Historia del pensamiento árabe
تاريخ الفكر العربي
Géneros
ولكن مدرسة المعتزلين، إن صح أن تدعى مدرسة بحق، ترجع في أصلها ونشأتها إلى النظر الديني المشوب بالفلسفة، أكثر من رجوعها إلى الفلسفة الصرفة، وكذلك الباطنيون «المتصوفة» فقد نقول: إنهم فلاسفة يقولون بوحدة الوجود، كما كان يقول الذين أخذوا عنهم من الفرس وأساتذتهم أصحاب الأفلاطونية الجديدة في مدرسة الإسكندرية، ولكن لم يكن لأحدهم مدرسة تنسب إليه ذاع رأيها وكان لها أثر في تطور الفكرة الفلسفية في المجردات خلال عصر من العصور.
وأنت لو نظرت نظرة أخرى في المؤلفات العلمية الصرفة عند العرب لوجدتها قليلة، اللهم إلا بعضا منها في الطب والكيمياء وخصائص النبات، وهي مؤلفات وسمت بطابع لا تراه يختلف كثيرا عن الطابع الذي وسمت به مؤلفاتهم في فروع المعرفة التي كانت ذائعة في عهدهم، كذلك إذ نظرت فيما كتبوا في النبات أو الحيوان، تجد أن المؤلف إن تحرر من الخلط بين فروع من التاريخ والأدب، لم يتخط حد الوصف، فمن الكلام في صفات النبات أو الحيوان إلى نفعه في العلاج، وهنالك بعض مؤلفين أرادوا أن يوسعوا من دائرة تآليفهم فتناولوا الكلام في خصائص النباتات السحرية أو الطلسمات ونفعها في التمائم وتفسير الغيب، بل تراهم في حين آخر قد مزجوا بين الفلسفة والفن فوضعوا الموسيقى في الفلسفة اعتمادا في الغالب على كلمة نقلت إليهم عن فيثاغورس لدى قوله: «العالم عدد، العالم موسيقى.»
هذه العقلية بذاتها هي التي ورثها السيد الأفغاني عن العرب، عقلية وقفت عند حد الأسلوب الغيبي لم تتعده، وتنكبت كل سبيل كان من الممكن أن يسلم بها إلى الأسلوب اليقيني، ولقد كان من السهل الهين أن السيد الأفغاني يجمع ما تبدد من قوى الفكر حول ذلك الأسلوب، كما كان من المتعذر عليه، وأن يجمع قوة الفكر حول مبدأ جديد في العلم أو الفلسفة تلتئم من حوله شعب المجتمع المبددة لتدفع بقوتها نحو غاية أبعد مدى مما انتهت إليه أفكار آبائهم. لهذا نقول، ونقول بحق: إن ما استجمع السيد الأفغاني من عناصر الفكر القديم القائم على الأسلوب الغيبي قد ناء بجماعه على تلك النواة الحية التي كانت تتجمع حول الأسلوب اليقيني في أفكار الأمة فلم تقو على محوها، ولكن عاقت خطاها ولا تزال تعوقها عن الانبعاث في سبيل الحرية الصحيحة.
فأثر السيد الأفغاني في حياة الفكر في مصر، وإن شئت فقل في الشرق أثر سلبي صرف، لا يذكر في تاريخ الفكر إلا كأداة رجعية تلقت الجماعات قوة صدمتها بأسلوب حديث، هو الأسلوب اليقيني والنزعة الإثباتية، تتنكت بهما سبيل الغيب، لتتبع سبيل الشهادة.
على أن قوة ذلك الأسلوب الرجعي لا تزال قائمة بفئوسها ومعاولها، ولكنها تهدم ما تحت قدمها، وتقطع بمعولها الجذع الذي ترتكز عليه قدماها، لتنهار في النهاية وتذهب بددا، فالمدرسة القديمة القائمة بين ظهرانينا تتبع سبيل النظر الغيبي، بل غالبا ما ترجع سعيا إلى النظر اللاهوتي، ذلك في حين أن المدرسة الجديدة أخذت تبني على النظر اليقيني أساس نهضة كبرى، سوف نرى عما قليل بوادرها تنجلي لأعيننا ظاهرة من وراء حجب الغيب الكثيفة. •••
طالما سمعنا من الذين لا يقوون على إنعام النظر طويلا في مقدمات الأشياء ونتائجها، أن الثورة العربية بدء نهضة فكرية حديثة، وأن ثورة 1919 قد تعدت حد البدء بنهضة لتكون خاتمة تطور عظيم في الأفكار، لا في ميدان السياسة وحده، بل في عالم العلم وميدان الاقتصاد، على أننا لا نسوق بأنفسنا مع الذين يسوقون بأنفسهم في هذه المغامر الوعرة المتعسرة، حذر أن تغوص بنا أقدامنا في رمالها اللينة التي تبتلعنا غير شاعرين بليونتها ونعومة ملمسها، فإن مواجهة الحقائق على خشونتها لأقوم طريقا، وأهدى سبيلا. إن نظرة واحدة في الثورة العرابية كافية لأن تثبت لنا أن هذه الثورة كثورة 1919، لم تمس من الحياة الكامنة في الأمة شيئا، وأنها لم تتناول إلا ظاهر الحياة بآثار سريعة الزوال، كتلك الآثار التي تخطها يد الصبية فوق الرمال على شاطئ البحر، يكفي للذهاب بآثارها مد موجة واحد من موجاته.
لم تتناول الثورتان شيئا من تلك القواعد التي ترتكز عليها الحياة الكامنة في أغوار عقلية الجماعات، فإن اتجاه الفكرة في الثورة العرابية نحو المساواة بين ضباط الجيش، واندلاع لهيب التحطيم والهياج في الثورة الأخيرة فجأة ولا سابقة، لظاهرتان تكفيان وحدهما لإثبات ما نذهب إليه.
قامت الثورة الفرنسوية على دعاية الإنسيكلوبيذيين، ديدرو وأصحابه، لامتر وهولباخ وهلفتيوس، وعلى عقد روسو الاجتماعي ، وعلى آداب فولتير الوضاحة، بل على مجهود سلسلة من العظماء تعهدوا الفكر الكامن في طبقات الأمة المنتقاة منذ عهد ديكارت بتلك الفكرات الثابتة التي يذهب أثرها إلى أبعد غور من أغوار الحياة الخفية في نفس الأفراد والجماعات، فأخذت عناصر الثورة تتكون في الفترة ما بين 1596 إلى سنة 1879؛ أي منذ أن تنفس ديكارت نسيم هذه الحياة إلى اليوم الذي خرج فيه أهل باريس يصيحون: إلى السلاح، إلى السلاح.
استجمعت عناصر الثورة الفرنسوية في قرنين من الزمان دأبت فيها الجامعات على بث المذاهب العلمية والفلسفية، وقام بها فحول من الرجال أعطوا الجماهير أرقى المثل، كما تتحكم في رقاب الشعب المستنيم لحكم الفرد، مستبدون تعهدوه بأقسى المثلات.
وما أنت في كل ذلك، إن أردت أن تضع تاريخا صحيحا، بناظر إلى عدد المتعلمين، فمن الجائز أن يكون في مصر اليوم من المتعلمين عدد يربى على عدد المتعلمين في فرنسا عندما قامت بثورتها، أو على عددهم في إنجلترا عندما انتزع زعماء الشعب وثيقة «الماغنا كارتا» من يد الطاغية المستبد، فإن المسألة هنا مسألة «كيف لا مسألة كم»، انظر في القواعد التي قامت عليها ثورة فرنسا، ثم انظر في القواعد التي قامت عليها أية حركة من الحركات العنيفة في مصر، فإنك هنالك تستبين الفرق جليا، بين حركة أساسها نهضة أدبية فكرية تكون عناصرها، وبين حركة قائمة على لا شيء، على أن الحركتين قد تتفقان من حيث نبالة القصد وسمو المبدأ، ولكننا نقيس هنا بين الآثار التي تخلفها كلتيهما لا بين الأسباب الباعثة عليهما. •••
Página desconocida