على أنه وجد أن هذه الطريق تؤدي به إلى القسم الأدنى من وادي أرنو وهو واد عريض جدا، ولكن مع أن عبوره سهل على الغالب؛ فقد كان يومئذ طاغيا لتدفق المياه عليه من الثلوج التي كانت تذوب في رءوس الجبال، وفي الواقع أن هاتيك البلاد كانت عبارة عن مستنقعات وآجام لا حد لها يصعب المسير فيها، ومع ذلك فقد صمم هنيبال على اجتيازها فعرض جيشه لصعوبات ومخاطر كثيرة زادت في هولها على ما لقيه في جبال الألب.
فالمياه كانت قد بلغت الربى في طغيانها، وهي تزداد طغيانا على الدوام حتى غصت بها المجاري ومنخفضات الأرض، وطمت بعد ذلك على السهول كلها، وكان الماء عكرا كثير الكدورة بحيث تصعب رؤية أعماقه وما تحته، فكانت الجنود في خوضها إياه تغرق في الحفائر والوحول، فلا تعود تتمكن من الخلاص، وقد غرق عدد كبير منها على هذه الصورة.
وكانت الجنود تعبة خائرة القوى من البلل والبرد الشديد، ومن تعرضها لذلك على الدوام، وقد انقضى عليها أربعة أيام بلياليها في هذا المأزق الحرج، ولم تتجاوز في جهودها مسافة كبيرة؛ لأن السير كان بطيئا جدا، ولم يذق الجنود في تلك المدة طعم النوم، بل كان الكثيرون منهم يستندون على أسلحتهم يركزونها في الماء ليغفوا قليلا، حتى إن هنيبال نفسه كان مريضا فأصيب بتورم في عينيه أضر بإحداهما في آخر الأمر فلم يعد يبصر بها.
على أنه لم يكن متعرضا للعناصر مثل ضباطه؛ ذلك لأنه كان قد بقي معه فيل واحد من كل الأفيال التي جلبها معه، فكان في غضون الأربعة أيام راكبا ذلك الفيل بحيث لم يمسه الماء، وقد سير أمامه رجالا يتجسسون للفيل أفضل الطرق، فاستعان بهم وبالفيل على قطع الوحول والمياه سالما.
الفصل الثامن
المتسلط المطلق فابيوس
وعندما كان هنيبال يجد في سيره متجها نحو أبواب رومية كان سكانها في خوف وقلق عظيمين إلى أن تفاقم أمر الرعب بينهم وشمل سائر الطبقات ولا سيما العليا منها، وأصبح العامة والجنود معا في رعدة متناهية، وكانت الحكومة قد جندت جيشا جديدا بقيادة قنصل جديد؛ لأن مدة القنصلين الحاليين كانت قد انتهت.
واسم هذا القنصل الجديد فلامينيوس، فتولى قيادة الجيش الجديد وزحف به شمالا، وهنيبال إذ ذاك يعاني البلاء والعناء في قطع هاتيك المستنقعات والآجام والسباخ حوالي نهر أرنو، ولم يكن حظ هذا الجيش أفضل من حظوظ من سبقه من الجيوش، فإن هنيبال فكر حال سماعه به في جره إلى أحبال ينصبها له كما فعل بجيش القنصل سمبرونيوس قبله، وكان ذلك في القسم الشرقي من أتروريا على مقربة من الجبال، وعند بحيرة اسمها تراسمين.
وقد صدف أن هذه البحيرة تمتد إلى قاعدة الجبال، فلا يبقى بين مائها وبين الجبل إلا ممر ضيق لا يزيد في اتساعه على عرض طريق متوسطة، فعقد هنيبال النية على إرصاد فصيلة من الجند في كمين عند سفح الجبل وفرق أخرى من الجيش في سفوح الجبل وشقوقه وأغواره، وأن يستجر القائد فلامينيوس مثل سمبرونيوس ناري المزاج عظيم الثقة بنفسه وكثير التهوس إلى حد الحماقة والاندفاع بدون ترو.
فكان يحتقر قوة هنيبال ويهزأ به ويظن أن فوزه في المعارك الماضية قد تأتى عن تهاون القواد الآخرين وترددهم، وهو لذلك كان يتوق إلى الالتقاء به في الحال؛ لاستيقانه من أن الانتصار عليه من الأمور الهينة، وعلى هذا الزعم زحف متقدما بإقدام وقلة مبالاة إلى مضيق تراسمين، وهناك علم أن هنيبال معسكر وراء ذلك المضيق.
Página desconocida