ووقف هانو الزعيم المعادي لهنيبال وخطب في المجلس بلهجة بليغة شديدة، وذكره بأنه هو قد حذرهم من إرسال هنيبال إلى إسبانيا، علما منه بأن مزاج ذلك القائد الناري يورطهم في متاعب مع الرومانيين لا آخر لها، وقال في خطابه: إن هنيبال قد خالف المعاهدة فهاجم ساغونتوم، وحاصرها وهي المدينة التي تعهدوا هم بشرفهم بألا يمسوها بأذى، فلا يتوقعون مقابلة لهذا الاعتداء سوى مجيء مواكب الرومانيين لمهاجمة قرطجنة ومحاصرتها، وأن البادئ بالشر أظلم.
وقال أيضا: إن الرومانيين كانوا متساهلين صبورين، فلم يتهموا قرطجنة بالأمر، بل وجهوا التهمة إلى هانيبال المذنب الحقيقي الوحيد، فبالتبرؤ من أعمال هنيبال يتخلص القرطجنيون من المسئولية، وأشار على المجلس بوجوب إرسال وفد يعتذر لرومية، وبعزل هنيبال وتسليمه للرومانيين والتعويض على ساغونتوم عما لحقها من الأضرار والخسائر.
وقام أنصار هنيبال في المجلس فدافعوا عنه بكل قواهم، وأوردوا له تاريخ الحوادث المتتالية التي أدت إلى الحرب، وأظهروا أو إنهم حاولوا إظهار ساغونتوم بأنها البادئة بالعدوان، وأنها هي التي أصلت جيش هنيبال حربا لم يجد بعدها بدا من مقاتلة الشر بمثله، وقالوا: إنهم هم - وليس هنيبال - المسئولون عما تلا ذلك من الشر المستطير، وتطرقوا من هذا إلى أنه ليس للرومانيين تحت هذه الظروف أن ينتصروا لساغونتوم، فإذا فعلوا يبرهنون عن كونهم قد فضلوا صداقة ساغونتوم على موالاة قرطجنة، وعلى هذا يكون من الجبن والعار على القرطجنيين أن يسلموا قائدهم الذي قلدوه زمام القيادة، والذي أبدى عظيم استحقاقه للثقة التي وضعها فيه القرطجنيون بشجاعته ودربته إلى أيدي ألد أعدائهم الشديدي الحقد.
ومما ورد في دائرة المعارف الإنكليزية عن ساغونتوم: أنها كانت مستعمرة يونانية مأهولة بأناس أتوها من «زانتي»، فعظمت ونمت وأثرت أيما إثراء وكانت على ولاء مع رومية، وأن هنيبال لم يشأ مهاجمتها فورا؛ لأنه بذلك يكون يبادئ مجلس الشيوخ والشعب الروماني بالعداء؛ ولهذا كتب إلى حكومته في قرطجنة أن ساغونتوم تعتدي على رعايا قرطجنة المجاورين لتخومها، وتسيء معاملتهم، على أنه شرع في محاصرتها قبل انتظار الجواب.
وهكذا كان هنيبال شاهرا حربين في وقت واحد؛ الواحدة في مجلس الشيوخ القرطجني حيث كان السلاح مجادلات وبلاغة، والأخرى تحت أسوار ساغونتوم وسلاحها المنجنيق والسهام النارية، وقد فاز في الحربين إذ قر رأي المجلس في قرطجنة على إعادة سفراء رومية إلى أوطانهم دون أن يقضي لهم وطرا، وفي الوقت نفسه كانت أسوار ساغونتوم قد تداعت أمام آلات هنيبال الحربية المدمرة.
وأبى سكان ساغونتوم كل ما عرض عليهم من آراء التسوية وثابروا على الجهاد إلى النهاية، فدخل جيش هنيبال الظافر المدينة زاحفا فوق أشلاء القتلى، وأعمل السلب والنهب وتهديم كل ما اعترضه في سيره، والإجهاز على من بقي فيها حيا، وعاد السفراء إلى رومية وأخبروا مجلسهم بأن ساغونتوم قد خربت ووقعت في قبضة هنيبال، وأن أهل قرطجنة لم يجيبوا سؤالهم ولا عرضوا تعويضا عن الأذى، بل تحملوا كل مسئولية من هذا الوجه وهم يتأهبون للحرب.
وهكذا أتم هنيبال مقصده في تمهيد السبيل لتجديد الحرب مع الدولة الرومانية، واستعد للنزول إلى ميدانها بنشاط وإقدام عظيمين، ودامت الحرب الضروس التي تلت ذلك سبع عشرة سنة، وهي معروفة في التاريخ بالحرب القرطجنية الثانية، فكانت عراكا مخيفا إلى الغاية بين أمتين متزاحمتين تأصل فيهما العداء، وغلت في صدورهما مراجل الشحناء بما لا يضارعه شيء في تاريخ الإنسان المظلم، والحوادث التي جرتها هذه الحرب سوف نجيء على بيانها في الفصول التالية.
الفصل الثالث
افتتاح الحرب القرطجنية الثانية
عندما تتجه الأميال في أية أمة إلى جهة الحرب؛ فإنها تقدم عليها في الغالب بقوة وإجماع رأي، بحيث لا يقف في وجهها شيء، فتكون كالريح الهوجاء أو السيل الجارف لا يبقي ولا يذر، كذلك كانت الحال في قرطجنة عندما جنح الناس فيها إلى الحرب، فحزب هانو الذي كان يعارض محاربة الرومانيين ألقي في زاوية النسيان وأسكت، وفاز أصدقاء هنيبال وأنصاره بحمل الحكومة على العمل برأيهم، وبإثارة الشعب برمته على التهليل للحرب والمناداة بها، وكان هذا الإجماع متأتيا من بعض الوجوه عن عدوى الروح العسكرية التي هي أشبه بالوباء، تتصل من واحد إلى آخر إلى أن تعم الجميع.
Página desconocida