Historia de la filosofía: Una visión global
تاريخ الفلسفة بنظرة عالمية: آخر نص كتبه الفيلسوف كارل ياسبرز
Géneros
إن كل إنسان - إذا كان فيلسوفا - يطمح إلى الكل ويسعى لتحقيقه في صورة كلية، مهما تكن هذه الصورة متهافتة أو جزئية أو غامضة. وكلما تفتح هذا الكل واكتمل واتضح، رأينا أمامنا عملا من أعمال الفلاسفة الأعلام. ولكن ما من إنسان يمكنه أن يكون فيلسوفا على نحو ما يمكنه مثلا أن يكون عالما في الرياضيات؛ أي مبدع عمل أو إنجاز خاص يقف تجاهه وينظر إليه من الخارج، وينفصل عنه انفصالا جذريا من حيث هو إنسان. إن الفلسفة هي البذرة الأولى والزهرة الأخيرة للتفكير العقلي الذي يتحرك في ميدان المعرفة بما هو جزئي ونهائي محدود، وهي تتحقق عندما تخرج عن نفسها بشكل من الأشكال، وتعبر عن نفسها في العلوم الخاصة وفي الحياة وكل مجالاتها العينية واليومية. ولكنها كذلك هي «الشامل» الذي يتبين نفسه بوضوح من خلال تأثيره وفاعليته؛ ولا يتم هذا بكل ما فيه من جلال وصدق وعمق إلا في صورة شخصية. ولهذا كان تاريخ الفلسفة قبل كل شيء هو تاريخ الفلاسفة العظام. (ج)
إن الفلاسفة العظام يتحاورون حوارا عقليا مستمرا عبر آلاف السنين، ويحيون في مجال مشترك لا يقتصر على كونه مجال التفكير العقلي الذي يتطور فيه الإنسان ويتقدم، ولا يقف عند حد المجال الذي يتجسد فيه نموذج إنسان فريد. إنه مجال الفلسفة الخالدة الذي يخلق التعاون المشترك، ويوحد بين الأطراف المتباعدة، ويجمع بين الصينيين والغربيين، بين مفكرين مضى عليهم ألفان وخمسمائة سنة ومفكرين يعيشون في أيامنا الراهنة، ونور هذه الفلسفة الخالدة يجعلنا نشعر في معظم الأحيان بأننا أقرب إلى بدايات الفلسفة الغربية عند المفكرين قبل سقراط منا إلى الألعاب العقلية والدروب الجانبية المصطنعة التي تتكرر في كل العصور. إنها لنغمة أساسية عميقة تربط كل شيء بكل شيء، ولكن كيف؟ ليس من السهل إدراك السر في هذا، إن التفكير الفلسفي نفسه يظل تفكيرا واحدا على اختلاف الشخصيات التي يتم التواصل بينها، وهو ذلك الشيء الذي لا يمكن أن يتحدد بشيء آخر، وإنما نعرف من المنبع الذي انبثق عنه كل ما اشتق منه وما تفرع عنه، في حين يبقى هو نفسه مستعصيا على الإحاطة به من أي مكان، إنه يتولد بطاقته الخاصة، ويندفع بلا توقف خلال جميع الشخصيات لكي يصل إلى المنبع الذي صدر عنه. (2) إدراك الحقيقة والواقع في تاريخ الفلسفة (اختيار الأساسي والجوهري)
لن يتحقق عندي المعنى من تاريخ الفلسفة إذا اكتفيت بالنظر في المادة الموضوعية اللانهائية التي يقدمها إلي التراث، أو اقتصرت على إخضاعه لمعايير معرفية محددة، وعلى اختياره وتنظيمه. إن ذلك كله لن يكون إلا عملية ذهنية تتعامل مع موضوعات ميتة، دون أن أشارك فيها بنفسي مشاركة أساسية. ولن ينفتح علي تاريخ الفلسفة حتى أنفتح في الوقت نفسه عليه. ولهذا يتحتم علي أن أغوص بكل كياني في هذا العالم، وأن أرى وأشعر وأجرب ما يتحرك في نفسي ويتضح ويصبح شيئا جوهريا. ولا بد أن يسبق فعل الحضور كل عملية منهجية، وسنحاول الآن أن نصف هذا عن قرب: (2-1) الإحساس بواقع «الشامل»
يمكننا أن نصف التاريخ بأنه تجربة الواقع، ويمضي الإنسان عبر الزمان وهو يزاول فعله ونشاطه في العالم، ويراقب الكائنات والدلالات، ويستعين بالأفكار والمفاهيم، يمضي متجها نحو الوجود الذي يتكشف له من خلال الأهداف التي يسعى لتحقيقها، والشخصيات التي يلتقي بها، والأفكار التي يستوعبها، دون أن يتجلى له هذا الوجود أبدا على نحو نهائي في صورة الواقع الواحد الكلي. وفي أثناء عملية التكشف هذه - التي لا تكتمل أبدا - يصبح الوعي هو الشرط الضروري لنمو الإنسان وتقدمه وإصراره على تجربة الواقع. وغني عن الذكر أن هذه التجربة نفسها تتحول وتتطور مع تطور المعرفة.
وتفهم طبيعة هذه التجربة التي يفترض أن تظهر - بكل ما يميزها من وضوح وصفاء - في تاريخ الفلسفة أمر يتوقف على الشخص الذي يقوم بعملية الفهم، وعلى مدى إحساسه بمعنى الواقع الذي لا يتضح له إلا عن طريق هذا الفهم نفسه. وقد يحدث في يسر أن تضيق حدود هذا الإحساس بمعنى الواقع ضيقا شديدا، فينحصر فهمه للعلم الوضعي في الوقائع التجريبية، ويقف إدراكه للاهوت عند وحي إلهي بعينه، وتقتصر حماسته الرومنطيقية على بعض الرؤى الأسطورية، وتتحدد اهتماماته في مجال الحياة السياسية بما يتعلق بالدولة والسلطة، وفي كل بعد من هذه الأبعاد، كما في غيرها، يتم إدراك جانب من الواقع، ولكن المهم هو الإحساس بالواقع كله في أعماق الشامل، لكي نتعرف المضمون الحقيقي لتاريخ الفلسفة، ولهذا يتعين علينا أن نلاحظ أمرين: أما الأول فهو تجربة المفكر القديم بالواقع الحي وأسلوبه في التعبير عنها، وأما الثاني فهو واقع ما حققه وقيمته بالنسبة إلينا اليوم.
وإذا صح أن تفهم تجربة الواقع التي انتقلت إلينا عبر تاريخ الفلسفة لا ينفصل عن الشخص الذي يريد فهمها ومدى قدرته على الإحساس بمعنى الواقع، فإن من واجب هذا الأخير أن يعي الواقع بكل أبعاده واتجاهاته ولا يهمل شيئا منها؛ فالعلم في نظره هو مجموع المعارف الدقيقة والمناهج الصحيحة، والتصور الواضح للمعرفة التي حصلها الإنسان وطبقها بنجاح هو الشرط الذي لا غنى عنه لكل فهم لاحق. غير أن من الخطأ أن نتصور أن تطور العلم هو المحور الذي يدور عليه تاريخ الفلسفة، أو أنه هو لب المشكلة، فلقد تبين منذ عهد بعيد أن العلم بما هو كذلك ليس له هدف في ذاته، وأنه يخيب الآمال، ولا يضع قيما، ولا يقدم أساسا تقوم عليه الحياة؛ بل إن الحياة لتفقد معناها إذا تصور صاحبها أن العلم بما هو علم خالص هو الغاية الأخيرة.
ليس هناك مطلق، فضروب الواقع تنشأ وتنمو، والإنسان لا يقتصر على معرفتها بوصفها وقائع، بل ينظر إليها بوصفها كائنات. وما يوضحه العالم لكل الناس ويلزمهم به - وإن يكن علامة على الطريق الذي لا غنى عنه - لا يبلغ أعماق الواقع، ولا يتمثل الواقع أيضا فيما يبقى ويدوم، في حين يعد العابر والمتلاشي غير واقعي. لا، ليس الأمر كذلك، فكل شيء واقعي؛ لأن كل شيء يسمح بالتغلغل إلى الأساس، حيث لا يتحدث الواقع بلغة الوقائع الجزئية بل بلغة الأسرار الكبرى. ومن فهم اللغة التي تنطق بلسانها «أثينا» و«كاساندرا» و«برونهيلد» فقد فهم قدرا أكبر من الواقع، بل واقعا آخر مختلفا عما يلقنه العلم إياه. وإن كل الوقائع الجزئية لتشحب وتتسطح إذا قورنت بذلك الواقع الحقيقي.
إن المعرفة بمفهومها الفلسفي (والمعرفة العملية لا تمثل إلا جانبا واحدا منها) ينبغي أن تؤخذ بمعنى أوسع. وما يعد وهما بالنسبة لمن عميت عيناه عن الواقع - ولم يحكم عليه إلا المقاييس التجريبية - هو نفسه شكل من أشكال المعرفة بالوجود.
لهذا فإن فهم تاريخ الفلسفة يقتضي التجرد من الأحكام المسبقة، والإدراك الواضح لكل أساليب الوعي بالواقع، وكل أساليب تجلي هذا الواقع ذاته. والواقع متضمن في جميع أحوال الشامل وأنحائه، التي ينبثق عنها في أشكال محددة ونسبية، وهو موجود في وحدة الشامل؛ في الكينونة أو الوجود الواحد الذي يمكنه؛ بوصفه المتعالي، أن يتكلم خلال كل شيء. إن تاريخ الفلسفة هو التحقيق التاريخي للأبدي على النحو الذي تم به تصوره، وهو يفترض أن الإنسان، في علاقته المباشرة بالله، قادر في كل لحظة على أن يلمس الأبدية من خلال الوجود الحاضر في شموله وإحاطته.
ومن انفتاح الفهم على الواقع في كليته وفي أعماقه ينشأ الحس النقدي الذي يكتشف الانحرافات الممكنة في تفسير الواقع. إن لدينا في علوم الطبيعة معايير محددة تمكننا من التثبت من الوقائع التجريبية أو الكشف عن المزاعم الباطلة التي تقرر وجودها بغير أساس. ولكن عندما نكون بصدد واقع نؤمن به، واقع لا يلغي إيماننا به أنه يناقض الوقائع ويخيب التوقعات المنتظرة، فليس التعبير عن هذا الإيمان إلا شكلا من أشكال الإدراك لواقع يستعصي على الإثبات والتحقيق التجريبي.
Página desconocida