قد أقرت جميع الهياكل والأماكن المعدة للديانة في مصر بالآلهة التسعة المذكورة مع تعديل قليل؛ فإنهم حفظوا الآلهة الثمانية ولكنهم أبدلوا رع رأس الآلهة بالإله المحلي؛ مثال ذلك أنهم في منف وضعوا بدله بتاح، وفي طيبة استعاضوه بآمون، وفي الشلالات بخنوم، ولكن لم يؤدهم هذا إلى إسقاط اعتبار الشمس، وجحود ما كان لها من الشأن الأكبر في خلق الدنيا؛ بل إنهم جعلوا الآلهة التسعة الرئيسية متحدة بالشمس حالة فيها متمثلة بها، مهما كانت خاصيتها في أول الأمر، فصار بتاح وآمون وخنوم شموسا وصارت الشمس هي الإله المعتبر في جميع الأديان الأخاذية بالديار المصرية ، وبهذا لم يبق إلا شيء قليل للاعتراف والمناداة بأن الشمس هي الإله الوحيد، أو أنه ليس هناك إلا إله واحد هو الشمس، وأن جميع الآلهة الأخرى ليسوا إلا أسماء لها، ولكن المصريين لم يفعلوا ذلك، ولم يقولوا به؛ لأن كل فريق كان يؤثر البقاء على ما هو عليه وإعلاء شأن الإله الذي كان خاصا به، فلم يزل أهل كل كورة على القول والاعتقاد بامتياز إلههم عما جاوره من الآلهة الأخرى وعلوه عليها في مكانته واقتداره، ولم ينتشر بينهم الاعتقاد بوحدانية الإله انتشارا كثيرا على فرض أنه وجد عندهم.
بل قد اتفق في كثير من الأحوال أن تصاريف السياسة قضت بجعل السيادة والمتبوعية لبعض الآلهة على البعض الآخر؛ مثال ذلك أن طيبة لما وصلت من ابتداء العائلة الثانية عشرة إلى درجة عظيمة من الشوكة والاقتدار نهضت بمعبودها آمون؛ فرفعت مكانته وأحلته محل الإحلال والإكبار وأصبح آمون ملكا حقيقيا على جميع الآلهة طول ما بقي الزمان مقبلا على طيبة، ولم يكن له السلطان على الآلهة الأجنبية فقط؛ بل كان له الأمر والنهي أيضا على الآلهة الوطنية المحلية، ومع أن بتاح وحارويرس وخنوم كانوا في نظر المتعبدين لهم نظراء آمون وأقرانه، ولكنهم كانوا في الحقيقة أتباعا له كما كان أمراء الكور التي هم معبودون فيها، تابعين للفراعنة الحاكمين في طيبة، ولكن هذه السيادة زالت بزوال العائلة المتممة للعشرين، كما تلاشت شوكة طيبة وذهبت معزتها فرجع الآلهة الأخاذيون إلى ما كانوا عليه من الانفصال والاستقلال. ولم يتيسر بعد ذلك لإحدى المدائن أن تنال من العظمة والمجد ما يتيح لها إلزام بقية القطر بالخضوع لملوكها مدة مستطيلة من الزمان؛ بحيث يترتب عليها زوال حرية الآلهة وحياتهم كما حصل ذلك من الإله آمون؛ بل استمر الشرك وتعدد الآلهة ببلاد مصر إلى ما بعد ظهور المسيحية. ولم تنمح آثار الآلهة كلها وتتقوض دعائم الشرك بأسرها إلا ببزوغ أنوار الدين الإسلامي في القرن السابع من التاريخ المسيحي. (4) الكلام على أوسيرس وما ستلاقيه النفس البشرية في الدار الآخرة
ومع ذلك فقد فاز أحد الآلهة بجعل جميع المصريين يعترفون به بدون أن يغار منه الآلهة الآخرون، أو أن يقلل من سلطانهم؛ ألا وهو إله الأموات. وفي أول الأمر كان إله الأموات في كل ناحية هو إله الأحياء فيها، ولكنه ينتقل من الحياة إلى الوفاة. ففي الكور التي كان فيها إله الأحياء هو الشمس الحي (رع، وأنحوري، وحوروس) كان إله الأموات هو الشمس الميت، فلما نكب المقدس تيفون بالمقدس أوسيرس، وأعدمه الحياة صار أوسيرس هذا إله الأموات في كورته، ثم آل به الأمر شيئا فشيئا إلى أن صار إله الأموات في بلاد مصر كلها، والذي تناقلته الألسنة، وتبادلته الأفواه عن هذا الإله، أنه بعد أن قاتله قطعه إربا إربا، جاءت زوجته أيسيس، وجمعت أعضاءه، ثم حنطتها بمساعدة الإلهين توت وأنوبيس، وكانت هذه أول جثة حفظت بالتحنيط (المومياء الأولى) (شكل
6-2 )، وقد تلا عليها حورس صلوات، وعمل أعمالا ردتها إلى الحياة، ولكنها ليست بالحياة التي تمكنها من المعيشة فيما بين الناس، ثم أعطى أوسيرس في بطائح الدلتا أولا، وفي القسم الشمالي من السماء ثانيا أملاكا (هي غيطان الفول) يعيش فيها مثل المعيشة التي على وجه الأرض، ولكنها فوق كل خطر وضرر.
شكل 6-2:
مومياء أوسيرس بحسب تمثال صغير من البرونز في متحف الجيزة.
وكان الذين يتحنطون تحنط هذا الإله ويحتفل بهم كما احتفل به؛ يدعون خادمي حوروس، ثم يقبلون لمقاسمته في هذه السعادة وهذا النعيم بعد اختبارات متنوعة وامتحانات متعددة، وبعد الدينونة التي يزن فيها الإله توت قلوبهم بقسطاس الحق، ومن نظر إلى الأقوال التي يلقيها الأموات في وقت الدينونة رأى فيها أجمل خلاصة لتهذيب الأخلاق عند المصريين، فإن الميت يقول «إني لم أعذب الأرملة، ولم أكذب أمام القضاة، ولم أعرف الخيانة، ولم أدنس الأشياء المقدسة، ولم أسع في ضرر العبد عند مولاه، ولم أجع أحدا، وما أبكيت أحدا، ولم أقتل النفس قط، ولم أسرق ميرة الموتى ولا عصائبهم، ولم أغتصب اللبن من أفواه الرضعاء، فأنا طاهر، أنا طاهر، أنا طاهر.» وبعد هذا التنصل (الإقرار السلبي) يقبل الميت للتمتع بالنعيم في الفردوس، ثم يأخذ بالاشتغال في الفلاحة ويحصد فيها كثيرا من القمح الفائق العظيم.
وفي أثناء ذلك يذوق فيها أنواع اللذاذات ويتنعم بصنوف الصفاء؛ مثل الولائم والرقص والغناء ولعب الدامة، ويقرأ ما ينتعش به البال وينشرح له الفؤاد، ثم يتريض بالنزهة على الماء ويتناول الطعام تحت الأشجار الباسقة، ويستنشق النسيم العليل الذي يهب من الشمال، أو يركب في زورق الشمس ويطوف معها حول الأرض في الليل والنهار، ثم إن أوسيرس يفني آلهة الأموات كلها فتحل فيه.
وقد انتهى أمره بعد سقوط الدولة المصرية أن صار إلها دوليا معروفا عند جميع الأمم والملل، وانتشرت عبادته في جميع أنحاء المملكة الرومانية، وكان معبده في جزيرة بلاق (المعروفة عند الإفرنج باسم فيلة بالقرب من أسوان) آخر هيكل لاذت به الديانة الوثنية، وهي على وشك السقوط والزوال، ولم تقفل أبواب هذا الهيكل إلا على يد الإمبراطور يوستنيانوس في أواسط القرن السادس للميلاد.
خلاصة ما تقدم (1)
Página desconocida