فأنت إلى كل النفوس حبيب
المخلص
سليم قبعين
روسيا القديمة
احتفلت الأمة الروسية في 21 فبراير/شباط سنة 1913، احتفالات باهرة بمناسبة مرور ثلاثمائة عام على تملك أسرة آل رومانوف، القابضة الآن على دفة الأحكام في الإمبراطورية الروسية الشاسعة الأطراف المترامية الأكناف. فإنه في 21 فبراير/شباط من عام 1613، حينما انقرضت أسرة ريوريك انتخبت الأمة الروسية، باتفاق الآراء وإجماع الأصوات، ميخائيل ثيودورفيتش رومانوف ملكا عليها، وهو واضع أساس أسرة رومانوف التي هي من أعظم وأقوى الأسر المالكة في العالم، وقد أخرجت ملوكا عظماء وقياصر حكماء سجل لهم التاريخ صفحات مسطرة بالأعمال المجيدة لخير ومنفعة روسيا، أدهشت شعوب أوروبا وآسيا. ومهما أجهد الإنسان فكرته، فإنه لا يستطيع تعدادها بالنظر لكثرتها، ولما كان ما لا يؤخذ كله لا يترك جله، فإنني سأشير باختصار إلى ما فعله قياصرة آل رومانوف في خلال ثلاثمائة عام.
وقبل ذلك أقول: إن جريدة روسيا الشبيهة بالرسمية، أصدرت ملحقا لعددها 2322 ذكرت فيه أعمال قياصرة آل رومانوف بتفصيل واف، وما قاموا به من الأعمال المجيدة التي رفعت شأن الإمبراطورية الروسية وجعلتها في مقدمة الممالك اتساعا وقوة، وبذلك كفتني الجريدة المذكورة مئونة التعب والمشقة. وإنما رأيت قبل تعريب الملحق المذكور أن أعرف حضرات قراء كتابي هذا بحالة روسيا قبل أن يتولى فيها الأحكام ملوك آل رومانوف، وهي ما يعبرون عنها «بروسيا القديمة»، وقد جمعت ذلك من عدة تواريخ روسية مشهود لها بصحة الرواية، فأقول بإيجاز:
بعد أن تحررت مدينة موسكو عاصمة روسيا القديمة من نير البولونيين الذين حكموها مدة، أرسل أهالي موسكو الرسائل إلى أهالي الجهات ليرسلوا نوابا عنهم لانتخاب ملك، ولما انتظم عقد النواب قرروا أن يصوموا ثلاثة أيام قبل مباشرة الانتخاب، وعلى أثر انتهاء الصيام عقدوا اجتماعا كبيرا، وبعد مفاوضات ومناقشات طويلة قرروا في 21 فبراير من عام 1913 انتخاب ميخائيل ثيودورفيتش رومانوف، وقد صادق على هذا الانتخاب جميع المجتمعين في «ساحة الحمراء».
ميخائيل ثيودورفيتش، هو ابن الشريف ثيودورنيكيتيتش رومانوف (ابن شقيق أناستاسيا رومانوفنا) الذي حكم عليه غودونوف أن يدخل الدير وينتظم في سلك الرهبان تحت اسم «فيلاريت». ولما علا عرش روسيا المدعي بالملك ديمتري الكاذب، أمر بسيامته مطرانا لمدينة روستوف، ولهذا المطران ذكر مجيد في تاريخ روسيا؛ فإنه قاوم ملوك بولونيا الكاثوليك مقاومة عنيفة عندما كانت روسيا خاضعة لسلطتهم، وقد نفوه إلى بولونيا، حيث ذاق صنوف الإهانة والعذاب.
عندما انتخب أهالي موسكو ميخائيل ثيودورفيتش ملكا عليهم، كان عمره 16 عاما، وكان في ذلك الوقت موجودا مع والدته الراهبة مرثا في دير إيباتييفسكي، الكائن في مدينة كوستروما، فلما سمع البولونيون الكاثوليك بأمر انتخابه ملكا أعدوا حملة عسكرية زحفوا بها على الدير الموجود فيه ليقتلوه، ولما قربت الحملة من قرية «دومين» صادفها فلاح اسمه إيفان سوسانين، فسألوه عن مكان الدير، فأدرك هذا الفلاح الساذج بثاقب فكره ما يقصده الأعداء، فصمم على تضحية نفسه فدية للملك الجديد، وقال لرجال الحملة اتبعوني وأنا أدلكم على الدير. فصدقوه وساروا وراءه، فقادهم إلى حرش كثيف ليس له أول من آخر، مملوء بالمستنقعات، وقد أدركوا في النهاية أنهم خدعوا، فجردوا سيوفهم وقتلوا هذا الفلاح الذي خلد له في التاريخ الروسي ذكرا مجيدا، ونظم له الشعراء القصائد مما سيأتي ذكره فيما بعد.
ولما اتفقت الكلمة على انتخاب ميخائيل ثيودورفيتش ملكا، أرسلت له الجمعية العمومية وفدا مؤلفا من كبار رجال الدين والسياسة، يعرضون عليه قبول التاج، ولكنه رفض ذلك رفضا باتا، وكذلك والدته الراهبة رفضت مباركة ابنها، غير أن رجال الوفد هددوهما بالشر إن هما لبثا مصرين على هذا الرفض، وقالوا لهما: إن الله يغضب عليكما إذ لبثتما مصممين على هذا العزم ولم تقبلا ما عرضته عليكما الجمعية العمومية التي تمثل الأمة. وإذ ذاك قبل الشاب الطلب، ورفعت والدته الراهبة مرثا يدها وباركته.
Página desconocida