175

Historia de Ibn Jaldún

تاريخ ابن خلدون

Géneros

ولم أشاهد محمود مختار بنفسه، ولكن شاهدت والده الغازي مختار باشا، وشكا لي أعظم الشكوى من فسولة القواد الذين تولوا تلك الحرب، واستيلاء الرعب عليهم وقال لي: لولا محمود لدخل البلغار الأستانة، ولكن محمود كان السبب في تثبيت قوة الجيش، وفي منع هذا الهلع الذي استولى على الدولة. وكان كامل باشا قال للسلطان محمد رشاد: إنه يكون الأوفق انتقال جلالته إلى بروسة خوفا من دخول البلغار إلى الأستانة، فأجابه السلطان: إنني لا أتحرك من مكاني، فإذا كان لم يبق أمة عثمانية قادرة على منع سقوط سلطانها أسيرا فلا مانع عندي من السقوط أسيرا! وقد جرب البلغار بكل قواهم أن يزحزحوا الأتراك عن مواقفهم فلم يقدروا على شيء.

فالرواية التي يذيعها بعض كتاب الأوروبيين بأن الروسيا هي التي منعت البلغار من دخول الأستانة، ولولا ذلك لدخلوها هي غير صحيحة. وقول القائد العام للجيش البلغاري: إننا لو أردنا أن نخرق خطوط شطلجة لأمكننا ذلك، لكن لا نريد أن نتجشم خسائر الهجوم الفادحة بدون فائدة مادية، هو كلام تبجح ليس عليه أدنى دليل. بل البلغار بعد أن دحرهم الأتراك صاروا يخشون أن يعود الأتراك فيكروا عليهم ويخسروا ثمرات انتصارهم، لاسيما أن الدولة كانت بدأت تستدعي قواها التي كانت متفرقة وتجمعها في شطلجة، ومن جملة من زعم أن البلغار إنما ثبطهم عن دخول الأستانة نهي الروسيا لهم عن ذلك هو المسيو «دولاجونكيار» صاحب تاريخ السلطنة العثمانية.

Hisioire de l’Empire Ottoman depuis les Origines jnsqu a nos jours por le Vte de la jonquiere .

وهو المطبوع في باريز سنة 1914 وهو تاريخ غريب الشكل جدا، كتابته من أولها إلى آخرها تحامل على الأتراك وعلى الإسلام جميعا ، ونقص من مزاياهم وبخس من أشيائهم، وتحريف للوقائع عن حقائقها، وليس يخلو سطر واحد من هذا الكتاب من عبارة بغضاء تخرج من فم مؤلفه مما هو مخالف لشروط التاريخ. ومع هذا فالفرنسيس يعتمدون على هذا الكتاب ويظنونه بالفعل تاريخا للسلطنة العثمانية.

ثم نعود إلى قضية طلب الصلح فنقول إن البلغار لو كانوا علموا هم والسربيين أنهم يقدرون أن يناموا على ظفرهم هذا لما كانوا رضوا بالصلح، بل كانوا مضوا في الحرب إلى آخرها ليزدادوا ربحا ماديا، ومجدا معنويا، ولكنهم علموا أن الدولة العثمانية قد تستجمع قواها وتهزمهم عن شطلجة، وتذهب جميع مجهوداتهم سدى. فأما اليونان فأبو الصلح لأنه كان عليهم أن يستصفوا فتح البلدان التي يريدون ضمها إليهم، ولم يكونوا يخشون استجماع الدولة قواها، فأما في البحر فلم يكونوا خائفين على سواحلهم، لأن الأسطول العثماني كان أضعف من أسطولهم. أما في البر فكان الجيش العثماني لا يقدر أن يلتحم مع الجيش اليوناني إلى بعد أن يدحر الجيش البلغاري كله في تراقية والجيش السربي كله في مكدونية، أما في الأستانة فكان كامل باشا وحزبه مصممين على الصلح، وكان الاتحاديون يريدون متابعة القتال حتى يغسلوا هذا العار الذي التحق بالدولة، ولم يسبق له نظير لأنهم كانوا يقولون: إن تغلب دولة كالروسيا سكانها 160 مليونا على تركيا التي سكانها 26 مليونا ليس بعجيب ولكن تغلب هذه الدويلات الصغيرة التي سكانها يومئذ لا يزيدون مجتمعين على اثنى عشر مليونا هو غير مفهوم، ولا يجوز للدولة أن ترضى به بوجه من الوجوه إلا إذا كانت ترضى بانحلالها التام. وكانوا يعدون الفشل الذي وقع في الجيش العثماني أشبه بقضاء نزل، أو آفة سماوية لا ينبغي أن تكون قاعدة، وعلى ل حال ينبغي متابعة الحرب حتى تسترد الدولة شأنها، وإلا فلا حياة لها بعد ذلك. وذهب الأمير حليم سعيد باشا، وطلعت بك إلى كامل باشا عندما شاع عزمه على عقد الصلح وجادلاه طويلا حتى يصرفا نظره عن ذلك فقال لهما: إن الاتحاديين هم الذين أصروا على الحرب وهم الذين كانوا السبب في هذه المصائب، وأنه هو لا يريد أن ينقاد إلى آرائهم فرجعا بخفي حنين.

وفي 3 دسمبر انعقدت المتاركة بين تركيا من جهة، وبلغارية وسربيا والجبل الأسود من جهة أخرى، وأبرق ناظم باشا ناظر الحربية من موقع القتال إلى كامل باشا بذلك وكانوا قرروا مباشرة المفاوضات الصلحية بعد عقد المتاركة بعشرة أيام وكانت أدرنة لا تزال محصورة لا يقدر الأعداء عليها، فكانت شروط البلقانيين هي تسليم أدرنة، ومناستر، وشقودرة، لأن المدن الثلاث لم يقدر البلقانيون عليها وكذلك كان اليونان يحاصرون يانيا ولم يقدروا عليها، وطلب البلقانيون تخلية الجيش العثماني لشطلجة، وعدم إرسال قوة من قبل الدولة العثمانية إلى ساحات القتال في أوروبا، وأجاب الترك برفض تخلية شطلجة، وباقتراح تموين المدن التركية المحصورة وبعد أخذ ورد طويلين خيف في أثنائهما من انقطاع المفاوضات اتفق ناظم باشا والجنرال سافوف البلغاري على أن تبقى العساكر العثمانية في شطلجة، وتبقى العساكر البلغارية والسربية في مراكزها، ويكون بين الفريقين منطقة متحايدة. ورفض اليونان الدخول في المتاركة لأنهم كانوا يريدون فتح يانيا، وكانت لا تزال ممتنعة عليهم.

ثم جاء ناظم باشا إلى الأستانة بعد عقد المتاركة وهو لا يشك أن الصلح واقع فذهب محرر هذه السطور لمقابلته وأبديت وأعدت معه في أن شأن الدولة قد انكسر تماما في هذه الحرب، وأن الدولة لا يمكن أن تحيى بعد أن انكسر شأنها إلى هذا الحد وأن الدولة لا يزال في يدها قوى تقدر بها على تلافي ما فرط، وأن في ولاياتها الآسيوية عساكر كثيرة تقدر أن تجرها إلى ميدان القتال وتستأنف الكرة، وقلت له: إن البلقانيين بعصائرهم التي كانت تعبث في تراقية ومكدونية قد شغلوا الدولة أكثر مما شغلتها جيوشهم المنظمة، فكان يجب على الدولة أن تقابلهم بالمثل، وأن تأتي بجانب من القبائل الكردية والعربية وتبثها بشبه جزيرة البلقان، فإنه من الصعب جدا أن يستطيع البلقانيون تأمين البلاد التي احتلوها إذا شنت هذه القبائل الغارات في أطرافها. فقال لي ناظم باشا: إن الصلح كان مقرر، والقتال لن يتجدد، وعبارته هكذا بالحرف «غوغا تكرر إيتمية جكدر» أي أن القتال لن يتكرر. فأبديت له عدم اعتقادي كون الحرب انتهت، وذهابي إلى أنه لابد من أن تشتعل الحرب من جديد، فعلى الدولة أن تستحضر جميع عساكرها الباقية في آسيا. وخرجت من عند ناظم باشا أنا غير متعجب من فشل الدولة في هذه الحرب.

وأما أحمد عزت باشا الأرناؤوطي الذي كان واليا في اليمن وجاء في آخر الحرب وكان لا يصدق بانكسار الجيش العثماني في ظروف الأحوال التي انكسر بها لكثرة ما رأى من أغلاط القيادة، فقد كاشفته بما في نفسي من قضية جمع العساكر التي في آسيا، واستنفار القبائل العربية والكردية، فأجابني بالموافقة على الشق الأول، وأما الشق الثاني فقال لي: كان هذا موافقا جدا لو وقع في أول الحرب، أما الآن فلم يبق ميدان لشن هذه الغارات بعد أن احتل العدو جميع الرومللي، وانحصر الجيش العثماني في شطلجة. نعم قال لي هذا ولكنه رجع فيما بعد إلى رأيي. ولما استرجع الأتراك تراقية الشرقية وأدرنة كما سيأتي الكلام عليه، واستدعت الدولة وفدا من سورية إلى الأستانة ثمانية أعضاء كنت أنا من جملتهم لبعض المذاكرات المتعلقة بالإصلاحات الداخلية، دعتنا أن نذهب إلى أدرنة ونهنئ أهلها على الخلاص، فشاهدت فريقا من القبائل مخيمين غير بعيد عن البلدة وهم من قبائل العراق، وكانوا بزيهم العربي أي بالعقل والكوفيات، وزرتهم في مضاربهم وشربت القهوة عندهم، وعلمت أنه في الكرة التي كرها الترك على البلغار وأخرجوهم فيها من أدرنة كان لهذه القبائل بلاء شديد، وكان مجرد مشاهدتهم قبل فعلهم يوقع الرعب في البلغار. ولو كانت الدولة تنبهت لهذا الأمر وسحبت من بوادي الشام والزور والعراق ثلاثين ألف فارس من العرب والأكراد وجعلتهم ردعا للجيش المنظم لما حل بها هذا الفشل العظيم الذي حل بها في الحرب البلقانية، ولكن الدولة استخفت بأعدائها يومئذ استخفافا خيل لها أنها ذاهبة إلى حرب لا يزيد على تأديب عصاة!!

ولما جاؤا إلى المذاكرات الصلحية استندت الدولة على بيان البلقانيين أنهم لا يريدون من هذا الحرب إلا إصلاح إدارة البلدان التي يسكنها أقوام منهم، وأظهرت استعدادها لإعطاء مكدونية إدارة خاصة تحت مراقبة الدول، فأجاب البلقانون بأنهم إنما كانوا رضوا بذلك الاقتراح أملا بتفادي الحرب، والحال أن الحرب قد وقعت برفض الدولة لهذا المشروع فالآن هم يريدون العمل بنتيجة الحرب، وهو إدخال إخوانهم في ممالكهم رأسا، ويطلبون غرامة حربية لتعويضهم مما تكلفوه، وطلب البلغار أن تكون حدودهم خطا يذهب من «ميديه» على البحر الأسود إلى بحر الأرخبيل وتكون «قوله» تابعة لهم. وطلب السربيون ولايتي «قوصوه» و«مناستر». وطلب الجبل الأسود «شقودره» وتوابعها. وطلب اليونان جميع الجزائر وولاية يانيا ومكدونية السفلى داخلا فيها سلانيك وتراقية الغربية، فرفض الأتراك هذه المطالب كلها، وانعقد مؤتمر الصلح في لندره وتواجهت الخصوم بعضها مع بعض.

وكانت الدولة حشدت ثلاثة جيوش أتت بها من آسيا، وصممت أنها لدى الحاجة تزحف وترفع الحصار عن أدرنة التي كان البلقانيون عجزوا عن فتحها، وبتوسط الدول رضيت تركيا أن تتخلى للبلغار عن بعض أماكن غربي أدرنة، وأما من جهة جزائر الأرخبيل فرفضت أيضا تركيا التخلي عنها لليونان، واقترحت أن تترك للدول حل مسألة كريت. وأما ألبانيا فقد رضيت تركيا بأن يكون لها استقلال داخلي وأن تتعين حدودها بالاتفاق مع الدول، فلما رأت الدول أن الدولة غير مستعدة لإجابة البلقانيين إلى مطالبهم، وأن الحرب قد يستأنف نشوبها، أرسلت إلى الدولة في 10 يناير سنة 1913 مذكرة عمومية تنصح لها فيها بقبول مطالب البلقانيين، وبالتخلي عن أدرنة للبلغار، وأنه يقع اتفاق على حماية مسلمي أدرنة، وصيانة المساجد والمقابر الإسلامية التي فيها، وأنه إذا كانت تركيا تصر على الحرب فهذه المرة يجوز أن الحرب تمتد إلى آسيا، وأنه لا يمكن أن تقترض تركيا مالا من أوروبا عند الاحتياج لأجل إصلاح ممالكها في آسيا. وكان الاتحاديون معارضين أشد المعارضة في الصلح على هذه الصورة، وكانوا يقذفون بكامل باشا لجنوحه إلى السلم، ويقولون لا يحق له أن يتخلى عن شبر من أراضي المملكة بدون قرار مجلس الأمة، والحال أن المجلس كان منفضا. فأجمع كامل باشا على عقد مجمع كبير من رجال الدولة وأعيانها لاستشارتهم في هذا الخطب الجلل، وهي عادة قديمة عند الدولة بأنها في الخطوب الكبرى تدعوا الوزراء الذين في الخدمة، والوزراء السابقين، وقواد الجيش القائمين على الخدمة والمتقاعدين، والعلماء الكبار، ورؤساء الطرق، وكبار أصحاب الأملاك، وأعيان التجار والزراع، ومثل هذا الديوان انعقد في ديسمبر سنة 1876 عندما طلبت الدول وضع مكدونية وبلغاريا والبوسنة والهرسك تحت المراقبة الأوروبية، فرفض الديوان الذي انعقد يومئذ اقتراح الدول هذا، وأدى ذلك إلى نشوب الحرب الروسية التركية. فالديوان الذي عقده كامل باشا هذه المرة لم يحل المسألة حلا نهائيا، وانقضى بالمذاكرات على كيفية المقاومة. وبعد ذلك جاءت جماعة من الاتحاديين إلى الباب العالي وبيدهم طلب يتضمن رفض تسليم أدرنة، ودخل أنور إلى مجلس الوزراء يقدم هذا الطلب إلى الصدر الأعظم، وفي أثناء وجوده داخلا حصلت جلبة أمام الباب العالي، فخرج ناظم باشا ناظر الحربية وانتهر الذين كانوا يرفعون أصواتهم ليحدثوا الضوضاء، فأطلق عليه أحدهم الرصاص فقتله. فخرج كامل باشا فوجد ناظم باشا صريعا فاستقال من الصدارة بتلك الدقيقة، وركب عربته وسار إلى بيته. وتولى الاتحاديون الحكومة تحت رئاسة محمود شوكت باشا بعد أن جاء أنور إلى سراي «طولمه باغجة» وحصل على الأمر السلطاني بذلك.

Página desconocida