شكل 21-2:
دارا منصورا وأمامه أعداؤه في نقش بارز في بهستون التي هي الآن تخت سليمان.
ولم يكن الفوز في جهات فارس أبطأ منه في مادي، بل قد أسرع النصر إلى دارا، ولكن الحرب كانت كأنها تنطفئ نارها من جهة لتشتعل من جهة أخرى، فإن النجاح الوقتي الذي ناله بردية الكذاب الثاني أظهر في العالم كذابا ثانيا باسم بختنصر أيضا، وقد لاقى حتفه بعد بضعة أشهر من ظهوره؛ وبذلك تم لدارا إعادة افتتاح مادي وفارس، وإقليم بابل، ولم يكن في إخضاع الأقاليم الأخرى (هرقانية، ومرجيان، وبلخ) كبير عناء ولا تعب يذكر، حتى إذا انتهى عام 519 كان السلام ضاربا أطنابه، ناشرا لواءه في جميع أنحاء المملكة، وكان دارا جالسا على عرش الملك من غير منازع ولا ممانع، وبعد ذلك أمر بكتابة ما يدل على نصره على جدران بهستون (مدينة تخت سليمان)، ونقش فيها نقوشا بارزة، يراه الإنسان فيها قاهرا أعداءه وهم موثقون بالسلاسل والأغلال (شكل
21-2 ). (3) انقسام المملكة إلى مرزبات
4
وقد اعتبر دارا بما وقع له في هذه السنين الأولى، فإن كورش وكمبيز افتتحا المملكة وأخضعاها فأراد هو إصلاحها وتنظيم شئونها ولا ريب في أنه ساعد الأمم الخاضعة له على المحافظة على لسانها وأخلاقها وديانتها وشرائعها ونظاماتها الخاصة بها، وقد كان كورش سمح لليهود بالرجوع إلى أورشليم، فأذن لهم دارا بإتمام بناية الهيكل، وأقر الإغريق على حكوماتهم المتنوعة، وأبقى لفينيقية ملوكها وسفطاءها (وهم قضاتها الحاكمون في الخصومات الذين كانوا يعقدون مجلس الشيوخ ويتولون قيادة الجيوش في بعض الأحيان)
5
واستمرت مصر على حكومتها الأخاذية، ولكنه جعل فوق هذه السلطات المحلية سلطة عالية واحدة في جميع الأقطار، فقسم أراضي المملكة إلى حكومات كبيرة يختلف عددها بحسب اختلاف الزمان. فكانت في أول الأمر عبارة عن ثلاث وعشرين مرزبة، ولما مات دارا كانت قد بلغت إحدى وثلاثين.
ولم تكن إدارة كل واحدة منها في يد رجل واحد بل كان يقوم بالحكومة فيها ثلاثة كل منهم مستقل عن صاحبيه، وتابع للملك مباشرة؛ وهم المرزبان، وكاتب السر الملوكي، وقائد الجيش، فكان الملك يختار المرازبة من أية طبقة من طبقات الأمة بين الفقراء والأغنياء ومن الأغراب أو أهل فارس على حد سواء، ويقومون بوظائفهم ما شاء الملك أن يقوموا، ولهم الإدارة المدنية المطلقة من توزيع الضرائب وإقامة رسوم العدل وحق إعدام الحياة وإبقائها، وكان بجانبهم كاتب السر الملوكي يقوم في الظاهر بخدمة ديوان الإنشاء، ولكنه في الحقيقة عين من عيون الملك يراقب المرازبة وكل مساعيهم فيخبر بها من له الشأن في جميع أعمالهم، وكانت الجنود الفارسية والوطنية والمرتزقة في الأقاليم تحت إمرة قائد الجنود الذي يكون في أغلب الأحوال معاديا للمرزبان ولكاتب الأسرار، فكان هؤلاء الأخصام الثلاثة بعضهم على بعض رقيب؛ بحيث إن الفتنة كان يصعب وقوعها إن لم نقل باستحالتها. وكانت علاقاتهم متصلة على الدوام مع الملك بواسطة سعاة البريد الذين يسيرون بانتظام تام، فينقلون الرسائل من أقصى المملكة إلى أقصاها في بضعة أسابيع، وكان الملك يرسل في كل عام نوابا من طرفه إلى الأقاليم «يسمونهم عيونه وآذانه» لأنهم كانوا مكلفين بأن يروا ويسمعوا بالنيابة عنه ما يقع في الأصقاع القاصية من مملكته، فكانوا يجيئون في الوقت الذي لا يتوقع أحد مجيئهم فيه ويبحثون في أحوال البلاد ويعدلون بعض ما يرون لزوم إصلاحه في جزئيات الإدارة ويعنفون المرزبان أو يوقفونه عن وظيفته عند الاقتضاء، وكانوا يستصحبون معهم جماعة من الجند لتؤيد نصائحهم بالقوة وتعضد أحكامهم بالاقتدار. فكان التقرير السيء في حق المرزبان أو أقل مخالفة منه لأوامر النواب بل مجرد الشبهة في هذه المخالفة يكفي لسقوطه بل وهلاكه؛ لأن الملك كان يأمر بخلعه، وقد يحكم عليه بالموت من غير محاكمة، فيجيء نجاب بغتة ويسلم للحامية أمرا بقتل رئيسهم فيمتثلون الأمر بمجرد رؤية فرمان الملك. (4) مالية الدولة الفارسية
فلم يرق هذا الإصلاح في أعين أعيان الفرس، وانتقموا بالاستهزاء والاستخفاف بالطاعة التي ظن دارا إلزامهم بها، فكانوا يقولون «قد كان كورش والدا وكمبيز سيدا وأما دارا فليس إلا خمارا شرها للمكسب.» فإن تقسيم المملكة كان في الحقيقة عملية يقصد بها جمع المال كما يقصد بها انتظام السياسة، فإن أعظم واجب على المرزبان هو توزيع الضرائب وجبايتها وتوريدها خزينة الدولة، وأما فارس الحقيقية فقد أعفي أهلها من بعض الضرائب الشرعية وأما بقية العمالات فقد فرضت عليها الضريبة بحسب اتساعها وثروتها، وتدفع الضريبة نقدا وعينا؛ ولأجل تسهيل الدفع على كل إنسان أمر دارا بتداول نقود من الذهب والفضة سميت بالدارية، وقد استعملها على الخصوص في دفع أرزاق الجند، ولم ينتظم تداولها في الأقاليم التي على سواحل البحر الأبيض المتوسط. وأما في أواسط آسيا فاستمر الناس على استعمال الوزن في تقدير المعادن اللازمة للمعاملات التجارية وحاجات المعيشة اليومية.
Página desconocida