أبو نصر محمد بن محمد بن نصر الفارابي فيلسوف المسلمين بالحقيقة أخذ صناعة المنطق عن يوحنا بن جيلاني المتوفي بمدينة السلام في أيام المقتدر، فبذ جميع أهل الإسلام فيها، وأتى عليهم في التحقق بها، فشرح غامضها، وكشف سرها وقرب تناولها، وجمع ما يحتاج إليه منها في كتب صحيحة العبارة، لطيفة الإشارة، منبهة على ما أغفله الكندي وغيره من صناعة التحليل، وأنحاء التعليم وأوضح القول فيها عن مواد المنطق الخمس، وأفاد وجود الانتفاع بها، وعرف طرق استعمالها، وكيف تصرف صورة القياس في كل مادة منها، فجاءت كتبه في ذلك الغاية الكافية، والنهاية الفاضلة. ثم له بعد هذا كتاب شريف في إحصاء العلوم
1
والتعريف بأغراضها لم يسبق إليه، ولا ذهب أحد مذهبه فيه، ولا يستغني طلاب العلوم كلها عن الاهتداء به وتقديم النظر فيه. وله كتاب في أغراض فلسفة أفلاطون وأرسطاطاليس
2
يشهد له بالبراعة في صناعة الفلسفة، والتحقق بفنون الحكمة، وهو أكبر عون على تعلم طريق النظر، وتعرف وجه الطلب. اطلع فيه على أسرار العلوم وثمارها علما علما، وبين كيفية التدرج من بعضها إلى بعض شيئا شيئا (إلى أن يقول): ثم له بعد هذا في العلم الإلهي والعلم المدني كتابان لا نظير لهما، أحدهما المعروف ب«السياسة المدنية» والآخر المعروف ب«السيرة الفاضلة»
3
عرف فيهما بجمل عظيمة من العلم الإلهي على مذهب أرسطالطاليس في مبادئ السنة الروحية، وكيف تؤخذ عنها الجواهر الجسمانية على ما هي عليه من النظام واتصال الحكمة، وعرف فيها بمراتب الإنسان وقواه النفسانية، وفرق بين الوحى والفلسفة، ووصف أصناف المدن الفاضلة وغير الفاضلة واحتياج المدنية إلى السير الملوكية، والنواميس النبوية. انتهى. ولكن ليس من هؤلاء واحد لا أفلاطون ولا أرسطو ولا الفارابي يعد واضعا لعلم فلسفة التاريخ الذي هو حق ولي الدين أبى زيد عبد الرحمن بن خلدون مفخرة المغرب بل مفخرة الإسلام كله.
ولقد كان لمحرر هذه السطور من أول ما بلغت سن الحلم ولوع خاص بمقدمة هذا العبقرى العظيم، إلى أني كنت أطالعها المرة بعد المرة، وفى كل مرة أجد لها طلاوة لا تمثل، وأكشف فيها أسرارا جديدة لم تكن انكشفت لى في الأول، وأشرف منها على آراء طريفة، ومباحث لطيفة، كنت أحاول عبثا العثور عليها في غير هذه المقدمة التي لا تخلق ديباجتها ولا تذهب بهجتها. وكأني استبرأت بطول الزمن الكتب العربية المعروفة فكنت أرجع في النهاية إلى مقدمة ابن خلدون، ولا أجد أمنيتي إلا فيها، ولا أزال أستوري زنادا لا يلمع إلا من خلال ذلك الخاطر، وأستسقي غيثا لا يمطره غير ذلك العارض، ولم يكن إعجابي بما في كلام ابن خلدون من مبادئ سامية، وأقوال سديدة، وأنظار فريدة، يعز وجودها في كتب غيره من أساطين الحكمة، بأقل من إعجابي ببلاغة عبارته، ورصانة أسلوبه، وجلالة تقريره، حتى كأنه يخطب من فوق منبر، ويصول في المواضيع صولة غضنفر، فينزل بيانه من نفوس الأدباء -
الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه - المنزلة التي لا تعلوها منازل الأقمار، في أعين السمار، فلو قرأ المتأدب مقدمة ابن خلدون متوخيا فيها مجرد الانطباع على أسلوبها في الإنشاء العربي دون أن ينظر إلى ما فيها من فلسفة عالية، وتحقيقات سنية، وعلوم جمة ملخصة، وحقائق ناصعة من أوضاع الوجود مستخلصة، لكانت مقدمة ابن خلدون تكفيه عمدة في فن الأدب، وتغنيه عن غيرها من نفائس ما كتب العرب ، ولعل عشقي أسلوب هذا الإمام في كتابة التاريخ، وغرامي بطريقته في تعليل النوازل، وتقرير طبائع العمران، قد ترك أثرا في ملكتي بلغ من العمق أنه قلما كان يفارقني في طرق التعبير عن أفكاري والإفضاء بجلاجل نفسي، وخوانس صدري، إلى أن إماما مثل السيد رشيد رضا رحمه الله حكم في المنار منذ خمس عشرة سنة بأن أسلوب كاتب هذه الأسطر كثير الشبه بأسلوب ابن خلدون. أقول هذا وإن كان المتشبه لا ينبغي أن يعطي جميع حكم المشبه به، وكان مثلنا لا يجهل مكانه من ذلك المدى المتطاول. ولقد أولعت بهذه المقدمة شابا وكهلا وشيخا، وبقيت أنظر إليها نظرة المشتاق لا تخمد السنون من جذوة غرامي بمحاسنها، ولكني لم أكن مطالعا من التاريخ الكبير إلا لمحات يسيره، وربما طالعت من كامل ابن الاثير أكثر مما طالعت من تاريخ ابن خلدون بكثير، فما زال يحز في صدري أن أقرأ هذا التاريخ قراءة مدقق وأعقد آخره بأوله مستوثق، وعدواء الأشغال تعدو عن هذه الأمنية، وتحول بيني وبين هذا الغرض الملح، والوجد المبرح، إلى أن جاءني في السنة الماضية من فاس المحروسة حاضرة المغرب أن الكتبي النبيه الساعي في نشر العلم بما أوتي من جودة الفهم «الحاج محمد المهدي الحبابي» أخذ الله بيده، عزم أن يطبع تاريخ ابن خلدون طبعة جديدة رائقة مستوفية شروط التنقيح مطرزة بالحواشي القيمة اللائقة بمثل ذلك التاريخ العظيم، مستجيدا لهذا الغرض من أدباء شباب المغرب فرقدين يقصر الشيوخ القرح عن مداهما البعيد، وتكاد فحول العلماء لا تحشر معهما في صعيد، أعني كلا من المحققين الكاملين، والجهبذين الحافلين، السيدين محمد علال الفاسي الفهري، وعبد العزيز بن إدريس، زين الله بمثلهما مواسم الأدب وأمطر بغيث أقلامها مربع العربية إذا جدب، فتلقيت من هذا الخبر بشرى أثلجت الصدر، وصرت أترقب طلوع هذا الفجر بذاهب البصر، وبين أنا كذلك إذا بصاحب هذه الفكرة هو نفسه يريدني أن أعلق أنا أيضا على هذا التاريخ حواشي بما يعن لي من آراء وأنحاء متصلة بمواضيعه أخالف فيها المؤلف أو أوافقه. وأفارقه في وجهة النظر أو أرافقه، وأبدي من النظريات العصرية في علم الاجتماع ما تتم به فوائد هذا الكتاب وتتجلى حقائقه.
وقد صادف مجيء هذا الاقتراح أنء كنت من «الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية» في شغل شاغل عما سواها أكاد أنوء بها وحدها فضلا عن أن أتعداها، فاعتذرت عن خوض هذا البحر العجاج وقلت: من ذا الذي يجري مع ابن خلدون إذا أقر أنمله على مهرق، وقد خاب من يساجل البحر الخضم، ومن يزحم البحر يغرق. فما زال بي إبرام الإخوان وإصرارهم، وإيرادهم في هذه الحاجة وإصدارهم حتى رضيت برغم ما أنا عليه من كثرة الشواغل أن أعلق بعض الحواشي على بعض المظان، مجتزئا من البحث بالمختصر المفيد، ومكتفيا من القلادة بما أحاط بالجيد، ولما كان قد ورد في متن المؤلف ذكر الأمم الكبار، ومن جملتها أمة الترك علقت تحت هذه اللفظة خلاصة صافية في نسب هذه الأمة وأولوياتها ومصايرها، ثم لما كان لا بد في هذا النسب من الانتهاء إلى تاريخ بني عثمان الذين تحملوا أعباء الخلافة الإسلامية ردحا من الدهر، دخلت في هذا البحث وأنا على نية إجماله ما استطعت إلى الإجمال سبيلا، فإذا بي مهما سلكت الطرق القاصدة لا أقدر أن أتخلص من هذا التاريخ إلا في مجلد كبير، وكيف لا يكون ذلك وهناك دولة طويلة عريضة كانت من أعظم دول الأرض، وشجت عروقها، وامتدت شماريخها، من حدود المغرب الأقصى غربا إلى بحر الخزر شرقا، ومن أواسط أفريقيا جنوبا، إلى ألمانيا وبولونيا شمالا، فكانت أيامها ملأى بالحوادث الكبار، شاغلة ما بين دفتي الليل والنهار، فمضيت فيه متوكلا على الله من أول تأسيس هذه الدولة إلى بداية الحرب العالمية متوخيا في الوصف الحد المتوسط، متجانفا عن خطتي المفرط والمفرط، ولا أظن كتابا قد وضع في العربية عن الدولة العثمانية على غرار هذا الكتاب، لاسيما في العصر الحاضر. فأما القسم المتعلق من تاريخ هذه الدولة بالحرب الكبرى فقد أرجأته إلى فرصة أخرى، ربما أكون عرفت ما يجب أن أملكه في هذا الموضوع من المواد، وأسلكه من الجواد، والله أسأل العون والتيسير، إنه تعالى من وراء السداد.
Página desconocida