وَأهل تِلْكَ الْجِهَة يضْربُونَ بِخَطِّهِ الْمثل وَكَانَ مَعَ هَذَا كُله مُتَوَلِّيًا الْقَضَاء بالشحر وَكَانَ من قُضَاة الْعدْل المشكورين وأئمة الْفضل الْمَشْهُورين وأشتهر ذكره وطار صيته وَضربت بِهِ الْأَمْثَال وَلم يكن يَأْخُذ لنَفسِهِ من مَعْلُوم الْقَضَاء شَيْئا بل كَانَ يخص بعض المحتاجين من الْفُقَهَاء والدرسة وَلم يزل فِي جَمِيع مُدَّة ولَايَته الْقَضَاء وَغَيرهَا مستمرًا على جَمِيع مَا ذَكرْنَاهُ عَنهُ من تَعْلِيم وَنسخ الْمَصَاحِف وَالسَّعْي فِي حوائج الْمُسلمين والشفاعات لَهُم إِلَى الْمُلُوك فَمن دونهم وَالْقِيَام بِالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَعدم المداهنة والمراعاة فِي الْأَحْكَام والأغلاظ للظلمة وَعدم الاحتفال بِأَهْل الدُّنْيَا وارباب الجاهات والمناصب والتقشف فِي الملبس حَتَّى أَنه كَانَ يعصر المداد بعمامته وَقد لَا يكون لَهُ إِلَّا ثوب وَاحِد يتزر بِبَعْضِه وَيجْعَل بعضه على عَاتِقه وَيَمْشي كَذَلِك فِي الْأَسْوَاق وَغَيرهَا غير مكترث بِأحد وَلَا مستحي من أحد
وَقَضيته مَعَ السُّلْطَان عبد الله بن جَعْفَر الكثيري صَاحب الشحر مَشْهُورَة وَذَلِكَ أَن السُّلْطَان الْمَذْكُور أشترى حصانًا من بعض النَّاس ثمَّ بعد ذَلِك أَرَادَ رده وأدعى فِيهِ عَيْبا وأمتنع من تَسْلِيم الثّمن للْبَائِع فاشتكى عَلَيْهِ إِلَى القَاضِي الْمَذْكُور فَكتب إِلَيْهِ أَن أحضر إِلَى الشَّرْع الشريف وَلم يراع السُّلْطَان وَلَا تساهل لأَجله وَلَا حاباه بِكَلِمَة وَاحِدَة وَللَّه دره وَلَقَد أبقى فخرًا وغنم أجرا وأمتطى ذرْوَة ورقى فَوق أوج الافلاك شعر ... هَيْهَات أَن يَأْتِي الزَّمَان بِمثلِهِ ... إِن الزَّمَان بِمثلِهِ لَا يسمح ...
وَكَانَت آيَة فِي الْعلم وَالْفِقْه وَيَكْفِي فِي ذَلِك أَنه أختلف هُوَ والفقيه الإِمَام مُحَمَّد ابْن عمر بحرق فِي مَسْأَلَة فِي الْفِقْه وَطَالَ النزاع بَينهمَا حَتَّى أشتهر بَين النَّاس فجَاء صَاحب التَّرْجَمَة إِلَى الْفَقِيه بحرق وَمَعَهُ كتاب الرَّوْضَة للنووي فاوقفه على الْمَسْأَلَة فَرجع إِلَى قَوْله ثمَّ ان الْفَقِيه بحرق صعد الْمِنْبَر وخطب وَقَالَ أَلا أَن الْمَسْأَلَة الَّتِي أختلفت فِيهَا أَنا وَالْقَاضِي ابْن عبسين وجدت الْحق فِيهَا مَعَه وَلَا يخفى مَا فِي هَذِه الْحِكَايَة من المنقبة الْعَظِيمَة لَهُ الَّتِي تشهد بغزارة علمه وَكَثْرَة اطِّلَاعه وفيهَا مَا يدل على تواضع الْفَقِيه بحرق وأنصافه من نَفسه وأعترافه بِالْحَقِّ ورجوعه إِلَيْهِ وَهَذَا عَزِيز
1 / 44