Historia de las Ciencias del Lenguaje Árabe
تاريخ علوم اللغة العربية
Géneros
ولما أنشئت بغداد وصارت حاضرة الخلافة وعاصمة آل عباس وراجت فيها سوق الآداب، كان الكوفيون أسبق الناس إليها لمكانة الكوفة من بغداد من الوجهتين السياسية والجغرافية، ولهذا وجدنا أن علماء الكوفة اتصلوا بقصور الخلفاء والأمراء، واحتلوا الصدور من حلق تدريسها ومحافل آدابها، فكان الكسائي عند الرشيد والفراء عند المأمون بالمكانة السامقة، وكان مذهب الكوفية ما علمت من التساهل في التأصيل والتفريع، ومن ثم وجدنا تلاميذهم من البغداديين مولعين بالروايات الشاذة، يتفاخرون في النوادر ويتباهون بالترخيصات واعتمدوا على الفروع ولم يأبهوا للأصول، ومن هنا تولد مذهب مضطرب النواحي كثير التعاريج عرف بمذهب البغداديين، ولما كان هذا المذهب أحط من أبيه الكوفي طرحه الجمهور وما أقاموا له وزنا.
ثم تكاثر الناس حول موارد هذا العلم وازدحمت أقدامهم في جنباته، وتكاثرت فيه التصانيف ما بين مطولة ومختصرة، وبين عامة مشتملة على جميع أبوابه وخاصة مقتصرة على باب أو بضعة أبواب، وكثر الأخذ والرد بين أرباب المذاهب من البصرية والكوفية والبغدادية، وطال اللجاج وكثر الحجاج وتمطت الأبواب والفصول وانتشرت المسائل واشتبكت الفروع. وبينما الناس في هذه الضجة في المشرق، كان النشاط آخذا مأخذه في تكوين الدولة الأندلسية في المغرب، وقد أولع ملوك هذه الدولة واشتدت رغبتهم في تنشيط الحركة الأدبية وتعزيز جانبها، اقتفاء لآثار أوليهم في شاماتهم وإحياء لمآثرهم في أيام زهوهم ومباراة لأبناء عمهم في بغدادهم، فكان همهم تقريب أهل الأدب والحدب عليهم والحرص على تكريمهم وتبجيلهم، وقد أداروا لهم أخلاف النعم حافلة وخلعوا عليهم حلل الفواضل ضافية، مما زاد في إقبال الناس على المعارف يردون حياضها، ويرتشفون زلالها، ويرتادون رياضها، ويتفيئون ظلالها ... فأنجبت تلك المملكة جماعات من فطاحل علماء العربية، رجعوا إلى ما أصله العراقيون من الأصول وما فرعوه من الفروع فأطالوا النظر فيه، ووقفوا على ما بين البصرية والكوفية من خلاف ووفاق وما يستند إليه كل فريق من رواية ودراية، وتهيأ لهم ما لم يتهيأ لغيرهم من الاطلاع على مرويات المشارقة كلها من منظوم القول ومنثوره.
وكان جل اعتمادهم على مذهب البصرية، ومع ذلك فإنهم شقوا لهم طريقا واضحة تنسب إليهم، وهي من أقوم الطرق وأتقنها لأنها لم تنحرف عن البصرية إلا عندما تنحرف البصرية انحرافا لا تستسيغه الدراية ولا تدعو إليه الرواية.
ولم يزل هذا المذهب آخذا في التوسع مع تعهده بالصقل والتهذيب وحسن التفصيل والتبويب، إلى أن طغى سيل الإفرنجة على تلك الربوع وفجعت سماؤها بشموسها وأقمارها، فولى علماؤها وجوههم شطر المشرق وفضلوا الجلاء عن الأوطان على الوقوع في شباك الهوان، فتكاثر في المشرق عديدهم وازدانت مدارسه بمعارفهم، وأخذ مذهبهم يزاحم مذاهب المشارقة ولا سيما في دمشق والقاهرة، حتى احتل الصدور ولا سيما في العصور المتأخرة.
هذه المذاهب الأربعة هي المذاهب الكبرى في هذا العلم، وإليها المرجع في حل المشكلات وإيضاح المعضلات، وإلا فهناك مذاهب كثيرة يكاد عددها يتعسر على العادين إذ لكل إمام في الحقيقة مذهب خاص به يخالف فيه غيره ولو من بعض الوجوه، فلسيبويه آراء يخالف فيها شيخه الخليل، وللأخفش الأوسط آراء يخالف فيها شيخه سيبويه، وللفراء مذهب ينحرف عن مذهب الكسائي في غير ما موطن. وهكذا نجد لكل عالم من علماء العربية آراء تخصه تكثر أو تقل حسبما أوتيه من بسطة في العلم وقدرة على الإبداع، ولكن مرجع هذه المذاهب المختلفة إلى تلك الأمات الأربع، وأصول هذه الأربعة اثنان: البصرية والكوفية، أما مذهب البغدادية فمرجعه الكوفية وأما مذهب الأندلسية فمرجعه البصرية.
وقد أفرد بعض العلماء مسائل الخلاف بين هذين الفريقين بالتأليف وأحصى في ذلك مائة مسألة ونيفا أوردها جلال الدين السيوطي في كتاب «الأشباه والنظائر النحوية».
ولما كان النحو ملازما لمتن اللغة لأن اللغة هي المحور الذي تدور عليه سائر العلوم اللسانية التي يعد النحو في مقدمتها، رأينا أنه قلما يتبحر عالم في النحو إلا وهو إمام في اللغة وبالعكس ... فإذا استعرضنا أولئك اللغويين الذين أومأنا إليهم في تاريخ علم اللغة فكأنما استعرضنا جماعة النحويين، ولهذا لا نرى حاجة إلى تكرار تلك الأسماء في هذا المقام إلا إذا دعت الضرورة كما سترى.
وما كاد ينطوي بساط القرن الرابع الهجري حتى أصبح النحو يعد في زمرة العلوم الناضجة، وقد تطورت حالته بتطور الحالة العلمية على وجه العموم.
وكان في مقدمة نحاة المائة الرابعة: أبو بكر بن محمد بن السراج البغدادي صاحب الأصول الكبير، وجمل الأصول، والموجز، وشرح كتاب سيبويه، وكان قد عول على الأخفش والكوفيين في كثير من المسائل، وكانوا يقولون: «كان النحو مجنونا حتى عقله ابن السراج بأصوله.» ومن أئمة هذه المائة أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الزجاج، وتلميذه أبو القاسم عبد الرحمن الزجاجي صاحب كتاب «الجمل»، وأبو بكر محمد بن القاسم الأنباري أحد علماء الحفاظ، قيل إنه كان يحفظ 300 ألف بيت من شواهد العربية، وهذا من المبالغة بمكان ولكنه على كل حال يدل على سعة حفظ الرجل. ومنهم أبو سعيد بن عبد الله السيرافي المتوفى سنة 318ه صاحب كتاب الإقناع، وله شرح لكتاب سيبويه من أجل الشروح قدرا وأعظمها فائدة.
ومنهم علي بن عيسى الرماني المتوفى سنة 384ه، أول من مزج النحو بالمنطق وألف كتاب الحدود وشرح أصول ابن السراج وكتاب سيبويه وله كتاب معاني الحروف وغير ذلك، ومنهم أبو علي الحسن بن أحمد الفارسي صاحب التصانيف الكثيرة، منها: الإيضاح، التكملة، الحجة، التذكرة، المسائل الحلبية، والبغدادية، والقصرية، والنصرية، والشيرازية، والعسكرية، والكرمانية، والهيتية وغيرها ... ومن حسنات الفارسي بل من حسنات هذه المائة أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي المتوفى سنة 392ه، تلميذ الفارسي وأحد أعلام العربية الذين خدموها خدمة تذكر فتشكر، ومن تصانيفه: الخصائص في عدة مجلدات، وسر الصناعة، واللمع، وكان نسيج وحده في صناعة التصريف على ما ستقف عليه إن شاء الله تعالى.
Página desconocida