وفي اليوم التالي عندما نهضوا باكرا وشرعوا في الصعود إلى مواقفهم، وجدوا لمزيد اندهاشهم أن هاتيك القمم والمرتفعات المحيطة بالمعبر مغطاة بالقرطجنيين، إذ كان هنيبال قد أيقظ قسما كبيرا من جيشه قبل انبثاق الفجر، واقتادهم إلى حيث قاسوا العناء المر في تسلق هاتيك القنن التي تركها الجبليون، وذلك لكي يكونوا هنالك قبلهم فلا يجرءون على مقاومته. فوقف الجبليون وقد تولتهم الحيرة من هذا المشهد الذي رأوه وازدادوا اندهاشا عندما ترامت أبصارهم إلى الوادي تحتهم، فرأوا مجموع الجيش ينسل على مهل مارا في ذلك المعبر في صف واحد على الترتيب، وهو في مأمن من الطوارئ؛ لأن أماكن الحراسة قد أصبحت الآن في أيدي الأصدقاء بدلا من الأعداء.
فلم يطق الجبليون صبرا على ذلك ولا استطاعوا كظم غيظهم، بل اندفعوا بعامل الغضب من هذه الحيلة منحدرين من حيث كانوا، وهاجموا الجيش السائر في أسفل الوادي، وعندئذ قام بين الفريقين عراك مخيف فقتل البعض بالسلاح أو بالصخور المنقضة عليهم من فوق، وانقلب كثيرون من جراء الهرج والمرج، وتماسك واحدهم بالآخر من ذلك الممر الضيق إلى الهوة العميقة الكائنة تحتهم، وتدهورت الجياد بأحمالها لما نالها من الذعر، وأفلتت من ماسكي أزمتها أو جرتهم معها إلى تلك المهاوي المخيفة، وكان ذلك المشهد من المشاهد الراعبة إلى الدرجة القصوى؛ لما قتل فيه وهوى من الناس في تلك المنحدرات العميقة.
ونظر هنيبال الذي كان واقفا فوق صخرة عالية إلى هذا المشهد المخيف، وهو مربد الوجه يرتعد جزعا وتأثرا، ولم يجرؤ على النزول بنفسه والاشتراك بذلك المعترك مخافة أن يزداد بوجوده الارتباك ويتفاقم الخطب. على أنه بعد التأمل قليلا وجد من الضرورة الكلية التدخل في الأمر، فهبط بأسرع ما يمكنه تصحبه فرقته، ونزلوا جميعا بسير مائل متعرج وطرق مستديرة حيثما وجدوا لهم موطئ قدم بين تلك الصخور، وهاجموا الجبليين بأشد ما استطاعته عزائمهم.
وكانت النتيجة كما خشي هنيبال أن تكون، فاشتد الارتباك أولا وكثر القتل والتدهور، وأجفلت الخيل من ذلك ومن الصياح المتتابع الذي ملأ هاتيك الأودية، وبصداه المتردد من كل ناحية مما زاد ضجته أضعافا مضاعفة، فارتعدت له فرائص الخيل واستطارت في الإجفال والجموح، وعلى أثر ذلك تماسك الناس بعضهم ببعض وبينهم الأفراس المثقلة بأعبائها، وهووا جميعا إلى تلك الهوة متدافعين على الصخور منقضين بشدة الاندفاع، وبما كانوا يصدمون به من الأماكن الناتئة إلى قعر تلك الهاوية، حيث يقع بعضهم فوق بعض، فكانت أناس منهم يصلون موتى ومنهم يتألمون مائتين، أو محاولين بقواهم المنحلة الزحف على الجليد طلبا للنجاة.
وفي آخر الأمر اندحر الجبليون وانهزموا وخلا المعبر للقرطجنيين واستعيد نظام الجيش، والخيول التي لم تجمح ولم تسقط في المهواة أخذت بالملاطفة لتهدأ وتستكن، والأحمال التي سقطت في المنحدرات جمعت واستعيدت، والجرحى وضعوا على محامل خشبية بنيت لساعتها هنالك، وذلك لكي ينقلوا عليها إلى حيث يداوون، وأصبح الجيش بمهماته في وقت قصير على قدم المسير فتقدم زاحفا، وإذ كانت المصاعب قد أزيلت من أمامه أسرع الخطى سائرا بانتظام وهدوء إلى أن اجتازوا ذلك المضيق.
ولما بلغوا نهايته وصلوا إلى قلعة عظيمة تخص أبناء تلك الأنحاء، فاستولى هنيبال عليها وألقى عصا الترحال هنالك طلبا للجمام والراحة له ولرجاله، ومن أعظم الصعوبات التي تعترض القائد الزاحف بجيش لهام في مثل تلك الدروب الشاقة الكثيرة الأخطار هي عول الجيش؛ فالجيوش تحمل معها ما يقيتها مسافة يسيرة لا سوى. والناس المسافرون على طرق ممهدة لا يقوون على استصحاب زاد يزيد على عيالتهم أياما قلائل، فمتى كان مسيرهم في مثل جبال الألب حيث الدروب عسيرة كثيرة الخطر، فإنهم بالكد يقوون على حمل شيء، فعلى القائد في مثل هذه الحالة أن يجد ما يقيت به جنوده في البلاد التي يمر بها، وهكذا كان على هنيبال أن يحافظ ليس فقط على سلامة جيشه، بل أن يتخذ كل وسيلة فعالة لإيجاد القوت الذي أوشك الآن أن ينفد. ومن المعلوم أن الأراضي المنبسطة الكائنة في أعالي الجبال تحتوي على علف للماشية والحيوانات المختلفة؛ لأن الأمطار التي يكثر تهطالها هنالك، والرطوبة الناجمة عن ذوبان الثلوج من على جوانب الجبال تنعش الزرع فتجعل الأرض دائمة الاخضرار، والغنم والماعز وغيرها ترتاد هذه الأماكن لتتقوت بما فيها؛ ولذلك فالماشية تدرك أنها كلما تصاعدت في التسلق كان المرعى أخصب والعشب أوفر.
ويمكن إنماء الحبوب في الأودية والمنحدرات، ولكن قمم الجبال مع أنها تنبت عشبا كثيرا فحراثتها من الأمور المستحيلة لانصبابها، وهكذا فإنه حالما استولى هنيبال على تلك القلعة، أرسل رجاله جماعات شتى لمطاردة الماشية التي يعثرون عليها هنالك، وبالطبع كان أولئك الرجال مسلحين لكي يتمكنوا من مقاومة كل عدو يتصدى لهم. على أن الجبليين لم يتصدوا في هذه المرة لمقاومتهم فهم قد أقروا بانغلابهم، وتولاهم الرعب والخوف مما لقوه قبل ذلك فخافوا، وهكذا فإنهم وجدوا أن أفضل الطرائق لإنقاذ ماشيتهم أن يطاردوها، ويخفوها في الغياض والأماكن التي يتعذر على ملاحقيها الوصول إليها فيها.
وبينما كان رجال هنيبال يتوغلون في الأودية والهضبات الكائنة حولهم، ويفحصون كل مكان وكل حظيرة في تلك السفوح كان الأهلون يفرون من أمامهم متفرقين في جهات مختلفة سائقين ماشيتهم قدامهم إلى حيث تصير من العدو في حرز حريز؛ إذ عليها تتوقف حياتهم ومعاشهم، فطاردوها إلى أن صارت في أعالي الهضبات أو في أسفل المنحدرات أو في غير ذلك من المنعطفات والغياض؛ لكي يبعدوها عن طالبي إمساكها من رجال العدو.
على أن جهادهم من هذا القبيل لم يصادف إلا القليل من النجاح، إذ عاد رجال هنيبال إلى المعسكر وكل واحد منهم يسوق أمامه ثلة من الماشية منها ما هو قطيع كبير، ومنها ما هو أقل منه عددا ولكن المجموع كان عظيما، فاقتات الجيش على هذه الماشية ثلاثة أيام، ومن المعلوم أن إطعام جيش مؤلف من تسعين ألفا أو مائة ألف رجل يتطلب كميات كبيرة، حتى ولو أن ذلك لمدة ثلاثة أيام، ذلك فضلا عن أن الجيش يبدد ويبذر من طعامه أكثر مما يأكل.
وفي غضون الأيام الثلاثة هذه لم يكن الجيش معسكرا، بل متحركا ببطء على الدوام، والطريق وإن كانت لا تزال كثيرة العقبات والأخطار أصبحت الآن مفتوحة أمامه؛ لأنه لم يبق فيها عدو يناوئه أو يتصدى لمقاومته، فساروا على تلك الصخور وهم يلتهمون ما معهم من القوت فرحين بانتصارهم على الأعداء المتعرضين لهم، وعلى صعوبات الطريق وما فيها من الأخطار والمهالك. أما الجبليون فإنهم عادوا إلى ملاجئهم وقد خسروا ماشيتهم وقهروا في القتال؛ لأن أمثالهم إذا خسروا الغنم والبقر والماعز فقد أضاعوا كل شيء.
Página desconocida