقتول سقط حق الورثة الآخرين في طلب العقاب كثروا أو قلوا، فأحضرنا أهل القاتلين والمقتولين جميعا، فقال أهل القاتلين: «لو رضي أهل القتيلين الدية فإننا لا نستطيع دفعها - لفقرنا - قبل مضي عدة سنين»، ثم سئل أهل المقتولين مرارا فردا فردا فأصروا جميعهم على تنفيذ الحد الشرعي في الجانبين، وأبوا بتاتا النظر في أمر الدية.
وفي الساعة الثامنة من مساء ذلك اليوم خلا أعضاء القومسيون للنظر في القضية، فصدر الحكم بإجماع الآراء بقتل سليم الأطرش وصباح حسين شنقا أمام قلعة نخل، وأرسل الحكم إلى القاهرة فصدقه الجناب العالي ونفذ في القاتلين في 28 مايو سنة 1905 الساعة 6 وربع صباحا أما باب القلعة. (7-5) حوادث هامة
هذا ومن الأمور الهامة التي حصلت في أيام عباس باشا في سيناء ما سمي «بحادثة الحدود» سنة 1906، ثم لما كانت الحرب الأوربية الحاضرة دخلت تركيا في صف ألمانيا؛ فأعلنت إنكلترا الحرب عليها، وكان عباس باشا إذ ذاك في الآستانة فانحاز إلى ألمانيا، فأعلنت إنكلترا حمايتها على مصر وسمت الأمير حسين كامل - ابن المغفور له إسماعيل باشا - سلطانا عليها في 19 ديسمبر سنة 1914، ثم إن تركيا جردت حملة على مصر بطريق سيناء في أوائل سنة 1915، فكان نصيبها الفشل، وسنأتي على ذكر هذه الحوادث كلها تفصيلا بعد.
الفصل الثالث
في نظار قلاع نخل والطور والعريش ومحافظيها
في عهد الأسرة المحمدية العلوية
شكل 3-1: قلعة نخل وعساكرها.
تقدم أن سيناء كانت منذ القديم تحت السلطة العسكرية المصرية، وأن مصر أنشأت فيها القلاع والحصون وأمدتها بالعساكر لحماية حدودها الشرقية وإقرار الأمن في سيناء نفسها، وقد تهدمت تلك القلاع وهجرت ولم يبق منها إلى عهد الأسرة المحمدية العلوية سوى اثنتين أو ثلاث، وهي:
قلعة نخل:
من بناء السلطان قانصوه الغوري سنة 10-1516، وهي إحدى القلاع الحجازية وصرة جزيرة سيناء ومركز حكومتها الجديد.
قلعة الطور:
قيل إنها من بناء السلطان سليم الفاتح سنة 1520، وربما كان هو الذي رممها، وهي في طريق مراكب السويس إلى المويلح وينبع وجدة وغيرها من المواني الحجازية، وقد تهدمت سنة 1826م، في أوائل حكم محمد علي باشا.
قلعة العريش:
من بناء السلطان سليمان العثماني سنة 1560م، وهي أهم قلاع سيناء لقربها من حدود سوريا ووجودها على البحر المتوسط. (1) نظار قلعة نخل ومحافظوها
أما قلعة نخل فنرى أنها كانت هي وقلعة العقبة تحت ناظر واحد برتبة يوزباشي، وكان في كل قلعة نفر من العساكر غير النظامية من متخلفي العساكر المقيمين في بلدتي نخل والعقبة، وكان الناظر يقيم غالبا في نخل ووكيله برتبة بلوكباشي يقيم في العقبة. (1) حسين أفندي إبراهيم الجندي سنة 1874: ففي سنة 1874م كان في قلعة نخل من هؤلاء العساكر 27 من المشاة و6 من الطوبجية، وكان نفر منهم في قلعة العقبة، وعلى الجميع حسين أفندي إبراهيم الجندي في نخل ناظرا. (2) اليوزباشي محمد أفندي عفيفي سنة 1874-1876: وفي تلك السنة أصدرت الحكومة المصرية أمرها بعزل العساكر المحلية من القلعتين، وأرسلت بدلهم نفرا من العساكر النظامية وعليهم اليوزباشي محمد أفندي عفيفي ناظرا، فبقي في نخل سنتين. (3) اليوزباشي محمد أفندي عبده سنة 1876-1880م: وضج العساكر المحلية بالشكوى، وقالوا: إنهم خدام القلعتين من الآباء والأجداد، ولا عمل لهم إلا حمايتهما، فأرسلت الحربية البكباشي عرابي (عرابي باشا) إلى نخل والعقبة مفتشا، فنصح بإعادة العساكر المحلية إلى القلعتين، على أن يكون عليهم دائما ضابط من الجيش النظامي، فعملت الحربية بنصحه وأرسلت اليوزباشي محمد أفندي عبده إلى نخل، فأقام فيها خمس سنين. (4) اليوزباشي علي أفندي حسين سنة 1882: وفي سنة 1882 كان الناظر في نخل اليوزباشي علي أفندي حسين، ووكيله في العقبة إسماعيل أحمد وكيل بلوكباشي، وفي أيامهما كانت الثورة العرابية وقتل الأستاذ بلمر ورفاقه في سيناء كما مر، وقد رأيت مع إسماعيل أحمد شهادة حسنة من السر تشارلس ورن الذي جاء سيناء للبحث عن قاتلي بلمر ورفاقه، أما علي أفندي حسين، فإنه اتهم بالتقصير فعزل وخلفه: (5) اليوزباشي حسين أفندي أمين (21 مارس سنة 1883-سنة 1885) وفي أيامه - سنة 1884 - انقطع مسير الحج عن طريق سيناء كما مر، وضعفت أهمية القلاع الحجازية، فصدر إليه الأمر من الرزنامة بمصر، فسلم قلعة نخل إلى الشيخ مصلح شيخ التياها، وذهب بالعساكر المحلية إلى مصر، فأمرت بعزلهم فعلت أصواتهم بالشكوى، وبقي بعضهم في مصر يواصل الشكوى مدة ثمانية أشهر. (6) الملازم الثاني إسماعيل أفندي عاصم سنة 1885م: وفي سنة 1885 كانت الحربية قد تولت إدارة القلاع الحجازية، فأصدرت أمرها بإعادة العساكر المحلية إلى كل من قلعتي نخل والعقبة مع إنقاص عدد العساكر فجعلت في كل قلعة عشرة عساكر ستة من المشاة وأربعة من الطوبجية، وعلى القلعتين ضابط برتبة ملازم، وعينت لهما إسماعيل أفندي عاصم فمكث في نخل نحو سنة ونصف سنة، وخلفه: «الملازم الثاني محمد أفندي أمين التركي سنة 1886م»: فمكث نحو سنة. «الملازم الأول محمد أفندي أمين سنة 1888م»: وفي 13 سبتمبر سنة 1888م كان في العقبة الناظر محمد أفندي أمين ومعه الشيخ زاهر أحمد إمام نخل والعقبة و12 عسكريا، وفي نخل وكيل الناظر البلوكباشي عبد الله آغا عبد الغني ومعه 10 عساكر.
وفي هذا العهد كانت الحربية قد جعلت القلاع الحجازية كلها قومندانية واحدة مركزها العقبة وولت عليها البكباشي سعد أفندي رفعت (أميرالاي الآن)، فلما استرجعت تركيا القلاع الحجازية من مصر حتى العقبة؛ جعلت سيناء كلها إلا محافظة العريش قومندانية واحدة مركزها نخل، وبقي سعد أفندي رفعت قومندانا عليها.
هذا وكان سعد أفندي - عند إخلائه العقبة سنة 1892 - قد نزل في وادي طابا على نحو 8 أميال من العقبة واحتفر بئرا في فم الوادي، وأقام هناك بعساكره نحو 8 أشهر، فشكا قلة الماء وبعد الشقة ووعورة الطريق إلى طابا، فأرسلت الحربية مندوبا ليختار محلا فيه ماء فاختار النويبع، فبني فيها قلعة صغيرة سنة 1893، وجعل لنخل والنويبع ناظر واحد وللطور ناظر برتبة ملازم، وكلاهما يرجعان إلى قومندان سيناء في نخل، وقد أتينا على ذكر قومندانات سيناء واحدا واحدا في باب الجغرافية.
أما نظار نخل والنويبع، فقد اشتهر منهم: «ميخائيل أفندي حبيب، وعيسوي أفندي أحمد، ومحمد أفندي توفيق خيري، ومصطفى أفندي فهمي»، وفي عهد مصطفى أفندي جردت تركيا الحملة على مصر، فأمرت السلطة العسكرية بإخلاء سيناء كلها إلا محجر الطور؛ لتجعل الصحراء بينها وبين العدو، فأخليت، وخرجت هيئة الحكومة من نخل نفسها في 30 أكتوبر سنة 1914، فاحتلها الترك في الشهر التالي ولا يزالون. (2) نظار قلعة الطور ومحافظوها
أما قلعة الطور، فقد ورد في «كتاب الأم» ذكر بعض محافظيها وفيهم: (1) علي آغا سنة 1593م. (2) عابدين بن مصطفى سنة 1596م. (3) صفر آغا سنة 1684م. (4) محمد آغا سنة 1692م.
ولما تهدمت القلعة سنة 1826م، لم يبق في مدينة الطور إلا «ناظر» يرجع بأحكامه إلى محافظة السويس، ومعه نفر من عساكر البوليس لحفظ النظام، ولم يكن ثمت موجب لترميم القلعة، فسكنوا منزلا من منازل الطور، وكان الناظر فيها في أثناء الثورة العرابية عفيفي أفندي كما مر، وبقيت بلاد الطور تابعة في الإدارة لمحافظة السويس إلى أن أنشئت قومندانية سيناء، فألحقت بها بقرار من نظارة الداخلية بتوقيع «رياض» مؤرخ في 23 مارس سنة 1893 هذا نصه: «يرى موافقة إحالة جهة الطور على قومندانية القلاع، وإيجاد العساكر «البوليس» اللازمة بها، إنما ما يتعلق بالأمور الإدارية والسياسية فتخابر عنه الداخلية لأنه مرتبط بها.»
ومنذ ألحقت الطور بقومندانية سيناء كان يرسل إليها «ناظر» برتبة ملازم ومعه نفر من البوليس الوطني، وقد اشتهر من نظارها في هذا العهد: «ميخائيل أفندي حبيب، وأحمد أفندي عيساوي، وأحمد أفندي توفيق»، وقد تقدم ذكرهم جميعا، وفي عهد أحمد أفندي زحف الترك على مصر وأرسلوا شرذمة من عساكرهم إلى الطور، فأمرت السلطة العسكرية بإخلاء مدينة الطور من السكان وأعدتها للدفاع، فمزقت شرذمة الترك كل ممزق في 12 فبراير سنة 1915 كما سيجيء. (3) محافظو قلعة العريش ونظارها
كانت العريش - من قبل أن يتولى مصر محمد علي باشا - محافظة قائمة بنفسها، ترجع بأحكامها رأسا إلى الداخلية، وبقيت كذلك إلى أن ألحقت إداريا بنظارة الحربية سنة 1906م، فصار يرسل إليها «ناظر» من قومندانية سيناء كما مر.
ولم أقف على محررات رسمية بشأن محافظي العريش ونظارها، ولكني وقفت من تقاليد أهلها ومحفوظاتهم ومن اختباري الشخصي على 31 محافظا وخمسة نظار وهم: (1)
علي آغا أبو شناق سنة 1560م: جد العرايشية، وهو بحسب تقاليدهم أول من حكم القلعة بعد بنائها، وقد اشتهر بالعدل وسداد الرأي. (2)
محمود آغا، سنة 1579م: عن حجر تاريخي من الرخام رأيته عند قبة الشيخ جبارة في العريش، وقد مر ذكره. (3)
الميرميران أمين آغا الإنكشارية، سنة 1783: عن شاهدة على قبره عند قبة النبي ياسر، وقد ذكر ما كتب عليه بالتركية في محله. (4)
يعقوب آغا، سنة 1800م: رأيت عند شاهين عبد الله من العرايشية فرمانا من السلطان سليم الثالث إلى «إسماعيل باشا والي مصر ومحافظ قلعة العريش» مؤرخا في 1 ربيع ثاني سنة 1215ه/22 أغسطس سنة 1800م يأمره بتسمية يعقوب آغا قومندانا على حامية العريش من أجل البسالة والولاء اللذين أظهرهما في محاربة الفرنساويين، ويعقوب آغا هذا هو جد العرايشية اليعاقبة، وشاهين عبد الله المذكور حامل هذا الفرمان الآن هو من حفدته. (5)
الحاج قاسم ابنه، سنة 1805م، قيل بعد وفاة يعقوب آغا تولى قيادة القلعة ابنه الحاج قاسم في أول حكم محمد علي باشا على مصر. (6)
رفاعي بك، سنة 1811م، كان في جملة من تولى محافظة العريش في أيام محمد علي باشا، وقد اشتهر بالعدل والرأفة وحب الخير. (7)
غطاس آغا ، سنة 1831م، كبير الآغاوات الغطايسة، من ذرية مصطفى آغا الكبير أحد فروع العرايشية، وفي أيامه حمل إبراهيم باشا حملته المشهورة على سوريا عن طريق العريش كما مر، وقد جار غطاس آغا على أولاد سليمان - فرع آخر من العرايشية - وقطع نخيلهم، فذهب فريق منهم إلى مصر وآخر إلى إبراهيم باشا في الشام وطلبوا عزله فعزل، ولم تطق نفسه البقاء في العريش فخرج منها هو وبعض آله وقصد إبراهيم باشا في الشام فمات في الطريق، وسكن ابنه محمد القنطرة فعمر فيها ومات سنة 1905. وبعد غطاس آغا لم يعد يتولى العريش محافظ من أهلها، بل صارت الداخلية تبعث إليها بالمحافظين من مصر.
هذا وبعد رجوع إبراهيم باشا من سوريا ومصالحة مصر الباب العالي سنة 1840م؛ لم يعد من داع لوضع حامية في العريش، فألغيت القلعة وصار يرسل إليها نفر من عساكر البوليس يقيمون مع المحافظ لحفظ النظام، وكانت ترسل الحبوب إلى عساكر القلعة من بلدة ملوي بمصر؛ لذلك سميت بملوي العريش إلى اليوم. (8)
ضلضل أفندي. (9)
طالب آغا. (10)
إبراهيم آغا. (11)
إبراهيم بك لاظ. (12)
طالب آغا ثانية. (13)
عبد الكريم أفندي. (14)
حسين بك، سنة 1856: وفي أيامه سنة 1856 كانت الوقعة المشهورة «بواقعة المكسر» بين السواركة والترابين قبل الخروبة، وسيأتي ذكرها تفصيلا. (15)
عثمان بك. (16)
داود أفندي. (17)
عبد الرازق أفندي. (18)
مصطفى أفندي رمزي. (19)
عبد الله أفندي. (20)
محمد أفندي عبورة. (21)
حسن بكداش آغا: وفي أيامه حصل قحط شديد، فوزعت الحكومة على الأهلين ألف إردب قمح وشعير رفقا بهم.
وكانت مدة هؤلاء المحافظين تختلف بين ستة أشهر وسبع سنين. (22)
إسماعيل أفندي حسين، سنة 1865-1880: وكان له عبد يسمى محبوب، فعرف عند أهل العريش بإسماعيل أفندي محبوب. (23)
السيد بك النجار، سنة 1881-أواخر سنة 1882: وكان يقال له أيضا: السيد بك الطنطاوي، مكث سنتين وشهرين، وفي أيامه ثار عرابي في مصر كما مر. (24)
مصطفى بك ممنون، من أواخر سنة 1882 إلى أوائل سنة 1883. (25)
مصطفى بك شفيق، من أوائل سنة 1883 لغاية تلك السنة. (26)
محمود بك حمدي، سنة 1884-1894م: كان من أفضل المحافظين الذين تولوا العريش، وقد سمعت الثناء عليه في العريش من كل أحد، وكان رجلا عدلا حسن الإدارة شديدا في تنفيذ أوامره، قالوا: أرسل مرة هجانا من المحافظة في طلب رجل من أعيان السواركة يسمى زيادة ابن الحاج جهينة فرفض زيادة المجيء مع الهجان، فأرسله في طلبه ثانية ومعه 3 عساكر فأحضروه وأباه بالقوة، فأمر بأن يكنسا دار القلعة ويرشاها بالماء قبل الدخول عليه، وهذا القصاص شديد جدا على نفس البدوي، فتوسلا إليه أن يبدله بغرامة عشرين جنيها فأبى وألزمهما القيام بما أمر، أما الابن فلأنه لم يحضر مع الهجان لأول مرة، وأما الأب فلأنه لم يجبر ابنه على إطاعة الأمر، ومن ذلك الحين لم يعد أحد من البدو أو الحضر يجسر أن يخالف له أمرا. ومن مآثره في العريش أنه وسع شوارعها وحافظ على نظافتها. (27)
محمود بك صادق، من أول سنة 1895-لغاية سنة1896م: كان رجلا تقيا متعبدا محبا للخير والسلام، وكان إذا جاءه خصمان للتقاضي عنده أحالهما أولا على أحد الأعيان ليصلح بينهما، فإذا لم يصطلحا نظر في أمرهما وقضى بالعدل.
وكان سلفه محمود بك قد بدأ بتعيين حدود محافظة العريش «ودرك» كل قبيلة من قبائلها وكل شيخ من مشايخها، فأتم هو العمل وبين ذلك في كراس طبعه بمصر سنة 1895، وأعطى كل شيخ منه نسخة للعمل به، وقد مر بنا ذكر الحد الذي عينه للمحافظة. (28)
عثمان بك فريد، من أول 1897-مارس 1901: كان رجلا مهوبا، كريم الخلق، حسن الديانة، محبوبا من الجميع، ومن آثاره في العريش أنه رمم قبة النبي ياسر وقبة الشيخ جبارة، وفي أيامه زار الخديوي عباس باشا حلمي العريش، فرافقه إلى رفح ونقش تاريخ زيارته على أحد عمودي الحدود كما مر.
هذا وقد كان «طولسن أفندي عبد الشافي» (والان بك) من نبلاء أولاد سليمان معاونا للمحافظين الثلاثة الآخرين، وهو شاب نزيه عاقل عارف بأخلاق أهل البلاد وعاداتهم وما يصلح لإدارتهم ويحسن به حالهم، فكان خير معين للمحافظين المذكورين وأفضل مرشد، وقد رقي معاونا لمركز فاقوس في مديرية الشرقية، وهو الآن مأمور مركز كوم حمادة في مديرية البحيرة، وسيكون له في مصر مستقبل مجيد إن شاء الله.
شكل 3-2: طولسن بك عبد الشافي. (29)
محمود بك صادق للمرة الثانية، من أبريل سنة 1901 لآخر السنة. (30)
محمد بك صادق، سنة 1902: قالوا: كان مدمنا للخمر فلم يمض عليه في العريش شهران حتى أصيب بضربة شمس وعاد إلى مصر. (31)
محمد بك إسلام، من أول أغسطس سنة 1902-آخر أبريل سنة 1906: كان رجلا عدلا صاحب ذمة وديانة، ولكنه كان ضعيفا في اللغة العربية والقانون، فكان يقضي في أكثر المسائل التي تعرض عليه اجتهاديا. (32)
وفي أيامه كانت «حادثة الحدود» وأزال الترك عمودي الحدود عند رفح ، فأبلغ أسعد أفندي عرفات - من نجباء أولاد سليمان - الخبر لجريدة المقطم قبل أن يبلغه محمد بك الحكومة، فاستدعي إلى مصر، وألحقت محافظة العريش إداريا بالحربية، فأرسلت إليها القائمقام باركر بك مساعد مدير المخابرات لإدارة الأعمال فيها مؤقتا. (33)
أحمد أفندي توفيق، 17 مايو سنة 1906-13 ديسمبر سنة 1912: وفي 17 مايو سنة 1906 ندبت الحربية أحمد أفندي توفيق من موظفي المخابرات الملكيين لتولي إدارة الأعمال بالعريش، وسمته «ناظرا» وألحقته بقومندانية سيناء، فأقام فيها إلى 23 ديسمبر سنة 1912، فنقل ناظرا إلى الطور، واشتهر بحب السلام وحسن الأخلاق كما مر، وكان يقضي أكثر المسائل التي تعرض له صلحا، وخدم بعده ناظرا في العريش: (1) عيسوي أفندي أحمد. (2) وأمين أفندي فكري. (3) ومصطفى أفندي فهمي، ثم (4) عيسوي أفندي أحمد ثانية، وفي عهده حمل الترك على مصر فخرجت هيئة الحكومة من العريش في 24 أكتوبر واحتلها الترك في أواسط نوفمبر سنة 1914 وهم فيها الآن.
شكل 3-3: أسعد أفندي عرفات.
شكل 3-4: أحمد أفندي توفيق.
الفصل الرابع
في حروب البدو في سيناء
في عهد الأسرة المحمدية العلوية
تقدم لنا - في الكلام على سكان سيناء - ذكر الحروب التي قامت بين قبائلها منذ هاجر إليها العرب المسلمون إلى أن استقرت على قبائلها الحاليين قبيل عهد الأسرة المحمدية العلوية على مصر، ونذكر هنا أهم ما جرى من الحروب بين هذه القبائل بعضها مع بعض وبينها وبين قبائل سوريا والحجاز في عهد الأسرة المحمدية العلوية أو قبلها بقليل كما أخذناها عن تقاليدهم وأشعارهم ورجومهم وقبورهم فنقول: (1) حروب البدو في بلاد الطور (1-1) حرب الطورة العليقات والكعابنة، في عهد أجداد الجيل الحاضر
واقعة الفهدي:
جاء في تقاليد الطورة أن عرب الكعابنة القاطنين «الفرعة» جنوبي الخليل هاجموا بلاد الطور في عهد أجداد الجيل الحاضر وخطفوا إبلا للعليقات وبنتا من بناتهم وانقلبوا راجعين إلا بلادهم، ففزع العليقات وراءهم حتى أدركوهم في وادي الفهدي شرقي جبل إخرم، فأوقعوا فيهم موقعة دموية كتب فيها النصر لهم، فاستردوا إبلهم وبنتهم، وأقاموا لهذه الواقعة تذكارا ثلما في الأرض عن كل من جانبيه صف من الحجارة لا يزال محفوظا إلى اليوم، وقد تقدم وصفه، وقال البعض: إن هذه الواقعة حدثت بين بني واصل من عرب الطور والظلام من عرب الشام، وإن الإبل التي خطفت من إبل بني واصل والبنت من بنات العليقات، وفي ذلك قال شاعرهم:
لحق طليبك يا سليمى
عليقات فوق اللقاح
هم بركوا ونحن قرعنا
لما الدم تغارف بالقداح (1-2) حرب الطورة القرارشة والتياها، في عهد أجداد الجيل الحاضر
حدثني الشيخ موسى أبو نصير شيخ مشايخ الطورة السابق قال: «نشبت حرب بين قبيلتنا القرارشة والتياها في عهد جدي الأسبق «نصير» دامت سنين، ثم توسط العرب بالصلح فاجتمع كبار القبيلتين عند جدي وعقدوا صلحا وانصرف التياها إلى بلادهم، وعند انصرافهم أهدى لهم جدي جرابا من البلح وجانبا من الزبدة وأرسل غلامه وراءهم، وقال له: أوهمهم أنك تفتش عن إبل لنا وأنصت إلى ما يقولون، فلما خرج التياها من أرض الطور أتوا بالبلح والزبدة ليأكلوا فقال كبيرهم: «بارك الله في السيف والدبوس اللذين أطعمانا البلح والزبدة»، فرجع الغلام إلى جدي وأخبره بالذي قاله كبير التياها، فأعلن على التياها حربا ثانية دامت سبع سنين، ثم عادوا إلى الصفح فعقدوا «حلفا» ما زالوا مقيمين عليه إلى الآن.» ا.ه. (1-3) حرب الطورة والجيش المصري، في عهد أجداد الجيل الحاضر
واقعة برق:
حدثني الشيخ موسى أبو نصير قال: «كان جدي «صالح» من المشايخ المشهود لهم بالبسالة وأصالة الرأي، وكان شيخ مشايخ الطورة كما أنا الآن، وتجري له «صرة» سنوية من الرزنامة المصرية قدرها 4000 غرش، ففي عهده حضر بعض التجار من الحجاز ببضاعة من البن إلى السويس بالمراكب، ومن السويس حملوها على الإبل وسارا بها قاصدين مصر، وكان جماعة من عرب الطورة يراقبونهم، فلم يبعدوا عن السويس حتى انقضوا عليهم فسلبوهم البن وفروا إلى جبالهم، فأرسلت مصر سرية من العساكر في أثرهم، فتجمع الطورة برئاسة جدي في وادي برق فأقاموا هناك سورا من الحجارة وتترسوا به، فانقسمت السرية فرقتين: فرقة نزلت في الوادي تجاه العربان، وفرقة علت أكمة تشرف عليهم من الوراء وأشعلت فيهم النار من الجانبين، فأجاب العرب نيرانهم وثبتوا لهم برهة قتل فيها جانب من الفريقين، ثم لم يعد للعرب طاقة على تحمل نيران العساكر فانهزموا ولجئوا إلى الدير، فتبعهم العساكر ونزلوا في سهل الراحة، وأرسل قائدهم الأمان إلى الشيخ صالح، فحضر وصالحه على أن يرجع البن ويعفى عنه وعن عربانه، فجعل عنده الرهائن حتى أرجع البن كله أو معظمه، ولكن مصر قاصته بقطع نصف راتبه وبقي النصف الآخر يجري له إلى أن مات.
فخلفه على المشيخ عمي موسى، ومات قبل الثورة العرابية بست سنوات، فسميت شيخا على الطورة في مكانه، وكان عمي قد وكل أبو شعير شيخ الصوالحة المقيمين بمصر في قبض الصرة فلم يجد ملبيا من الحكومة، ولما توليت المشيخة ذهبت إلى السويس ومعي ستة من مشايخ الطور وطالبت بالصرة فلم أستفد شيئا، فبقيت إلى أن ضمت الحربية بلاد الطور إلى نخل سنة 1893 فعينت لي راتبا قدره 48 جنيها في السنة لا يزال يجري لي إلى اليوم.» ا.ه (سنة 1907م). (1-4) حرب الطورة العوارمة والمعازة، في عهد أجداد الجيل الحاضر
واقعة الهبج:
قالوا: «نجع العوارمة أجداد الجيل الحاضر في ربيع بعض السنين إلى بلاد المعازة في العريش، ثم انقلبوا راجعين إلى بلادهم، فلحقهم المعازة ومعهم العيايدة حتى أدركوهم في الهبج في أسفل وادي سدر، فذبحوهم شر ذبحة، فأفلت واحد منهم وأبلغ الطورة ما كان، فساروا في أثر المعازة حتى أدركوهم في صعيد مصر وأوقعوا فيهم وقعة دموية، ثم اجتمع الفريقان في قلعة مصر وعقدا صلحا لا يزالون عليه إلى اليوم.» (1-5) الطورة وحرب الحويطات وبلي في الحجاز، سنة 1904
إنه في سنة 1904 نشبت حرب بين حويطات ضبا شياخة عليان أبو طقيقة وبلي الوجه شياخة سليمان باشا عفان، فأرسل الشيخ عليان أخاه أحمد إلى الشيخ موسى أبو نصير يطلب نجدة من الطورة؛ لأنهم مرتبطون معهم بحلف قديم، فلم ير الشيخ موسى مصلحة للطورة في الدخول بهذه الحرب، وكانت السردارية قد أصدرت أمرها إلى قبائل سيناء كافة تحذرهم الدخول فيها، فأجاب الشيخ موسى رسول الشيخ عليان: «كنا نود كثيرا أن ننجدكم، ولكننا لا نستطيع أن نسير ضد أوامر حكومتنا»، فنظم الحويطات قصيدة بكتوا فيها الطورة لتقاعدهم عن نصرتهم وهم حلفاؤهم، ومنها:
أحسبك يا طوري تعز القبيلة
تراك حصيني لابد في خميلة
فأجابهم الطورة بقصيدة طويلة وجهوها للشيخ عليان قالوا:
اللي فتح باب الحرب يسده
وإلا يعطي الحكم راعيه (2) حروب البدو في بلاد التيه (2-1) مكون وادي الراحة، بين اللحيوات والتياها، في عهد أجداد الجيل الحاضر
مكون الراحة:
وقعت حرب بين اللحيوات والتياها في عهد أجداد الجيل الحاضر، سببها أن تيهيا يدعى «لقلوق» اغتصب بنت سليم قردود من اللحيوات الخناطلة، فهب اللحيوات جميعا وأعلنوا الحرب على التياها، فقتلوا شيخهم حمد بن عامر - جد الشيخ حمد مصلح - رميا بالرصاص، فجمع التياها جموعهم وقصدوا بلاد اللحيوات حتى أتوا بئر الثمد، فوجدوا اللحيوات قد جلوا عنها إلى وادي فيران، ومن هذا الوادي أرسلوا ركبا إلى جبل شويشة العجمة، فساقوا 300 جمل للتياها غنيمة، فجاء ابن نصير شيخ مشايخ الطورة إلى اللحيوات وقال لهم: إنكم دخلتم بلادي وغزوتم منها بلاد التياها، فعيب علي أن أسمح لكم بالبقاء في أرضي ومعكم إبل التياها، وأصر على رد الإبل أو يعلن عليهم الحرب، فردوا الإبل وقصدوا فرج أبو طقيقة شيخ الحويطات في مصر للاستنصار به، ولما وصلوا السويس أرسلوا الظعن لأبي طقيقة وغزوا التياها في وادي الرواق، فساقوا نحو 200 جمل لابن ناصر وابن كيلة وانقلبوا راجعين إلى السويس، ففزع التياها وراءهم فأدركوهم في رأس وادي الراحة على نحو ست ساعات من بئر مبعوق، فنشبت بين الفريقين معركة دامت من الصبح إلى العصر كان النصر فيها للحيوات، وقد سمي المكان الذي حصلت فيه الواقعة «بالمكون» إلى اليوم، وكان التياها في هذه الواقعة نحو 100 رجل بقيادة حمد بن عامر، واللحيوات لا يزيدون على 30 رجلا برئاسة مسمح بن نجم، وقد قتل من التياها العصيبي وجرح واحد، وأما اللحيوات فلم يقتل منهم أحد وقد فازوا بالإبل فأخذوها إلى مصر، فذهب ابن ناصر وابن كيلة إلى مصر لاسترجاع إبلهم، فرد اللحيوان لهما النصف «بالحسنى» وأبقوا النصف، ثم اجتمع القائدان حمد بن عامر ومسمح بن نجم في بيت أبو طقيقة في مصر فعقدا صلحا وعاد اللحيوات إلى بلادهم، ومما قيل في هذه الحرب:
في شأن لقلوق
غدت اللحيوات بالنوق
وقيل:
تياها يا سيل طموش
ولحيوات يا سد حبوس
قالوا: وكان التياها لما نزح اللحيوات إلى فيران أرسلوا إليهم يقولون: «إننا لم نعلن الحرب إلا على النجمات والخناطلة والكساسبة، وأما باقي اللحيوات فليس بيننا وبينهم حرب»، وقد قصدوا بذلك شق القبيلة، ففازوا بقصدهم ورجع قسم كبير من اللحيوات إلى أوطانهم في بلاد التيه خوفا على إبلهم من الشتات واجتنابا لشر الحرب، فغنى بنات الطورة في ذلك قالوا:
اللي قطع (الترعة) مضى كلامه
والنبي شوفاني
واللي قعد يا بنات
والنبي كوباني (نذل)
ومن ذلك الحين فالفريق الذي ثبت على الحرب له الميزة على الفريق الذي تخلف عنها، من ذلك أنه إذا شرد أحد اللحيوات ببنت من بنات القبيلة وكان من الفريق الأول غرم «بمفرود»، وإذا كان من الفريق الثاني غرم «بمربوط». (2-2) حرب اللحيوات والمعازة (سنة 1820 - سنة 1885م)
واقعة القريص الأولى:
في نحو سنة 1820م قامت حرب بين اللحيوات والمعازة دامت سنين عديدة، سببها أن المعازة غزوا بلاد التياها وساقوا منها نياقا لعتيق البريكي التيهي وانقلبوا راجعين إلى بلادهم، فمروا في طريقهم على بئر القريص، واتفق أن اللحيوات كانوا إذ ذاك مخيمين قرب البئر يحتفلون بختان أولادهم، وكان بين الذين يختنون «سليمان القصير» شيخ اللحيوات الأسبق، فجاءهم منذر يقول: إن المعازة نهبوا إبلا للتياها وهم مارون بها على البئر، فلزم اللحيوات حسب عرف العرب رد الإبل المسلوبة لأهلها، فطاردوا المعازة واستردوا الإبل منهم عنوة، وقد قتل منهم سليمان بن عليوية من النجمات، فهب النجمات لأخذ الثأر، وكان غزاة المعازة قليلين فأطنبوا على عيد بن حسين من كبار النجمات فأصبح مجبورا بسلو العرب أن يحميهم من قومه، فجاء إلى النجمات طالبي الثأر وسألهم ألا يؤذوا المعازة وهم في بيته فيجلبوا عليه العار، بل ينتظروا حتى يخرجوا فيفعلوا بهم ما أرادوا ، فقعد النجمات لهم في الطريق منتظرين خروجهم من البيت، وكان عيد بن حسين واسع الحيلة سديد الرأي، فلما دخل الليل ذبح نعجة من نعاجه وعلقها أمام خيمته وأوقد النار ليوهم النجمات أنه يصنع ضيافة للمعازة، وأوعز إلى المعازة أن يتسللوا واحدا بعد واحد تحت جنح الظلام، ففعلوا ونجوا بأنفسهم، فنقل المعازة هذا الفعل «حسنى» لعيد بن حسين إلى اليوم.
واقعة أبو عجارم:
وفي حوالي سنة 1840 غزا معازة الكرك التياها بقيادة «فريج أبو طيرين» فأخذوا نحو 40 ناقة لأبي فارس التيهي، وكان اللحيوات إذ ذاك نازلين شمالي «وادي العقفي» فلما دروا بالخبر انطلقوا وراءهم فأدركوهم في «وادي أبو عجارم» قرب مصب العقفي بالجرافي، فوقف لهم المعازة وحدثت واقعة دموية بالبارود أولا ثم بالحجارة، دامت من الصبح إلى قرب الغروب، ثم تحمس أبو طيرين كبير المعازة فاستل سيفه وصاح بقومه وهجم على اللحيوات، فرماه جمعة رضوان من اللحيوات السلاميين برصاصة من بندقيته أم زناد فخر قتيلا، فوقع الفشل في المعازة فتركوا غنيمتهم وإبلهم وفروا هاربين، فاسترد اللحيوات جمال أبو فارس التيهي وغنموا فوقها نحو 30 ذلولا، وفي ذلك قال شاعرهم:
دارس يا قلبي دارس
حطينا ع الدرب حارس
خليك فاكر يا تيهي
فكينا إبل ابو فارس
واقعة القريص الثانية:
وفي حوالي سنة 1877م أيام كان محمد أفندي عبده ناظرا على نخل والعقبة، خرجت سرية من المعازة مؤلفة من 30 رجلا بقيادة صبحي أبو هيشة بقصد غزو اللحيوات، فساروا حتى أتوا بئر القريص، فالتقوا قافلة من التجار ذاهبة إلى العقبة، وكانت القافلة خليطا من الحويطات وأهل نخل والعقبة والسويس، وليس فيهم إلا لحيوي واحد، فظنها المعازة أنها قوم من اللحيوات فأشعلوا فيهم النار، فصمدوا لهم وأجابوهم بالمثل، فقتلوا كبيرهم صبحي أبو هيشة وجمله، وجرح المعازة ابن عصبان الحويطي في كتفه، ثم صاح صالح الكبريتي من أهل العقبة بالقوم وقال: «نحن تجار أصحاب ولسنا لحيوات»، فلما رأى المعازة أنهم يحاربون قافلة كفوا عن الضرب وقالوا للكبريتي: ادفن قتيلنا «بحسنى» فحمله إلى العقبة ودفنه هناك.
واقعة العقفي:
وفي حوالي سنة 1885 جهز معازة الكرك سرية من نحو 200 رجل بقيادة كبيرهم الرطيل وأتوا وادي العقفي، ولم يكن فيه من اللحيوات سوى 30 رجلا فباغتوهم الهجوم عند الفجر وقتلوا منهم 14 رجلا وساقوا إبلهم وانقلبوا راجعين إلا بلادهم، فقال شاعر اللحيوات مشيرا إلى هذه الواقعة: «يا ما صبيا طاح. مع لوحة الصباح. من بندق ورماح.» قالوا: ولكن اللحيوات ثبتوا للمعازة في تلك الواقعة وقتلوا كبيرهم الرطيل، وأخذوا يشنون الغارة على المعازة حتى قتلوا منهم بقدر ما خسروا في موقعة العقفي، وكان الفريقان قد ملا الحرب فاجتمع كبارهم في بيت محمد بن جاد شيخ الحويطات العلاويين وعقدوا صلحا لا يزالون عليه إلى اليوم، وكان حسيب اللحيوات في هذا الصلح الشيخ سليمان القصير. (2-3) حرب اللحيوات والشرارات (سنة 1873-سنة 1895م)
غزوة اللحيوات الأولى للشرارات، سنة 1873م:
بينا في الكلام على سكان سيناء كيف أن عرب هتيم يعيشون بين قبائل العرب «بالخاوة»، وكان الشرارات - وهم من هتيم - يدفعون الخاوة لبني عطية، فلما قوي ساعدهم أبوا دفع الخاوة؛ فقامت الحرب بينهم وبين بني عطية، واللحيوات فرع من بني عطية كما علمت، ففي حوالي سنة 1873 جرد اللحيوات حملة على الشرارت مؤلفة من 250 هجانا عقدوا لواءها لسليمان بن رضوان من السلاميين، وصحبهم نفر من التياها والترابين والحويطات، فساروا حتى قطعوا طريق الحج الشامي عند «سرغ» وأتوا وادي السرحان على يومين من سرغ، فأصابوا هناك إبلا للشرارات الضباعين فأخذوها وانقلبوا راجعين إلى سيناء، فأنفذ الضباعين الخبر إلى إخوانهم الشرارات فتجمع منهم في الحال نحو 500 هجان ففزعوا وراء اللحيوات وأدركوهم في «سرو القاع»، فوقف لهم اللحيوات برهة ثم أفلتوا منهم وجدوا السير نحو سيناء، فتبعهم الشرارات حتى أدركوهم في «ودعات»، وهناك صمد لهم اللحيوات ووقع بين الفريقين وقعة شديدة دامت من طلوع الشمس إلى ما بعد الظهر، وكان النصر فيها للشرارت، فقد قتلوا من اللحيوات عشرين رجلا ومن رفاقهم أربعة واستردوا إبل الضباعين وغنموا إبل القتلى وعادوا إلى بلادهم وخسارتهم 16 رجلا، وقد نظموا بوصف هذه الواقعة قصيدة طويلة عرضوا فيها بمدح كبيرهم سطام أفندي، ومنها :
يا راكب حر القعدان
حرا من نسل وضيحان
يمك به على سطام
دون أفندي لا تبات
بيته فيه خطوط الصوف
وصوفه ما هن غبيات
تشبع به الهلاليج
في الليالي السيئات
قل أفندي صباح الخير
والله من قوم لفت
غارت قوم اللحيوات
في الحمادة الهدفات
ينقلون المزانيد
والسيوف المرهفات
أخذوا نياق الضباعين
معها خلج وحوارين
وقشوا كل جمال الحي
ونياق جريس المسمات
لحقوهم طلابة الدين
العزام والضبعات
بركوهم «سرو القاع»
وثاني بركة في «ودعات»
وصار الملح العرم الزين
بين الصفين المتقابلات
أول هوشة بالبارود
وثاني هوشة بالطبنجات
وثالث هوشة بالرماح
والسيوف المرهفات
غزوة اللحيوات الثانية للشرارات:
وفي ربيع سنة 1895 جرد الصفايحة والشوافون اللحيوات حملة مؤلفة من 150 هجانا ليثأروا من الشرارات، وكان عقيد الصفايحة الحاج سلام أبو صفيح، وعقيد الشوافين سلامة بن رضوان، فساروا حتى أتوا سرغ فسقوا هجنهم وملئوا قربهم واستطردوا السير إلى مشاش الطبيق قرب وادي السرحان، وكانوا يظنون فيه الماء فوجدوه يابسا، ورأوا من الأثر في الطريق أن الشرارات كثار جدا لا قبل لهم بهم، فانقلبوا راجعين بطريق مختصرة تقطع درب الحج الشامي بين رسغ ومعان، فضلوا الطريق وساروا الليل والنهار في طلب الماء حتى أعياهم الظمأ والنعاس، فسقط منهم نحو 30 هجانا وأدرك الباقون مشاش «البترا» شمالي سرغ.
ونام أحد الذين تأخروا لشدة الظمأ والنعاس، فرأى شخصا في الحلم يقول له: قم واشرب، ودله على مكان فيه ماء، فاستيقظ وذهب إلى المكان الذي دله عليه فإذا هو «مشاش كبد» على نحو 6 ساعات من مشاش «البترا»، فروى ظمأه وعاد إلى رفاقه فأتوا وشربوا وسقوا جمالهم، واستطردوا السير فانضموا إلى إخوانهم في مشاش «البترا» وانقلبوا راجعين إلى سيناء بخفي حنين، وقد رافق هذه الحملة الشيخ ضيف الله سالم شاعر اللحيوات، فنظم في ذلك قصيدة طويلة جاء فيها:
ونمشي على القردود والركب ساره
ونشل على بطنان والرمل بيسيل
الليل مآتي والليل هجرنا نهاره
وتاه الدليل عن الروا في المشاليل
القايلة بيبركن في الظلاله
والذل شفته في عيون الرجاجيل
والطيح منا صار بين الجباله
والريق يابس والمخاليق بتعيل (2-4) حرب اللحيوات والسعديين، سنة 1906
حادثة الغبية:
وفي يناير سنة 1906 اتفق خمسة من السعديين والمعازة والقديرات والتياها والكعابنة التابعين لتركيا ونزلوا على جماعة من اللحيوات في وادي الغبية؛ فقتلوا عقيدهم سلامة بن رضوان، ونهبوا جملا وعادوا إلى بلادهم.
حادثة أم حلوف:
ففتش اللحيوات على الغرماء، فوجدوا الجمل المنهوب وعباءة القتيل عند السعديين، فقصد أخو القتيل وابن عم له بلاد السعديين فالتقيا واحدا منهم يدعى سالم بن رمان عند ملتقى وادي أم حلوف بالجرافي فقتلاه.
فلما بلغ الخبر شيخ السعديين بعث برسول من البريكات إلى علي القصير شيخ اللحيوات السابق معلنا الحرب على اللحيوات، فأرسل له الشيخ علي القصير رسولا من الترابين يقول: إنه مستعد للتحكيم في مجلس عرفي في بيت حماد الصوفي شيخ الترابين حقنا للدماء، فأبى، وكان القومندان في سيناء إذ ذاك المستر براملي، فرفع الشيخ علي القصير الأمر إليه فألقى القبض على القاتل ثم أطلقه بضمانة قوية، وكتب إلى قائمقام بئر السبع يسأله منع السعديين عن الحرب وإقناعهم بقبول المجلس العرفي حسب سلو العرب، فلا القائمقام أجابه ولا السعديون كفوا عن اللحيوات.
حادثة الفحام:
وفي صباح الإثنين 11 يونيو سنة 1906 كان المستر كيلن - أحد مهندسي اللجنة التي ندبت لتحديد التخوم بين سيناء وسوريا - مشتغلا بتخطيط الحدود، فلما وصل ملتقى وادي الفحام بوادي الجرافي فاجأه نحو مائة هجان من السعديين والمعازة والحجايا، وكلهم مدججون بالأسلحة النارية أتوا من «الغور» بنية غزو اللحيوات، وكان مع المستر كيلن رجلان من اللحيوات، فأنكرا قبيلتيهما وادعيا أنهما من الحويطات، وكان القوم قد بدءوا بنهب رجال الحملة ظنا أنهم من اللحيوات، فلما لم يروا أحدا من هؤلاء ردوا ما كانوا قد نهبوه وعادوا إلى «الغور». (2-5) حرب اللحيوات والسواركة، في عهد أجداد الجيل الحاضر
واقعة القريعة:
في أيام علي بن نجم كبير اللحيوات الذي قتل في قلعة مصر، غزا اللحيوات السواركة في القريعة عند رجم القبلين، فقتلوا منهم ونهبوا نحو مائة جمل وانقلبوا راجعين إلى بلادهم، فجمع السواركة جموعهم وطاردوا اللحيوات فأدركوهم في العمر وقاتلوهم، ولكن اللحيوات تمكنوا من صدهم وفازوا بالغنيمة.
وكان بين الإبل المنهوبة ناقة لأرملة من السواركة لها ولد طفل، فاستغاثت بكبير اللحيوات قائلة: «رد ناقة الذي لا يعرف العذر» تعني به ولدها، فرد لها ناقتها وأعطاها فوقها قعودا وخلع عليها ملايته الحريرية، وكان اللحيوات في طريقهم إلى هذه الغزوة التقوا رجلا حسن البزة لابسا لبس الشيوخ، فقتلوه ظنا أنه شيخ للسواركة ثم ظهر أنه من أولاد سليمان العرايشية، فبعد الواقعة اجتمع كبار العرايشية واللحيوات في مقعد الوحيدي في وادي غزة، فرضي العرايشية بأخذ الدية 40 جملا، فأخذوا منها عشرين جملا وعلقوا العشرين الأخرى «حسنى» على اللحيوات.
وقعة الطيبة:
وبعد هذه الغزوة بسنة جمع السواركة جموعهم وغزوا اللحيوات في وادي الطيبة - أحد فروع القريص - وكان هناك من اللحيوات الشيخ علي والمسح أبو غريقانة فشردا، فلحق بهم فارس من السواركة فوقع الشيخ علي من على هجينه، ولكنه نهض للحال وأخذ بندقيته وهم بضرب الفارس فصاح الفارس قائلا: «أنا في وجهك» فتركه، ثم ركب ناقته وصعد على قوز مرتفع وتبعه المسح إليه فتحصنا فيه واستعدا للدفاع، ولما اقتربت غزاة السواركة منهما ظنوهما جمعا كبيرا، فاجتمع شيخ السواركة بالشيخ علي وعقدا هدنة سنة، ثم اجتمعا في بيت ابن فياض الترباني وعقدا صلح «قلد»، وبعد ذلك بمدة حالف مسمح بن عليان ابن أخي علي الترابين وحارب معهم السواركة في واقعة المكسر سنة 1856 كما سيجيء. (2-6) حرب التياها والسواركة نحو سنة 1846
يوم ألبني:
وفي حوالي سنة 1846 هاجم السواركة والرميلات التياها عند جبال ألبني، فقتلوا منهم تسعين رجلا وغنموا عددا كبيرا من الإبل، وفي ذلك قال شاعرهم:
يا زين بشر العلامات
تسعين بيضة صبحن عريات
وتعرف هذه الواقعة «بيوم ألبني»، وكان في جملة ما غنمه السواركة نياق خواوير أي حلابة. قالوا: كانت الناقة تحلب باطية كبيرة في الصبح وباطية في المساء. (3) حروب البدو في بلاد العريش (3-1) حرب الرتيمات مع الجيش المصري، سنة 1830
واقعة المقضبة:
ومن محفوظات الجيل الحاضر في العريش «واقعة المقضبة»، قالوا في نحو سنة 1830 في عهد محمد علي باشا على مصر خرجت قافلة من غزة ومعها بضائع كثيرة من الأقمشة الحريرية والصابون والسكر، وسارت في الدرب المصري قاصدة مصر، فالتقاها عرب الرتيمات وسلبوها مالها، قيل فكثر السكر والحرير في بلاد الرتيمات حتى جدلوا لإبلهم قيودا من الحرير وسقوها ماء السكر وهم يغنون: «سمحه ذوقيه. طعم السكر مميوص فيه»، فأخذت حكومة مصر تترقبهم حتى علمت بتجمعهم يوما في المقضبة، فساقت إليهم العساكر فرقتين وحصرتهم بين نارين، فقتلت منهم خلقا كثيرا وما زالت تطاردهم حتى أتى كبارهم إلى العريش طالبين الأمان، فأعطي لهم. (3-2) حرب الترابين والجبارات في عهد أجداد الجيل الحاضر
من الحروب الشهيرة التي جرت في بلاد العريش في عهد أجداد الجيل الحاضر ولا يزال هذا الجيل يذكرها حرب الترابين والجبارات، قالوا: كان الجبارات قبيلة قوية تسكن القسم الشرقي من بلاد العريش، وكان ينسب إليهم الرتيمات والسواركة، فأشهر عليهم ترابين سوريا حربا دامت نحو عشرين سنة، جرت في أثنائها وقائع دموية في جهات وادي المغارة، والمويلح، والحسنة، والعمر، وغيرها، وكانت الخسارة فيها جسيمة من الجانبين، وأخيرا انتصر ترابين مصر لإخوانهم في سوريا، فأرسلوا لهم نجدة بقيادة الشيخ أبو سرحان، ففازوا بطرد الجبارات والرتيمات من بلاد العريش إلى بلاد غزة، وهناك أوقعوا فيهم وقعة فاصلة على نهر الشريعة وعقدوا بعدها صلحا جعلوا فيه «قنان السرو» - وهي طريق شهيرة شرق غزة - الحد بينهم وبين الجبارات ما زالوا عليه إلى اليوم. قالوا: ولو لم ينجد ترابين سوريا أبو سرحان من مصر لم يتسن لهم الفوز على الجبارات، وفي ذلك قال الجبارات:
ترباني جيت من التربة
لولا أبو سرحان ما صحت لك بلاد غزة
وقيل إن «قبور الرتيمات» بين وادي البروك ووادي الحسنة هي قبور قتلى هذه الحرب، وإن قبور أولاد علي على ماء الروافعة بوادي العريش هي قبور أجداد الترابين وأوليائهم، والترابين يزورون هذه القبور ويذبحون لها الذبائح. (3-3) حرب الترابين والعيايدة، من عهد أجداد الجيل الحاضر إلى سنة 1885م
هذا وقد حل بعض بدنات الترابين بعد هذه الحرب محل الجبارات ، فشغلوا قسما في الجنوب الشرقي من بلاد العريش يشبه السفين، وأصبحوا يحادون السواركة فبلي فالعيايدة من الشمال والتياها من الجنوب، وما عتموا أن وقع بينهم وبين العيايدة خلاف على الحد أدى إلى الحرب، وكان حسيبهم إذ ذاك سليم بن فياض وحسيب العيايدة صباح بن سبيع، فدامت الحرب سنين إلى أن عين الحد وأصبح حد الترابين الشمالي يتمشى على الدرب المصري من حجر السواركة قرب صنع المنيعي إلى البواطي، فينحرف غربا إلى رجم القبلين، فجبل ريسان عنيزة، فجبل المزار، فجبل الريشة، فجبل قديره، إلى أن ينتهي برجم العمرات على نحو عشرين ميلا غربي جبل المغارة، فهم يحادون السواركة من صنع المنيعي إلى رجوم القبلين، وبلي من رجوم القبلين إلى الشيخ حميد، والعيايدة من الشيخ حميد إلى رجوم العمرات.
قالوا: وكان العيايدة والسواركة مدققين على الحد مع الترابين حتى كانوا لو اضطروا إلى المرور في أرضهم يكمون أفواه إبلهم لئلا ترعى عشب الترابين، وهكذا كان يفعل الترابين لو مروا بأرض العيايدة والسواركة، ولكن هذه الحال قد زالت الآن، واشترى السواركة كثيرا من أراضي الترابين شرقيهم وعاشوا معهم على صفاء تام.
حادثة الحوار:
ودام السلام بين الترابين والعيايدة إلى سنة 1885، فوقع ما كان يؤدي إلى الحرب؛ وذلك أنه في تلك السنة اختلف سليمان القديري العيادي مع أنسباء له بسبب «حوار»، فأطنب على حسان الحسينات الترباني في جبل المغارة للحصول على حقه، فذهب حسان إلى أنسباء سليمان وسألهم أن ينهوا الخلاف مع نسيبهم بسلو العرب، فأبوا وأصروا على التنكيل به وأغاروا على إبله فأخذوها، فلما درى حسان الترباني بذلك جمع جموعه وقصد أرض العيايدة وأخذ يفتش عن إبل سليمان حتى وجدها فاستردها عنوة، فاستاء سليمان بن سبيع حسيب العيايدة من ذلك فقوض خيامه وعبر الترعة إلى مصر وأخذ يغزو الترابين من هناك حتى كل وأضر الذباب إبله، فطلب الصلح، فاجتمع الفريقان في بيت خضر الشنيبات شيخ الترابين الحررة، فحكم على العيايدة بإعطاء الحق لنسيبهم سليمان فاجتمعا في قطية لهذا الغرض وسموا قضاة حق ثلاثة وهم: أول حق: سلام الحاج بن صفيح من الصفايحة اللحيوات، ثاني حق: مصلح أبو قردود التيهي، ثالث حق: مغنم أبو الريش العيادي، فحكم أول حق بالأمر فلم يرض الترابين بحكمه، فحكم ثاني حق فرضوا وانتهى الخلاف. (3-4) حرب الترابين والسواركة، من عهد أجداد الجيل الحاضر إلى سنة 1914م
يوم القرارة الأول:
كان الرميلات في عهد أجداد الجيل الحاضر يسكنون أرض «القرارة» شمالي خان يونس، وهي مشهورة بخصبها، فقامت بينهم وبين الترابين حرب فاز فيها الترابين وطردوا الرميلات من القرارة وسكنوها مكانهم وطاردوهم حتى أدخلوهم أرض السواركة في بلاد العريش، وكان السواركة قد ورثوا عداوة الترابين من إخوانهم الجبارات فرحبوا بالرميلات وأسكنوهم على الحد الشرقي، وكان يفصل بينهم وبين الترابين درب الحجر الذي ينشأ من حجر السواركة وينتهي ببئر رفح، وقد شق على الرميلات جدا خروجهم من أرض القرارة فقال شاعرهم:
لا صوم عن كل الطعامات
واقطع بلاد القرارة في الظلامات
إشارة إلى أنه لا يطيق أن يراها بيد أعدائه، وأنه لا بد من استرجاعها منهم.
يوم الحناجرة:
وما زال الرميلات والسواركة يترقبون الفرص للأخذ بالثأر من الترابين حتى كانت سنة 1848، فلاحت لهم فرصة فهاجموا عرب الحناجرة القاطنين على الحد شرقيهم تحت حماية الترابين فاكتسحوا بلادهم، وتقدموا إلى أرض الترابين فهاجموا محلة من محلاتهم وحملوا كل ما استطاعوا حمله من الأثاث والغفور وساقوا أمامهم الإبل والأغنام والخيل والحمير وعادوا إلى بلادهم، وكان بين غزاة السواركة رجل يقال له: عواد البعيرة، ففيما هو راجع من الغزوة وجد نساء «أبو ستة» كبير الترابين يحملن الغفور على جمل لهم، فأخذ عواد الجمل بما عليه وترك النساء وشأنهن.
يوم القرارة الثاني:
وفي نحو سنة 1855م وقع خصام بين صرار أبو شريف من الخناصرة السواركة وبعض أقربائه فاضطهدوه، فلجأ إلى أعدائهم الترابين فجمع السواركة والرميلات جموعهم وهاجموا الترابين في أرض القرارة وسط النهار، فطردوهم حتى أدخلوهم خان يونس وقتلوا منهم وألقوا القبض على قريبهم صرار أبو شريف، فقتلوه ثم بقروا بطنوه وحشوه رملا وقالوا: «هذا جزاء من يخون أهله وينضم إلى أعدائهم.» وقال شاعر الرميلات في ذلك اليوم:
طاح السيف من كف الوحيدي
سيف الشيخ صارت له رنة
قوطرت به زعوب الخيل حمرا
زقاق الخان ما بتزل عنه
واقعة المكسر، صيف سنة 1856:
وقد تقدم لنا أن الترباني يتحاشى الشر جهده، حتى إذا لم يعد يرى منه مهربا نهض نهضة الأسد واستنصر بحلفائه واندفع بكليته على خصمه حتى يقهره، فلما رأى الترابين ما كان من مناهضة السواركة والرميلات لهم قاموا قومة رجل واحد وجمعوا جموعهم واستنصروا بحلفائهم العزازمة والحويطات واللحيوات وغيرهم، وحملوا كالسيل الجارف على السواركة في بلادهم حتى أتوا مقام الشيخ زويد فذبحوا له جملا، وكان السواركة والرميلات قد علموا بزحف الترابين فجمعوا قواتهم في الخروبة في منتصف المسافة بين العريش والشيخ زويد.
وكان حسيب الترابين إذ ذاك الشيخ جمعة أبو ماسوح وعقيدهم الشيخ «أبو ستة»، وحسيب السواركة وعقيدهم الشيخ سبيتان أبو عيطة وعمدتهم الشيخ سلامة عرادة عم سلام عرادة عمدة السواركة الحالي، فبعث حسيب الترابين إلى حسيب السواركة يقول: «اكفونا شر الحرب واقنعوا ببلادكم وحدكم» فأجابه أبو عيطة: «دع عنك هذا الهذر فلا بد من استرجاع بلادنا حتى القرارة.»
فشرع عقيد الترابين إذ ذاك في تنظيم جيوشه وإعدادها للهجوم، فجعلها ثلاثة جيوش وأرسل جيشا بطريق البحر وجيشا بداخل البر وسار هو بالجيش الثالث في الطريق المعتادة قاصدا الخروبة ، فخرج السواركة لملاقاته حتى صاروا على نحو نصف ساعة من الخروبة، فما شعروا إلا وجيوش الترابين الثلاثة قد انقضت عليهم من اليمين والشمال والأمام، فوقع فيهم الفشل، فأعمل الترابين فيهم السيف حتى أفنوهم تقريبا ولم يسلم منهم إلا طويل العمر، ففروا إلى العريش واحتموا بقلعتها وقليل ما هم، وكانت هذه الواقعة في صيف سنة 1856. وقد سمي المكان الذي وقعت فيه «بالمكسر».
ولما كنت على الحدود سنة 1906 قابلت بعض من حضر هذه الواقعة من السواركة وفيهم حسين سلامة، وهو رجل قديم الأيام، فقال: «كان انكسارنا بواقعة «المكسر» عظيما حتى إنه لم يبق فينا من الذكور إلا نفر معدود لا نملك شيئا ، فإن الترابين عادوا إلى بلادهم بإبلنا وأغنامنا، وبعثنا نطلب الصلح من حسيب الترابين ونستأذنه في العودة إلى بلادنا فأجابنا: «عليكم وجهي، ارجعوا إلى بلادكم»، ثم اجتمع كبارنا وكبار الترابين في بيت سالم بن مصلح من الحناجرة؟ وعقدوا بينهم صلح «قلد» على أن يعود كل فريق إلى بلاده»، وبذلك بقيت «القرارة» التي هي أصل الحرب بيد الترابين، وقال شاعرهم:
حرب بنوه الرميلات
يا ويلهم من عقابه
بطيخهم أكلوه اللحيوات
ونحن نقشقش عقابه
وكان قليد الترابين في هذا الصلح جمعه أبو ماسوح، وكان «أبو عيطة» قليد السواركة قد قتل في الواقعة، فسمى السواركة ابنه سالم البكر قليدا عليهم، فكان قليدهم في الصلح مع الترابين، وعاش بعد ذلك سنتين ثم مات، وكان أخوه «صبح» غير مرشد، فولى السواركة «زيتون عواد» قليدا عليهم فتوفي سنة 1885.
تجديد الصلح:
فاجتمع كبار السواركة والترابين في بيت الحاج حماد بن مصلح، واختاروا «صبح بن أبو عيطة» المشهور قليدا عن السواركة في 25 ربيع أول سنة 1303ه/1 يناير سنة 1886م، وعودة سويلم جرمي قليدا للترابين؛ فجدد القليدان العهود والمواثيق «للسير بموجب الأساليب المرعية عند العربان، وعدم تعدي فريق على فريق في نفس أو مال أو عقار، ومنع كل قليد عربانه عن النزاع.»
وفي أوائل سنة 1889 - أيام كان محمود بك محافظا للعريش - وقع خلاف بين الترابين والسواركة، فلجأ كل فريق إلى أخذ جمال الفريق الآخر بالوثاقة، وكاد الأمر يفضي إلى «فض النقا» بينهم وإعلان الحرب، فتدارك محمود بك الأمر بحكمته وعين مندوبين من محافظة العريش، وأرسل إلى قائمقامية غزة فأرسلت مندوبين من قبلها، فاجتمعوا في بيت مهيزع الترباني بحضور قليدي السواركة والترابين وأعيانهم، وعقدوا صلحا في 3 جماد الثاني سنة 1306ه/4 فبراير سنة 1889م لا يزالون عليه للآن.
حادثة الفرس:
وفي سنة 1904 ساق بعض الترابين ومعهم عساكر من خان يونس تسعة رءوس بقر للرميلات، وكان المحافظ على العريش إذ ذاك محمد بك إسلام، فكتب إلى قائمقامية بئر السبع في ردها، ومضى ستة أشهر بلا نتيجة حتى فرغ صبر الرميلات، فركب عشرة من فرسانهم إلى بلاد الترابين المغاصبة، فأخذوا فرسا للشيخ «قعود المغاصيب» وأتوا بها إلى بلادهم، ففزع المغاصبة وراءهم فلم يدركوهم، وبعد ذلك بأيام أرسلوا خبرا للرميلات يقولون: «لاقونا لبيت سلام عرادة عمدة السواركة في الخروبة في يوم كذا للتقاضي عنده»، فاجتمعوا في الميعاد فرد الترابين البقر للرميلات واستردوا فرسهم، فنظم فرج سليمان شاعر الرميلات قصيدة طويلة في ذلك جاء في ختامها:
جنك عشر فرسان في رايق الليل
حامت عليك الخيل زي الحديات
خذوا الفرس منك والعين بتشوف
تبكي عليها بالدموع السخيات
لازم تجيب الحق وتدور دورين
لتذوق من ضرب السيوف الطريرات
لازم تحط الحق يا بو مغيصيب
ما يضيع حق يطلبوه الرميلات (3-5) حرب الترابين والتياها، سنة 1856-1875
واقعة بطيح ربيع سنة 1856:
وفي أوائل سنة 1856 وقع بين الترابين والتياها في سوريا حرب، سببها أن عودة من التياها العطيات طعن بعرض أخيه عامر، وانتصر له التياها، فأطنب عامر على الترابين، فاشتبك القبيلتان في قتال قرب بطيح وراء نهر الشريعة، قتل فيه من الترابين عشرة رجال، فعاد الترابين وجمعوا جموعهم وأوقعوا بالتياها وقعة في بطيح فكسروهم شر كسرة، وقتلوا منهم خلقا كثيرا، وكان ذلك في ربيع سنة 1856 فجاءت بعدها وقعة «المكسر» بين الترابين والسواركة في صيف تلك السنة كما مر.
وكان التياها في سوريا قد حرضوا السواركة على محاربة الترابين ووعدوهم بنجدتهم، وعلم الترابين ذلك فتركوا قسما من فرسانهم لدرء شر التياها ومنعهم من الاجتماع بالسواركة، ثم لما علم هؤلاء الفرسان بدنو الواقعة أوهموا التياها أنهم يستعدون لمهاجمتهم فشغلوهم في الاستعداد للدفاع، وفي أثناء ذلك انسلوا إلى ساحة القتال، فحضروا الواقعة وشاركوا إخوانهم في النصر وعادوا إلى مكانهم في صدد التياها.
ثم لما صالح السواركة الترابين صالحوهم هم أيضا، وكان الصلح في بيت سالم أبو سنجر من الترابين النبعات.
تجدد الحرب:
وفي نحو سنة 1875 تجددت الحرب بين الترابين والتياها بشأن الحدود، ونصر العزازمة الترابين ففازوا، فنظم شاعرهم في ذلك قال:
يا ريح قل للقديرات
حماد وفى كلامه «بيرين» لابن كريشان
و«العمر» لابن جهامه
وقال أبو عرقوب الشاعر العزامي المشهور ينوه بهذه الحرب ويمدح «حربة» بنت حسين أبو ستة وزوجها حماد الصوفي:
حربة بلور تضي ز النور
في الليالي العتمه
بتمشي هز يبراها العز
عيونها سمر بلا كحل
أبوها سور يقود صقور
حماي الحور عن الذل
سيفه روباص بيقطع راس
يوم الفراس مثل النحل
ربعة حماد ملم جياد
وفي ذمتي أنه فحل
هذا حماد بيعطي جوخ
ألبس عجبان في بيت أهلي
هذا حماد يذبح خرفان
يقري الضيفان مع الهشل
صقر الغالي عز التالي
يركض ع النار وهي شعلي
يوم الله عاد جانا حماد
رد الأخواد من الدحل
شفت الصبيان يهزوا الزان
ينخوا نوران وأولاد علي
اللحيوات والبريكات:
ونصر اللحيوات في هذه الحرب حلفاءهم الترابين، فطردوا البريكات التياها من بلادهم واحتلوا مكانهم، ثم لما عقد الترابين والتياها الصلح، عقد اللحيوات والبريكات صلح «قلد» في بيت سليمان أبو عصا العزامي في المقراة، لا يزالون عليه إلى اليوم، وكان البريكات قد قتلوا من اللحيوات الغريقانيين ثلاثة رجال؛ فدفعوا لهم الدية 120 جملا وعادوا إلى بلادهم. (3-6) حرب الترابين والعزازمة في نحو سنة 1887
وفي حوالي سنة 1887 وقعت حرب بين الترابين والعزازمة بسبب قطعة أرض زراعية في جهة الخليل، فاستنصر الترابين إخوانهم وحلفاءهم في جزيرة سيناء، فنصرهم 150 رجلا من الترابين و100 من التياها؟ و80 من اللحيوات الصفايحة، ودامت هذه الحرب نحو ثلاث سنوات، ففتك الترابين بالعزازمة وضيقوا عليهم، فلجئوا إلى بطرك القدس فحمل الدولة على التوسط في الصلح، فتصالحوا بعد حرب دامت نحو 3 سنوات كانت فيها خسارة العزازمة نحو 124 قتيلا وألف جمل وكثير من الخيل والمعز، وخسارة الترابين 16 قتيلا و40 جوادا.
هذه هي خلاصة حروب البدو الحديثة في سيناء، استخلصتها بعد جهد جهيد، فعلمت منها حال الحلف والقلد بينهم في وقتنا الحاضر، وقد تقدم ذكرها في الكلام على شرائعهم، فلتراجع.
الفصل الخامس
في حادثة الحدود سنة 1906
المشهور أن الفرمان الذي أصدره السلطان محمود الثاني لمحمد علي باشا سنة 1841 يثبته فيه على مصر ويجعل الحكم وراثيا في أسرته كان معه خريطة عين فيها حد مصر الشرقي بخط يمتد من العريش إلى السويس، والباب العالي يستشهد بهذه الخريطة أحيانا، على أن هذه الخريطة لم يوقف لها على أثر في مصر أو الآستانة، وحكومة مصر لم تعترف بالحد المشار إليه، بل جعلت حد مصر الشرقي خطا مستقيما ممتدا من رفح على نحو 28 ميلا من العريش إلى جنوب قلعة الوجه، فأدخلت به سيناء كلها وقلاع العقبة وضبا والمويلح والوجه، بدليل أنها كانت تدير سيناء وهذه القلاع وتحميها بعساكرها قبل فرمان سنة 1841، ثم لما سلمت القلاع الحجازية - من الوجه إلى العقبة - إلى الدولة سنة 87-1892 جعلت حدها الشرقي خطا مستقيما ممتدا من رفح إلى رأس خليج العقبة.
لذلك لما جاء فرمان عباس حلمي باشا من السلطان عبد الحميد، وقد أخرج منه جزيرة سيناء، قامت مصر تطالب بحقها، وعضدتها إنكلترا، فأوقفت قراءة الفرمان حتى ورد تلغراف جواد باشا الصدر الأعظم المؤرخ 8 أبريل سنة 1892 يولج مصر إدارة سيناء ويترك القديم على قدمه، فقبلت مصر الفرمان إذ ذاك وعدت التلغراف متمما له.
شكل 5-1: اللورد كرومر.
شكل 5-2: اللورد كتشنر.
ثم لأجل منع سوء التفاهم في المستقبل أرسل السر أفلن بارنج (اللورد كرومر) معتمد الدولة البريطانية في مصر بتاريخ 13 أبريل سنة 1892 مذكرة إلى تيغران باشا ناظر الخارجية المصرية في ذلك الحين، مفادها «أنه لا يمكن تغيير شيء من الفرمانات المقررة للعلائق التي بين الباب العالي ومصر إلا برضا الدولة البريطانية، وأن شبه جزيرة سيناء - أي الأراضي المحدودة شرقا بخط يمتد جنوبا بشرق من نقطة تبعد مسافة قصيرة عن شرق العريش إلى خليج العقبة - تستمر إدارتها بيد مصر، وأما القلعة الواقعة شرقي الخط المذكور فتكون تابعة لولاية الحجاز.»
وقد أرسل اللورد كرومر مذكرته هذه رسميا إلى سفير إنكلترا في الآستانة، فأبلغها السفير إلى الباب العالي وأرسل أيضا صورة منها مع صور جميع المكاتبات التي دارت بشأن فرمان التولية إلى الدول الأخرى فاعترفت بقبولها، وأما الباب العالي فلم يجب عنها سلبا ولا إيجابا. (1) حادثة المرشش
ونامت المسألة نوما طبيعيا إلى أن سمي المستر براملي الإنكليزي مفتشا للجزيرة سنة 1905، وشرع في الإصلاح الإداري الذي تقدم لنا ذكره، من ذلك تنظيم البوليس الأهلي وقسمته إلى هجانة ومشاة وإقامة سد في بطن وادي العريش قرب نخل لإرواء الأراضي المجاورة لها، فأشاعت بعض الجرائد المحلية المعادية للاحتلال خبرا مؤداه أن الإنكليز أرسلوا رجالهم إلى سيناء ليبنوا القلاع على حدودها وفي النفس شيء، فبعث والي سوريا برسالة برقية بهذا المعنى إلى السلطان، فطلب من مصر رجوع العساكر الإنكليزية عن الحدود، فأجابته مصر بكذب هذه الإشاعة.
ثم بلغ مصر أن السلطان أمر بإنشاء نقطة عسكرية عند عين القصيمة وأخرى عند مشاش الكنتلا في وادي الجرافي، وكلا المحلين داخل في حد سيناء، وكان السلطان قد أنشأ قائمقامية جديدة سنة 1899 في بئر السبع، فأخذت مصر ترقب حركاته على الحدود بعين ساهرة.
وفي يناير سنة 1906 أصدرت أمرها إلى المستر براملي مفتش جزيرة سيناء بوضع خفر من البوليس في نقب العقبة لمراقبة الحدود، فذهب المستر براملي ببعض رجال البوليس إلى رأس النقب، ولما لم يجد فيه الماء الكافي نزل إلى المرشش في سفح النقب على الجانب الغربي من رأس خليج العقبة، وكان في قلعة العقبة إذ ذاك اللواء رشدي باشا الذي حارب في اليمن، فأتى المرشش وطلب من المستر براملي بكل تلطف الرجوع عنها، فرجع وأبلغ الأمر إلى حكومة مصر، فطلبت من السلطان تعيين لجنة من الأتراك والمصريين لتحديد التخوم نهائيا بين سيناء وسوريا فأبى.
شكل 5-3: اللواء رشدي باشا قومندان العقبة سنة 1906. (2) حادثة طابا
فاهتمت الحكومة المصرية لهذا الإباء وأرسلت «بلوكا» من العساكر النظامية مع الأميرالاي سعد بك رفعت قومندان سيناء لاحتلال وادي طابا، وكان رشدي باشا قد سبق فأرسل إلى هذا الوادي حامية من العساكر. قال سعد بك: «فلما وصلت بنا الباخرة ميناء طابا رأيت العساكر التركية قد انتشرت على التلال التي تطل على طابا من الشرق، وقائدهم ضابط برتبة بكباشي واقفا على الشاطئ، فأمرت العساكر بالاستعداد للنزول إلى البر وسبقتهم إليه، فاستقبلني القائد المذكور وقال: ما الخبر؟ قلت: قد جئت ببعض العساكر المصرية لاحتلال طابا. قال: إن طابا في حد «العقبة» وجزء منها، فلا أسمح لأحد أن ينزل فيها، قلت: بل طابا في حد الجزيرة وقد أقمت فيها بنفسي مع العساكر بعد إخلاء العقبة سنة 1892 تسعة أشهر، وحفرت فيها هذه البئر، ودللته عليها، وفيما أنا أناقشه في ذلك حضر المستر براملي برا من نخل بوادي طويبة، واشترك معنا في المناقشة، فأصر القائد التركي على قوله إنه يقاومنا إذا أنزلنا العساكر إلى البر، وكانت عساكره قد انتشرت على التلال وصوبت نيرانها نحونا، فرأينا من الصواب اجتناب سفك الدماء فعدنا إلى الباخرة ونزلنا في جزيرة فرعون على نحو ميلين من طابا، ثم أرسلنا الخبر إلى حكومتنا ومكثنا ننتظر أوامرها.» ا.ه.
شكل 5-4: الطراد ديانا الإنكليزي.
وفي 17 فبراير سنة 1906 صدر الأمر إلى الكبتن «فبس هورنبي» قومندان الطراد «ديانا» في السويس بالسفر إلى جزيرة فرعون للمحافظة على العساكر النازلة فيها ومنع العساكر التركية من التوغل في سيناء، وقد صدر لي الأمر بمرافقة الطراد المذكور مندوبا من قبل المخابرات فوصلنا جزيرة فرعون مساء 18 فبراير.
وفي صباح اليوم التالي قام بنا الطراد إلى العقبة، وكان قد حضر إلى جزيرة فرعون القائمقام باركر بك مساعد مدير المخابرات المصرية فرافقنا إلى العقبة، وعند مرورنا بطابا رأينا العساكر التركية لا تزال محتلة ذلك الوادي، وكنا نراقب العقبة بالنظارات، فلما اقتربنا منها رأينا العساكر التركية قد اصطفت وراء جدران الجنائن قرب الشاطئ، وبعضها في خنادق في منحدر الجبل فوق الجنائن، وكلهم في استعداد تام لإطلاق النار، وقد قدرنا عددهم بنحو ألفي رجل.
فوقف الكبتن هورنبي بالطراد بعيدا عن الشاطئ وقال لي: «هل لك أن تنزل إلى البر وتهدي سلامي إلى اللواء رشدي باشا، وتقوله له: إني جئت لأزوره في محله وأريد أن أحيي القلعة بإطلاق المدافع إذا كان يجيب التحية»، وأمر لي بقارب فذهبت به إلى البر، فوجدت على الرصيف ضابطا تركيا برتبة لواء، طويل القامة أشقر اللون أزرق العينين كبير الشاربين، ومعه ضابط هو ترجمانه وياوره، وكان اللواء ممتقع الوجه مرتجف اليدين مما دل على شدة تأثره، فحييته وقلت : «هل أنا أخاطب رشدي باشا قومندان هذا الموقع؟» فقال بصوت أجش: «نعم أنا رشدي باشا، ومن أنت، وما شأن هذا الطراد؟» قلت: إني من موظفي الحربية المصرية، وهذا الطراد إنكليزي، وقد جئت إليك من قومندانه برسالة، وأبلغته الرسالة، فقال: «أما أنه يريد زيارتي فليتفضل، ولكن ألم ير أصغر من هذا الطراد لتأدية الزيارة؟ وأما القلعة فليس فيها مدفع لرد التحية؛ لأنها قد تخربت منذ عهد بعيد ونحن نستعملها الآن مخزنا للغلال والمؤن.»
فرجعت إلى الكبتن هورنبي بهذا الجواب، فركب رفاص الطراد وركب معه باركر بك وكاتب هذه السطور وأتينا لزيارة رشدي باشا، فاستقبلنا على الرصيف وآثار التأثر لا تزال بادية على وجهه، فأمر بالكراسي فجلسنا تحت ظل النخيل قرب الرصيف، ودار الحديث على أصل الخلاف، فعد رشدي باشا نزول المستر براملي على المرشش تحرشا بالدولة وقال: إن طابا والنقب يتحكمان بالعقبة؛ لذلك فهما منها ولا بد من ضمهما إليها لأجل سلامتها، فقلنا له: المعلوم لدى حكومة مصر أن شرق الخليج تابع للعقبة وغربه تابع لسيناء، وقد سبق لعساكر مصر أن احتلت طابا عدة أشهر بعد إخلاء العقبة ولم تتركها إلا لبعدها ووعورة طرقها، فاحتلالكم لطابا والنقب قبل تحديد التخوم رسميا بين الدولة ومصر يعد تحرشا بمصر، وقال الكبتن هورنبي: «وأنا عائد الآن إلى جزيرة فرعون، وسأبقى فيها إلى أن ترسل لجنة لتحديد التخوم»، ثم ودعناه وانصرفنا، وعند انصرافنا أبدى رشدي باشا رغبته في رد الزيارة للكبتن هورنبي قبل تركه ميناء العقبة، فلما رجعنا إلى الطراد أرسل الكبتن هورنبي رفاصه وقاربه إلى رشدي فأتى بهما، فرد الزيارة وعاد إلى العقبة وقد ذهب عنه تأثره، وذهبنا نحن إلى جزيرة فرعون.
وفي اليوم التالي أتانا ياور رشدي بقارب شراعي، وكان القارب الوحيد في العقبة، وقال: إنه ورد خبر من الآستانة أن مختار باشا الغازي قادم إلى العقبة لتحديد التخوم.
ثم حضرت الباخرة نور البحر من السويس وفيها الخبر أن الحكومتين اتفقتا على إرسال مندوبين لتعيين الحدود، وأن مندوبي الدولة هم ضابط من العقبة وضابطان من الآستانة: أحمد مظفر بك ومحمد فهمي بك، وقد برحا الآستانة إلى مصر، وأما مندوبو مصر فهم: الأميرالاي أوين بك مدير المخابرات واللواء إسماعيل باشا سرهنك وكيل الحربية والأميرالاي سعد بك رفعت قومندان سيناء، فسألني الكبتن هورنبي أن أذهب بالرفاص إلى رشدي باشا وأبلغه هذا الخبر، فذهبت إليه صباح 26 فبراير فاستقبلني في خيمة فوق البحر فأبلغته ذلك.
ثم شرعنا نتحدث بشأن الحدود بصفة غير رسمية، وكان رشدي يتوهم أن الإنكليز يباشرون أعمالا حربية عظيمة في سيناء، ويقصدون بالدولة شرا، وأن المستر براملي قد أرسل إلى المرشش عمدا لفتح باب الشر، فرأيت من الواجب إزالة هذا الوهم من ذهنه حبا بالسلام فقلت: «أنت تعلم أن بدو سيناء وسوريا دأبهم شن الغارة بعضهم على بعض، والسنة الماضية - سنة 1905 - عمت الفوضى سيناء كلها، وقتل اثنان من غزة البدو أخوين من أهالي نخل على درب الحج، وفرا إلى سوريا، وكلما ارتكب بدوي جناية في سيناء فر إلى سوريا أو الحجاز، وليس على الحدود من رادع أو مراقب، فاضطرت الحربية المصرية أن تعيد سعد بك رفعت قومندانا على سيناء بعد أن أحيل على المعاش؛ نظرا لمعرفته حال البلاد ومقدرته على سياسة البدو، وعينت معه المستر براملي مفتشا ومساعدا قصد ترقية أحوال البلاد الاقتصادية والزراعية، ثم بينت له الأعمال الإصلاحية التي باشرها المستر براملي في الجزيرة، وقلت: إن كل ما تريده حكومة مصر الآن هو أن يعين الخط الفاصل بين سيناء وسوريا لتتمكن من وضع خفر في نقط معينة على الحدود لمنع غزاة سوريا من الدخول إلى سيناء ومنع غزاة سيناء من الخروج إلى سوريا، والوقوف في وجه الجناة الفارين من البلادين، ورما كان قصدها البعيد أن يكون القنال بعيدا من كل خطر»، ثم قلت: «وإني أرى القوم مصرين على طلب إخلاء طابا قبل الشروع في تعيين الحدود؛ لذلك يحسن جدا أن تنصحوا بإخلاء هذا الوادي قبل أن يقدم الطلب رسميا، فشكر لي صراحتي وإخلاصي، ثم ودعته وعدت إلى الطراد.
ولما لم يعد لي شغل في جزيرة فرعون استأذنت الكبتن هورنبي وعدت إلى مصر، فوجدت المندوبين التركيين قد حضرا ونزلا ضيفين على مختار باشا الغازي، ثم صدر لهما الأمر بعد أسبوع فذهبا إلى العقبة عن طريق بيروت والشام ومعان بدون أن يكلما أحدا بشأن مهمتهما، فساء ذلك أصحاب الشأن من الإنكليز والمصريين، وانتقلت المفاوضات بشأن الحدود إلى لندن والآستانة.
فطلبت الدولة العلية ضم معظم بلاد التيه إلى سوريا، وذلك برسم خط من العريش إلى السويس، ومن هذه إلى نقب العقبة بحيث يكون شرق هذا الخط لها والباقي لمصر، ولما رفضت مصر النظر في هذا الطلب عادت فطلبت قسمة جزيرة سيناء قسمين بخط مستقيم من العريش إلى رأس محمد، وجعل القسم الغربي لمصر والشرقي للدولة، فأبت مصر النظر في هذا الطلب أيضا وأصرت على الخط الذي يخوله فرمان عباس حلمي باشا من رفح إلى العقبة.» (3) حادثة رفح
هذا وكان الأتراك بعد احتلال طابا قد أرسلوا نفرا من العساكر لاحتلال رفح، فأزالوا عمودي الحدود من مكانهما تحت السدرة واقتلعوا عمد التلغراف المصري بين بئر رفح وطريق بئر رفيح، وجعلوا مكانها عمدا تركية، ونصبوا خيامهم في حد مصر بين السدرة وطريق رفيح، فلما بلغ الخبر حكومة مصر وقد بلغها أولا عن أسعد أفندي عرفات مكاتب المقطم في العريش، أمرت الطراد منرفا الإنكليزي في بورسعيد بالسفر حالا إلى رفح لتحقيق الخبر وأمرتني بمرافقته، وقد عينت قومندانه الكبتن ويموث «معتمدا للدولة البريطانية» وعينتني «معتمدا للحكومة المصرية»، وأمرتنا بالتثبت من الخبر بأنفسنا، حتى إذا ما وجدناه صحيحا نحتج على العمل رسميا باسم الدولة البريطانية والحكومة المصرية معا، فنسلم احتجاجنا إلى ضابط العساكر التركية في رفح ثم نعود إلى مصر، وقد حذرتنا في الوقت نفسه من تعدي حدود رفح شمالا، فقام بنا الطراد منرفا من بورت سعيد عصر 28 أبريل سنة 1906 فوصلنا العريش صباح اليوم التالي، فقابلت محافظها محمد بك إسلام، وانتقيت أربعة من رجالها العارفين ميناء رفح ومكان عمودي رفح بالدقة، وهم: الشيخ سلام عرادة عمدة السواركة، والشيخ سليمان معيوف شيخ الرميلات ، وحسين عبد الكريم الجعلي من أنشط بوليس العريش، وقطامش آغا عيد كبير هجانة العريش، فأرسلت اثنين منهم في الحال بطريق الشاطئ على أن يقفا عند ميناء رفح ويومئا إلينا لنقف عند الحد، وأخذت اثنين معي في الطراد، وقام الطراد بنا قاصدا ميناء رفح الساعة الأولى بعد الظهر، وكنت قد أعلمت القومندان بما أخبر به الدليلان اللذان معي عن موقع رفح، فرسا في مينائها وذلك في الساعة أربعة وربع بعد الظهر، وكان الدليلان المرسلان بالبر قد قاما قبلنا من العريش بساعتين، فوصلا بعدنا بساعة وربع، ووقفا على الشاطئ تجاهنا وأومآ إلينا فنزلت إلى البر وقابلتهما، فأكدا لي أننا على الحد ولم نتعده، وخرائب رفح على نحو ساعة منا تجبها التلال الرملية التي تحاذي الشاطئ من بلدة العريش، وكانت الشمس قد غابت فأوصيت شيخ الرميلات أن يعد لنا بعض الركائب إلى الصباح وعدت إلى الطراد، وفي صباح 30 أبريل نزلت إلى البر وركبت ومعي الخبراء الأربعة قاصدا رفح، أما الكبتن ويموث فإنه بقي في الطراد ينتظر مني الخبر، وقد تركت له على الشاطئ جوادا مع خبير.
وفي طريقي إلى رفح في التلال الرملية التقيت بعض فرسان الرميلات، فأكدوا لي أن عمودي الحدود قد أزيلا من مكانهما في 12 أبريل، وأن 11 عمودا من عمد التلغراف المصري من بئر رفح إلى طريق رفيح قد بدلت بعمد تركية في 28 أبريل، وقالوا: إن في رفح نحو خمسين عسكريا عليهم ملازم يدعى «إسماعيل أفندي» ومعهم موظف ملكي مأمور الجفالك يدعى «مصطفى أفندي» وعلى الجميع يوزباشي أركان حرب «مفيد بك»، وهم يسكنون في 5 خيام، وقد نصبوا خيامهم في حد مصر بين السدرة - حيث كان عمودا الحدود - وطريق رفيح، مع أن عادة العساكر التركية كانت إذا جاءت لتنشئ محجرا على الحدود تجعل خيامها بين السدرة وبئر رفح، فلما خرجت من التلال الرملية وأشرفت على الخيام أرسلت مع البوليس حسين رقعة باسمي عليها هذه العبارة:
نعوم بك شقير، موظف بنظارة الحربية بمصر، حضر مندوبا من قبل الحكومة المصرية لمقابلة حضرة قومندان العساكر الشاهانية المعسكرة الآن في رفح مقابلة خصوصية ودية.
ثم تقدمت إلى كوخ التلغراف، وهو عند ملتقى طريق رفيح بطريق العريش إلى رفح على علو نحو 500 خطوة من الخيام و600 خطوة من السدرة، ومكثت فيه بانتظار رد العجالة، وقد رأيت السدرة ولم أر عمودي الحدود، ورأيت عمد التلغراف من الكوخ جنوبا تختلف عنها منه شمالا، وقد وضع العساكر حارسا على الطريق بينهم وبين الكوخ فأوقف الحارس الرسول، وبعد هنيهة عاد الرسول وقال: إن مفيد بك قومندان النقطة غائب في خان يونس، ولكن مصطفى أفندي مأمور الجفالك هنا وهو بانتظارك عند الحارس، فتقدمت إليه وبعد السلام قلت: أليس الأصلح أن نعود إلى الكوخ أو ندخل إحدى هذه الخيام فنتحدث بما هو لازم؟ فتردد في الجواب، فعلمت أنه مأمور بمقابلتي في ذلك المكان، فقلت: أين قائد هذه العساكر؟ قال: ذهب إلى خان يونس بمهمة وسيعود قبل الظهر، وقد بعثت إليه برقعتك مع رسول خاص، قلت: إذن انتظر قدومه في هذا الكوخ؛ لأني أريد مقابلته لغرض هام، وقد حضر الكبتن ويموث في الطراد منرفا معتمدا من قبل الحكومة الإنكليزية، وهو أيضا يريد أن يقابله للغرض عينه، قال: أليس لي أن أعلم هذا الغرض؟ قلت: بلى كان تحت هذه السدرة عمودان من الغرانيت جعلا الحد بين مصر وسوريا فأزيلا في 12 الجاري، وفي 28 منه بدلت عمد التلغراف المصري بين كوخ التلغراف هذا وبئر رفح بعمد تركية، فنريد مقابلة الضابط المسئول في هذه الجهة لنسأله عن ذلك ونبلغه أمرا نحن مكلفون إبلاغه إياه رسميا، فقال: لقد مضى علينا هنا 43 يوما فلم نر أحدا غير عمد التلغراف ولا رأينا عمدا للحدود تحت السدرة، ولكن هذا المكان مملوء بالعمد؛ لأنه قد قام عليه في القديم هيكل عظيم، وهذه العمد هي من آثاره، ثم إن الحد الذي نعرفه بين محافظة العريش وقائمقامية غزة هو طريق رفيح الذي عليه كوخ التلغراف، وقد كانت أراضي رفح كلها بيد أناس من خان يونس، ولكن لم يكن معهم حجج تثبت ملكيتهم، فانتزعتها منهم وضممتها إلى إدارة الجفالك باسم الحضرة السلطانية، وبقي الواضعون أيديهم على الأرض يحرثونها كما من قبل ويدفعون العشور.
شكل 5-5: الكبتن فبس هورنبي قومندان الطراد ديانا.
شكل 5-6: الكبتن ويموث قومندان الطراد منرفا.
فعلمت من جوابه أن الترك ينوون إنكار وجود العمودين، وإذا اضطروا قالوا: إنهما بقايا هيكل قديم وليسا الحد بين مصر وسوريا، ولكن لما لم يكن هو الموظف المسئول عما يقول قلت له: فهمت جوابك، فمتى حضر الضابط المسئول نرى قوله ونجيب عنه، ثم عدت إلى الكوخ وبعثت برسول إلى الكبتن ويموث أخبره بما كان، فحضر عند الظهر وانتظر القومندان برهة فلم يحضر، فأرسل إليه عجالة بهذا المعنى:
قومندان العساكر الشاهانية برفح. بعد السلام أكتب إليكم هذا لأخبركم أني جئت مندوبا من قبل الحكومة البريطانية لمقابلتكم بشأن خط الحدود، ويمكنني الانتظار هنا ساعتين فقط، فإما أن تأتوا إلي أو أن أذهب إليكم، ومعي نعوم بك شقير الذي حضر مندوبا من حكومة مصر، وأرجوا أن تتكرموا بالرد حالا مع رافعه، واعلموا أن مأموريتنا هذه هي مأمورية ودية سلمية ويمكن إنهاؤها بمقابلة قصيرة.
رفح في 28 أبريل سنة 1906
الكبتن أ. و. ويموث
قومندان الطراد منرفا
فما وصلت عجالته هذه مخيم العساكر حتى حضر إسماعيل أفندي، وقال: إن مفيد بك لا يزال في خان يونس، ولكن لا بد من حضوره بعد نصف ساعة، وكانت الساعة إذ ذاك واحدة بعد الظهر، فانتظرناه إلى الساعة الثانية وربع فلم يحضر، مع أن خان يونس لا يبعد عنا غير ساعة، فعدنا إلى الوابور وأرسلنا إليه الاحتجاج الآتي:
ميناء رفح، في 30 أبريل سنة 1906، الساعة 3 بعد الظهر
حضرة قومندان العساكر الشاهانية برفح
نعلم حضرتكم أننا انتظرنا خمس ساعات في بيت التلغراف تجاه معسكركم لأجل مقابلتكم، فلا حضرتم ولا حضر منكم جواب، فعدنا إلى الوابور، وقد لاحظنا أن عمودي الحدود اللذين كانا قائمين عن جانبي السدرة التي عسكرتم بقربها قد رفعا من مكانهما، ولاحظنا أيضا أن عمد التلغراف المصري من خط الحدود إلى طريق بئر رفيح قد بدلت بعمد أخرى، فبالنيابة عن الحكومة المصرية والحكومة البريطانية نحتج على فعلكم هذا احتجاجا شديدا ونطلب أن تعيدوا عمودي الحدود وعمد التلغراف إلى أماكنها وتحافظوا على الحدود المقررة، وسنرسل نسخة من كتابنا هذا إلى رجال الحل والعقد من المصريين والإنكليز في مصر، وإذا أحببتم مخاطبتنا فالطراد لا يسافر من ميناء رفح قبل صباح الغد الثلاثاء الساعة 9 إفرنجية.
أ. و. ويموث. قومندان الطراد منرفا
معتمد الحكومة البريطانية
نعوم شقير
معتمد الحكومة المصرية
وفي فجر الغد حضر ضابط من معسكر الترك إلى الشاطئ وأرسل خبرا إلى الطراد أن مفيد بك آت لمقابلتنا الساعة 8 من الصباح، فلما كان الميعاد رأينا كوكبة من الفرسان آتية من جهة رفح فعلمنا أنها مفيد بك وحرسه، فذهبت في قارب يجره رفاص الطراد لمقابلته، وكان قد قام في البحر إذ ذاك نوء شديد فلم يكن من الممكن الوصول بالقارب إلى الشاطئ، وكان قطامش الهجان الذي رافقني من العريش يحسن السباحة، فأرسلته إلى مفيد بك فقال: «لو كنت أحسن السباحة لذهبت إليكم في الحال، على أن النزول من القارب الآن أيسر جدا من الصعود إليه، فحبذا لو استطعتم النزول إلى البر للمفاوضة معكم في ما أتيتم لأجله»، وكان البحر قد اشتد هياجه حتى تعالت أمواجه كالجبال، وأنا لا أحسن السباحة إلى حد أحتقر معه الأنواء، ولكني لم أطق أن أعود أدراجي إلى الطراد بدون مقابلة الضابط المسئول وسماع أقواله، لا سيما وقد لحظت من رسالته أنه يود كثيرا مقابلتي قبل السفر، فاعتمد على الله وامتطيت الأمواج وصحبني الهجان والبوليس وأربعة من البحارة الإنكليز، فوصلنا الشاطئ بعد جهاد عظيم، فوجدت مفيد بك ومصطفى أفندي وإسماعيل أفندي قد ترجلوا ووقفوا على الشاطئ ومعهم 15 فارسا قد انتظموا صفا واحدا على بضع خطوات منهم، فرحبوا بي وهنئوني بالسلامة، ثم خلع علي مصطفى أفندي عباءته ورفع الهجان شمسية فوق رأسي وشرعنا في الحديث، فقال مفيد بك: «كنت أمس في خان يونس وغزة أحقق قضية قتيل، فلما وصلني كتابكم الأخير أسرعت لمقابلتكم، أما أنت معتمد الحكومة المصرية فإني أفاوضك في الأمر ، وأما الكبتن ويموث معتمد الحكومة البريطانية فإني أستقبله كزائر، وكل ما أعلمه عن مركز الإنكليز في مصر أنهم يدبرون ماليتها وليس لهم حق التدخل في مسألة الحدود، فالمفاوضة في الحدود إنما تكون بين مصر - وهي ولاية ممتازة من ولايات الدولة العلية - وبين متصرفية القدس الشريف»، ثم قال: «وهل تقصدون بكتابكم الكبير هذا بلاغا نهائيا؟» قلت: لا إنما هو احتجاج رسمي على إزالة عمودي الحدود من مكانهما، فاتخذ مفيد بك خطة مصطفى أفندي من إنكار وجود العمودين بتاتا، فاستغربت اتخاذهم هذه الخطة في مسألة هامة صريحة كمسألة العمودين، وأحببت أن أريه عبث هذه الخطة، وكان قد تجمع على الشاطئ بعض الرميلات وفيهم سليمان معيوف شيخ الرميلات، فقلت: «أيها الرميلات أصحاب هذه البلاد قولوا الحق، هل كان تحت السدرة في رفح عمودان يعدان الحد بين مصر والشام؟» فأجابوا: «نعم، كان تحت السدرة عمودان من الغرانيت الأحمر، كنا نراهما هناك منذ نشأتنا ونعلم أنهما الحد بين مصر والشام، وقد ورثنا هذا العلم عن الآباء والأجداد، وفي سنة 1898 زار خديوي مصر الحدود ونقش تاريخ زيارته على العمود الذي إلى جهة العريش، فلما جاءت عساكر الدولة مؤخرا أزالت العمودين في 12 أبريل سنة 1906»، فامتعض مفيد بك من صراحة الرميلات وجرأتهم، ولكنه كظم غيظه وقال: «إن العساكر لا تجسر أن تزيل العمد أو تبدلها إلا بأوامر عالية.» قلت: قد فهمت الحالة الآن وأريد الانصراف، ولكن قبل الانصراف أريد أن أقول كلمة نصح لعلها تفيد، ولست أقول هذه الكلمة كمندوب من قبل الحكومة المصرية، بل أقولها كلبناني الأصل ذي صبغة عثمانية يغار على كرامة دولته: إن مسألة الحدود الآن قد دخلت في دور حرج جدا، وإن قولنا: لم يكن هناك عمد تدل على الحدود لا يشرفنا ولا ينجينا من الحرج، وأرى «القوم» قد عقدوا النية على تنفيذ مطالبهم وترك القديم على قدمه بالرضا أو بالقوة، فإن كان رجال الدولة واثقين بقدرتهم على الثبات في هذا المضمار فليفعلوا ما شاءوا، وإلا فإني بإلحاح أنصحهم أن يجدوا لهذه المشكلة حلا يحفظ كرامة الدولة ولا يعرضها للفشل والخذلان، وأبسط حل لها في ما أرى أن تعود العساكر من طابا والعقبة إلى أماكنها، وتعين لجنة مختلطة من أتراك ومصريين تمر على الحدود فتعين الخط الفاصل بصورة جدية ودية، وقد رأى مفيد بك ورفيقاه إني أكلمهم بإخلاص فشكروني على ذلك كثيرا، ولكنهم لم يجسروا أن يصرحوا لي بغير ما لقنوه، ثم ودعني مفيد بك وعاد بحرسه إلى رفح وترك معي مصطفى أفندي وإسماعيل أفندي للاعتناء بي إلى أن أعود إلى الطراد.
وكان القارب والرفاص لا يزالان في انتظارنا وراء الأمواج، فرمى لنا الرفاص حبلا نستعين به على الرجوع، وكان النوء قد زاد اشتدادا، فحاولنا الوصول إلى القارب مرارا فلم نفلح، وقد أصبح القارب في خطر الغرق، وكان بين الإنكليز الذين على الشاطئ من يحسن المواصلة بالإشارة، فبعثت بإشارة إلى الكبتن ويموث أخبره أن المفاوضة مع مفيد بك لم تسفر عن شيء يستلزم حضوره أو بقاءه في المينا، وأنه يستحيل علينا بسبب الأنواء أن نصل القارب، فإذا كان يود السفر إلى العريش حالا فليرسل إلينا ثيابنا ونحن نسير في البر فنوافيه في العريش غدا، فطلب إذ ذاك الرفاص والقارب وجعل ثيابنا في برميل ورماه في البحر، فقذفته الأمواج إلى الشاطئ، ثم أقلع بالطراد إلى العريش.
وذهب إسماعيل أفندي الضابط التركي مع الهجان وشيخ الرميلات ليحضروا لنا الركائب، وبقي معي مصطفى أفندي، فعاد إلى مسألة الحدود فقال: «كنا ظننا أن الطراد عازم على إنزال العساكر إلى البر فصففنا عساكرنا على رءوس التلال الرملية المشرفة على الشاطئ لمنع عساكركم من النزول، بل نوينا مرة، إذ كنت أنت والكبتن ويموث في الكوخ، أن نلقي القبض عليكما، قال: ولكن لا تسألني عن السبب»، فقلت: لطف الله بهذه الدولة وقيض لها رجالا أكفاء أمناء يعرفون كيف يديرون دفتها إلى ميناء الأمان.
وفي الساعة الثالثة بعد الظهر حضرت الركائب من الإبل والخيل، فسرنا ما بقي من النهار وقسما من الليل حتى وصلنا قلعة العريش الساعة الثالثة من صباح 2 مايو، فبتنا في القلعة إلى طلوع الشمس ثم ذهبنا إلى الشاطئ، فأرسل لنا الطراد الرفاص ومعه قارب مسطح يمكن إدناؤه من الشاطئ في النو، وكان النور لا يزال شديدا فوصلنا الرفاص بكل مشقة، وعاد بنا الطراد فوصلنا بورسعيد مساء ذلك اليوم ومصر مساء اليوم التالي. (4) لهج الجرائد
هذا وقد لهجت الجرائد المحلية بمسألة الحدود، وجاهرت المعادية منها للاحتلال باستيائها الشديد من مداخلة إنكلترا فيها وقالت: ليس لإنكلترا حق الدفاع عن استقلال مصر الإداري في وجه الدولة؛ لأنها لو تغلبت عليها في هذا المضمار فقدت الدولة معنى السيادة الحقيقي على مصر.
وقالت الجرائد الموالية للاحتلال: بل لإنكلترا كل الحق في هذا الدفاع وإلا فإنها تفقد معنى السيادة الاحتلالية، ويكون بعد ذلك للدولة الحق أن تنقص ما شاءت من استقلال مصر الإداري.
وأيدت بعض الجرائد المعتدلة هذا القول الأخير، وزادت عليه أن حق إنكلترا هذا يدوم حتى تقوم الدولة العلية وتكرهها على الجلاء عن مصر، وأما في مسألة سيناء فالأمر ليس كذلك؛ لأن سيناء ليست جزءا من مصر ولا امتيازا لها، بل هي «وديعة» أعطيت لها مؤقتا تسهيلا للحج المصري، ففي احتلال الدولة لطابا تكون قد استردت جزءا من سيناء لإيجاد دائرة حول العقبة لا يكون لأحد كلمة فيها غير الأتراك كما استردت من قبل الوجه والمويلح وضبا والعقبة.
فرد المنتصرون لمصر هذا القول بأن سيناء كانت في أكثر عصور التاريخ، بل بعد الإسلام كانت في كل العصور تابعة لمصر وجزءا متمما لها غير منفصل عنها، يشهد بذلك آثار مصر الباقية في سيناء من عهد الدولة الأولى المصرية إلى هذا العهد. هذه هي خلاصة ما دار في الجرائد المحلية في مسألة سيناء.
أما الحكومة البريطانية فإنها صرحت بأنها لا تسمح بأقل تغيير يحصل في امتيازات مصر الممنوحة لها في الفرمانات إلا إذا ما صدقته وأقرته، وقالت: إننا دخلنا مصر وسيناء جزء منها وتحت إدارتها، وسنرى أنها تبقى كذلك ما دمنا فيها.
وكانت الجرائد المحلية قد أحدثت بعض الشغب في البلاد خصوصا وأن بعضها اتهم الإنكليز أنهم يسعون في إحباط مشروع سكة الحجاز الحديدية، فزادت الحكومة البريطانية حاميتها حتى بلغت نحو 6000 رجل. (5) بلاغ إنكلترا النهائي إلى تركيا
ورأت إنكلترا أن في قبول مطالب تركيا باتساعها الأخير خطرا على حرية القنال ومصر والعائلة الخديوية، فأوعز ناظر خارجيتها السر إدوارد جراي إلى سفيرها في الآستانة السر نيقولاس أوكنور، فرفع إلى الباب العالي بلاغا نهائيا بتاريخ 3 مايو يدعوه إلى إجابة مطالب إنكلترا في أثناء عشرة أيام، وهذه المطالب هي: (1) إخلاء طابا. (2) عود عساكر رفح إلى حدهم. (3) إعادة عمودي الحدود في رفح إلى مكانهما، ودل البلاغ المذكور أنه إذا لم يقدم الباب العالي الترضية المطلوبة تضطر إنكلترا للالتجاء إلى القوة، وعضد سفيرا فرنسا وروسيا في الآستانة مطالب إنكلترا، وأخذت إنكلترا تستعد للطوارئ في مصر وسيناء والآستانة.
هذا وقد كان معلوما للمطلعين على دخائل الأمور أن ألمانيا هي التي حرشت تركيا في الخفاء على إحداث مسألة الحدود، وحرضتها على المقاومة لغاية في النفس، والظاهر أن استعداد ألمانيا لم يكن قد تم بعد، فنصح سفيرها في الآستانة السلطان بالتسليم إلى مطالب إنكلترا، قال: لأن دولته لا تستطيع أن تنصره عليها في الأحوال الحاضرة، فسلم السلطان بمطالب إنكلترا في آخر ساعة، وأمر فخرجت العساكر من طابا وعاد عساكر رفح إلى حدهم وكانوا قد كسروا عمودي الحدود، فصدر الأمر إلى قائمقام بئر السبع وقائمقام غزة بتلافي الأمر، فحضرا إلى رفح ونبشا عمودين من خرائب رفح عمودا من الغرانيت الأسود طوله 6 أقدام وآخر من الغرانيت الرمادي طوله 4 أمتار، ونصباهما تحت السدرة بقرب مكان العمودين الأولين.
وفي 14 مايو سنة 1906 بعث توفيق باشا الصدر الأعظم الرسالة الآتية إلى السر نيقولاس أوكونور سفير بريطانيا العظمى بالآستانة هذا نصها:
جناب السفير
تشرفت بالمذكرة التي تكرمتم بإرسالها لي في 12 الجاري بشأن احتلال طابا، فاسمحوا لي أن أخبركم أنه لم يخطر قط ببال الحكومة الشاهانية الخروج عن مضمون التلغراف المرسل من المرحوم جواد باشا إلى سمو الخديوي في 8 أبريل سنة 1892، ومع ذلك فإن الرسالة التي تشرفت بإرسالها إليكم في 11 الجاري كانت واضحة كل الوضوح، فإن إخلاء طابا قد تقرر وصدرت الأوامر بذلك.
شكل 5-7: عمودا رفح الجديدان.
وقد قر الرأي على أن الضباط أركان حرب الموجودين الآن في العقبة، والموظفين الذين ينتدبون من قبل سمو الخديوي، يمرون معا على الأمكنة اللازمة ليجروا التحريات الفنية على مقتضى القواعد الطوبوغرافية، ويعينوا على خريطة النقط الطبيعية التي يكون بها ضمان الحال الحاضرة وبقاء القديم على قدمه في شبه جزيرة سيناء على القاعدة التي وضعها جواد باشا في تلغرافه السالف الذكر، وأن يرسموا خطا للحدود يبتدئ من رفح بقرب العريش ويتجه جنوبا بشرق على خط مستقيم تقريبا إلى نقطة على خليج العقبة تبعد على الأقل 3 أميال من العقبة، وبذلك تكون الرغائب التي أبديتموها سعادتكم في رسالتكم المشار إليها قد تحققت تماما.
شكل 5-8: أعضاء اللجنة المصرية في مخيم العقبة.
هذا وإنا نسأل سعادتكم أن تبلغوا ذلك إلى لندن، ونأمل أن حكومة جلالة الملك ترى بذلك برهانا جديدا على رغبتنا الشديدة في دوام حفظ العلائق بيننا على دعائم المودة التامة، وإن في إبداء حكومة جلالته تمام ارتياحها لذلك دليلا على القيمة التي تعلقها على حفظ وتوطيد العلاقات الحسنة الكائنة لحسن الحظ بين الحكومتين أفندم.
الإمضاء
توفيق (6) لجنة تحديد التخوم
شكل 5-9: الفريق السير إبراهيم فتحي باشا، وزير الأوقاف الحالي.
شكل 5-10: اللوا أوين باشا، مدير منقلة الحالي.
وبناء على ذلك صدر أمر الباب العالي إلى المندوبين العثمانيين في العقبة أن يتحدا مع من تنتدبهم مصر لتعيين خط الحدود، وقد جرى تبديل في أعضاء اللجنة التي انتدبتها مصر أولا لأسباب صحية، وتألفت من جديد من الأميرالاي أوين بك مدير المخابرات واللواء إبراهيم باشا فتحي من أرباب المعاشات إذ ذاك، وقد ندبت للذهاب معهما سكرتيرا للجنة المصرية. وهذه صورة الأمر العالي الصادر بهذا الشأن:
سعادتلو إبراهيم باشا فتحي، وعزتلو الأميرالاي أوين بك
اقتضت إرادتنا بتعيينكما وتعيين حضرة نعوم بك شقير معكما بصفة سكرتير؛ لتسوية الحدود بين العقبة ورفح، وذلك بالاتحاد مع الضباط المندوبين من قبل الدولة العلية لهذا الغرض، وهم الآن في العقبة، وقد فوضناكم تفويضا مطلقا بإجراء ما ترونه موافقا من التغييرات الطفيفة في خط الحدود بقصد تسهيل الإدارة على الطرفين، وذلك بالاتفاق مع مندوبي الدولة العلية المذكورين، وهذا الخط الفاصل يبدأ من رفح بقرب العريش ويتجه إلى الجنوب الشرقي حتى ينتهي في نقطة على خليج العقبة تبعد على الأقل ثلاثة أميال من العقبة، ويكون خطا متعرجا يقرب من المستقيم، ولذا أصدرنا أمرنا هذا لكم للعمل بمقتضاه.
في 22 مايو سنة 1906
الختم
عباس حلمي
وقد صحب اللجنة المصرية: المستر كيلن والمستر ويد، وهما مهندسان إنكليزيان بارعان من قلم المساحة المصرية؛ لأجل رسم خريطة فنية للحدود من العقبة إلى رفح، والقائمقام براكنرج بك طبيب إنكليزي ماهر من المصلحة الطبية بالجيش المصري، والمستر أفنس كاتب إنكليزي نجيب من موظفي إدارة المخابرات بمصر، ويوسف أفندي سامح «والان بك» مترجم تركي موظف في نظارة الحربية بمصر، فسار أعضاء اللجنة المصرية من مصر الخميس في 24 مايو سنة 1906 قاصدين العقبة بطريق البحر، فوصلوا جزيرة فرعون مساء السبت في 26 من الشهر المذكور.
وفي صباح اليوم التالي ذهبنا إلى العقبة فاستقبلنا على الرصيف: اللواء رشدي باشا، وياوره الجديد محمد أسعد بك صاغ أركان حرب، وهو ضابط عربي نجيب من أهل بيروت يتقن التركية والعربية وينظم الشعر وله إلمام بالعلوم الطبيعية والرياضية ، والمندوبان العثمانيان وهما: الأميرالاي أركان حرب أحمد مظفر بك وهو تركي الأصل أشقر اللون معتدل القامة يناهز الخمسين من العمر، والبكباشي أركان حرب محمد فهمي بك كردي الأصل ولد في السليمانية قرب الموصل وتربى في بغداد وهو قصير القامة أسمر اللون أسود العينين براقهما وسنه يناهز الأربعين.
وبعد أن تعارفنا وتبادلنا التحية شرع المهندسان المرافقان لجنتنا في رسم خريطة العقبة وضواحيها، وذهبنا نحن إلى خيمة على شاطئ البحر وشرعنا نتناقش في مبدأ الخط الفاصل، فصرح رشدي باشا ومندوبا اللجنة التركية أن الدولة العلية إنما أخلت طابا وتركته لمصر حفظا لكرامة مصر والدولة البريطانية، وأملوا لقاء ذلك أن تسلم اللجنة المصرية بأن يبدأ الخط المستقيم - المشار إليه في كتاب الصدر الأعظم - من أنف الجبل الذي على شاطئ الخليج ويطل على وادي طابا من الشرق، ثم يتمشى على رءوس تلال النقب التي تطل على العقبة إلى المفرق، قالوا: لأن هذا الحد وحده يضمن سلامة العقبة من الوجهة الحربية، فأجلت اللجنة المصرية قرارها في ذلك إلى أن تتم خريطة الحدود.
شكل 5-11: مخيم اللجنة المصرية في العقبة.
وكانت الحكومة المصرية قد عهدت بتدبير طعامنا وشرابنا وخيامنا إلى شركة كوك بمصر، فأرسلت هذه إلى وكالتها في القدس فبعثت بترجمانها سليم أفندي أسعد بطريق البر، فوصل العقبة يوم وصولنا ومعه الخيام والمؤن والمهمات اللازمة، فنصب لنا الخيام على رأس الخليج بين قلعة العقبة والمرشش، فأقمنا هناك أياما في انتظار خريطة العقبة، وكنا في كل يوم أو يومين نجتمع برشدي واللجنة التركية ونبحث في خط الحدود حتى عرف كل منا رأي الآخر، ولكنا قررنا ألا نبت في أمر حتى تتم الخريطة، فننظر في خط الحدود كله دفعة واحدة.
شكل 5-12: سليم أفندي أسعد، ترجمان شركة كوك الذي رافق اللجنة المصرية على الحدود.
وفي 4 يونيو سنة 1906 فرغ المهندسان من رسم خريطة العقبة فبرحناها على أن نسير على الحدود إلى رفح، ولما كان اتفاق 14 مايو الأخير يقضي باتباع «خط يقرب من المستقيم يبدأ من رفح وينتهي بنقطة تبعد 3 أميال على الأقل من العقبة»؛ كان لا بد لنا قبل ترك العقبة من تعيين نقطة على خليج العقبة تكون مبدأ الخط الذي نسير عليه، فاتفقنا أن يكون مبدأه المرشش التي تبعد
الميل من قلعة العقبة، وخمنا موقع رفح تخمينا من الخرط التي بأيدينا، ورسمنا بين المكانين خطا تقريبيا اتخذناه دليلا لنا لتعيين جهة السير على الحدود، فجعلنا أول محطة لنا المفرق عند رأس النقب، فوصلناه عصر 4 يونيو، وكان في حملتنا نحو مائة جمل يخفرها اثنا عشر من هجانة خفر السواحل.
شكل 5-13: أعضاء اللجنة المصرية على الهجن.
وفي اليوم التالي لحقنا إليه مندوبا اللجنة التركية يصحبهما أسعد بك المار ذكره سكرتيرا ليكون عدد أعضاء اللجنتين متساويا، وقد صحبهما أيضا ضابط تركي برتبة ملازم وبعض العساكر للاهتمام بحملتهم.
وفي 7 يونيو سنة 1906 سار المهندسان أمامنا على الخط المستقيم التخميني يعينان مواقع الجبال والأمكنة البارزة على جانبي الخط بالأرصاد الفلكية، ويرسمان خريطة الطريق، وسرنا نحن في أثرهما على الخط أو عرجنا عنه يسيرا طلبا للماء.
شكل 5-14: هجانة خفر السواحل المرافقة للجنة المصرية.
وما زلنا كذلك حتى أتينا رفح في 28 يونيو سنة 1906، ولم نكن نعلم موقعها الجغرافي بالدقة، فلما وصلناها وجدنا مكتب التلغراف من مصر قد سبقنا إليها، فاتصل المهندسان بالمرصد الفلكي في حلوان فعينا موقع رفح الجغرافي فإذا هو في طول شرقي 8
52
35° وعرض شمالي 1
36
29°، ولم يكن في رفح محل يصلح لرسم الخرط، فأخذ المهندسان أرصادهما ورسومهما وذهبا إلى قلعة العريش، وكان في انتظارهما هناك المستر هيس من موظفي قلم المساحة النجباء، فرسموا خريطة للحدود خطا مستقيما من رفح إلى المرشش والبلاد عن جانبيه على نحو خمسة أميال من كل جانب.
فاجتمع اللجنتان إذ ذاك للنظر في تعيين خط الحدود، فعرضت اللجنة المصرية خطا للحدود يقرب جدا من المستقيم وينطبق على طبيعة البلاد وتقسيم القبائل أكثر من كل خط سواه.
أما اللجنة التركية فقد عرضت خطا - سمته الخط الإداري الفاصل - بدأ من رأس طابا على خليج العقبة، وامتد على رءوس التلال المطلة على العقبة إلى المفرق، ثم سار بطريق غزة المشهورة إلى أن وصل جبل الأحيقبة، فانحرف شمالا بغرب إلى بئر عجرود فضمها إليه، ثم عاد إلى طريق غزة حتى وصل قرب عين القصيمة، فانحرف غربا نحو 5 كيلومترات عنها فضمها إليه، ومر فوق جبل المويلح إلى الروافعة في وادي العريش، وتمشى في الوادي إلى المقضبة، ثم سار شمالا بشرق إلى الحد بين السواركة والترابين فتمشى عليه إلى رفح، فمر بعمودي الحدود إلى أن وصل البحر المتوسط عند تل خرائب عند ميناء رفح على البحر المتوسط، وقد أدخلت اللجنة التركية في هذا الخط كثيرا من بلاد اللحيوات والتياها والعزازمة والترابين التابعين لسيناء، وحجتها أن قائمقامية بئر السبع بعد تأسيسها سنة 1899 وقائمقامية غزة من قبلها ضربتا عليها الضرائب، وأن اتفاق 14 مايو يقضي علينا بترك القديم على قدمه.
شكل 5-15: بعض مشايخ اللحيوات والتياها والترابين، وبين الوقوف من أتباع اللجنة المصرية «الذكي أحمد أفندي السيد، والمراسلة النشيط الأمين إبراهيم جابر وقطامش آغا عيد.»
ففندت اللجنة المصرية هذه الحجة تفنيدا، وبينت بالأدلة الناصعة والمحررات الرسمية وشهادة مشايخ الحدود أنفسهم الذين رافقونا من العقبة إلى رفح أن البلاد التي أخرجتها اللجنة التركية من خطنا الذي يقرب من المستقيم وأدخلتها في خطها المتعرج نحو الغرب؛ كانت منذ القديم تابعة لسيناء ولم يدفع أهلها قط ضرائب لتركيا، إلا القديرات التياها والصبحيون العزازمة الداخلين في خطنا أيضا، فقد تبين أن قائمقامية بئر السبع بعد تأسيسها سنة 1899 ضربت عليهم بعض الضرائب ظلما واعتداء، ولكن قائمقامية غزة من قبلها لم تضرب عليهم ضرائب.
وقد استغرقت هذه المناقشات عدة جلسات بين 8 و22 يوليو سنة 1906، فأصرت اللجنة التركية على رأيها ولم تشأ تعديل خطها، فرفع كل فريق حججه وآراءه مفصلة إلى حكومته، ولا نتعب القارئ بسردها هنا، ومكثنا في رفح ننتظر الرد، وقد طال انتظارنا حتى سئمنا عيشة الخلاء والبداوة. (7) اتفاق الحدود
فلما كان يوم 13 سبتمبر سنة 1906 جاء لكل فريق تلغراف من حكومته، يخبره بما تم عليه القرار بين سفير الدولة البريطانية ومجلس الوكلاء في الآستانة، ومفاد الإرادة السلطانية بهذا الشأن وهو: (1)
أن الحكومة العثمانية أقرت على أن النقب من رأس طابا الشرقي إلى نقطة قرب المفرق يكون للعقبة، وأما المفرق نفسه وآبار مايين وعيد قديس وعين القديرات وعين القصيمة تكون لجزيرة سيناء، ويكون خط الحدود من المفرق إلى رفح خطا يقرب من المستقيم كما اقترحته اللجنة المصرية. (2)
أن تقام أعمدة على طول خط الحدود للدلالة عليه، وذلك بحضور مندوبي الفريقين. (3)
أن القبائل القاطنة عن جانبي الخط يكون لها حق الانتفاع بالمياه كجاري العادة، وكذلك العساكر الشاهانية وأفراد الأهالي والجندرمة ينتفعون من المياه التي بقيت غربي الخط الفاصل. (4)
أن يبقى الأهالي والعربان على ما كانوا عليه قبلا من حيث ملكية الأراضي والمياه كما هو متعارف بينهم.
فعقد أعضاء اللجنتين عدة جلسات، وعينوا خط الحدود بموجب هذه القواعد الأربعة على الخريطة، فكان خطا يقرب جدا من المستقيم، ولكنه واقع كله غربي الخط المستقيم إلا نقطة واحدة فيه أي موضع عمودي رفح، فإنها وحدها على الخط المستقيم، فرفع كل فريق هذا الخط وصورة الاتفاق إلى حكومته.
شكل 5-16: أعضاء لجنتي الحدود على تل رفح.
ولما كان صباح 1 أكتوبر سنة 1906 جاء لكل فريق التصريح من حكومته بتوقيع الاتفاق والخريطة، فاجتمع الفريقان في خيمة «مس» المندوبين المصريين بعد ظهر ذلك اليوم، ورسموا الخط المتفق عليه منقطا بالحبر الأسود الهندي على نسختين من خريطة الحدود، ثم بحثوا مليا في اللغة التي يكتب بها الاتفاق فاتفقوا أخيرا على أن يكتب بالتركية؛ لأنها اللغة الرسمية بين تركيا ومصر، وأن يعمل منه نسختان ويوقع الفريقان نسختي الاتفاق والخريطة، وأن يترجم الاتفاق إلى الإنكليزية والعربية فيأخذ كل فريق نسخة من كل ترجمة ليضمها إلى الأصل الموقع.
ولما كانت الساعة 8 من مساء اليوم المذكور وقع مندوبو الفريقين نسختين من الاتفاق المكتوب بالتركية ونسختين من الخريطة المرسوم عليها خط الحدود المتفق عليه، وأخذ كل فريق نسخة من الاتفاق ونسخة من الخريطة الموقع عليهما، وضم إليهما نسخة من الترجمة الإنكليزية وأخرى من الترجمة العربية، وهذه هي صورة الاتفاق كما ترجم إلى العربية بالحرف الواحد:
هذه هي الاتفاقية التي وقع عليها وتبودلت في رفح، 13 شعبان المعظم سنة 1324، الموافق 18 أيلول سنة 1322 - أول أكتوبر سنة 1906، بين مندوبي الدولة العلية ومندوبي الخديوية الجليلة المصرية بشأن تعيين «خط فاصل إداري» بين ولاية الحجاز ومتصرفية القدس وبين شبه جزيرة طور سيناء.
بما أنه قد عهد إلى كل من الأميرالاي أركان حرب أحمد مظفر بك والبكباشي أركان حرب محمد فهمي بك بصفتهما مندوبي الدولة العلية، وإلى كل من أمير اللواء إبراهيم فتحي باشا والأميرالاي روجر كرميكل روبرت أوين بك بصفتهما مندوبي الخديوية الجليلة المصرية بتعيين خط فاصل إداري بين ولاية الحجاز ومتصرفية القدس وبين شبه جزيرة طور سيناء؛ قد اتفق الفريقان باسم الدولة العلية والخديوية الجليلة المصرية على ما يأتي:
المادة الأولى:
يبدأ الخط الفاصل الإداري كما هو مبين بالخريطة المرفوقة بهذه الاتفاقية من نقطة رأس طابا الكائنة على الساحل الغربي لخليج العقبة، ويمتد إلى قمة جبل فورت مارا على رءوس جبال طابا الشرقية المطلة على وادي طابا، ثم من قمة جبل فورت يتجه الخط الفاصل بالاستقامات الآتية:
من جبل فورت إلى نقطة لا تتجاوز مائتي متر إلى الشرق من قمة جبل فتحي باشا، ومنها إلى النقطة الحادثة من تلاقي امتداد هذا الخط بالعمود المقام من نقطة على مائتي متر من قمة جبل فتحي باشا على الخط الذي يربط مركز تلك القمة بنقطة المفرق (المفرق هو ملتقى طريق غزة إلى العقبة بطريق نخل إلى العقبة)، ومن نقطة التلاقي المذكورة إلى التلة التي إلى الشرق من مكان ماء يعرف بثميلة الردادي والمطلة على تلك الثميلة (بحيث تبقى الثميلة غربي الخط)، ومن هناك إلى قمة رأس الردادي المدلول عليها بالخريطة المذكورة أعلاه ب
A
3 ، ومن هناك إلى رأس جبل الصفرا المدلول عليه ب
A
4 ، ومن هناك إلى القمة الشرقية لجبل أم قف المدلول عليها ب
A
5 ، ومن هناك إلى نقطة مدلول عليها ب
A
7
إلى الشمال من ثميلة سويلمة، ومنها إلى نقطة مدلول عليها ب
A
8
إلى غرب الشمال الغربي من جبل سماوي، ومن هناك إلى قمة التلة التي إلى غرب الشمال الغربي من بئر المغارة (وهو بئر في الفرع الشمالي من وادي مايين، بحيث يكون البئر شرقي الخط الفاصل)، ومن هناك إلى
A
9 ، ومنها إلى
A
9
bis
غربي جبل المقراة، ومن هناك إلى رأس العين المدلول عليه ب
A
10
bis ، ومن هناك إلى نقطة على جبل أم حواويط المدلول عليها ب
A
11 ، ومن هناك إلى منتصف المسافة بين عمودين قائمين تحت شجرة على مسافة (390) ثلاثمائة وتسعين مترا إلى الجنوب الغربي من بئر رفح والمدلول عليه ب
A
13 ، ومن هناك إلى نقطة على التلال الرملية في اتجاه (280°) مائتين وثمانين درجة من الشمال المغناطيسي (أعني 80° إلى الغرب)، وعلى مسافة أربعمائة وعشرين مترا في خط مستقيم من العمودين المذكورين، ومن هذه النقطة يمتد الخط مستقيما باتجاه (334°) ثلاثمائة وأربع وثلاثين درجة من الشمال المغناطيسي (أعني 26° إلى الغرب) إلى شاطئ البحر الأبيض المتوسط مارا بتلة خرائب على ساحل البحر.
المادة الثانية:
قد دل على الخط الفاصل المذكور بالمادة الأولى بخط أسود متقطع في نسختي الخريطة المرفوقة بهذه الاتفاقية، والتي يوقع عليها الفريقان ويتبادلانها بنفس الوقت الذي يوقعان فيه على الاتفاقية ويتبادلانها.
المادة الثالثة:
تقام أعمدة على طول الخط الفاصل من النقطة التي على ساحل البحر الأبيض المتوسط إلى النقطة التي على ساحل خليج العقبة، بحيث إن كل عمود منها يمكن رؤيته من العمود الذي يليه، وذلك بحضور مندوبي الفريقين.
المادة الرابعة:
يحافظ على أعمدة الخط الفاصل هذه كل من الدولة العلية والخديوية الجليلة المصرية.
المادة الخامسة:
إذا اقتضى في المستقبل تجديد هذه الأعمدة أو الزيادة عليها، فكل من الطرفين يرسل مندوبا لهذه الغاية وتطبق مواقع العمد التي تزاد على الخط المدلول عليه في الخريطة.
المادة السادسة:
جميع القبائل القاطنة في كلا الجانبين لها حق الانتفاع بالمياه حسب سابق عاداتها، أي إن القديم يبقى على قدمه فيما يتعلق بذلك، وتعطى التأمينات اللازمة بهذا الشأن إلى العربان والعشائر، وكذلك العساكر الشاهانية وأفراد الأهالي والجندرمة ينتفعون من المياه التي بقيت غربي الخط الفاصل.
المادة السابعة:
لا يؤذن للعساكر الشاهانية والجندرمة بالمرور إلى غربي الخط الفاصل وهم مسلحون.
المادة الثامنة:
تبقى أهالي وعربان الجهتين على ما كانت عليه قبلا من حيث ملكية المياه والحقول والأراضي في الجهتين كما هو متعارف بينهم.
مندوبون من قبل الخديوية الجليلة المصرية
أمير اللواء «إبراهيم فتحي»
أميرالاي «أوين»
مندوبون من قبل الدولة العلية
أميرالاي أركان حرب «مظفر»
بكباشي أركان حرب «فهمي» ا.ه.
وقد نظم فرج سليمان شاعر الرميلات برفح قصيدة في الحد قال:
فأول دهرنا ما لنا حد مظبوط
وأما رفح في الذكر نسمع بطرياه
التمت الباشات بين المحاديد
واحنا صبرنا بينهم للمداعاه
واليوم صار حدادنا بطن بارود
والكل من حده يرجع لممشاه
نعوم بك والمدير المسمى
وفتحات باشا والعساكر بتبراه
جاهم مظفر وفهمي وأسعد
الكل منهم بيك يا نعم ملقاه
يوم الأحد مشيوا على خيرة الله
وغزوا علايم حدهم بالمواتاه
يا رب تحميهم وتنصر دولهم
ارتاحت العربان بعد المقاساه (8) أعمدة الحدود
وبعد توقيع الاتفاق أصبح من الضروري أن يعود أعضاء اللجنتين على طول الحد لتخطيطه عملا بالمادة الثالثة، فقر رأي اللجنتين أن تقام عمد على طول الخط، وتثبت في الأرض بفلنكات من حديد كعمد التلغراف، وبعد ذلك تبنى في مكان هذه العمد عمد ثابتة بالحجر والأسمنت بحضور مندوبي الفريقين، وعليه فقد أحضروا من مصر بطريق القنطرة عمدا وفلنكات من حديد، وسار الفريقان على طول الخط ونصبوا العمد بحيث كان كل عمود يرى من مكان العمود الذي يليه كنص المادة المذكورة، فكان جملة ما نصبوه 91 عمودا، وقد نصبوا أول عمود في ميناء رفح على تل الخرائب المار ذكره بعد ظهر الخميس في 4 أكتوبر، وآخر عمود على رأس طابا الأربعاء في 17 منه عند غروب الشمس.
وفي اليوم التالي عاد اللواء فتحي باشا وبعض ملحقات اللجنة المصرية بطريق البحر إلى مصر، أما مدير المخابرات وكاتب هذه السطور فقد رجعنا بدرب الحج المصري فوصلنا السويس في 24 أكتوبر سنة 1906.
شكل 5-17: لجنة بناء العمد المصرية.
وكان قد رافقنا من رفح: اليوزباشي إسماعيل أفندي المفتي من أنجب ضباط مصلحة الأشغال بالجيش المصري ، والمستر ويد أحد مهندسي اللجنة المصرية ليساعدا في نصب الأعمدة، وفي 4 ديسمبر سنة 1906 عاد اليوزباشي إسماعيل أفندي المفتي إلى طابا مندوبا من قبل اللجنة المصرية لبناء الأعمدة بالحجارة حسب اتفاق اللجنتين، ومعه الملازم الأول النشيط غالي أفندي زكي، والملازم الثاني علي أفندي حلمي من ضباط الجيش المصري، و37 عسكريا من الأورطة الرابعة المشاة، و5 عساكر بنائين من قسم الأشغال، وعسكري تمرجي من القسم الطبي، ساروا بطريق البحر فوصلوا طابا في 7 ديسمبر، وكان القائمقام باركر بك قد سمي مديرا على جزيرة سيناء فوافاهم إلى طابا برا في اليوم المذكور، ومكثوا في انتظار المندوبين العثمانيين.
وفي 30 من الشهر المذكور حضر مظفر باشا وفهمي بك مندوبا لجنة الحدود التركية، ومعهما اليوزباشي غالب أفندي ليرافقوا مندوبي لجنة الحدود المصرية لبناء العمد، فنظر الجميع في شكل العمد الثابتة التي يجب إقامتها، فاتفقوا بعد جدال طويل على أن يكون شكلها هرما مقطوعا تكون قاعدته مترا مربعا وارتفاعه عن سطح الأرض من مترين إلى مترين ونصف متر ومسطح رأسه 30 × 30س، وأن تنزع الفلنكة الحديدية وعرق الخشب فيستغنى عن العرق وتغرز الفلنكة في رأس العمود.
وبعد الاتفاق على شكل العمد عاد باركر بك إلى نخل، وشرع إسماعيل أفندي ورجاله في بناء العمد، يصحبهم المندوبون الأتراك الثلاثة على طول الخط؛ حتى أتوا إلى آخرها، وقد اعترضهم في الطريق صعوبتان: الماء والحجارة في الصحاري المرملة؛ أما الماء فإنهم بعد خروجهم من طابا أتوا به من بئر ملحان وبئر غضيان في وادي العربة حتى وصلوا آبار مايين فوجدوها جافة فاستقوا من بئر المغارة، وأتوا بالحجارة إلى صحراء الهاشة من جبل أم قف قرب جبال الصفرا، وإلى صحراء العجرة من خرائب العوجة وجبل خشم القرن وخربة الرطيل وشاطئ البحر.
وكان أول عمود بنوه على رأس طابا السبت في 31 ديسمبر سنة 1906 أعطوه نمرة 91، وآخر عمود على تل الخرائب في ميناء رفح في 9 فبراير سنة 1907 أعطوه نمرة 1، وهذه السرعة التي أتم فيها إسماعيل أفندي ورجاله بناء العمد على طول الخط دلت على نشاط عظيم وأوجبت لهم كل مدح وثناء.
وقد بلغت أجور الجمال التي كانت تنقل المياه ومواد البناء لهذه العمد 717 جنيها و40 مليما، وكان جملة ما أنفقته مصر على تحديد التخوم نحو عشرين ألف جنيه أو أكثر.
وبعد أن تم بناء العمد شرعت حكومة سيناء في إقامة نقط البوليس على الحدود، فجعلت نقطا في بئر الثمد، ومشاش الكنتلا، والقصيمة، ورفح، ومدت إليها الأسلاك التليفونية، وما زالت مثابرة على الإصلاح على ما بينا في باب الجغرافية حتى قامت الحرب الأوربية الكبرى في أغسطس سنة 1914، وزج الاتحاديون الدولة في هذه الحرب في جانب ألمانيا، وجردوا حملة على مصر قصد فتحها، فرأت السلطة العسكرية في مصر إخلاء سيناء لتجعل الصحراء بينها وبين الجيش المهاجم، فسحبت عساكرها من نقط الحدود ثم أخلت العريش في 24 أكتوبر ونخل في 30 أكتوبر سنة 1914، فدخل الأتراك سيناء واحتلوا بلاد العريش والتيه، وأما بلاد الطور فما زالت بيد مصر ولها حامية في محجر الطور، وسيجيء تفصيل ذلك في الفصل التالي، وهو الخاتمة.
الخاتمة
في خلاصة تاريخ مصر والشام والعراق وجزيرة العرب وما كان بينها من العلائق التجارية والحربية وغيرها «عن طريق سيناء» منذ أول عهد التاريخ إلى اليوم.
تمهيد
مصر والشام والعراق وجزيرة العرب جارات، بل أخوات كريمات، تربط بينها برا سيناء وبحرا البحر المتوسط والبحر الأحمر، وقد طالما ضمها في التاريخ سلطان واحد، ومر على مصر أزمان طوال قبل تقدم الملاحة لم يكن بينها وبين جاراتها اتصال إلا بطريق سيناء، فسيناء هي طريق الفاتحين الرعاة والآشوريين والفرس والعرب والترك إلى مصر، وهي طريق الفاتحين الفراعنة إلى الشام والعراق وجزيرة العرب، ولا تزال الطريق البرية للمهاجرين والحجاج والتجار والغزاة بين مصر والشام والعراق والحجاز إلى اليوم.
لذلك ولما كانت الحرب الحاضرة قد جددت الحملة على مصر بطريق سيناء، وكان المراد الإلمام بتاريخ سيناء من جميع وجوهه؛ كان لا بد لنا من ذكر هذه الحملة وما كان بين مصر وجاراتها من الوقائع الحربية والصلات التجارية وغيرها عن طريق سيناء منذ انبلج فجر التاريخ إلى اليوم.
ثم إن الباحث في تاريخ مصر والشام والعراق كلما تعمق في البحث وجد أن معظم سكان هذه البلاد كانوا في كل عصور التاريخ - كما هم في هذا العصر - عربا أو من أصل عربي، وكانت لغتهم العربية أو أختا لها، وعليه فأول الصلات التي تربط هذه البلاد بعضها ببعض وأهمها هي الصلة الجنسية العربية.
لذلك يجدر بنا قبل ذكر الصلات الحربية والتجارية أن نأتي على زبدة تاريخ هذه البلاد وشعوبها وممالكها إيضاحا لهذه الحقيقة وإتماما للفائدة فنقول ...
خلاصة تاريخ العرب
مهد العرب ومسرحهم:
أوجد الله سبحانه وتعالى في الشرق أربع أشباه جزائر، الواحدة بجانب الأخرى، وهي: شبه جزيرة العراق، وشبه جزيرة العرب، وشبه جزيرة سيناء، وشبه جزيرة أفريقيا، وأوجد في هذه الجزائر صنفين ممتازين من البشر: السود في جزيرة أفريقيا وكلهم حضر، والبيض من الجنس السامي في سائر الجزائر وهم حضر وبادية.
وقد اختلفت آراء المحققين في مهد الجنس السامي وأوجهها رأيان:
رأي مفسري التوراة: وهو أن مهد الجنس السامي جزيرة العراق، ومنها تفرق في الجهات؛ فسكن البابليون والآشوريون العراق، والآراميون الشام، والفينيقيون سواحل سوريا، والعبرانيون فلسطين، والعرب جزيرة العرب، والإثيوبيون الحبشة.
وذهب آخرون وفي مقدمتهم العلامة روبرتسن سمث الإنكليزي أن مهد الجنس السامي جزيرة العرب، ومنها تفرق في الشرق قبل التاريخ كما تفرق العرب المسلمون في صدر الإسلام، ولهم على ذلك أدلة لغوية اجتماعية، ومن أدلتهم اللغوية أن اللغة العربية هي أقرب أخواتها - الكلدانية والسريانية أو الآرامية، والعبرانية، والحبشية - إلى اللغة السامية الأصلية، وأن في الآرامية والعبرانية آثار الحياة البدوية العربية.
ومهما يكن من أمر ذلك المهد فإننا نرى العرب قد أسسوا في جزيرتهم عدة ممالك اشتهرت في التاريخ قديما وحديثا، وخرجوا من جزيرتهم للفتوحات غربا إلى سيناء ومصر وأفريقيا الشمالية وشرقا إلى العراق وتركستان وشمالا إلى سوريا وآسيا الصغرى؛ فأسسوا فيها عدة ممالك قبل الإسلام وبعده، فكان مهد العرب ومسرحهم منذ القديم من المحيط الهندي إلى المحيط الأتلانتيكي شرقا وغربا، ومن أعالي الفرات ودجلة والبحر المتوسط إلى أقاصي السودان شمالا وجنوبا.
ذلك لأن جزيرة العرب واسعة الأطراف، كثيرة البوادي والقفار، قليلة النبت والمياه، وليس فيها على اتساعها نهر واحد حي يجمع الجم الغفير من الناس في صعيد واحد، فعاش معظم أهلها عيشة البادية يتنقلون من مكان إلى مكان في انتجاع مواقع الكلأ والماء، وقد انقسموا فيها قبائل شتى دأبهم شن الغارة بعضهم على بعض، فكانوا بحكم الضرورة والطبع أهل حرب وفتوح.
وكان في جوارهم عن اليمين والشمال على الفرات ودجلة وبردى والعاصي والأردن والنيل بلاد من أخصب بلاد الدنيا وأغناها، فكانوا ينتابونها للاتجار والارتزاق فيدهشهم خصبها وغناها ويطمحون بأبصارهم إليها، حتى إذا ما أنسوا من إحداها الضعف ورأوا أهلها قد انشقوا بعضهم على بعض وانغمسوا في الملاهي والملذات، واتفق أن كان لهم في باديتهم زعيم ذو عصبية قوية التفوا حوله، وأغاروا على تلك البلاد وامتلكوها وتحضروا فيها، وبقوا حتى تذهب الحضارة منهم روح الغزو والفتوح، وينغمسون في الترف والملذات، ويتفق قيام زعيم قوي في البادية فيغير عليهم ويتملكهم وإلا تملكهم أجنبي، وهكذا على ممر العصور.
هذا وقد وجد العرب في بوادي أفريقيا الشمالية المتاخمة لهم مسرحا واسعا يشبه بلادهم كل الشبه في الهواء والماء والتربة، ولم يكن البحر الأحمر وهو الحاجز الضيق بين البلادين ليمنعهم عن الوصول إلى تلك البوادي، خصوصا وأن لهم منفذا طبيعيا من برزخ السويس في الشمال وبوغاز المندب في الجنوب، فكانوا كلما اضطروا إلى مهاجرة بلادهم بسبب ضيق الرزق أو الحروب الأهلية عبروا البحر الأحمر إلى أفريقيا الشمالية وسكنوا بواديها، ولم يجدوا من السود سكان البلاد الحضر خصما يردهم عن سكنى البوادي، بل لما كانوا أرقى عقلا وأسمى إدراكا وأقوى عدة من السود، كانوا كلما كثروا في جهة من جهات السود وكان لهم زعيم ذو دهاء وتدبير ونزعة إلى الملك؛ أغاروا على تلك الجهة وملكوها مع ملوكها السود أو وحدهم كما بينا تفصيلا في كتابنا تاريخ السودان.
أنداد العرب:
هذا وقد قام للعرب منذ القديم ندان في الشرق، وهما الفرس والترك، وندان في الغرب وهما اليونان والرومان، فقلما نكبوا في بلادهم أو في فتوحاتهم إلا كان السبب في نكبتهم أحد هؤلاء الأنداد كما سيجيء. (1) ممالك العرب قبل الإسلام
جعل النسابون العرب ثلاث طبقات: (1)
العرب العاربة أو البائدة، وهم أقوام شتى أشهرهم العمالقة. (2)
والعرب المتعربة وهم القحطانيون. (3)
والعرب المستعربة وهم العدنانيون. (1-1) العرب العاربة
أما العرب العاربة فهم سكان البلاد الأولون، وقد أسسوا في البلاد عدة دول أشهرها:
عاد:
سكنوا أحقاف الرمال بين اليمن وعمان إلى حضرموت والشحر. قالوا: «وهم نسل عاد بن عوص بن آرام بن سام»، ولعلهم أقدم دول الجزيرة؛ لأن العرب يطلقون لفظ عادي على كل شيء قديم لم يعلم تاريخه.
وثمود:
قالوا: و«هم بنو ثمود بن جائر (أخو عوص) بن آرام»، وكانت ديارهم بالحجر ووادي القرى في ما بين الحجاز والشام، وكانوا ينحتون بيوتهم في الجبال.
وطسم وجديس:
قيل «وهما أيضا من ولد جاثر»، وقد سكنتا اليمامة بين نجد واليمن.
والنبط:
في البتراء شرقي وادي العربة، وقد تقدم الكلام عليهم تفصيلا.
وتدمر:
في بادية الشام، وسيأتي الكلام عليها.
والعمالقة:
قيل «إنهم من ولد عماليق بن لود (لاوذ أخو آرام) بن سام.» قال أبو الفداء: «لما تبلبلت الألسن نزلت العمالقة بصنعاء من اليمن، ثم تحولوا إلى الحرم وأهلكوا من قاتلهم من الأمم، وكان من العمالقة جماعة بالشام.»
وذكر ابن خلدون أن أهل البحرين وعمان طوائف منهم، وكذلك أهل الحجاز ونجد.
والظاهر أن اسم العمالقة أطلق على عدة طوائف من العرب البائدة، وخصوصا أهل الشمال مما يلي الجزيرة، وقد ذكروا في أخبار بني إسرائيل حين مرورهم ببرية سيناء كما مر، وذكروا بعد ذلك مرارا في تاريخ بني إسرائيل، وقد أطلق البعض اسم العمالقة على جميع العرب البائدة.
العرب البائدة والعراق:
وأقدم ما وصلنا من أمر العمالقة أو العرب البائدة أنهم كانوا يسكنون البادية بين العراق والعقبة، وقد انقسموا فيها قبائل شتى، وكان ذوو العصبية منهم ينقلون التجارة بين بابل ومصر.
قيل وما زالوا على هذه البداوة حتى قويت عصبيتهم وتغلبوا على بابل (وكان فيها السومريون والأكاديون من الجنس المغولي)، وقامت فيها دولة منهم في القرن الخامس والعشرين قبل المسيح، كان أول ملوكها «ساموابي» أي «ابن سام».
وما زالوا حتى ظهر منهم في القرن الثالث والعشرين ملك اسمه «حمورابي» فأسس مملكة قوية عرفت بدولة «حمورابي» بلغت أسمى ما وصلت إليه دولة في العهد القديم من الرقي الأدبي والمادي، وقد اشتهرت على الخصوص بسن الشرائع والقوانين وبناء الهياكل والقصور، واستمرت حاكمة إلى أواخر القرن ال 21 قبل المسيح.
العرب البائدة ومصر:
وذكر مؤرخو العرب أن العمالقة هم الرعاة الهكسوس الذين ملكوا مصر في مدة الدول الخامسة عشرة إلى السابعة عشرة، ويظن الآن أن سكان مصر وإثيوبيا الأولين الذين سكنوا النيل قبل التاريخ هم عرب هاجروا إليه من جزيرة العرب عن طريق سيناء أو بوغاز باب المندب كما سيجيء.
العرب البائدة وسوريا:
هذا وسنرى في تاريخ سوريا أن معظم سكانها الأولين هاجروا إليها من جزيرة العرب، وأسسوا فيها دولا شتى.
بقايا العرب البائدة:
ولقد باد سكان جزيرة العرب الأولون، ولم يبق منهم إلا بقايا ضعيفة اختلطت بالعرب المتعربة؛ لذلك سموا بالعرب البائدة، ولعل البدو المعروفين الآن بهتيم الذين يعيشون مع العرب بالخاوة وقد مر ذكرهم هم بقية العرب البائدة، فإنهم أعرف بطرق البوادي ومياهها ومراعيها من القحطانيين والعدنانيين أسياد البلاد الآن. (1-2) العرب المتعربة أو القحطانيون
أما القحطانيون فقيل «هم أبناء قحطان أو يقطان بن عابر بن شالح بن أرفكشاد بن سام بن نوح.» (تك 10: 21)، ومنهم بنو جرهم، وقال ابن خلدون: «إن يعرب بن قحطان لما غلب عادا على اليمن وملكه من أيديهم؛ ولى إخوته على الأقاليم، وولى جرهم على الحجاز»، ويقول العرب: إن قحطان أبو اليمن كلهم، وإنهم كانوا يتكلمون غير العربية، فلما نزلوا اليمن كان فيها العرب العاربة فتعلموا العربية منهم ولذلك سموا العرب المتعربة، وقد اشتهر للقحطانيين في اليمن ثلاث دول: وهي: الدولة المعينية، والدولة السبائية، والدولة الحميرية. (أ) الدولة المعينية
أما الدولة المعينية، فكانت دولة قوية عاصمتها «معين» في وادي الشارد شرقي اليمن وشمال حضرموت، ومن الغريب أن مؤرخي العرب لم تذكر لنا شيئا عن هذه الدولة، ولكن علماء الآثار الإفرنج اكتشفوا آثارها منذ عهد قريب، وقرءوا كتاباتها فظهر أنه ملك في «معين» 26 ملكا مدوا نفوذهم إلى بلاد العرب كلها.
وكان لهم قلم يكتبون به يعرف الآن بالقلم المسند أو القلم الحميري. قالوا: لم تكن هذه الدولة دولة حرب وفتوح بل دولة تجارة وزراعة كدولة الفينيقيين، وكانوا ينقلون التجارة من الهند والحبشة وبلاد العرب إلى مصر والشام والعراق، وكانوا يقيمون السدود في الأودية ويفتحون الترع لتنظيم الري، وقد اختلف المحققون في بدء تاريخهم، فقال بعضهم: إنه يبدأ من القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وقال آخرون: من القرن السابع أو الثامن، ووقف الباحثون على نقوش معينية في العلاء قرب وادي القرى وفي حوران وغيرهما، وقد عد بعضهم هذه الدولة من العرب البائدة. قالوا: انضم المعينيون إلى من بقي من دولة عاد الأولى وكونوا دولة عاد الثانية حتى تغلب عليها القحطانيون وأنشئوا الدولة السبائية.
شكل 1: صاحب العظمة السلطان حسين كامل سلطان مصر.
شكل 2: فخامة السر هنري مكماهون نائب جلالة ملك بريطانيا العظمى بمصر.
شكل 3: خريطة مصر والشام والعراق وجزيرة العرب. (ب) الدولة السبائية
أما الدولة السبائية فقد كانت كالمعينية دولة تجارة وزراعة، وكانت في القرون الأخيرة قبل الميلاد أعظم واسطة للاتصال بين الأمم الشرقية.
والظاهر أن السبائيين قضوا زمانا في جوار المعينين وهم من قبيل «الأذواء»، أي كان لكل قبيلة منهم رئيس له كفر أو مدينة أو قصر ينسب إليه بقولهم: ذو ريدان وذو صرواح أي صاحب ريدان وصاحب صرواح، وكان إذا قوي رئيس من هؤلاء الأذواء تغلب على البلاد التي في جواره وسمي مجموع الأذواء التي يملكها محفدا وصاحبها قيلا، وإذا اجتمعت له عدة محافد سمي مجموعها مخلافا وصاحبها ملكا.
قالوا: وما زالوا على ذلك حتى نبغ سبأ صاحب قصر صرواح شرقي صنعاء، وكان قويا طامعا فاستولى على جيرانه المعينيين وأصبحت صرواح قصبة مملكتهم، ثم صاروا إلى مأرب في وادي داما وكانت لهم فيها شهرة عظيمة.
وقد بلغ عدد ملوك سبأ بضعة وثلاثين ملكا، ولا يعلم بالتأكيد مبدأ ملكهم، ولكنا نجد في التوراة أن ملكة سبأ جاءت إلى سليمان زائرة في القرن التاسع قبل الميلاد، فإذا صح أن سبأ هذه ملكة مأرب كان بدء دولة سبأ قبل عهد سليمان، وقد انتهت سنة 115ق.م وبها تبتدئ دولة حمير.
سد مأرب:
ومن أهم آثار السبائيين سد مأرب، قالوا: إن مياه الأمطار التي تهطل على جبال اليمن تسيل في أودية شتى إلى الشرق والغرب، فالسيول التي تنزل إلى الشرق تتجمع في واد عظيم يسمونه الميزاب شرقي مدينة مأرب، يرتفع نحو 1100 متر عن سطح البحر، وهذا الوادي يضيق عند مدينة مأرب وينحصر بين جبلين بينهما نحو 400 متر، وهناك يسمى وادي أذينة ثم ينفرج هذا الوادي انفراجا عظيما وتضيع فيه السيول بلا فائدة، فأقام السبائيون على مسافة قليلة من مضيق الوادي سدا من الحجر طوله 800 ذراع وعرضه 150 ذراعا، وجعل له عن جانبيه فتحتان ببابين يوزع بهما الماء على قدر الحاجة عند الاقتضاء.
قالوا: وأول من بنى هذا السد يثعمر ملك سبأ في القرن السادس قبل المسيح، وزاد فيه خلفاؤه ما زاد في فائدته، فحولوا ذلك القفر البلقع حول السد إلى رياض وجنان، فيها من كل فاكهة زوجان، حتى كانوا يعبرون عن البلاد التي إلى يمناه بالجنة اليمنى والتي إلى يسراه بالجنة اليسرى، وكان الرومان يسمون هذه البلاد بالعربية السعيدة والعرب يسمونها باليمن الخضراء.
وما زال هذا السد حتى تهدم فحصل منه خراب عظيم، وتشتت أهل سبأ في جزيرة العرب فنزلت خزاعة مكة، ونزلت الأوس والخزرج يثرب، ونزل الأزد عمان واليمامة، ونزل اللخميون إلى بادية العراق فكان منهم دولة المناذرة في الحيرة، ونزح الغساسنة إلى بادية الشام فكان منهم دولة الغساسنة الشهيرة، وعرب الصفا إلى جبل الصفا من جبل حوران، وكان لهم قلم خاص يتفرع من القلم المسندي السبائي، وقد ورد ذكر سبأ وخرابها في القرآن الكريم قال:
لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور * فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل * ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور * وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين * فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق .
وفي المثل: «تفرقوا أيدي سبأ.» (ج) الدولة الحميرية
أما الدولة الحميرية فقد خلفت الدولة السبائية، فإنه لما انهدم بنيان دولة سبأ وتلاشت مدينة مأرب عاصمة ملكهم صارت السلطة ببلاد اليمن من قبيل الأذواء، وما زالت حتى قام «علهان لهفان» ذو ريدان في نهاية القرن الأول للمسيح، وتغلب على عدة محافد ومخاليف من مملكة سبأ فسمي «ملك ريدان وسبأ».
التبابعة:
ثم ما زالت هذه المملكة تكبر وتمتد في زمن خلفاء علهان حتى دخل فيها حضرموت وما والاها من البلاد شرقا مدة حكم «شمر يرعش» في أواخر القرن الثالث للميلاد، فسمي ملك «ريدان وسبأ وحضرموت»، وعرفت دولة حمير بعده بدولة «التبابعة»، واحدها تبع أي ملك الملوك.
قالوا: وقد كانت حكومة التبابعة في غاية الرقي، وكانت حضارتهم لا تقل عن حضارة الآشوريين وغيرهم من الممالك التي كانت في شمال الجزيرة، وذلك لاتصالهم بالتجارة مع الهند والفرس والسوريين والمصريين، وقد رمموا سد مأرب بعد هدمه وأعادوا الخصب والنماء إلى بلاد اليمن، وكانوا يتعهدون السد بالعمارة ويرممون ما تهدم منه حتى خرب قبيل الإسلام، فأهمل ولا تزال آثاره ظاهرة إلى اليوم.
وكانوا يستخرجون من جبالهم الذهب والفضة والحجارة الكريمة كالياقوت والزمرد والعقيق؛ ولذلك كان الحميريون والسبائيون من قبلهم من أغنى أهل الأرض وأكثرهم حضارة ورفاهية، وكانت لهم القصور الفاخرة والرياض الزاهرة والرياش الباهرة، قال الهمذاني في وصف قصر كوكبان: «كان مؤزر الخارج بالفضة وما فوقها حجارة بيض، وداخله ممرد بالعرعر والفسيفساء والجزع وصنوف الجوهر.»
وقيل في وصف قصر بينون:
واسأل بينون وحيطانها
قد نطقت بالدر والجوهر
وقيل في وصف مأرب:
ومأرب قد نطقت بالرخام
وفي سقفها الذهب الأحمر
كندة:
وقد اشتهر للعرب في عهد التبابعة دولة «كندة» في ظاهر حضرموت، كان لها شأن مع الحميرين، وآخر ملوكها امرؤ القيس الشاعر المشهور. كان معاصرا للحارث بن جبلة الغساني، وقد توفي سنة 560م.
اليهود والنصارى في بلاد العرب:
هذا وبعد خراب أورشليم أو قبله قصد كثير من اليهود جزيرة العرب، وتشيع لهم عدة قبائل مثل حمير وكنانة وبني الحارث بن كعب وكندة حتى قويت سطوتهم، وفي أوائل القرن السادس للمسيح كان على اليمن ذو نواس فدان باليهودية، وكان شديد الغيرة عليها حتى إنه اضطهد كل من لم يتهود.
وكانت النصرانية أيضا في هذا العهد قد انتشرت في الجزيرة، ودان بها قبائل حمير وغسان وربيعة وتغلب وتنوخ وطي وقضاعة والحيران ونجران.
حكم الحبشة على اليمن:
قيل فطلب ذو نواس من نصارى نجران اعتناق اليهودية، ولما لم يسمعوا له نقم عليهم وبالغ في نقمته حتى إنه خد أخدودا وأضرم فيه النار، وجعل يرمي فيه كل من لم يرجع عن النصرانية، فاستند أهل نجران بنجاشي الحبشة وكان نصرانيا، فأرسل إلى اليمن جيشا عليه «إرباط» وكان من ضباطه أبرهة الأشرم، فقابلهم ذو نواس عند البحر الأحمر وقاتلهم قتالا شديدا دارت الدائرة فيه عليه وخاف من سقوطه في يد عدوه ونقمته فأغرق نفسه، واستولى الأحباش على معظم بلاد اليمن، وكان ذلك سنة 525ب.م، ومات إرباط بعد أن حكم اليمن نحو عشرين سنة، فتولاها أبرهة وجعل عاصمته صنعاء، وبنى فيها قصرا جميلا وغزا مكة قصد هدم الكعبة، وحمل الناس على الحج إلى قصره بدل الكعبة، فعاد مقهورا ومات بعد حكم نحو 23 سنة، وكانت غزوته مكة سنة 571م وتعرف بعام الفيل لأنه جاءها غازيا على فيل.
وتولى الملك بعد ابنه يكسوم فحكم 20 سنة، ثم أخوه مسروق فحكم 12 سنة.
حكم الفرس على اليمن:
وكان لما مات ذو نواس قام أمير من أهله اسمه ذو يزن، واستولى على بعض البلاد فملك فيها نحو 8 سنين، ثم تغلب عليه الأحباش فانتحر، وفر ابنه «سيف» إلى قيصر الروم يستنصره، وأقام ببابه سبع سنين فلم ينجده، فسار إلى كسرى أنوشروان ملك الفرس، وهو أشهر ملوك الدولة الساسانية، وكانت عاصمة ملكه «المدائن» قرب بغداد، وبها إيوانه العظيم، فوجه معه رجلا اسمه وهرز في جيش من المساجين، وقال: «إن هم فتحوا كانوا لنا وإن هم هلكوا كانوا لنا»، فركب وهرز وجيشه البحر فالتقاهم جيش الأحباش في ساحل اليمن، فهزموه وامتلكوا البلاد، وجلس سيف بن ذي يزن على كرسيها تحت سيادة الفرس، وأتته وفود العرب تهنئه بالملك، وكان في من أتاه من مكة عبد المطلب جد النبي محمد في نفر من قومه فأكرم وفادته.
وبعد أن حكم مدة قتله حجابه وكانوا من الحبشة، وبه انتهى حكم التبابعة في اليمن، وصارت بعد ذلك تابعة لمملكة الفرس يولون عليها الولاة ، حتى إذا كانت السنة التاسعة للهجرة أسلم أهل اليمن وأرسلوا وفدا منهم إلى النبي محمد بالمدينة، فأرسل إليهم معاذ بن جبل وجعل له الإمارة عليهم، وكان العامل عليهم من قبل كسرى رجل اسمه بازان فدخل في الإسلام وبذلك صار حكم اليمن إلى العرب المسلمين، إلى أن استولى الترك على سواحلها في عهد السلطان سليمان الأول سنة 926ه/1520م، ثم عليها كلها سنة 1255ه/1839م في عهد السلطان عبد المجيد، ولكن سلطتهم عليها كانت على الدوام ضعيفة مهددة بالثورات الداخلية إلى اليوم. (1-3) العرب المستعربة أو العدنانيون
أما العدنانيون فهم أبناء إسماعيل بن إبراهيم الخليل من امرأته هاجر، جاء في سفر التكوين ص21، أن سارة زوجة إبراهيم الأولى غارت من زوجته هاجر، فصرف إبراهيم هاجر مع ابنها «فمضت وتاهت في برية بئر سبع ... ونادى ملاك الله هاجر من السماء وقال لها ... لا تخافي لأن الله سمع صوت الغلام حيث هو، قومي احملي الغلام وشدي يدك بي لأني سأجعله أمة عظيمة ... وكان الله مع الغلام فكبر ... وسكن في برية فاران ...»
وقال مؤرخو العرب: أتى إسماعيل إلى مكة وكان فيها بقية من «جرهم» القحطاني، فتزوج من بناتهم وولد له اثنا عشر ولدا، وما زال نسله يتكاثر حتى أنتج حفيده عدنان، فولد لعدنان معد وولد لمعد نزار، وولد لنزار «أنمار ومضر وقضاعة وربيعة وأياد» وبارك الله في نسلهم، فكان منهم العرب العدنانية، وقد تعربوا كلهم فسموا بالعرب المستعربة، وكانت منازلهم في مبدأ أمرهم مكة وجوارها ثم تفرقوا في الجزيرة كلها طلبا للرزق وسكنوها مع القحطانيين، ومن شعب قحطان وعدنان تتألف العرب الآن.
الحجر الأسود والكعبة
هذا وقد وجد في مكة قبل التاريخ حجر أسود بنى العرب عليه بيتا مربعا سموه «الكعبة» وحجوا إليه، ويغلب على الظن أنه نيزك نزل في وادي مكة من السماء فأجله العرب وبنوا عليه الكعبة، وجعلوا فيه أصنامهم وصاروا يحجون إليه، فكان لهم خير واسطة لجمع الشمل وتوحيد المجموع، ثم لما جاء الإسلام أقر الحج إلى الكعبة لما في ذلك من الفائدة للعرب والمسلمين كافة.
سوق عكاظ
هذا ومما ساعد على توحيد لغة العرب وتآلفهم أنه كان من عاداتهم إقامة الأسواق للتجارة وتناشد الأشعار وإلقاء الخطب والمباهاة بالنسب.
وأشهر هذه الأسواق «سوق عكاظ» بين نخلة والطائف على ثلاث ليال من مكة، كانت تقوم هلال ذي القعدة قبيل الحج إلى الكعبة، ولقد بلغ من كلف العرب بالشعر والمباراة فيه أن عمدوا إلى سبع قصائد من الشعر النفيس، وكتبوها بماء الذهب، وعلقوها بأستار الكعبة؛ لذلك قيل لها: مذهبات أو معلقات، وأشهرها معلقات امرئ القيس بن حجر الكندي المار ذكره، وزهير بن أبي سلمى المزني المتوفى سنة 52ق.ه وعمرو بن كلثوم التغلبي المتوفى سنة 23ق.ه وعنترة العبسي المتوفى سنة 7ق.ه ومنها:
وليل كموج البحر أرخى سدوله
علي بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبه
وأردف أعجازا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
بصبح وما الإصباح منك بأمثل
فيا لك من ليل كأن نجومه
بأمراس كتان إلى صم جندل
امرؤ القيس
ووددت تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغرك المتبسم
يخبرك من شهد الوقيعة أنني
أغشى الوغى وأعف عند المغنم
ولقد خشيت بأن أموت ولم تكن
للحرب دائرة على ابني ضمضم
الشاتمي عرضي ولم أشتمهما
والناذرين إذا لم القهما دمي
عنترة
أبا هند فلا تعجل علينا
وأنظرنا نخبرك اليقينا
بأنا نورد الرايات بيضا
ونصدرهن حمرا قد روينا
ورثنا المجد قد علمت معد
نطاعن دونه حتى يبينا
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وأنا المانعون لمن يلينا
إذا ما البيض فارقت الجفونا
ونشرب إن وردنا الماء صرفا
ويشرب غيرنا كدرا وطينا
ملأنا البر حتى ضاق عنا
وظهر البحر نملؤه سفينا
إذا بلغ الفطام لنا صبي
تخر له الجبابر ساجدينا
ابن كلثوم
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله
رجال بنوه من قريش وجرهم
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب
تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم
ومن يجعل المعروف من دون عرضه
يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
ومن يغترر يحسب عدوا صديقه
ومن لا يكرم نفسه لا يكرم
ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله
على قومه يستغن عنه ويذمم
ومها تكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
زهير
قبيلة قريش
وقد آل أمر الكعبة في القرن الثاني قبل الإسلام إلى قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر العدناني الملقب بقريش.
قال أبو الفداء: «قيل سمي فهر قريشا لشدته تشبيها له بدابة من دواب البحر يقال لها: القرش تأكل دواب البحر وتقهرها، وقيل إن قصي بن كلاب لما استولى على البيت وجمع أشتات بني فهر سموا قريشا؛ لأنه غرش بني فهر أي جمعهم حول الحرم.» ا.ه.
وبطون قريش الذين تولوا حراسة الكعبة عشرة، وهم: هاشم، وأمية، وتيم، وعدي، ومخزوم، ونوف، وأسد، وجمح، وسهم، وعبد الدار.
ولقد كان لقريش في مكة بسبب استيلائهم على الكعبة منزلة إجلال وإكرام لا تقل عن منزلة الملوك، ولكنه لم يقم منهم أو من غيرهم من القبائل العدنانية قبل الإسلام دول تستحق الذكر، بل كان ملوك حمير يعطون بعض ساداتهم لقب ملك ويولونه الزعامة على القبائل، وكانت قريش تتجر إلى الشام واليمن فكانت لهم رحلتان رحلة الشتاء إلى اليمن ورحلة الصيف إلى الشام. (2) ممالك العرب بعد الإسلام (2-1) النبي محمد صاحب الشريعة الإسلامية، سنة 571-632م
وما زال العرب من قحطانيين وعدنانيين على ما بينا حتى ظهر في قريش من فرع هاشم النبي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب في أوائل القرن السابع للمسيح، ونادى بالإسلام فانتشرت دعوته في الجزيرة كلها ثم في الشرق كافة بسرعة لا مثيل لها في تاريخ الأديان؛ نظرا لتوافر الأسباب الملائمة لانتشارها:
كانت بلاد الشام ومصر في ذلك العهد في يد المملكة البيزنتية التي عرفت عند العرب «بمملكة الروم»، وعليها ملك يدعى هرقل. وكان العراق واليمن في يد مملكة الفرس وعليها كسرى أنوشروان المار ذكره، وكانت المملكتان تتطاحنان في الحروب وتئنان من الثورات الداخلية وفراغ خزينتيهما من النقود، وقد افتتح جيش كسرى من بلاد الروم مدينة الرها سنة 611م، واستولى على دمشق سنة 613م، وعلى أورشليم سنة 614م، وغنم من نفائس لا تثمن وفي جملتها خشبة الصليب، ثم زحف على مصر سنة 617م فافتتح الإسكندرية، وكان جيش آخر للفرس يجتاح آسيا الصغرى حتى بلغ خلقدونية فاحتلها، ولم يبق بينه وبين العاصمة سوى البوسفور، فهب هرقل إذ ذاك من رقاده وضرب النفير في أقطار مملكته، وجرد جيوشه واسترد من الفرس هذه المدن كلها وخشبة الصليب، وقام الإسلام في جزيرة العرب والحرب دائرة بين المملكتين ولم تنته إلا سنة 628م.
وكانت المملكتان في الوقت نفسه تتنافسان في بسط نفوذهما على بلاد العرب لما كانت لهذه البلاد من الشأن بالنظر لحاصلاتها من الذهب والبخور وأنواع العطور والتوابل، ثم بالنظر إلى موقعها الجغرافي إذ كانت في ذلك العهد طريق الهند.
وكان الروم بعد إخفاق الحملة التي سيروها إلى بلاد العرب بقيادة أليوس غالوس سنة 18ق.م في عهد أغسطس قيصر - وقد تقدم ذكرها - قد عدلوا عن فتح البلاد عنوة وعولوا على الفتح السلمي، واختاروا لمعاونتهم على ذلك ملوك غسان، فناطوا بهم مراقبة حدود بلاد العرب من جهة سوريا وفلسطين، والسعي في بسط نفوذهم في البلاد العربية.
واتبع الفرس من جانبهم مثل هذه السياسة واعتمدوا على المناذرة ملوك الحيرة، وناطوا بهم مقاومة نفوذ الروم ورفع شأن الفرس في بلاد العرب.
وكانت ديانة مملكة الروم النصرانية وديانة مملكة الفرس المجوسية أو عبادة النار لمؤسسها زردشت، وكان المجوس يناوئون النصارى ويعضدهم اليهود، وقد انقسم النصارى طوائف شتى يعاقبة ونساطرة وأريوسيين وأرثوذكس وغيرهم، وانقسم اليهود إلى ربانيين وقرائين وسامريين.
وكان العرب في جزيرتهم يتخبطون في عبادة الكواكب والأصنام، وقد دخل الجزيرة اليهودية والنصرانية من الشام والمجوسية من العراق، وكان من العرب من اعترف بالخالق وأنكر البعث، ومنهم من أنكر الخالق والبعث وقال بالطبع المحيي والدهر المفني، وكلهم قالوا بالبخت والجن واشتغلوا بالتنجيم والسحر وتفسير الأحلام، وكان من عاداتهم الذميمة وأد البنات، وعدم الرفق بالرقيق، وشرب الخمر، ولعب الميسر، وبالإجمال فقد كانت الفوضى في السياسة والإدارة والدين سائدة في الشرق كله، وكان الشرق يتطلب الخروج من هذه الفوضى والراحة من شرها.
فلما ظهر النبي محمد نادى قومه بقوله: «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، وعوضهم عن الأصنام والكواكب «القرآن الكريم»، فجاء آية في الفصاحة والبلاغة وحسن التنسيق، وقد ضمن: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وضمن فوق ذلك آدابا وحكما وشرائع وعلما وتاريخا وسياسة وخلقا كريما.
وكان ظهور النبي محمد في جوار الكعبة والأسواق الشهيرة التي كانت تحج إليها العرب من كل فج، وهو من قريش أسياد دين العرب وتجارهم إلى اليمن والشام والعراق.
وقد حض قومه على نشر الإسلام والجهاد في سبيله، ووعد المجاهدين منهم الجنة.
لذلك كله، ولما كانت العرب تعجب بالفصاحة والبلاغة، وتتحرك بالمعاني الروحية لما في طبعهم الحر من المروءة والنجدة والحماسة، وكانوا قد اعتادوا في باديتهم القتال وركوب الأخطار؛ استفزهم وعد نبيهم وبلاغته وسيرته فنصروه، ثم نصروا من بعده خلفاءه الذين ساروا سيرته، فتمكنوا في جيل أو أقل من نشر سلطانهم ودينهم ولغتهم من السند والهند إلى المحيط الأتلانتيكي شرقا وغربا، ومن بحر الخزر وآسيا الصغرى وبحر الروم وفرنسا إلى المحيط الهندي وأعالي السودان شمالا وجنوبا.
وهاك ما قاله مؤرخو الإسلام في سيرة النبي محمد ودعوته وكيفية انتشارها، ثم في سيرة خلفائه الراشدين وفتوحاتهم كما لخصتها عن أحدث كتبهم وأشهرها:
ولد النبي محمد بمكة في 12 ربيع الأول على المشهور، و8 منه على الصحيح، سنة 54ق.م/20 أبريل سنة 571م وهي عام الفيل، وتوفي أبوه قبل أن يولد، فكفله جده عبد المطلب إلى أن بلغ الثامنة من عمره، ومات جده فكفله عمه أبو طالب، وكانت قريش في ذلك العهد قائمة بالتجارة بين اليمن والشام والعراق، وكان أبو طالب يحترف ما احترفه قومه، فخرج بالفتى محمد إلى الشام وهو في الثالثة عشرة من عمره، وكان الفتى نجيبا ذكي الفؤاد، ودلائل النجابة والذكاء بادية على وجهه. قيل فلما نزل بصرى مع عمه رآه راهب مشهور بالصلاح والتقوى يدعى «بحيرا» فقال: «سيكون من هذا الفتى أمر عظيم ينتشر ذكره في مشارق الأرض ومغاربها.»
ولما بلغ الخامسة والعشرين خرج إلى الشام في تجارة للسيدة خديجة بنت خويلد مع غلامها ميسرة، وعاد إليها بربح عظيم، وقد أعجبها جدا مهارته وصدقه وأمانته فخطبته لنفسها، وكانت من أعظم نساء قريش فضلا وأكثرهن مالا وأوضحهن نسبا، فكان له من شرف بيتها وثروتها وحسن عشرتها خير معين قبل البعثة وبعدها.
وقد شب النبي محمد على كرم الخلق وعزة النفس وشدة الغيرة على قومه، حتى كان لا يطيق أن يراهم على ضلال، وكان متين الاعتقاد بوجود الله ووحدانيته وبالبعث والخلود، وكان تقيا ورعا محبا للزهد والنسك، وكثيرا ما كان يذهب إلى غار حراء قرب مكة للصلاة والعبادة.
وبقي حتى ناهز الأربعين من عمره، ففي ذات ليلة 1 فبراير سنة 610م بينما كان في غار حراء رأى الملاك جبرائيل يدعوه إلى «الرسالة»، فلما أفاق قص هذه الرؤية على زوجته خديجة فآمنت به، وآمن به ابن عمه علي بن أبي طالب وهو صبي، ومولاه زيد بن حارثة، وصديقه الحميم أبو بكر، وكان أبو بكر رجلا سهلا محببا لقومه، فجعل يدعو إلى الإسلام سرا من وثق منهم، فأسلم على يده عثمان بن عفان ، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، فكان هؤلاء هم المسلمين السابقين.
وظل النبي يخفي الدعوة ثلاث سنين حتى بلغ أتباعه نحو الأربعين، وفيهم عمر بن الخطاب وعمه حمزة، ثم جهر بها وأنذر عشيرته الأقربين، فنبذوا دعوته وعملوا على إبطالها بكل قواهم؛ لأنهم كانوا رؤساء دين العرب وأهل البيت الحرام، وخافوا إذا أتوا بدين جديد أن تنتقض عليهم العرب فتبور تجارتهم، وفوق ذلك فإنهم لم يطيقوا أن يستأثر النبي محمد بالسيادة عليهم على فقره وقلة جاهه؛ ولذلك كان أشد الناس معارضة له أشراف قريش وأغنياؤهم، ولكنه كان محميا منهم بعمومته وأصهاره، وقد اضطهدوا أصحابه، فمن كان بلا نصير أمره بالهجرة إلى الحبشة، فهاجر إليها جمع منهم وفيهم عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف، فأكرم النجاشي مثواهم، وعاد بعضهم قبل الهجرة وأكثرهم في السابعة للهجرة ، وماتت زوج النبي خديجة بعد 25 سنة من زواجها منه، ثم مات عمه أبو طالب؛ فقل بموتهما أنصاره، ولكنه لم ييأس ولا ضعفت عزيمته، بل كان يقصد الأسواق العامة ومواسم الحج ويدعو القبائل جهارا إلى توحيد الله وترك عبادة الأصنام والكواكب، وقد حرم الخمرة والميسر ووأد البنات وكل ما كانت تدين به الجاهلية، فاستجاب له ستة نفر من أهل المدينة (يثرب) وكلهم من الخزرج فأسلموا وعادوا إلى قومهم فأسلم على أيديهم كثيرون.
ثم جاء منهم في الموسم التالي اثنا عشر رجلا من الأوس والخزرج بايعوه على الإسلام، وبعث معهم مصعب بن عمير فعلمهم القرآن وشعائر الإسلام، فانتشر بهم الإسلام في المدينة حتى قيل إنه لم تبق دار إلا وفيها ذكر للنبي.
وفي الموسم الثالث جاءه 73 رجلا وامرأتان بايعوه على الإيمان والدفاع عن دعوته بالسيف متى قدم عليهم، ثم عادوا إلى المدينة، وعزم النبي على اللحاق بهم هو وأصحابه، ولما علم قريش بذلك خافوا أن يؤلب عليهم أهل المدينة ويغزوهم في دارهم، فعزموا على قتله، فخرج مهاجرا إلى المدينة سرا ومعه صديقه أبو بكر، وذلك في 20 سبتمبر سنة 622م، ثم تلاحق به أصحابه من مكة فسماهم المهاجرين، وسمى أهل المدينة الأنصار، وقد آخى بين أفراد الفريقين، فجعل لكل واحد من المهاجرين أخا من الأنصار.
ولما كثر أتباعه شرع ينشر دينه بالدعوة إليه مع حماية هذه الدعوة بالسيف إذا اضطر لذلك، وقد بلغت غزواته التي خرج فيها بنفسه 27، وقع القتال منها في تسع، وبلغت سراياه وبعوثه 48، وأشهر غزواته سبع، وهي: (1) «غزوة بدر» (بئر بين مكة والمدينة): في 17 رمضان سنة 2ه. كان النبي لا يقاتل أحدا على الدخول في الدين، بل كان أمره قاصرا على التبشير والإنذار والإقناع بالحجة، حتى إذا فعلت قريش ما فعلت وناصبته العداء أذن بقتالها، وكان من عادة قريش أن ترسل تجارتها إلى الشام ولا بد لقوافلها من المرور بالمدينة، فكان النبي يرسل السرايا لاعتراضها في سفرها ذهابا وإيابا، ثم خرج بنفسه لاعتراض قافلة لها عائدة من الشام إلى مكة، وكان عميد القافلة أبا سفيان بن حرب الأموي، وهو حامل «العقاب» راية حرب قريش، فاتبع طريق الساحل ونجا بالقافلة، وكان قد استنفر أهل مكة، فنفر منهم سراعا 950 مقاتلا، وكان أصحاب النبي 313، فالتقى الفريقان عند بئر بدر فاقتتلا، وكان النصر لأصحاب النبي، وقد قتلوا من أهل النفير 70 رجلا. (2) «غزوة أحد» (جبل قرب المدينة) في 7 شوال سنة 3ه: وفيها اجتمع 3000 رجل من قريش بقيادة زعيمهم أبي سفيان للأخذ بثأر قتلى بدر، وكان أصحاب النبي 700 فقتل من هؤلاء 70 بينهم حمزة عم النبي، وجرح النبي في وجهه. (3) «غزوة الخندق» (في ضواحي المدينة) سنة 5ه: وذلك أن قريشا اجتمعت هي وكثير من قبائل نجد والحجاز واليهود، وقصدوا المدينة للقضاء على الإسلام وأهله، فحفر النبي حول المدينة خندقا وجاء العرب وأحاطوا بالمدينة بضعا وعشرين ليلة، ثم انصرفوا خائبين، وكان بين بني قريظة من اليهود وبين النبي عهد فنقضوه وتابعوا الأحزاب، فلما انصرفوا لحقهم النبي في اليوم التالي وحاصرهم في حصونهم وأوقع بهم. (4) «غزوة الحديبية» (بئر قرب مكة) سنة 6ه: خرج النبي في جمع من الصحابة إلى مكة للعمرة، فلما بلغ الحديبية علم أن قريشا لا تسلم بدخوله مكة، فتردد السفراء بين الفريقين وعقدوا هدنة 10 سنين على شروط معينة بها أمكن النبي وأصحابه أن يؤيدوا دعوتهم وهم آمنون. (5) «غزوة خيبر» (شمال المدينة) سنة 7ه: وكان فيها اليهود ففتحها حصنا حصنا.
وفي هذه السنة أرسل كتب الإنذار إلى كسرى ملك الفرس، وقيصر ملك الروم، والمقوقس عامل القيصر في مصر، والنجاشي ملك الحبشة، والحارث بن أبي شمر الغساني في بادية الشام، وهوذة ملك اليمامة، والمنذر بن ساوى ملك البحرين كما مر. (6) «غزوة الفتح»: فتح مكة 20 رمضان سنة 8ه: وفيها نقض قريش الهدنة، فخرج النبي إلى مكة في عشرة آلاف مقاتل فيهم خالد بن الوليد القرشي من فرع مخزوم، وكان قد أسلم هو وعمرو بن العاص قبيل ذلك، فلم تبد قريش إلا مقاومة ضعيفة، وجاء أبو سفيان كبير قريش مسلما، فأكرمه النبي وعفا عن أهل مكة فأسلموا جميعا، ثم دخل الحرم فأزال الأصنام وكسرها، وكان ذلك ختام الوثنية في بلاد العرب. (7) «غزوة تبوك» سنة 9ه: وهي آخر غزواته، وذلك أنه لما رأى أكثر العرب قد دانوا له شرع في الفتوحات، فخرج إلى بلاد الروم ومعه ثلاثون ألفا، وكانت الخيل عشرة آلاف، وضرب الجزية على أهل أيلة (العقبة) وأذرح (قرب تبوك) ودومة الجندل (الجوف) وهي إمارات نصرانية تابعة للروم، وفي هذه الغزوة أعطى أهل أيلة وأذرح عهده بالأمان، وقد تقدم لنا ذكره برمته.
وفي سنة 10ه حج إلى مكة ومعه من أصحابه أربعون ألفا، وفي هذه الحجة تم نزول القرآن الكريم، وكان ينزل مفرقا حسب الوقائع، وعاد إلى المدينة فمرض وقبض في يوم الإثنين 13 ربيع الأول سنة 11ه/8 يونيو سنة 632م وعمره 61 سنة م.
وقد رزق عدة أولاد ذكورا وإناثا، ولكنه لم يترك إلا بنتا من زوجته خديجة، وهي السيدة فاطمة زوجة علي بن أبي طالب، ودفن في حجرة زوجته عائشة حيث قبض، وبنى الخلفاء حول قبره مسجدا فكان الحرم الثاني للمسلمين بعد مكة.
ومما يجدر ذكره في هذا المقام - مصحوبا بالأسف الشديد - أن بلادنا السامية التي هي مهد الأديان ومهبط الحكمة قد كانت أقل البلاد انتفاعا من تلك الأديان وتلك الحكمة، فإن أهل الأديان فيها - على وحدتهم الجنسية - قد انشق بعضهم على بعض، بل انشق أهل كل دين إلى طوائف شتى، والخلاف قائم بين أهل طائفة وأخرى يكاد يكون أشد وأنكى من الخلاف بين أهل دين وآخر، وقلما كان في بلادنا شقاق أو شقاء إلا كان الخلاف الديني أساسه أو الداعي إليه.
فعلام هذا الخلاف وحتام هذا الشقاق وهذا الشقاء، فقد رأينا أننا كلنا من أصل واحد عربي أو سامي، وقد كنا عربا أو ساميين قبل أن كنا يهودا ونصارى ومسلمين، بل قبل أن كنا شاميين وحجازيين وعراقيين.
ثم إن مؤسسي أدياننا يرجعون بأنسابهم إلى جد واحد، وهو جدنا إبراهيم الخليل السامي الآرامي، العراقي المنبت السوري المحتد، وقد رموا كلهم إلى غرض واحد وهو دلالتنا على الله، وأيد التالي منهم السالف في شريعته: قام موسى بين اليهود فأتاهم بشريعة تناسب حالهم وزمانهم، ثم جاء المسيح فأقر شريعة موسى وأتمها برسالة جديدة، ثم قام محمد بين العرب فلقنهم رسالته وأقر شريعة موسى والمسيح، وأذن لليهود والنصارى في البقاء على دينهم مقابل جزية يكون لهم بها ما للمسلمين وعليهم ما عليهم.
ثم إن الكتب التي أتونا بها وهي: «التوراة والإنجيل والقرآن» تتفق في كثير من الأمور الجوهرية؛ أهمها أن الله روح غير منظور، أزلي غير محدود، واحد أحد، فرد صمد، خالق السماوات والأرض، وأن النفس وهي نسمة من روح الله خالدة تعود بعد الموت إلى خالقها، وهي وما كسبت في الأرض إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
ثم إن هذه الكتب الثلاثة تتفق في أمر جوهري آخر نعرفه كلنا ونسلم بصحته، ولكنا لا نعمل به وتركنا العمل به، إنما هو أصل شقاقنا وشقائنا، وذلك الأمر هو «أن الدين لله وحده، وليس لنا حتى ننازع فيه، وما جعل الله بعضنا أولياء بعض في دينه، وما تجزي نفس عن نفس شيئا عند الله.» يورث الأب ابنه ماله وجاهه ، وقد يورثه ملامحه وطباعه، ولكن هل له أن يورثه مثقال ذرة من نصيبه عند ربه في الآخرة؟ إذا كان أب تقي صالح نصيبه الجنة وكان له ابن شرير طالح نصيبه جهنم، فهل يؤخذ الأب بجريرة الابن؟ أم يستطيع الأب أن يأتي بابنه إلى جنته ولو ساعة واحدة؟ أجيبوني من كتبكم أيها العرب اليهود والنصارى والمسلمون.
ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين * قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح
الآية.
إذن فاتركوا الدين لله، وأطلقوا الحرية الدينية للأفراد والمجموع ليعبد كل منا ربه بما يرتاح إليه ويرضاه، فليس بين الإنسان وربه إجبار أو إكراه، وليكن أساس التعامل بيننا «المصلحة العامة» ليس إلا، فإن «الدين المعاملة.»
وإن كان أحد منا يغار على ابن جنسه ووطنه الذي على غير دينه، فليس له إلا أن ينصحه برفق وتؤدة بما يظنه أصلح لآخرته ودنياه، ثم يتركه وشأنه مع الله الذي أنشأه.
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ...
إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء
الآية، ولنعد إلى موضوعنا. (2-2) الخلفاء الراشدون في المدينة ثم في الكوفة
الخلافة في الإسلام:
لما قبض النبي حدثت في الناس ضجة عظيمة، فمنهم المصدق ومنهم المكذب، وكان صديقه الحميم أبو بكر غائبا في أهله، فلما أتاه منعاه دخل عليه وكشف عن وجهه وقبله، وقال: «بأبي أنت وأمي، لقد طبت حيا وطبت ميتا، وخص بك الرزء حتى تنوسيت معه الأرزاء، وعم حتى كان الجميع فيه سواء.»
ثم خرج إلى الناس وقال: «أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت»، ثم تلا:
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل
الآية، ولما كان النبي قد قبض لغير وصية بالخلافة تنازع المسلمون في أمرها، فكانوا ثلاثة أحزاب كلية لا يزالون عليها إلى اليوم، وهي: (1) «الحزب الأنصاري»: وهو أن تكون الخلافة في الإسلام شوروية ينتخبون الأصلح منهم، وإليه مال الأنصار وأرادوا مبايعة سعد بن عبادة الأنصاري، وحجتهم سيف نصرتهم. (2) «الحزب القرشي»: وقد عرف أصحابه بأهل السنة والجماعة، وهو أن تكون الخلافة في بني قريش للأصلح بينهم أي شوروية مقيدة، وإليه مال المهاجرون وحجتهم حديث النبي «الأئمة من قريش» رواه لهم أبو بكر الصديق، وقال: «نحن أولياء النبي وعشيرته، وأحق الناس بأمره، وأنتم لكم حق السابقة والنصرة، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء»، وقال عمر بن الخطاب: «إن الرسول
صلى الله عليه وسلم
أوصانا بكم كما تعلمون، ولو كنتم الأمراء لأوصاكم بنا.» (3) «الحزب الهاشمي»: وهو أن تكون الخلافة خاصة في بني هاشم من قريش للأقرب بينهم إلى الرسول.
وبعد أخذ ورد طويل بين هذه الأحزاب غلب الحزب الأوسط وفصل الأمر بشير بن سعد الخزرجي، فقال: «إن محمدا من قريش، وقومه أحق وأولى، ونحن وإن كنا أولي فضل في الجهاد وسابقة في الدين، فما أردنا بذلك إلا رضا الله وطاعة نبيه، فلا نبتغي من الدنيا عوضا ولا نستطيل به على الناس.» (أ) أبو بكر الصديق سنة 11-13ه/632-634م
وكان لما مرض النبي أمر صديقه أبا بكر الصديق أن يصلي بالناس، فلما اختلف أصحابه في من يكون خليفته مال أكثرهم لانتخاب أبي بكر وقالوا: «رضيه رسول الله لديننا، أفلا نرضاه لدنيانا؟» ومد عمر يده لمبايعته فأقبل الناس من كل جانب فبايعوه، وكان ذلك يوم الثلاثاء في 14 ربيع الأول سنة 11ه قبيل دفن النبي.
ولما انتهت بيعته صعد المنبر وقال: «أيها الناس، قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فعاونوني وإن صدفت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له حقه، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع أحد منكم الجهاد، فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.»
وكان أبو بكر من قريش فرع تيم، وقد استقرت الخلافة بعده في فروع قريش حتى انقطعت سنة 922ه بفتح السلطان سليم العثماني لمصر وأخذه منها آخر الخلفاء العباسيين إلى الآستانة كما سيجيء. (أ) غزوة قضاعة
وأول عمل بدأ به أبو بكر تسيير جيش أسامة الذي جهزه النبي قبل وفاته إلى بلاد قضاعة في أطراف الشام، وأوصاه عند مسيره بهذه الوصية: «لا تخونوا ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة، ولا تعزقوا نخلا ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا للأكل، وإذا مررتم بقوم فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وإذا لقيتم قوما فحصوا أوساط رءوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فاضربوا بالسيف ما فحصوا عنه، فإذا قرب إليكم الطعام فاذكروا اسم الله، يا أسامة اصنع ما أمرك نبي الله ببلاد قضاعة، ثم أنت قافل ولا تقصر من أمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم .» (ب) قتال أهل الردة
وكان قد قام في اليمامة في زمن النبي رجل يدعى مسيلمة ادعى النبوة، ومال إليه بعض العرب، فعرض على النبي قسمة الأرض بينهما، فهزأ النبي به، فلما مات النبي قويت شوكة مسيلمة هذا، وظهر أنبياء كذبة آخرون، وارتد أكثر العرب عن الإسلام ومنعوا الزكاة إلا أهل المدينة ومكة والطائف، وكاد الإسلام يقتلع من أصوله لولا حزم أبي بكر ومضاء عزيمته، فإنه جهز 11 جيشا لمحاربة أهل الردة والأنبياء الكذبة أهمها جيش عدته 40 ألفا عقد لواءه لبطل الإسلام وقائدهم الأكبر خالد بن الوليد، ووجهه لقتال مسيلمة فانتصر خالد على مسيلمة وقتله، ولم يمض أقل من سنة حتى خضعت العرب كلها وعادت إلى الإسلام، فساقهم أبو بكر إلى ممالك كسرى وقيصر. (ج) غزو العراق
فسير خالد بن الوليد لغزو بلاد الفرس وأمره أن يبدأ بالأبلة، وهي ثغر من ثغور الفرس عند مصب دجلة، وكان صاحبه هرمز فكتب إليه خالد كتابا يقول فيه: «أما بعد فأسلم تسلم أو اعتقد لنفسك وقومك الذمة وأقرر الجزية، وإلا فلا تلومن إلا نفسك، فقد جئتكم اليوم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة.»
فجيش هرمز جيشا عظيما وسبق خالدا على الماء، ثم تلاقيا وسط الصف فاحتضنه خالد وقتله وهزم جيشه، فجيش عليه كسرى جيشا آخر فهزمه، ثم جيشا آخر أكبر من الأولين، فرتب خالد جنوده على ثلاث فرق أحاطت به من كل جانب ومزقته كل ممزق.
ثم سار خالد إلى «الحيرة» عاصمة المناذرة غربي الفرات، وكان ملكها النعمان بن المنذر، فرأى أهلها ألا طاقة لهم بحرب خالد، فصالحوه على 190 ألف درهم، ثم سار شمالا إلى الأنبار فصالحه صاحبها، ثم إلى عين النمر فدومة الجندل ففتحهما عنوة. (د) غزو الشام
وجهز أبو بكر أربعة جيوش فيها 36 ألفا لغزو الروم في الشام، وعقد لواءها لأربعة من قواد المسلمين، وهم يزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وأبو عبيدة الجراح وشرحبيل ابن حسنة، وقد أوصى كلا منهم وصية وهذه وصيته ليزيد:
إني قد وليتك لأبلوك وأجربك، فإن أحسنت رددتك إلى عملك وزدتك، وإن أسأت عزلتك، فعليك بتقوى الله فإنه يرى من باطنك مثل الذي يرى من ظاهرك، وأن أولى الناس بالله أشدهم توليا له، وأقرب الناس من الله أشدهم تقربا إليه بعمله، وقد وليتك عمل خالد «بن سعيد» فإياك وعيبة الجاهلية، فإن الله يبغضها ويبغض أهلها، وإذا قدمت على جندك فأحسن صحبتهم وابدأهم بالخير وعدهم إياها، وإذا وعظتهم فأوجز فإن كثير الكلام ينسي بعضه بعضا، وأصلح نفسك يصلح لك الناس، وصل الصلوات لأوقاتها بإتمام ركوعها وسجودها والتخشع فيها، وإذا قدم عليكم رسل عدوك فأكرمهم وأقلل لبثهم حتى يخرجوا من عسكرك، وامنع من قبلك من محادثتهم، وكن أنت المتولي كلامهم، ولا تجعل سرك لعلانيتك فيخلط أمرك، وإذا استشرت فاصدق الحديث تصدق المشورة، ولا تخزن عن المشير خبرك فتؤتى من قبل نفسك، واسمر بالليل في أصحابك تأتك الأخبار وتنكشف عندك الأستار، وأكثر حرسك وبددهم في عسكرك، وأكثر مفاجأتهم في محارسهم بغير علم منهم بك، فمن وجدته غفل عن حرسه فأحسن أدبه وعاقبه في غير إفراط، وأعقب بينهم بالليل واجعل النوبة الأولى أطول من الأخيرة، فإنها أيسرها لقربها من النهار، ولا تخف من عقوبة المستحق ولا تلجن فيها ولا تسرع إليها ولا تخذلها مدافعا، ولا تغفل عن أهل عسكرك فتفسده، ولا تجسس عليهم فتفضحهم، ولا تكشف الناس عن أسرارهم واكتف بعلانيتهم، ولا تجالس العباثين وجالس أهل الصدق والوفاء، واصدق اللقاء ولا تجبن فيجبن الناس، واجتنب الغلول فإنه يقرب الفقر ويدفع النصر. ا.ه.
هذا ولما بلغ هرقل ملك الروم قدوم العرب إلى الشام هاله الأمر، فأسرع إلى أنطاكية وكانت عاصمة نواب الروم بالشرق، وجمع جيشا عظيما وأرسله لقتال العرب، فالتقى الجيشان بصحراء أجنادين جنوبي دمشق واقتتلا قتالا شديد كان النصر فيه للعرب، فاستنجد هرقل بجبلة بن الأيهم ملك الغساسنة، فسيرا جيشا عرمرما عدته 240 ألفا، فزحف هذا الجيش حتى أتى وادي اليرموك في الجنوب الشرقي من الشام بجوار بصرى، فخاف العرب العاقبة واستمدوا أبا بكر فكتب إلى خالد بن الوليد بالعراق، فاستخلف على نصف جيشه وجاء مسرعا إلى قومه بالشام بالنصف الآخر، وكتب أبو بكر إلى أبي عبيدة أمير جيش العرب يقول له: «إني قد وليت خالدا قتال العدو بالشام، فلا تخالفه واسمع له وأطع قوله، فإنني ظننت أن له في الحرب خبرة ليست لك والسلام.»
فرتب خالد جيشه وكر على جيش الروم، فاستمر القتال طول النهار ومعظم الليل، ودارت الدائرة على جيش الروم، فلما طار الخبر إلى هرقل وهو دون حمص ارتحل إلى القسطنطينية وقال: «سلام عليك يا سوريا، سلام لا لقاء بعده.»
ولما رأى الروم - ومن ناصرهم من الغساسنة - بأس العرب هادنوهم، وسار خالد إلى دمشق وحاصرها سنة 13ه/634م، وفي أثناء الحصار جاء البريد يحمل وفاة أبي بكر واستخلاف عمر بن الخطاب، وكانت وفاة أبي بكر بالمدينة سنة 13ه وعمره 63 سنة، ودفن بجانب ضريح النبي. قيل وفي أيامه بوشر بجمع القرآن بإشارة عمر. (ب) عمر بن الخطاب، سنة 13-23ه/634-644م
بويع عمر بن الخطاب بالخلافة في اليوم الذي توفي فيه أبو بكر بعهد منه، وسمي أمير المؤمنين وهو من قريش فرع عدي، وهذا عهد أبي بكر له: «هذا ما عهد به أبو بكر خليفة محمد
صلى الله عليه وسلم
عند آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة في الحال التي يؤمن فيها الكافر ويتقي الفاجر. إني استعملت عليكم عمر بن الخطاب، ولم آلكم خيرا، فإن صبر وعدل فذاك علمي به، وإن جار وبدل فلا علم لي بالغيب، والخير أردت، ولكل امرئ ما اكتسب، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.»
ولما بويع عمر صعد المنبر وقال: «إنما مثل العرب مثل جمل آنف اتبع قائده، فلينظر قائده أين يقوده، أما أنا فورب الجعبة لأحملنكم على الطريق.»
وفي عهده تم فتح الشام والعراق وفتحت مصر.
فتح الشام:
ومما قيل في فتح الشام: إن عمر عند توليه الخلافة عزل خالدا بن الوليد عن قيادة الجيش، وكان محاصرا دمشق الشام كما مر، وأسندها إلى أبي عبيدة عامر بن الجراح، وكتب إلى البلاد يقول: «إني لم أعزل خالدا عن سخط ولا عن خيانة، ولكن الناس عظموه وفتنوا به، فخفت أن يوكلوا إليه، فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع وألا يكونوا بعرض فتنة»، ففتح أبو عبيدة دمشق بعد سبعين ليلة من حصارها، ثم فتح حمص وحماة والمعرة واللاذقية وحلب وقنسرين.
وفتح عمرو بن العاص بأمر عبيدة أجنادين، ثم سار إلى إيليا «القدس» وحاصرها، ولما رأى أهلها أنهم لا يستطيعون مقاومة العرب رغبوا في الصلح على شرط أن يكون المتولي لعقده أمير المؤمنين، فكتب إليه عمرو بذلك، فسار عمر إلى الشام وكتب لهم صلحا سنة 15ه/636م، وقيل سنة 16ه، ثم أمر ببناء مسجد على الصخرة التي كلم الله عليها يعقوب، ثم قسم الشام إلى ولايات وولى عليها ولاة وعاد إلى المدينة.
فتح مصر:
ثم كان فتح مصر سنة 18ه على يد عمرو بن العاص كما مر.
فتح العراق:
ومما جاء في فتح العراق: إن عمر سير إلى الفرس جيشا ضخما يقوده سعد بن أبي وقاص، وأوصاه بقوله: «يا سعد لا يغرنك من الله أن يقال: خال رسول الله وصاحب رسول الله، فإن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكنه يمحو السيئ بالحسن، وليس بين الله وبين أحد نسب إلا بطاعته، فالناس في دين الله سواء، وهم عباده يتفاضلون عنده بالعافية ويدركون ما عنده بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت فيه رسول الله يلزمه فالزمه.»
فسار سعد حتى أتى القادسية، وهي بقرب الكوفة، فأرسل جماعة من كبار الصحابة لهم شجاعة ومهابة إلى يزدجرد ملك الفرس يدعوه إلى اعتناق الإسلام أو دفع الجزية، فأبى وسير جيشا قدره نحو 100 ألف عقد لواءه لأكبر قواده «رستم» فتلاقى الجيشان ووقعت واقعة القادسية، فاستمر القتال ثلاثة أيام بلياليها وانتهى بهزيمة الفرس وقتل قائدهم وإبادة عسكرهم قتلا وغرقا، فسار سعد يفتح ما في طريقه من البلاد حتى وصل المدائن قاعدة ملك الفرس، ففتحها ونزل قصر كسرى وجعله قاعدة له.
وكان من رأي عمر أن قاعدة المسلمين لا ينبغي أن يفصلها عنه بحر، فأمر سعدا فاختار موضع الكوفة قاعدة للمسلمين، فأسست سنة 17ه، وفي هذا العام بنيت مدينة البصرة.
وبعد ذلك أرسل سعد السرايا شرقا لفتح بلاد الفرس، ولكن لم يتم فتح هذه البلاد على يده؛ لأن عمر عزله وولى النعمان بن مقرن، ولم يمض زمن عمر حتى كانت فتوحات العرب قد امتدت شرقا إلى نهر جيحون ونهر مران، فشملت بلاد فارس وخراسان والسند وغيرهما.
وقد اشتهر عمر بحزمه وعزمه وعدله وزهده، وكان أول من وضع التاريخ الإسلامي في السنة الثامنة عشرة للهجرة، فجعل مبدأه هجرة النبي إلى المدينة، أي 20 سبتمبر سنة 622م كما مر، وهو أول من دون الدواوين ومصر الأمصار، وبنيت في مدته الكوفة والبصرة في العراق والفسطاط في مصر، وقد قتل غدرا وهو قائم يصلي في جامع المدينة بطعنة خنجر من يد عبد يدعى أبو لؤلؤة فيروز المجوسي، ودفن بجانب النبي وكان ذلك في سنة 23ه سنة 644م، وعمره 63 سنة. (ج) عثمان بن عفان، سنة 24-35ه/644-656م
وعهد عمر بالخلافة إلى واحد ينتخب من النفر الذين مات النبي وهو راض عنهم، وهم علي وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص، وجعل ابنه عبد الله شريكا لهم في الرأي لا في الخلافة، فانتخب الناس عثمان بن عفان وهو من قريش فرع أمية، ففتح برقة وطرابلس الغرب والنوبة وجزيرة قبرص، وظفر جنده بيزدجرد ملك الفرس، وكان فارا بخراسان فقتلوه، وولى الممالك المفتوحة من يثق به من أهله وأخصائه، فنقم منه بعض العرب ورموه بمحاباة أهله والتغيير في سنة النبي، فحاصروه في داره بالمدينة وطالبوه بعدة أمور لم يرها من حقهم، فتسوروا عليه وقتلوه سنة 35ه/656م ودفن بالبقيع خارج المدينة، وله من العمر 82 سنة. (د) علي بن أبي طالب، سنة 35-40ه/656-660م
وبعد قتل عثمان تنازع الناس فيمن يتولى الخلافة، فبايع الأكثرون عليا، وهو من قريش فرع هاشم، وبقي نفر من الصحابة وبنو أمية ورأسهم معاوية بن أبي سفيان بن حرب وطلحة والزبير لم يبايعوه، واتهموه بأن قتل عثمان كان على رغبة منه، وكانت السيدة عائشة زوج النبي إذ ذاك في الحج، فخرج طلحة والزبير من المدينة إلى مكة وقابلا السيدة عائشة وحرضاها على محاربة علي أخذا بثأر عثمان، فخرجت معهما إلى البصرة ، وكان علي قد خرج إلى الكوفة فأتى البصرة وقاتلهما فقتلا وانهزم جيشهما، ووقعت السيدة عائشة في يد علي فأرسلها مكرمة إلى المدينة، وعرفت هذه الواقعة «بواقعة الجمل» لأن عائشة كانت فيها راكبة جملا.
وبعد هذه الواقعة ازدادت العداوة بين معاوية وعلي، فجردا جيشين التقيا في صفين على الفرات في صفر سنة 37ه، ودام الحرب بينهما أربعين صباحا.
ثم حكما بينهما حكمين: أبا موسى الأشعري من قبل علي، وعمرو بن العاص من قبل معاوية، فاتفق الحكمان على خلع الاثنين وإعادة انتخاب الخليفة من جديد.
وفي يوم إعلان الحكم اجتمع العرب، فحكم أبو موسى بخلع صاحبه ورجع عمرو عن اتفاقه وحكم بتثبيت معاوية، ففت ذلك في عضد أصحاب علي وتقاعد عن نصرته كثيرون، وخيف من استفحال الشر وسفك الدماء فانتدب ثلاثة من فتاك الخوارج لاغتيال علي ومعاوية وعمرو بن العاص، فنجح أمرهم في علي وخاب في معاوية وعمرو، وقد قتل علي وهو ينادي لصلاة الصبح غلسا بمسجد الكوفة، فدفنه ابنه الحسن خفية وستر قبره وقتل قاتله، وكانت وفاة علي في 17 رمضان سنة 40ه/24 يناير 661م وعمره 63 سنة، وكان عالما كريما، ومن مآثره أنه أمر أبا الأسود الدؤلي فوضع النحو. (ه) الحسن بن علي بن أبي طالب، سنة 41ه/661م
وبعد قتل علي اجتمع أصحابه في الكوفة وبايعوا ابنه الحسن، وبايع أهل الشام معاوية، ولما رأى الحسن أن بقاءه في الخلافة يوجب بقاء الفتنة في المسلمين تنازل عنها لمعاوية في 26 ربيع الثاني 41ه/29 أغسطس سنة 661م، ثم مات مسموما في المدينة. (2-3) الدولة الأموية في الشام، سنة 41-132ه/661-750م
بعد تنازل الحسن لمعاوية عن الخلافة استولى معاوية على الممالك التي دخلت في طاعة علي، وأسس دولة بني أمية، وفي عهده فتحت بعض بلاد تركستان وبلاد أفغانستان وشمال الهند والجزائر ومراكش وجزيرة رودس.
وحمل معاوية الناس فبايعوا ابنه يزيد، وكانت الخلافة إلى عهده بالانتخاب، وخالف بعض الصحابة والعامة فلم يستطيعوا إخراج الخلافة من بني أمية بل بقيت ملكا عضوضا.
وكان ممن نازع يزيد في الخلافة أهل العراق، فإنهم استاءوا من الحسن لتنازل معاوية، فأرادوا مبايعة أخيه الحسين فساد الاضطراب بين المسلمين، وتمكن بعض دعاة يزيد من القبض على الحسين فاجتزوا رأسه في كربلاء يوم عاشوراء وبعثوا إلى يزيد، وكان ذلك في 10 محرم سنة 61ه، فدفن جسمه في كربلاء، وفي المشهور أن الرأس نقل من مدفنه بالشام إلى القاهرة في عهد الفاطميين، وبني فوقه جامع الحسين الحالي، ولكن العلويين يؤكدون أنه أعيد إلى الجسم ودفن معه في كربلاء.
ونازع يزيد في الخلافة أيضا عبد الله بن الزبير فبايعه أهل المدينة ومكة، ثم بايعه أهل الحجاز واليمن والعراق وخراسان، وبقي يناوئ الأمويين في الخلافة إلى أن قام عبد الملك بن مروان (سنة 65-86ه/685-705م) فاستخلص منه العراق والبصرة والجزيرة، وحاصره بمكة 7 أشهر حتى ظفر به وقتله واستقل بالخلافة.
وخلفه الوليد بن عبد الملك سنة 68ه/705م، وكان أشهر خلفاء بني أمية، ففتح أواسط أفريقية ونشر فيها الإسلام، وفتح الأندلس وسمرقند وحارب تركستان والفرس والهند والقسطنطينية وعاد ظافرا، وكان مولعا بالبناء فجدد بناء الحرم المدني ووسعه وبنى قصورا ومساجد كثيرة أشهرها الجامع الأموي في دمشق، وهو من أعظم مباني الإسلام وأفخمها. قيل أنفق في بنائه 211000 دينار.
ومات الوليد سنة 96ه/715م وسلطان العرب المسلمين يمتد من الصين والهند إلى المحيط الأتلانتيكي شرقا وغربا، ومن سهول سيبريا إلى السودان شمالا وجنوبا، وهي أكبر مساحة وصلت إليها المملكة العربية الإسلامية.
ومن ذلك الحين كثرت الفتن الداخلية في دولة بني أمية، وقويت الأحزاب المشايعة للعباسيين حتى غلبتها على أمرها، وكان انقراض دولة بني أمية سنة 132ه/750م، وكانت هذه الدولة عربية محضة حافظت على الشعار العربي في لبسها ومعيشتها وحكومتها، وكان السلطة في زمانها كله بيد العرب. (2-4) الدولة العباسية في الأنبار ثم في بغداد (سنة 132-656ه/750-1258م) (أ) العباسيون والعلويون
تقدم أن من الأحزاب التي قامت في أمر الخلافة بعد موت النبي «الحزب الهاشمي» القائل بحصر الخلافة في بني هاشم، وما لبث هذا الحزب حتى انقسم إلى حزبين عظيمين: «العباسيين» نسبة إلى العباس عم الرسول، «والعلويين» نسبة إلى علي ابن عمه وصوره، ثم عرف أهل هذه الحزب بالشيعة أيضا، وحجة العباسيين أن عم الرسول أقرب إليه من ابن عمه، وحجة العلويين أن النبي لما أظهر دعوته لأهله وعد بالخلافة لمن وازره في دعوته، فلم يلب دعوته إذ ذاك غير علي.
والعلويون يرفضون الخلفاء الثلاثة الذين تقدموا عليا، ويعتبرونهم متعدين على حقوقه في الخلافة، ويعتقدون أن الإمام عليا وإن لم يكن الخليفة ظاهرا فهو الخليفة باطنا منذ وفاة النبي، ويعتبرون هذه الخلافة الباطنية في ذريته من بعده (راجع كتابنا في تاريخ السودان في الكلام على الإسلام).
وكان لما عجز العلويون عن جعل الخلافة فيهم عن طريق السياسة والقوة لقتل من خرج من أئمتهم ومشايعة أكثر المسلمين لبني أمية؛ أخذوا يسعون سرا لإعادة الخلافة إليهم، وقد كان لعلي كثير من الولد إلا أن الذين تطلعوا للخلافة وتعصبت لهم الشيعة ودعوا لهم في الجهات ثلاثة وهم: الحسن والحسين ابنا علي من فاطمة بنت الرسول، وأخوهما محمد بن الحنفية، وكان الشيعة قد سخطوا من الحسن لخلعه نفسه وتسليم الأمر لمعاوية، فكتبوا إلى الحسين بالدعاء فامتنع ووعدهم إلى موت معاوية، فغدر به بعض دعاة يزيد كما مر، فمضى الشيعة إذ ذاك إلى أخيه محمد بن الحنفية وبايعوه، ومن هؤلاء فرقة الكيسانية نسبة إلى زعيمها كيسان، وأكثرهم في خراسان والعراق.
ويرى الكيسانيون أن الأمر بعد محمد بن الحنفية لابنه أبي هاشم عبد الله، فاتفق أن أبا هاشم مر في بعض أسفاره بمنزل محمد بن علي بن عبد الله بن عباس «عم النبي» بالحميمة من أعمال البلقاء على يوم من الشوبك، فنزل عليه وأدركه المرض عنده فمات وأوصى له بالأمر، وكان قد أعلم حزبه بالعراق وخراسان أن الأمر صائر إلى محمد بن علي العباسي، فلما مات قصد الشيعة محمد بن علي هذا فبايعوه سرا.
وتوفي محمد بن علي سنة 124ه/742م فعهد بالإمامة لابنه إبراهيم، فقبض عليه مروان الثاني آخر خلفاء بني أمية في الحميمة، وسجنه في حران فمات هناك.
وكان قد أوصى بالإمامة إلى أخيه أبي العباس محمد الملقب بالسفاح، فبايعه أهل الكوفة في 12 ربيع الأول سنة 132ه/1 يناير سنة 750م، ونصره أبو مسلم الخراساني بجيش، فاستولى على بلاد خراسان وفارس باسمه، وأرسل السفاح عمه عبد الله بن علي لمحاربة مروان الثاني، فالتقى به على نهر الزاب أحد فروع دجلة، فانهزم مروان وتبعه جيوش العباسيين إلى الشام فمصر، فلحقوه بقرية أبي صير في مديرية بني سويف وقتلوه.
واتخذ السفاح مدينة الأنبار قرب الكوفة دارا للخلافة، ومات فيها سنة 136ه/753م، فولي الخلافة بعهد منه أخوه «أبو جعفر المنصور».
وكان لما اختل أمر بني أمية اجتمع أهل البيت بالمدينة وبايعوا بالخلافة سرا لمحمد بن عبد الله بن حسن المثنى بن حسن السبط بن علي بن أبي طالب، وحضر مبايعته أبو جعفر المنصور هذا فكان من جملة المبايعين، فلما آل إليه أمر الخلافة بعد أخيه السفاح خرج عليه محمد بن عبد الله المذكور في المدينة وبعث عماله في الجهات، فكتب إليه المنصور يعرض عليه الأمان وينصحه بالرجوع عن الدعوة ويكون لديه معززا مكرما هو وشيعته، فأجابه «وأنا أعرض عليك من الأمان مثل الذي أعطيتني، فقد تعلم أن أبانا عليا «عليه السلام» كان الوصي والإمام، فكيف ورثتموه دوننا ونحن أحياء ...»
فرد عليه المنصور ردا جميلا بين فيه فضل بني العباس على الإسلام، وكرر له النصح بالرجوع عن الدعوة، ولما لم يمتثل أرسل له جيشا فقتله سنة 145ه.
والمنصور شيخ العباسيين وأعظم خلفائهم والمؤسس الحقيقي لدولتهم، وهو الذي اختط مدينة بغداد وجعلها عاصمة ملكه، وما زال أبناؤه بها حتى أضحت أزهى وأفخم مدينة في العالم، وكان المنصور أول خليفة أمر كتاب العرب بنقل الكتب الأجنبية إلى العربية ككتاب كليلة ودمنة لابن المقفع، وهو من أنفس الكتب العربية وأبلغها، ورسائل أرسططاليس في المنطق وأصول إقليدس في الفنون الرياضية وغيرها.
هذا وباتساع فتوحات العرب اتسعت تجارتهم، فامتدت بحرا إلى الهند والجزائر الهندية: سيلان وسومطرة وجاوة إلى الصين، وطفق العرب يقطنون تلك النواحي، ودخل كثير من الهنود في دين الإسلام منذ القرن التاسع للمسيح.
وامتدت القوافل العربية برا إلى بلاد التتر وجنوب سيبيريا.
واتجهت سراياهم غربا إلى بلاد السودان، فأخذت دولهم تتأسس منذ القرن العاشر للمسيح في سنار ودارفور ووداي وكانم وبرنو وغانه وغيرها.
ونزلوا من بوغاز المندب على سواحل أفريقيا الشرقية والسومال ونزجبار ومدكسكر وسكنوها وأسسوا فيها الممالك الإسلامية، ولا يزال بعضها قائما إلى اليوم.
وبلغ رقي الدولة العباسية أقصاه في عصر هارون الرشيد (سنة 170-193ه/786-809م) وعصر ابنه عبد الله المأمون (سنة
الحضارة وتمتعوا بأعظم أسباب النعيم والرفاه.
ثم أخذت الدولة العباسية تنحط رويدا والنكبات تتوالى عليها حتى زالت. (ب) القرامطة
وكان من أهم نكباتها ظهور القرامطة، وذلك أنه في سنة 278ه/891م ظهر في ضواحي الكوفة داعية من الشيعة الباطنية الإسماعيلية يدعى قرمط، أصله من أنباط العراق، ادى أنه روحانية الأنبياء السابقين، واختار من أتباعه 12 رجلا وأرسلهم لينذروا بشريعته، ولما شاع خبره أمر حاكم الكوفة بسجنه فشفقت عليه جارية الحارس وفتحت له باب السجن؛ فنجا ودخل البادية، فاجتمع عليه الأعراب ثم اختفى ولم يعلم مكانه، فقال تلاميذه: إنه عرج إلى السماء ومعه ثلاثة ملائكة وتفرقوا بين عرب البادية يعظمون بدين إمامهم ويحزبون العرب على العباسيين وينددون عليهم لبذخهم وإسرافهم، فحاربوا جيوش الخليفة وانتصروا عليها.
ثم قطعوا طريق الحج إلى مكة، وفي سنة 307ه هاجموا مكة والحجاج فيها، فقتلوا نحو خمسين ألفا ونهبوا الكعبة واقتلعوا منها الحجر الأسود، وأخذوه إلى الكوفة وملئوا بئر زمزم دما، وفي سنة 339ه أعادوا الحجر الأسود إلى مكان وأذنوا للمسلمين بالحج، ولما مات رؤساؤهم فترت غيرتهم الدينية وتفرقوا بتوالي الأيام بعد أن أقلقوا بغزواتهم مصر والعراق وجزيرة العرب والشام. (2-5) الدولة الأموية في الأندلس (سنة 141-422ه/758-1031م)
هذا وكان السفاح قد تتبع بني أمية قتلا وحبسا، فهاموا على وجوههم في أنحاء البلاد، وهرب منهم عبد الرحمن بن معاوية بن الخليفة هشام، فسار إلى الأندلس حيث وجد كثيرا من عسكر آبائه وشيعتهم، فتغلب على تلك البلاد سنة 141ه وأسس فيها دولة أموية وجعل عاصمتها «قرطبة» وقطع الخطبة عن العباسيين، وما زال بنوه عليها حتى إذا تربع ثامنهم عبد الرحمن الناصر في دست الإمارة سنة 300ه/912م لقب بأمير المؤمنين ، وكانت دولة الأمويين في الأندلس تضارع الدولة العباسية في بغداد.
وما زالت الخلافة تنتقل في بنيه حتى تولاها الخليفة السادس عشر أمية بن عبد الرحمن سنة 422ه فورثهم في البلاد ملوك الطوائف من العلويين وغيرهم وكانوا أحزابا، فأخذ الإسبان يقتطعون الأندلس من أطرافها بلدا بلدا، حتى استولوا عليها كلها سنة 897ه. (2-6) الدولة الفاطمية في بلاد المغرب ومصر (سنة 296-567ه/908-1171م)
وفي سنة 280ه/893م ذهب أبو عبد الله اليمني من دعاة الشيعة الباطنية الإسماعيلية إلى بلا المغرب داعيا لعبيد الله بن محمد المنتسب إلى إسماعيل بن جعفر الصادق، فنجح في دعوته وطرد الأمير الأغلبي حاكم تلكا لبلاد من قبل الدولة العباسية سنة 296ه، وأعلن أن الخليفة الحقيقي للمسلمين ورئيس دينهم هو الإمام عبيد الله، وحضر عبيد الله فحكم بلاد المغرب 24 سنة، ولقب بالمهدي وعرفت دولته بالعبيدية نسبة إليه وبالفاطمية نسبة إلى فاطمة بنت النبي التي ينتسب إليها.
وتوالى أبناؤه الخلافة من بعده حتى تولى المعز لدين الله الخليفة الرابع سنة 341ه/952م، فدانت له مراكش وجميع القبائل المغربية حتى سواحل الأتلانتيكي. (أ) الدولة الطولونية في مصر
ثم صرف همه لفتح مصر، وكانت مصر بيد العباسيين يولون عليها الولاة من العرب إلى سنة 244ه/856م إذ قوي بأس مماليكهم الترك في بغداد كما سيجيء، فصاروا يولون عليها من هؤلاء المماليك حتى وليها منهم أحمد بن طولون سنة 254ه/868م، فاستقل بها هو وذريته إلى سنة 293ه/905م فعادت دولة عباسية يليها الولاة المماليك من بغداد مدة 30 سنة كانت فيها بغاية الاضطراب؛ لأن القوة الحقيقية أصبحت بيد الجند من المماليك الترك الذين كانوا يرسلون من وقت إلى آخر لتوطيد النظام. (ب) الدولة الإخشيدية في مصر
ثم صارت إلى الدولة الإخشيدية، وكان رأسها محمد بن طغج الإخشيد. قيل أصله من أصرة ملوك فرغانة ببلاد ما وراء النهر «جيحون»، أرسله الخليفة ببغداد واليا على مصر فاستقل بها.
وكان من ملوك هذه الدولة كافور الإخشيدي، وأصله خصي حبشي، اشتراه الإخشيد المذكور بثمن بخس، وكان شجاعا مدبرا حكيما، وساعدته الأقدار فملك مصر تحت سيادة العباسيين، وهو الذي وفد عليه المتنبي الكوفي المنبت الشامي المحتد فمدحه، وكان قد طمع أن يوليو منصبا، فلما لم يحقق أمله هاجر مصر وهجاه.
ومما قاله في مدحه:
يدبر الملك من مصر إلى عدن
إلى العراق فأرض الروم فالنوب
ومما قال في هجوه:
من علم الأسود المخصي مكرمة
أقومه البيض أم آباؤه الصيد
وخلفه أحمد بن علي بن محمد الإخشيد وكان عمره 11 سنة، فاضطربت في عهده أحوال مصر، وكان الخليفة العباسي ببغداد مشغولا بصد غارات القرامطة، فرأى المعز لدين الله الفاطمي الفرصة سانحة فأرسل قائده جوهر الرومي بجيش كبير فافتتح مصر سنة 358ه/969م، ثم جاءها المعز سنة 362ه/973م ونقل إليها عاصمة ملكه، فأصبح في الإسلام في ذلك العهد ثلاثة خلفاء: الخلفاء العباسيون في بغداد، والخلفاء الأمويون في الأندلس، والخلفاء الفاطميون في مصر.
وفي أيام المعز ظهر شاعر الأندلس محمد بن هاني الأزدي، فمدحه بقصيدة مطلعها:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
ومدحه بقصيدة عند فتح مصر عن يد جوهرها القائد مطلعها:
تقول بنو العباس هل فتحت مصر
فقل لبني العباس قد قضي الأمر
وقد جاوز الإسكندرية جوهر
تطالعه البشرى ويقدمه النصر
وقد أوفدت مصر إليه وفودها
وزيد إلى المعقود من جسرها جسر
وانتهت دولة الفاطميين على مصر سنة 567ه/1171م، وكانت من أعظم الدول ملكا وأشدهم للعلم أزرا وأرقاها حضارة وأدبا، وهي الدولة العربية الوحيدة التي جعلت مصر مقر الحكم، فأكسبت مصر صبغة لا تزال آثارها ظاهرة فيها إلى اليوم، ومن تلك الآثار مدينة القاهرة والجامع الأزهر من بناء جوهر القائد، وجامع الحاكم والجامع الأحمر بالنحاسين، وهي التي أحدثت في مصر كثيرا من المواسم والأعياد والحفلات الوطنية كيوم عاشوراء ومولد النبي وقافلة الحج وفتح الخليج وغيرها.
وكان من أهم أسباب سقوطها استهانة خلفائها بحماتها الأولين وأهل الدعوة والعصبية من العرب والبربر، والاستعاضة عنهم بمماليك الترك والديلم والسودان والأرمن والصقالبة؛ مما أوقع المنافسة بين هذه الطوائف وأثار بينها الحروب الداخلية التي خربت البلاد وأهلكت العباد، وأذلت الخلفاء في قصورهم، وهي الغلطة التي غلطها الخلفاء العباسيون من قبلهم، فقد كان السبب الأعظم في انحطاط هؤلاء وزوال ملكهم أنهم أبعدوا أهل العصبية من العرب واستعاضوا عنهم بالفرس ومماليك الترك. (2-7) عودة إلى الدولة العباسية في بغداد (أ) مماليك الترك في بغداد
أما الترك فهم جيل من الجنس المغولي، قيل كانوا قديما يقطنون جبال ألاطاغ شمالي الصين، فارتحلوا منها غربا وانتشروا في السهول والأنجاد الواقعة بين تلك الجبال وبحر الخزر، فسميت «تركستان» أي بلاد الترك، وأسسوا فيها إمارات شتى، وكانوا على الجاهلية حتى كانت الدولة العباسية ببغداد، فاعتنقوا الدين الإسلامي وأخذوا من ذلك العهد يفدون على العراق للانتظام في جيشها وحكومتها.
ومن المعلوم أنه منذ افتتح العرب سوريا ومصر من يد الروم كان الخلفاء مضطرين لحفظ جيش قوي على الدوام ليوقفوا الروم عند حدهم في الشمال، وقد كان بينهم وبين ملوك الروم وقائع مشهورة، وكانت جيوش الخلفاء الراشدين ثم جيوش الأمويين بعدهم كلها من العرب، وأما العباسيون فإنهم ما قاموا إلا بنصر خراسان لهم كما قدمنا، فكان جيشهم مؤلفا من عنصرين عربي وعجمي، وكان العنصران متكافئين في القوة إلى أن توفي هارون الرشيد، وكان قد ولى عهده ولديه الأمين ثم المأمون على أن يكون المأمون في أثناء خلافة أخيه أمير خراسان، فأراد الأمين أن يخلع المأمون ويولي ابنه موسى العهد، فوقع النزاع بين الأخوين فنصر العرب الأمين والعجم المأمون وانتصر المأمون فاعتز بالعجم.
وقد قدمنا أن العرب تقلدوا سيف الإسلام عن اقتناع داخلي بصحة تعاليمه، فكانوا يقتحمون الموت لا طمعا بالربح أو المجد العالمي، بل لنيل الجزاء الموعود به، فلما طال اختلاطهم بالفرس وأهل الشام ومصر وذاقوا نعيم الدنيا؛ هجع فيهم ذلك التعطش لنعيم الآخرة، ففقدوا كثيرا من البسالة التي أظهروها في صدر الإسلام، بخلاف الترك وغيرهم من سكان الشمال فإنهم أهل جرأة ونشاط بالطبع، والقوى الحيوانية فيهم أشد منها في سكان الجنوب، وغايتهم الأولى في الحروب الربح المادي، ومن كانت هذه صفاته تبقى شجاعته ما دام له أمل بالربح.
فلما تولى المعتصم أخو المأمون الخلافة سنة 218ه/833م رأى نفسه مضطرا لمحاربة الروم ، وكان يتوهم أن لأهل العصبية من العرب الميل إلى العلويين؛ لذلك أبعد العرب، وبالغ في تقريب مماليك الترك، فألف منهم جيشا كبيرا وبنى لأجلهم مدينة سامرا شمالي بغداد، وجعلها مصيفا له، وحارب الروم حربه الشهيرة في آسيا الصغرى، ففتح عمورية وكان فتحا مبينا، وكان في أيامه أبو تمام الشاعر الشامي المشهور، فمدحه بقصيدة ذكر فيها فتح عمورية ومنها:
السيف أصدق إنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
فتح تفتح أبواب السماء له
وتبرز الأرض في أثوابها القشب
يا يوم وقعت عمورية انصرفت
عنك المنى حفلا معسولة الحلب
بصرت بالراحة الكبرى فلم ترها
تنال إلا على جسر من التعب
أبقت بني الأصفر المصفر كأسهم
صفر الوجوه وجلت أوجه العرب
وقد أبلى مماليك الترك بهذه الواقعة البلاء الحسن، فازداد المعتصم رغبة فيهم واستكثر منهم، حتى بلغ عنده ما يزيد عن خمسين ألفا، واتخذ منهم حراسا لنفسه وولى كبارهم محافظة الثغور وحكم الولايات، واقتدى به الخلفاء بعده فأخذت شوكة الممالك تقوى شيئا فشيئا حتى تغلبوا على الدولة، وأصبح الخلفاء ألعوبة في أيديهم، يولون ويعزلون من يشاءون.
وقام في شرق العراق في عهد الدولة العباسية عدة دول إسلامية عجمية استقلت عن الخلافة، أهمها أربعة وهي: السامانية، والبويهية، والغزنوية، والسلجوقية، وكان للخلفاء العباسيين مع البويهية والسلجوقية شأن غريب، وذلك أن كلا من هاتين الدولتين استولت على بغداد واستبدت فيها بالسلطة الفعلية، وما كان الخلفاء إلا صورة مع أنها كانت تستمد سلطتها من الخلفاء، وهذا مما لا مثيل له في تاريخ الدول. (ب) الدولة البويهية في بغداد
أما الدولة البويهية، فهي دولة من الديلم (جيل من الفرس) أسسها ثلاثة إخوة: علي والحسن وأحمد أولاد شجاع بن بويه، فملكت العراقين والأهواز والفرس والجبال والري، وكان ابتداء ظهورها بشيراز سنة 322ه/934م.
وفي سنة 334ه/945م سار أحمد بن بويه إلى بغداد واستولى عليها، وكان فيها الخليفة المستكفى بالله، فأقره وولاه الخراج وجباية الأموال، ولقبه معز الدولة، ولقب أخاه عليا عماد الدولة، وأخاه الحسن ركن الدولة، وأمر أن تضرب ألقابهم على الدنانير والدراهم. (ج) الدولة السلجوقية في بغداد
ولما كانت سنة 447ه/1056م قدم بغداد طغرل بك محمد بن ميكائيل بن سلجوق من جهات تركستان بجيش كبير من قومه الترك، وكان الخليفة على بغداد القائم بأمر الله، والسلطة الفعلية بيد الملك الرحيم من أمراء بني بويه، فقبض طغرل على الملك الرحيم واستبد هو وقومه بالدولة العباسية تحت رعاية خلفائها.
وفي سنة 469ه/1076م زحف على سوريا تنش أخو ملك شاه ابن ألب أرسلان ابن جغري بك داود، أخو طغرل بك السلجوقي، وكانت سوريا إذ ذاك بيد العرب الفاطميين الحاكمين في مصر، فانتزع دمشق وبيت المقدس من يدهم، فانتقلت السلطة الفعلية من يد العرب أهل الضيافة والكرم إلى أيدي السلاجقة أهل القسوة والطمع، فاضطهدوا حجاج الإفرنج إلى بيت المقدس، وحملوهم أشد أنواع المغارم والإهانات.
ثم اكتسح فريق من السلاجقة آسيا الصغرى، فملكوها من الروم سنة 474ه/1081م وجعلوا مدينة نيقية عاصمة لهم ثم نقلوها إلى قونية، وقد أمروا بهدم الكنائس النصرانية واستعباد أهلها، وهددوا ألكسيس قيصر الروم في عاصمته حتى استنجد بنصارى الغرب، ولما كانت آسيا الصغرى في طريق حجاج الإفرنج إلى القدس الشريف عظم الخطب على الحجاج واشتد الاضطهاد، وما زالت شرور السلجوقيين تتزايد من جهة والحماسة الدينية في أوروبا من الجهة الأخرى حتى طفح الكأس، وأعلن البابا أوروبانس الثاني الجهاد الديني سنة 1095م، وثارت الحروب الصليبية التي دامت نحو 200 سنة، وجلبت من المصائب والبلايا على الشرق والغرب ما يملأ ذكره المجلدات الضخمة، وذهب في سبيلها من النفوس البريئة ما يعد بمئات الألوف.
هذا وكان الفاطميون قد استعادوا بيت المقدس من الأتراك السلجوقيين سنة 1098م، فاستخلصها منهم الصليبيون في السنة التالية، وأسسوا فيها إمارة لاتينية عرفت بمملكة بيت المقدس. (د) الدولة الأيوبية في مصر
ثم ظهر صلاح الدين الأيوبي المشهور، وهو من رجال نور الدين السلجوقي صاحب دمشق، أرسله هذا مع عمه أسد الدين شيركوه إلى مصر نجدة للعاضد الفاطمي ضد وزيره «شاور» والصليبيين، فعاد الصليبيون إلى فلسطين، وتمكن أسد الدين من قتل شاور وتولى وزارة العاضد مكانه ، ثم مات فجأة سنة 1169م، فخلفه في الوزارة ابن أخيه صلاح الدين، فانتزع مصر من يد الفاطميين سنة 1171م، ودمشق الشام وشمال سوريا من السلجوقيين سنة 1176م، والقدس من يد الصليبيين سنة 1187م.
ودامت الدولة الأيوبية على مصر وسوريا إلى سنة 648ه/1250م فآلت إلى المماليك البحرية، إلا شمال سوريا فإنه بقي بيد خلفاء صلاح الدين مدة. (ه) دولة التتر في بغداد
هذا وفي أوائل القرن السابع للهجرة والثالث عشر للمسيح خرج التتر، وهم جنس آخر من المغول، من أطراف الصين بقيادة زعيمهم جنكز خان، واكتسحوا بلاد تركستان وأكثر الممالك الإسلامية التي كانت تتنازع الملك من حدود الصين إلى العراق، وأسسوا مملكة قوية في سمرقند في بلاد ما وراء النهر، وطمحوا بأبصارهم إلى بغداد وصاروا يترقبون الفرص للاستيلاء عليها.
فلما كانت سنة 655ه/1257م في عهد المستعصم الخليفة ال 27 من الخلفاء العباسيين، زحف على بغداد جيش من التتر بقيادة هولاكو حفيد جنكز خان، وحصرها، وكان قد كتب إليه يستحثه على الحضور الخائن مؤيد الدين العلقمي الشيعي وزير المستعصم لخلاف حصل بينهما، فدخل هولاكو بغداد في 26 محرم سنة 656ه/3 فبراير سنة 1258م، وقتل المستعصم وأولاده وكل من وجده من بني العباس، وقضى على الدولة العباسية، وتشتت من بقي من ذرية بني العباس في البلاد.
ثم إن هولاكو رتب الولاة ببغداد وزحف على آسيا الصغرى وسوريا، فافتتح حلب ودمشق من خلفاء صلاح الدين الأيوبي سنة 658ه/1260م، ووجه جيشا إلى فلسطين قصد الزحف منها على مصر. (و) دولة المماليك البحرية في مصر
وكانت مصر وفلسطين إذ ذاك بيد الملك المظفر سيف الدين قطز من المماليك البحرية، فخرج لقتال التتر فأدركهم على عين جالوت قرب بيسان، فأوقع بهم وطردهم من سوريا، وأعاد للأيوبيين حمص وحماة، وأناب عنه في سائر المدن رجالا يثق بهم، وعاد إلى مصر.
وكان بعض المفسدين قد أوغروا صدره على بيبرس أكبر قواده؛ فأضمر له السوء، وبلغت بيبرس الوشاية؛ فكمن لقطز في الطريق وقتله قبل أن يبلغ قاعدة سلطانه، وتولى مصر مكانه سنة 658ه/1260م.
وأراد بيبرس أن يعزز زعامته للإسلام فدعا إلى مصر أحد أولاد الخلفاء العباسيين الذين فروا من وجه التتر من بغداد، وبايعه الخلافة ولقبه بالمستنصر، وكان ذلك سنة 659ه/1261م، وضرب النقود باسمه واسم الخليفة، فثبته الخليفة لقاء ذلك في السلطنة وخلع عليه، فأصبح بيبرس من ذلك الحين زعيم الإسلام شرعا وفعلا. «وقد احتفظ بالسلطان التام، ولم يعط الخليفة غير السلطة الدينية ومظاهر السلطة السياسية»، وجهز بيبرس المستنصر بجيش ووجهه لقتال التتر طمعا باسترجاع بغداد، ولكن التتر فتكوا به وفرقوا جيشه.
وفي ذي الحجة سنة 660ه/أكتوبر سنة 1262م حضر إلى مصر عباسي آخر يسمى أحمد بن الحسن، بن المستظهر، فأثبت نسبه وبايعه السلطان بيبرس والعلماء، ولقب الحاكم بأمر الله، وهو جد الخلفاء العباسيين في مصر.
هذا وكان هولاكو - قبل زحفه على سوريا - قد قصد قونية عاصمة السلجوقيين في آسيا الصغرى، وكان عليها إذ ذاك السلطان علاء الدين، فصدهم عن بلاده، وكان الفضل في ذلك للأتراك العثمانيين الذين كان لهم أكبر الشأن مع العرب، وإليك البيان. (2-8) الترك العثمانيون والعرب، منذ سنة 922ه/1517م إلى اليوم
لما زحف جنكز خان بجيوشه من الشرق وغزا تركستان في أوائل القرن الثالث عشر كما قدمنا، جلت من وجهه قبيلة قابي خان بقيادة زعيمها سليمان شاه بن ألب أرسلان سنة 621ه/1224م، وسارت غربا من شرق بحر الخزر تطلب مقاما لها ومراعي لمواشيها حتى أتت الفرات، وفيما هم يعبرون النهر عند قلعة جعبر غرق زعيمهم سليمان شاه، فدفنوه عند القلعة، قالوا: وتشاءم بعضهم من غرق زعيمهم فعادوا إلى بلادهم، وبقي منهم نحو 400 خيمة برئاسة أرطغرل بن سليمان شاه، فنزلوا في نواحي مدينة «أخلاط» غربي بحيرة «وان» وأقاموا هناك مدة، ثم ارتحلوا غربا يخترقون آسيا الصغرى، واتفق أن كان ارتحالهم في العهد الذي زحف فيه هولاكو التتري من بغداد لفتح آساي الصغرى من الأتراك السلجوقيين كما مر.
فلما اقترب الأتراك العثمانيون من قونية شاهدوا من بعد غبارا متصاعدا وحربا قائمة، فأقروا على الدخول في الحرب انتصارا لأضعف الفئتين وانتصروا لها فعلا، وهم لا يدرون لمن ينتصرون! ثم علموا أنهم انتصروا للسلجوقيين وقهروا التتر، فشكروا الله على ذلك، وسر علاء الدين صاحب قونية من فعلهم فأقطعهم بلاد فريجيا على حدود بلاده مما يلي مقاطعة بورصة التي كانت إذ ذاك بيد الروم، وكانت مدينة سكود أهم مدن فريجيا فاتخذها أرطغول مركزا له، فولد فيها ولد سنة 656ه/1258م سماه عثمان، وهو جد سلاطين آل عثمان ومؤسس الدولة العثمانية.
عثمان الأول:
وفي سنة 680ه/1281م توفي أرطغول، فخلفه ابنه عثمان، فأغار على أعداء السلاجقة في قرة جه حصار وبلاد أخرى واستولى عليها؛ فسر منه السلطان علاء الدين وأعلنه أميرا، وأهدى إليه الطبل والحربة علامة الإمارة ولقبه بالغازي، وذلك سنة 699ه/1299م.
وتوفي علاء الدين في تلك السنة بلا عقب، فاستقل الولاة السلجوقيون كل منهم في ولايته، وأعلن عثمان أيضا استقلاله في ولايته، ونقل كرسيه إلى مدينة يني شهر، وذلك في 27 يناير سنة 1300م، وهو تاريخ تأسيس الدولة العثمانية.
وكانت بورصة إذ ذاك لا تزال بيد الروم، فزحف عليها وحصرها، وتوفي سنة 726ه/1326م قبل أن يدخلها جيشه.
أورخان:
فخلفه ابنه أورخان، ففتح بورصة ونقل إليها كرسي ملكه، وألف جيشا من 6000 أسير نصراني اعتنقوا الإسلام وسموا «الإنكشارية»، وعبر بهم الدردنيل سنة 1356م، وفتح مدينة غليبولي وهي أول مدينة استولى عليها العثمانيون في أوروبا.
مراد الأول:
وقام بعده ابنه مراد الأول سنة 761ه/1360م فاستولى على أكثر الإمارات السلجوقية في آسيا الصغرى، ثم اجتاز الدردنيل وافتتح مدينة أدرنة سنة 1361م، وجعلها كرسي ملكه.
بايزيد الأول:
وخلفه ابنه بايزيد الأول سنة 792ه/1389م، فأدخل سائر بلاد السلاجقة في آسيا الصغرى في سلطته، ودوخ البلقان كلها وبلاد اليونان، وحاصر القسطنطينية عشر سنوات، وكان مصمما على أخذها.
تيمورلنك:
وفي هذه الأثناء ظهر في بلاد التتر الجبار العظيم تيمور لنك، ولم يكن من الأسرة المالكة، بل كان متزوجا بأميرة من أسرة جنكز خان، فزحف على بغداد وافتتحها سنة 1393م، ثم تقدم إلى آسيا الصغرى للاستيلاء عليها، فلما بلغ خبره السلطان بايزيد رفع الحصار عن القسطنطينية، وسار بجيوشه فالتقى تيمور لنك بالقرب من مدينة أنقرة سنة 805ه/1402م، وجرت هناك واقعة عظيمة قتل فيها خلق كثير من الفريقين، وكانت الغلبة لتيمور لنك ، ووقع السلطان بايزيد أسيرا في يده، قيل فسجنه في قفص من حديد فمات قهرا سنة 1403م، وكان تيمور لنك قد عزم على فتح القسطنطينية ولكنه لما لم يجد السفن لعبور البوغاز عدل عن عزمه، وزحف على دمشق الشام فخربها تخريبا عظيما، ويقال: إنه قتل عددا كبيرا من أهله انتقاما للحسين؛ لأنه كان شيعيا، ثم عاد إلى بغداد فمات فيها حفيده محمد فاغتم لموته كثيرا وعاد إلى بلاده.
محمد الأول:
وخلف بايزيد ابنه محمد الأول سنة 816ه/1413م.
مراد الثاني:
ثم مراد الثاني بن محمد الأول 824ه/1421م، فوالى الفتوحات ووسع فرقه الإنكشارية حتى زادت على مائة ألف مقاتل، وأتم تدويخ اليونان.
محمد الثاني:
ملك بعده ابنه محمد الثاني سنة 855ه/1541م، ففتح القسطنطينية سنة 857ه/1453م على عهد إمبراطورها قسطنطين الثاني عشر، ونقل إليها عاصمة السلطنة ولم تزل إلى اليوم.
بايزيد الثاني:
وخلفه ابنه بايزيد الثاني سنة 886ه/1481م، فسار إلى مصر لنزعها من يد المماليك الجراكسة فلم يفلح، وكانت سلطة الإنكشارية قد قويت في السلطنة، فلما كانت سنة 918ه/1512م اضطروه أن يتنازل لابنه سليم.
سليم الأول:
وفي سنة 922ه/1516م زحف السلطان سليم بجيش عظيم على الشام ثم على مصر فافتتحهما كما مر، وكانت الحجاز تابعة لمصر فاستولى عليها، ثم نظم مصر وولى عليها الولاة وعاد إلى الآستانة.
وكان في مصر عند افتتاحها المتوكل على الله الخليفة ال 55 من الخلفاء العباسيين، فصحبه إلى الآستانة ومات هناك، وبذلك انتهى أمر الخلافة العربية.
سليمان الأول:
وخلف السلطان سليم ابنه سليمان الأول سنة 926ه/1520م، فسن لبلاده القوانين الإدارية والعسكرية فلقب بالقانوني، وكانت العراق في ذلك العهد بيد الفرس افتتحوها من التتر سنة 1502م، فلم يسع الترك بعد أن ملكوا سوريا ومصر والحجاز أن تكون العراق شوكة في جنبهم، فسير السلطان سليمان جيشا ففتح العراق سنة 1535م.
ثم أرسل عمارته إلى بلاد المغرب فطرد الإسبان منها، واستولى على تونس والجزائر وطرابلس الغرب، فأصبح تحت سلطة ترك الآستانة أو تحت سيادتهم جميع الممالك العربية، وفيها بلاد الشام والعراق التي تعد سياج الحرمين والحرمان الشريفان، وبيت المقدس، والنجف ، وكربلاء، وسامرا، وغيرها من الأماكن المقدسة.
وقد بلغت الدولة العثمانية في عهد السلطان سليمان مبلغها من الصولة والاتساع فامتدت من بودابست على نهر الطونة إلى أصوان شمالا وجنوبا، ومن نهر دجلة إلى حدود مراكش شرقا وغربا، فشملت رومانيا، والسرب، والبلقان، والبوسنة والهرسك، والجبل الأسود، وألبانيا، واليونان في أوروبا، وقبرص ورودس وكريت في البحر المتوسط، وآسيا الصغرى والشام والعراق والحجاز واليمن في آسيا، ومصر والنوبة وبني غازي وطرابلس الغرب وتونس والجزائر في أفريقيا، وكلها كما ترى بلاد أجنبية عن الترك جنسا أو جنسا ودينا، ومعلوم أن الأمة المستعمرة التي تحكم أمما من غير جنسها أو من غير دينها لا بد لتعزيز حكمها أن تتوافر فيها صفات وشرائط خاصة أهمها: (1)
أن تكون أسمى إدراكا وأوسع علما وأرقى حضارة وأقوى عدة وأتم نظاما من الأمم التي تحكمها. (2)
أن يكون أساس حكمها العدل، وأن تحكم كل قوم بما يناسب حالهم وزمانهم من الشرائع والقوانين. (3)
أن تعطي الأمم المحكومة من حق الحكم على قدر ما عند تلك الأمم من الاستعداد الطبيعي والاكتسابي لذلك. (4)
أن تكون وطأة حكمها خفيفة لينة حتى إن الأمم المحكومة لا تكاد تشعر أنها محكومة من غير أبنائها. (5)
ألا تقدم على فتح بلاد جديدة حتى تكون قد نظمت البلاد التي في يدها، ووطدت فيها أسباب الأمن والراحة والرقي.
وهذه الشرائط وهذه الصفات لم تتوافر في خلفاء سليمان القانوني على الآستانة، وقد دل التاريخ أن العربي على بداوته وأميته أصلح جدا للاستعمار من ترك الآستانة.
انظر إلى العراق الذي كان في عهد حمورابي قديما والرشيد حديثا جنة الله في أرضه كيف أصبح الآن وأكثر أراضيه قفار، وقد كانت جبايته في عهد المأمون نيفا وعشرين مليون دينار، والآن لا يزيد عن مائتي ألف جنيه.
وهذه سوريا التي كانت في عهد الأمويين تسع 12 مليونا من السكان، وجبايتها 1730000 دينار لا يكاد عدد سكانها يبلغ الآن مليونين ونصف مليون من النفوس، وجبايتها لا تتجاوز 750 ألف جنيه، وقد أقفرت ديارها وعفت آثارها وتشتت أهلها في أقاصي المعمور يقاسون من ذل الغربة وآلام البعاد ما يفتت الأكباد.
وماذا بمصر؟ نزلها الفراعنة قديما والفاطميون حديثا فتركوا في واديها من الآثار ما لا يزال قائما إلى اليوم ناطقا بفضل العرب وشاهدا بمقدرتهم الطبيعية واستعدادهم الفطري للوصول إلى أعلى درجات التمدن والارتقاء، ولقد كانت جباية مصر في عهد عمرو بن العاص العربي البدوي 20 مليون دينار، فأمست في آخر حكم ولاة الآستانة على مصر قبل أن تولاها محمد علي باشا 65 ألف جنيه.
وقد بدأت الدولة العثمانية في الانحطاط منذ عهد السلطان سليمان القانوني، وانتقض عليها جميع الشعوب التي خضعت لسلطانها، ففازت الشعوب الأوربية كلها بالاستقلال التام، وفازت مصر باستقلالها الإداري عن يد الأسرة المحمدية العلوية كما قدمنا، ولم يبق للدولة إلا جزء صغير في أوروبا وآسيا الصغرى وسوريا والعراق وبعض جزيرة العرب، وكان الإنكشارية الذين بسواعدهم بنوا مجد الدولة هم السبب الأعظم في هدمه.
ولقد بلغ الظلم والخراب حدهما في عهد السلطان ال 34 عبد الحميد السابق، فألف الاتحاديون جمعية سرية استمالوا إليها نخبة شبان الجيش فدكوا عرش عبد الحميد، وبنوا على أنقاضه حكومتهم الدستورية، وكان ذلك سنة 1908، وقد حبذت الأمة كلها عملهم ونصرتهم على اختلاف الأجناس والأديان، ولكنهم ما لبثوا أن استأثروا بالسلطة وأرادوا أن يكون لهم الأمر والسيادة، وللعرب - ولسائر الأمم العثمانية - الخضوع والطاعة، وقد عملوا على تعميم اللغة التركية وطمس اللغة العربية حتى في المحاكم، فقام عقلاء الترك والعرب وبينوا لهم خطأ هذه الخطة وطالبوا بالإصلاح على مبدأ اللامركزية، وقالوا: إنه بهذا المبدأ وبه وحده يحفظ كيان الدولة ونظامها، فما صغوا لهذا القول ولم يكن لطلاب الإصلاح أمة مستجمعة القوى متوحدة المقاصد تشد أزرهم، ففشلوا.
والآن فإن الاتحاديين على رغم عقلاء الترك والعرب من رعايا الدولة والنصحاء المخلصين من غير رعاياها قد زجوا بأنفسهم وبالدولة في هذه الحرب الجهنمية في جانب الألمان لغير ما سبب، فأضاعوا إلى الآن عشرات بل مئات الألوف من نخبة شبان البلاد وكهولها، وعطلوا المتاجر وأوقفوا الصنائع وجلبوا على أنفسهم وعلى أمتهم من الويلات والأحزان ما لا يعبر عنه بقلم أو لسان، وماذا جنوا؟
أما الألمان فإنهم جنوا نفعا كبيرا ظاهرا لأمتهم ولبلادهم، فقد أشغلوا بجيوش الترك والعرب قسما كبيرا من جيوش أعدائهم، وأما الاتحاديون فإنه لم يكن لديهم المال للإنفاق على الحرب فاستمدوه من الألمان، فوضع الألمان أيديهم على مرافق البلاد الحيوية ومراكزها الرئيسية تأمينا على أموالهم، بل وضعوا أيديهم على الجيش زهرة شبان البلاد ليديروه بما يوافق مصلحتهم، فأصبحت البلاد العثمانية برمتها من ملكية وعسكرية، عربية وتركية، مسلمة ومسيحية؛ مستعمرة ألمانية، والحلفاء الآن باذلون الجهد لانتزاعها من يد الألمان، وهناك أدلة كثيرة على أنه لا بد من فوز الحلفاء عاجلا أو آجلا، وفي الحالين فإن الاتحاديين قد أضاعوا ملكهم بسوء سياستهم.
أعطيت ملكا ولم تحسن سياسته
وكل من لا يسوس الملك يخلعه
وأما جزيرة العرب فالطبيعة ورجالها تحميها، وقد أعلن الحلفاء استقلالها تحت يد أمرائها، وأصدر الجنرال السر جون مكسويل العالم البريطاني بمصر منشورا وجهه إلى «العرب الكرام» بتاريخ 31 ديسمبر سنة 1914 جاء فيه ما نصه:
إن جلالة الملك جورج الخامس ملك الإنكليز قد أعلن أنه لا يتخذ إجراءات حربية برية أو بحرية في بلاد العرب أو في موانيها، ما لم تمس الحاجة إلى ذلك قصد حماية مصالح العرب من اعتداء الترك وغيرهم، أو إنجاد من ينهض من العرب للخلاص من ربقة الترك. (3) صفة جزيرة العرب وأقسامها الطبيعية والإدارية ومدنها وموانيها وقبائلها الشهيرة وأمراؤها الحاليون
حدودها:
يراد بجزيرة العرب البلاد التي يحدها من الشمال بلاد الشام والفرات، ومن الشرق الفرات وخليج العجم وبحر عمان، ومن الجنوب المحيط الهندي، ومن الغرب الأحمر.
صحاريها:
ومعظم أراضي هذه البلاد صحارى رملية، وخصوصا ما في وسطها ما بين اليمن وحضرموت وعمان ونجد فإن فيها الصحراء الكبرى التي تعرف «بالربع الخالي» وهي قفر مرمل، لا نبات فيه ولا ماء، ولا تزال الرياح تثير رمالها الناعمة وتكيف سطحها على أشكال شتى حسب مهابها، فتجعل السير فيها خطرا، وإذا ما خاطرت قافلة بالسير على جانبها في زمن الرياح التهمتها الرمال ودفنتها في جوفها .
ويمتد من شمال هذه الصحراء لسان يعرف «بالدهناء» يفصل بين الحسا ونجد، ثم يميل نحو الغرب ويتسع حتى يتصل «بالجوف الشمالي» المعروف «بدومة الجندل» فيسمى هناك «نفود الجوف»، وإلى الغرب من نفود الجوف بادية «الحسمة»، وقد عرفنا هذا الجوف الشمالي تمييزا له عن «الجوف الجنوبي» المعروف «بجوف عمر» في منتصف الطريق بين بريدة والعقبة، وهناك جوف آخر بين الربع الخالي واليمن.
ويخترق الدهناء طرق شتى من نجد إلى عمان والأحساء والعراق، وفي القاموس الدهناء الفلاة، وأرض في نجد لبني تميم وتقصر قال الشاعر:
يمرون بالدهنا خفافا عيابهم
ويرجعن من دارين بجر الحقائب
وإلى شمال الجوف الشمالي بين جبال حوران والفرات «بادية الشام الكبرى»، ويفصل بينها وبين نفود الجوف «وادي السرحان» العظيم الآتي من جبال حوران.
جبالها وسهولها:
ويخترق الجانب الغربي من جزيرة العرب من الجنوب إلى الشمال «جبل الحجاز»، وهو أكبر جبالها وأشهرها، ويعلو بعض قممه نحو 3000 متر عن سطح البحر، وفيه ينابيع غزيرة وغابات وبساتين ومزارع وقرى عامرة بالسكان.
وبين هذا الجبل والبحر الأحمر سهل منخفض ضيق يسمى «تهامة»، أرضه مرملة وبعضه صالح للزراعة، وعرضه يتراوح بين 40 و80 كيلومترا، وإلى شرق هذا الجبل بلاد مرتفعة واسعة جيدة الهواء تسمى «نجد»، وقد سمي الجبل بالحجاز؛ لأنه حاجز بين تهامة ونجد، ويسمى القسم الجنوبي منه بالسراة، ويسمى القسم الشمالي من نجد «شمر»، وأشهر جبال نجد: العارض وطويق، وأشهر جبال شمر: أجا وسلمى.
أوديتها:
ويسيل من جبالها ومرتفعاتها في زمن الأمطار أودية شتى شهيرة تصب في البحر الأحمر والمحيط الهندي، أو تغور في الرمال قبل أن تصل البحر، فإذا ارتفعت الأمطار جفت الأودية كأن لم يكن فيها ماء، وليس في الجزيرة كلها نهر واحد حي كما قدمنا، ولكن في كثير من أوديتها ينابيع حية تكسبها الخصب والنماء.
أقسامها:
وتقسم جزيرة العرب الآن إداريا إلى عشرة أقسام، وهي: «الحجاز، وعسير، واليمن، وحضرموت، وعمان، وقطر، والبحرين، والكويت، ونجد ويتبعها الأحسا، وشمر»، وأما «بادية الشام الكبرى» فمفصولة عنها إداريا. (3-1) الحجاز
أما الحجاز فهي القسم الشمالي الغربي من الجزيرة، ما بين الشام وعسير اليمن، وهي قسمان تهامة وجبل، وأشهر مدن تهامة: «مكة» وهي عاصمة الحجاز، «والمدينة» وهي على عشر مراحل شمالي مكة، وفيهما الحرمان الشريفان.
وأشهر مدن الجبل: الطائف، وهي مصيف مكة على ثلاث مراحل منها جنوبا.
وأشهر مواني الحجاز من الشمال: المويلح، وضبا، والوجه، وينبع وهي ميناء المدينة، ورابغ، والقضيمة، وجدة وهي ميناء مكة بينهما 80 كيلومترا، والليث.
وأشهر قبائل الحجاز: «الأشراف» في مكة وضواحيها. هم نسل الشريف أبي نمي القرشي الذي تولى إمارة مكة سنة 932ه/1525م، وحفظت الإمارة في نسله إلى اليوم، وقد أنجب ثلاثة أولاد صاروا رءوس ثلاث قبائل لكل منهم فروع، وهم: الشريف حسن جد الشريف حسين أمير مكة الحالي، والشريف بركات، والشريف أحمد. «وقريش» «وهذيل» حول مكة. «وابن الحارث» «والبقوم» «وسبيع» شرقيها. «وبنو مالك» «والجحادلة» «وفهم» جنوبيها. «وحرب» قبيلة جسيمة بين مكة والمدينة، وهي فرعان كبيران: بنو سالم وبنو مسروح، وبنو سالم فرعان: بنو ميمون والمراوحة المشهورون بالحوازم، وبنو ميمون فروع أشهرها صبح والمحاميد والأحامدة، ومن هؤلاء فرع يقال لهم: الشواربية القاطنين بقليوب مصر، وبنو مسروح فرعان: زبيد وبنو عمرو، وبنو عمرو فروع أشهرها بشر والحمران. «وعتيبة» «وسليم» «ومطير» بين الحجاز ونجد. «وثقيف» حول الطائف. «وجهينة» بين ينبع والوجه وهي فرعان كبيران: بنو مالك وبنو موسى، وبنو مالك فروع أشهرها رفاعة والحمدة، وبنو موسى فروع أشهرها العلاوين والعوامرة، ومن بني موسى فرع بمصر بقرية لهم تابعة لشبين القناطر. «وبلي» بين الوجه والعقبة، وقد عرفت بلادهم قديما ببلاد «مديان». «والحويطات» «وبنو عطية» في الحسمة شمالي بلي، ويتفرع من الحويطات: الجوازي والعمران والدبور والترابين وغيرهم. «والشرارات» شرق الحسمة. «وعنزة» في نفوذ الجوف الشمالي، ومن القبائل الشهيرة: «لحيان»، «وخزاعة».
وجميع ما ذكرنا من قبائل الحجاز ترجع بأنسابها إلى عدنان.
والحجاز الآن بيد أميرها الشريف حسين بن علي بن محمد أمير مكة، تولى الإمارة في القعدة سنة 1328ه بعد ابن عمه الشريف علي بن عبد الله بن محمد نزيل مصر حالا، وكان الشريف علي قد تولاها في 14 جمادى الأولى سنة 1323ه بعد وفاة عمه الشريف عون الرفيق، وفي الحجاز الآن حاميات من الترك في مكة والمدينة وجدة والطائف. (3-2) عسير
أما عسير، فبين الحجاز واليمن، وهي قسمان: تهامة وجبل، أما جبل عسير فيعرف بالسراة، وأشهر مدنه: أبها وهي عاصمته، ومحايل، ورغدان، والنماص.
وأما تهامة عسير فأشهر مدنها «صبيا» وهي عاصمتها، «وأبو عريش» على نحو 30 كيلومترا جنوب صبيا.
وأشهر مواني عسير من الشمال: «القنفدة وهي ميناء أبها، والوسم، والشقيق، وجيزان وهي ميناء صبيا على نحو 30 كيلومترا منها غربا، وميدي، وحبل.»
وأشهر قبائل جبل عسير: «غامد، وزهران، وشمران، وخثعم، والمحلف، وأكلب، ومعاوية، وبنو سلول، وبالأسمر، وبنو شهر، وبنو عمرو، وبالقرن، وبالحارث، وزبيد، وقحطان، وشهران، وبالأحمر، وربيعة، ورجال الخميسين، وبنو أسلم، ومسروح.»
وأشهر قبائل تهامة عسير: «كنانة، والمرازيق، ورجال المع، والرايش، وبنو قيس، والجعافرة، والعرايشة أو رجال أبو عريش، والمسارحة، وبنو مروان، وبنو حسن، وبنو عباس، وبنو زيد، وبنو نشر أو النواشرة، وبنو شهاب.»
وجميع من ذكرنا من قبائل عسير ينتسبون إلى قحطان إلا أكلب، ومعاوية، وبنو سلول، وكنانة، وبنو قيس، وبنو عبس؛ فإنهم ينتسبون إلى عدنان.
شكل 4: السيد مصطفى عبد العال الإدريسي.
شكل 5: السيد أحمد الشريف السنوسي. (أ) السيد محمد علي الإدريسي
وعسير الآن بيد أميرها العربي الأبي الكبير السيد محمد علي الإدريسي حفيد السيد أحمد بن إدريس، العالم المتصوف الكبير.
ولد السيد أحمد بن إدريس في بلدة ميسور، من أعمال فاس ببلاد المغرب في 21 رجب سنة 1173ه، وهو من قبيلة من الأشراف تدعى «العرايش»، ويتصل نسبه بمولاي إدريس فاتح المغرب، المدفون بفاس المنتسب إلى الحسن بن علي بن أبي طالب.
تلقى العلوم بفاس إلى أن برع فيها، وأذن له بالتدريس، وكان يميل بالطبع إلى التصوف؛ فأخذ الطريقة الشاذلية عن الشيخ عبد الوهاب التازي عن السيد عبد العزيز الدباغ، ثم رحل إلى مكة عن طريق مصر فوصلها سنة 1214ه، فأقام فيها حلقة للتدريس وأسس طريقته الصوفية المعروفة باسمه، وفي سنة 1229ه أتى صعيد مصر وأقام في الزينية شمالي الأقصر مبشرا بطريقته إلى سنة 1234ه، فعاد إلى مكة فأقام فيها إلى سنة 1244ه، ثم توجه إلى اليمن فمكث بزبيد بضعة أشهر وعاد إلى صبيا، فأقام فيها إلى أن توفي في 21 رجب سنة 1253ه/21 أكتوبر سنة 1837م وله هناك قبر يزار، وقد أخذ عنه في مكة كثير من العلماء الأعلام نخص بالذكر الذين أسسوا طرقا للصوفية اشتهرت بأسمائهم، وهم:
السيد محمد عثمان المرغني: صاحب الطريق المرغنية في السودان ومصر والنوبة.
والسيد محمد علي السنوسي: صاحب الطريق السنوسية في صحراء طرابلس الغرب.
والشيخ محمد حسن الظافر المدني: صاحب الطريق المدنية في طرابلس الغرب وغيرها.
والشيخ محمد المجذوب «السواكني»: صاحب طريقة المجاذيب في السودان الشرقي.
والشيخ إبراهيم الرشيد الدنقلاوي الشايقي: صاحب الطريقة الرشيدية بمكة والسومال والسودان وصعيد مصر.
وقد ترك عدة أولاد أشهرهم: السيد محمد وهو الأكبر، والسيد عبد العال.
أما السيد عبد العال فإنه بعد وفاة والده ارتحل إلى صعيد مصر، وسكن الزينية فأقام فيها نحو 18 سنة، ثم توجه إلى دنقلة فتوفي فيها سنة 1295ه، وله هناك قبر يزار، وقد ترك تسعة أولاد أكبرهم السيد محمد شريف، وأوسطهم السيد مصطفى.
أما السيد محمد بن السيد أحمد إدريس فإنه انتقل بعد وفاة والده إلى الحديدة، وأقام هناك بخلوته نحو 50 سنة لم يخرج منها، ثم أمر أن يحمل إلى صبيا فمكث فيها 4 أيام ومات، ودفن بجوار والده، وكان معدودا من كبار الأولياء، وقد ترك ولدا وحيدا وهو السيد علي، أقام وتوفي بصبيا سنة 1324ه، وكان كأبيه معدودا من كبار الأولياء، وقد ترك أربعة أولاد أكبرهم السيد محمد علي الذي نحن بصدده.
ولد محمد علي بصبيا سنة 1293ه، وتلقى العلوم الدينية في مسجد جده هنا، ثم أتى مصر سنة 1314ه، وأخذ العلوم الدينية في الأزهر الشريف، وفي سنة 1317ه زار السيد محمد المهدي السنوسي في الكفرة عن طريق الجغبوب، ثم عاد إلى الأزهر فبقي إلى أواخر سنة 1321ه، ثم توجه إلى دنقلة وزار قبر عمه السيد عبد العال وبقي هناك مدة ثم عاد إلى صبيا بطريق بربر، وسواكن فوصلها سنة 1323ه/1905م.
وهو طويل القامة، بدين الجسم، عظيم المنكبين، واسع العينين، أسمر اللون، مهوبا وقورا.
وقد نشأ على حب العلم والأدب وكره الظلم والاستبداد، عالي الهمة شديد الذكاء، كريم الطبع عزيز النفس، غيور على قومه ودينه وبلاده مع الميل إلى الزهد والتقوى، فلما عاد إلى صبيا وجد أهلها يئنون من ظلم الحكام الترك واستبداد الجباة، فنصحهم بترك الظلم والسير في قومه بسنة الله ورسوله، وكرر النصح لهم مرارا فما صغوا له، ونصرته قبائل تهامة فأعلن استقلاله في صبيا سنة 1327ه وحارب الترك وانتصر عليهم في عدة مواقع، وأخذ منهم جيزان عنوة، وهو الآن يناوئهم في جبل عسير وتهامة واليمن. (ب) السيد مصطفى عبد العال الإدريسي
وأكبر صفي له من أولاد عمه السيد مصطفى بن السيد عبد العال الإدريسي في الزينية، وهو الآن في الثانية والأربعين من عمره، طويل القامة، بهي الطلعة، كريم الخلق، رقيق الطبع، ذكي الفؤاد، طيب النفس، حسن العشرة. ما مازجه أحد إلا أحبه وصافاه، والسيد محمد علي الإدريسي يحبه حبا جما، ويعتمد عليه في جميع أموره في السياسة الخارجية، وقد استدعاه مرارا إلى صبيا مركز حكومته، ووسطه في نهو بعض المهام السياسية نظرا لما يعهده فيه من الفطنة والذكاء وسداد الرأي واتساع الصدر مع الغيرة الحسنة لمصلحة أهله والعرب كافة. (3-3) اليمن
واليمن في جنوب عسير، وتمتد إلى سلطنة لحج، وهي أيضا قسمان: تهامة وجبل.
وأشهر مدن الجبل: «صنعاء» وهي عاصمة اليمن، «ومناخة» وهي في منتصف الطريق بين صنعاء والحديدة على 100 كيلومتر من صنعاء و150 كيلومترا من الحديدة. «وعمران» إلى الشمال من صنعاء. «وحجة» إلى الغرب من عمران. «وحجور» إلى الشمال من حجة، وإلى شمال يعمران وحجة جبل شهارة الشهير بحصانته، وفيما بين حجة وعمران جبل كوكبان المشهور بارتفاعه. «وذمار» إلى الجنوب من صنعاء، «ويريم» إلى الجنوب من ذمار. «ورداع» شرقي يريم، «وقعطبه»، «وإب» جنوبي يريم في سفح الضالع الغربي، ويمتد هذا الجبل جنوبا إلى لحج.
وأشهر مدن تهامة: «بيت الفقيه» على مرحلة ونصف من الحديدة جنوبا بشرق. «وزبيد» على نحو مرحلتين جنوبي بيت الفقيه، «وتعز» على نحو ثلاث مراحل جنوبي زبيد، «وباجل» على طريق صنعاء بين الحديدة ومناخة. «والحج جيله» على طريق صنعاء بين باجل ومناخة، «والزيدية» بين الحديدة وباجل بانحراف إلى الشمال. «والمراوعة» على ست ساعات شرق الحديدة.
وأشهر مواني اليمن: «اللحية» وبقربها جزيرة قمران، وهي محجر اليمن. «والحديدة» وهي ميناء صنعاء، «ومخا» وهي ميناء تعز. «وعدن» وهي بيد الإنكليز منذ سنة 1839م، ومركز تجاري مهم بين الشرق والغرب.
وأشهر قبائل اليمن: «الزيدية» وهم فرع من العلويين، ويلقب أميرهم بأمير المؤمنين وينتسبون إلى الإمام زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
وأشهر قبائل الزيدية: «حاشد وبكير» في جنوب جبل لشهارة. «وخولان» إلى الشمال الغربي من جبل شهارة، «والعود، والشعر، وعمار» في بلاد قعطبة.
وأشهر قبائل تهامة اليمن: «بنو الأهدل، وهم أشراف تهامة، وأهم مراكزهم المراوعة، وكبيرهم السيد عبد الباري، والوعظات، وصليل، والجرابح، والقحرة، والزرانيق.»
وجميع قبائل اليمن ينتسبون إلى قحطان إلا بنو الأهدل، فإنهم ينتسبون إلى عدنان.
واليمن الآن بيد الإمام يحيي أمير الزيدية، تولى بعد وفاة أبيه الإمام محمد حميد الدين سنة 1320ه/1902م، ومركزه «قفلة عذر» على أكمة غربي جبل شهارة، على مرحلتين منه، ومعقله ومصيفه جبل شهارة، وأول إمام ذكره التاريخ الحديث للزيدية هو الإمام الهادي يحيي بن الحسين، وفي أخباره أنه حارب القرامطة وقهرهم، وكان مركزه صعدة، وقد دخلت اليمن في حكم العثمانيين سنة 1839م كما قدمنا، وفيها الآن حاميات صغيرة من الترك في صنعاء والحديدة واللحية وغيرها.
ويتبع اليمن عدة سلطنات وإمارات مستقلة أهمها:
إمارة صعدة: شمالي جبل شهارة، وأميرها السيد محمد أبو نيبة وأهلها زيدية.
وإمارة نجران: شمالي صعدة على حدود نجد الجنوبية، وأهلها يام أو مكارمة.
وإمارة مأرب سبا: في جنوب الجوف اليمني، وبينها وبين الجوف آثار «معين».
وسلطنة لحج: شمالي عدن.
وسلطنة يافع: إلى الشمال الشرقي من لحج.
وسلطة البيضا: بين يافع ومأرب.
وسلطنة العوالق: شرقي يافع ومركزها النصاب. (3-4) حضرموت
أما حضرموت، فعلى المحيط الهندي في جنوب الربع الخالي وهي قسمان: حضرموت البحر وحضرموت البر.
أما «حضرموت البحر» فأشهر موانيها: المكلة وهي عاصمة البلاد، والشحر.
وأهم قبائلها : آل أبو وزير، وآل أبو رشيد، وسلطانها «غالب القعيطي.»
وأما «حضرموت البر» ففي الشمال وعاصمتها «سيوون» على ثماني مراحل من المكلة.
ومن مدنها: تريم، وشبام، والسيبان، وبنو شيبان.
وأهم قبائلها: آل كثيري ومنها سلطانهم منصور الكثيري، وآل مرعي، وآل عموري.
وفي حضرموت البر عدة قبائل مستقلة عن الكثيري أهمها: كندة، ويقال لها: الصاعر أيضا، والمناهيل، والحموم، والعوامر، والعوابثة، ونهد، وبنو تميم، وآل جابر، والجعدة.
ويحاد حضرموت البر من الشمال «الأحقاف» وهي داخلة في الربع الخالي. (3-5) عمان
أما عمان فهي الزاوية الجنوبية الشرقية من الجزيرة شرقي الربع الخالي.
وعاصمتها وميناؤها مسقط، وسلطانها تيمور بن فيصل بن تركي، وأكثر أهلها على مذهب الإباضية نسبة إلى عبد الله بن إباض المري، من المرية من أعمال طرابلس الغرب الذي استولى على أفريقيا الشمالية سنة 152ه/769م وادعى فيها الخلافة. (3-6) القطر
وأما القطر فهو شبه جزيرة بين عمان والبحرين، وأميرها عبد الله بن قاسم آل ثاني. (3-7) البحرين
وهي جزائر في خليج العجم تجاه القطر غربيها، وأميرها الشيخ عيسى آل خليفة. (3-8) الكويت
وهي ميناء بحري وإمارة مستقلة، وأميرها الحالي الشيخ جابر بن الشيخ مبارك الصباح المشهور، المتوفى في ديسمبر سنة 1915. (3-9) نجد
أما نجد فأربعة أقسام كبيرة: (1)
القصيم: في الشمال، وأشهر مدنها بريدة وعنيزة. (2)
والرياض: في الجنوب، وهي خمسة أقاليم: «الرياض» في الوسط وأشهر مدنه «الرياض» وهي عاصمة نجد، وفيه خرائب «عيينة» على مرحلة شمالي الرياض، وهي المدينة التي ظهر فيها محمد عبد الوهاب صاحب مذهب الوهابية المشهور، وخرائب «درعية» بين عيينة والرياض على نحو أربع ساعات من كل منهما، وهي بلدة محمد بن سعود جد آل سعود. «والسدير» في الشمال، ومن مدنه المجمعة والزلفي، «والوشم» في الغرب ومن مدنه شقرا، والحريملة، والسدوس، والقراين، «والحريق» في الجنوب، ومن مدنه الحوطة. «واليمامة» المشهورة في أقصى الجنوب. (3)
ووادي الدواسر : ينشأ هذا الوادي من جبل السراة، ويسير شمالا بشرق مسافة طويلة، ثم يغور في الرمال وهو واد خصب، وفيه ينابيع غزيرة ونخيل كثير وقرى آهلة بالسكان، وأشهر قراه: «ليلى، والسلتيل، والأفلاج، والفرعة ، واللدام، والبديع.» (4)
والأحسا: وهو ساحل نجد على خليج العجم، ولها ميناءان العقير والقطيف.
وأشهر قبائل نجد: «بريه» في القصيم، «وسبيع، والسهول» في الرياض، «وبنو تميم» في الحوطة والدهنا، «وقحطان» بين الحوطة وشهران عسير. «والعجمان» بين الرياض والأحسا، «ومطير» ومركز سلطانهم المجمعة، «وآل مرة، وبنو هاجر» بين الأحسا وقطر، «والدواسر» بوادي الدواسر.
ونجد الآن بيد أميرها الحر الكبير عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل بن تركي بن عبد الله بن سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود، وسنأتي على ذكره بعد. (3-10) شمر
أما شمر ففي شمال نجد، وعاصمتها حائل، وقبائلها ثلاثة فروع: عبدا، وسنجارة، والأسلم، وأميرها «سعود بن عبد العزيز بن متعب بن عبد الله بن الرشيد.»
هذا وأمراء تهامة: عسير، ولحج، وحضرموت البحر، وعمان، والقطر، والبحرين، والكويت، ونجد كلهم موالون للإنكليز. (4) بادية الشام الكبرى
أما بادية الشام الكبرى - وتعرف أيضا ببادية الشام والعراق - فيسكنها قبائل شتى بعضها تابع في الإدارة للشام والبعض للعراق.
أما القبائل التابعة للشام، فأشهرها عرب «الجلاس» وهم ثلاثة فروع كبيرة:
الرولا:
وهي قبيلة جسيمة تسكن في الصيف نقرة الشام، أي سهول حوران، وتمتد شمالا إلى حمص وحماة وفي الشتاء تسكن الجوف، وشيخها الأكبر نوري الشعلان.
والمحلف:
وهي ثلاث أفخاذ: الأشاجعة والسوالمة وعبد الله، وهم من أصل واحد مع الرولا، ولكنهم مستقلون عن نوري الشعلان.
وأولاد علي:
ويسكنون مع الرولا صيفا وشتاء، ولكنهم في الشتاء لا يبعدون كثيرا عن الشام، وشيخهم الأكبر رشيد بن سمير.
ومن أولاد علي: «الأيدا والفقير»، وهم يسكنون أرض ثيماء على سكة حديد الحجاز.
وعنزة:
وهي فرعان كبيران: «العمارات» ينزلون في الصيف في نواحي كربلاء وفي الشتاء في البادية بين بغداد والشام وبين بغداد ونجد، وهم تابعون للعراق، وكبير مشايخهم فهد بن عبد المحسن آل هذال. «وبشر» وهم ثلاثة فروع: السباعة في بادية حمص وحماة، والفدعان في بادية حلب، وولد سليمان في تيماء.
وفي بوادي البلقاء والزرقاء والغور جنوبي حوران قبائل شتى، أشهرها «بنو صخر».
وأما قبائل البادية التابعة للعراق فأشهرها في ولاية الموصل: طي، وشمر، والجبور، وفي متصرفية الزور: العبيد، وفي ولاية بغداد: عنزة العمارات المار ذكرهم، والديلم، وشمر طوقة، وزبيد، والإمارة، وربيعة، وفي ولاية البصرة: بنو لام، وآل أبو محمد، والمنتفك وكبيرهم عجيمي آل سعدون، والظفير ومركزهم الزبير غرب البصرة وشيخهم حمود بن صويت.
وبدو العراق كلهم، ما عدا عنزة والظفير، متحضرون يسكنون الخيام في جهات معينة يفلحون فيها ويزرعون، ولا يبرحونها إلى البادية، فهم وسط بين الحضر والبادية. (5) سكان جزيرة العرب
أما سكان جزيرة العرب فهم الآن كما كانوا في كل آن: حضر وبادية، وأكثرهم بادية، وأكثر الحضر في اليمن ونجد ومدن الساحل. (5-1) عددهم
وأما عدد سكان الجزيرة فلا يمكن القطع فيه؛ لعدم وجود إحصاء رسمي، وقد قدره بعضهم بنحو عشرين مليون نسمة، وقدره الأكثرون بنحو اثني عشر مليون نسمة، أي نحو مليونين ونصف في كل من الحجاز واليمن، ومليون ونصف في كل من عسير وعمان، ومليونين في بادية الشام الكبرى التابعة إداريا للشام والعراق، ومليونين في سائر الجهات. (5-2) مذاهبهم
ثم إن سكان الجزيرة كلهم يدينون بالإسلام، وهم مذاهب مختلفة، وقد تغلب مذهب الشافعية في السواحل، والمالكية في الحجاز، والحنبلية في نجد، والزيدية في اليمن، والإباضية في عمان، والمكارمة في نجران، والوهابية في نجد وعسير. (5-3) الوهابية
أما الوهابية فتنسب إلى زعيمها الأول محمد بن عبد الوهاب، ولد في العيينة من أعمال الرياض سنة 1106ه/1695م، وكان أبوه فقيها فربي في حجره على المذهب الحنبلي، وأتم دروسه بالبصرة، ثم زار مكة والمدينة وعاد إلى بلده، فتزوج في الحريملة بإقليم الرياض، واشتهر بالتقوى والتمسك بالجوهر دون العرض، وقام بمذهب جديد هو في الإسلام كالبروتستانتية في النصرانية، وخلاصته إغفال الكتب الدينية إلا القرآن والحديث، وألا يعرف صاحبه إلا الله ولا يتوسل إلا إليه، وأهم تعاليمه:
الصلاة خمس مرات في اليوم، والصوم في رمضان، والحج مرة على الأقل، ومنع المسكر والدخان والبغاء والميسر والسحر والربا والزينة، وتوزيع جزء من مائة من الأموال زكاة على الفقراء، وهدم المزارات وقبب الأولياء. قال: لأنها من مظاهر الوثنية وتشغل الناس عن مخاطبة الله رأسا.
وقد أنحى باللائمة على قومه لإهمالهم جوهر الدين وتعلقهم بالقشور، وبالغ في تعنيفهم؛ فاضطهدوه ففر منهم، ولجأ إلى محمد بن سعود «كبير آل سعود» أمير الدرعية.
وكانت بلاد نجد في ذلك العهد إمارات شتى مستقلة بعضها عن بعض، فأكرم ابن سعود وفادته ووعد بحمايته وأذن له بنشر تعاليمه، فأخذ ينشرها بالإقناع والموعظة، وابن سعود ينشر معها نفوذه وسلطانه في نجد، فعارضه بعض أمراء نجد وحملوا عليه، فقهرهم وردهم خائبين، فتشدد ابن سعود وشيخه ابن عبد الوهاب وتمكنا من الثبات في الدعوة.
وتزوج محمد بن سعود ابنة محمد بن عبد الوهاب، فولد له عبد العزيز فخلف أباه عند موته سنة 1765، وكان عبد العزيز شجاعا حازما شديد البطش مع تقوى وورع، وكان الوهابيون قد تكاثروا وصاروا جندا كبيرا، فحمل بهم على أطراف البلاد ووسع سلطانه، وغدر به رجل من فارس فطعنه بخنجر وهو يصلي فقتله سنة 1303، فخلفه ابنه سعود وكان قد تعود الحرب من صغره، فقاد جند أبيه وهو لا يزال في الثانية عشرة من عمره، وتمكن من ضم بلاد نجد كلها إلى سلطانه حتى هدد الدولة العثمانية في الشام والعراق، وحمل على كربلاء فهدم قبر الحسين وجميع المزارات فيها، واستولى على ما كان هناك من التحف والأموال، واستعان بها على أموره، وقام في اعتقاد العرب أنه لا يلبث أن ينشر مذهبه في العالم أجمع فحاموا حوله، فزحف بهم على مكة ففتحها ودخل الكعبة واستولى على ما فيها من التحف، وكتب إلى السلطان سليم الثالث كتابا معناه إني دخلت مكة في 4 محرم سنة 1218ه/26 أبريل سنة 1803م، وأمنت أهلها على أرواحهم وأموالهم بعد أن هدمت ما هناك من أشباه الوثنية، وألغيت الضرائب إلا ما كان منها حقا، وثبت القاضي الذي وليته أنت طبقا للشرع الإسلامي، فعليك أن تمنع والي دمشق ووالي القاهرة من المجيء إلى هذا البلد المقدس بالمحمل والطبول والزمور، فإن ذلك ليس من الدين في شيء.
ولم تمض تلك السنة حتى دخلت «المدينة» أيضا في حوزته ، وأخذ في نشر سيادته على جزيرة العرب، فلم تأت سنة 1809 حتى أصبحت حدود مملكته شمالا صحراء الشام، وجنوبا بحر العرب، وشرقا خليج العجم، وغربا البحر الأحمر.
ولما استفحل أمره لم ير الباب العالي بدا من تكليف بطل مصر محمد علي باشا لقهره، فأرسل عليه الجيوش بقيادة ابنه طوسون ثم بقيادة ابنه إبراهيم، فقهر الوهابيين وخرب بلدتهم درعية، وكان سعود قائد الوهابية قد مات في 26 ربيع آخر سنة 1229ه/17 أبريل سنة 1814م، وخلفه ابنه عبد الله فأخذه إبراهيم باشا أسيرا وشتت شمل الوهابيين كما قدمنا.
ثم بعد ذلك بسنين عاد تركي بن عبد الله إلى الرياض وأعاد دولة آبائه.
وتوفي فخلفه ابنه فيصل فسمى عبد الله بن الرشيد أميرا على بلاده شمر.
ثم توفي فيصل وخلفه ابنه عبد الله، فانتقض عليه أخوه سعود وتقاتلا حتى فنيت قواتهما، فظهر محمد بن عبد الله بن الرشيد عليهما واستولى على نجد، وبقي حتى ظهر عبد العزيز والي نجد الحالي، فاسترد ملك آبائه في نجد من آل الرشيد بمعونة الشيخ مبارك شيخ الكويت السابق، وكان الأتراك قد استولوا على الأحسا أيام كان مدحت باشا واليا على بغداد سنة 1871، فاستردها عبد العزيز منهم سنة 1332ه/1913م.
هذا وفي داخلية اليمن وسواحلها طوائف من اليهود أكثرهم في صنعاء وذمار ويريم ورذاع وإب وقعطبة، وهم يتعاطون التجارة والصناعة، وأكثرهم صاغة.
وهناك طوائف من النصارى والهنود في ساحل الجزيرة في مواني الحجاز واليمن وحضرموت وغيرها وكلهم تجار، وسنأتي على تجارة الجزيرة مع مصر فيما بعد. (5-4) أنساب العرب
ثم إن جميع قبائل العرب تنتسب إما لقحطان وإما إلى عدنان، ومن لا يصل نسبهم بأحد هذين الأصلين يطلق عليهم اسم هتيم، والعرب لا يزوجونهم ولا يتزوجون منهم كما قدمنا، فما زال العرب إلى اليوم يفاخرون بالنسب حتى إن كثيرين منهم يسجلون أنسابهم رسميا في المحاكم، ومن هؤلاء أشراف مكة فإنهم أقدم أسرات العالم أجمع، وهذا نسب الشريف حسين أمير مكة الحالي: (أ) نسب الشريف حسين أمير مكة الحالي إلى النبي محمد فإبراهيم فنوح
الشريف حسين بن علي بن محمد بن عبد المعين بن عون بن محسن بن عبد الله بن حسين بن عبد الله بن حسن بن أبي نمي محمد الذي تولى إمارة مكة سنة 932ه، وقد تولاها ستين سنة، ابن بركات الأمير بن محمد الأمير بن بركات بن حسن بن عجلان بن رمية أبو عرارة أسد الدين ابن محمد أبي نمي نجم الدين أبو مهدي الذي تولى إمارة مكة خمسين سنة وتوفي سنة 701ه بن أبي سعيد الحسن بن علي بن قتادة الذي تولى إمارة مكة سنة 598ه بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى بن الحسين بن سليمان بن علي بن عبد الله بن محمد الثائر بن موسى بن عبد الله، بن موسى الجون بن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الإمام الحسن السبط بن الإمام علي بن أبي طالب من زوجته السيدة فاطمة الزهراء بنت النبي محمد
صلى الله عليه وسلم ، وهذا نسب النبي: «أبو القاسم محمد بن عبد الله، بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر (قريش) بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان»، وهذ نسب عدنان إلى إبراهيم على المشهور: «عدنان بن أد بن أدد بن اليسع بن الهميسع بن سلامان بن نبت بن حمل بن قيذار بن إسماعيل بن إبراهيم»، وهذا نسب إبراهيم كما في تك ص10: «إبراهيم بن تارح بن ناحور بن سروج بن رعو بن فالج بن عابر (أبو قحطان) بن شالح بن أرفكشاد (أخو لود وآرام) بن سام بن نوح.»
خلاصة تاريخ سوريا
اشتهر في سوريا قديما ستة شعوب كبيرة، ترجع في أنسابها إلى أربعة أصول، وهم: الآراميون، والكنعانيون، والحثيون، والعبرانيون، والفلسطينيون، والفينيقيون، وكلهم هاجروا إليها من جزيرة العرب أو العراق إلا الفلسطينيين.
الآراميون:
أما الآراميون فهم على رواية موسى نسل آرام بن سام بن نوح، وهم فروع شتى منهم الجبابرة والعمالقة الساميون، وقد اشتهر لهم ملك في دمشق الشام، وهم أقدم سكان سوريا في ما نعلم، وفي رأي البعض أنهم هم المعروفون على الآثار المصرية «بالرتنو»، وقد مر بنا أن المصريين القدماء اطلقوا اسم «الآمو» على جميع سكان سوريا الساميين، ومنهم «الهيروشايتو» أو أسياد الرمال سكان بلاد التيه والعريش، «والمونيتو» سكان بلاد الطور.
الكنعانيون:
أما الكنعانيون فقيل إنهم نسل كنعان بن حام بن نوح وأولاده الأحد عشر، والمشهور أنهم هاجروا إلى سوريا من رأس خليج العجم مما يلي بلاد العرب في القرن الثالث والعشرين قبل المسيح، أي سنة 2250-2300ق.م، وقد انتشروا في شمال البلاد وجنوبها وسواحلها الغربية وسكنوها مع الآراميين، وكان لهم شأن مع العبرانيين كما هو معلوم في التوراة.
الحثيون:
وأما الحثيون فهم على رواية موسى فرع من الكنعانيين نسل حث بن كنعان، وهم فريقان: الحثيون الجنوبيون، وقد سكنوا مع الكنعانيين في جهة الخليل، ومنهم العمالقة الحاميون، وكان لهم شأن مع العبرانيين، والحثيون الشماليون سكنوا شمال سوريا مع الرتنو، فتوطنوا أولا جبل أمانوس المعروف بجبل اللكام ثم تقووا تدريجا وأسسوا ملكا عظيما، وكان لهم شأن كبير مع مصر كما سيجيء.
العبرانيون:
أما العبرانيون ويقال لهم: الإسرائيليون واليهود، فهم نسل إبراهيم الخليل، وقد مر بنا ذكر تاريخهم منذ هاجر إبراهيم من أرض العراق، ثم ذكر تغربهم في أرض مصر ورجوعهم إلى سوريا عن طريق سيناء إلى أن أسسوا ملكا في أورشليم، وكان لهم شأن عظيم مع مصر، وسنأتي على خلاصة تاريخهم منذ تأسيس ملكهم إلى اليوم.
الفلسطينيون:
أما الفلسطينيون فأسفار موسى لا تبحث في أصلهم، ولكن جاء في عا9: 7: «قال الرب: ألم أصعد إسرائيل من أرض مصر والفلسطينيين من كفتور؟» ويتبين من قول أرميا النبي (ص47: 4) أن كفتور هذه جزيرة.
وذكر في تاريخ مصر أن قوما من آسيا الصغرى وجزيرة كريت أو قبرص هاجموا مصر برا وبحرا في أوائل القرن الثاني عشر للمسيح، وكان على مصر إذ ذاك رعمسيس الثالث من ملوك الدولة العشرين، فانتصر عليهم وأسر السواد الأعظم منهم ، وأسكنهم في جنوب بلاد كنعان في التخوم الفاصلة بين مصر وسوريا في غزة وضواحيها، فتناسلوا هناك وتقووا برا وبحرا حتى أقدموا على مهاجمة صيداء سنة 1200ق.م، وكانوا أكبر أعداء بني إسرائيل، وقد حصلت بين الفريقين وقائع شتى مشهورة في التوراة، وبقوا حتى اندمجوا في سكان جنوب سوريا، فألفوا معهم شعبا واحدا.
الفينيقيون:
أما الفينيقيون الذين نالوا تلك الشهرة الواسعة في تاريخ سوريا، فهم سكان فينيقية، وهو الاسم الذي أطلقه اليونان على سواحل سوريا الغربية وما جاورها من جبل لبنان، والظاهر أن أول من سكن هذه السواحل الآراميون، ثم لما هاجر الكنعانيون إلى سوريا سكنوها معهم إلا ساحل لبنان بين طرابلس وصيداء، فالمشهور أن سكانه بقوا آراميين صرفا، ومعلوم أن تمدن الفينيقيين قديم جدا ولكنه زها منذ عهد الدولة التاسعة عشرة المصرية أي منذ 2000ق.م.
وللفينيقيين الفخر في أنهم أول من اخترعوا الملاحة، واحتكروها قرونا لم يكن لهم فيها مبار، فكانوا في تلك الأعصر القديمة أسياد البحار كالإنكليز في هذا العصر، وقد بلغت سفنهم أقاصي البلاد المعمورة، فكانوا يتجرون مع الهند شرقا وبلاد اليونان وآسيا وإيطاليا وإسبانيا وجزائر بريطانيا غربا، وقد بلغوا البحر الأسود وبحر البلطيق شمالا، وطافوا بأسطولهم حول أفريقيا كما هو مشهور في التاريخ.
وكان لهم سفن صغيرة متينة واسعة القعر تأتي الشطوط المصرية، وتذهب صعدا في النيل إلى مصر العليا، وترى الآن على جدران أحد القبور في الكرنك صورة تمثل سفنهم عند وصولهم إلى ثيبة، هذا ولم تكن تجارة الفينيقيين تقتصر على البحر، بل كانت لهم أيضا تجارة في البر، فكانت قوافلهم تنتاب العراق ومصر وجزيرة العرب.
وأما مصنوعاتهم التي اخترعوها واتجروا بها ونالوا منها الغنى الوافر، فأهمها: الأرجوان ، والزجاج الشفاف، وآنية النحاس الأصفر، والآنية الخزفية، وصياغة الجواهر الكريمة، وصنع العاج، وكلها من الاختراعات الفنية الجميلة التي كانت تزهو بها قصور الملوك والعظماء في تلك العصور، ولكن أهم ما اخترعوه وخلد لهم الفخر في التاريخ «الحروف الهجائية» وهي أس الحروف الهجائية لجميع لغات العالم، وقد كانوا ينقلون حروفهم هذه مع مصنوعاتهم إلى جميع البلاد العامرة ويتجرون بها.
ثم إن تجارتهم الواسعة دعتهم إلى تأسيس مراكز ومهاجر في جزر البحر المتوسط وشطوطه كقبرص ورودس وصقلية وبعض جهات إسبانيا، وأهم مهجر لهم مدينة «قرطاجة» التي قامت على أنقاضها مدينة تونس في شمال أفريقيا، أسسوها في القرن التاسع قبل المسيح، وأقاموا فيها مملكة قوية ناوأت رومية في عز مجدها في عهد بطلها هنيبال الكبير، ودامت إلى أن تغلب عليها الرومان وخربوها سنة 146ق.م.
ولم تكن فينيقية قديما على صغرها حكومة واحدة، بل كانت كل مدينة مع ضواحيها وقراها حكومة صغيرة قائمة بذاتها، ولكن كثيرا ما كانت تلك المدن تعترف بالزعامة لأقواها، وقد تولى هذه الزعامة بالتناوب مدينتان عظيمتان وهم:
صيداء: من سنة 2200-1200ق.م ثم صور من سنة 1200-574ق.م.
أما صيداء فقد احتكرت التجارة في الشرق برا وبحرا إلى سنة 1500ق.م.
وكان اليونان في هذا العهد قد أصبحوا مملكة قوية، فنافسوها في الأرخبيل الرومي وأجلوا الفينيقيين عن جزائره، وانتهز الفلسطينيون فرصة ضعفهم فاستولوا على مدينتهم صيداء وخربوها سنة 1200ق.م.
هذه هي أهم الشعوب التي سكنت سوريا في القديم، وكلها تقريبا فروع لأصل واحد سامي كما رأيت، ومع ذلك فقد دل تاريخها القديم والحديث أنه لم يقم فيها في عصر من عصور التاريخ مملكة واحدة عامة جمعت كلمة أبنائها كلهم على اختلاف الفروع، وذلك لتنوع طبيعة أرضها وقلة وسائل الاتصال والتعارف بين جهاتها، فتنوعت الطبائع وتشعبت الأغراض والأديان، فكان ذلك باعثا لإضعاف المجموع وانقسامه.
ثم بالنظر لموقع البلاد الجغرافي بين الشرق والغرب أصبحت عرضة لكل فاتح أو غاز برا أو بحرا، وبالنظر لانقسام أهلها كان الفاتحون يفتحونها بلادا بلادا بلا كبير عناء.
وقد تناوبتها دول مصر والعراق والغرب منذ أقم أزمنة التاريخ فافتتحها أولا البابليون، ثم المصريون في عهد الدولة الثامنة عشرة والتاسعة عشرة، ثم الآشوريون على يد شلمناصر سنة 721ق.م، ثم اليونان على يد الإسكندر سنة 332ق.م، وقامت بعده فيها دولة السلوقيين، وكان بينها وبين البطالسة في مصر حروب يأتي ذكرها، وبقيت إلى أن افتتحها الرومان سنة 64ق.م، ثم العرب المسلمون سنة 638ب.م، وجعل الأمويون فيها دمشق الشام عاصمة المملكة العربية سنة 661م، ثم قام العباسيون سنة 750م فنقلوا عاصمة المملكة العربية إلى بغداد كما مر.
وفي هذا العهد تداولت سوريا دول مصر والعراق، فكانت تارة تابعة لمصر وتارة لبغداد، أو قسما تابعا لمصر وآخر لبغداد إلى سنة 1076م، إذ استولى عليها الأتراك السلجوقيون، وكانوا السبب في إثارة الحروب الصليبية التي أنهكت سوريا نحو 200 سنة وملك الصليبيون أجزاء منها كما مر.
وقبيل نهاية هذه الحروب غار التتر على بغداد سنة 1260م فافتتحوها، ثم أتوا سوريا فخربوها وأعملوا بأهلها السيف، فطردهم منها قطز أحد المماليك البحرية بمصر، وملكها إلى الفرات وبقيت بيد المماليك الحربية ثم المماليك الجراكسة، إلى أن افتتحها الأتراك العثمانيون على يد السلطان سليم الفاتح سنة 1516م، وما زالت بيدهم إلى اليوم.
وتقسم سوريا الآن إداريا إلى أربع ولايات: حلب، والشام، وبيروت، والقدس، ومتصرفية لبنان، وسكانها مزيج من الآراميين والكنعانيين واليهود والسمرة والفلسطينيين واليونان والرومان والعرب والصليبيين والأتراك والإفرنج وغيرهم، وقد اندمجت هذه الأجناس بعضها ببعض حتى أصبحت جنسا واحدا يعرف بالجنس السوري، ولكن الأديان والمذاهب ما زالت تميز أهلها، فهم في المذهب نصارى: روم أرثوذكس، وروم كاثوليك، وموارنة، وبروتستانت، وغيرهم، ومسلمون: سنيون، وشيعيون متاولة، ونصيرية، ودروز، ويهود قراءون وربانيون، وسمرة.
ويقدر عددهم بنحو ثلاثة ملايين كما يأتي:
900000
في ولاية حلب
850000
في ولاية الشام
50000
في ولاية بيروت
350000
في ولاية القدس
400000
في متصرفية لبنان
3000000
المجموع
منهم نحو نصف مليون بدوا ومليونان ونصف مليون حضرا، أو نحو مليونين إلا ربعا مسلمين، ومليون إلا ربعا نصارى ، ونصف مليون من سائر الطوائف.
أما المسلمون فأكثرهم سنية، وأما النصارى فمنهم نحو 300 ألف روم أرثوذكس، و300 ألف موارنة، و150 ألف روم كاثوليك، و20 ألفا بروتستانت، وهناك 150 ألفا من الدروز، و100 ألف من النصيرية، و100 ألف من اليهود، و10 آلاف من الإفرنج.
أما اليهود فهم في ولايات القدس وحلب وبيروت والشام، والنصيرية في جبلهم في ولاية بيروت شرق اللاذقية، وفي ولاية حلب، والدروز ثلثاهم في جبل حوران من ولاية الشام، والثلث الآخر في قضا الشوف من جبل لبنان، والنصارى في كل الجهات، لكن أكثر الموارنة في لبنان.
خلاصة تاريخ العراق
نعني بالعراق جميع البلاد الواقعة ما بين النهرين: الفرات ودجلة، مع أن «العراق» يطلق في الأصل على القسم الجنوبي من هذه البلاد إلى بغداد، ويطلق على البلاد التي إلى شمال بغداد اسم «الجزيرة»، ولكن أطلقنا اسم العراق على البلاد كلها توسعا.
وهذه البلاد من أخصب بلاد الدنيا وأغناها، والمشهور أن جنة عدن كانت فيها، وأنها موطن الإنسان الأول، ولقد قام فيها عدة ممالك اشتهرت في التاريخ، وهي:
مملكة السومريين والأكاديين:
وهي أقدم ممالكها.
مملكة الكلدان الأولى:
وعاصمتها بابل على الفرات؛ ولذلك تسمى أيضا مملكة بابل، ومن مدنها أور الكلدانيين التي خرج منها إبراهيم إلى أرض كنعان كما مر، وقام في هذه المملكة سبع دول كانت الدولة الخامسة منها عربية، وأشهر ملوك هذه الدولة الملك حمورابي، وقد مر ذكرها.
مملكة آشور:
قامت على أنقاض مملكة بابل الأولى، وكانت عاصمتها آشور ثم نينوى، وكلتاهما على دجلة، ودامت هذه المملكة من نحو سنة 1300ق.م إلى نحو سنة 609ق.م وكان لها شأن مع مصر وسوريا كما سيجيء.
مملكة بابل الثانية:
دامت من سنة 609-سنة 539ق.م، وكان أشهر ملوكها نبوخذنصر.
مملكة مادي وفارس:
قامت هذه المملكة أولا في مادي، ثم تغلبت فارس عليها في أيام ملكها كورش، فسميت مملكة مادي وفارس، ثم استولى كورش على بابل وعلى جميع أملاكها في سوريا سنة 539ق.م، واستولى ابنه قمبيز على مصر، وهكذا طمى سيل الفرس في الشرق على الساميين الذين تسلطوا على غرب آسيا قرونا، وأظهروا من البأس والسطوة والتمدن والعلم ما لم يظهره شعب آخر من شعوب آسيا.
المملكة اليونانية أو السلوقية:
ودامت مملكة مادي وفارس على العراق حتى افتتح الإسكندر بابل من ملكها داريوس سنة 331ق.م، وبعد موت الإسكندر آلت إلى يد قواده فاستولى السلوقيون عليها وعلى سوريا معا، فبنى سلوقوس مؤسس الدولة السلوقية مدينة على العاصي، وسماها أنطاكية على اسم أبيه، وجعلها كرسي ملكه وهجر بابل وبنى مدينة على دجلة سماها باسمه.
مملكة الفرثيين:
وبقي حكم السلوقيين على العراق حتى انتزعها الفرثيون منهم سنة 174ق.م فدام ملكهم إلى سنة 226ب.م.
المملكة الساسانية:
أو الفارسية الوسطى: خلفت مملكة الفرثيين على العراق، وكانت مدتها 410 سنين من سنة 226-سنة 336ب.م. وظهر فيها 28 ملكا أشهرهم أزدشير الأول مؤسس المملكة، ثم كسرى أنوشروان ويزدجرد الثالث المار ذكرهما.
الخلافة العربية:
وفي سنة 636م غزا العرب العراق في خلافة عمر بن الخطاب وملكوها من الفرس، وفيها نشأت الدولة العباسية وكانت عاصمتها بغداد.
المملكة التترية:
وبقيت إلى سنة 1258م إذ تغلب عليها هولاكو التتري، وأسس فيها الدولة التترية، ثم استولى عليها تيمورلنك سنة 1393، وتوفي سنة 1405.
المملكة الفارسية:
وضعفت البلاد بعد تيمورلنك، وكان الفرس قد تقووا وأسسوا مملكة في طهران، فهاجموا بغداد في عهد ملكهم الشاه إسماعيل الأول، فافتتحوها سنة 1502م.
السلطة العثمانية:
واستولى الترك العثمانيون على القسطنطينية سنة 1453، فلم يسعهم أن يكون الفرس شوكة في جنبهم، فسعوا لفتح العراق منذ أيام السلطان سليم، وتم لهم ذلك في أيام السلطان سليمان الكبير سنة 1534م كما مر، ولكن الفرس أعادوا الكرة على بغداد سنة 1620 في عهد الشاه عباس الأول، وبقيت إلى أن قام السلطان مراد الرابع فاسترجعها من الفرس سنة 1638، ودامت بيد الأتراك حتى هذه الحرب.
وتقسم العراق إداريا إلى ثلاث ولايات: الموصل، وبغداد، والبصرة، ومتصرفية الزور.
ويقدر عدد سكانها بنحو ثلاثة ملايين وكلهم عرب، النصف حضر والنصف الآخر بدو متحضرون أو بدو صرف، وهناك بعض عشائر الأكراد في السليمانية وغيرها.
وهم في المذهب مسلمون: سنيون وشيعة، ومسيحيون: كلدان وسريان ويعاقبة، ويهود: قرائون وربانيون، وتسعة أعشارهم مسلمون والعشر الباقي من سائر الطوائف، وبين المسلمين أسرات من آل البيت أشهرهم:
الفاروقيون:
من سلالة عمر بن الخطاب، ويسكنون الموصل، وكبيرهم حسن بك العمري، ومنهم محمد شريف الفاروقي من الضباط النجباء.
والسادة:
من سلالة علي بن أبي طالب، يسكنون الموصل وبغداد والبصرة، وكبيرهم السيد طالب النقيب.
والسويديون:
من سلالة الخلفاء العباسيين، وكلهم في بغداد.
والجيلانية:
في بغداد وهم ذرية عبد القادر الجيلاني من أكبر أقطاب الصوفية المدفون ببغداد، وكبيرهم السيد عبد الرحمن النقيب.
والألوسيون:
من أشهر أسرات بغداد وأقدمها، وكبيرهم السيد محمود شكري الألوسي، وهو مروج مذهب السلفية «الوهابية» في العراق.
خلاصة تاريخ مصر
وما كان بينها وبين سوريا والعراق وجزيرة العرب من الوقائع الحربية والصلات التجارية وغيرها «عن طريق سيناء» منذ أول عهد التاريخ إلى اليوم. ***
كان المشهور الذي عليه الجمهور أن سكان مصر القدماء هم أبناء مصرايم ابن حام بن نوح، هاجر إليها من آسيا، ولكن بعض المتضلعين من اللغة الهيروغليفية اكتشفوا حديثا أن هذه اللغة واللغة العربية السامية هما من أصل واحد كما مر، فإذا ثبت ذلك كان سكان مصر الأولون أجداد القبط الحاليين هم من أصل عربي قديم، «وكان هذا هو الفتح العربي الأول لمصر.»
وقد اختلف الباحثون في الطريق التي جاء منها الفاتحون الأولون، ففريق يرى أنهم جاءوا من الجنوب عن طريق بوغاز المندب، قالوا: لأن أقدم تمدن في مصر بدأ في الصعيد، والفريق الآخر أنهم جاءوا عن طريق سيناء.
أما التمدن المصري فقديم جدا يرجع إلى نحو خمسة آلاف سنة قبل المسيح، وقد قام على مصر في عهدها القديم 31 دولة عرفت بدول الفراعنة، امتد حكمها من سنة 5004-332ق.م، وتركت في وادي النيل من الآثار النفيسة الفخمة كالأهرام والنصب والتماثيل ما لا يزال إلى اليوم ناطقا بفضلها وشاهدا بسمو منزلتها في الزراعة والصناعة والعلم.
ودل تاريخ مصر القديم كما دل تاريخها الحديث أنها بلاد مطموع بها؛ لخصب واديها وكثرة خيراتها، فكانت كلما ضعف سلطانها، وانشقت كلمة أبنائها، وكان لملوك البلاد المجاورة لها أو الطامعة بها شيء من القوة والعصبية؛ زحفوا عليها وامتلكوها إلى أن يقوم من ملوكها الأصليين من يضم كلمتها ويجمع شتاتها، ويرد الملك إلى أهلها، فيحافظ على حدودها الطبيعية أو يمد فتوحاته شرقا إلى الشام والعراق وجزيرة العرب، أو غربا إلى صحراء ليبيا، أو جنوبا إلى السودان، لكن أهم ما يلفت النظر في تاريخ مصر أنه منذ افتتحها الإسكندر سنة 332ق.م لم يقم فيها دولة وطنية صرفا إلى اليوم.
ونحن لا نأتي في هذه الخلاصة من تاريخ مصر إلا بما كان له علاقة مع جاراتها عن طريق سيناء استيفاء لموضوعنا. (1) الدولة السادسة المصرية، وبلاد فلسطين
وأول ملك ذكره التاريخ من ملوك مصر الذين كان لهم علاقة مع جارات مصر عن طريق سيناء: الملك ببي الأول (سنة 4167-4144ق.م) مؤسس الدولة السادسة، فإننا نقرأ في الآثار أنه وجه قائده أوني بجيش جرار إلى «الهيروشايتو» أسياد الرمال القاطنين بين جبال التيه والبحر الميت، لاعتدائهم على أرض مصر، فقتل منهم خلقا كثيرا وأحرق مساكنهم، وعاث بأشجارهم وكرومهم وعاد إلى مصر بالغنائم والأسرى، وقد سر الملك ببي بما أوتي من النصر على يد قائده؛ فأنعم عليه بأفضل ما كان ينعم به على القواد الفاتحين، فقلده الصولجان وأذن له في لبس النعال في حضرته. (2) الدولة الثانية عشرة المصرية، وسيناء وفلسطين
ثم كانت الدولة الثانية عشرة، وقام من ملوكها أمنمحعت الأول (سنة 3459-3429ق.م)، فعزز الحصون التي أقامها أسلافه على حدود مصر الشرقية بين رأس خليج السويس وفم الفرع البليوسي، وقد حافظ خلفاؤه على تلك الحصون ولم يتعدوها لأن ملوك هذه الدولة لم يكن يهمهم السيطرة على سادة الرمال ما داموا محترمين الحدود المصرية. (2-1) مملكة الكلدان الأولى
وفي أواخر عهد الدولة الثانية عشرة المصرية اشتهر للكلدان دولة على الفرات، وكان لها اتصال مع سوريا ومصر. (2-2) تجارة مصر وآسيا
وكانت تجارة آسيا من قبل الدولة الثانية عشرة بأزمان رائجة في أسواق مصر، وكان التجار السوريون يأتون إليها بالعبيد، والعطور، وخشب الأرز، وعطر الأرز، والكئوس المنقوشة بالميناء والحجارة الكريمة وحجارة اللازورد، والأقمشة الصوفية المصبوغة والمطرزة التي احتكر الكلدان تجارتها إلى زمن الرومان.
وكان تجار الدلتا يقتحمون مخاطر الصحراء معرضين أنفسهم للوحوش الكاسرة وقطاع الطرق ويحملون إلى سوريا من مصنوعات مصر: الكتان الرفيع والحلي والفخار والغراء والتمائم وغيرها. (2-3) مهاجرو آسيا في مصر
وكانت مصر السفلى من قبل هذا العهد بزمان ملجأ للمهاجرين والفارين من وجه الثورات في سوريا، جاء في الآثار: «إنه في السنة السابعة من ملك أوسرتسن الثاني قدم إلى مصر 37 آسيويا من رجال ونساء وأولاد عن طريق صحراء بلاد العرب والبحر الأحمر، ونزلوا في مقاطعة «الغزال»، فاستقبلهم كبير الصيادين «خيتي» وأتى بهم إلى الأمير «خمهتبو» فقدموا له الهدايا: الكحل وصباغا أخضر للعين وتيتلين حيين، فأمر الأمير بحفر صورهم على جدران ضريحه في قبور «بني حسين» تذكارا لزيارتهم، وما زال هذا الأثر محفوظا إلى اليوم.» (2-4) مهاجرو مصر في آسيا
هذا وكان الجناة المصريون والمجرمون السياسيون الفارون من وجه الفراعنة يجدون ملجأ عند قبائل آسيا، وكانوا يستقبلونهم على الغالب بالحفاوة والتكريم، وفي الآثار المصرية ذكر أخبار بعضهم. (2-5) قصة البطل سنوهيت
حكي أن أمنمحعت الأول مات فجأة، ولما بلغ منعاه أوسرتسن الأول كان «سنوهيت» ابن أمنمحعت جالسا بالقرب من الخيمة الملكية، فخشي أن يأمر أوسرتسن بقتله، ففر هاربا حتى اجتاز الحدود الشرقية، وأوغل في الصحراء، وحدث عن نفسه قال: «لما لاح الفجر كنت قد وصلت إلى «بتني» فسرت منها إلى بحيرة «كيموريري»، واشتد بي الظمأ حتى شعرت بحشرجة الموت في حلقي، ثم سمعت خوار قطعان فالتفت فإذا بجماعة من الآسيويين مقبلين نحوي، وكان زعيمهم قد سبق أنه جاء مصر فعرفني، فقدم لي الماء فشربت ثم قدم لي اللبن وأتى بي إلى مخيمه، ومنه ذهبت إلى بلاد «كدومة» فوجدت عند أميرها جماعة من المصريين قد لجئوا إليه فرارا من الظلم فحماهم، فاستأنست بهم إذ سمعتهم يتكلمون لغة مصر، وأحبني أمير كدومة فأزوجني بابنته وأقطعني أرضا جميلة على حدود بلاده تدعى «آيا» فيها كثير من شجر التين والعنب والزيتون وغيره من الأشجار المثمرة، وفيها الخمر أكثر من الماء، والعسل والقمح والدقيق وجميع أنواع الماشية، وقد جعل لي راتبا يوميا من الخبز والخمر والزبدة واللبن على أنواعه، واللحم المطبوخ ولحم الطير والصيد علاوة على ما كانت تأتيني به كلاب الصيد، فبقيت على الحدود حتى ولد لي أولاد وكبروا وأصبح كل منهم رئيس قبيلة، وكان كلما ذهب رسول إلى الداخلية أو عاد منها عرج في طريقه علي، فكنت أعامل الجميع بلطف: أسقي العطشان، وأهدي التائه، وأؤدب قطاع الطرق، وكنت أقود قبيلة «البيتاتو» وأغزو بهم البلاد الأجنبية البعيدة، فأهاجم القبائل في آبارها، فأقتل منها وأغنم قطعانها وأستأسر عبيدها، فرهبت القبائل سطوتي وملأ ذكري الأقطار، ولما رأى أمير البلاد شجاعتي وحسن درايتي زاد حبه بي وجعلني زعيم أولاده.
وكان في بلاد «تونو» بطل مشهور تهاب لقاءه الأبطال، فلما رأى منزلتي عند الأمير حسدني على ذلك، فأتى يوما إلى مخيمي طالبا نزالي، فأخبرني الأمير بأمره، فقلت: إني لا أعرف هذا البطل، ولا أسأت إليه ولا أتيت منزله ولا دخلت خباءه، لا شك أنه حسدني وظن أنه يتغلب علي ويستولي على ما أملك من القطط والنعاج والثيران والأسلحة، فحنيت قوسي وأخرجت سهامي وهيأت أسلحتي، وما لاح الفجر حتى ازدحمت بلاد «تونو» بمن اجتمع من قبائلها وقبائل البلاد المجاورة لها للتفرج على مبارزتنا، وكانوا يتساءلون هل في الناس بطل كفؤ لي، ثم أقبل العدو ومعه ترس وبلطة ورمح وقوس وقبضة من السهام، فشرعنا في المبارزة وكان هو البادئ، فأخذ يرميني بالسهام وأنا أقصيها عني فلم يمسسني واحد منها، ثم أطلقت سهمي عليه فنفذ في عنقه، فصاح وسقط إلى الأرض على وجهه، فأخذت رمحه ووقفت على ظهره وصحت صياح الظفر والانتصار، فضج المتفرجون بأصوات الفرح والتهليل، وجعل أتباعه الذين كانوا يقاسون من ظلمه يشكرون «مونتو»، وأنعم علي الأمير «أميانشي» بكل ما كانت تملكه يدا المغلوب، فكثرت كنوزي وزاد عدد مواشي»، انتهى ملخصا عن «فجر العمران.» (3) دول الرعاة، وهي الدول الخامسة عشرة إلى السابعة عشرة المصرية
وكان أول من هاجم مصر من الخارج وتملكها في عهدها القديم «الرعاة»، أتوها عن طريق البتراء أو طريق الفرما، وأسسوا فيها الدول الخامسة عشرة إلى السابعة عشرة، وقد اختلف المحققون في أصلهم، فقد سماهم مؤرخو اليونان «الهكسوس» ومعناه الملوك الرعاة، وهذا الاسم يوافق كلمة «حق شاسو» من لغة المصريين القدماء أي ملوك البوادي، وسماهم مؤرخو العرب العمالقة، قال ياقوت: «إن العمالقة امتدوا من بلاد العرب إلى سوريا، فكانوا ملوكا في سوريا وفراعنة في مصر.»
وزعم بعض المؤرخين أنهم رعاة فينيقيون، والبعض أنهم أدوميون من جبل سعير، والبعض أنهم لفيف من القبائل الرحالة عليهم ملوك من الحثيين الذين أسسوا ملكا قويا في سوريا الشمالية كما مر، وخلاصة القول: إنهم قوم رحالة أو عرب أتوا من المشرق «فإذا ثبت ذلك كان هذا هو الفتح العربي الثاني لمصر.»
والظاهر أنهم كانوا من جنس عرب سوريا؛ لأن في أيامهم عم السلام بين مصر وسوريا، ونزح كثير من السوريين إلى مصر، وقد أجمع المؤرخون أن تغرب بني إسرائيل في مصر كان في عهد الرعاة؛ لأن أحوال مصر في زمانهم كانت كما تمثلها التوراة مدة تغرب إسرائيل فيها، ولكن المنقبين في الآثار المصرية لم يجدوا شيئا يدل صراحة على هذا التغرب، إلا أنه وجد في مصر العليا كتابة على قبر رئيس اسمه بابا عاش في عهد الدولة السابعة عشرة تدل أنه حصل قحط في أيامه دام عدة سنين، فتعين هو لتوزيع القمح على الناس في المدينة لئلا يهلكوا جوعا، فاستدل البعض من ذلك أنه الجوع الذي حصل في أيام يوسف الصديق. (4) الدولة الثامنة عشرة المصرية، والرتنو والحثيون في سوريا، والكلدان في العراق
وبقي الرعاة سائدين في مصر حتى أخرجهم منها أحعمس مؤسس الدولة الثامنة عشرة، وخلفه تحوتمس الأول، فانتصر على «الرتنو» في شمال سوريا، وتوغل في سوريا حتى بلغ الفرات، فوصل حدا لم يصله ملك قبله من ملوك مصر، وقد انتصر على ملك الكلدان في موقعة فاصلة على الفرات عند كركميش، فأقام هناك نصبا دون فيه انتصاراته، وعده حد مملكته الشمالي.
وخلفته تحوتمس الثاني، فملك مع أخته هتشبسوت زمنا قصيرا، ثم مات فملكت أخته وحدها مدة، ثم ملكت مع أخيها تحوتمس الثالث (1481-1449ق.م)، فكان له في سوريا غزوات نقشت أخبارها على جدران هيكل الكرنك وخلاصتها: «أنه ارتقى إلى منصة الملك طفلا، فكانت أخته هتشبسوت تدير الملك، فثار السوريون وأبوا دفع الجزية، ولم يبق على طاعة مصر إلا غزة، فلما شب تحوتمس غزا سوريا والفرات ست غزوات بين السنة ال 23 والسنة ال 42 من ملكه.» «ففي الغزوة الأولى كان ملوك سوريا والكنعانيون قد ألقوا القيادة العامة على ملك «قادس» (مدينة على العاصي قرب حمص)، وحشدوا معظم جيوشهم في مجدو «اللجون في جانب جبل الكرمل»، فزحف تحوتمس عليهم بجيوشه وانتشب القتال في ظاهر المدينة، فانهزمت جيوش الحلفاء وتبعتهم جيوش تحوتمس إلى أسوار المدينة، وكان حراسها قد أقفلوا الأبواب، فألقوا الحبال من أعلى السور ورفعوا المنهزمين، فحصر تحوتمس المدينة وضيق عليها حتى اضطرها إلى التسليم، ثم سار في مرج ابن عامر مخترقا شمال سوريا حتى أتى الفرات، وقد بلغت المدن التي دانت له في هذه الغزوة 119 منها بيروت دمشق، وعاد إلى مصر ظافرا ومعه آلاف من الأسرى، ومن الغنايم 942 مركبة و2041 فرسا وعدد كبير من الصفايح الذهبية.» «وفي الغزوة الثانية أتم إخضاع سوريا واجتاز الفرات ثاني مرة، فدان له الرتنو الذين في عبر الفرات، وأرسل إليه ملك بابل وملك آشور الجزية، وشاد حصنا على نهر الخابور بقيت آثاره إلى الآن.» «وفي الغزوة الثالثة كان ملك «الرتنو» في قادس قد لم شعثه وأعد معدات الحرب، واستمال إليه جميع سكان سوريا الشمالية، فسار تحوتمس بطريق الساحل ففتح أرواد، وحاصر قادس فافتتحها عنوة، وعاد إلى مصر منصورا ومعه أبناء الملوك وإخوانهم رهائن، فكان إذا مات أحد الملوك في سوريا أرسل من يخلفه من الرهائن التي عنده في مصر - على نحو ما كان جاريا في سلطنة الفور كما بيناه في كتابنا تاريخ السودان.» «وفي الغزوة الرابعة اكتسح سوريا والعراق حتى بلغ نينوى، وضرب على أهلها الجزية، وكانت جزية بلاد «الحثيين» الفسيحة 8 حلقات من الفضة وزنها 301 ليبرة، وحجرا ثمينا كبيرا أبيض، ومركبات وأخشابا» - وهذه أول مرة ذكر فيها الحثيون على الآثار المصرية، «وفي الغزوة الخامسة انتصر على «الرتنو» وأدى إليه «الحثيون» الجزية، فكانت 40 ليبرة ذهبا و21 عبدا وأمة وثيران وبقرا»، «وفي الغزوة السادسة كان ملك قادس قد حصن مدينته وأغرى بعض ملوك سوريا بالخروج عن طاعة تحوتمس، فزحف تحوتمس على سوريا وافتتح قادس عنوة وبدد شمل الحلفاء.»
وخلفه تحوتمس الرابع فوجد في هيكل «آمون» في الأقصر حجر مكتوب عليه هكذا: «غزوة الملك تحوتمس الرابع لبلاد الحثيين.»
وكانت جنود هذه الدولة أرقى نظاما وأكمل تدريبا من جميع الجيوش التي جندتها مصر إلى ذلك العهد، وذكر في الآثار «أنه لم يكن يصعب على جنود مصر التغلب على سوريا، ليس لأن السوريين كانوا أقل شجاعة وأسوأ نظاما من المصريين، بل لأن السوريين كانوا أقل جندا ولأن طبيعة بلادهم وصعوبة المواصلات فيها وقفتا في سبيل اتحادهم وتعاضدهم.» (4-1) التجارة بين مصر وسوريا
وفي عهد هذه الدولة راجت التجارة بين مصر وسوريا رواجا لم يسبق له مثيل، فقد كان الاتصال ما بين القطرين برا وبحرا أشد مما كان عليه في عهد أية دولة تقدمتها، وكان أهم ما أتى به التجار السوريون إلى مصر: «العبيد، والخيل، والبقر، والثيران الحثية، والسمك المقدد، والطيور المغردة على أشكالها، والحجارة الكريمة وأهمها حجر اللازورد، والخشب للبناء والزينة، والآلات الموسيقية، والحراب من البرونز والحديد، والعربات، والأقمشة المزركشة والمصبوغة، والعطور، والزيت، والخمور، وغيرها، وكانوا يدفعون رسما جمركيا على الحدود سواء حضروا بالبر أو بالبحر.
وكان التجار المصريون أيضا يدفعون رسما جمركيا لملوك الحثيين وآشور وبابل، وأهم ما اتجروا به مع سوريا وبابل وآشور: الأسلحة، والأقمشة، والأدوات المعدنية، ونفيس الأثاث.» (4-2) الأجانب في مصر
وكانت مصر في ذلك العهد مفتوحة في وجه الأجنبي المهاجر من سوريا وغيرها، فكان يأتيها ويتزوج فيها ويقتني عقارا وأطيانا زراعية ، وكانت له الحرية التامة في ممارسة شعائره الدينية، بل كانت وظائف الحكومة مفتوحة أمامه، ونرى في جبانة ثيبة قبورا لغير واحد من الضباط السوريين أو المولودين في مصر من والدين سوريين ممن عاشوا في البلاط الملكي.
وكان المهاجرون إلى مصر بنية التوطن فيها وعدم الرجوع إلى بلادهم يتمتعون بجميع الحقوق والامتيازات التي كان يتمتع بها أهل البلاد الأصليون، وأما الذين كانت إقامتهم وقتية، فقد أقاموا فيها تحت شروط معينة.
ومعلوم أن هذا التسامح من جانب مصر نحو المهاجرين المتوطنين في البلاد هو في مصلحة مصر كما هو في مصلحة الأجنبي، ويدل على نبوغ المصريين في ذلك العهد، وتفوقهم في فن الاقتصاد السياسي، ووقوفهم على أسرار رقي المجتمع الإنساني. (5) الدولة التاسعة عشرة والعشرون المصرية، ومملكة الحثيين في شمال سوريا (5-1) مملكة الحثيين
وقد ظهر بأس الحثيين وسطوتهم في شمال سوريا في عهد الدولة ال 19 المصرية، إذ كانوا في هذا العهد قد تغلبوا على «الرتنو»، واستولوا على سوريا الشمالية كلها، وكان أول ملك اشتهر لهم في التاريخ «سابلت» فقد نبذ الطاعة لملك مصر، وأغرى غيره من ملوك سوريا فنبذوا هم أيضا الطاعة لمصر، وكان قد حصل في آخر عهد الدولة ال 18 المصرية اضطراب سياسي ديني أضعف قوة مصر، فأصلح رعمسيس الأول (1380ق.م) مؤسس الدولة ال 19 شئون البلاد، ثم اهتم بإعادة سوريا إلى الطاعة، فحشد الجيوش، وزحف على فلسطين، فلم يصادف فيها مقاومة شديدة، وتقدم شمالا إلى العاصي فقابله ملك الحثيين بجيوش لم تكن في حسبانه، وكانت بينهما حرب لم نطلع على تفصيلها، والأرجح أن رعمسيس أضرب عن تدوينها لأنها لم تكن مشرفة له.
ولم يكن الفراعنة قبل هذا العهد يحسبون ملوك سوريا مساوين لهم فيتنازلون لعقد صلح معهم، بل كانوا يحسبونهم أعداء ينكلون بهم أو عصاة يعاقبونهم، فلما قامت دولة الحثيين رأينا رعمسيس قد عقد صلحا مع ملكهم دل على تكافؤ الملكين.
وخلف رعمسيس ابنه ساني الأول سنة 1326ق.م، ففي السنة الأولى من ملكه حارب العرب لأنهم أكثروا من السطو على تخوم مصر الشرقية، وفي السنة التالية زحف على سوريا ففتح قلعة قادس من الحثيين بعد قتال تعددت فيه الوقائع، ولكن لم يكن فتح قادس ختام القتال، فإن الحثيين دافعوا عن بلادهم شبرا شبرا، وكانوا كلما طال أمد القتال اشتدت عزائمهم وعظمت حميتهم، حتى أعيوا ساتي فاضطر أن يعقد صلحا مع ملكهم «متنار» ضمن لهم فيه بلادهم وأعاد لهم مدينتهم قادس، ولم يلزموا إلا بالكف عن الاعتداء على الأعمال المصرية في سوريا، وهي فلسطين وفينيقية، وقد أرسل ساتي إليها عمالا مصريين، وأقام حاميات دائمة في حصون غزة وعسقلان ومجدو وغيرها.
وخلفه رعمسيس الثاني الغازي الشهير سنة 1300ق.م، ففي السنة الرابعة بدت آثار ثورة في فلسطين يرجح أن يدا حثية حركتها، فحمل رعمسيس عليها مرتين، بلغ في إحداهما مدينة بيروت، وترك صورته محفورة على صخر عند مصب نهر الكلب.
وكان الحثيون إذ ذاك في أوج عزهم، فنقضوا الصلح الذي عقدوه مع أبيه وأخذوا يتأهبون لحربه، ومن الشعوب التي تحالفت عليه كما روت الآثار: سكان حلب، والجرجاشيون أحد فروع الكنعانيين، والآراميون سكان البقاع وأرواد، ولم يعلم عدد الجيوش المتحالفة، ولكن يظهر أنه كان كبيرا جدا، فإن ملك حلب وحده جهز 18000 جندي، وكان عدد المركبات الحربية 2500 أو أكثر.
وجهز رعمسيس الثاني الجيوش الجرارة، وزحف بها في السنة الخامسة من ملكه، فسار بطريق الساحل إلى طرابلس، وكان أهل الساحل إلى طرابلس ممالئين له، ومن طرابلس ترك الساحل واتخذ طريق حمص وواقع الحثيين في عدة وقائع دموية.
وكان متنار ملك الحثيين مدبرا واسع الحيلة، فكاد لرعمسيس حتى فصله عن معظم جيشه، وكاد يبطش به لولا أن أسرع جيشه إلى نجدته فأنقذه من الخطر وأكسبه النصر، وقد وصف بنتاور الشاعر المصري حرب رعمسيس هذه مع الحثيين بقصيدة نقشت على جدران هيكل الكرنك تجاه الأقصر، وكتبت في درج من البابيروس محفوظ الآن في المتحف البريطاني بلندن، ومما جاء فيه بلسان رعمسيس:
كنت وحدي لا يصحبني قائد ولا جندي إذ دهمني العدو، فصرخت أين أنت يا أبتاه «آمون رع» «الشمس»، هل يرى أب ابنه في ضيق ويتركه في ضيقه، هل خالفت لك أمرا أم نبذت لك مشورة أم أتيت أي عمل لا ترضاه؟ هل وقفت أم مشيت ولم أشخص بنظري إليك؟ هل تطيق أن يذل ملك مصر وسيدها لشعوب «الآمو» الذين يعاندونك ولا يقرون بألوهيتك؟ ألم أشيد لك معابد تدوم آلافا من السنين! ألم أملأ هيكلك بالغنائم التي أحرزتها من الأعداء؟ فبك أستجير وإياك أدعو يا أبتاه «آمون»، قد استجابني «رع» لما دعوته ومد إلي يده وقال: لا تخف يا رعمسيس أنا معك، أنا أبوك «رع» ويدي تعضدك، أنا خير لك من آلاف الجند، أنا رب النصر وعشيق الشجاعة، فإذا رأيت شجاعا باسلا مثلك همت بحبه ومنحته النصر، وفعلا نصرني على الأعداء، فكنت أرمي سهامي بيميني مثل مونت «إله الحرب» وأقبض بشمالي على الأعداء، وأرى الآن 2500 مركبة وأنا في وسطها وليس من رجالها من يمد يدا للقتال، فقد تولاهم كلهم الرعب وشلت أيديهم، فأغرقتهم بالماء كما يغرق التمساح.
وكان أن رعمسيس أدركه جيشه، وشبت نار الحرب النهار كله إلى أن أظلم الليل، ثم تجدد شبوبها في اليوم التالي، فكانت وقعة دموية دارت فيها الدائرة على الحثيين، فانكسرت صفوفهم، وقتل حامل سلاح الملك وقائد المشاة ورئيس الخصيان وكاتب الوقائع الرسمية وغيرهم، وحاول بعض المنهزمين أن يعبروا النهر سباحة فغرقوا ونجا مسرائيم أخو ملك الحثيين وغرق ملك «نينا» وانتشل ملك حلب من الماء.
فأرسل ملك الحثيين إلى رعمسيس في طلب الصلح يقول: «أيها الملك العظيم، إن الحثيين يشتركون مع المصريين في تقديم خدماتهم أمام قدميك، فإن «رع» أباك السعيد نصرك عليهم وولاك أمرهم، فأرفع عنهم غضبك فإنك شديد البأس، وقد نكلت بهم تنكيلا، أيحسن بك أن تفني عبيدا أنت سيدهم، فلقد قتلت منهم مئات الألوف، فإن عدت إلى القتال اليوم فلا يبقى من يخضع لك، فامنحنا نعمة الحياة.» ا.ه.
فعقد رعمسيس صلحا مع الحثيين وعاد إلى مصر، على أن ذلك الصلح لم يكن إلا هدنة على ضغن، فإن ملك الحثيين لم يلبث أن نفخ نار الثورة على رعمسيس في جنوب سوريا وتهيأ للحرب، فخرج رعمسيس بجيوشه في السنة ال 11 من ملكه، وتمكن من استرداد عسقلان وشلاما «أورشليم» والكرمل، وقهر جيوش الحلفاء في فلسطين وفينيقية وسهل البقاع، ثم زحف على قادس فافتتحها مرة أخرى وتوغل في بلاد العاصي إلى قلب بلاد الحثيين، ودامت هذه الحروب 15 سنة، ولم تخمد جذوتها حتى قتل متنار ملك الحثيين غيلة في بعض المعارك.
وخلفه أخوه «كيتاسار» أو خاتوسارو، وكانت الدولتان المتحاربتان قد ملتا القتال فعقدتا معاهدة صلح دلت على تكافئهما وتساويهما في العظمة والكرامة، وقد نقشت على جدار هيكل الكرنك، ولا تزال محفوظة إلى اليوم إلا أن آخرها مشوه، وهي أقدم معاهدة دونها التاريخ وخلاصتها:
إنه في السنة ال 21 من ملك رعمسيس محب آمون، في اليوم ال 21 من شهر طوبه، بينما كان جلالته في مدينة رعمسيس يقدم الفرائض لأبيه آمون رع ... وافاه مفوضان من قبل «كيتاسار» ملك الحثيين المعظم، ومعهما صحيفة من فضة كتبت عليها شروط الصلح والإخاء المؤبدين بين ملك مصر الكبير وكيتاسار ملك الحثيين الكبير، وهذا هو الاتفاق الذي وقع عليه:
قد كانت في أيام أخي متنار ملك الحثيين المعظم حروب طال عهدها مع ملك مصر المعظم، فمن الآن فصاعدا يكون سلام وإخاء مؤبدان بين بلاد مصر وبلاد الحثيين، فلا تنشأ بعد الآن عداوة بينهما البتة، بل يكون ملك مصر المعظم أخا لي محافظا على السلام، وأنا أكون أخا له محافظا على السلام، ويكون خلفاء رعمسيس العظيم على صفاء وإخاء مع خلفاء كيتاسار العظيم، ويكون المصريون والحثيون على صفاء وإخاء تامين إلى الأبد، فلا ملك الحثيين يسطو على أرض مصر ولا ملك مصر يسطو على أرض الحثيين، وأنا أرعى العهد الذي وقعه سبالات ملك الحثيين، والعهد الذي وقعه أخي متنار، وأسلك بموجبهما، وكذلك يفعل ملك مصر، وإذا غشي عدو أرض مصر وطلب ملك مصر النجدة من ملك الحثيين لزم ملك الحثيين أن ينجده بنفسه، وإذا تعذر عليه الحضور بنفسه أرسل رجاله وخيله لنجدته ، وكذلك إذا غشي عدو أرض الحثيين، وطلب ملكهم من ملك مصر النجدة أنجده بنفسه أو برجاله وخيله، وكل جان في إحدى المملكتين حاول النجاة من جزاء وقع عليه بالفرار إلى المملكة الأخرى لزم تسليمه إلى رئيس قبيلته، وكل عبد أبق من إحدى المملكتين وأضر بمولاه لزم رده إلى مولاه، وكذلك كل منتقل لغير جناية، وكل مأخوذ جبرا، وكل صاحب صناعة أو فن انتقل من المملكة الواحدة إلى الأخرى - كل من هؤلاء يرد إلى بلاده إذا طلبته، ولكن لا يحسب انتقاله من وطنه على هذه الصور جناية، فلا يمسه ضرر في بيته ، ولا تزعج امرأته ولا أولاده، ولا تضرب أمه، ولا يضرب هو على عينيه أو على فمه أو على قدميه، ولا يرفع عليه دعوى جزائية، ويلزم أن تكون المساواة التامة والاشتراك الكامل بين الشعبين المصري والحثي، هذا هو عهد الدفاع والهجوم الذي أبرم بين المملكتين، وقد استدعى كل من الملكين المتعاهدين آلهته للشهادة عليه والانتقام ممن يخالف شيئا مما أبرم فيه. ا.ه.
ويظهر أنه في هذا الاتفاق كانت سوريا من جبيل فجنوبا للمصريين، ومنها فشمالا للحثيين، وقد حافظ الفريقان عليه وعم السلام البلادين، وأمنت السبل وراجت التجارة برا وبحرا، وتزوج رعمسيس بنت كيتاسار ودعا حماه لزيارة مصر، فاستقبله في مدينة رعمسيس التي شادها في أرض جاسان حيث كان بنو إسرائيل مغتربين، ثم أتى به إلى ثيبة «الأقصر»، وأقام هناك نصبا حفر عليه صورته وصورة حميه وامرأته، وما زال هذا النصب باقيا هناك إلى اليوم، وخلف رعمسيس الثاني ابنه منفتاح، فكان خروج بني إسرائيل من مصر في عهده على المشهور كما مر.
ثم لا نجد ذكرا للحثيين في الآثار المصرية إلا في عهد رعمسيس الثالث أحد فراعنة الدولة العشرين المصرية سنة 1225ق.م، فإنه نقش على جدار مدينة «أبو» أسماء الملوك الذين أخضعهم، فكان بينهم «ملك الحثيين المنكود الحظ الذي أسر حيا في الحرب».
وأما مدينة قادس، فلم نعد نسمع بذكرها بعد الدولة ال 19 المصرية، والظاهر أنها هدمت وهجرت، واشتهر بعدها في شمال سوريا دمشق الشام، فأسس فيها الآراميون ملكا قويا ذكر كثيرا في التوراة، وأصبحت كركميش على الفرات عاصمة الحثيين، ويدل تاريخ آشور أنه كان للحثيين حروب شهيرة مع الآشوريين ملوك نينوى، وأن عاصمتهم كركميش سقطت بيد الآشوريين في عهد الملك سرجون سنة 716ق.م.
وتدل آثار الحثيين على أنهم بسطوا ولايتهم على آسيا الصغرى كما بسطوها على شمال سوريا، ولا يبعد أن يكونوا هم الكيتيو الذين ذكرهم هوميروس الشاعر اليوناني الشهير في إلياذته، وللحثيين آثار فخمة في الكبادوك وجهات أخرى في آسيا الصغرى، وفي كركميش وحلب ومرعش وحماة وحمص في سوريا .
ونرى في الآثار المصرية عدة صور للأسرى الحثيين، فهم أقرب إلى الرتنو منهم إلى سكان فلسطين، ولون وجوههم أبيض ضارب إلى الحمرة بخلاف الآمو الساميين فإن لون وجوههم مائل إلى الصفرة، ولا يطلق الحثيون لحاهم كالساميين، بل يحلقون لحاهم وشواربهم وشعر رءوسهم، ويتركون في أعلاها ناحية ولون شعورهم أسود، ولباسهم قميص طويل يصل إلى العقب، وتمثلهم الآثار المصرية حفاة للدلالة على أسرهم وذلهم، ولكن آثارهم في أوطانهم تدل أنهم كانوا يلبسون الأحذية المعكوفة رءوسها إلى فوق على مثال الأحذية المستعملة في سوريا إلى اليوم.
وقد كان للحثيين قلم خاص يكتبون به لم يحل العلماء رموزه بعد، وكانت معظم قوتهم الحربية في الخيل والمركبات، وكانت جيوشهم مدربة على القتال أحسن تدريب، وأجمل ما في طباعهم الانقياد إلى قوادهم. (6) الدولة الحادية والعشرون المصرية، ومملكة اليهود في فلسطين (6-1) مملكة اليهود
أما اليهود فقد مر بنا ذكر تاريخهم وخروجهم من أرض مصر إلى أن أسسوا ملكا في فلسطين سنة 1095ق.م، وكان ملوكهم: شاول، ثم داود النبي صاحب المزامير، ثم سليمان الحكيم صاحب سفر الأمثال والجامعة ونشيد الإنشاد، وهو باني هيكل اليهود في أورشليم، بناه على مثال خيمة الاجتماع، وأغنى قومه عن الخيمة.
وكانت البلاد الواقعة بين غزة وبليوسيوم خاضعة لمصر، وقد أطلق العبرانيون عليها «برية شور»، وأطلقوا على أهلها اسم العمالقة، وكانت مصر في عهد الدولة ال 21 قد فقدت السطوة التي كانت لها في عهد الدولة ال 19، فلما استأنس لسليمان الضعف من مصر غزا العمالقة وأخضعهم لسلطانه، ومد حدود مملكته إلى فرع النيل البليوسي.
وعرف سليمان فضل التجارة مما كانت تدره من الخيرات على جيرانه الفينيقيين، فكان يشتغل بها مع مصر «وكان مخرج الخيل التي لسليمان من مصر وجماعة تجار الملك أخذوا جليبة بثمن، وكانت المركبة تصعد وتخرج من مصر بست مائة شاقل من الفضة والفرس بمائة وخمسين، وهكذا لجميع ملوك الحثيين وملوك آرام كانوا يخرجون على يدهم» (1 مل10: 28). «وصاهر سليمان فرعون ملك مصر، وأخذ بنت فرعون، وأتى بها إلى مدينة داود» (1 مل3: 1). «وصعد فرعون ملك مصر وأخذ جازر (بين يافا والقدس)، وقتل الكنعانيين الساكنين في المدينة وأعطاها مهرا لابنته زوجة سليمان» (1 مل9: 16).
وتوفي سليمان سنة 975ق.م، فانقسمت مملكته إلى قسمين: مملكة يهوذا وتشمل سبطي يهوذا وبنيامين وقاعدتها أورشليم، ومملكة إسرائيل وتشمل سائر أسباط بني إسرائيل وقاعدتها السامرة.
ووقع الخصام بين المملكتين فانتصر شيشق ملك مصر (سنة 990-960ق.م) من ملوك الدولة ال 21 لمملكة إسرائيل على مملكة يهوذا: «وفي السنة الخامسة للملك رحبعام صعد شيشق ملك مصر على أورشليم، بألف ومئتي مركبة وستين ألف فارس، ولم يكن عدد للشعب الذين جاءوا معه من مصر لوبيين وسكيين وكوشيين، وأخذوا المدن الحصينة التي ليهوذا وأتى إلى أورشليم (2 أيام 12: 2) وأخذ خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك، وجميع أتراس الذهب التي عمل سليمان» (1 مل14: 25). (7) الدولة الرابعة والعشرون المصرية، والفينيقيون
وفي عهد الدولة ال 24 المصرية كان الفينيقيون لا يزالون أسياد التجارة البحرية بين مصر وسوريا، وكان من ملوك هذه الدولة الملك بقورس (سنة 743-737ق.م)، أقام في سايس على فرع النيل الكنوبي على نحو 40 ميلا من البحر المتوسط، وفي عهده كان الفرع البليوسي الذي عليه مدينة تانيس والفرع التيتني الذي عليه مدينة بوباستس قد بدءا يشحان، فتحولت التجارة الفينيقية منهما إلى الفرع الكنوبي. (8) الدولة الخامسة والعشرون المصرية، واليهود والآشوريون (8-1) زوال مملكة إسرائيل سنة 721ق.م
وفي عهد الدولة الخامسة والعشرين المصرية كان الآشوريون قد أسسوا مملكة قوية في نينوى «تجاه الموصل»، قامت على أنقاض مملكة بابل في العراق، وأشهر ملوكها شلمناصر فإنه مد فتوحاته غربا ففتح صيدا وعكا وجزيرة قبرص، وحاصر صور، وتهدد هوشع ملك إسرائيل، وكان على مصر إذ ذاك الملك سباقون المعروف في التوراة باسم «سوا»، فأرسل إليه هوشع هدايا وعقد معه محالفة ضد شلمناصر، ولكن ذلك لم يجده نفعا، فإن شلمناصر حاصر السامرة ودام الحصار 3 سنين، ومات شلمناصر في أثناء الحصار وخلفه على آشور الملك سرجون، ففتح السامرة وسائر مدن إسرائيل، وجلا أهلها إلى آشور، وبذلك انقرضت مملكة إسرائيل، وكان ذلك سنة 721ق.م بإجماع المؤرخين (2 مل17 و18)، وفي هذا الوقت هاجر كثير من اليهود إلى مصر وتوطنوا فيها. (8-2) السمرة
وأقام سرجون واليا آشوريا على السامرة، وضرب عليها الجزية وأسكنها قوما من بلاده، فكان منهم طائفة السمرة المشهورة، وقد كرههم اليهود منذ احتلوا بلادهم، وما زالوا يكرهونهم إلى اليوم. (8-3) واقعة رفح الأولى
وبعد أن فتح سرجون السامرة زحف على غزة بقصد فتحها، وكان حانون ملك غزة قد حالف سباقون ملك مصر، ففر حانون إلى رفح على حدود مصر، واستنجد بسباقون فأتاه بنجدة قوية، فسار سرجون بجيوشه إلى رفح والتقى هناك بجيش غزة ومصر، فهزمهما وأخذ حانون أسيرا إلى آشور، وأما سباقون فقد نجا، وهذه أول واقعة بين مصر وآشور وكانت في نحو سنة 720ق.م. (8-4) واقعة بليوسيوم الأولى
وفي نحو سنة 699ق.م عقد حزقيا ملك يهوذا حلفا مع طرهاقة ملك مصر، ورفض طاعة سنحاريب ملك آشور، فزحف سنحاريب بجيش عظيم لمحاربته، وعلم أن طرهاقة قادم بجيش لنجدة حزقيا، فلم ينتظره في سوريا بل سار بجيشه نحو مصر حتى أتى بليوسيوم، وكان يسكنها منذ القديم بحارة من الفينيقيين وغيرهم من الآسيويين ويحميها جيش من المصريين، فحصرها حصارا شديدا وحفر الخنادق، ورفع ترابها سورا حتى صار بعلو أسوار المدينة، وكان قد سير مراكبه في البحر نجدة لجيشه البري فحصر المدينة برا وبحرا، وما كاد استعداده يتم حتى هبت ريح شرقية فكسرت مراكبه في البحر، «وخرج ملاك الرب وضرب من جيش آشور مائة وخمسة وثمانين ألفا، فلما بكروا في الصباح إذا هم جميعا جثث ميتة، فانقلب سنحاريب ملك آشور راجعا إلى نينوى» (أشعيا 37: 36 و2 مل18: 35)، وبذلك انصرف الشر عن أورشليم ومصر معا. (9) الدولة السادسة والعشرون المصرية، واليهود والآشوريون والفرس
وخلف سنحاريب على آشور الملك أسرحدون، فحمل على مصر وأخذها من طرهاقة، وبقيت بيد الآشوريين إلى أن انتزعها منهم بسامتيك الأول (سنة 685-614ق.م) مؤسس الدولة ال 26، وقد ساعده على طرد الآشوريين من مصر مسترزقة اليونان، فأقطعهم أرضا بقرب بليوسيوم سميت «بالمعسكرات» فأحاطوها بالخنادق والمتاريس، وجعلوا مساكنهم وأحواض مراكبهم بداخلها، وكانوا حماة فم النيل البليوسي. (9-1) زوال مملكة يهوذا
وخلف بسماتيك على مصر ابنه نخو الثاني (سنة 614-608ق.م)، وفي أيامه كان الآشوريون قد دالت دولتهم، وتغلبت بابل على نينوى، وقامت على العراق مملكة بابل الثانية في عهد الملوك نبو بلاصر، فوقع بين ملوك بابل وملوك مصر نزاع على اليهودية، إذ أراد كل فريق ضمها إلى سلطانه، وكان اليهود إذ ذاك على قلتهم وضعفهم حزبين: حزبا مع البابلين وحزبا مع المصريين، فساعدوا الغير على أنفسهم، وانتهى النزاع بين الفريقين بأن ضمت اليهودية إلى بابل في عهد نبوخذنصر الذي أحرق أورشليم والهيكل، وهدم أسوارها وسبى اليهود إلى بابل، وذلك سنة 587ق.م، وبذلك زالت مملكة اليهود ولم يعد لهم وجه لطلب النجدة من مصر، فاتخذوا مصر ملجأ لهم، وصاروا يهاجرون إليها أفواجا، وهاجر معهم أرميا النبي، فكتب فيها مراثيه عن سقوط أورشليم وزوال ملك يهوذا، وكان على مصر إذ ذاك الملك بسامتيك الثالث المعروف في التوراة باسم هفرع، فرحب بهم وأسكنهم أرض جاسان بين ممفيس والبحر الأحمر، الأرض التي سكنها أجدادهم 400 سنة قبل الخروج (والتاريخ يعيد نفسه). (10) الدول السابعة والعشرون إلى الدولة الحادية والثلاثين المصرية، والفرس
وفي آخر عهد الدولة السادسة والعشرين قويت مملكة الفرس في عهد ملكها كورش، ففتح بابل من الكلدان سنة 538ق.م، ثم فتح سوريا وهم بفتح مصر، ولكن المنية عاجلته قبل أن يتم قصده، فخلفه ابنه قمبيز فزحف على مصر سنة 524ق.م. (10-1) واقعة بليوسيوم الثانية
وكان على مصر إذ ذاك الملك بسامنيتس، فجهز جيشا كبيرا من الجنود المصرية ومسترزقة اليونان وأتى مدينة بليوسيوم، وحضر قمبيز فعسكر على مرأى منه، ففر رجل من مسترزقة اليونان يدعى فانس ولحق بجيش قمبيز فاستعظم اليونان هذه الخيانة، وكان أولاد فانس عندهم فقتلوهم على مرأى من أبيهم، ثم مزجوا دمهم بالخمر وشربوا منه كلهم، وبعد ذلك التحم الجيشان فكانت واقعة لم تشاهد أسوار بليوسيوم أشد منها هولا، وكان النصر فيها لقمبيز، قالوا: فجمعت جثث القتلى بعد الواقعة فكان منها تل عظيم، ثم تقدم قمبيز إلى ممفيس وافتتحها وقتل ملكها، وبه انقرضت الدولة ال 26 المصرية، وأتى هيردوتس مصر بعد ذلك بقليل وزار محل الواقعة، فرأى تل الجثث، ولحظ أن جماجم الفرس ألين جدا من جماجم المصريين؛ لأن الفرس كانوا يلبسون العمائم الكبيرة على رءوسهم بخلاف المصريين فإنهم لم يكونوا يتعممون.
وبعد فتح قمبيز لمصر كان المصريون تارة يقوون على الفرس فيخرجونهم من مصر وتارة يقوى الفرس عليهم فيثبتون قدمهم في البلاد، ودامت هذه الحال إلى انقضاء ملك الفراعنة على مصر، وقد حصل في أثناء ذلك عدة وقائع بين الفريقين منها: غزوة تاخوس ملك مصر للفرس في فلسطين سنة 361-359ق.م، وذلك أن تاخوس لم يكتف باستقلال بلاده عن الفرس وتوطيد أركان الأمن فيها بل أراد إخراج الفرس من فلسطين، وكان في جيشه من مسترزقة اليونان 11 ألفا وعليهم أجسيلوس السبارطي، وعلى جيشه البحري شبرياس الأثيني، وكان جيشه المصري مؤلفا من 80 ألفا بقيادة ابنه نقتنيبو، وكان الجيش المصري قد استاء منه لاستخدامه اليونان في جيشه، فأعلنوا ابنه نقتنيبو قائدهم ملكا على مصر بدلا منه وعادوا به إلى مصر، وفي أثناء ذلك قرر الأثينيون في مجلس أعيانهم إخراج شبرياس من خدمة مصر إرضاء لصديقهم الملك أرتازركسيس الفارسي، هذا وكان أجسيلوس قائد مسترزقة اليونان صغير الجسم جدا، فقال له تاخوس مستهزئا به في ساعة غضب «تمخض الجبل فولد فارة»، فأجابه أجسيلوس «عما قريب ترى من هذه الفأرة أسدا إن شاء الله»، ثم ترك خدمته ودخل خدمة ابنه، وهكذا فقد تاخوس جيشه وأنصاره، فأرسل إلى أرتازركسيس في طلب الصلح، ولما لم يكن مراد أرتازركسيس التغلب على تاخوس بل على مصر قبل الصلح من تاخوس، وجعل تحت إمرته الجيش الذي كان قد أعده لقتاله ليسترجع به عرشه، ولكن قبل أن يتحرك جيش الفرس مات أرتازركسيس ثم مات تاخوس بالدوزنتاريا لعدم موافقة أطعمة الفرس له. (10-2) واقعة بليوسيوم الثالثة
وتولى الفرس إذ ذاك «أشوس»، فانتقض عليه محالفوه الفينيقيون وأهل قبرص وانضموا إلى أعدائه المصريين، فأصبح همه قبل الزحف على مصر استرجاع فينيقية؛ لأنه بفقدها فقد عمارته البحرية، ولأنه إذا لم يسد البحر المتوسط لم يستطع التغلب على مصر، فجمع جيشا عرمرما من جميع أنحاء بلاده، قيل بلغت عدته 300000 من المشاة، فيهم جيش من مسترزقة اليونان، و3000 فارس، و300 مركب حربي، و500 مركب للنقل، وزحف به على صيداء فافتتحها بخيانة كبير أعيانها تنس، ولما كان الخائن كذكر النحل لا يبقى فيه خير بعد خيانته قتله ليأمن شره، ونعم ما فعل! هذا وباستيلائه على صيداء دانت له سائر مدن فينيقية وقبرص، فسار بالبر والبحر ومسترزقة اليونان في مقدمة جيش البر حتى أتى مدينة بليوسيوم.
وكان نقتنيبو ملك مصر قد حصن هذه المدينة وجميع ثغور النيل، وحشد جيشا كبيرا فيه 20 ألفا من مسترزقة اليونان و20 ألفا من الليبيين و60 ألفا من المصريين، وارتكب الخطأ الذي وقع فيه أبوه، فلم ينتظر مهاجمة العدو له، بل بادأ العدو بالهجوم، ولما لم يقدر على صده رجع بنصف جيشه إلى ممفيس، فحاصر الفرس بليوسيوم حصارا فنيا، ورموا أسوارها بالآلات الهادمة، ففتحوا فيها ثغرات واسعة، وكانت حاميتها اليونانية كلما فتح الفرس ثغرة سدوها بجسور من الخشب، حتى سمعوا بفرار نقتنيبو ففاوضوا الفرس بالتسليم على شرط سلامتهم فسلموا وسلموا، ومعلوم أن معركة واحدة في بلاد أنهكتها المظالم تقضي على الحرب، فدخل الفاتح الفارسي مصر بلا قتال. (11) دولة اليونان البطالسة في مصر، وأحبار اليهود في فلسطين، والسلوقيون في سوريا والعراق
وفي هذا العهد ظهر إسكندر الكبير في مكدونية، واستولى على اليونان، وكان قد حصل بين اليونان والفرس مواقع شهيرة أخصها موقعة مراثون وموقعة ثرموبولي، فحمل الإسكندر على الفرس في عهد ملكهم دارا، فقهرهم في مضيق إسس شمالي خليج إسكندرونة سنة 333ق.م، ثم زحف على سوريا ففتح صيداء صلحا؛ لأن أهلها كانوا مغتاظين من الفرس لما فعلوه بهم عند فتح مدينتهم، ثم فتح صور عنوة بعد حصار سبعة أشهر ثم غزة بعد حصار شهرين، وقد أظهر أهل صور وغزة من البسالة والجلد في الدفاع عن مدينتيهما ما خلد لهم الفخر مدى الدهر. (11-1) واقعة بليوسيوم الرابعة
ولما فرغ الإسكندر من فتح فينيقية وملك البحر، زحف على مصر بطريق البر، ووافته عمارته بحرا حتى انتهى إلى بليوسيوم بعد مسيرة سبعة أيام، قطع فيها 170 ميلا في صحراء رملية قاحلة، وكان الفرس قد أخذوا معظم جيوشهم من مصر نجدة لدارا في واقعة إسس، ولم تكن الحاميات الباقية تقوى على المقاومة، وكان المصريون يكرهون الفرس لأنهم ظلموهم وأهانوا دينهم، فلم يخفوا فرحهم بوصول الإسكندر.
وكانت العمارة المصرية في بليوسيوم قد قاومت عمارة الإسكندر، فلم تثبت أمامها وفتحت المدينة أبوابها للإسكندر بلا قتال، فترك فيها حامية وتقدم بشاطئ النيل البليوسي، وكان قد أمر عمارته فوافته إلى هليوبولس، فعبر النيل هناك وتقدم إلى ممفيس، وكان عليها وال من قبل دارا، فسلمها للإسكندر بلا قتال، وذلك سنة 332ق.م.
وزار الإسكندر هيكل الشمس في واحة سيوة، وفي طريقه أمر ببناء مدينة الإسكندرية، فكانت من أعظم مواني البحر المتوسط إلى اليوم، وسار من مصر إلى العراق فافتتحها من الفرس سنة 331ق.م كما مر، ثم فتح الهند وعاد إلى بابل فمات فيها سنة 323ق.م، ولم يترك الإسكندر ابنا شرعيا يرث الملك بعده، بل ترك امرأته ركسانة حبلى، فقسمت ممالكه بين قواده، فكانت مصر من نصيب البطالسة. (11-2) واقعة بليوسيوم الخامسة
وكان القواد قد اتفقوا أن يجعلوا القائد بردكاس وكيل المملكة إلى أن تلد ركسانة، فولدت ابنا وسمته الإسكندر على اسم أبيه، ولكن بردكاس ما لبث أن طمع بالملك كله لنفسه، وسار لفتح مصر وأصحب معه ابن الإسكندر ليكون له حجة على إصدار الأوامر إلى بلاد الإسكندر.
وكان أول البطالسة على مصر بطليموس صوتر (سنة 322-284ق.م)، فالتقاه في بليوسيوم وتحصن في قلعة صغيرة قرب المدينة، فحصره بردكاس فيها، ولكن بطليموس خرج من القلعة ورده إلى معسكره وخنادقه.
وكان بردكاس فظا غطريسا فقام عليه بعض خاصته وقتله، وانضم جيشه إلى بطليموس فتقوى به، وكان ذلك سنة 321ق.م، وبعد قتال بردكاس وقعت مكدونية واليونان في يد القائد كسندر فقتل ركسانا وابنها ليخلو له الجو.
ورأى بطليموس صوتر أن ضم فلسطين وفينيقية وجزيرة قبرص إلى مصر ضربة لازب وقاية لها من مهاجمة الأعداء، وكان على سوريا إذ ذاك القائد لاوميدون فجهز عليه جيشا بريا عقد لواءه لقائده نيكاتور وسار هو في البحر إلى شطوط فينيقية، فانتصر نيكاتور على لاوميدون وأخذه أسيرا، وافتتح بطليموس فينيقية ثم تقدم إلى فلسطين لإخضاع اليهود. (11-3) أحبار اليهود
وقد تقدم أن نبوخذنصر ملك آشور سبى اليهود إلى بابل سنة 587ق.م، فلما فتح كورش الفارسي بابل عطف على اليهود - ربما لأنهم ساعدوه على فتح بابل - فأطلقهم من السبي، وأذن لهم في الرجوع إلى بلادهم سنة 536ق.م، فرجع منهم 42000 نسمة وسكنوا أورشليم، وأعادوا بناء الهيكل فأتموه سنة 516ق.م، ثم جاء عزرا من بابل ومعه 1777 نفسا وفيهم الأسرة المالكة، وفي سنة 445ق.م جاء إلى أورشليم «نحميا» وكان مكرما في دار أرتازركسيس ملك الفرس، ولكنه فضل خدمة قومه وبلاده، فعينه الملك واليا على أورشليم، وكان في الوقت نفسه الحبر الأعظم لليهود، ومن ذلك الحين أصبح الحبر الأعظم رئيس الشعب الديني والسياسي تحت سيادة الفرس، وبقي اليهود خاضعين للفرس إلى أن طردهم الإسكندر من سوريا سنة 333ق.م كما مر، فدانوا له، وبعد موته وقعت سوريا واليهودية في يد القائد لاوميدون فحلفوا له يمين الطاعة، فلما أتى بطليموس قاوموه برا بيمينهم إلى لاوميدون، فحصر بطليموس أورشليم طويلا، ثم علم أن اليهود لا يأتون عملا يوم السبت فهاجمهم في يوم سبت وقعدوا عن الدفاع! فافتتح المدينة وعامل أهلها بالشدة وأسر منهم نحو مائة ألف أسير وأرسلهم إلى مصر، ثم تذكر بسالتهم وحفظهم العهد لحكامهم فرفق بهم وجعل عليهم في بلادهم واليا منهم.
ودام حكم البطالسة على اليهود نحو مائة سنة، فلم يثقل نيرهم عليهم لأن البطالسة سمحوا لهم أن يحكموا أنفسهم ويختاروا أحبارهم، وكان أحبارهم ينوبون عن الولاة على جزية يدفعونها لمصر، واشتهر من اليهود في عهد بطليموس الأول الحبر سمعان نحو سنة 300ق.م، وكان مستقيم السيرة فلقب بالعادل. (11-4) واقعة غزة الأولى سنة 312ق.م
هذا وكان على آسيا الصغرى من قواد الإسكندر القائد أنتيغونس، فطمع بالاستيلاء على أملاك الإسكندر كلها وبالخلافة له، فتألب عليه كسندر ملك مقدونية وبطليموس ملك مصر ولسيمخوس ملك تراقيا، وانتشبت الحرب بينهم في البر والبحر سنة 315ق.م، فانكسرت جنوده في واقعة بحرية.
وكان من رأي بطليموس أن قبرص هي مفتاح فينيقينة، كما أن فينيقية مفتاح مصر، فاستولى على قبرص وبقيت خاضعة لمصر في كل عهد البطالسة - إلا في فترات قليلة - حتى استولى عليها الرومان سنة 57ق.م.
وفي سنة 314ق.م جدد أنتيغونس قواه وزحف بجيش عظيم لامتلاك سوريا ومصر، فلما درى بطليموس به أخذ من فينيقية كل ما وجد من السفن، وقوى حصونها الجنوبية بزيادة حامياتها، فلما وصل أنتيغونس رأى جميع مراكبها قد أخذت إلى مصر، ولم يكن في وسعه مهاجمة مصر، بل لم يكن في وسعه فتح مدن فينيقية الجنوبية بلا عمارة بحرية، فشرع في بناء السفن في جبيل وطرابلس مستخدما ألوفا من العمال في قطع الأشجار من جبل لبنان، وجد في العمل حتى بنى أسطولا كاملا في سنة واحدة، وسار إلى فينيقية الجنوبية، ففتح صيداء وصور وغزة بعد عناء شديد، ثم شرع في تجهيز جيشه للزحف على مصر، وفيما هو كذلك إذ أتاه الخبر أن كسندر ملك مكدونية قد استحوذ على أمكنة عديدة من آسيا الصغرى، فأسرع بفرقة من جيشه لمقاتلة كسندر، وترك سائر الجيش مع ابنه ديمتريوس وأمره بمهاجمة مصر، وكان مع ديمتريوس عمارة بحرية فيها 243 مركبا حربيا، وجيش بري فيه 11000 من المشاة و2300 من الفرسان و43 من الأفيال ولفيف من البرابرة المسلحين بالأسلحة الخفيفة.
فخرج بطليموس من الإسكندرية للقائه حتى أتى غزة ومعه من الجيوش 18000 من المشاة، و4000 من الفرسان، وكلهم من اليونان النظاميين والمسترزقة، ومعهم لفيف من المصريين بعضهم مسلح للقتال وبعضهم للاهتمام بالمؤن والذخائر، فالتقى الجيشان في ضواحي غزة، فاتقى بطليموس شر الأفيال باستخدام أطباق الحديد، وانجلى القتال عن انهزام ديمتريوس بعد أن ترك في حومة الوغى 5000 من القتلى و8000 من الأسرى، وغنم بطليموس أفياله وخيمه وأمتعته، واستولى على اليهودية وفينيقية والبقاع، وأرسل جيشا مع أحد قواده لمطاردة ديمتريوس فأدركه في جوار طرابلس، ووقع القتال فكان النصر لديمتريوس، وقد وقع في يده 6000 أسير من جيش بطليموس. (11-5) واقعة بليوسيوم السادسة (سنة 305ق.م)
وبلغ أنتيغونس خبر ابنه، فأسرع إليه من فريجيا بجيش كبير، وكان بطليموس رجلا عاقلا حذرا، فلم يكن يقدم على موقعة فاصلة خسارتها تفقده ملكه؛ لذلك لم يقف في وجه أنتيغونس في سوريا، فهدم حصون عكا ويافا والسامرة وغزة، ورجع بجيوشه إلى مصر تاركا صحراء سيناء بينه وبين أنتيغونس، وكان ذلك سنة 311ق.م.
ولكن أنتيغونس بقي مصمما على غزو مصر، وكان قد نوى غزوها بطريق البتراء، فوقف النبط في وجهه كما مر، فلم يبق أمامه إلا طريق الفرما، ولما كان غزو مصر بهذه الطريق يقضي بامتلاك قبرص وكانت قبرص في يد بطليموس، كان أول ما فعله أنه جهز ابنه ديمتريوس بجيش فأخذ قبرص عنوة بعد واقعة عنيفة سنة 306ق.م.
وفي السنة التالية جهز أنتيغونس في البقاع جيشا يزيد عن 80000 من المشاة، و8000 من الفرسان، و83 من الأفيال، وعاد ابنه ديمتريوس من قبرص بأسطول فيه 150 سفينة حربية، و100 سفينة للنقل مشحونة بالمؤن ومعدات الحرب.
ولم أتم استعداده سار بجيشه في صحراء بليوسيوم وسار ابنه ديمتريوس محاذيا له في البحر، ولكن لم يسر ديمتريوس إلا قليلا حتى هبت الرياح الشمالية التي تكثر في تلك الجهة، فألح البحارة عليه بالانتظار ثمانية أيام ريثما تسكن هذه الرياح، فأبى صلفا وتكبرا؛ فأغرقت الريح بعض المراكب وقذفت بالباقي إلى ميناء بليوسيوم فوقعت غنيمة باردة في يد بطليموس.
وكان بطليموس قد حصن جميع الأمكنة في طريق أنتيغونس، فصده في كل مكان، وفر جماعات من جيش أنتيغونس وانضموا إلى جيش بطليموس، فلما رأى أنتيغونس ذلك ورأى النكبة التي أصابت مراكبه في البحر اضطر أن يعمل بمشورة قواده، وعاد بجيشه إلى سورية وعاد بطليموس إلى الإسكندرية، ثم غاب أنتيغوس وابنه عن سوريا، فحمل عليها بطليموس واسترجع فينيقية لحد عكا واليهودية والبقاع.
وعاد قواد الإسكندر فتألبوا على أنتيغونس، وحشد كل منهم جيشا مؤلفا من نحو 80 ألف مقاتل، وأوقعوا به في إبسوس من أعمال فريجية فقتلوه، وكان ذلك سنة 301ق.م، وأما ابنه ديمتريوس فإنه فر من واقعة إبسوس بجيش صغير من المشاة والفرسان ، وبقي شريدا والأقدار ترفعه تارة وتحطه أخرى حتى وقع أسيرا في يد سلوقوس سنة 286ق.م ومات سنة 283ق.م.
واقتسم القواد مملكة الإسكندر من جديد، فكان نصيب بطليموس مصر وجنوب سوريا وجزيرة قبرص، وسلوقوس بابل وشمال سوريا وجانبا من آسيا الصغرى، ولسيمخوس ما بقي من آسيا الصغرى وتراقية.
وأصبحت هذه البلاد كلها ممالك يونانية، ولكن لم يكن في مملكة منها من اليونان بقدر ما كان في مصر السفلى، ولا سيما مدينة الإسكندرية، وكانت مصر إذ ذاك محكومة بقوانين مصرية وقضاة مصريين، ومع ذلك فقد كانت الإسكندرية خاضعة للقانون المكدوني، ولم يكن يسكن الإسكندرية مصري إلا ويشعر أنه من شعب مغلوب على أمره؛ لأنه لم يكن يتمتع بالحقوق المدنية التي كان يتمتع بها اليونان واليهود من سكان تلك المدينة، مع أنه لم يكن يدخل تلك المدينة يوناني أو يهودي إلا كانت تعطى له تلك الحقوق بحال دخوله، وبقيت هذه الحال لا سيما في ما يتعلق باليونان إلى أن استولى العرب على الإسكندرية في أيام عمرو بن العاص. (11-6) الدولة السلوقية في سوريا
أما سلوقوس مؤسس الدولة السلوقية في سوريا، فهو ابن رجل مكدوني اسمه أنطيوخوس، رافق الإسكندر في غزواته وبعد موت الإسكندر عضد بردكاس إلى أن طمع بمصر فخرج عليه، وبعد قتل بردكاس اقتسم القواد الأملاك، فكان نصيب سلوقوس بابل والقسم الشرقي من مملكة الإسكندر، ولكن أنتيغونس ضايقه ففر من بابل ولجأ إلى مصر، فرافق بطليموس في حملته على فلسطين وحضر معه واقعة غزة الأولى سنة 312ق.م المتقدم ذكرها.
وبعد الواقعة أخذ شرذمة من العساكر وأسرع إلى بابل، فجرد أنتيغونس عليه جيشا فقهر جيش أنتيغونس واستقل بالملك، وأسس مملكة عظيمة عرفت بالدولة السلوقية، وكان بدء تاريخها أول أكتوبر سنة 312ق.م.
ثم بعد أن تغلب قواد الإسكندر على أنتيغونس في إبسوس سنة 301ق.م ألحق سلوقوس بأملاكه شمال سوريا، وكان اليونان في هذا القسم من سوريا أكثر عددا مما هم في بابل، فبنى عاصمة جديدة على نهر العاصي سماها أنطاكية على اسم أبيه، ونقل إليها عاصمته نحو سنة 300ق.م، فقدمت بابل لهذه المدينة الجديدة نفس الطاعة التي قدمتها ممفيس للإسكندرية في مصر في عهد البطالسة، وأصبحت آشور وبابل ولايتين تابعتين لأنطاكية، ولقب أسلاف سلوقوس أنفسهم ملوك سوريا لا ملوك بابل، وبنى سلوقوس وأسلافه مدنا كثيرة في سوريا، منها سلوقية عند مصب العاصي محل السويدية الآن، وهي فرضة أنطاكية على 12 ميلا منها، وبنوا اللاذقية وغيرها، وأدخلوا تمدن اليونان إلى كل مدن سوريا.
ومنذ أيام سلوقوس انقسمت سوريا قسمين: الشمالي للسلوقيين في أنطاكية، والجنوبي للبطالسة في مصر، ولكن السلوقيين ما برحوا يدعون أن جنوب سوريا أيضا داخل في نصيبهم، فحصل بينهم وبين البطالسة لأجلها حروب طال أمدها، وجرت على سوريا عموما وسوريا الجنوبية خصوصا أعظم الويلات وأمر الشدائد.
وكان الصوريون إلى عهد بطليموس الثاني الملقب فيلادلفوس (سنة 284-246ق.م) قد احتكروا تجارة البحر الأحمر كما احتكروا تجارة البحر المتوسط، فكانوا ينقلون السلع بالبحر الأحمر إلى أيلة، فتنقلها القوافل إلى صور، فأراد بطليموس أن يحول تجارة البحر إلى الإسكندرية، فأنشأ كثيرا من السفن في البحر المتوسط والبحر الأحمر، وبنى مدينة على شاطئ البحر الأحمر الغربي سماها بيرنيس باسم أمه، وكانت السلع تأتيها بالمراكب من الهند والعربية وفارس والحبشة، وتنقلها القوافل إلى النيل عند قنا، ثم تحمل بالمراكب إلى الإسكندرية فتشحن فيها إلى الغرب، وتستأتي منه البضائع إليها، فكان هذا داعيا للتحاسد بين أنطيوخوس صاحب سوريا وبطليموس صاحب مصر. (11-7) عود إلى أحبار اليهود
وكتب بطليموس الثاني هذا إلى أليعازر رئيس أحبار اليهود وأخي سمعان المار ذكره أن يرسل إليه رجالا خبيرين بشريعة اليهود وأهلا لترجمة التوراة إلى اليونانية، وأطلق الحرية لمائة وعشرين ألفا من اليهود المقيمين في مصر ليعودوا إلى أوطانهم، فبعث إليه أليعازر باثنين وسبعين رجلا من علماء اليهود، ستة من كل سبط من أسباطهم الاثني عشر، فرحب بهم بطليموس وأكرم مثواهم وأنزلهم في جزيرة فاروس تجاه الإسكندرية، فترجموا له التوراة المعروفة الآن بالترجمة السبعينية، فأجزل جوائزه لهم وأعادهم بهدايا ثمينة إلى رئيس الأحبار.
وفي عهد بطليموس الثالث الملقب يورجيتس (سنة 247-222ق.م) كان الحبر الأعظم على اليهود أونياس الثاني، فأبى أن يؤدي له الجزية، فتهدد اليهود فشخص يوسف بن أخت أونياس إلى مصر ليصرف غضب الملك، وكان يوسف رجلا كيسا ذكي الفؤاد خفيف الروح لطيف المعشر، فأحبه الملك وأعجب به حتى إنه دعاه لينزل في قصره، وكان يركبه معه في عربته ويدعوه إلى مائدته.
واتفق أنه عرض خراج البقاع وفينيقية والسامرة بالمزاد، فقدم الملتزمون 8000 وزنة من الفضة، أي مليون و200 ألف جنيه، فقدم يوسف ضعفي ذلك، فقال له الملك: ومن كفيلك؟ قال مازحا: «لأنت كفيلي أيها الملك وجلالة الملكة»، فسر الملك منه ومنحه ما طلب، وبقي في هذه الوظيفة نائلا رضا الملك مدة 22 سنة، وهذا يوسف ثان في مصر. (11-8) واقعة رفح الثانية سنة 217ق.م
وفي عهد بطليموس الرابع الملقب فيلوبتر (سنة 222-205ق.م) كان على سوريا أنطيوخوس الثالث الملقب بالكبير، ففتح صور وعكا وزحف على مصر قصد افتتاحها، فأتى بليوسيوم سنة 217ق.م ، فهب بطليموس الرابع وحشد جيوشه فكان مجموعها 73000 مقاتل من المصريين واليونان والمكدونيين وأهل تراقية والغاليين و73 فيلا، وسار قاصدا بليوسيوم، ولكن قبل وصوله إليها كان أنطيوخوس قد عاد بجيشه إلى سلوقية لقضاء فصل الشتاء فيها.
وسعى بعضهم إذ ذاك بالصلح بين الملكين، فكان بطليموس يدعي أنه عند قسمة المملكة بعد قتل أنتيغونس وقعت فينيقية واليهودية والبقاع في نصيب بطليموس الأول، وزعم أنطيوخوس أنها وقعت في نصيب سلوقوس وهو وارثه وخليفته، فهي إذن له، ولما لم يسلم فيلوبتر بذلك عاد أنطيوخوس في الربيع فزحف على مصر ومعه من الجيوش 72000 من المشاة و6000 من الفرسان و102 من الأفيال.
فزحف فيلوبتر بجيوشه إلى الحدود لصده عن الدخول لأرض مصر، فالتقاه أنطيوخوس قرب مدينة رفح «على نحو 100 ميل من بليوسيوم»، وكان فيلوبتر متزوجا شقيقته أرسينوي، فرافقته إلى الحدود وركبت فرسها وجالت معه بين الصفوف تحرض الجند على القتال والاستبسال في الدفاع عن نسائهم وأولادهم، وحل الجيشان الواحد على مقربة من الآخر، فدخل ثيودوت أحد قواد أنطيوخوس ذات ليلة معسكر الجيش المصري متسترا في الظلام يصحبه نفران من أتباعه، فظنه الجنود مصريا وسار حتى انتهى إلى خباء بطليموس قاصدا قتله، ودك ركن الحرب بضربة واحدة، ولم يكن بطليموس في خبائه فقتل طبيبه - وهو يظنه الملك - وجرح اثنين من حاشيته، فقلق الجيش ونجا ثيودوت تحت جنح الظلام وعاد إلى معسكره.
وفي الغد صف الملكان جيشيهما للقتال، ووقف كل منهما أمام صفوفه تشجيعا لهم، ونزلت امرأة بطليموس مع بعلها إلى ساحة القتال لتثير الحمية في رءوس المصريين، وفي بدء القتال ظهر أن المصريين كانوا في خطر الانكسار لأنه لما اقترب الجيشان وشمت الأفيال الإثيوبية رائحة الأفيال الهندية ارتعدت وانكمشت عن منازلة أفيال أضخم منها جدا، ثم عند التحام الجيشين انكسر الجناح الأيسر لكل منهما، ولكن قبل أن ينتهي النهار انهزم جيش أنطيوخوس انهزاما تاما، فرجع إلى غزة ومنها إلى أنطاكية تاركا في ساحة القتال عشرة آلاف قتيل وأربعة آلاف أسير، واسترجع بطليموس فينيقية واليهودية والبقاع وعاد إلى مصر. (11-9) واقعة بليوسيوم السابعة: نحو سنة 170ق.م
وفي عهد بطليموس السادس الملقب فيلومتر (سنة 181-146ق.م) كان على سوريا خاله أنطيوخوس الرابع الملقب أبيفانس، وكان فيلومتر قد تولى الملك بعد وفاة أبيه سنة 181ق.م وهو ابن ست سنين، فاستلمت أمه أخت أنطيوخوس الرابع زمام الملك، فكانت ذكية حسنة السياسة، لكنها لم تعش طويلا فماتت سنة 173ق.م، فتولى اثنان من الأخصاء: «ليناي» أحد أشراف البلاد و«أولاي» أحد الخصيان زمام الملك بالوكالة، وكانا عاجزين ضعيفي الرأي وهما يجهلان عجزهما ويدعيان المقدرة على إدارة الملك، فبدلا من تحصين الحدود وتقوية البلاد من الداخل أرادا أن يتشببا بطلاب المجد في مباشرة الحروب، وكان أنطيوخوس الثالث قد انتزع اليهودية والبقاع من مصر، ثم أعطاهما مهرا لابنته كليوبترا عند تزويجها بطليموس السادس، ولم يسلمهما عند الزواج، فأرسل ليناي وأولاي إنذارا إلى أنطيوخوس الرابع ملك سوريا ليخلي اليهودية والبقاع مهر كليوبترا، فأبى بحجة أن شرط هبة البلادين مهرا لم يكن إلا تلجئة فهو فاسد باطل لا يعمل به، فأعلنا الحرب عليه، فحشد جيوشه وسار إلى مصر فالتقاه فيلومتر بجيشه عند بليوسيوم فقهره أنطيوخوس وأخذه أسيرا، ثم تقدم إلى ممفيس فدخلها بدون مقاومة، وكان يورجيتس أخو فيلومتر مع شقيقته كليوبترا في الإسكندرية، فأعلن نفسه ملكا على مصر.
فزحف أنطيوخوس بجيشه إلى الإسكندرية وحصرها، ولكنه عجز عن فتحها، فجعل فيلومتر ملكا في ممفيس وعاد إلى سوريا، ولكنه أبقى بليوسيوم تحت سلطته وجعل فيها حامية قوية ليتمكن من الدخول إلى مصر أي وقت شاء، وقد أمل أن يتنازع الشقيقان ملك مصر فتشتعل بينهما حرب أهلية وتضطرب مصر، فتمسي فريسة له، فعلم الشقيقان مراد أنطيوخوس فعقدا صلحا على أن يملكا معا، وفي الوقت نفسه اتخذ فيلومتر أخته كليوبترا زوجة له، وهذا الزواج الذي تقشعر منه أبداننا اليوم لم يكن ممنوعا بشرائع البلاد وعاداتها، وكانت كليوبترا السبب في منع الشقاق بين الشقيقين، وفي السنة التالية للصلح قدم أنطيوخوس الرابع إلى مصر وطلب أن يعطى جزيرة قبرص ومدينة بليوسيوم ثمنا لسكوته، ثم تقدم إلى ممفيس ففتحت له أبوابها ثم زحف على الإسكندرية. (11-10) دولة الرومان
وكان الرومان في هذا العهد قد أسسوا جمهورية قوية في رومية، وتغلبوا على فيلبس ملك مكدونية سنة 205ق.م، وقهروا هنيبال بطل قرطاجة العظيم في موقعة فاصلة قرب مدينة زاما سنة 202ق.م، وأصبحت المملكة الرومانية سيدة الممالك، وجميع الدول ترهب جانبها، وكان يورجيتس الثاني قد استجار بها من أنطيوخوس الرابع، فلما كان هذا على أربع أميال من الإسكندرية التقاه سفراء رومية وأمروه بترك البلاد، ولما لم يجب تقدم إليه بوبيلوس أحد السفراء ورسم بعصاه دائرة على الرمل حول مجلسه وقال له: «إذا تخطيت هذه الدائرة قبل أن تعد بالخروج من مصر، فيعد ذلك منك إعلانا للحرب على رومية»، فلم يسع أنطيوخوس إذ ذاك إلا الخروج من مصر، وكان ذلك سنة 169ق.م. (11-11) دولة المكابيين اليهود
هذا وفي مدة الحرب بين بطليموس السادس وأنطيوخوس الرابع انقسم اليهود بينهما حزبين، فلما عاد أنطيوخوس من مصر أول مرة سنة 170ق.م دخل أورشليم ساخطا، فأخذ يقتل في الذين كانوا على غير حزبه، ونهب الهيكل، وسمى على اليهود يونانيا يدعى فيلبس فأذلهم.
وكان أونياس رئيس الكهنة في رأس حزب مصر، فجمع جمهورا كبيرا من رجال حزبه، وأتى بهم إلى مصر فأحسن فيلومتر استقبالهم وأكرم مثواهم وأقطعهم أرضا في أون في مقطاعة هليوبولس على نحو 20 ميلا من ممفيس، الأرض التي سكنها أجدادهم لما دخلوا مصر مع يعقوب قبل هذا العهد بمئات السنين، وأذن لهم أن يبنوا هيكلا ويرسموا كهنتهم ويقيموا شعائر ديانتهم، فبنى أونياس هناك هيكلا على مثال هيكل أورشليم، فكان بناء هذا الهيكل وإقامة الشعائر الدينية فيه علة دائمة للخصام بين اليهود اليونان واليهود العبرانيين.
ثم لما عاد أنطيوخوس من مصر المرة الثانية سنة 168ق.م عزم على النقمة الشديدة من اليهود، فأرسل لإتمام عزمه قائدا يسمى أبولونيوس وجهزه بجيش كبير، فأتى أورشليم وانتظر حلول السبت، فدخل المدينة وسرح جنوده فقتلوا الرجال واستعبدوا النساء والأولاد، وأحرقوا المنازل وهدموا الأسوار، ثم احتلوا البرج على جبل صهيون وحصنوه ليتمكنوا من التسلط التام على المدينة، وبقي هذا الحصن في يد جنود ملك سوريا إلى أن طردهم منه سمعان المكابي سنة 143ق.م، ثم سعى أنطيوخوس في إلغاء دين اليهود وإكراههم على دين اليونان، فأرسل إلى أورشليم لهذا الغرض رجلا شديد التعصب يدعى أثينيوس، فأقام في الهيكل تمثالا لزفس وتمثالا لأنطيوخوس، وقدم لهما ذبايح من الخنازير، وأكره الناس على المشاركة فيها، وبلغ الظلم حدا لا يتحمله الطبع البشري، فكان ذلك السبب في قيام دولة المكابيين المشهورة بين اليهود، وذلك أنه لما عظم الاضطهاد على اليهود في أورشليم فر منها من استطاع الفرار، وكان بين هؤلاء كاهن اسمه متاثيا فر إلى مدينة مودين في نواحي بلاد فلسطين هو وعائلته، وكان له خمسة بنين، فأتى رسول الملك إلى مودين وبنى مذبحا وأمر السكان أن يذبحوا للأوثان، وقال: من لم يمتثل الأمر يقتل، فأراد أحدهم أن يعمل بأمر الملك فقام عليه متاثيا وقتله وقتل رسول الملك وهدم المذبح ونادى بالدفاع عن شريعة موسى، ثم التجأ إلى بعض كهوف الجبال فنصره بنوه وجماعة من أهل الحمية الدينية، فأعلن الجهاد على اليونان.
وكان متاثيا طاعنا في السن، فمات سنة 166ق.م وخلفه ابنه يهوذا، وكان رجلا شهما حسن التدبير يلتهب غيرة على وطنه ودينه وجنسه، فاستمر بالجهاد الذي أعلنه أبوه على اليونان، وأصلاهم هو وإخوته من بعده حربا دامت سنين أظهروا فيها البأس وصدق العزيمة في النزال ما أدهش الأعداء، وكان من خطة يهوذا أن يبيت الأعداء ويهاجمهم على غير انتظار ثم يستبسل في القتال، وقد انتصر على جيوش أنطيوخوس في عدة وقائع واسترجع أورشليم عنوة سنة 165ق.م، ثم تكاثرت عليه جيوش اليونان فاضطر إلى الفرار منها، وطاردوه إلى نواحي أشدود، وكانوا نحو 20 ألفا، ولم يكن معه سوى 800 رجل، فثبت هو ورجاله وحاربوا حرب الأبطال مدة، ولما تكاثرت عليه الجيوش نادى رجاله قائلا: «لقد دنا أجلنا، فلنمت موت الأبطال»، ثم حملوا على ميمنة العدو فكسروها غير أن الميسرة دارت عليهم من خلفهم وأحاطت بهم لقلة عددهم، فقتل يهوذا ومعظم رجاله، وكان يلقب مكابيوس فعرف قومه بالمكابيين.
وخلفه أخوه يوناثان، ثم أخوه سمعان، وما زال هذا يجاهد في سبيل الاستقلال حتى ناله وعاد إلى أورشليم سنة 143ق.م، وطرد اليونان منها، وقد ساعده على الاستقلال محالفته للرومان، وانقسام أفراد الأسرة السلوقية بعضهم على بعض، وقيام دولة الفرثيين في شرق دجلة وطموحها لامتلاك سوريا وانتزاعها من يد السلوقيين.
وقتل سمعان غدرا سنة 135ق.م، وخلفه ابنه هركانوس، فملك إلى سنة 106ق.م.
وخلف هذا ابنه أرستوبولس، فكان أول من لبس التاج وسمى نفسه ملكا، ولكنه كان يسمى أيضا رئيس الأحبار، وخلفه أخوه إسكندر ينيوس سنة 105ق.م، فملك إلى سنة 78ق.م، وكان له ابنان هركانس الثاني وأرستوبولس، فصار الأول وهو البكر رئيس الكهنة والثاني قائد الجيوش.
وكان اليهود في آخر ملك هركانوس الأول قد انقسموا حزبين دينيين سياسيين:
الصدوقيين:
ويقولون: إنه ليس قيامة ولا ملاك ولا روح.
والفريسيين:
ويقولون بكل ذلك (أعمال 23: 8).
وكان هذا الخلاف علة الشقاق الدائم والخراب، وقد استولى الرومان على سوريا وانتزعوها من يد السلوقيين سنة 64ق.م، ثم استولوا على اليهودية عنوة على يد بمبيوس الكبير سنة 63ق.م، فولى بمبيوس هركانوس الثاني واليا على اليهودية تحت سلطة رومية، وأخذ أخاه أرستوبولس أسيرا إلى رومية، ومن ذلك العهد صار الرومان يولون الولاة من قبلهم على اليهودية إلى انقضاء ملكهم.
وكان هدم استقلال المكابيين ضربة قاضية على يهود مصر كما كان على يهود سوريا، فإن يهود مصر لما كان إخوانهم أسياد اليهودية كانت رءوسهم مرفوعة، وكان مقامهم فيها كمقام اليونان، فلما سقطت أورشليم وزال ملكهم نكست رءوسهم وانحطوا في عيون أنفسهم كما انحطوا في عيون الآخرين، ونزلوا عن مقامهم إلى مصاف عامة المصريين. (11-12) واقعة بليوسيوم الثامنة سنة 55ق.م
هذا وكان على مصر في هذا العهد بطليموس الملقب أوليتس، وكان ضعيفا فكرهه قومه، وفي سنة 57ق.م ضم الرومان قبرص إلى أملاكهم، فلم يحتج عليهم فزاد قومه كرها له، وقاموا عليه بالسلاح ففر إلى رومية، وطلب من مجلس الشيوخ أن يساعدوه بجيش لاسترجاع ملكه، فلم يفلح لأن رئيس الكهنة أعلن أنه ثابت في كتبهم «أن رومية يجب أن تكون صديقة ملك مصر، ولكن لا يجب أن تمده بجيش»! إلا أن أوليتس تمكن من مصادقة «بمبيوس الكبير»، فأخذ منه كتاب توصية إلى غابينوس الوالي الروماني على سوريا، وأتى سوريا فنقد غابينوس 15000 جنيه على أن يمكنه من استرجاع عرش مصر، فجهز غابينوس بجيش وأرسل معه مرقس أنطونيوس أميرا على الفرسان، وأمده هركانوس والي اليهودية بجيش من اليهود بقيادة أنتيباتر الأدومي، وسار غابينوس بالجيشين سنة 55ق.م حتى أتى بليوسيوم، وكان مرقس أنطونيوس مع فرسانه في المقدمة، فكسر الجيش المصري ودخل المدينة، فأراد أوليتس أن يعمل السيف بأهلها فمنعه مرقس أنطونيوس، ثم أقبل غابينوس نفسه بجيش وزحف على مصر ففتحها بلا عناء، وقتل بيرنيس المالكة في مصر وزوجها أرفلاوس، وولى أوليتس عرش مصر كما كان وعاد إلى سوريا. (11-13) واقعة بليوسيوم التاسعة سنة 48ق.م
ومات أوليتس سنة 51ق.م عن ابنين وبنتين، وهما كليوبترا وأرسينوي وبطليموس الأكبر وبطليموس الأصغر، وكتب في وصيته أن تتزوج بنته الكبرى كليوبترا بابنه الأكبر بطليموس، ويتوليا عرش مصر معا، وأرسل نسخة من وصيته إلى مجلس رومية واستحلفه بمعبوداته أن ينفذ الوصية ويتولى الوصاية على ابنه إلى أن يبلغ سن الرشد، فأنفذ مجلس الرومان الوصية وعين بمبيوس وصيا لبطليموس الأكبر، ولكنه كان في الواقع واليا على مصر.
وكانت كليوبترا أكبر من أخيها زوجها، وداهية عاتية، أحبت الاستقلال في الملك، فحاولت طرده وانتشبت الحرب بينهما، فانهزمت كليوبترا ولحقت بسوريا، وهناك جمعت العساكر وعادت إلى مصر فغلبته وقتلته وانفردت بالملك.
وفي هذه الأثناء تنازع بمبيوس الكبير ويوليوس قيصر السلطة في رومية، فأرسلت كليوبترا ستين مركبا حربيا لمساعدة بمبيوس الكبير، ولكن يوليوس قيصر فاز عليه في موقعة فرساليا «في مقاطعة تساليا من أعمال اليونان» سنة 48ق.م، فانتهز الخصي بوثينس - المتولي العناية ببطليموس الأصغر - الفرصة وأعلن سيده ملكا على مصر وعزل كليوبترا، ففرت إلى سوريا وهناك جندت جيشا وزحفت به على بليوسيوم، فقابلتها الجيوش المصرية، ووقف الجيشان هناك الواحد تجاه الآخر بينهما بضع غلوات.
وكان بمبيوس الكبير عند انكساره في موقعة تساليا قد ركب سفينة وفر من وجه قيصر قاصدا مصر، فأتى بليوسيوم لاجئا إلى أولاد أوليتس؛ لأنه كان أحسن إلى أبيهم كما مر، ولكن يقال: إن عرفان الجميل فضيلة قلما توجد في القصور.
وكان الإسكندريون في هذه الحرب الأهلية بين بمبيوس الكبير وقيصر يودون أن يكونوا على الحياد، فلما جاء بمبيوس الكبير بهذه الحال اضطروا أن يختاروا حزبا فاختاروا حزب الأقوى، وكان أصحاب الكلمة في مجلس بطليموس الصغير: بوثينوس الخصي وأشيلاس القائد المصري وثيودوتس معلم بطليموس الأصغر، فقر رأيهم على قتل بمبيوس الكبير، قال ثيودوتس: «إننا بقتل بمبيوس نحمل يوليوس قيصر منة ولا نخشى شرا»، ثم قال باسما: «إن الموتى لا يعضون!» فأصدروا أمرا إلى أشيلاس القائد المصري ولوسيوس سبتيميوس قائد العساكر الرومانية في الجيش المصري، فذهبا إلى شاطئ البحر ورحبا ببمبيوس واستقبلاه مقابلة الصديق للصديق، فأنزلاه من سفينته إلى قاربهما وأتيا به إلى البر فقتلاه، ثم قطعا رأسه وأحضراه إلى الملك وطرحا جثته في البحر. قيل فانتشلها عسكري روماني وأحرقها ودفن رمادها على الشاطئ، ثم نصب عليها حجرا وكتب عليه بفحمة «بمبيوس الكبير!» سنة 48ق.م.
وبعد ذلك بقليل وصل قيصر إلى الإسكندرية مطاردا بمبيوس، فوفد عليه أصحاب الملك وقدموا له رأس بمبيوس فاقشعر بدنه من رؤيته وحزن عليه كثيرا وأمر بدفنه مكرما، وقد أراحه بطليموس الأصغر ورجال مجلسه من جريمة قتل حميه.
ولم يكن مع قيصر عند وصوله الإسكندرية إلا 3200 من المشاة و800 فارس، وقد ظن أنه بعد انتصاره الباهر على بمبيوس في فرساليا لم يبق له حاجة إلى قوة أكبر، وأن لوسيوس سبتيميوس ومن معه من العساكر الرومانية في مصر ينضمون إليه، ومع ذلك فقد أرسل إلى الكتائب التي تركها في آسيا أن توافيه إلى مصر، ولما كان قد أصبح بعد انتصاره على خصمه القنصل الوحيد لرومية، ادعى الحق بفض الخلاف بين كليوبترا ملكة مصر وأخيها، فأمرهما بصرف جيوشهما من بليوسيوم، وكان بطليموس الأصغر قد رجع إلى الإسكندرية، فمال إلى إطاعة الأمر ولكن وصيه بوثينس لم يرق له ذلك، فأرسل سرا إلى أشيلاس قائد الجيوش المصرية في بليوسيوم أن يحضر بجيشه إلى الإسكندرية ليتمكن من إصدار الأمر إلى قيصر بدلا من استماع أوامره، وأرسل بطليموس الأصغر بأمر قيصر اثنين من أخصائه إلى أشيلاس ليبقى في بليوسيوم، وكان أشيلاس من رأي بوثينس فقتل رسولي بطليموس، وزحف على الإسكندرية ومعه من الجيوش 20000 من المشاة و2000 من الفرسان.
وكانت كليوبترا لا تزال مع جيشها وراء بليوسيوم، ولما كانت بارعة جدا في الجمال رأت - وكان رأيها في محله - أنها تؤثر على قيصر بجمالها أكثر مما تؤثر عليه بكتبها للحكم لها على أخيها، فأتت متخفية بقارب صغير ومعها رفيق من أخصائها من أهالي جزيرة سيسيليا، وقد رأت أنه يستحيل عليها أن تدخل القصر مكشوفة، فلفت نفسها في سجادة وأمرت رفيقها فحملها على ظهره كأنها طرد بضاعة وأتى بها إلى قيصر، ففتنته بجمالها ونالت منه ما تمنت.
ثم وصل أشيلاس بجيشه إلى الإسكندرية، فاعتصم قيصر في القصر الملكي الحصين قرب المرفأ، ومعه من الرهائن ابنا أوليتس وأختهما أرسينوي وبوثينوس الخصي، فحصره أشيلاس في القصر وواقعه في عدة وقائع كان النصر فيها يتراوح بين الفريقين.
ثم فرت أرسينوي من القصر ولجأت إلى جيش أشيلاس، وأرسل بوثينس إلى أشيلاس يعلمه أن قيصر يعوزه الزاد ويحثه على استمرار الحصار، فعلم قيصر بذلك فقتله.
ووقع خلاف بين أرسينوي وأشيلاس، فأمرت بقتله وولت خصيها جانيميدس قائدا عاما على الجيوش مكانه، واستبدت بملك مصر، فشددت الحصار على قيصر وهاجمته برا وبحرا، وقيصر يرد هجماتها حتى كل الفريقان من القتل وعقدا هدنة، ومل الإسكندريون تحكم أرسينوي وخصيها قائد جيشها، وطلبوا من القيصر ملكهم بطليموس الأكبر فأرسله إليهم ظنا منه أنه يريحه شر أرسينوي وينهي هذه الحرب التي لم تكن تخطر له على بال، ولكن بطليموس خيب أمل قيصر، فشدد عليه الحصار ووضع بعض المراكب في فم النيل الكنوبي لمنع وصول الزاد إليه من سوريا، فأرسل قيصر عمارته من الإسكندرية لتشتيت هذه المراكب فرجعت خائبة خاسرة. (11-14) واقعة بليوسيوم العاشرة
وفي هذا الوقت قدم متريدات ملك برغامس بجيش من سوريا وسيليسيا لنجدة قيصر، ونزل تجاه بليوسيوم وحمل على أسوارها وافتتحها عنوة يوم وصوله، ثم زحف نحو ممفيس حتى أتى هليوبولس فحاول أن يعبر النيل هناك، فتصدى له اليهود القاطنون تلك الجهة وحملوا السلاح في وجهه، ولكن متريدات أتاهم بكتب من أبناء جنسهم في أورشليم، فلما اطلعوا عليها انقلبوا إلى معونته، وكان الوالي على اليهودية إذ ذاك من قبل الرومان هركانوس الثاني، فأرسل أنتيباتر الأدومي المار ذكره بجيش مؤلف من 3000 من السوريين اليهود والعرب لنجدة قيصر، فوصل في وقت الحاجة إليه.
وكان بطليموس قد علم بقدوم متريدات فأرسل قوة إلى الإسكندرية لمنعه من عبور النيل، ثم لحقها بجميع جيشه، وبذلك ارتفع الحصار عن الإسكندرية، فسار قيصر لمعونة متريدات وتمكن من الانضمام إليه قبل انتشاب القتال مع جيش بطليموس، فواقع بطليموس في عدة وقائع عند رأس الدلتا فغلبه، فامتنع بطليموس في معسكر حصين وراء ترعة عميقة، فحمل قيصر عليه وكسر جنوده، ففروا بلا نظام إلى مراكب لهم في النيل ، وغرق مركب بطليموس من كثرة اللاجئين إليه، وكان هو بين الغرقى، ووقعت أرسينوي أسيرة في يد قيصر، وبعد هذا النصر أسرع قيصر بفرسانه إلى الإسكندرية فدخلها بلا معارض، وأصبح الآمر الناهي فأمر بتنفيذ وصية بطليموس أوليتس كما هي، ولما كان الابن الأكبر من ابني أوليتس قد مات عين بطليموس الأصغر وسنه إذ ذاك 11 سنة شريكا لكليوبترا في الملك، وعاد إلى رومية آخذا الأميرة أرسينوي أسيرة معه، وترك في مصر حامية من العساكر الرومانية تنفق عليها كليوبترا، وتكون اسميا تحت أوامرها، ولكنها فعلا تحفظ مصر تحت طاعة رومية.
وكانت كليوبترا قد ولدت لقيصر ابنا وسمته قيصر الصغير، فلما بلغ من العمر أربع سنين ذهبت به إلى رومية فأحسن قيصر استقبالها وأسكنها قصرا له على نهر التيبر، وفي 15 مارس سنة 44ق.م قتل قيصر في الندوة غيلة بمؤامرة أخص منشئيها كاسيوس وبروتس الذي غمره قيصر بنعمه، ووقعت رومية بيد ثلاثة من قوادها وهم أغسطس قيصر ومرقس أنطونيوس ولبدس، فسميت حكومتهم بالحكومة الثلاثية، فطلبت كليوبترا من مجلس الأعيان الاعتراف بجعل ابنها من قيصر شريكا لها في ملك مصر بدلا من أخيها، ولكن رجال السلطة إذ ذاك لم يسعفوها على ذلك فعادت إلى مصر وهي تنوي إنفاذ عزمها بالقوة عند سنوح الفرصة، ولما كان بطليموس أخوها زوجها الثاني دون البلوغ لم يكن يهمها بقاؤه فلما دخل في سن الخامسة عشر وصار يمكنه أن يطلب المساواة بها أمرت بعض عبيدها فقتلوه، فحكمت وحدها وسمت ابنها شريكا لها في العرش، وأرسلت من مصر جيشا مؤلفا من أربع كتائب رومانية إلى سوريا لينصروا مرقس أنطونيوس على قاتلي قيصر، فلما وصلت هذه الكتائب إلى سوريا حازها كاسيوس وضمها إلى القوة التي جمعها لمحاربة مرقس أنطونيوس.
ولكن مرقس أنطونيوس تغلب على جميع خصومه، وأرسل أمرا إلى كليوبترا لتوافيه إلى طرسوس فوافته إليها في زورق مجاذيفه من فضة وقلوعه من حرير مدبج ومفروش بأنفس الرياش، وارتدت أفخر ثيابها وأحاطت نفسها بجواريها، فأدهشته بغناها كما فتنته بجمالها، وقد أرسل بطلبها وهو لها السيد الآمر فأصبح العبد الطائع، وكان أول ما طلبت منه أن يقتل أختها أرسينوي ليخلو لها الجو في مصر، فقتلها في هيكل ديانا في إفسس.
ثم سألته أن يأتي معها إلى الإسكندرية، فحضر وأولدها بنتا ثم توأمين صبيا وبنتا، ثم بلغه أن خصمه أغسطس قيصر طرد امرأته وأخاه من رومية، فأسرع إلى رومية، وقبل وصوله كانت امرأته قد ماتت، فتزوج بأخت أغسطس تقوية لحزبه، ومع ذلك فإن الوحشة قد ازدادت بين أنطونيوس وأغسطس حتى أدت إلى حرب بينهما في أكسيوم سنة 31ق.م كان أغسطس الفائز فيها، ففر أنطونيوس إلى الإسكندرية وعاش مع كليوبترا عيشة الرخاء والترف التي اعتادها من قبل. (11-15) واقعة بليوسيوم الحادية عشرة
فتبعه أغسطس مطاردا له حتى أتى بليوسيوم وحارب جيش مصر بالبر والبحر، فسلمت له بليوسيوم وزحف على الإسكندرية فخرج أنطونيوس لمصادمته برا وبحرا، ولكن قواد أنطونيوس خانوه وفتحوا الطريق لأغسطس، فدخل المدينة، وعند ذلك استل أنطونيوس سيفه وجعل رأسه على صدره ثم انثنى عليه فاخترق قلبه وخر قتيلا.
أما كليوبترا فقد أمر أغسطس فقبض عليها حية، وكان يحب أن يأخذها أسيرة إلى رومية ليتباهى بها، ولكنها لما علمت بانتحار حبيبها أنطونيوس شربت سما وماتت، والمشهور أنها أفلتت على صدرها حية أتي بها إليها في سلة ثمار فلسعتها فماتت، وهي في ال 39 من عمرها، وقد ملكت 22 سنة ودفنت في قبرها باحتفال ملكي، وبها انتهت دولة البطالسة، وبدأت دولة الرومان على مصر وذلك سنة 30ق.م. (12) دولة الرومان في سوريا (سنة 64ق.م-638ب.م)، وفي مصر (سنة 30ق.م-640ب.م)
هذا ومنذ استولى الرومان على سوريا ومصر أخذوا يرسلون إليهما الولاة من أبناء جنسهم، وما زال هذا حالهم إلى انقضاء ملكهم، ومما يلفت النظر في تاريخ هذين القطرين أنه منذ الفتح الروماني أصبح سيد القطرين واحدا إلى تاريخ الحرب الحاضرة، فإنهما خرجتا من يد الرومان إلى العرب المسلمين، ثم إلى الأتراك العثمانيين، لذلك ولما كانت الملاحة قد تقدمت في مصر والشام منذ الفتح الروماني؛ أصبح الاتصال بين البلدين من ذلك العهد بحرا أكثر كثيرا منه برا، وها نحن مثبتون هنا أهم ما كان من تلك العلائق وما كان من أمر اليهود مع الرومان استطرادا لتاريخهم، فنقول: (12-1) اليهود تحت حكم الرومان
قدمنا أن الرومان ملكوا اليهودية على يد بمبيوس الكبير سنة 63ق.م، وثبتوا هركانوس الثاني على اليهودية تحت سلطة رومية، وكان قد هاد في عهد إسكندر أبي هركانوس رجل أدومي اسمه أنتيباتر، فولاه إسكندر على أدومية وبقي إلى عهد ابنه هركانوس الثاني، فأرسله أولا نجدة لبطليموس أوليتس سنة 55ق.م، ثم أرسله نجدة إلى يوليوس قيصر عندما كان محصورا في الإسكندرية، فكان له فرجا عظيما كما مر، فلما استتب الأمر لقيصر أمر أن يسمى هركانوس رئيس الكهنة، وجعل أنتيباتر نائبا له في اليهودية وذلك سنة 48ق.م، فصار ملك اليهود إلى هذا الأدومي وبنيه من ذلك الحين.
وكان لأنتيباتر أربعة أولاد: منهم فسايل وهيرودس، فجعل فسايل واليا على أورشليم، وهيرودس واليا على الجليل وذلك سنة 44ق.م، وفي هذه السنة قتل قيصر غيلة في رومية، وأنتيباتر في اليهودية، فتولى هيرودس ابن أنتيباتر مكان أبيه، وكان داهية طاغية سفاكا للدماء، فتغلب على جميع خصومه من اليهودية واستبد بهم. (12-2) مجيء المسيح إلى مصر وعوده منها
وفي آخر سنة من حكم هيرودس ولد يسوع المسيح في بيت لحم من مريم العذراء، والسنة التي ولد فيها المسيح سابقة للتاريخ المسيحي المستعمل الآن بأربع سنين؛ لأن منشئ التاريخ المسيحي وهو دانيس الصغير أحد كهنة رومية المتوفى سنة 540ب.م بدأه خطأ بعد ميعاده الحقيقي بأربع سنين، فالسنة الحالية سنة 1916م مثلا هي في الحقيقة سنة 1920م.
ولما ولد يسوع المسيح، إذا مجوس من الشرق قد جاءوا إلى أورشليم قائلين: أين هو المولود ملك اليهود؟ فإننا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له، فلما سمع هيرودس اضطرب، فجمع كل رؤساء الكهنة وكتبة الشعب وسألهم: أين يولد المسيح؟ فقالوا: في بيت لحم، وكان هيرودس عالما بانتظار اليهود رئيسا سياسيا وفقا لنبوءات التوراة، ولم يشأ أن يقوم من اليهود ملك من غير نسله، فنوى على قتل المسيح؛ فدعا المجوس سرا وتحقق منهم زمان النجم الذي ظهر، ثم أرسلهم إلى بيت لحم، وقال: اذهبوا وافحصوا بالتدقيق عن الصبي، ومتى وجدتموه فأخبروني لكي آتي أنا أيضا وأسجد له، فذهبوا وإذا النجم الذي رأوه في المشرق يتقدمهم حتى جاء ووقف حيث كان الصبي، فأتوا إلى البيت ورأوا الصبي مع مريم أمه فخروا وسجدوا له، ثم أوحي إليهم في حلم ألا يرجعوا إلى هيرودس فانصرفوا إلى بلادهم في طريق أخرى، وإذا ملاك الرب ظهر ليوسف في حلم قائلا: قم وخذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر، وكن هناك حتى أقول لك؛ لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه، فقام وأخذ الصبي وأمه ليلا وانصرف إلى مصر، وكان هناك إلى وفاة هيرودس، ولما رأى هيرودس أن المجوس سخروا به غضب جدا، فأرسل وقتل جميع الصبيات الذين في بيت لحم وفي كل تخومها من ابن سنتين فما دون، فلما مات هيرودس إذا ملاك الرب قد ظهر في حلم ليوسف في مصر قائلا: قم وخذ الصبي وأمه واذهب إلى أرض إسرائيل؛ لأنه قد مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبي، فقام وأخذ الصبي وأمه وجاء إلى إسرائيل. (متى ص2)
وقد كانت الدعوة التي جاء بها المسيح روحية ديموقراطية خلاصتها: «محبة الله والقريب، ومقابلة الشر بالخير رغبة في الخير وترفعا عن الشر»، وأول ما ترمي إليه تجديد القلب وتنقية الضمير، وهي لا تقف بعاطفة أبنائها عند حد الجنس أو الدين، بل تبسطها على البشرية كافة، وآيتها الذهبية: «افعلوا بالناس ما تريدون الناس أن يفعلوا بكم.»
وكان الناس قد ملوا من عبادة الأصنام التي كانوا يصنعونها بأيديهم، وتعبوا من تقديم الذبائح البشرية والحيوانية للآلهة؛ فلبوا دعوة المسيح واعتنقوا ديانته بكل رغبة وحماسة، وكان أول من بشر بالمسيح في مصر، حسب تقاليد الكنيسة، مرقس الإنجيلي، وقد قاوم أباطرة الرومان دين المسيح واضطهدوا أصحابه أشد الاضطهاد في كل جهة، ومع ذلك فقد انتشر في العالم الروماني كله انتشارا عظيما، ولما قام قسطنطين الكبير سنة 323-337م اعتنق الدين المسيحي، وجعله الدين الرسمي للمملكة الرومانية، فسطعت شمس المسيح إذ ذاك في الشرق والغرب، وما زالت.
وكان نجم اليهود قد بدأ بالأفول في سوريا ومصر منذ عهد الإمبراطور طيباريوس سنة 14-37م، فإنه في عهد هذا الإمبراطور كان في مصر نحو مليون يهودي، وكان ثلث سكان الإسكندرية منهم، ولهم شيوخ ومجلس ملي خاص، وكانوا يذهبون في أعيادهم الكبيرة إلى هيكلهم في أون «هليوبولس». على أن بعضهم كانوا خاضعين لمجلس الملة في أورشليم، ويعتقدون أن هيكل أورشليم هو الهيكل الوحيد لليهود، وكان من عادة هؤلاء في الأعياد الكبيرة أن يرسلوا إلى أورشليم من ينوب عنهم في تقديم الذبايح والصلوات، إلا أنه بالرغم عن إصدار القيصر أمره العالي الذي نقش على عمود الإسكندرية بأن لليهود حق مدينة الإسكندرية كاليونان، فإن حكومة الإسكندرية واليونان بل المصريين أنفسهم لم يعطوهم هذا الحق، فقد كان الحق في ذلك العهد للقوة، ومن الأسف أنه لا يزال كذلك إلى اليوم! وسيبقى كذلك أجيالا بعد!
ثم انقضى عهد طيباريوس وأتى عهد جاليغولا 37-41م، ثم قلوديوس سنة 41-55م، فبدأ اضطهاد اليهود في مصر وسوريا، واشتدت المظالم عليهم في أيام نيرون سنة 55-68م، فتألبوا للدفاع عن حريتهم واستقلالهم، وبقوا إلى عهد فسباسيان سنة 69-79م فأرسل قائده تيطس بجيش لقمعهم فاتخذ الطريق الآتية:
سار من الإسكندرية ميلين ونصف ميل فأتى نيكوبولس، فركب النيل إلى ثميوس قرب مندس، ثم سار اليوم الأول إلى تانيس، والثاني إلى هيرقليوم، والثالث إلى بليوسيوم، وهناك عبر النيل، والرابع إلى القلس، والخامس إلى أوستراسين، وهناك قابلوه بماء للشرب، والسادس إلى «رينوكلورا» (العريش)، والسابع إلى رفح بلدة الحدود، ومنها إلى أورشليم فحصرها، وبذل جهده لافتتاحها صلحا، ووقع في يده يوسيفوس المؤرخ الشهير، فأرسله إلى اليهود ليعرض على إخوانه الأمان، فأبوا فشدد الحصار على المدينة وافتتحها عنوة في 10 أغسطس سنة 70م بعد أن دافع أهلها عنها دفاعا لا مثيل له في التاريخ، وخرب تيطس الهيكل وهدم أسوار المدينة إلى أساسها، وأعمل بأهلها السيف وشتت من بقي منهم في الأقطار.
وبقي اليهود لا يحركون ساكنا في السياسة إلى عهد الإمبراطور هدريان سنة 117-128م، فثاروا على النائب الروماني في سوريا، وكان زعيمهم رجل يدعى «باركوكب» أملوا أن يكون المسيح المنتظر ويحررهم من العبودية، وجمع يهود مصر جيشا صغيرا وأرسلوه نجدة لإخوانهم، فأرسل هدريان عليهم جيشا قويا شتت شملهم، وقتل منم خلقا كثيرا، وأتى بقوم من رومية فعمر بهم أورشليم، فأقاموا فيها عبادة آلهة رومية لينفروا منها اليهود الباقين، وأصبحت من ذلك العهد مهجرا رومانيا.
وبعد هذا الاضطهاد لم يقم لليهود قائمة، فإنهم تشتتوا في أقطار العالم، ومع ذلك فلم يتركوا جنسيتهم ولا نسوا دينهم ولا بلادهم، فكانوا أينما حلوا أقاموا شعائرهم وحافظوا على عاداتهم وتقاليدهم، وأملوا الرجوع منصورين إلى أورشليم، وما زال هذا شأنهم إلى اليوم. (12-3) التلمود
ثم بعد هذا الاضطهاد اجتمع بعض علماء اليهود في طيبارية، فشادوا مدرسة علموا فيها فرائض دينهم وتقاليدهم وعاداتهم، وألفوا كتابهم المعروف «بالتلمود» ليكون جامعة معنوية لأمتهم؛ إذ لم تعد لهم جامعة وطنية، وهو قسمان: «المشنا» ومعناه الشريعة الثانية، وهو تفسير التوراة، «والغمرة» ومعناه التكميل، وهو تفسير المشنا، وللمشنا تفسيران:
الأورشليمي:
ألفه علماؤهم الذين بقوا في اليهودية، وقد بدءوا بتأليفه في القرن الثاني، ولم يتم إلا في القرن الرابع.
والبابلي:
ألفه علماؤهم الذين هاجروا إلى بابل على أثر اضطهادهم الأخير، ولكنه لم يتم إلا في القرن السادس.
واليهود باعتبار التلمود فريقان:
الربانيون:
وهم أصحاب التلمود، وهم جمهور اليهود.
والقراءون:
وهم ينكرون التلمود، ولا يعتقدون إلا بالتوراة والأنبياء، ولا يزيد عددهم على ربع مليون.
وأما «السمرة» فلا يعتقدون إلا بتوراة موسى والأنبياء إلى يشوع، ولا يصدقون بالتلمود، وعددهم الآن لا يزيد على 200 نفس، وكلهم في نابلس، وهم لحد الآن يقدمون الذبائح وهي قربان الفصح على جبل جرزيم.
ويبلغ عدد اليهود الآن حسب تقدير بعض أعيانهم 12 مليونا موزعين كما يأتي:
5500000
في روسيا
2000000
في النمسا
500000
في ألمانيا
300000
في رومانيا
500000
في إنكلترا وفرنسا وبلجيكا
وهولاندا وإيطاليا
1500000
في أميركا وأستراليا
1200000
في العجم وشمال أفريقيا
500000
في تركيا أوروبا وآسيا
منهم نحو 100 ألف في سوريا
ونحو 45 ألف في مصر
12000000
الجملة
وقد نظم اليهود حديثا جمعيتين كبيرتين:
الصهيونية:
وغايتهم جمع اليهود كلهم في صهيون، أي فلسطين موطنهم الأصلي.
والإقليمية:
وغايتها جمع اليهود في أية بقعة من بقاع الأرض؛ ليخلصوا من الشتات، وهؤلاء يعلمون أن غاية الصهيونية غير مستطاعة؛ لأن أهل فلسطين أنفسهم يقاومونها أشد المقاومة، والدول لا تساعدهم عليها، وهم يقولون: إنه متى ظهر المسيح فهو يجمعهم في صهيون بقوة الله. (12-4) الدولة التدمرية في بادية الشام
وفي أواسط القرن الثالث للمسيح قام في بادية الشام مملكة عربية قوية عاصمتها تدمر، وهي في طريق الشام إلى بابل على نحو 176 ميلا رومانيا من الشام ، ونحو ضعفي ذلك من بابل، وقد كانت تدمر الوصلة بين الرومان في سوريا والفرثيين الذين خلفوا الفرس شرقي دجلة، وكانت المملكتان تخطبان ودها بدلا من أن تخضعاها.
وأشهر ملوكها «أدوناثوس»، كان محالفا رومية، وبعد موته تولت زوجته «زنوبيا» عرش تدمر، فنقضت عهد رومية، وملكت سوريا وآسيا الصغرى وقهرت الجيوش التي أرسلها الإمبراطور جاليانوس الروماني (سنة 253-268م) ضدها، وادعت أنها من نسل كليوبترا ملكة مصر المار ذكرها، وسيرت جيشا إلى مصر بقيادة «زبدا» لاسترجاع عرش أجدادها، وكان جيشها مؤلفا من نحو 70 ألفا من أهل تدمر وسوريا والبجة، فالتقاهم جيش مصر، وكان مؤلفا من نحو 50 ألف جندي بقيادة بروباتس، فهزموه فانتحر من شدة قهره، ومع ذلك فإن جيش تدمر لم يفز بامتلاك مصر، فإن المصريين اعترفوا بقلوديوس إمبراطورا عليهم.
وبعد موت قلوديوس جدد التدمريون غزوتهم على مصر، فملكوها سنة 268م، واعترف المصريون بزنوبيا ملكة عليهم، «وكان ذلك هو الفتح العربي الثالث لمصر.»
ولما تولى أورليان إمبراطورا على رومية سنة 270-275م منح زنوبيا اسم شريك له في الملك، وضرب النقود في الإسكندرية رأسه على وجه ورأسها على الوجه الآخر، ثم قاد جيوشه على سوريا وحاربها في واقعتين، فتغلب عليها وأخذها أسيرة إلى رومية بعد أن ملكت أربع سنين في تدمر وبضعة أشهر في مصر. (13) الدولة العربية الإسلامية في مصر
وبقيت مصر بيد الرومان إلى أن افتتحها العرب المسلمون سنة 640م على يد عمرو بن العاص كما مر، وكان بينهم وبين الرومان في بليوسيوم واقعة هي الثانية عشرة من وقائع بليوسيوم، «وكان هذا الفتح هو الفتح العربي الرابع لمصر.» (14) الدولة التركية العثمانية في مصر
وما زالت مصر تحت حكم العرب، وقد تقلب عليها عدة دول منهم ومن الأتراك المماليك والجراكسة، وقد مر ذكرها جميعا حتى فتحها الأتراك العثمانيون على يد السلطان سليم سنة 1517م.
وكانت الطريق الوحيد للجيوش والتجار بين مصر والشام «طريق الفرما» على شاطئ البحر المتوسط منذ أول عهد التاريخ إلى عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي في القرن الثاني عشر للمسيح، فاستجد «طريق العريش»، وكان أول من سار بهذه الطريق من الفاتحين السلطان سليم، وما زال الطريقان مستعملين بين مصر وسوريا إلى اليوم. (15) الدولة الفرنساوية في مصر
وامتلك الفرنساويون مصر على يد نابليون الكبير سنة 1798-1801م، وهاجم نابليون سوريا وعاد منها بطريق العريش كما مر. (16) الأسرة المحمدية العلوية في مصر
واستقل بمصر الأسرة المحمدية العلوية سنة 1805، وهاجم إبراهيم باشا سوريا وعاد منها بطريق العريش كما مر، وبقيت مصر تحت سيادة الأتراك العثمانيين إلى تاريخ هذه الحرب، فزالت عنها تلك السيادة كما سيجيء. (16-1) سكان مصر
وأهل مصر الآن مزيج من أقباط نصارى، وعرب مسلمين، وعرب بادية، وأتراك مسلمين، وسوريين نصارى ومسلمين، ويهود، وإفرنج نصارى يونانيين وطليان وإنكليز وفرنساويين ونمساويين وألمان وروسيين وبلجيكيين وغيرهم، وفي التعداد الرسمي الأخير سنة 1907 بلغ عددهم 11287359 نفسا منهم:
10269445:
مسلمون ربما كان ثلثاهم من أصل قبطي، والثلث الباقي من أصل عربي، بينهم 27591 من أتراك عثمانيين وأعجام وغيرهم.
706322:
أقباط نصارى: منهم 14576 كاثوليك، و24710 بروتستانت، والباقون أرثوذكس.
175370:
نصارى سوريون وإفرنج من جميع الأجناس، وأكثرهم يونانيون وطليان.
38635:
إسرائيليون.
97587:
أديان أخرى. (16-2) قبائل البدو في مصر
أما البدو في مصر، فقد بلغ عددهم في التعداد الأخير 635000 منهم 97380 قدروا تقديرا وهم قبائل شتى، وكلهم مسلمون، وينتسبون إلى عرب الحجاز، وهم لا يزالون يتمتعون بامتيازات جمة أهمها إعفاؤهم من القرعة العسكرية، ومحاكمتهم بموجب قانون خاص ينطبق على عرفهم وعاداتهم، وهذه هي قبائل البدو في القطر المصري كما في نشرة قانون العربان الرسمية المؤرخة 7 يناير سنة 1906:
في مديرية القليوبية:
العليقات، الحويطات «وعمدتهم سعد بك شديد»، العيايدة بحري، جهينة، الصهب، بلي بحري، الصوالحة.
في مديرية الشرقية:
الهنادي، الطميلات، العيايدة بحري، مطير، النفيعات «وعمدتهم منصور بك نصر الله»، السعديين «وعمدتهم محمد بك شلبي»، السماعنة، أولاد موسى «وعمدتهم أمين بك بدران»، البياضيين، أولاد سليمان، عبس، العقايلة، الأخارسة، بني غازي، القطاوية، العتبيين، جهينة الشرقية، أولاد علي الشرقية.
في مديرية المنوفية:
القدادفة.
في مديرية الغربية:
بنو عون، البهجة، الضعفا البحرية، الفواخر، الهداهيد.
في مديرية البحيرة:
أولاد علي «وفروعها: أولاد علي الأحمر، أولاد خروف ، السننا، السناقرة وعمدتهم عمر بن خير الله بك الدجن»، الجميعات، سمالوس، الدمينات، الجوابيص، النمايم، هوارة، الربايع، لزد.
في مديرية الجيزة:
النجمة، الترابين، النعام، العيايدة قبلي.
في بني سويف:
المشارقة، خويلد، السعادنة، فزارة، الضعفا.
في مديرية الفيوم:
الحرابي «وعمدتهم عبد الستار بك الباسل»، الصبيحات، سمالوس، فرجان الفيوم، الرماح، البراعصة، الحوتة.
في مديرية المنيا:
الفوايد «وعمدتهم لملوم بك السعدي»، المعازة، الفرجان، الجوازي البيض، الجوازي الحمر، الجلالات.
في مديرية أسيوط:
مطير، الجهمة، السعادنة التابعة للجهمة، العطيات، العطيات قبلي، العطيات التابعة للجهمة، طرهونة «وعمدتهم مهنى بك سيف النصر»، أنداره التابعة لطرهونة، الطرشان وأجلاص التابعة لطرهونة، العمايم، الشنابلة، الكليبات، الأطاولة.
في مديرية جرجا:
بلي، بنو واصل، الرشايدة، الحروبة، الصبحة.
في مديرية قنا:
الكلاحين، العوازم، العزايزة، الهدلاو، جهينة قبلي.
في مديرية أسوان:
العليقات، العيايدة وفروعها: العشاباب، الفقرا والمليكاب، العبوديين والشناتير. (16-3) قبائل الصحراء الغربية
وأما قبائل الصحراء الغربية، فقد حدثني بها الشيخ موسى صالح شيخ زاوية مريوط وغيره من الخبيرين بهم، قالوا:
يسكن صحراء ليبيا أو الغربية من النيل إلى جالو والكفرة فريقان من البدو: «المرابطون والسعادي»، والمرابطون أقدم من السعادي، ويعرفون أيضا بالصدقان أو الأصدقاء، وأهم قبائلهم: زوي، المجابرة، الأواجلة، المنفة، الموالك، الشواعر، الجرارة، القطعان، الحوتة، القبائل، التراكي، مسراتة، الشهيبات، الفواخر، ترهونة، العوامة، الصوانعة، السلاطنة، سعيط، القدادفة.
والسعادي فريقان: فريق يسكن الصحراء من حدود النيل إلى بني غازي، قيل إن هؤلاء نسل أولاد سعدى، وفريق يسكن الصحراء من بني غازي إلى حدود جالو.
أما أولاد سعدى ، فهم ثلاثة: عقار، وجبريل، وبرغوث، وكل منهم رئيس قبائل وأفخاذ شتى. (1)
فمن ذرية عقار: أولاد علي، الحرابي، الهنادي، بني عونة.
ومن فروع أولاد علي: علي الأحمر، ومنهم القنيشات والعشيبات والكميلات، وعلي الأبيض، ومنهم السناقرة وأولاد خروف والسننا، ومن السننا عروة ومحيفظة، ومن فروع الحرابي: البراعصة، والخاسة، والدرسة، والعبيدات. (2)
ومن ذرية جبريل: العواقير، والعريبات، والمغاربة، والجوازي. (3)
ومن ذرية برغوث: العبيد، والعرفة، والفوايد.
ومن السعادي الذين لا ينتمون لأولاد سعدى ويسكنون الصحراء الغربية من بني غازي إلى جالو والكفرة: الفرجان، الحسون، أولاد أبو سيف، ورفلا، المحاميد، المقارحة، أولاد سليمان، الرماح.
ومن ذلك ترى أن بعض قبائل السعادي والمرابطين كأولاد علي والمنفة وغيرهم قد انقسموا قسمين، فقسم سكن القطر المصري والقسم الآخر بلاد برقة وطرابلس الغرب.
وكل قبيلة من المرابطين هي في حمى قبيلة من السعادي، وتدفع لها جعلا سنويا، ولعل السبب في ذلك أن السعادي جاءوا البلاد فاتحين، فضربوا على المرابطين جزية لا تزال إلى اليوم، وفي رواية العرب المرابطين أن سعدى أم الإخوة الثلاثة وفدت على بيت مناف جد المنفة، وكان أشهر المرابطين وعمدتهم، فجعل على كل قبيلة من المرابطين جعلا يدفعونه لسعدى لتربي أولادها اليتامى، فسرى هذا الجعل عليهم، وصار السعادي يحسبونه حقا لهم إلى اليوم، يطالب به إذا قصر مرابطوهم بأدائه، ومن ذلك أنه إذا ضاف السعادي أحد المرابطين ولم يحتفل بضيافته؛ رفع الأمر إلى مجلس عرفي وألزم القاضي المرابط دفع غرامة للسعادي حسبما يتراءى له، وإذا ظلم سعادي مرابطا شكاه إلى صديقه الذي يحميه، فإذا لم يحصل له حقه ترك صداقته واتخذ له صديقا آخر.
صاحب العظمة السلطان حسين كامل سلطان مصر
وعهد مصر الجديد (منذ 19 ديسمبر سنة 1914)
لما ثار المصريون تحت راية عرابي في عهد المغفور له توفيق باشا؛ تدخلت إنكلترا فأطفأت الثورة بمعركة التل الكبير في 12 سبتمبر سنة 1882، واحتلت جنودها مصر على أن تخرج منها ريثما يعود إليها النظام ويستتب الأمن، ولكنها ما لبثت أن رأت أن مهدي السودان محمد أحمد كان أصعب مراسا وأشد خطرا على الراحة في مصر والسودان معا من عرابي، فلم تر بدا من البقاء في مصر ريثما تخمد ثورة المهدي ثم ثورة خليفته عبد الله التعايشي من بعده، فإنهما استوليا على السودان كله وهددا مصر، فأخذ الإنكليز يناوئونهما ويسترجعون السودان بلدا بلدا حتى استرجعوا الخرطوم عاصمة السودان عن يد بطلها اللورد كتشنر بعد وقعة أم درمان في 2 سبتمبر سنة 1898.
ولكنهم لم ينتهوا من مهمتهم في السودان إلا بعد القضاء على التعايشي بيد «بطل جديد» الجنرال السر رجينولد ونجت باشا سردار الجيش المصري وحاكم السودان العام الحالي في 24 نوفمبر سنة 1899 على ما بينا بالتفصيل في كتابنا تاريخ السودان.
وكان الإنكليز قد فاوضوا الباب العالي سنة 7-1888 بشأن خروجهم من مصر، فما لقوا شروطا يطمئنون إليها، فقرروا البقاء حتى ينالوا الشروط التي ترضيهم، فتولوا المراكز الرئيسية في البلاد وشرعوا في إصلاحها، فنظموا ماليتها وريها وجيشها وداخليتها وسائر مصالحها الحيوية.
وتوفي المغفور له توفيق باشا فخلفه ابنه الأكبر عباس باشا في 8 يناير سنة 1892، فلم يطل الوقت حتى ظهر «الحزب الوطني» ونادى بطلب جلاء الإنكليز عن مصر، وفي حادثة العقبة سنة 1905 أحدثت جرائد هذا الحزب بعض الشغب في البلاد كما مر.
ورأى الإنكليز أنهم إذا خرجوا من مصر وسلموها للترك في الآستانة، فبناء الإصلاح الذي شادوه يتهدم إلى الأرض بعد خروجهم منها بقليل، ويتطرق الخلل إلى جميع مصالحها وتضطرب ماليتها وتعود إليها الفوضى التي كانت قبل الثورة العرابية، فيضطرون أن يعودوا إليها للمحافظة على مصالحهم ومصالح أوروبا فيها، أو تحتلها دولة أوربية مكانهم.
لذلك قرروا استمرار الاحتلال إلى أجل غير معين.
هذا وكانوا عند استرجاع الخرطوم سنة 1898 قد رفعوا الراية الإنكليزية بجانب الراية المصرية، وجعلوا السودان حكومة مشتركة بين مصر وإنكلترا بموجب اتفاق عقد بتاريخ 19 يناير سنة 1899، ولكنهم لم يتعرضوا لسيادة تركيا على مصر، ولا للجزية السنوية التي تدفعها مصر إلى تركيا.
فلما كانت هذه الحرب وضارب الاتحاديون بالسيادة العثمانية على مصر بدخولهم الحرب في جانب الألمان ضد إنكلترا؛ رأى الإنكليز أنه لم يعد لهم بد من إزالة السيادة التركية عن مصر فأزالوها وبسطوا حمايتهم على البلاد.
واتفق أنه عند نشوب الحرب الحاضرة كان سمو الخديوي عباس باشا في الآستانة، فطلب من الحكومة الإنكليزية مساعدته على العودة إلى مصر، ولم يكن في ماضيه معهم ما يشجعهم على إجابة الطلب، فإنهم كانوا قد مارسوه طويلا من قبل، وبدلوا عليه ثلاثة من كبار ساستهم: اللورد كرومر ثم السر ألدن غورست ثم اللورد كتشنر، وكان لكل من هؤلاء الساسة أسلوب خاص، وكل منهم في أسلوبه بذل جهده للاتفاق معه فلم يفلحوا، فخاف الإنكليز أنه إذا عاد الخديوي إلى مصر في هذا الوقت العصيب - الذي كانت تشتغل فيه دسائس الألمان والاتحاديين بإفساد العقول وإذاعة الأراجيف ضد الحلفاء - زاد مركزهم في مصر حرجا، فنصحوا له أن يقيم مؤقتا في الآستانة، فاستاء من ذلك. قالوا: «ولم يمض على الحرب شهر حتى كان يبحث مع الوزراء وكبار القواد في غزو مصر، فاقترح عليه سفير إنكلترا في الآستانة أن يقيم مدة في إيطاليا، فأبى، فكان إباؤه بمثابة إمضاء نفيه السياسي»، وقال اللورد كرومر عنه في كتابه: «إنه فضل الانضمام إلى أعداء بريطانيا العظمى ظنا منه على الأرجح أنه مع الفريق الذي يفوز أخيرا في الحرب، وباختياره هذه الخطة ارتكب الانتحار السياسي.»
على أن الاتحاديين والألمان بعد أن تملقوه كل التملق وورطوه بالانضمام إليهم قلبوا له ظهر المجن، ولم تنقض على دخول الاتحاديين الحرب بضعة أسابيع حتى طلبوا إليه أن يتحمل ويغادر الآستانة فذهب إلى سويسرا وأقام فيها.
وكان الإنكليز قد أقروا على خلعه واختيار خلف له من بيت محمد علي باشا بالنظر لما لهذا البيت الكريم من الفضل العظيم على مصر، فوقع اختيارهم على البرنس حسين كامل عم الخديوي وأكبر أعضاء البيت المالك، وأحسن من يمثل هذا البيت، فلما عرض المركز عليه لم يبد الرغبة في قبوله؛ لأنه لم يشأ أن يظهر أمام أمته كمن جلس في سرير ابن أخيه المخلوع، ولكنه في الوقت نفسه خشي إن هو رفض المركز بتاتا أن يخرج الحكم من أسرته، أويتولى أمته وبلاده اللتين اشتهر بحبهما والغيرة عليهما من لا يحسن خدمتها أو يقصر بواجبهما، فتخلصا من هذين المحذورين طلب إنشاء سرير في مصر غير سرير الخديوية، وأرفع منه، ليأتي أمته بشيء جديد، وفي ذلك من الشهامة وعزة النفس وسمو المطلب والرغبة في رفعة شأن الوطن ما فيه.
فدارت المفاوضات بينه وبين نائب الحكومة البريطانية في القاهرة السر ملن شيتهام، يعاونه النبيل المستر ستورس السكرتير الشرقي لدار الحماية، فاستقر الرأي على أن يتبوأ البرنس حسين عرش مصر «بلقب سلطان»، وأن يتقدم هذا اللقب كلمتا «صاحب العظمة» تمييزا له عن أمراء الأسرة المحمدية العلوية الذين يلقبون بأصحاب السمو، وأن تكون راية الأسرة العلوية المعروفة راية وطنية لمصر، وهي مؤلفة من ثلاثة أهلة بيضاء متجه محدبها نحو عصا الراية، وفي كل هلال نجمة بيضاء ذات خمسة أشعة، والكل ملقى على ديباجة حمراء.
وقد عينت الحكومة البريطانية معتمدا إنكليزيا ساميا لمصر، وهو السر هنري مكماهون من كبار موظفي حكومة الهند الممتازين، وبدل اسم «الوكالة البريطانية» «بدار الحماية البريطانية»، وقد بسط السر ملن شيتهام رأي الحكومة الإنكليزية في عهد مصر الجديد في بلاغ أرسله إلى البرنس حسين كامل هذه ترجمته:
صورة التبليغ الوارد إلى الحضرة السلطانية من قبل الحكومة البريطانية
يا صاحب السمو
كلفني جناب ناظر الخارجية لدى جلالة ملك بريطانيا العظمى أن أخبر سموكم بالظروف التي سببت نشوب الحرب بين جلالته وبين سلطان تركيا، وبما نتج عن هذه الحرب من التغيير في مركز مصر.
كان في الوزارة العثمانية حزبان: أحدهما معتدل لم يبرح عن باله ما كانت بريطانيا العظمى تبذله من العطف والمساعدة لكل مجهود نحو الإصلاح في تركيا، ومقتنع بأن الحرب التي دخل فيها جلالته لا تمس مصالح تركيا في شيء، ومرتاح لما صرح به جلالته وحلفاؤه من أن هذه الحرب لن تكون وسلة للإضرار بتلك المصالح لا في مصر ولا في سواها، وأما الحزب الآخر فشرذمة جنديين أفاكين لا ضمير لهم، أرادوا إثارة حرب عدوانية بالاتفاق مع أعداء جلالته معللين أنفسهم أنهم بذلك يتلافون ما جروه على بلادهم من المصائب المالية والاقتصادية، أما جلالته وحلفاؤه - فمع انتهاك حرمة حقوقهم - قد ظلوا إلى آخر لحظة وهم يأملون أن تتغلب النصائح الرشيدة على هذا الحزب؛ لذلك امتنعوا عن مقابلة العدوان بمثله حتى أرغموا على ذلك بسبب اجتياز عصابات مسلحة للحدود المصرية، ومهاجمة الأسطول التركي بقيادة ضباط ألمانيين ثغورا روسية غير محصنة.
ولدى حكومة جلالة الملك أدلة وافرة على أن سمو عباس حلمي باشا خديوي مصر السابق قد انضم انضماما قطعيا إلى أعداء جلالته منذ أول نشوب الحرب مع ألمانيا.
وبذلك تكون الحقوق التي كانت لسلطان تركيا وللخديو السابق على بلاد مصر قد سقطت عنهما وآلت إلى جلالته.
ولما كان قد سبق لحكومة جلالته أنها أعلنت بلسان قائد جيوش جلالته في بلاد مصر أنها أخذت على عاتقها وحدها مسئولية الدفاع عن القطر المصري في الحرب الحاضرة، فقد أصبح من الضروري الآن وضع شكل للحكومة التي ستحكم البلاد تعد تحريرها كما ذكر من حقوق السيادة وجميع الحقوق الأخرى التي كانت تدعيها الحكومة العثمانية.
فحكومة جلالة الملك تعتبر وديعة تحت يدها لسكان القطر المصري جميع الحقوق التي آلت إليها بالصفة المذكورة، وكذلك جميع الحقوق التي استعملتها في البلاد مدة سني الإصلاح الثلاثين الماضية، ولذا رأت حكومة جلالته أن أفضل وسيلة لقيام بريطانيا العظمى بالمسئولية التي عليها نحو مصر أن تعلن الحماية البريطانية إعلانا صريحا، وأن تكون حكومة البلاد تحت هذه الحماية بيد أمير من أمراء العائلة الخديوية طبقا لنظام وراثي يقرر فيما بعد.
بناء عليه قد كلفتني حكومة جلالة الملك أن أبلغ سموكم أنه بالنظر لسن سموكم وخبرتكم قد رئي في سموكم أكثر الأمراء من سلالة محمد علي أهلية لتقلد منصب الخديوية مع لقب «سلطان مصر»، وأني مكلف بأن أؤكد لسموكم صراحة - عند عرضي على سموكم قبول عبء هذا المنصب - أن بريطانيا العظمى أخذت على عاتقها وحدها كل المسئولية في دفع أي تعد على الأراضي التي تحت حكم سموكم مهما كان مصدره، وقد فوضت إلي حكومة جلالته أن أصرح بأنه بعد إعلان الحماية البريطانية يكون لجميع الرعايا المصريين أينما كانوا الحق في أن يكونوا مشمولين بحماية حكومة جلالة الملك.
وبزوال السيادة العثمانية تزول أيضا القيود التي كانت موضوعة بمقتضى الفرمانات العثمانية لعدد جيش سموكم، وللحق الذي لسموكم في الإنعام بالرتب والنياشين.
أما فيما يختص بالعلاقات الخارجية فترى حكومة جلالته أن المسئولية الحديثة التي أخذتها بريطانيا العظمى على نفسها تستدعي أن تكون المخابرات منذ الآن بين حكومة سموكم وبين وكلاء الدول الأجنبية بواسطة وكيل جلالته في مصر.
وقد سبق لحكومة جلالته أنها صرحت مرارا بأن المعاهدات الدولية المعروفة بالامتيازات الأجنبية المقيدة بها حكومة سموكم؛ لم تعد ملائمة لتقدم البلاد، ولكن من رأي حكومة جلالته أن يؤجل النظر في تعديل هذه المعاهدات إلى ما بعد انتهاء الحرب.
وفيما يختص بإدارة البلاد الداخلية علي أن أذكر سموكم أن حكومة جلالته طبقا لتقاليد السياسة البريطانية قد دأبت على الجد بالاتحاد مع حكومة البلاد وبواسطتها في ضمان الحرية الشخصية، وترقية التعليم ونشره، وإنماء مصادر ثروة البلاد الطبيعية، والتدرج في إشراك المحكومين في الحكم بمقدار ما تسمح به حالة الأمة من الرقي السياسي، وفي عزم حكومة جلالته المحافظة على هذه التقاليد بل إنها موقنة بأن تحديد مركز بريطانيا العظمى في هذه البلاد تحديدا صريحا يؤدي إلى سرعة التقدم في سبيل الحكم الذاتي.
وستحترم عقائد المصريين الدينية احتراما تاما كما تحترم الآن عقائد نفس رعايا جلالته على اختلاف مذاهبهم، ولا أرى لزوما لأن أؤكد لسموكم أن تحرير حكومة جلالته لمصر من ربقة أولئك الذين اغتصبوا السلطة السياسية في الآستانة لم يكن ناتجا عن أي عداء للخلافة، فإن تاريخ مصر السابق يدل في الواقع على أن إخلاص المسلمين المصريين للخلافة لا علاقة له البتة بالروابط السياسية التي بين مصر والآستانة.
وإن تأييد الهيئات النظامية الإسلامية في مصر والسير بها في سبيل التقدم هو بالطبع من الأمور التي تهتم بها حكومة جلالة الملك مزيد الاهتمام، وستلقى من جانب سموكم عناية خاصة، ولسموكم أن تعتمدوا في إجراء ما يلزم لذلك من الإصلاحات على كل انعطاف وتأييد من جانب الحكومة البريطانية، وعلي أن أزيد على ما تقدم أن حكومة جلالة الملك تعول بكل اطمئنان على إخلاص المصريين ورويتهم واعتدالهم في تسهيل المهمة الموكولة إلى قائد جيوش جلالته المكلف بحفظ الأمن في داخل البلاد، ويمنع كل عون للعدو.
وإني أنتهز هذه الفرصة فأقدم لسموكم أجل تعظيماتي.
تحريرا في 19 ديسمبر سنة 1914
ملن شيتهام
شكل 1: صاحب الدولة حسين رشدي باشا رئيس الوزراء الحالي.
وفي اليوم نفسه انتشر في القاهرة - ثم في جميع مراكز المديريات - المنشور الآتي:
يعلن وزير خارجية بريطانيا العظمى أنه نظرا إلى حالة الحرب الناشئة من عمل تركيا؛ وضعت مصر تحت حماية جلالته، وستكون من الآن محمية إنكليزية، وبذلك انتهت سيادة تركيا في مصر، وستتخذ حكومة جلالة الملك جميع التدابير اللازمة للدفاع عن مصر، وتصون سكانها ومصالحها. ا.ه.
هذا وكان صاحب الدولة حسين رشدي باشا رئيس الوزراء قد استعفى هو وسائر أعضاء الوزارة حالما أبلغ رسميا عزل الخديوي، فكان أول عمل رسمي أتى به السلطان حسين هو أنه أصدر الأمر الآتي:
الأمر الكريم السلطاني الصادر لصاحب العطوفة حسين رشدي باشا
عزيزي رشدي باشا
إن الحوادث السياسية التي وقعت في هذه الأيام أدت إلى بسط بريطانيا العظمى حمايتها على مصر، وإلى خلو الأريكة الخديوية.
وبهذه المناسبة أرسلت الحكومة البريطانية إلينا رسالة نبعث بصورتها إليكم لنشرها على الأمة المصرية، موجهة فيها نداءها إلى ما انطوى عليه فؤادنا من عواطف الإخلاص نحو بلادنا، لكي نرتقي عرش الخديوية المصرية بلقب «السلطان»، وستكون السلطنة وراثية في بيت محمد علي طبقا لنظام يقرر فيما بعد.
وقد كان لنا بعد أن وقفنا حياتنا كلها إلى اليوم على خدمة بلادنا أن يكون الإخلاد إلى الراحة من عناء الأعمال مطمح أنظارنا، إلا أننا بالنظر إلى المركز الدقيق الذي صارت إليه البلاد بسبب الحوادث الحالية قد رأينا مع ذلك أنه يتحتم علينا القيام بهذا العبء الجسيم، وأن نستمر على خطتنا الماضية فنجعل كل ما فينا من حول وقوة وقفا على خدمة الوطن العزيز.
هذا هو الواجب المفروض علينا لمصر ولجدنا المجيد محمد علي الكبير الذي نعمل على تخليد الملك في سلالته.
وبما فطرنا عليه من الاهتمام بمصالح القطر سنوجه عنايتنا على الدوام إلى تأييد السعادة الحسية والمعنوية لجميع أهليه، مواصلين خطة الإصلاحات التي بدئ العمل فيها؛ لذلك ستكون همة حكومتنا منصرفة إلى تعميم العلم وإتقانه بجميع درجاته، وإلى نشر العلم وتنظيم القضاء بما يلائم أحوال القطر في هذا العصر، وسيكون من أكبر ما تعنى به توطيد أركان الراحة والأمن العام بين جميع السكان وترقية الشئون الاقتصادية في البلاد.
أما الهيئات النيابية في القطر، فسيكون من أقصى أمانينا أن نزيد اشتراك المحكومين في حكومة البلاد زيادة متوالية.
ونحن على ثقة بأننا في سبيل تحقيق هذا المنهاج سنجد لدى حكومة صاحب الجلالة البريطانية خير انعطاف في تأييدنا، وإننا لموقنون بأن تحديد مركز الحكومة البريطانية في مصر تحديدا واضحا بما يترتب عليه من إزالة كل سبب لسوء التفاهم يكون من شأنه تسهيل تعاون جميع العناصر السياسية بالقطر لتوجيه مساعيها معا إلى غاية واحدة.
وإننا لنعتمد على إخلاص جميع رعايانا لتعضيدنا في العمل الذي أمامنا.
ولوثوقنا بكمال خبرتكم وبما تحليتم به من الصفات العالية، واعتمادا على وطنيتكم؛ نطلب منكم مؤازرتنا في المهمة التي أخذناها على عاتقنا، وندعوكم بناء على ذلك إلى تولي رياسة مجلس وزرائنا وإلى تأليف وزارة تختارون أعضاءها لمعاونتكم، وتعرضون أسماءهم على تصديقنا العالي.
ونسأل الحق جلت قدرته أن يبارك لنا جميعا فيما نبتغيه من نفع الوطن وبنيه. ا.ه.
تحريرا بالقاهرة في 2 صفر سنة 1333.
حسين كامل
19 ديسمبر سنة 1914
فقبل حسين رشدي باشا ما عهد إليه، ورفع الكتاب الآتي:
مولاي
أقدم لسدة عظمتكم السلطانية مزيد الشكر على ما أوليتموني من الشرف السامي؛ إذ تفضلتم علي بأمركم الكريم الذي فوضتم به إلي تأليف هيئة الوزارة.
نعم إنني كنت وكيلا عن ولي الأمر لسابق، ولكنني مصري قبل كل شيء، وبصفتي مصريا قد رأيت من المفروض علي أن أجتهد تحت رعايتكم السلطانية في أن أكون نافعا لبلادي، فتغلبت مصلحة الوطن السامية التي كانت رائدي في كل أعمالي على جميع ما عداها من الاعتبارات الشخصية.
لهذا فإني أقبل المهمة التي تفضلت عظمتكم السلطانية بتفويضها إلي، ولما كان زملائي بالأمس الموجودون الآن بمصر متشربين بنفس هذه العواطف، وهم لذلك مستعدون للاستمرار على معاونتهم لي؛ فإني أتشرف بأن أعرض على تصديق عظمتكم السلطانية رفق هذا مشروع المرسوم السلطاني بتشكيل هيئة الوزارة الجديدة، وإنني بكل احترام وإجلال لعظمتكم السلطانية.
تحريرا في 2 صفر سنة 1333.
العبد الخاضع المطيع المخلص
حسين رشدي
19 ديسمبر سنة 1914
ولقد أظهر صاحب الدولة رشدي باشا رئيس الوزراء في هذه الأزمة السياسية الحرجة من المقدرة النادرة المثال في السياسة، والإدارة، وحسن الأسلوب، مع الغيرة على مصلحة الوطن، والصراحة التامة في القول والعمل؛ ما خلد له أجمل الذكر في عهد مصر الجديد.
وبقي جميع الوزراء في مناصبهم ما عدا محب باشا وزير الأوقاف، فإنه أقيل وربما كان السبب في إقالته حسن انعطاف الخديوي إليه، فسافر إلى إيطاليا، وتولى مكانه الفريق السر إبراهيم باشا فتحي، وهو من الضباط الممتازين، ثم إن بسط الحماية البريطانية على مصر أوجب إلغاء وزارة الخارجية؛ لأن أعمالها تحولت إلى دار الحماية.
وفي 20 ديسمبر سنة 1914 احتفل رسميا بجلوس السلطان حسين، فقصد عابدين من منزله قرب قصر النيل بموكب حافل، كانت الجماهير التي ملأت الطرقات وشرفات المنازل تحييه بالتصفيق على طول الطريق، وكان جمع غفير من أعيان البلاد ووجوهها وكبار موظفي الحكومة ينتظر الموكب في رحبة عابدين، فلما أقبل السلطان هتفوا له هتافا عظيما، ثم استقبل عظمته الجماهير استقبالا دام ست ساعات، ألقى عليهم فيه كثيرا من درر نصائحه الغوالي في الزراعة والاقتصاد السياسي والأخلاق الراقية، وذم الخصومات المذهبية والعائلية، وحث الجميع على الاتحاد وجمع الكلمة على ما فيه خير وطنهم ورقيه وسعادته.
وحقا إن حظ مصر كبير بسلطانها الجديد، إنه سلطان عرك الزمان وعرف كيف تساس البلدان، سلطان يتفانى في حب بلاده كما تتفانى بلاده في حبه، سلطان لا هم له إلا خير أمته، ولا مطلب إلا راحتها ورقيها، سلطان يعرف قدر الرجال، فيقرب العامل النافع، وينبذ الفاسد الضار، سلطان يكره أن يرى الشقاق في عناصر أمته وطوائفها وأسراتها، وهو دائب على جمع كلمتهم إلى ما فيه مصلحتها وكرامتها، حقا إن الشرق ليغبط مصر على سلطانها الجديد؛ لأن الشرق لم ير مثله منذ عهد بعيد، أطال الله أيامه، وكلل بالنصر أعلامه ما كر الجديدان وتعاقب النيران وقام في الشرق سلطان. (1) حديث لعظمة السلطان عن مصر ومستقبلها
ولا شيء أدل على أخلاق عظمته السامية، وحبه المتناهي لمصر والمصريين، ونياته الشريفة نحو أمته وبلاده؛ من حديث لعظمته عن مصر ومستقبلها مع الدكتور هربرت آدم جيبون - مراسل جريدة النيويورك هرلد الأميركية - بعد أن كان لعظمته نحو سنة على عرش مصر، وهذا هو الحديث مترجما بجريدة الأهرام في 27 فبراير سنة 1916:
قال المراسل: استقبلني السلطان حسين كامل حفيد محمد علي وصافحني بيد مبسوطة على الطريقة الأميركية، ثم قال عظمته: «لم أذهب إلى أميركا ولكني أعرف الشعب الأميركي إذ قابلت الأميركيين في كل مكان في أوروبا، ورأيت كثيرين منهم في مصر، وأني لأحب أساليبهم الحرة الطليقة من القيود والتكلف وامتدح النشاط والدأب الأميركيين، وهي صفات نريدها لمصر، وأنت كلما أطلت وجودك في بلادنا ازددت حبا لها، فهي ساحرتك بطلاقتها وجمالها، وستتحمس أشد التحمس لمسائلها الاقتصادية، ولقد خصت مصر بأربع مزايا جعلتها بلد الله المبارك: نيلها الجواد الفياض، وشمسها الدائمة الإشراق، وأرضها الغنية المخصاب، وفلاحها العامل الكدود، وإن الفلاح المصري لعون للطبيعة على استدرار الثروة لنا، ولهذا كنت دائما كلفا بالفلاحين، وخصصتهم بأوقاتي وعنايتي لتحسين حالهم، ولما كنت الأمير حسينا كانوا يسمونني أبا الفلاح، وإني لأفضل أن أكون الأمير حسينا، فإذا كنت الآن السلطان، فلأن الواجب كان يدعوني ألا أرفض الدعوة التي كانت تستفزني لأن أوسع نطاق عملي ولا أقصره على أملاكي الخاصة، لينال فلاحو مصر نصيبهم من العناية والاهتمام، فأنا لم أكن قط ذا مطامع شخصية، بل كنت مؤثرا مصلحة بلادي على مصالحي الخاصة.»
وهنا نهض السلطان وأومأ إيماءة دل بها على أن ترف عابدين لا قيمة له عنده، وكنا نتمشى بهدوء، وكانت جوقة عسكرية تعزف خارج القصر والحراس على صهوات خيولهم كتماثيل ثابتة في مدخل الأبواب، وتابع عظمته الكلام فقال: «هذه مظاهر لا تهمني، ولقد كنت أكثر حرية وهناء لما كنت الأمير حسينا، ولم تكن علي هذه المشاغل والعمل المستمر الذي يستنفد كل وقتي، ولكن لما دخلت تركيا الحرب هل كان لي أن أرفض؟ أكان في مقدوري أنا أحد أمراء بيت محمد علي أن أتنحى عن الواجب الذي يحول دون هدم العمل المجيد الذي بدأ به جدي الخالد الذكر لترقية المصريين وإسعادهم؟
لقد كان الحكم التركي مصيبة على مصر حتى جاء محمد علي إليها، وكذلك كان حكم الأتراك في كل أرض نزلوها وحكموها حينا من الدهر، ويكفيك برهانا أن تقابل بين رومانيا واليونان وبلغاريا وبلاد الأتراك، ويكفي أهل العواطف الذين يقولون ببقاء السلطنة العثمانية إقناعا وتخطئة لآرائهم أن يركبوا القطار من فيينا إلى الآستانة، فإنهم يمرون بهنغاريا والسرب وبلغاريا هذه البلاد التي أنقذت من حكم الأتراك فيرون المدن الجميلة والمزارع الخصبة والشعوب الرغيدة العيشة، ثم تعال إلى تركيا وتغلغل فيها بعد حدودها القديمة وعرج يمينا عند مصطفى باشا، فإنك لا ترى إلا الانحطاط والقذارة، والأرض البوار المهملة، والبيوت المشيدة من صفائح البترول الفارغة، خذ طريقك من إسكندرية إلى أزمير، وقابل بين المينائين والبلدين، فإذا كان الألمان يعتقدون أننا مغتبطون بفكرة الرجوع إلى حكم الأتراك وأننا نرحب بهم إذا أقبلوا علينا كمحررينا لنا برجالهم الرحل المختلفي الأزياء، إذن لشد ما أضاع الألمان قواهم العقلة، ولشد ما فقدوا مزية النظر إلى الأمور كما هي.
وإنها لفرصة طيبة لنا إذا جازف الألمان والأتراك وعملوا على تحقيق هذه الفكرة، ففي تحقيقها ولا شك تعجيل بسقوطهم، أما وأنت ستنشر كتاباتك بين الأميركيين البعيدي النظر والذكاء؛ فإني أقول بملء الصراحة: إننا نحن المصريين ننظر إلى الإنكليز كأصدقاء لنا ومحامين عنا، وإننا لموقنون بأن بلادنا كانت ولا شك ضائعة في العام الفائت لو لم يخف الإنكليز لمساعدتنا، والإنكليز بركة لمصر الآن وكذلك كانوا من قبل، وإني لمعجب بالأساليب والوسائط التي اتخذت للدفاع عن بلادي وشعبي، وهذه الأساليب هي كافية كل الكفاية، ثق أن بريطانيا العظمى ستبذل أكبر الجهد لتحمي قناة السويس وتدافع عن مصر لأجل سلامة إمبراطوريتنا، فهي لا تضن بالتضحيات في هذا السبيل من الرجال والمال إذا كان الأمر حيويا خطيرا، ولهذا فإني لا يخامرني أقل تصور في غزوة خارجية أو اضطراب داخلي.»
قال المراسل: وما هي آمال عظمتكم في مستقبل مصر ؟
فابتسم عظمته وقال: «إن سؤالك لمتطلب أجوبة كثيرة، ولكني مجيبك صراحة وبدون تعجل، ولك أن تنظر إلى الجيوش الإنكليزية في مصر، وتتعرف البلاد التي أقبلت منها، فتتيقن أن هذه الحرب برهنت على متانة الإمبراطورية الإنكليزية وعظمتها، أما وقد برهنت إنكلترا بتضحيتها التي لا عداد لها، هذه التضحيات التي اشتركت فيها أملاكها، فلا يمكن أن تكون قناة السويس بعد الحرب أقل منها نفعا وأهمية لها هي قبل الحرب.
وما كنت لأقبل سلطنة مصر في ظل الحماية البريطانية لو لم أكن مواليا منعطفا على الدولة الحرة العظيمة الذي سأتساند معها في إنجاح شعبي اقتصاديا وأدبيا، ولقد علمني الاختبار الشخصي الطويل بأن الإنكليز هم أصدقاء شعبي وعائلتي الخلص، وهذا العام الذي مر علي وأنا سلطان على مصر، وفيه عاشرت كبار رجال الحكومة الإنكليزية ونوابها، واشتركت معهم في العمل يوما بعد يوم جعلني أوقن تماما أنهم أشد ولاء لي ولمصر، وأنا متابع للعمل معهم ما داموا على ثقة من ولائي وإخلاصي، ولولا هذه الثقة والولاء لاعتزلت منصبي بدون تردد، وإن في طبعي ولاء وإخلاصا، ولهذا فإني مستطيع العمل مع هؤلاء الخلص الأوفياء، وأنا الآن وقد أوفيت على الرابعة والستين وخبرت الإنكليز الخبرة الطويلة، فإني ارتضيت العمل معهم على إنهاض بلادي، وتحقيق آمال مصر وشعبها، هذه الآمال التي انتهت إلي من جد الخالد العظيم مؤسس عائلتي في مصر.
ولا تنس أن ذكر الفرح العظيم الذي يهزني للعمل لأجل المصريين، فهم شعب حقيق بأن يسعى الإنسان لأجله.
نعم إن في مصر أناسا أخيارا، وكذلك عرف محمد علي من قبلي، وهم خلقاء أن يحبوا وأن يعطف الإنسان عليهم، وإلا فأي شعب آخر أحق منهم بالمحبة والعطف.» ا.ه.
سيناء والحرب الحاضرة (سنة 14-1916)
ما أشد هول هذه الحرب وأعظم ويلاتها وأكثر ضحاياها! لقد شاهد العالم في زمن نوح «طوفان الماء»، ونحن نشاهد الآن «طوفان الدماء»، أما طوفان الماء فقد عم بعض جهات الشرق، وأما طوفان الدماء هذا فقد عم الشرق والغرب، واضطرمت نار الحرب في البر والبحر والهواء والماء وتحت الماء وفوق الأرض وتحت الأرض.
إنها لحرب التاريخ، فإذا ذكرت الحرب بعد الآن مجردة عن الوصف والتعريف؛ انصرف الذهن إلى هذه الحرب والعياذ بالله!
لما طير البرق خبر هذه الحرب في أواخر يوليو سنة 1914 كنت مع القائلين: إنها لا تقع، وإنها وإن اضطرمت نارها فلا تلبث أن تطفأ؛ لأن شدة هولها وجسامة خسائرها وويلاتها تحمل القائمين بها على قتلها في المهد، ولكن ما لبثنا أن رأينا أن علمنا بغايات المثيرين لها وأخلاقهم ودرجة رقيهم الإنساني كان قاصرا جدا، فإنه لم يكن إلا القليل حتى اشتعلت نار الحرب في شرق أوروبا وغربها، وصار البرق يطير لنا من أخبار ويلاتها كل يوم ما تقشعر له الأبدان وتتفطر لهوله القلوب، وما زال هذا الحال المحزن المخيف المخجل للإنسانية إلى اليوم! فويل لمثيري هذه الحرب من حكم التاريخ! وويل لهم ثم الويل يوم الحساب الأخير!
هذا ولما انقطع رجاؤنا من إيقاف الحرب بقي لنا رجاء حار، وهو أن الفئة القائمة بأمر الدولة العثمانية تتخذ خطة الحكمة والسداد، فلا تتعرض لهذه الحرب الطاحنة، بل تحافظ على الحياد التام مع الميل قلبا إلى الحلفاء؛ إذ مصلحتها في مصافاتها، وتنتفع من هذه الفرصة النادرة فتلم شعثها وتنظم أمورها الداخلية وتحكم شعوبها المختلفة بمبدأ اللامركزية، وتؤلف منهم دولة قوية متضامنة تعيد الشرق إلى سابق عزه ومجده.
ولكن هذا الرجاء ما لبث أن تبدد، ورأينا والأسف ملء أفئدتنا أن الاتحاديين القائمين الآن بالأمر في تركيا قد زجوا بأنفسهم وبالدولة في هذه الحرب الضروس في جانب الألمان، وكان الحلفاء قد بذلوا منتهى الجهد لإقناعهم في البقاء على الحياد وأن ذلك في مصلحتهم، فلم يقتنعوا؛ لأن لمعان ذهب الألمان كان قد بهرهم حتى لم يعودوا يبصرون.
فاللهم صبرك! اللهم رأفتك بالأبرياء من أبناء سوريا والعراق وآسيا الصغرى الذين يضحي بهم الاتحاديون على مذابح الألمان! اللهم أشفق على خلائقك أجمع، وأرح العالم شر هذه الحرب الطاحنة المخيفة، إنك الحكيم القدير الرءوف المتعال!
أما غرض الألمان من إدخال تركيا في هذه الحرب فهو أن تجيش منها جيشين: جيشا من آسيا الصغرى وتركيا أوروبا قاعدته أرضروم لمهاجمة الروس في القوقاس، وآخر من سوريا والعراق قاعدته دمشق الشام لمهاجمة الإنكليز في مصر، والألمان عالمون حق العلم أن الأتراك غير مفلحين في القوقاس ولا في مصر، وإنما أرادوا أن يشغلوا قسما كبيرا من جيوش الروس والإنكليز ويمنعوه من الذهاب إلى ميدان الحرب في شرق أوروبا وغربها كما قدمنا، وموضوعنا الآن الجيش الذي أعدته تركيا من سوريا والعراق في دمشق الشام لمهاجمة مصر. (1) جيش سوريا والعراق
تجند الدولة من روسيا والعراق في زمن الحرب أربعة فيالق على الأقل: (1)
فيلق حلب ثلاث فرق: فرقة من حلب، وفرقة من كلس، وفرقة من أدنة. (2)
فيلق الشام ثلاث فرق: فرقة من الشام، وفرقة من بيروت، وفرقة من القدس. (3)
فيلق الموصل فرقتان: فرقة من الموصل، وفرقة من كركوك. (4)
فيلق بغداد فرقتان: فرقة من بغداد، وفرقة من البصرة.
وجملة الفرق عشر، والفرقة ثلاثة آلايات، والآلاي أربعة طوابير أو أورط في زمن الحرب وثلاثة في زمن السلم، ومتوسط عدد الأورطة ألف رجل، فجملة ما يمكن جمعه من سوريا والعراق مائة وعشرون ألف رجل. (2) سكك الحديد في سوريا وضواحيها
وتمتد سكة حديد من حيدر باشا تجاه الآستانة، فتخترق آسيا الصغرى مارة بأزمير، فأفيون قره حصار، فقونية، فبوزانتي، وهنا قطع تحدثه جبال طورس يجاز بالعربات إلى طرسوس، ومن طرسوس تمتد سكة الحديد إلى أدنة، فالحميدية وهنا قطع آخر تحدثه جبال اللكام يجاز بالعربات إلى راجون، ومن راجون تمتد سكة الحديد إلى حلب، فحماة، فحمص، فالرياق، فبعلبك، فدمشق الشام.
ومن حلب خط يمتد شرقا إلى رأس العين في الطريق إلى نصيبين، فالموصل.
ومن حمص خط يمتد غربا إلى طرابلس الشام على البحر المتوسط.
ومن الشام يتفرع ثلاثة خطوط: خد يمتد غربا مارا ببعلبك، فالرياق، ومخترقا لبنان إلى بيروت، وآخر يمتد جنوبا إلى المزيريب، وآخر يمتد جنوبا مارا ببصرى حوران، فدرعا، فمعان، فالعلاء، فمداين صالح، إلى «المدينة».
ومن درعا على خط المدينة يتفرع خط إلى حيفا على البحر المتوسط مارا بتل شهاب، فسماخ، فالسيلي، فحيفا.
وهناك خط يمتد من يافا على البحر المتوسط إلى القدس مارا باللد.
ومن محطة السيلي في خط حيفا خط يمر بعفولة، فسباستيا، فنابلس، فاللد، فبئر السبع، وقد بدئ بهذا الخط بعد دخول تركيا الحرب، فتم السبت 30 أكتوبر 1915. (3) تنظيم الحملة على مصر
ولما أعلن الاتحاديون الدخول في الحرب كان قومندان الجيش الرابع في سوريا الفريق زكي باشا الحلبي، فقام فكرة الحملة على مصر مصرحا بأن أمل النجاح فيها ضعيف جدا خصوصا بعد أن فشل في جمع الإبل وإثارة القبائل للانضمام إلى الجيش، فعين ياورا لإمبراطور ألمانيا ونقل إلى برلين، وسمي مكانه الفريق أحمد جمال باشا قائدا عاما للحملة على مصر.
وكان زكي باشا قد بعث بفيلق حلب إلى الآستانة، فلما حضر جمال باشا أتى بفيلق الموصل إلى حلب وجعله جيشا احتياطيا وحاميا للسواحل، وأعد فيلق الشام العربي كله ثلاث فرق للحملة مصر، وعززه بفرقتين تركيتين أتى بهما من أزمير والآستانة، والمجموع خمس فرق في كل فرقة 12 ألفا، والكل ستون ألفا، أضاف إليها من المتطوعة تسعة آلاف من سوريا وألفا من الحجاز، فكان مجموع رجال الحملة على مصر سبعين ألف مقاتل ومعها المقرر لها من الطوبجية والفرسان والمهندسين والأطباء، وكان مع الطوبجية من المدافع الكبيرة البعيدة المدى أربعة أتوا بها من الآستانة، وكان مع الحملة 8 آلاف جمل: ألفان منها لجر الحمال التي وضعت على مركبات زحافة على الرمل، و6 آلاف لحمل الزاد والذخيرة والماء .
وكان معها أيضا جسر مؤلف من 36 زورقا حديديا لمده على الترعة، وهذه الزوارق يمكن استخدامها أيضا أرصفة عائمة لمد الجسور ونقل المئونة، فهي بذلك زوارق ومركبات معا، وقد شاهدنا بعض هذه الزوارق في محل عرضها بالقاهرة بعد الواقعة، فإذا هي مخرقة بالرصاص كالشباك.
هذا وبينما كان جمال باشا يعد جيشه للزحف على مصر كان الألمان والنمساويون والأتراك الاتحاديون وأشياعهم في مصر يدسون الدسائس لإحداث ثورة في البلاد ضد الإنكليز، وكان القصد أنه عند تقدم الجيش المهاجم من الشرق يهاجم السنوسي من الغرب، وتثور العربان في قلب مصر، فيقع الإنكليز في الارتباك ويملك الجيش المهاجم مصر! وقد أحدثوا فعلا بعض الشغب في البلاد.
ولكن السلطة العسكرية تنبهت لهم ونفتهم إلى مالطة أو غيرها أو اعتقلتهم في مصر، فلم تأت سنة 1915 حتى كانت مصر قد تنقت منهم.
وكانت إنكلترا قد طهرت البحار من سفن الأعداء، فأخذت ترسل إلى مصر الجند بعشرات الألوف، بل بمئاتها من إنكلترا من التريتوريال وأستراليا ونيوزيلاند والهند حتى ملأت جنودها البر والبحر، وأصبح لسان حالها ينشد قول الشاعر العربي:
ملأنا البر حتى ضاق عنا
وظهر البحر نملؤه سفينا
وانتشر الجند على حدود مصر وفي أمهات مدنها، وأخذوا ينثرون الذهب في أسواقها، فارتفعت الضائقة المالية عنها، وعوضت أضعاف ما خسرته من نزول أسعار أقطانها.
وأخذت السلطة العسكرية تستعد لصد الحملة على مصر، فأمرت بإخلاء سيناء لتجعل الصحراء بينها وبين الجيش المهاجم كما مر، وفتحت سدا في البحر المتوسط على زاوية سيناء الشمالية الغربية، فأغرقتها إلى قرب القنطرة، وحفرت الخنادق على ضفة الترعة الشرقية من القنطرة فجنوبا وعززتها بالجيوش القوية، وحفرت الخنادق أيضا على الضفة الغربية وبالغت في إتقانها وعززتها بخمسين ألف جندي، واجتمع وراءها من الاحتياطي 40 ألف رجل في الزقازيق وغيرها، وعضدت الجيوش ببعض مدرعات حربية في بحيرة التمساح وقطارات سكة حديد مسلحة تمر بين بورتسعيد والسويس، وأحضرت الطيارات للاستكشاف واستعدت لكل طارئ.
ومع ذلك فقد توهم البعض أن في استطاعة الجيش المهاجم اختراق الترعة، ولكن العارفين صحراء سيناء وصعوبة تسيير الجيوش فيها، والواقفين على معدات الدفاع على القنال؛ أكدوا لهؤلاء المتخوفين فشل الحملة؛ لأن أمامها من العقبات الطبيعية والحربية ما يستحيل على أي جيش من جيوش العالم التغلب عليها، وأول تلك العقبات وأصعبها «الطريق»، ولقد عرف غزاة مصر منذ القديم صعوبة تسيير الجيوش في برية سيناء القاحلة؛ لذلك لم يجسر أحد منهم أن يهاجم مصر من أيام سنحاريب الآشوري إلى قمبيز الفارسي إلى إسكندر المقدوني وأنتيغونس اليوناني وغيرهم إلا بعد أن امتلك سوريا وموانيها، وتمكن من الانتفاع ببحرها ومراكبها كما مر.
وكان الإسكندر يقول: «لا بد لنجاح الحملة على مصر من امتلاك فينيقية.» لذلك رأيناه في زحفه على مصر قد ثبت على حصار صور سبعة أشهر، وعلى حصار غزة شهرين، وأضاع قدرا كبيرا من المال والرجال في فتحهما؛ ليتمكن من الانتفاع بمراكب الفينيقيين فسيرها بالزاد والمهمات في البحر، وسار هو محاذيا لها بجيشه في البر.
وكان بطليموس الأول خليفة الإسكندر على مصر يرى أنه لا بد لامتلاك فينيقية من امتلاك قبرص، فبذل كل ما عز وهان حتى امتلكها كما مر.
وكذلك نابليون عند مهاجمته سوريا من مصر أرسل الجيش في البر والمثقلات وأدوات الحصار في البحر، ولما كان البحر المتوسط إذ ذاك بيد الإنكليز قسم أدوات الحصار قسمين، وأرسلهما إلى سواحل سوريا في عمارتين: عمارة من الإسكندرية وعمارة من دمياط، حتى إذا ما صادف العدو إحداهما وأهلكها سلمت الأخرى.
ثم إن إبراهيم باشا عند مهاجمة سوريا سنة 1839 أمن جانب البحر، فأرسل الجيش في البر، وسار هو بالمثقلات في البحر.
أما الآن، فجزيرة قبرص التي هي مفتاح فينيقية، بل سواحل فينيقية كلها والبحر المتوسط بين المتولين الدفاع عن مصر، فلم يبق طريق للحملة من سوريا إلا صحراء سيناء.
ولا يخفى أنه ليس في صحراء سيناء كلها مكان واحد يصلح لأن يكون قاعدة أو أساسا للحملة على مصر تحشد فيه الجند فتستريح وتأخذ الأهبة قبل مباشرة الهجوم، ثم تلجأ إلى الأساس إذا قدر لها الفشل، فكان لا بد من حمل الزاد والماء والذخيرة والأسلحة والمدافع وسائر المهمات الحربية ذهابا وإيابا في فلاة جرداء، لا يقل اتساعها عن 150 ميلا، والمسافة بين ماء وماء في طرقها تختلف من يومين إلى أربعة.
ثم إنه ليس في أي الطرق ماء إلا لعدد محدود من الجند قد لا يزيد على 20 ألف رجل، هذا إذا كان السفر في فصل الشتاء واتفق نزول الأمطار بغزارة في سيناء وفاضت الينابيع وامتلأت الخيران، كما حصل في سنة مجيء جمال باشا، وإلا فالعدد الممكن تسييره من الجند في تلك الفلاة ينقص بنسبة نقص الماء في الينابيع والخيران.
ثم إن هذا الجيش الصغير يضطر أن يوالي السير في تلك الرمضاء وهو مثقل بأحماله، فلا يقف إلا ريثما يتنفس خوفا من نفاد الماء والزاد حتى يصل القنال تعبا منهوكا ليهاجم جيشا مستريحا أكبر منه عددا وأفضل عددا وأرقى نظاما، معتصما بخنادق على أحدث طرز، ومحميا من الوراء بالطرادات في البحر والقطارات المسلحة في البر، والنجدات العظيمة على رءوس السكة الحديدية في المدن المجاورة، وعنده من الزاد والماء والذخيرة ما يكفيه سنين، وفوق ذلك كله فإن الجيش المدافع شاعر في نفسه أنه يدافع عن كرامته وكرامة أمته وبلاده وحرية الأمم.
شكل 1: خريطة طريق الجيش العثماني إلى القنال، سنة 1915. (4) واقعة القنال في 3 فبراير سنة 1915
هذا وأسهل الطرق وأقربها إلى مصر من سوريا طريق الساحل المشهورة، وأول موضع في هذه الطريق يصلح أن يحشد فيه الجيوش بعد الدخول في سيناء مدينة العريش؛ لكثرة مائها، ولكن لم يكن في وسع جمال باشا تسيير الجيوش بهذه الطريق، ولا حشدها في العريش؛ لأن الطريق والمدينة معرضتان لبوارج الحلفاء، فكان لا بد لجمال باشا من اتخاذ طريق داخلية بعيدة عن مرمى القنابل، فاتخذ طريق القدس إلى بئر السبع واتخذ هذه البئر أساسا للحملة على مصر، وهناك قسم جيشه ثلاثة جيوش وسير كل جيش في طريق: (1)
جيش صغير بقيادة ممتاز بك، وفيه متطوعة سوريا والبدو: يحتل «العريش» مختبئا في الوادي، ثم يسير في طريق العريش وقطية لمهاجمة القنال عند كوبري القنطرة. (2)
وجيش صغير آخر، وفيه متطوعة الحجاز وأورطة من فرقا الشام: يحتل «نخل» ثم يسير في طريق السويس لمهاجمة القنال عند كوبري السويس. (3)
والجيش الثالث، وهو الجيش الكبير: بقي بقيادته وفيه فرقة الشام العربية المعروفة بالفرقة ال 25، تسير في المقدمة ووراءها فرقتا أزمير والآستانة التركيتان، ووراء هؤلاء الفرقتان العربيتان الباقيتان من فيلق الشام، وقد سار هذا الجيش في طريق الإسماعيلية لمهاجمة الترعة عند كوبري الإسماعيلية مارا بالأمكنة الآتية: بئر السبع، فالخلصة، فبئر العوجة، فبئر الروافعة في وادي العريش، فجبل ألبني، فمحطة السر بقرب بئر المر تجلب إليها الماء على الإبل من آبار المقضبة والروافعة والحسنة وبئر أولاد علي واللجمة، فحمة الركاب، فروض سالم وهناك ثميلة يستخرج منها الماء بالطلمبات، فالجفاف كذلك، فالخبرة شمالي جبل أم خشيب، وهناك غدير شهير.
وعند وصول جمال باشا إلى الخبرة قسم جيشه قسمين: قسما صغيرا سيره بقيادة كمال بك إلى بئر المحدث لمهاجمة الإسماعيلية عند الكوبري، والقسم الأكبر بقي بقيادته، فسار به إلى كثيب النصارى على نحو 3 ساعات بسير الإبل من القنال تجاه محطتي سرابيوم وطوسون، هذا وفي أثناء زحفه على الإسماعيلية زحف الجيش الذي أرسله بطريق العريش لمهاجمة القنال عند القنطرة، والجيش الذي أرسله بطريق نخل لمهاجمة القنال عند السويس فهاجم القنال في القنطرة والإسماعيلية وسرابيوم وطوسون والسويس في وقت واحد، ولكنه لم يصل من جيش جمال باشا إلى القنال إلا نحو عشرين ألفا، ومعهم جماعة من الضباط الألمان أركان حرب.
وهذا الجيش الصغير على ما كان عليه من التعب وسوء الحال هاجم في فجر 3 فبراير سنة 1915 ذلك الجيش العظيم الذي كان مرابطا على القنال على كمال دربته واستكمال عدته وإتقان خنادقه ورباطة جأشه وثقته بنفسه.
وقد كانت النتيجة ظاهرة للعيان لا يشوبها ريب ولا ظل ريب، وما من قائد يعمل بأوليات الفن الحربي يقدم على الهجوم الذي أقدم عليه جمال باشا، وظاهر أن الألمان الذين يديرون دفة الجيش العثماني على ما يوافق أغراضهم هم الذين أمروا بالهجوم متكلين على حسن البخت وغفلة الخصم وأمل حصول الثورة في مصر، قالوا: فإذا فاز الجيش العثماني بلغنا غاية ما نتمنى، وإلا فإن الغرض الأصلي الذي نرمي إليه وهو حجز جيش قوي من جيوش الإنكليز عن الميدان الغربي في أوروبا حاصل في كل حال، ومما يدل على أن جمال باشا مأمور بالهجوم على كل حال أنه لما دنا من الترعة أول فبراير لم يبعث بالجند لاستطلاع قوة أعدائه وجس نبضهم كما تقتضيه الأصول الحربية؛ إذ لا سبيل إلى أخذهم على غرة وعندهم الطيارات، وقد اقتفت خطواته في الصحراء على ما يعلم، ثم إن جمال باشا بعد وصوله إلى كثيب النصارى لم يهاجم بكل قوته، بل ألقت فرقته الأمامية بأيديها إلى الخنادق الإنكليزية، ووقفت فرقة أخرى احتياطية وراءها وعلى بعد 3 أميال منها، مما دل على أن جمال باشا لما أمر بالهجوم قرر الهجوم بجزء من قوته تخلصا من إلحاح الألمان وتفدية للكل بالبعض، وقد كانت الفرقة المهاجمة كلها أو جلها من أبناء العرب الذين لم «يتعب الألمان ولا الترك بدق ريحانهم»، وقد شهد لهم الإنكليز أنهم حاربوا حروب الأسود، وأقدموا على الموت بكل شهامة وبسالة كما اشتهر عن العرب في كل زمان ومكان.
أما الجيش المدافع فإنه ترك الجيش المهاجم يدنو منه حتى بات ضمن مرماه فأصلاه نارا محكمة صائبة، وفي بعض الجهات ترك المهاجمون ينزلون زورقين من زوارقهم إلى الترعة قبلما شرع المدافعون في إطلاق النار عليهم، وكان أشد هجوم العثمانيين في سرابيوم، وقد بدءوا بضرب مواقع الإنكليز والمدرعات التي في بحيرة التمساح بأكبر مدافعهم عيار 6 بوصة، وكانت ناره فعالة فأصابت السفينة هاردنج بقنبلتين وجرحت قائدها الكبتن كارو، ولكن لم يكن إلا القليل حتى أسكتته إحدى المدرعات، وفي الساعة السادسة مساء كان المهاجمون يتقهقرون، ولم ير من الحكمة مطاردتهم في الصحراء، وقال بعض النقاد الحربيين: إنهم لو طوردوا لقبض على أكثرهم قبض اليد، وما نجا منهم إلى سوريا إلا القليل.
شكل 2: واقعة سرابيوم على القنال.
وكان بعض الجنود العثمانيين قد لجئوا إلى جهة على ضفة الترعة الشرقية ، وحفروا خندقا، ولما أظلم الليل جعلوا يصطادون المدافعين فرادى بنار بنادقهم، وفي صباح اليوم التالي 4 فبراير أرسل عليهم المدافعون فصيلتين فقوبلتا بنار حامية، فأرسل إليهما نجدة قوية فاستولوا على الخندق برءوس الحراب بعد أن قتلوا من قتلوا وأسروا الباقين، وعددهم 250 رجلا من نخبة الجنود.
وقد اطلع القراء على وصف القتال في البلاغات الرسمية، فرأيت أن ألخص هنا وصف القتال كما حدثني به أحد الأسرى العثمانيين، وكان ممن هاجم القنال في سرابيوم، قال: صحبت الحملة من دمشق الشام وسرت في المقدمة، فاخترقنا صحراء سيناء في طريق الإسماعيلية، وما لقينا أحدا من عربان سيناء، فإنهم فروا من طريقنا ولجئوا إلى الجبال، وبقينا سائرين حتى أتينا كثيبا مشرفا على القنال على 3 ساعات منه «وهو كثيب النصارى»، فانقسمنا قسمين: قسما للهجوم وقسما للنجدة، وكنت مع القسم المهاجم، وقد صدر لنا الأمر بالهجوم في الساعة الثالثة من صباح 3 فبراير، وحالما دنونا من القنال بادرنا الجيش المرابط بإطلاق النار، لكننا ظللنا نتقدم بزوارقنا حتى تمكنا من إنزال بعضها في القنال تحت وابل من الرصاص.
غير أن إطلاق النار من القنال أخذ يشتد علينا حتى إن جنودنا بعد قتال يوم شديد اضطرت إلى التقهقر تاركة عددا كبيرا من القتلى والجرحى، وكنت أنا في جملة الجرحى، وقد جرحت في ساقي الساعة الرابعة صباحا، وإذ كان جرحي بعد حاميا تمكنت من الانسلال تحت جنح الظلام حتى بلغت كثيبا من الرمال، فاختبأت وراءه.
وبعد ظهر ذلك اليوم في أثناء تقهقر جنودنا رآني بعض الجنود الأتراك، وحملوني مسافة قصيرة، وإذ أعياهم حملي تركوني وحيدا في ذلك القفر بعد ما سلبوني نظارتي وكيس زادي، أما قربتي فكانت فارغة، وبقيت هناك أقاسي الجوع والعطش والبرد والحر وألم الجراح إلى صباح الجمعة 5 فبراير حين جاء رجال الصليب الأحمر الإنكليز، فحملوني إلى مستشفى الإسماعيلية واعتنوا بي عناية أذكرها لهم بالشكر أبد الدهر. ا.ه.
وقد حدثت كثيرين من الأسرى السوريين، فقالوا: «إننا أتينا على رغمنا، وكان الألمان يقولون لنا: إن قوة الإنكليز على القنال ضعيفة لا يعتد بها، وإننا حالما نشرف على القنال يزحف السنوسي من الغرب على مصر وتثور عرب مصر على الإنكليز، حتى صرنا نعتقد أننا حالما نهاجم القنال نجتازه ونستولي على مصر، ولكننا علمنا الآن أن الألمان خدعونا، وأن اختراق القنال ضرب من المحال.» ا.ه.
وكانت خسارة العثمانيين في ذلك اليوم: 1250 من القتلى و2000 من الجرحى و750 من الأسرى، وأما الخسارة التي اعترفوا بها في نشراتهم فهي: 600 من القتلى و500 من الجرحى و400 من الأسرى.
وأما خسارة الإنكليز فلم تتجاوز الستين بين قتيل وجريح.
وقد قاست حملة جمال باشا الشدائد في اختراقها برية سيناء؛ لذلك صمم جمال باشا ألا يهاجم القنال مرة ثانية إلا إذا أعد حملة قوية وجهزها بالحمال والمدافع والعدد الكافي من الأتراك والألمان بعد مد سكة الحديد بقدر المستطاع في الصحراء.
أما الآن وقد استولى الروس على حصون أرضروم وبلاد أرمينيا كلها، واستولى الإنكليز على العراق إلى كوت الإمارة، وهم والروس يهددون بغداد، فلا يحتمل أن يعيد الترك الكرة على مصر، ومع ذلك فإن الجيش الإنكليزي المدافع عن مصر قد حصن القنال بالمدرعات وحفر صفوفا من الخنادق القوية شرقيه، وزاد الخنادق الغربية تحصينا، وعززها بالمدافع والرجال؛ فأصبح القنال أمنع من عقاب الجو، حتى لقد يقال: إنه لو هاجمته جيوش الألمان والترك برمتها لما نالت منه مأربا، وعادت عنه كما عادت في المرة الأولى بالخيبة والخسران. (5) واقعة الطور في 12 فبراير سنة 1915
هذا وكان الجيش الذي أرسله جمال باشا إلى نخل - بعد وصوله إليها بقليل - بعث بشرذمة من العساكر مؤلفة من نحو 70 رجلا أكثرهم من المتطوعة لحصر مدينة الطور بقيادة ضابط ألماني يدعى «جورج قندس»، ومعه البكباشي حسين نوري من أهل بني غازي، فوصلوا ضواحي مدينة الطور يوم 18 يناير سنة 1915، واتخذوا موقعا حصينا في سفح جبل الحمام، وكان في مجيء هذه الشرذمة إلى الطور على بعد سبعة أيام للهجان من قاعدتهم الخاصة في نخل، وعشرين يوما من قاعدتهم العامة في بئر السبع، ونزولهم في قفر لا زاد فيه ولا مأوى مجازفة فاقت مجازفة جمال باشا بمهاجمة القنال، فإنهم ما لبثوا أن وصلوا إلى ضواحي الطور حتى نفد الزاد القليل الذي حملوه من نخل، فبعثوا إلى الدير يطلبون إنجادهم بالزاد ويتهددونه إذا لم يجب طلبهم، فأرسل لهم الدير بعض المؤنة في قافلتين خوفا من بطشهم، ولكن قبل وصول القافلة الثانية إليهم كان الجيش المدافع قد بطش بهم وأراح الدير وسيناء شرهم، وتفصيل ذلك:
أنه لما بلغ القائد العام في مصر خبر هذه الشرذمة؛ أمر أهل مدينة الطور والمنشية والحمام فهاجروها إلى السويس ومصر، وكان قد حصن جانبا من المحجر على شاطئ البحر، وجعل فيه نحو 200 رجل من الأورطة الثانية المصرية، فأنجدهم من السويس بنحو 300 رجل من جنود الجوركة الهنود.
وفي 12 فبراير سنة 1915 بعد نصف الليل زحفوا على العدو في الوادي يقودهم المقدام النبيل الكولونل باركر مدير سيناء الأسبق، فساروا حتى أتوا شمالي محلة الأعداء، وكان قد انحاز إلى العدو نحو مائة نفس من أهل المنشية، ونزلوا بالقرب من محلته على ماء في الوادي، فلما طلع الفجر انقسم جيشنا المهاجم قسمين: الجنود المصرية ارتدوا جنوبا ورصدوا للعدو من الأمام، وجنود الجواركة زحفوا عليه من الوراء، فهاجمت فصيلة منهم محل الأهلين في الوادي فأسرتهم وقبضت عليهم قبض اليد، ثم زحف الجوركة كلهم على العدو فحصروه هم والجنود المصرية بين نارين، وفتحوا عليه أفواه البنادق فشوته شيا، فباد أكثره ووقع من سلم من فعل الرصاص أسرى في يد الجيش، وهم البكباشي حسين نوري و15 رجلا، وكان قد انضم إلى العدو بعض بدو سيناء، فقتل منهم: عيد محمد من العليقات، وحسين مبارك من الزهيرات العوارمة، وعامر خضر أو خضر عامر شيخ قبيلة مزينة، وغيرهم.
وكان دليل العدو صباح آغا، أحد عساكر نخل الباشبوزق، فقتل في الواقعة.
وأما جورج قندس الألماني فإنه كان قد ذهب قبل الواقعة بيوم إلى أبي زنيمة ومعه سليمان غنيم شيخ العوارمة ومنصور أبو قرمة من قبيلته، فحرقوا مخازن شركة المنغنيس هناك، وبذلك نجوا من القتل، ولم يقتل من جند الحكومة إلا جندي واحد من الجوركة.
وهكذا انتهت حملة جمال باشا بالفشل، ولم يكن منها إلا تخريب ما قام به المديرون من الإصلاح في سيناء، واضطر المدافعون على القنال إلى هدم مدينة القنطرة ونقل أهلها إلى مصر، وضرب الوابورات الحربية بعض قنابلها على قلعة العريش فخربتها، فأصبحت سيناء كلها خرابا في خراب والعياذ بالله!
ولكن لا بد من استرجاع سيناء وإعادة الإصلاح إليها قريبا إن شاء الله. (6) السيد أحمد الشريف بن السيد محمد الشريف السنوسي
لم يكتف الأمان بأن زجوا بالاتحاديين والدولة في هذه الحرب الضروس، بل أنفذوا رسلهم إلى السيد أحمد الشريف السنوسي كبير السنوسية الحالي في صحراء ليبيا الغربية، وأغروه بالدخول فيها أيضا، وكان بين الذين أرسلوهم إلى السنوسي ألماني يدعى مانسمان ونوري باشا أخو أنور باشا وضابط عربي من بغداد يدعى جعفر باشا العسكري.
وكان القائد العام وأركان حربه برئاسة النبيل الكولونل كليتون مدير المخابرات قد بذلوا منتهى الجهد واستخدموا كامل الصبر وخالص النصيحة - وأنا شاهد عيان - لمنع السنوسي عن الدخول في هذه الحرب، وبينوا له بالرسائل والرسل الذين يثق بهم أن مصلحته غير مصلحة الألمان والترك، وأن سلامته وسلامة أنصاره وكرامته تقضي بالتزامه الحياد التام، فإما أنه لم يقتنع بالنصيحة وطمع بامتلاك مصر كما قيل إنه ثابت عنده في علم الجفر «أنه يدخل مصر ضحوة يوم الخميس، بعد ما يحمي الوطيس، ويقل الأنيس، ويمل الجليس»، وإما إنه اقتنع بالنصيحة ولم يستطع التغلب على دسائس الترك والألمان، فورطوه على رغمه ووقع ما كنا نخشاه، وحصلت بين عرب الغرب والجيش البريطاني على الحدود ست وقعات متوالية أشهرها «وقعة بئر ماجد» في 25 ديسمبر سنة 1915. «ووقعة العقاقير» على 15 ميلا شرقي «براني» في 26 فبراير سنة 1916، وكانت هذه الوقعة فاصلة: قتل فيها عدد كبير من العرب وأسر جماعة من ضباط الترك والعرب بينهم قائدهم جعفر باشا مجروحا، واحتل الجيش البريطاني السلوم وخرب معسكر السنوسي فيها في 14 مارس سنة 1916، وعاد عرب مصر الغربيون نادمين وطالبين العفو.
هذا وفي أول الشتاء كان قد غرق في البحر المتوسط قريبا من ساحل السلوم باخرتان إنكليزيتان «تارا، ومورينا»، فتمكن بعض بحارتهما من الوصول إلى الساحل فأسرهم السنوسي وجعلهم في زاوية العزيات على نحو أربعة أيام بسير الإبل غربي السلوم، فلما كانت واقعة العقاقير هاجم الدوق أوف وستمنستر بقطار من السيارات المدرعة وسيارات النقل، وأنقذ البحار الإنكليز المذكورين، وعددهم 91 نفسا، وعاد بهم إلى السلوم فالإسكندرية، وكان فعله هذا من أجمل ما جاءت به هذه الحرب من فعال الشهامة والإقدام.
ونحن لا نذكر تفاصيل هذه الوقائع؛ لأنها ليست من موضوعنا ، ولكنا إنما نشير إليها هنا لنبدي مزيد الأسف عمن ذهب ضحية من أبطال العرب والإنكليز الأشاوس، وعما وقع بين الأسرة السنوسية وجارتهم الكريمة مصر من الجفاء بعد الذي كان بينهما من المودة والصفاء، وأملنا بعد الآن أن السيد أحمد الشريف - وهو ابن أخي السيد محمد المهدي كبير السنوسية السابق، وحفيد السيد محمد علي السنوسي مؤسس الطريقة السنوسية الكبير - يتبع خطة سلفيه، فلا يعكر الصفاء الذي أسسه ذانك الفاضلان النبيلان مع مصر، وألا يصغى إلى دسائس الدساسين، ولا يعمل إلا ما فيه مصلحة العرب والأسرة السنوسية عموما إن شاء الله. (7) علي دينار، سلطان دارفور وحكومة السودان
أما علي دينار سلطان دارفور، فإنه سلك في هذه الأثناء مسلكا مغايرا لرضا الحكومة، وتحدى سلطتها جهارا؛ فسيرت من النهود قوة من الجيش المصري بقيادة الكولونل كلي قائد الفرسان المصريين، فاحتلت «آبار أم شنقة» في 20 مارس سنة 1916، وفي اليوم التالي احتلت «جبل الحلة»، وكلاهما من بلاد دارفور بجوار الحدود، وقد لقيت مقاومة ضعيفة في جبل الحلة، ولكنها تغلبت عليها وشتتت شمل المقاومين ولم يلحق بجنودنا خسارة ما، ولهذين الموقعين شأن عظيم من الوجهة الحربية لوجود الماء فيهما ولوقوعهما في الطريق بين النهود في مديرية كردوفان وبين الفاشر عاصمة دارفور، فباحتلالهما أدركت القوة الغرض الأول من التقدم، وهو حماية موارد الماء التي يستقي منها أهل البلاد بين النهود والفاشر من كل سوء واعتداء. (8) صاحب المعالي الجنرال السر رجينولد ونجت باشا والسلام في السودان
أما السودان نفسه فقد خيم عليه السلام والأمن والراحة إلى الآن، ولولا الجرائد لما علم فيه أن في الدنيا حربا طاحنة تذهب في كل يوم عشرات الألوف من النفوس، ذلك كله بفضل الاحتياطات الحكيمة الفعالة التي اتخذها بطله العظيم الجنرال السر رجينولد ونجت باشا ورجاله المنتخبون الكرام وولاء أهالي السودان على اختلاف الأجناس لحكومتهم الجديدة الشفيقة العادلة.
العلائق التجارية بين مصر وجاراتها في هذا العصر
(1) صادرات جزيرة العرب إلى مصر
لجزيرة العرب تجارة مع مصر والعراق والشام في هذا العصر كما في كل عصر، أما صادرات جزيرة العرب إلى مصر، فأشهرها من نجد: الإبل والخيل عن طريق: حايل، فالحيانية، فالجوف الشمالي، فوادي السرحان، فدمشق الشام، فطريق العريش، فالقنطرة، ومن شمال الحجاز: الإبل والغنم والسمن عن طريق: العقبة، فنخل، فالإسماعيلية أو السويس. أو عن طريق النبك فالسويس.
ومن اليمن: البن، ومن حضرموت: التنباك عن طريق البحر الأحمر إلى السويس.
ولبلاد نجد تجارة إلى العراق بدرب زبيدة إلى النجف أو كربلاء فبغداد.
ويطلق اسم «عقيل» الآن في بغداد والشام ومصر على تجار نجد وشمر عموما، وقالوا في سبب ذلك: إن قبيلة من الأحساء تعرف بهذا الاسم نزحت قديما إلى بغداد، واستقلت بتجارة الخيل والإبل ونقل بضائع التجار على الإبل بين نجد وبغداد، وبين نجد والشام فمصر؛ فأطلق اسم عقيل على جميع تجار نجد وشمر إلى الآن. (2) صادرات العراق إلى مصر
أما صادرات العراق إلى مصر، فإذا استثنينا الإبل والغنم التي ترد إليها عن طريق الشام، فأهمها:
التمر، والمغات «نبت يستعمل للسمنة وللنفساء»، والكوفية المعروفة بالحجازية، والمنديل الحجازي صنع بغداد تستعمله نساء الفلاحين هنا غطاء للرأس، والغباني تقليد الهندي تستعمل أحزمة وعمائم، والسجاد وعبي الصوف ترد من بلاد العجم من أصفهان وشيراز وغيرهما، والأفيون من أصفهان، وصمغ الكثيراء ويعرف هنا بالكثيراء ظفر وأصله من رشت، وميناء هذه الأصناف كلها البصرة وطريقها البحر الأحمر. (3) صادرات سوريا إلى مصر
أما صادرات سوريا إلى مصر برا فهي: الإبل والخيل والبغال والغنم عن طريق العريش فالقنطرة أو الإسماعيلية، وقد مر ذكر ذلك.
وتأتي الخيل والغنم أيضا من سوريا بطريق البحر.
ويأتي أيضا منها بطريق البحر ما يعرف بالبضائع المحزومة ومال القبان والحبوب.
أما البضائع المحزومة فهي: الحراير القطنية التي تصنع في مدن الشام وحمص وحماة وطرابلس الشام وبيروت وساحل لبنان، وأهم أنواعها: الشاهي والكرمسوت والديما والغزلى والملس، والزنار وبمبازار، ومنديل الأوية، والحبال، والمرس، والخيطان.
ومن مال القبان والحبوب من حوران الشام وحمص وحماة ولبنان وساحل سوريا: القمح، والشعير، والترمس، والصنوبر، والجوز، واللوز، والفستق، والكمون، والأنيسون، والكراويا، والزعتر، والمشمش المجفف، وقمر الدين، وعرق السوس، والزبيب، والسراس، والعنب، والبرتقال، والبطيخ، والسمن، وزيت الزيتون، والصابون، وماء الورد، وماء الزهر، ودبس العنب، ودبس الخروب، وسكر نبات، والدخان، وبذر التقاوي: البقلة والسبانخ والبرسيم والكزبرة.
وأما التجار السوريون الذين يتجرون بالبضائع الشامية مال القبان فأشهرهم:
في الإسكندرية من حلب: جبيلي وقناعة وشركاهم، مصطفى حماض وأولاده، محمد بهاء الدين مكانسي، ولاية إخوان عبد الرحمن سماقية، وفيها من دمشق: سمان إخوان، عبد الكريم مدور، حبيب وإلياس زيات، ومن بيروت هبري وعفرة.
وفي مصر القاهرة من دمشق الشام: الحاج عبد الله الكحال، والسيد بكري الرفا، وأحمد بك توكل، ورشيد المحايري وأولاده، وغيرهم.
وأما التجار السوريون في مصر الذين يتجرون بالبضائع المحزومة الشامية فأشهرهم:
في الإسكندرية من الشام: محمد توفيق جبري وشركاه، وفي القاهرة من الشام: السيد محمد السيد نظام، سعيد ومحمد الحموي، عبد الغني سليم سليق، خليل التكريتي وأولاده، وفيها من حمص: محمد بك أبو النصر السيد، وحصني أبناء عم، وجميع من ذكرنا من التجار هم مسلمون إلا حصني أبناء عم وحبيب وإلياس زيات فهم مسيحيون.
وقد جد حديثنا بعض التجار المسيحيين الذين يتجرون «بالبقالة الشامية» كالزيت والزيتون واللبنة والبرغل والتين والجوز واللوز والفستق والمشمش وغيرها، وأشهرهم: الخواجات شهدان، وأمين متري، وخليل دياب، وإبراهيم صفير، وأديب شعيا، وغيرهم. (4) صادرات مصر
وأما صادرات مصر إلى الشام والحجاز فأهمها: السكر، والفول، والعدس، والأرز الرشيدي، والحصر، وفي بعض السنين القمح والشعير.
السوري في مصر
يؤخذ من تاريخ العلائق بين مصر وجاراتها التي أوردناها في هذا المختصر ثلاثة أمور جديرة بالاعتبار، وهي:
أولا:
أن الاتصال بين مصر وسوريا كان مضطردا منذ أقدم أزمنة التاريخ إلى اليوم، وكان الاتصال بين مصر وسوريا أكثر منه بين مصر وأية جارة أخرى.
ثانيا:
أن مصر وسوريا تتعاونان في الضيق، فالسوري يلجأ إلى مصر في زمن الاضطهاد وسوء الأحكام، فيقيم فيها زمنا ثم يعود إلى بلاده أو يتخذها وطنا له ويهجر وطنه، كذلك كان يفعل المصري إذا وقع عليه ضيق أو اضطهاد في بلاده.
ثالثا:
أن السوري الذي توطن مصر منذ عهد يوسف الصديق أو قبله أو بعده بأجيال أخلص الخدمة لمصر واشتهر فيها بذكائه وعلمه وحسن إدارته، وكثيرا ما تمتع بجميع حقوقها الوطنية ونال الحظوة عند ملوكها وأمرائها وأصحاب الكلمة فيها.
هذا وتاريخ سوريا ومصر حافل بالشواهد على أن السوريين في بلادهم بوجه عام والفينيقيين بوجه خاص كانوا ولا يزالون يحرصون على صداقة المصريين وإدامة السلام بين سوريا ومصر؛ لأن مصلحة القطرين وراحتهما تقضيان بذلك، وأن الغزوات التي قام بها الفاتحون من سوريا على مصر كانت معظمها أو كلها كالغزوة الحاضرة من غزاة أجانب على سوريا آشوريين وفرس ويونان ورومان وبدو وأتراك، ولم يكن للسوريين أقل مأرب فيها بل كثيرا ما نصروا مصر ضد غزاتها الأجانب.
حقا إن مصر والشام شقيقتان متجاورتان متساويتان في العظمة والكرامة، ولا يليق بهما ولا يصلح لهما إلى التواد والوئام، وإن من يوقع الشقاق بين هاتين الشقيقتين أو يقف في سبيل اتصالهما وتصافيهما تلعنه الطبيعة والتاريخ، حتى إن بلاد التيه التي اعترضت بين البلدين قد مسختها الطبيعة مسخا فصيرتها قاعا بلقعا وتيها ضعضعا. •••
والسوريون المتوطنون مصر في هذا العهد ثلاث طوائف: يهود ونصارى ومسلمون.
أما «اليهود»: فهم أقدم السوريين المعروفين في مصر، وربما اتصل نسب بعضهم بجماعة الحبر أونياس الثاني أو أرميا النبي الذين أتوا مصر فرارا من الظلم كما مر.
وفي تعداد سنة 1907 الأخير بلغ عدد اليهود في مصر 38635 نفسا، ويقدر عددهم الآن بنحو 45 ألف نسمة، وكثير منهم من أصل أوربي، وتقدر ثروتهم بنحو خمسة عشر مليون جنيه، وأكثرهم صيارفة وتجار، ويتولى بعضهم وظائف الحكومة، ومن هؤلاء:
يوسف قطاوي باشا: عضو في الجمعية التشريعية.
مارك بك بيولويس: مراقب الحسابات في وزارة الحربية.
فكتور هراري باشا: مدير عموم الحسابات في وزارة المالية سابقا.
وما زال اليهود في مصر من أول عهدهم إلى الآن عنصرا منفردا قائما بذاته للفارق بينهم وبين أهل البلاد في الجنس والدين واللغة، وأشهر أسر اليهود وأقدمها في مصر: قطاوي، وسوارس، ومصيري، ومنشى، ورولو، وأجيون، ويعبيس، وعريبي، وجاليكو، وغيرهم . •••
أما السوريون «المسلمون»: فأكثرهم نزلوا مصر للاتجار في البضائع الشامية، وقد مر ذكر بعضهم، فالقديمو العهد منهم اختلطوا في الزواج بالعنصر الإسلامي من السكان الأصليين لعدم وجود الفارق في اللغة أو الدين أو الجنس، وامتزجوا بهم حتى إن كثيرين منهم لم يعد يمكن إرجاعهم إلى أصلهم السوري، وأما الحديثو العهد فما زالوا متميزين عن السكان الأصليين، ويمكن الرجوع إلى أصلهم، ومن هؤلاء غير ما ذكرنا من تجار البضائع الشامية: خالد باشا لطفي، وأسر: عبد القادر باشا حلمي، وإبراهيم بك وفا، ومصطفى باشا الحلبي، وسعد الله حلابو، وطليمات، والأسرة الرافعية: وقد بلغ عددها هذا العام نحو 340 نفسا، ومنهم جميل أفندي الرافعي الموظف بحكومة السودان، ومن أدباء السوريين المسلمين بمصر:
السيد رشيد رضا صاحب مجلة المنار، ورفيق بك العظم سنة 1883 صاحب تاريخ أشهر مشاهير الإسلام، وحقي بك العظم سنة 1891، وحسن بك خالد نجل السيد أبو الهدى الصيادي، ومحب الدين أفندي الخطيب، وفؤاد أفندي الخطيب الشاعر اللبناني، وللسوريين المسلمين بالقاهرة جمعية خيرية أسست سنة 1913.
وأما «السوريون» النصارى المتوطنون مصر الآن، وهم من نعني بالعنصر السوري عند التخصيص، فهم من مهاجري اللاذقية وطرابلس وبيروت وصيدا وصور وعكا وحيفا ويافا وغزة ولبنان وحلب وحماة وحمص والشام وبعلبك والقدس الشريف.
ومنهم من توطن مصر قبل المغفور له محمد علي باشا الكبير بزمان طويل، فإنهم أتوا إلى مصر تجارا أو موظفين، وهم أسر معدودة وقد باد بعضها أو كاد، وأشهر هذه الأسر:
زنانيري، وفخر: قيل أتوا مصر منذ نحو 300 سنة، وجيعة، وحجار، ورزوق ، وسرور، وصاصي، وقصيري، وكحيل: قيل أتوها منذ نحو 200 سنة، وبحري، وسابا، وسكاكيني: قيل أتوها منذ نحو 150 سنة.
ومن السوريين النصارى من توطنوا مصر في عهد محمد علي باشا وبعده إلى الثورة العرابية وأشهرهم أسرات: أبو شعر، أرقش، أنطونيوس، أيوب، بابازوغلي، بسترس، تاجر، تقلا، تويني، حموي، خلاط سنة 1880، خياط، دبانة، دهان، رطل، زغيب، الزند، سرسق، شدياق، شديد، شكور، شميل، صعب، صفير سنة 1870، صيدناوي، طحان، ظريفة، عازوري، عمون، عنحوري، عيد، عيروط، فركوح، قرداحي، قطة، لطف الله سنة 1852، مشاقة، ناصر، ناصيف، نحاس، نوفل، هاشم.
ومنهم وهم الفريق الأكبر من هاجروا إلى مصر بعد الثورة العرابية سنة 1883، وهم أسرات: أديب، بركات سنة 1892، بستاني، جمال، جميل، حداد، خازن، داغر، زيدان، شحادة، شقير سنة 1884، صروف، غانم، غرزوزي، غناجة، متري، مرشاق، معلوف، مغبغب، مكاريوس، موصلي، نمر، وغيرهم.
وقد بلغ عدد السوريين النصارى في مصر حسب الإحصاء الرسمي الأخير 33947 نفسا، ولكن هذا الإحصاء ناقص جدا؛ لأن كثيرين من السوريين قيدوا أنفسهم عثمانيين؛ لأنهم لم يتجنسوا بالجنسية المصرية بعد، والمعلوم في بطركخانة الروم الكاثوليك في مصر أن الروم الكاثوليك وحدهم يزيدون عن هذا العدد، ثم إن عدد الروم الأرثوذكس والموارنة معا لا يقلون عن الروم الكاثوليك، وعليه فعدد السوريين النصارى في القطر المصري لا يقل عن سبعين ألف نسمة، وتقدر ثروتهم بنحو خمسة وعشرين مليون جنيه، وللسوريين في مصر القاهرة ناديان عموميان: «النادي الشرقي»: على مثال الأندية الأوربية، وهو جامع لأعيانهم وكبرائهم.
و«نادي الاتحاد السوري»: وهو جامع لنخبة شبانهم، وغايته: «توثيق روابط الإخاء بين السوريين كافة على اختلاف المذاهب والأديان، والقيام بكل عمل خيري أو أدبي، وتنظيم حفلات خطابية، ومنع القمار وكل مناقشة دينية أو سياسية في مركز الجمعية منعا باتا.»
وللسوريين في القاهرة أيضا أربع جمعيات خيرية: جمعية لكل من طوائف الروم الأرثوذكس، والروم الكاثوليك، والموارنة، والبروتستانت.
وفي طنطا جمعية خيرية جنسية جامعة لجميع أفراد السوريين على اختلاف المذاهب والأديان تدعى «جمعية الاتحاد والإحسان السورية»، وهي خير مثال للجمعيات العنصرية في هذا القطر وفي كل قطر.
ولقد كان العنصر السوري في مصر اليد الطولى في النهضة الحديثة، فمنهم التاجر والمزارع والصانع والكاتب والصحافي والمؤلف والشاعر والخطيب والطبيب والمحامي والمهندس والموظف، ولهم في القطر أهم المجلات والجرائد العلمية والأدبية والسياسية، وهذه هي أشهر مجلاتهم العلمية والأدبية مع سني إنشائها وأسماء منشئيها:
المقتطف (سنة 1975)، الدكتور يعقوب صروف والدكتور فارس نمر.
الهلال (سنة 1892)، إميل أفندي زيدان ومؤسسها المرحوم والده.
العمران (سنة 1910)، عبد المسيح بك أنطاكي.
مجلة سركيس (سنة 1907)، سليم أفندي سركيس.
فتاة الشرق (سنة 1906)، السيدة لبيبة «ماضي» هاشم.
اللطائف المصورة (سنة 1914)، إسكندر أفندي مكاريوس.
الحقوق: المحامي إبراهيم أفندي الجمال، ومؤسسها المرحوم أمين شميل.
الاستقلال (سنة 1902)، المحامي نجيب بك شقرا.
وهذه أشهر جرائدهم السياسية مع سني إنشائها وأسماء منشئيها:
الأهرام (سنة 1875)، جبرائيل بك تقلا، ومؤسساها المرحومان والده بشارة باشا تقلا، وعمه سليم بك تقلا.
المحروسة (سنة 1876)، إلياس أفندي زيادة، ومؤسسها عزيز بك الزند.
الاتحاد المصري (سنة 1881)، إدجار روفائيل مشاقة، ومؤسسها المرحوم والده.
المقطم (سنة 1888)، صروف ونمر مكاريوس.
الأخبار (سنة 1896)، الشيخ يوسف الخازن.
البصير (سنة 1897)، رشيد بك شميل.
السودان (سنة 1900)، صروف ونمر.
وكل هذه الجرائد تصدر بالقاهرة، ما عدا البصير والاتحاد المصري فإنهما تصدران بالإسكندرية، والسودان بالخرطوم، ومن مجلاتهم وجرائهم العلمية والأدبية السياسية التي ظهرت حينا ثم احتجبت:
الشفاء: الدكتور شبلي شميل، وهو من أقدم كتاب العصر وأقدرهم.
البيان والضياء: الشيخ إبراهيم اليازجي الكاتب اللغوي الشهير.
مجلة الزهور: الشيخ أنطون جميل.
الجامعة: فرح أفندي أنطون.
اللطائف: شاهين بك مكاريوس.
الفلاح: سليم باشا حموي.
الجوائب المصرية: خليل أفندي مطران، وهو من أكبر شعراء العصر.
الرائد المصري: نقولا أفندي شحادة.
المشير: سليم أفندي سركيس.
الشرق: طانيوس أفندي عبده.
لسان العرب: الشيخ نجيب الحداد.
الرأي العام: إسكندر أفندي شاهين.
مجلة الروايات الجديدة: نقولا رزق الله.
وممن يجمل ذكره هنا: «سليمان أفندي البستاني» مترجم الإلياذة، فإنه أقام بمصر عدة سنين، وطبع فيها إلياذته قبل أن تولى منصب الوزارة في الآستانة.
وللسوريين النصارى من الرؤساء الروحانيين:
المطران يوسف دريان: النائب البطريركي الماروني بمصر.
المطران مكاريوس سابا: النائب البطريركي الكاثوليكي بمصر.
المطران بولس أبو مراد: مطران دمياط للروم الكاثوليك.
وفيهم من أرباب الثروة في القاهرة:
حبيب باشا لطف الله وأولاده ميشال بك وحبيب بك وجورج بك، وحبيب باشا سكاكيني، وأسرة قسطندي بك كحيل. وفي الإسكندرية: خليل باشا خياط، وأسرات: سرسق، وبترس، وغزيب، وكرم، ودبانة. وفي الزقازيق: الكونت سليم شديد. وفي المنصورة: أسرة الكونت خليل صعب.
وفيهم من أرباب الشركات الزراعية:
نجيب شكور باشا: مدير شركة الغربية والمباحث.
جورج بك عيد: مدير الشركة الزراعية الصناعية.
ومن أصحاب البنوك في مصر القاهرة:
الكونت قريصاني: صاحب ومدير البنك الفرنساوي.
الدكتور ألفريد عيد: مدير صندوق الرهنيات.
ولهم من المحلات التجارية المشهورة في مصر القاهرة:
محل جدعون إخوان: تجارة قومسيونجية.
محل جرجس براهيمشا: تجارة مانيفاتورة، بالحمزاوي.
محل حاطوم: تجارة أنتيكات، بالسكة الجديدة.
محل حنا بك صباغ وشركاه: تجارة جلود إفرنجية.
محل حسيب وتوفيق غبريل: تجارة قومسيونجية.
محل خوام إخوان: تجارة مجوهرات وأنتيكات، بخان الخليلي.
محل سليم وسمعان صيدناوي وشركاهم ليمتد: تجار حراير وأصواف بمصر والإسكندرية.
محل سليم حداد، تجارة مكنات الكتابة وموبيلات أميركية، بشارع المناخ.
محل شحادة إخوان: تجارة جزم أمريكية وقمصان وغيرها، بشارع المناخ.
محل شيحا: تجارة أنتيكات، بشارع المناخ.
محل مرشاق إخوان: تجار قومسيونجية.
محل موسى وجبرائيل صيدح: تجارة أغلال، بشارع محمد علي.
محل نجيب غناجة: تجارة أدوية، في مصر والإسكندرية وطنطا وأسيوط.
وفي الإسكندرية: محل كرم: تجارة خشب، ومحل الخواجات أبو شنب: تجارة قومسيونجية.
وفي طنطا: محل فركوح، ومحل الخواجات ناصر.
وفي الخرطوم: محل عزيز كفوري، تاجر ومزارع كبير.
ولهم من المكاتب الشهيرة في القاهرة:
مكتبة هندية (سنة 1883)، أمين أفندي هندية، بالسكة الجديدة.
مكتبة الهلال (سنة 1896)، جورج وإبراهيم زيدان، بالفجالة.
مكتبة المعارف (سنة 1901)، نجيب أفندي متري، بالفجالة.
المكتبة الشرقية (سنة 1889)، إبراهيم أفندي فارس، كلوت بك.
وفي الإسكندرية: مكتبة غرزوزي لجورج أفندي غرزوزي.
وفيهم من الأطباء في القاهرة وبينهم شعراء وخطباء وكتاب الدكاترة:
إبراهيم شدودي، أديب زيات، أمين أبو خاطر، أمين معلوف، جان أنطاكي، خليل مشاقة، روفائيل كساب، شبلي شميل، شكري مشرق، صابر بسيط، عبد الله البستاني، عبد الله ملوك، يوسف بحري «وله معمل كيماوي»، يوسف كحيل.
وفي الإسكندرية: أسعد حداد، ونقولا فياض.
وفي الفيوم: يوسف غبريل.
ومن الأطباء في خدمة الحكومة المصرية الدكاترة: إسكندر القيم، إسكندر عطية، ألفريد غرزوزي، إيليا خير الله، حنا رحمة، عبد الله شقير.
ومنهم في الجيش المصري من رتبة يوزباشي فصاعدا:
اللواء سليم موصلي باشا، والبكباشي صموئيل أفندي خوري، والصاغات: أسعد أفندي أيوب، أسعد أفندي معلوف، سليم أفندي غصن، الأمير فريد شهاب، منصور أفندي الحاج، واليوزباشية: أنيس أفندي عجيمي، سليمان أفندي الصليبي، عزيز أفندي شحادة، قيصر أفندي الخوري، نجيب أفندي الحداد، نسيب أفندي البارودي، يوسف أفندي مبارك، يوسف أفندي درويش، يوسف أفندي مزهر.
ومنهم في المصلحة الطبية الملكية السودانية:
الدكتور سليم أفندي عطية حكيمباشي أم درمان، والدكتور سليم أفندي الصايغ، والدكتور جورج أفندي حداد، ومن الأطباء الذين خدموا الجيش والآن بالمعاش: الدكتور يوسف بك شدياق، والقائمقام نعمة الله بك طحان، والصاغ أسعد أفندي راشد، ومن أطباء الأسنان السوريين في القاهرة:
الدكاترة: إدوار غرزوزي، أسعد عطية، أمين بهيت، رشيد حداد، خليل جريصاثي، نقولا بيطار، نقولا واكيم، وفي الإسكندرية: أسعد حداد.
ومن أطباء العيون في القاهرة: إبراهيم نشاطي، إلياس صليبي، حبيب غانم.
ومن المحامين السوريين في القاهرة:
إسكندر بك عمون، إلياس بك دبانة، أنطون بك سلامة.
حبيب بك غانم، الدكتور سليم بك البستاني، سليم بك رطل.
لطفي بك عيروط، نجيب بك البستاني، نجيب بك شكور.
الأمير خليل أبو اللمع، إدوار أفندي قصيري، إلياس أفندي جيعة.
إميل أفندي بولاد، إميل أفندي جهشان، أمين أفندي البستاني.
أنطون أفندي يزبك، ألفونس أفندي زينية، حبيب أفندي رطل.
زكي أفندام خوام، سامي أفندي جريديني، جبرائيل أفندي أصفر.
عبده أفندي داود، كميل أفندي أدة، لويس أفندي أسمر.
ميشيل أفندي صيدناوي، ميشيل أفندي ناصيف وأخواه فيليب وجورج.
وفي الإسكندرية:
أنطون بك سلامة، نجيب بك أيوب، إسكندر أفندي لكح.
ألفونس أفندي كعيكاني، أنطون أفندي أرقش، يوسف أفندي السودا.
وفي طنطا:
حبيب بك زين، جرجس بك حاوي ، قسطنطين بك سعادة.
نقولا بك أرقش، بديع أفندي قربه، خليل أفندي نعمة.
وفي القاهرة من المؤلفين والكتاب والشعراء والخطباء ما عدا أصحاب الجرائد المتقدم ذكرهم، وكثيرون منهم بارعون بالإنكليزية والفرنساوية وبعضهم بالروسية:
خليل بك ثابت، خليل بك سعادة، سليم بك شميل.
سليم بك مكاريوس، ماريوس بك شميل، إبراهيم أفندي نجار.
أسعد أفندي داغر، أشيل أفندي صيقلي، إلياس أفندي فياض.
أيوب أفندي كميد، خليل أفندي زينية، داود أفندي بركات.
رشيد أفندي ثابت، سامي أفندي قصيري ، سليم أفندي عبد الأحد.
سليم أفندي قبعين، شحادة أفندي شحادة، لبيب أفندي جريديني.
نجيب أفندي شاهين، نجيب أفندي ظريفة، نقولا أفندي حداد.
وديع أفندي أبو فاضل، وديع أفندي البستاني، يوسف أفندي البستاني.
الآنسة سعدى سابا، الآنسة مي.
وفي طنطا: إبراهيم أفندي حنا.
ومن أرباب الوظائف الكبيرة في القاهرة:
سعيد باشا شقير: مدير عموم حسابات السودان، وهو شاعر مجيد وكاتب قدير.
عزيز باشا كحيل: مستشار بمحكمة الاستئناف الأهلية.
عبد الله باشا صفير: وكيل مدير عموم الأمن العام بوزارة الداخلية.
ميشال بك لطف الله: عضو السوريين في الجمعية التشريعية.
يوسف بك خلاط: مدير قلم المطبوعات بوزارة الداخلية.
عبد الله بك عازوري: سكرتير وزير الحربية.
عزيز بك أبو شعر: مدير الأقلام الإفرنجية بوزارة الأشغال.
جورج بك فيلبيدس: مدير قلم الضبط والربط بمحافظة مصر.
سليم بك باخوس: ناظر القسم المالي بمحافظة مصر.
ميشال بك خوري: مفتش قسم أول بمصلحة التلغراف.
جورج بك خوري: مدير حسابا بمصلحة السكة الحديد.
وفي الإسكندرية:
جورج باشا زنانيري: سكرتير عام مصلحة المحاجر.
ميشال باشا أيوب: سكرتير عام مصلحة الجمارك.
فتح الله بك صوصه: مدير حسابات بمصلحة الجمارك.
جبرائل بك حداد: مدير قلم مراقبة الصحف.
وفي الخرطوم:
شاهين بك جرجس: السكرتير العربي للسردار وحاكم السودان العام.
إبراهيم بك ديمتري: سكرتير مفتش السودان العام.
صموئيل أفندي عطية: سكرتير إدارة المخابرات بالخرطوم.
وكان منهم في الوظائف الكبيرة إلى عهد قريب جدا:
السير يوسف سابا باشا: مدير عموم مصلحة البوسطة المصرية، ثم وزير المالية.
إداور باشا إلياس: مفتش في وزارة الداخلية.
أنطون باشا مشاقة: سكرتير عموم مصلحة الصحة العمومية.
أوغست باشا أديب: مدير عموم حسابات المالية بمصر.
بطرس باشا مشاقة: مراقب الخزينة المصرية.
فريد باشا بابازوغلي: سكرتير عام وزارة الأشغال العمومية.
قسطنطين باشا قطة: السكرتير الأول لمجلس الوزراء.
نجيب باشا سيور: سكرتير عام مصلحة الدومين.
يوسف باشا مسرة: رئيس إدارة السكة الحديد المصرية.
إسكندر بك عمون: قاضي بمحكمة الاستئناف.
حبيب بك دبانة وأخواه نجيب بك ويوسف بك: في قلم قضايا وزارة المالية.
جبران بك مسكات: مدير قلم الضبط والربط بمحافظة مصر.
جبران بك ناصيف: قاضي في المحاكم الأهلية.
سليمان بك ناصيف: رئيس قلم بوزارة الحربية.
طنوس بك شحادة: رئيس قلم بالحربية.
نجيب بك عنحوري: مدير قلم قضايا.
ومن أرباب الصنايع والفنون الجميلة:
في فن الطباعة:
نجيب أفندي متري، صاحب مطبعة المعارف ومكتبتها بمصر، وهو أشهر من اشتغل بهذه الصناعة من الشرقيين، ليس في مصر وحدها بل في الشرق كله، ومئات الكتب التي تخرج من مطبعته - ومنها تاريخ سيناء هذا وتاريخ السودان - تشهد له بالتفوق بهذه الصناعة، لا سيما بنظافة الطبع وإتقانه حسب أصول الصناعة، وقد علمنا أن محل مكملان الإنكليزي الشهير في لندن جعله وكيلا لمطبوعاته العربية والإنكليزية التي تدرس في المدارس الأميرية في القطر المصري، وقد عهد إليه طبع هذه الكتب في مطبعته، وكان إنشاء مطبعة المعارف سنة 1890، وقد صدر هذا التاريخ والمؤلفون العديدون الذين طبعوا كتبهم فيها سيحتفلون بيوبيلها الفضي في 28 أبريل سنة 1916 اعترافا بما لها من الخدمة لهم وللطباعة في مصر.
وفي فن التصوير الشمسي:
وداد أفندي شقير، ابن المرحوم شاكر شقير الشاعر المشهور، وهو صاحب محل فوتوغرافي بشارع نوبار باشا بالقاهرة، وقد نال شهرة عظيمة بصناعته في الخرطوم، وانتقل إلى مصر من عهد قريب.
وفي فن التمثيل:
جورج أفندي أبيض، وعزيز أفندي عيد.
وفي فن الموسيقى:
سامي أفندي الشوا، وهو من أشهر الضاربين على الكمنجة في الشرق.
وفي فن الزراعة:
الخواجة حبيب بولاد، وهو أول من أوجد الري الصيفي بمصر.
وفي فن التصوير باليد:
سليم أفندي حداد، وهو مخترع آلة الكتابة العربية. وفيليب أفندي واكد: مخترع آلة أخرى للكتابة العربية.
وفي الخط العربي:
إلياس أفندي علام، ونجيب بك هواويني المحامي، وممن امتاز بالخط العربي «فرنسيس صفير»، وقد توفي سنة 1914 وترك من خطه مآثر جميلة - رحمه الله.
وممن توفاهم لله في هذا القطر من التجار والموظفين الكبار والأدباء الذين ساعدوا في تأسيس النهضة الحديثة في مصر ويستحقون أجمل الذكر المغفور لهم:
روفائيل عبيد (سنة 1866)، بشارة باشا تقلا (1901)، عزيز بك الزند (1910)، سليم بك نقاش (1884)، نقولا بك توما (1905)، الشيخ أمين الحداد (1912)، سمعان كرم (1888)، الدكتور بشارة زلزل (1905)، جورج كرم (1912)، سليم بك تقلا (1892)، الشيخ إبراهيم اليازجي (1906)، الدكتور حبيب كرم (1913)، إلياس صالح (1895)، سليم بك صيدناوي (1908)، سليم باشا حموي (1913)، أمين بك الشميل (1897)، شاهين بك مكاريوس (1910)، جورج بك زيدان (1914)، الشيخ نجيب الحداد (1899)، ملحم بك شكور (1910)، نقولا رزق الله (1915). (1) مستقبل سوريا بعد الحرب الحاضرة، ومستقبل السوري في مصر
هذا وقبل الحرب الحاضرة كان السوريون في مصر بعضهم متجنسا بالجنسية المصرية والبعض الآخر باقيا على العثمانية، أما الآن وقد فصلت مصر عن الدولة العثمانية وأصبحت تحت الحماية البريطانية، فلا بد أن يسن قانون خاص للتجنس بالجنسية المصرية البريطانية، وإذ ذاك فالسوريون الذين كانوا باقين على التابعية العثمانية إما أن يتجنسوا بالجنسية المصرية وإما أن يتجنسوا بالجنسية التي تستقر عليها سوريا، على أن قرارهم النهائي بهذا الشأن يتوقف على مستقبل سوريا بعد الحرب، فإن كانت الجنسية التي تستقر عليها مما يروق لهم تبعوها وإلا اختاروا لهم تابعية أخرى.
أما مستقبل سوريا فلا يزال بيد الأقدار ولا يعلم أين تضعه، ولا أستطيع التبسط بهذا الموضوع كما أريد؛ لأنه موضوع سياسي حرج إلى الغاية، خصوصا في الأحوال الحاضرة، فلم يبق لي إلا الكلام عنه من الوجهة التاريخية، ويقال بالإجمال: إن السوريين من مسلمين ومسيحيين ويهود كلهم أو جلهم على اختلاف مذاهبهم ونزعاتهم السياسية متفقون على أمور أربعة:
الأول:
السخط على الاتحاديين سرا وجهرا لدخولهم في الحرب الحاضرة.
الثاني:
الميل الصادق إلى الحلفاء في هذه الحرب.
الثالث:
إنشاء حكومة جديدة على مبادئ اللامركزية الشوروية، تضمن لهم الأمن والراحة والنجاح في بلادهم، مع المحافظة على لغتهم وتقاليدهم وعاداتهم ووحدتهم القومية.
الرابع:
شعورهم بالحاجة إلى دولة من دول الحلفاء العظام يستعينون بها على تنظيم حكومتهم الجديدة، ولكنهم يختلفون في كيفية إنشاء الحكومة وتنظيمها، ثم في نوع المساعدة التي يتطلبونها ومقدارها.
نعم إن هناك فئة لا يهمهم الاحتفاظ بقوميتهم ما دامت البلاد ممتعة بأسباب الأمن والراحة والرقي، ولكن هؤلاء هم فئة قليلة جدا، والسواد الأعظم من أهالي سوريا من مسلمين ونصارى ويهود متمسكون بقوميتهم ولغتهم وعاداتهم كل التمسك، وأهل الخبرة منهم يقولون: إنه لا يكون للسوريين كلمة نافذة ولا مكانة سياسية ولا شأن ولا مقام ولا راحة ولا سلام في بلادهم أو خارج بلادهم إلا إذا احتفظوا بقوميتهم واتحدوا في الرأي والعمل على اختلاف المذاهب والأديان، وأهم الأسباب التي تدعو إلى اتحادهم ثلاثة: (1)
أن يتخذوا أساس المعاملة المصلحة العامة الوطنية ليس إلا. (2)
أني يتذكروا أنهم كلهم من أصل واحد عربي أو سامي، وأنهم كانوا عربا أو ساميين قبل أن كانوا سوريين وقبل أن كانوا يهودا ونصارى ومسلمين. (3)
أن يحافظوا على لغتهم العربية؛ لأنها لغة راقية، ولأنه لا شيء يقرب العناصر المتنافرة مثل الإجماع على لغة واحدة.
على أن أهل الخبرة والعقلاء من السوريين يعلمون حق العلم أنهم - سواء اختلفوا أو اتفقوا - فإنهم لا يقوون على رد أية دولة من الدول العظام إذا طمعت بهم، ولكن السوريين وهم أول من غرس أصول التمدن في العالم لا يخشون أن تطمع بهم دولة من الدول المتمدنة.
وفوق ذلك فإن السوريين واثقون بأن الغلبة في الحرب الحاضرة للحلفاء، وهم لم يشاركوا الحلفاء في أميالهم وعواطفهم فقط، بل كثيرون منهم شاركوهم بالفعل وبذلوا لهم أتعابهم وأموالهم ودماءهم، ولم يزالوا معهم كل ذلك إلى اليوم وسيبقون كذلك إلى أن يحرز الحلفاء النصر الأخير قريبا إن شاء الله.
وعليه ولما كان الحلفاء قد جاهروا بأنهم يحاربون للمدنية والحرية واستقلال الأمم الضعيفة، وكان لهم الكلمة الأولى في مستقبل سوريا بعد كلمة أبنائها؛ فالسوريون واثقون كل الثقة أنهم مهما اختلفوا هم أنفسهم في كيفية إنشاء حكومتهم المقبلة، فإن الحلفاء لا يسمحون بأن يكون مستقبل سوريا مما لا ترضى به نفوس الأحرار العقلاء منهم أو لا يكون فيه رقيهم وراحتهم وكرامتهم على اختلاف الأجناس والأديان.
وفي كل حال فإن أقل ما نؤمله أن يعاد لذلك الشيخ الجليل لبنان المحبوب حدوده الطبيعية، عملا بقاعدة ترك القديم على قدمه، وتبقى له تلك الامتيازات التي منحته إياها الطبيعة وأيدها التاريخ منذ قديم الزمان. •••
بقي علينا بحث اجتماعي في غاية الأهمية للسوري المهاجر إلى مصر وهو «أمن مصلحة السوري المهاجر استيطان مصر والتجنس بجنسيتها وهجر وطنه الأصلي بتاتا أم لا؟»
إن في مصر أمورا كثيرة تحبب للسوري المهاجرة إليها واستيطانها أهمها؛ أن لغة مصر هي لغتنا وجنسها جنسنا وعاداتها عاداتنا، وهي على ليلة من بلادنا فضلا عن أن مصر بلاد غنية واسعة الأطراف وافرة الخيرات، وتحتاج على الدوام إلى أيد كثيرة نشيطة مخلصة كالأيدي السورية.
إلا أن هناك أسبابا وجيهة تحمل السوري على التردد في استيطانها أهمها: أن هواء مصر شديد الوطأة على الأجناس الطارئة عليها من البلاد المعتدلة الحرارة، وسوريا من الجملة، فإن المشاهدة والاختبار يدلاننا على أن اللون والنشاط والصحة التي نراها في المهاجر الجديد من سوريا لا تراها في المهاجر القديم، بل أن كثيرا من الأسرات السورية التي هاجرت إلى مصر منذ أجيال لا يزيد عدد أعضائها الآن على عدد الأصابع، ومنها من انقرض بالمرة، خصوصا الذين قطعوا علائقهم بتاتا مع سوريا، وعليه ترى حكم الرأي الغالب أن استيطان مصر ليس من مصلحة السوري.
ثم إن السوريين النصارى الذين يهاجرون إلى مصر هم مضطرون بسبب الفارق في العنصر والدين وعدم الاختلاط بالزواج مع سائر العناصر أن يبقوا عنصرا منفردا كاليهود والأرمن والقبط، ومهما كثروا في البلاد فإنهم يبقون عنصرا ضعيفا بالنسبة لعناصر الأمة المصرية، فإذا لم ترتق نظامات مصر ارتقاء تزول أمامه فوارق الدين والعنصر في أبناء الوطن الواحد؛ ليتمكن أفراده النابغون - من كل جنس ودين - من نيل ما تتوق إليه نفوسهم الكبيرة من المنزلة الرفيعة في الحياة القومية أو السياسية كان لك سببا آخر في «أن استيطان مصر والتجنس بجنسيتها ليسا من مصلحة السوري.»
ولكن الناس في حياتهم الاجتماعية قلما ينظرون إلى المستقبل البعيد، فهم يطلبون غالبا النفع القريب العاجل ويتركون المستقبل لله، وقد رأينا أنه لأسباب تجارية أو سياسية أو اجتماعية توطن مصر أسرات من السوريين في كل عصر من عصور التاريخ، وستبقى هذه الحال إلى ما شاء الله خصوصا ما دام الحكم في سوريا على غير المرام.
لذلك لا يضر السوريين الذين يهاجرون إلى هذه البلاد لأي سبب كان أن يطلعوا على اختبار وطني محب جاوز الخمسين، وقد قضى منها فوق الثلاثين سنة في مصر، وضمن اختباره هذه الكلمات العشر: (1)
أنتم أحفاد الحثيين الذين عاصروا الفراعنة العظام وساووهم - وهم في أوج عزهم - بالكرامة والمجد، أنتم أحفاد الفينيقيين الذين كانوا أول من اخترع الاختراعات واكتشف الاكتشافات وساد البحار وبذر بذار التمدن في جميع الأقطار، أنتم أنصار إبراهيم وموسى والمسيح ومحمد الذين كانوا أول من نادى بوحدانية الله وهذب الأخلاق وشاد الأديان التي تسود العالم الآن.
فلا تستحيوا بأصلكم السوري ولا تحاولوا الانتساب إلى الأصول السائدة الآن، فإن ذلك - فضلا عن أنه غير مستطاع - فهو اعتراف منكم بضعة أصلكم، وهو من فضل الله غير وضيع، ولكن لا يمنعنكم ذلك من التشبه بالكرام والامتزاج بهم والتودد إليهم وتحدي طرقهم القويمة وعاداتهم الحميدة ومبادئهم الشريفة من أي جنس كانوا. (2)
ليكن ارتباطكم بوطنكم الأصلي حيا ما أمكن لتبديل الهواء وتجديد الدم بالزواج، فإن ذلك هو السبيل الوحيد لتخفيف وطأة الهواء في مصر عليكم وعلى أولادكم، واطلبوا الزواج الباكر فإنه فيه حفظا لصحتكم وإنماء لنسلكم، وأفسحوا للرياضة البدنية جانبا من وقتكم فإن العقل السليم في الجسم السليم. (3)
أنتم في مصر عنصر ضعيف، فاستعينوا على ضعفكم بقوات ثلاث: العلم الشريف والمال الحلال والخلق الحسن، واحذروا آفات ثلاثا: المسكر والمنكر والقمار. (4)
لا تحترفوا إلا الحرف الراقية النافعة الحرة كالطب والهندسة والأدب والمحاماة والزراعة والصناعة والتجارة، واطرقوا باب التجارة قبل كل باب، فإن السوري تاجر في طبعه، ولا تحسبن الاشتغال بالربا تجارة، بل لنبتعد عنه ما أمكن ولو حلله القانون، فإن الربا لا يشرف صاحبه ولا يرقيه ولو أغناه. (5)
إني مع اغتباطي بمركزي الحالي في الحكومة لا أنصح بالتهافت على الوظائف، فإن موظفي الحكومة من السوريين هم أقلهم حظا في النجاح، وربما كان مجموع ثروتهم في القطر كله لا يساوي ثروة تاجر أو مزارع واحد من تجارهم أو مزارعيهم الكبار. (6)
أتقنوا ما استطعتم من اللغات الأجنبية الراقية الغنية بالعلوم والآداب كالإنكليزية والفرنساوية، فإنها تنفعكم في معاملاتكم التجارية والاجتماعية والعلمية والسياسية، ولكن قبل كل شيء أتقنوا لغتكم العربية واحتفظوا بها كل الاحتفاظ للأسباب الآتية: (أ) لأنه عار على الإنسان أن يتقن لغة الغير ويهمل لغته، فإن ذلك يكون بمثابة اعتراف منه بانحطاط لغته، والحال ليس كذلك في لغتنا العربية؛ فإنها من أقدم لغات العالم وأرقاها وأغناها شعرا ونثرا. (ب) لأن جامعة اللغة هي أفضل جامعة للعناصر المتحدة في المصلحة والغاية. (ج) لأن اللغة العربية هي أجمل صلة بينكم وبين مواطنيكم المصريين الذين بحق يقدسون هذه اللغة. (د) لأن العربية هي لغة جنسكم العربي، ومن لا يرجع بنسبه إلى أصل عربي فلا بد له من التسليم بأن العربية هي لغته ولغة أجداده منذ الفتح العربي الأخير، أي منذ 1300 سنة على الأقل، وهي الصلة الوحيدة التي تربطه بآثار أجداده الأدبية وقرائح أفكارهم كل تلك الأجيال. (7)
إن أبناء الوطن الواحد أو العنصر الواحد كأبناء الأسرة الواحدة، متضامنون في الخير والشر، فإذا نبغ منهم فرد صالح أصلح سمعة المجموع كله، وإذا قام فرد طالح أساء إلى المجموع كله، وعليه فالفرد الصالح من مجموعنا النافع بماله أو علمه أو أدبه ينفع كل فرد منا بالتضامن، والفرد الطالح يضر كل فرد منا بالتضامن عينه.
لذلك كان أول واجب علينا كعنصر خاص أن نكرم نوابغنا ونجل أفاضلنا عرفانا للجميل، وأن نبذل الجهد في تقويم المعوج منا احتفاظا بكرامة مجموعنا، وكل عنصر قصر في هذا الواجب لن ينال احترام الغير «ومن لا يكرم نفسه لا يكرم.» (8)
إن لكل مجموع من الناس حاجات عامة لا بد منها لراحة المجموع وكرامته، كإنشاء المعابد والمدارس والمستشفيات ونحوها، وهذه الحاجات لا يمكن غير أهل الثروة واليسار القيام بها لما تتطلبه من النفقات الباهظة، ولأن العامة قلما تفوز بغير الكفاف في جهاد الحياة، فإذا قصر أصحاب الثروة منكم عن القيام بالواجب عليهم حفظا لكرامة المجموع كانوا جناة على المجموع، فإياكم أن توجهوا إليهم التكريم الذي اعتاده الناس لأهل الثروة في كل بلاد، بل أنبذوهم هم وما لهم نبذ النواة.
فمن يك ذا فضل ويبخل بفضله
على قومه يستغن عنه ويذمم
وفي كل حال فلنتحد كافة وعلى الخصوص جمعياتنا الخيرية الطائفية للقيام بحاجاتنا الضرورية، ولا سيما التي فيها حفظ كرامتنا بين سائر العناصر، كملاجئ العجزة والإحسان إلى المعوزين والفقراء، فإن الأفراد الضعيفة تكون مجموعا قويا، وتكون قوة المجموع وفائدته بقدر عدد أفراده وغيرتهم على كرامة المجموع. (9)
لا تدعوا الاختلافات المذهبية التي أورثتكم الشقاق والشقاء في بلادكم ترافقكم إلى دار هجرتكم فتكدر صفاءكم وتحرمكم لذة التمتع بالألفة الجنسية، وليكن عندكم في كل بلدة نزلتموها ناد تجتمعون إليه، ولتكن الأندية في جميع البلاد مرتبطة بناد عام في العاصمة، ثم ليكن لهذا النادي ارتباط بالأندية السورية في جميع أقطار العالم؛ ليكون لكم من ذلك جامعة معنوية تعوض عن وطنيتكم الأصلية التي فقدتموها. (10)
أطيعوا السلطان وقانون البلاد، وما دمتم على جنسيتكم فاعملوا لنفع الأمة التي أضافتكم، واحرصوا على كرامتها كل الحرص في كل قول تقولونه أو كل رأي ترتئونه أو كل عمل تباشرونه، ومتى تجنستم بالجنسية المصرية أصبحت مصلحة مصر مصلحتكم وعزها عزكم ورقيها رقيكم، ولا يطلب منكم لوطنكم الأصلي إذ ذاك إلا العطف عليه والتردد إليه صيفا كلما أمكن مراعاة لصحتكم وصحة نسلكم.
وإذا - لا سمح الله - اعترضت مصلحة سوريا مصلحة مصر وأنتم متجنسون بالجنسية المصرية؛ فالواجب والضمير يقضيان عليكم بتفضيل مصلحة مصر، ومن لم يكن هذا شأنه فليس له أن يتجنس بالجنسية المصرية، ثم من لم يكن من المهاجرين نافعا لمصر في أي عمل باشره، فليس له أن يقيم فيها بل «الطريق التي جاء منها فليرجع منها.»
هذا ولا بد أن تسن حكومة مصر قانونا خاصا للمهاجرة إلى مصر، وقانونا آخر للتجنس بجنسيتها، فلا تسمح بالدخول إلا لمن تراه صالحا لها، ولا تقبل في جنسيتها إلا من ترى الخير والمصلحة في تجنسه، ثم متى منحته الجنسية تمنحه معها كل الحقوق التي لأهل البلاد، كما أنها تفرض عليه كل الواجبات بلا فرق ولا تمييز في الدين أو الجنس، فإن إعطاء المستوطن الجديد قسطه من الحقوق المدنية هو في مصلحة مصر كما هو في مصلحة المستوطن، في حين أن حرمانه الحقوق المدنية كلها أو بعضها يفقد الأمة إخلاصه وغيرته ولا يكسبها شيئا.
ولقد عرف المصريون القدماء هذه الحقيقة فأعطوا المهاجر المستوطن جميع الحقوق المدنية بدون استثناء شيء منها كما قدمنا.
وهذه أميركا التي أصبحت الآن من أقوى أمم العالم وأرقاها - وقد تألفت من عناصر شتى - لا يقيم المهاجر فيها إلا سنين معدودة حتى يصبح فردا من أفراد الأمة الأميركية، له أن يتمتع بجميع حقوقها كما أن عليه جميع واجباتها، بل له أن يرشح نفسه لجميع مناصبها، ولابنه أن يرشح نفسه لرئاسة الجمهورية عينها مهما كان مذهبه أو جنسه، وذلك - أيها النبلاء الذين يهمهم مصلحة مصر - سر نجاح الأمة الأميركية وقوتها. •••
والآن فإني أود أن أختم كتابي هذا بأبيات ختمت بها مهمتي على حدود سيناء سنة 1906، وأنا لا أرمي إلى غرض سياسي البتة، بل هي أماني طبيعية هاجتها في عاطفة الشعر، فقد هاجرت إلى هذا القطر السعيد غير متجاوز العشرين، وأصبحت الآن وقد تجاوزت الخمسين، ولم ألق من هذا القطر وأهله الكرام إلا ما أذكره بالشكر والثناء، فأنا أحن إلى وطني الأول وأحب الخير كل الخير لوطني الثاني، فانقسم قلبي بحبهما شطرين، وقد وددت الخلاص من هذه القسمة فقلت:
هجرت الشام ومهد الصبا
وجئت الكنانة مهد العلى
شطرت فؤادي شطر النواة
فشطر لذاك وشطر لذا
فشطر يحن لتلك الربوع
وشطر لهذي الربوع فدى
هناك مراتع عهد الشباب
ولكن صفو الحياة هنا
فليت رجوم الحدود تزول
ويذهب ذاك «القرار» سدى
وليت الشآم تعانق مصر
عناق الإخاء إلى «المنتهى»
نعوم شقير
مصر القاهرة في 27 مارس سنة 1916
Página desconocida