ولم يقم بعده من حكى المكابيين في الحمية والإباءة، وأخذت الدولة التي أسسها سيمون تتوغل في الشرور وتضعف إلى أن انقرضت، ولقبت بالأسمونية أو الحشمنية تمييزا عمن سبقها من المكابيين الذين لم يسموا ملوكا.
وقام بعد هركانس ابنه أرستبولس، وهو أول من لبس التاج من دولته واتخذ كل ما يتعلق بالملك بخلاف من سلفه، فكان رئيس الكهنة أيضا وهو الملك الأول من العائلة الحشمونية بعد مرور 460 سنة وثلاثة شهور بعد رجوع اليهود من سبي بابل، وروي في بعض التواريخ أن أول ما فعله بعد ملكه أنه اعتقل أمه وإخوته سوى أنتغنس فإنه أحبه وأكرمه، لكن الناس سعوا به إلى الملك واتهموه بأنه يريد الملك فحقد عليه أرستبولس ووضع له كمينا بقرب باب قصره وأمر بقتله إن أتى متسلحا، لكنه بعث إليه يخبره بما أمر، إذ لم يرد موته لحبه له، أما زوجته فقيل: إنها أغوت الرسول أن يخبر بخلاف ذلك لأنها حقدت على أنتغنس فوقع بالكمين وهلك، وكان الملك مريضا وداؤه شديدا فلما علم بموت أخيه ندم واضطرب لما أتاه من الظلم، فانفجر أحد عروقه وسال دمه من فيه وحمل أحد غلمانه الدم في طاس إلى خارج، واتفق أنه عند وصوله إلى حيث سفك دم أنتغنس زلت قدمه فوقع الطاس من يده فسال دم الملك وامتزج بدم أخيه فصاح الغلام وبلغ خبره الملك فاستولى عليه الروع الشديد، فهلك بعذاب لا يوصف سنة 105ق.م.
وخلفه أخوه إسكندر ينيوس، ولما انتظم له الأمر أراد افتتاح غزة وصور وبطلمايس وهاجم بطلمايس أولا فاستنجدت بطليموس لاثرس ملك قبرس، فأجاب الطلب وأتى بجيش عظيم، وكانت الكرة على إسكندر وقتل من اليهود نحو 30000 فاستصرخ كليوباترا ملكة مصر ، فسارت إلى اليهودية لمعونته، إذ توقعت الشر من لاثرس إذا ظفر، ولما أتت أنقذت إسكندر من الهلاك، غير أنها أرادت أن يخضع لها فاستدعته لمحلها بغية القبض عليه والاستيلاء على مملكته، لكنه منعها من ذلك بعض اليهود من قوادها، وكان ذلك سنة 101ق.م فنجا إسكندر وتمكن من التسلط على اليهودية وعلى بعض المدن التي لم تكن خاضعة له قبلا ومنها غزة افتتحها غيلة وأحرقها وقتل كثيرين، وأبدى في سياسته من الظلم ما حمل الناس على بغضه، ولا سيما الفريسيون الذين وقع الخلاف بينهم وبين أبيه كما مر، وحدث أنهم رموه في عيد المظال بالترنج وعيروه أنه ابن فاجرة ولا تليق له وظيفة الكاهن العظيم فحمي غضبه وقتل 6000 منهم، ولم يركن إلى شعبه، بل استأجر عسكرا أجنبيا يحميه، وشن الغارة على العرب سنة 94ق.م فغلب أولا، لكنه انهزم أخيرا، ولما رآه الناس على هذا الحال خانوه، وبقيت الخيانة ست سنين فقتل إسكندر نحو خمسين ألفا من اليهود فلاذ بعضهم بديمتريوس ملك سورية، فقدم إلى شكيم فخرج إسكندر لمحاربته وانكسر وهلك أكثر مستأجريه وتقهقر اليهود وهرب إسكندر إلى الجبال، وكان مشرفا على الهلاك، لكن اليهود الذين خانوه ولاذوا بديمتريوس، لم يريدوا أنه يستولي على اليهودية فخذلوه فرجع اضطرارا إلى الشام، وكان ذلك سنة 89ق.م، ثم عاد إسكندر وقتل عددا عظيما من العصاة وأخذ البعض أسرى إلى أورشليم، ولما كان يسر مع سراريه في وليمة التذكار لنصراته دعا 800 رجل منهم وصلبهم على مرأى من الجميع وأمر بذبح نسائهم وأولادهم أمام أعينهم فهجر لهذا الجور الوطن نحو ثمانية آلاف، لكنه أمن الخيانة بعد ذلك وسار لمحاربة بعض القبائل شرقي الأردن ، فمات في أثناء محاصرته حصنا هنالك سنة 78ق.م.
ولما أيقن حلول الأجل استدعى إسكندرة امرأته وأوصاها أن تستولي على الملك بعده وتصالح الفريسيين وتلاطفهم إذ تحقق أن لا سلام ولا راحة لمن لا يسالمهم، فسلكت إسكندرة، كما أشار عليها وسلمت نفسها لمشورتهم، فأقاموا لإسكندر جنازة فاخرة وعضدوا يدي إسكندرة.
وكان لإسكندر ابنان هركانس وأرستبولس حصل بينهما خصام شديد على وظيفة رئاسة الكهنوت العظمى، ثم تصالحا في بيت المقدس أمام الكهنة فصار الأول وهو البكر رئيس الكهنة، وصار الثاني قائد الجيوش، أما الفريسيون فلما غلظ أمرهم أخذوا ينتقمون من الصدوقيين الذين ضايقوهم أيام الملك السابق فقتلوا من شاءوا منهم بإذن الملكة، وكان هركانس من حزبهم، وأما أرستبولس فعكف على الصدوقيين، وطلب إلى أمه أن تحميهم من جور الفريسيين، فسلمت إليهم أكثر الحصون في البلاد فامتنعوا فيها، وكان عاقبة ذلك أنهم اختلفوا بعد موتها، إلا أنها استراحت في أيامها لفطنتها في معاملة الحزبين، ولما رأى أرستبولس أمه قد قربت من الوفاة عزم على اختلاس الملك عند موتها دون أخيه الأكبر فخرج من أورشليم ليلا، وانطلق إلى الحصون حيث كان أصحابه وأظهر قصده فاجتمعوا إليه جميعا، وماتت أمه سنة 69ق.م، وهو مستول على أكثر الحصون.
وملك هركانس من بعد أمه وخرج لمحاربة أرستبولس فانهزم ولجأ إلى أورشليم وأتى أخوه وحاصره فيها، ولما كان هركانس غير راض بالحرب عرض على أخيه المسالمة على شرط أن يكون الحبر الأعظم وأرستبولس ملكا، فأجابه أرستبولس إلى ذلك وصار ملكا سنة 69ق.م.
ثم ظهر إنسان أدومي اسمه أنتيباتر، وكان قد هاد في عهد إسكندر فولاه على أدومية، وكان غنيا ورغب في الارتقاء والرئاسة، فلما رأى ما في هركانس من اللطف والبساطة ملقه وذم له بأخيه، وقال: إنه قد ظلمه بأن حرمه الملك بغير حق، وما أتى تلك الفتنة إلا ليهيج هركانس على أخيه فيحاربه فيفوز هو بأن يكون وزيره، فلم يبال هركانس بما قال فأخذ يقنعه بأن أخاه يريد قتله، وأشار عليه أن يلجأ إلى الحارث ملك العرب فيخفره؛ لأنه كان صديقا لأنتيباتر ففعل هركانس ذلك خوفا، فرحب به الحارث وحمله أنتيباتر على أن يحارب أرستبولس، فسار الحارث في خمسين ألف مقاتل إلى اليهودية وغلب أرستبولس وحاصر أورشليم، وبذل قوم هركانس جهدهم في افتتاحها وأتوا بشيخ مشهود له بالتقوى يسمى مونير اعتقدوا أنه مستجاب الدعاء وسألوه أن يطلب إلى الله أن ينصرهم على أرستبولس ويفتح المدينة، فأبى الشيخ أن يدعو على إخوته بالشر، ولما ألحوا عليه قال: يا الله، ملك الكون أطلب إليك أنك لا تستجيب لدعاء الفريق الواحد على الآخر، فصاحوا به وقتلوه، فأدركهم العقاب سريعا، فإنه أتى سورية حينئذ إسكارس نائب بمبيوس عظيم رومية؛ ليستولي عليها، فبعث الفريقان الوفود إليه يستنجدانه، ولما رأى أسكارس أن أرستبولس كان صاحب أورشليم وأقدر على الرشوة سمع له وأمر هركانس وقومه أن يفرجوا عنه فأطاعوا، ولما ارتد الحارث مع جيشه حشد أرستبولس جنودا وتبعه وضربه ضربة شديدة فانتقم منه كما أراد، وكان ذلك سنة 64ق.م.
ثم قدم بمبيوس وأقام في دمشق فوفد عليه أرستبولس وهركانس وقدما له الإكرام والهدايا النفيسة، وكان من جملة ما أهداه أرستبولس جفنة من ذهب عجيبة الصنعة قيمتها 500 وزنة، ورفع كل منهما دعواه إليه بالملك، فلم يسمح لأحد منهما في أول الأمر، بل أمرهما أن يخضعا له إلى أن يفرغ من محاربة العرب وشرع في ذلك سنة 63ق.م.
أما أرستبولس فظن أن بمبيوس يميل إلى حزب أخيه فخرج عليه واستعد لمقاومته، فحول بمبيوس عن المسير إلى العرب ودخل اليهودية وأكره أرستبولس على تسليم جميع حصونه فهرب حينئذ إلى أورشليم، واعتصم فيها، لكنه لما قدم بمبيوس خرج إليه وسلمه المدينة، أما الكهنة فلاذوا بالهيكل الذي كان غاية في الحصانة وامتنعوا فيه، فالتزم بمبيوس أن يقيم عليه الأدوات المنجنيقية، وطال الحصار؛ لأن الكهنة دافعوا عنه بشدة وعنف، لكنهم كانوا يقعدون عن ذلك في السبوت، فانتهز الرومانيون الفرصة ليقربوا إلى الأسوار ويضربوها فبقي الحصار نحو ثلاثة أشهر، وكان الكهنة في أثناء ذلك يقومون بالفروض الدينية غير مكترثين لما يجري حولهم من القتل والويل، ولما كانوا يفرون من تلك الواجبات كانوا يخرجون للقتال ويبدون من البأس ما يحير الأعداء، ولما تمكنت المجانيق من ثقب الأسوار دخل الرومانيون إلى الهيكل وأعملوا السيف بلا شفقة، فقتلوا أصحابه وهم يخدمون المذبح، ودخل بمبيوس إلى قدس الأقداس فأخذه العجب والحيرة، إذ لم ير فيه شيئا؛ لأنه كان يظن أنه لا بد من تمثال لإله اليهود كما لسائر الأمم، فلم يعلم أن اليهود يعتقدون أن الله لا يرى ولا يمثل وأعجبته الذخائر الفاخرة التي وجدها في الهيكل، لكنه احترمها ولم يسلبها، وكان ذلك سنة 63ق.م، قيل: إن كل السبب في تقهقر اليهود وانحطاطهم الخصام الذي كان بين هركانس وأخيه أرستبولس وعدم اتحادهم، فتمكن لذلك أعداؤهم منهم.
فخضعت أورشليم واليهود لرومية، وأقام بمبيوس هركانس حبرا ورئيسا سياسيا على أنه يطيع رومية، غير أنه فصل عن حكمه كل ما استولى عليه المكابيون خارج اليهودية، وأقام إسكارس حاكما عاما على كل سورية من الفرات إلى تخوم مصر، ثم توجه بمبيوس إلى رومية وأخذ معه أرستبولس وأولاده وهم إسكندر وأنتغنوس وابنتان، أما إسكندر فنجا ورجع إلى اليهودية وحشد جيشا سنة 57ق.م، واستولى على بعض الحصون وأخذ يغزو البلاد فأتى القائد غابينيوس من قبل الرومانيين فلم يلبث أن قهره وألزمه أن يمتنع في حصونه، ولما ضاق به الأمر طلب إليه الأمان ووعده بتسليم جميع حصونه، فأمنه غابينيوس من أجل أمه التي كانت أمينة للرومانيين وثبت هركانس في رئاسته، إلا أنه غير نظام السياسة بأن ألغى المجمع العام وقسم البلاد إلى خمسة أقسام وأقام في كل قسم منها مجمعا تدبر أموره تحت نظر الرومانيين فبطل حكم الملوك، ولكن أمور البلاد لم تسكن لأن أرستبولس نجا من رومية ومعه أنتغنوس وصار يرمم الحصون ويجمع العساكر، واجتمع إليه أناس فقابلهم الرومانيون فانهزم أرستبولس وأنتغنوس ووقع في يد غابينيوس فأرسلهما إلى رومية واعتقل أرستبولس هناك، أما أولاده فأفرج عنهم لتوسلات أمهم التي سر بها غابينيوس كثيرا، ولما ذهب هذا القائد إلى مصر انتهز إسكندر المذكور الفرصة، وجمع ما تيسر له من العسكر وطفق يقتل الرومانيين حيثما التقى بهم إذ كانوا قليلين في البلاد، وحاصر من نجا في حصنهم على جبل جرزيم، فلما بلغ الخبر غابينيوس رجع وضرب إسكندر وقومه وقتل عشرة آلاف منهم، وبدد شملهم، فقهر إسكندر وفر لا يأمل النجاة، وكان ذلك سنة 56ق.م.
Página desconocida