ويظهر أنه كلما كان الجو يميل إلى الاعتدال، والجليد يتقلص، كان الإنسان يكتمل وتعلو طبقة عقلة، ويزداد التناسب في أعضائه . وبالاختصار لم يكن اختلاف السلائل عند العلماء العصريين، والتباينات التي أوجدت الشكل القوقاسي، والشكل المغولي، والشكل الزنجي، والشكل الأمريكي القديم؛ إلا نتيجة العوامل الجوية باختلافها وتحولها من طور إلى آخر، وما يستتبع تحولاتها من تغير النبات والحيوان، فالهواء والغذاء هما اللذان كانا الأصل في هذه التباينات بين البشر حتى تكونت هذه السلائل المختلفة. وهذا قد أجمع عليه علماء الوقت الحاضر، وإن كانوا لا يزالون غير متفقين في نسبة الشعوب إلى سلالة السلالة، وذلك لفقد الوثائق التاريخية، وقلة الآثار التي في الأيدي، فأكثر ما عندهم من التعليلات لإثبات أن هذا هو من هذه السلالة، وأن ذاك من تلك السلالة؛ إنما هو افتراض، وأحيانا تخرص، والجزم غير ممكن. وأكثر العلماء يقولون إن تحقيق هذا الباب متعذر، ولكن مأمول ازدياد المعلومات بالعثور على الآثار البشرية القديمة، لا سيما في آسيا وأفريقيا وأمريكا. وقد قيل بناء على الآثار البشرية القديمة التي وجدت في أمريكا: بأن الإنسان قبل أن يكتمل ويصل إلى درجة الإنسانية الحاضرة لم يوجد في القارة الأمريكية؛ فما قطع الإنسان بوغاز بيرين بين آسيا وأمريكا، وأخذ ينتجع أمريكا حتى وصل إلى القسم الجنوبي منها إلا بعد أن كان قد صار إنسانا كاملا، فالعالم القديم وحده، أي أوروبا وآسيا وأفريقيا، هو العالم الذي وجدت فيه السلائل المتوسطة بين الحيوانية والإنسانية، ومرجع هذه الفروق والتباينات بين أصناف السلائل هو اختلاف البيئة، فكل بيئة أثرت في سكانها تأثيرا خاصا، وطبعته بطابعها. وقد يقع الاختلاط بين السلائل المختلفة بسهولة، حيث لا توجد الموانع الطبيعية، وهذه الموانع هي من قبيل الاوتيانوس الأطلانطيكي، ومنها في آسيا الوسطى جبال عالية منعت اتصال الأمم بعضها ببعض، وقالوا إنهم وجدوا في جزيرة «تسمانيا» “Tosmanie”
بقرب أستراليا شعبا صغيرا بقي عائشا من خمسة عشر إلى خمسة وعشرين ألف سنة في الحالة التي كان فيها في أواخر الدور الحجري! ولما كشف الهولنديون سنة 1642 هذه الجزيرة وجدوهم لعدم اختلاطهم بغيرهم على ما كانوا عليه منذ آلاف السنين، وقالوا: التاسماني الأخير مات سنة 1877، وبه انقرضت هذه السلالة .
وقد لوحظ أن سكان شرقي آسيا، وسكان أمريكا في القديم، يغلب عليهم اللون الأصفر، والشعر الأجعد، كما أن سكان أفريقيا جنوبي الصحراء الكبرى يغلب عليهم اللون الأسود، والأنف المفرطح، والشعر المفلفل، والشفاه الضخمة. كما أن سكان شمالي أوروبا وغربيها شقر الألوان، وزرق العيون، مع الشعر السبط، والجلد البض، وعلى شواطئ البحر المتوسط نجد الشعوب بيض الألوان لكن مع سواد العيون والشعور، وفي جنوبي الهند نجد الشعوب غالبة عليها سمرة اللون، وجعودة الشعر. ولكن كلما ذهب الإنسان شرقا مالت الألوان إلى الاصفرار. ولا يجب أن تخلو هذه القواعد من استثناءات، ففي أفريقيا مثلا أقوام ملامحهم آسيوية، وفى بلاد اليابان جنس يقال له الأينوس “Oinos”
هم أشبه بالأوروبيين منهم باليابانيين وقد وجدوا قوما أشبه بالزنوج في جزر أندمان “Andamans”
في خليج البنغالة من الهند، كما أنه في بعض أقسام الهند يوجد أناس يغلب عليهم السواد الزنجي وليس من المحقق كون هؤلاء الهنود من أصل واحد مع سودان أفريقيا، فإن تأثير البيئة واستمرار هذا التأثير ألوفا من السنين هما اللذان أوجدا الفروق التي ميزت السلالة البيضاء عن الصفراء، وعن الحمراء، وعن السوداء، بحيث إنه في أواخر الدور الحجري في أوروبا - أي منذ اثني عشر ألف سنة - كانت السلائل البشرية قد تميزت بعضها عن بعضها.
قال الفيلسوف المعاصر «ولز» الإنجليزي “H. G. Wells”
إن العلماء كانوا لا يزالون يقسمون البشر إلى ثلاث أو أربع سلائل منفصلة بعضها عن بعض منذ القدم وهي سلالة سام، وحام، ويافث، اعتمادا على قصة نوح، الواردة في الكتب المقدسة ولم يبدءوا بإخراج البشرية من هذا التقسيم، وبالاعتماد على نظرية أخرى معناها أن البشرية كلها كتلة واحدة تباين بعضها عن بعض بالتأثيرات الجوية، والعوامل الأرضية والقوى المختلفة، إلا منذ خمسين أو ستين سنة. ولكن العلماء لا يزالون مختلفين في بعض الشعوب هل هي عائدة إلى هذه السلالة، أو تلك السلالة؟ لأن الجزم بذلك غير ممكن، فالسلائل المشهورة هي أربع، وكل منها مختلط بالآخر؛ فأوروبا وشطوط البحر المتوسط وآسيا الغربية تسكنها منذ آلاف من السنين أمم يقال لها السلالة القوقازية، وهي ثلاثة أقسام؛ الجنس الأشقر الشمالي، وقد زعموا أنه جنس متوسط بين سلالتين، والجنس الآري الذي في وسط أوروبا، والجنس الأيبيري أو الساكن على شواطئ البحر المتوسط. ثم تأتى السلالة الصفراء وهى في شرق آسيا، وفى أمريكا، ويقال لها السلالة المغولية. وفى أفريقيا السلالة السوداء، ومنها في أستراليا وفى غينيا الجديدة، ثم إن السلالة الأيبيرية المشتقة من السلالة البيضاء كانت في الماضي تسكن أقطارا أوسع مما تسكن الآن، فلذلك لا تعلم في الحقيقة التخوم التي تفصلها عن السلالة السوداء، ولا الفواصل التي تفصلها عن شعوب شرق آسيا. وقد ذهب «فيلفريد سكافن» إلى أن «هوكسلى
Huxley » وهو عالم طبيعي إنجليزي ممن يقول بالنظرية الداروينية - كان يقول: إنه يوجد بين المصريين وبين الدارفيديين - شعب أورال النائي جاء إلى الهند واستقر في جنوبيها - وحدة في الأصل، وأن هناك نطاقا بشريا مستطيلا من ذوي اللون الأسمر كان يمتد في القدم من الهند إلى إسبانيا.
قال ولز: ويجوز أن هذا النطاق يكون قد امتد حتى شطوط الاوقيانوس الباسيفيكي. وربما كانت الشعوب الشمالية الشقراء، والمغولية الصفراء، فرعين من أصل واحد.
وهذه الشعوب الشمالية انفصل بعضها عن بعض، فتباعد ما بينهما باختلاف البيئة، ويظهر أنه جاء وقت على التاريخ البشري انتشرت فيه ثقافة أولية حجرية ذات خصائص مميزة لها، وكان انتشارها على شواطئ البحر المتوسط بين الشعوب المائلة إلى السمرة، ثم امتدت إلى الهند وإلى شواطئ الصين، ثم إلى المكسيك والبيرو، ولذلك تجدها دائما على الشواطئ البحرية غير متغولة في الداخل.
Página desconocida