Historia de los filósofos del Islam: un estudio exhaustivo sobre sus vidas, obras y un análisis crítico de sus opiniones filosóficas
تاريخ فلاسفة الإسلام: دراسة شاملة عن حياتهم وأعمالهم ونقد تحليلي عن آرائهم الفلسفية
Géneros
ثم انتقل الحكيم العربي إلى العنصر الثاني من العناصر الخارجة عن الاجتماع، وهو الوسط الجغرافي أو البيئة، وبحث في تأثير البيئة في الفرد، فقال إن البيئة الخصبة تغني الفرد عن السعي في سبيل العيش وتغريه بالفراغ واتباع الأهواء، وتميت في نفسه صفات الشجاعة والمحاربة. وإن هي جدبت استحثه الفقر على الجد والاجتهاد والمثابرة، وولد فيه روح الكفاح والتنازع والمقاومة في سبيل الحياة.
ولكن يظهر أن ابن خلدون لم يعلق على البيئة من الشأن ما علق على الطقس؛ لأنه لم يسبق إلى هذا البحث، ولأن مجال الكلام فيه ضيق بطبيعته بالنسبة للكلام في مجال الطقس.
أما العنصر الثالث وهو الدين، فقد قال عنه ابن خلدون إنه ضروري لكل جماعة إنسانية، وأفاض في المقال بما لديه من الآراء الفلسفية والدينية التي تشبع بها من مؤلفات حكيم الأندس ابن رشد.
ويظهر أن ابن خلدون كان يرمي إلى التوفيق بين الحكمة والدين كما كانت غاية حكيم الأندلس، وهذا الذي يقلل من قدر فلسفة ابن خلدون في نظرنا؛ لأن أستاذه وقدوته ابن رشد لم يكن في الحقيقة فيلسوفا، إنما كان مترجما وناقلا نقل فلسفة أرسطو إلى اللغة العربية واعتبرها خاتمة الحكمة، ورأى أنه من المحتم عليه وهو حكيم إسلامي أن يوفق بين هذه الآراء اليونانية وبين الشريعة الإسلامية، ولذلك لم يرض أحدا من الفريقين: لم يرض الفلاسفة لأنه أحل الدين محلا لا يقبله الفلاسفة، ولم يرض الدين لأنه فسره وأوله بما لا ينطبق على منطوقه. وإن هذا الفشل لا يقلل من قدر ابن رشد لأنه كان حسن النية، وكان يريد دينا مبنيا على العقل وفلسفة لا تؤدي إلى الإلحاد والكفر. ولأن كثيرين من المفكرين بعده حتى في عصرنا هذا حاولوا ما حاوله شيخ قرطبة، فكان نصيبهم من الخذلان كنصيبه ما عدا التنكيل بهم؛ لأن زمن التنكيل بالناس لأجل أفكارهم ومعتقداتهم قد مضى وانقضى.
لا يمكننا أن نعد ابن رشد فيلسوفا ولكنه كان مصلحا، فمثله كمثل مارتين لوثير، وقد قضى حياته معذبا لأنه كان يرنو بعين إلى الدين وبأخرى إلى الحكمة، يحبهما ويحاول التوفيق بينهما ولا يستطيع. فلا غرابة إذا جاء بحث ابن خلدون في المسألة الدينية مشوها مضطربا، لأن فضل ابن رشد راجع لأنه حكيم بذاته ومباشرة، ولكن ابن خلدون كان فيلسوفا بالواسطة.
وقد أنتج حب ابن خلدون الاستطراد أنه أخذ يبحث في الروح والتصوف والرؤى الصادقة والوحي الإلهي، وكل هذه مواد خارجة بطبيعتها عن موضوع بحثه. ويظهر لنا أن ابن خلدون كان يحاول أن يبحث في تأثير الأديان في الأمم ليظهر الفرق بين الأمم المتدينة والأمم الوثنية، وتأثير العقائد في المدنية والعمران، وارتباط أنواع الدول بالتدين وضده، ثم يبحث في ماضي الإنسانية وحاضرها ومستقبلها من هذه الوجهة، مستشهدا بحوادث التاريخ ومستقرئا الوقائع ومقارنا بين اليونان القديمة - وهي أمة وثنية لم يبعث إليها نبي ولم يظهر فيها سوى حكماء أمثال هيراقليط وبقراط وسقراط وأفلاطون وأرسطو - وبين أية أمة أخرى بعث إليها الأنبياء ولم يظهر فيها حكماء دنيويون أمثال من ذكرنا. ويقارن بين تاريخ الأمتين وما كان من أمرهما ومن تأثيرهما في الأمم المعاصرة.
أما عن حاضر الإنسانية في عصر ابن خلدون فلم يكن لديه شيء أسهل من النظر في حال الأمم لعهده وتأثير التدين وضده في كل منها، وإن مواد مبحث كهذا لم تكن تنقصه لأنه نشأ في بلاد متدينة وساح في إسبانيا وهي تدين بغير دينه، وتنقل بين أفريقيا وآسيا وأوروبا، وكان يعلم حتما بوجود أمم وقبائل متوحشة لا دين لها في قلب القارة التي نشأ فيها وألم بأطراف من أخبارها في تاريخه، ثم كان يحسن به أن يمعن النظر في الماضي والحاضر ليحاول الاهتداء إلى ما يكنه المستقبل للأمم المتدينة وسواها.
وإن بحثا كهذا يكون أعظم نفعا وأجل ثمرة للإنسانية والعلم من البحث في التصوف والاستخارة والرؤى الصادقة والتجرد، وما شابهها مما شغل به هذا الحكيم عقله ووقته على غير جدوى.
إلى هنا انتهى ابن خلدون من شرح العوامل الخارجة عن الاجتماع، ثم انتقل إلى البحث في العوامل الاجتماعية التي تنشأ في حضن المجتمع، فقرر أن كل جماعة إنسانية تمر بثلاثة أطوار: الطور الأول البدوي، والثاني الغزوي، والثالث الحضري. إن كل أمة تنشأ قبيلة تعيش في الصحراء أو في الوادي، ثم تنهض فتغزوا أمما أضعف منها متحضرة متمدينة وهذا هو الطور الثاني، ثم تتحضر هي أيضا فتمدن المدن وتمصر الأمصار وتدون الدواوين وتقنن القوانين وتضع العلوم وتنشئ الفنون الجميلة وتميل إلى الملاذ والمسرات وتنسى الحرب والكفاح؛ فتضعف شيئا فشيئا إلى أن تتغلب عليها قبيلة غازية فتقهرها وتسود عليها.
وهكذا تستمر الحركة الإنسانية: تقوم أمم وتسقط، دولة تنهض ودولة تنحط فتغلب، وأخرى تقوى فتنتصر وتسود. هذه سنة الطبيعة في الأمم، وقد اكتشفها ابن خلدون بمحض فكره وعلمه بتاريخ أمم العرب والبربر، ولم يسبقه إليها أحد لأن من سبقه من العلماء لم يشهدوا تاريخ تلك الأمم، ولأن أممهم لم تصب بما أصيبت به أمم العرب والبربر السالفة الذكر في الشرق والغرب.
Página desconocida