تمثال بلا رأس من جوديا محفوظ بمتحف اللوفر.
أما الأجسام فبعضها على هيئة الواقف، وبعضها على هيئة الجالس على دكة أو على كرسي، لا سناد له من جهة الظهر (شكل
14-3 )، والملبوس عبارة عن شال طويل يشتمل به صاحبه فيمر من تحت الذراع الأيمن إلى فوق الكتف الأيسر، ثم يرخى باتساع خفيف لحد كعب التمثال، وتثنيات القماش مبينة بالاختصار بكيفية متفق عليها، أما التماثيل العارية فهي مشكلة بثقل وجفاء، ولكنها تدهش الناظر إليها بما فيها من الصحة الحقيقية، والاهتمام بإظهار جميع التفصيلات، وقد فاز الصانع بإظهار كل ما في الجسد مع صلابة الحجر وصلادته، حتى إنه أظهر انحناء الأظافر، وتثنيات الجلد، على أن النسبة التي في الجسم البشري ليست على الدوام مرعية محفوظة في كل تمثال، فإن الأكتاف والخصور هي أعرض مما ينبغي بالنسبة لارتفاع الجذع، وطول السيقان، وفيما خلا هذا الفرق، فإن تماثيل لاجاش هي صور حقيقية صادقة، ترينا الأشخاص المقصودة كأنها هي بالتمام، وكلها تمثل لنا الملك جوديا، والملوك الذين من عائلته كل واحد بهيئته الشخصية، ولا ريب عندي في أن الاهتمام في كلديا بتمثيل الصورة الحقيقية هو مرتبط كما في مصر بأمور دينية، فكما أن التمثال المصري هو عماد تستند عليه الروح، وجسد يضع فيه المصور جزءا من قرين الشخص الممثل، فكذلك كان حال التمثال عند الكلدان، ولكي تكون هذه الصورة التي للقرين واقعة تحت المقاساة والمعاناة كان اللازم جعل الجسد الذي من حجر يحاكي الجسد البشري تمام المحاكاة؛ بحيث يكون كأنه هو إياه. (5) النقش الآشوري
ليس النقش الآشوري عبارة عن استمرار وتكميل للنقش الكلداني، فإن التماثيل الآشورية قليلة؛ لأن الرخام وحجر الكلس، وحجر الجبس الذي استعمله الآشوريون في تماثيلهم لم يقو على مقاومة الدهر مثل ديوريت الكلدانيين، وأشهر تماثيلهم هو تمثال آشور نازرهابال (شكل
14-4 )، وهو مصنوع صناعة علمية ثابتة، ورأسه واضح، ومنقوش نقشا محكما، يكاد ينطق أمام الرائي؛ بحيث لا نرى مثله في نقوش الكلدانيين، ولكنه لسوء الحظ قد تراكمت عليه غدائر الشعر المجعد في الرأس والذقن، أما الجسم فطويل متناسب تناسبا محكما، وفي ملامحه العظمة مع ما هو ملتف به من القباء والشال المخمل اللذين يتدثر بهما الجسد من الرقبة إلى القدم، ولا شك أن الصانع كان ذا مهارة وحذق؛ حتى توصل إلى اجتناب الدمامة وقبح المنظر مع مثل هذا الملبس، وأما النقوش البارزة فهي كثيرة بخلاف التماثيل، وهي مصنوعة بصناعة تشم منها رائحة الحرية والشمم، وقد تتصل بوسائط بسيطة، وعمل غير كامل إلى إحداث أعمال جليلة، ومنظورها مختصر جدا، وليس التناسب بين الأشياء مراعى فيها، أو بعبارة أولى وأخرى هي محسوبة مقدرة بحسب أهمية الأشياء الممثلة في الهيئة المراد تصويرها، فإن الرجال على الدوام بالغون في الطول مبلغ الأشجار، وترى المشاة يهجمون على قلاع وحصون أصغر منهم في القامة والارتفاع، ومع هذه العيوب فإن من نظر إلى النقوش البارزة الآشورية رأى فيها الحركة والحياة، فإنك ترى صورا تتضارب ويقتل بعضها بعضا، وترى فيها الصيد حقيقة، وأغلب الأحوال المصورة فيها مركبة تركيبا لطيفا؛ بحيث يتيسر لأحد الصناع في أيامنا هذه أن يمثلها مع إصلاح قليل على الكيفية المصطلح عليها في هذا الزمان، ويجعل منها رسوما حديثة عصرية، وفضلا عن ذلك فهي تمتاز بموافقتها للحقيقة حتى في الجزئيات التي لا طائل تحتها، وبكونها تمثل لنا الحياة الآشورية بالتفصيل، فهي آثار نفيسة للمؤرخ، كما أنها مصنوعات فنية ذات قيمة حقيقية.
شكل 14-4:
تمثال آشورنازرهابال بالمتحف البريطاني. (6) الفنون الصناعية
عندنا قليل من آثار الفنون الثانوية مثل صناعة الزجاج والنقش على الخشب والوشي والتدبيج والخزف، وكان الآشوريون ولا سيما الكلدانيون بارعين في تطريز منسوجاتهم بأشكال وصور مشابهة لما نراه الآن على حيطان قصورهم، ولكن الدهر قد ذهب بهذه النقوش التي كانوا يسمونها نقوشا «من شغل الإبرة» وكان اليونانيون والرومانيون يعجبون بها إعجابا كثيرا فائق الحد.
وقد بقيت لنا بقايا كثيرة من صناعتهم في المعادن، وكثير من هذه البقايا تشهد بجزيل مهارتهم، ومنتهى براعتهم، فإن سنجات موازينهم التي من البرونز وعلى هيئة أسد مصنوعة صناعة علمية وافية، وخصوصا الرأس فإنه مشابه للحقيقة تمام المشابهة (شكل
14-5 )، وتماثيل الآلهة والتمائم، والسنادات البرونزية التي تزدان بها الكراسي، والأسرة هي من أحاسن صناعة النقش الدقيق المتقن على المعادن، وكانت أبواب قصر شلمناصر في بالوات من الخشب مزخرفة بقطع من البرونز، ارتفاعها 26 سنتيمترا مشغولة بالمطارق، وممثلة لغزوات الملك، وأحسن قسم منها محفوظ اليوم في المتحف البريطاني، وفيها نفس الأغراض التي ترى على أحجار الكلس، أعني وقائع حربية، ومحاصرة بعض المدائن، ومطاردة العدو في بلاد ذات غابات وجبال، ثم عبور الأنهار. نعم، إن المقادير مصغرة جدا، ولكن الصناعة واحدة تدل على تمام المهارة في طرق المعادن.
Página desconocida