Tareekh Nuzool Al-Quran
تاريخ نزول القرآن
Editorial
دار الوفاء - المنصورة
Número de edición
الأولى
Año de publicación
١٤٢٢ هـ - ٢٠٠٢ م
Ubicación del editor
مصر
Géneros
مقدمة
تاريخ نزول القرآن الكريم الأستاذ الدكتور محمد رأفت سعيد أستاذ الشريعة والدراسات الإسلامية وكيل كلية الآداب- جامعة المنوفية عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية
1 / 3
بسم الله الرحمن الرحيم نحمدك اللهم ونستعينك ونستهديك، ونصلى ونسلم على خاتم أنبيائك ورسلك سيدنا محمد.
وبعد:
فإن مدارسة موضوع تاريخ نزول القرآن الكريم تفتح أمامنا روضات نرتع فيها، يأخذ القلب فيها حظه من ركائز الإيمان وبرد اليقين، وتأخذ النفس حظها من التزكية والسكينة، ويأخذ العقل حظه من الصقل، والانطلاقة الرشيدة إلى الحركة العلمية النشيطة، والتأمل والتدبر فى الأنفس والآفاق. وتأخذ الحياة كلها حظها من الهدى والنور الذى يبدد ظلماتها ويهديها للتى هى أقوم فى جوانبها ونظمها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقضائية وغيرها إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: ٧] إن مدارسة تاريخ نزول القرآن الكريم حياة فى رحابه منذ أن قال جبريل ﵇ لرسول الله ﷺ: «اقرأ» إلى أن أكمل الله الدين، وأتم النعمة، وختم آياته المتلوة المعجزة بآخر آية من كلامه العزيز.
فما أعظمها من حياة ونحن ننصت خاشعين إلى صوت الوحى، ونتتبع تنزلاته المباركة والتى تنزل ابتداء، أو تجيب عن تساؤل يوجه، أو تحل مشكلة قائمة، أو تمنح تجارب الأمم السابقة لهذه الأمة الخاتمة؛ فى قصة قرآنية محكمة، أو تقدم وصايا غالية لا غنى عنها، أو تجتث عقائد باطلة بالبرهان العقلى القوى، وتبنى وترسخ العقيدة الصحيحة الصافية النقية بالبرهان العقلى نفسه، والجيشان العاطفى القلبى، أو تعرفنا معرفة يقينية بأسماء الله تعالى الحسنى وصفاته العلا، أو تقدم لنا الإشباع العقلى عن العالم الذى لا سبيل للعقل فى الوصول إليه بمنهج الاستقراء المادى التجريبى، فتقدم لنا أخبارا هى الحق والصدق واليقين عن عالم الغيب وما فيه، وعن مصير الإنسان بعد لقاء ربه، عن قبره وبعثه وجزائه، وجنته وناره، وما أعد من نعيم لأهل الجنة يأخذ باللب، ويدفع إلى المسارعة فى الخيرات، وما توعد به أهل الكفر والمعاصى من صنوف العذاب لكى تحجز الكفر وأهله من العبث فى هذه الحياة الدنيا، وإفسادها بالظلم للنفس
1 / 5
وللآخرين من المستضعفين.
أو تقدم لنا ترشيدا وتوجيها لأخلاقنا حتى نصل إلى مكارم الأخلاق، ولعلاقاتنا حتى نصل إلى مجتمع المودة والرحمة، أو لمكانتنا بين الأمم لنصل إلى مكانة العزة والمنعة والهيبة، أو لمسيرتنا الاقتصادية حتى لا نأكل أموالنا بيننا بالباطل، وحتى نسعى جادين فى حرث الأرض، وتطوير الصناعات، والتعاون على البر والتقوى بتحقيق التكامل الاقتصادى الذى يغنى الأمة عن غيرها ويحررها من التبعية أيا كان شكلها، أو يقدم لنا نظام القسط والعدل فى الحكم بين الناس فلا ظلم ولا ميل مع العصبية أو الهوى.
إنها حياة فى أرقى صورها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ [الأنفال: ٣٤].
إن العيش فى رحاب تاريخ نزول القرآن الكريم نعمة تجمع لنا متعة التدبر لوحى الله فى تنزيله القرآنى أى فى كلامه الكريم المتلو المعجز والذى تعبدنا بتلاوته، وأثابنا على ذلك بوعده الذى جاء فى حديث رسوله ﷺ بمنح عشر حسنات على الحرف الواحد من كلامه. «اتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته؛ كل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها؛ لا أقول «الم» حرف، ولكن «ألف» حرف، و«لام» حرف، و«ميم» حرف».
وتجمع لنا كذلك متعة العيش فى ظلال السنة المطهرة، وكيف كان رسول الله يتلقى الآيات القرآنية بترتيب نزولها؟ كيف حفظها؟ وكيف عمل بها؟ وكيف حفظها لأصحابه؟
وكيف دونت؟ وكيف عمل بها أصحابه؟.
أى كيف تم التفاعل مع الوحى فى تنزلاته بطريقته؛ الكتاب والسنة؟ باعتبار السنة البيان الذى أوحاه الله لنبيه، وصاغه الرسول بأسلوبه، وهو أفصح العرب وأبلغهم، بما يتناسب مع حال المبين لهم. وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: ٤٤].
وكيف كان أصحاب النبى ﷺ يتفاعلون مع الوحى؟ حرصا على السماع، وفهما لما يسمع، وحفظا لما فهم، وعملا بما حفظ، وكيف ظهرت فيهم ثمرات الوحى؟ فصاروا كما وصفهم الوحى المنزل المعجز بقوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانًا سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح: ٢٩].
إننا بهذه المدارسة لتاريخ نزول القرآن الكريم سنتعرف على مسيرة الوحى المبارك فى
1 / 6
ثلاثة وعشرين عاما، هى عمر النبى ﷺ منذ أن أوحى إليه إلى أن لحق بالرفيق الأعلى، سنقرأ فيها قصة الوحى، وصفحة الحياة مرتبطة بالمصدرين العظيمين؛ الكتاب والسنة، ولا يخفى ما فى هذا من خير عظيم لحياتنا المعاصرة لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (٢١) [الأحزاب].
وعلينا فى هذه المدارسة إن شاء الله تعالى أن نبدأ ببيان الطريق الذى جاء به القرآن الكريم وهو طريق الوحى لنتعرف عليه.
ما معناه لغة واصطلاحا؟
وما صور تكليم الله لأحد من خلقه فى مثل قوله الكريم: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) [الشورى].
وما مراتب الوحى، وصوره التى تحققت للنبى ﷺ؟
وما صور نزول القرآن الكريم عليه؟ والرد على الشبهات فى ذلك.
وما تنزلات القرآن الثلاثة، ونزوله على الرسول ﷺ مفرقا؟ وما حكمة ذلك وتحديد أولى الآيات المنزلة، وختام الآيات المنزلة، ومتابعة نزول الآيات والسور فيما بين ذلك.
نسأل الله أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، وشفاء صدورنا، وجلاء همومنا وأحزاننا ... وصلّ اللهم على سيدنا محمد.
أ. د. محمد رأفت سعيد
1 / 7
التعريف بالوحى
إن كلمة الوحى تطلق فى اللغة ويراد بها مجموعة من المعانى نجملها فيما يلى:
الوحى يطلق على الإعلام فى خفاء وفى سرعة، فأما أصل الخفاء والسر فيمثل له بتسمية الإلهام وحيا، ومنه قوله تعالى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ [الأنعام: ١٢١]. أى يوسوسون فى صدورهم، وهذه الوسوسة من الشيطان تعرف؛ لأن حديث الشيطان وأمره فى الصدر قد كشفه القرآن الكريم وبينه، وحذرنا منه، وأعاننا عليه، فأما الكشف والتحذير فمثاله قوله تعالى. يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩) [البقرة]. فأى حديث فى النفس يأمر بالسوء، أو يأمر بالفحشاء، أو يشكك فى عقيدة، أو يحدثك عن الله بغير ما جاء فى كتابه الكريم وسنة رسوله فإنما هو حديث الشيطان ووحيه ووسوسته، وأما الإعانة عليه فأرشدنا القرآن إلى الاستعاذة بالله عند ما ينزغ الشيطان: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف: ٢٠٠] «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»، أو «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم». وأرشدنا إلى أن الشيطان خناس فلا يمكث فى مكان يذكر فيه اسم الله، ولا يقوى على الاستمرار فى صدر تقى يعمر بذكر الله. إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) [الأعراف]، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلهِ النَّاسِ (٣) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (٤) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (٦) [الناس]، ولا يخفى ما فى وسوسة الشيطان بهذا المعنى من خفاء وسرعة تدخل على الغافلين وتدفعهم إلى السوء إن استجابوا لوسوسته ولم يدفعوها باللجوء إلى الله وذكره.
وأصل السرعة فى كلمة الوحى لغويا كذلك جعل تسمية الخط وحيا لسرعة حركة اليدين لكاتبه، ووحى الحاجب واللحظ سرعة إشارتهما، ومنه «الوحا» أى السرعة.
ومن المعانى اللغوية كذلك للوحى: الإلهام الفطرى، والإلهام الغريزى الذى يتضمن معنى التسخير.
ومثال الإلهام الفطرى قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ
1 / 9
فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) [القصص] فهذه المعانى العظيمة التى تجمع أمرين، ونهيين، وبشارتين تمت لأم موسى فى موقف مخيف عصيب عن طريق الوحى، بمعنى إلقاء هذه المعانى فى قلبها، وتبعها حركة وسلوك وعمل يبين كيف أن هذا الإلقاء فى القلب، والإلهام له قوة الأمر الصادر المباشر والمواجه بالمعاينة لأم موسى، فبمقتضى هذا الإلهام كان ربط الله على قلبها؛ حتى لا يعصف به الخوف من فرعون وعمله فى قتل الأطفال، وابنها طفل منهم؛ فلم يظهر عليها ما ينبه إلى وجود طفل تخفيه، وبهذا الإلهام أرضعته كما ترضع الأم طفلها؛ إبقاء على حياته، وهذا أقصى ما تستطيعه أم موسى. وبهذا الوحى تؤمر بما يستوقفنا للتدبر واستخراج العظة والاعتبار. فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ، كنا نتوقع أن يكون الخطاب: إن خفت عليه فابذلى أقصى جهدك فى إخفائه، ولكن الإلهام كان إلى غير ذلك: فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ.
وكان موقف القرآن الكريم- هنا- يعلمنا أن الإنسان فى مواجهته للأمور- مهما كانت شدتها- عليه أن يبذل أقصى ما يستطيعه، مستعينا ومتوكلا فى بذله هذا على ربه، دون كسل أو خمول، وأما ما لا يستطيعه بعد ذلك فإن توكله هذا سيحول مصدر الخطر إلى مصدر أمان، كما حول الله البحر الهائج المخيف الذى تملأ أمواجه القلوب رعبا إلى حصن دافئ، ومكان أمين للطفل موسى. فتصنع له الصندوق بمقتضى هذا الإلهام، وتلقيه فى اليم، وتأمر أخته بأن تقص أثره لتجد أن الصندوق تحمله الأمواج إلى مصدر الخطر نفسه؛ إلى البيت الذى صدر فيه الأمر بقتل الأطفال، وموسى طفل، إذن يعلو صوت فرعون: «اقتلوه»، ولكن يلقى الله محبة موسى فى قلب زوج فرعون فتصدر أمرا آخر: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ [القصص: ٩] وينتصر أمر الزوجة، ويبقى موسى، ولكن كيف يتحقق الإلهام الآخر لأم موسى بالبشرى فى رد موسى إلى أمه؟
تعرض المراضع على موسى فيعرض عنهن، ويشار على بيت فرعون بأنه بقيت امرأة لم تأت بعد وهى أمه، وجىء بها، وعرض عليها الطفل، وأقبل على ثديها. فقيل لها:
امكثى فى البيت لترضعيه، فأبت لأنها مطمئنة إلى ما ألهمت به إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ، وتعللت بشغل بيتها، فأخذت طفلها معها وعادت إلى بيتها وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) [طه]، ويظل حتى يصير من المرسلين.
فهذه المعانى تحققت عن طريق هذا المعنى من الوحى.
وأما مثال الإلهام الغريزى الذى يحمل معنى التخيير ففي قوله تعالى: وَأَوْحى
1 / 10
رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩) [النحل].
ومن المعانى اللغوية كذلك الإشارة، وذكر هذا فى قوله تعالى: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١) [مريم] هذا وقد يطلق لفظ الوحى ويقصد به الموحى به.
وأما معنى الوحى اصطلاحا فهو: إعلام الله تعالى لنبى من أنبيائه بحكم شرعى ونحوه؛ فالموحى هو الله سبحانه، والموحى إليه نبى من أنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم جميعا، والموحى به حكم شرعى من أمر أو نهى ونحو هذا مما يوحى به الله تعالى من أنباء من سبق وما حدث لهم، وما سيأتى، وما يبنى عقيدة التوحيد خالصة نقية، وما يؤسس الخلق الكريم ويغرى بالتحلى به، وما ينفر من رذائل الأخلاق، وما يقيم مجتمعا فاضلا على حسن العبادة لله وحسن التعامل فيما بينهم.
ومن فضل الله على خلقه أن اصطفى منهم من يقوم بتبليغ وحيه إليهم حتى يسيروا فى حياتهم على هدى، وحتى لا يضلوا: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) [آل عمران].
ويوحى الله إلى خلقه ما يسعدهم فى جميع فتراتهم الزمنية، وما يناسب بيئاتهم المكانية، حتى كان وحيه إلى خاتمهم ﷺ يحمل من خصائص الاستمرار ما يجعله معطاء لكل الأجيال إلى قيام الساعة.
ويذكرنا الله سبحانه بهذه المنة على خلقه جميعا فى خطابه لرسوله ﷺ فى قوله الكريم: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُورًا (١٦٣) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيمًا (١٦٤) [النساء].
فهؤلاء ممن اصطفى الله، وذكر الله تعالى أسماءهم، وقص علينا من أخبارهم، وما أوحى به إليهم، وكيف كان حال أقوامهم معهم، لنفيد من هذه التجارب باعتبارنا الأمة الأخيرة فى حياة الأمم. وهذه المجموعة من صفوة البشر ليسوا وحدهم، بل هناك آخرون قاموا بهذه المهمة، وأوحى الله إليهم ولم يقصصهم علينا ربنا.
وما قصّه علينا فيه الجمع المفيد لكل طبائع البشر وكيف كان حالهم مع الوحى؛ فمنهم من استجاب ونجا، ومنهم من فتن بماله، ومنهم من فتن بجاهه، ومنهم من فتن
1 / 11
بما أوتى من بنين وذرية، ومنهم من فتن بشهواته المتعددة، وكانت عاقبتهم هلاكا وخسرانا.
والأمة الخاتمة تقرأ كل هذا فى صفحة السابقين فيما أوحى به إلى النبى الخاتم ﷺ:
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤) [آل عمران].
ولكن كيف كلم الله هؤلاء وهم صفوة البشر؟.
لقد ذكر القرآن الكريم لنا ثلاثا من الصور التى يكلم الله بها من شاء من البشر فقال تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) [الشورى].
فالصورة الأولى: من تكليم الله لمن شاء من البشر تكون بإلقاء المعنى الذى يريده الله فى نفس من شاء، وهذا معنى الإلهام، أو الإلقاء فى الرّوع، أو النفث فى الرّوع.
الصورة الثانية: أن يكلم الله نبيا من أنبيائه من وراء حجاب، كما كلم الله موسى ﵇ وناداه، وسمع موسى نداءه دون أن يراه؛ لأن الرؤية لا يطيقها البشر، ومن حكمة الله ولطفه بخلقه أنهم لا يرونه فى هذه الدنيا، وإلا لأمسكهم الخوف فلا يتحركون لعمل أو أكل أو غير ذلك من مقتضيات البشرية، ويكفى أن يرى الخلق مظاهر القدرة وآيات الإبداع والنظام فى مخلوقاته، فله فى كل شىء آية تدل على أنه القادر، وفى أنفسنا وما بث فى أرضنا من دابة، وما خلق فى السموات آيات تنطق بالحق: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) [آل عمران].
على أن المؤمنين سيمتعون إن شاء الله برؤية ربهم فى الآخرة: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) [القيامة].
ولذلك لما طلب موسى ﵇ فى تكليم الله له أن يرى ربه وقال: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي [الأعراف: ١٤٣]. وأراه آية العجز البشرى فى هذا الجانب وأنه لا يقوى على ذلك، فقال جل شأنه لموسى ﵇: وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقًا [الأعراف: ١٤٣].
فالجبل لم يقو على تجلى الله سبحانه له وجعله دكا، ورؤية موسى ﵇ لتجلى
1 / 12
الله للجبل جعلته يخر صعقا، فكيف لو كان التجلى مباشرا؟
وأما الصورة الثالثة: فى تكليم الله لمن شاء من خلقه فتكون فى إرسال ملك الوحى إلى نبى من أنبياء الله، ليلقى إليه ما كلف بتبليغه، وهذا الملك هو الناموس أى صاحب السر، والذى وصف بالقوة والأمانة، وهما صفتان ضروريتان للاطمئنان على مسيرة الوحى إلى أنبياء الله ورسله، فقد وصف جبريل ﵇ بقول الله سبحانه فيه:
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) [النجم]، ووصفه بقوله الكريم: مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) [التكوير]، كما وصف بقوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) [الشعراء]. وملك الوحى قد يراه النبى فى صورته التى خلق عليها، وقد يأتيه فى صورة رجل يكلمه، وفى هذه الحالة يراه الحاضرون ويسمعون قوله، وقد ينزل خفية فلا يراه الحاضرون، ولكن يشاهدون آثار الوحى على النبى ﷺ وقت نزوله.
هذه صور الوحى الثلاث التى ذكرت فى قوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) [الشورى] فماذا تحقق لرسول الله ﷺ منها؟ وما مراتب الوحى معه؟
1 / 13
صور الوحى وما تحقق منها لرسول الله ﷺ
لقد تحقق لرسول الله ﷺ من صور الوحى ومراتبه ما سنذكره تفصيلا على ما يلى:
أولا: الرؤيا الصادقة فى النوم. وهى أول ما بدئ به رسول الله ﷺ من الوحى، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، كما جاء فى رواية أم المؤمنين عائشة ﵂، والتى أخرجها البخارى ﵀.
وإذا كان ما يراه النائم إدراكا يقوم بجزء من القلب لا يحله النوم فإن الأنبياء لا يستولى النوم على قلوبهم، ولا على جزء منها، ولذلك فإن الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، وما يرونه فى نومهم ليس من أضغاث الأحلام؛ ولا يستطيع الشيطان أن يعبث بقلوبهم، ولا أن يريهم فى نومهم أحلاما كالتى يمكن أن يقوم بها الشيطان لإزعاج النائمين من البشر، فما يراه الأنبياء فى نومهم حق ووحى يوحى الله به لرسله، وقد حكى لنا القرآن الكريم نماذج من هذه الصورة فهذا خليل الرحمن إبراهيم ﵇ يرى فى المنام أنه يذبح أحب الناس إليه إسماعيل، ويقول لإسماعيل حاكيا له رؤيته: إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى [الصافات: ١٠٢]، ولكن قد يسأل سائل إذا كنا نقول إن رؤيا الأنبياء وحى وحق، وإبراهيم أبو الأنبياء يعرف هذا فلماذا يسأل ابنه ويطلب نظره ورؤيته فى وحى واجب التنفيذ؟
والجواب عن ذلك: إن إبراهيم ﵇ يرى أن الرؤيا حق وأنه واجب التنفيذ والطاعة، ولكن التنفيذ والطاعة هنا لا تتعلق به وحده، وإنما تتعلق بطرف آخر له إرادته وله اختياره وله رأيه، ولكن هل يتوقع من إسماعيل أن يكون رأيه ونظره مخالفا لحالة أبيه؟ إن إسماعيل بن إبراهيم وابن هاجر وهما الوالدان المسلّمان التسليم الكامل لأمر الله ﵎؛ فإبراهيم سلم الأمر لله، وجاء بأحب الناس وأضعف الناس وهما الزوجة هاجر والطفل إسماعيل إلى واد وصفه القرآن الكريم بأنه: بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [إبراهيم: ٣٧] تنفيذا لأمر ربه، ولما هم بالانصراف سألته زوجته: لمن تتركنا يا إبراهيم؟ وإبراهيم يجد المكان بلا بشر يأنس الإنسان بالإقامة معهم ومشاركتهم حياتهم، وهذا معنى دعاء إبراهيم: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [إبراهيم: ٣٧].
1 / 14
وتقطع هاجر صمت إبراهيم وتريحه من مشقة الإجابة وتقول له: آلله أمرك بهذا؟ قال إبراهيم: نعم، قالت: إذن لن يضيعنا، وهذه الكلمة من الأم هاجر قمة الحكمة، وقمة التسليم فلا ضياع لإنسان وهو يطيع أمر ربه، ولا ضياع لمن سلم أمره لخالقه. وهذا ما تحقق، فما ضاعت هاجر، وما ضاع إسماعيل، بل كان فى تسليمهما الخير والبركة وعمران المكان عند بيت الله المحرم، فهل يتوقع من إسماعيل أن يكون على خلاف حال أمه، وحال أبيه؟ وعلى ذلك كان قول إسماعيل لإبراهيم: يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) [الصافات]. فقول إسماعيل كقول أمه فى التسليم: يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ. أى أنه ما دام مأمورا فلا مجال للنظر ولا للرؤية. بل الفعل الفورى والتنفيذ لأمر الله، ويزيد إسماعيل أبيه عونا على طاعة ربه فى أحب الناس لديه: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢). أى لن تسمع منى كلمة تثير فيك عطفك، ولن ترى منى حركة تثير فيك رحمة الأبوة، وتؤثر فى تنفيذك لأمر ربك.
فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) [الصافات]، وأصبح إسماعيل فى موضع الذبح، ووضع إبراهيم السكين نودى أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، وفدى الله إسماعيل بالذّبح العظيم، فهذا البلاء العظيم، وهذا الأمر الخطير تم عن طريق الرؤيا لإبراهيم ﵇.
وقد ذكر القرآن الكريم نموذجا منها مع رسول الله محمد ﷺ فى قوله تعالى:
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ [الفتح: ٢٥].
ولقد تم الفتح المبين على ما رأى رسول الله ﷺ فى رؤياه الحق على الرغم مما سبق الفتح من أحداث، وشروط أوغرت صدور المسلمين وكانت شروطا فى ظاهرها الظلم ولكنها كانت فتحا وتمهيدا له أيقن به رسول الله ﷺ، فقبل الشروط، ومنها أن يعود المسلمون عام الحديبية دون دخول مكة وزيارة البيت الحرام، وهذا سبّب غضبا شديدا لدى المسلمين، ورغبة فى مقاومة ظلم الكافرين بدخول مكة ولو حربا، فلم يعطى المسلمون الدنية فى دينهم؟ ولكن اطمئنان
رسول الله ﷺ لوعد ربه جعله يرضى بما أملاه المشركون من شروط، وأمر أصحابه أن يذبحوا هديهم، ولكن الغضب ما زال مسيطرا، وغضب الرسول ﷺ، ولكن أم المؤمنين أم سلمة ﵂ تذكر له حب أصحابه
1 / 15
له، وطاعتهم لأمره واقتداءهم به فى فعله، وأشارت بأن يخرج ويذبح هديه، وسيفعلون مثل فعله، وكانت مشورة طيبة؛ ذبح الرسول الكريم هديه، فذبح أصحابه، وحسم الموقف.
وتحقق وعد الله لرسوله، وصدق الله رسوله الرؤيا بالحق، وتحولت الشروط الظالمة إلى تمهيدات للفتح المبين، ومن نماذج ذلك: أن الشرط الذى قيل فيه من أسلم من أهل مكة وهاجر إلى النبى ﷺ فعليه أن يعيده، وأما من جاء من المدينة إلى مكة فلا يرجعونه، فقد تحول إلى صالح المسلمين حيث كان المسلم الذى يهاجر من مكة إلى المدينة- بعد الصلح- يجد حرص الرسول ﷺ على الوفاء بالعهد، فلا يستطيع البقاء فى المدينة، ولا يحب أن يعود إلى المشركين بمكة، فيذهب إلى مكان آخر اختاره هؤلاء فى موقع استراتيجى على طريق تجارة المشركين، وتكونت قوة مسلمة تهدد مصالح المشركين، مما جعلهم يطلبون تغيير هذا الشرط الذى وضعوه بأنفسهم.
إن الرؤيا التى رآها رسول الله ﷺ فى دخول المسجد الحرام مع أصحابه آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين كانت وحيا تحقق لرسول الله ﷺ، وهذه هى الصورة الأولى والمرتبة الأولى من مراتب الوحى التى تحققت لرسول الله ﷺ.
1 / 16
رؤية النبى ﷺ للملك
المرتبة الثانية: التى تناولها تتمثل فى رؤية النبى ﷺ للملك فى صورته التى خلق عليها، ولقد ذكر القرآن الكريم المرتبتين فى قوله تعالى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) [النجم]. فهذه هى المرة الأولى. وأما الثانية فذكرت فى السياق نفسه فقال تعالى: أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨) [النجم].
فالمرة الأولى كانت فى بداية الوحى والتى جاء ذكرها فى حديث أم المؤمنين عائشة ﵂ والتى أخرجها الإمام البخارى ﵀. حيث قالت: «أول ما بدئ به رسول الله ﷺ من الوحى الرؤيا الصادقة فى النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه- وهو التعبد- الليالى ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، فيتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو فى غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذنى فغطنى- أى ضمنى وعصرنى- حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ فأخذنى فغطنى الثالثة ثم أرسلنى فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥) [العلق]. فرجع بها رسول الله ﷺ يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زملونى زملونى. فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسى، فقالت خديجة: «كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك تصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الدهر».
1 / 17
ثم انطلقت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان شيخا قد عمى، وله اطلاع على كتب الأقدمين، فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فأخبره النبى ﷺ خبر ما رأى، فقال له ورقة: قدوس، هذا هو الناموس (أى صاحب السر) الذى أنزل على موسى، ليتنى أكون حيا إذ يخرجك قومك، قال النبى ﷺ:
«أو مخرجيّ هم؟»، قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودى، وإن يدركنى يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم يلبث ورقة أن توفى، وفتر الوحى.
هذه هى المرة الأولى التى رأى الرسول ﷺ فيها جبريل ﵇ فى هيئته الملكية يملأ الأفق، ولا شك أن هذه الرؤية الأولى أحدثت فى نفس النبى ﷺ الروع، وجعلته يرجع إلى خديجة ﵂ يرجف فؤاده، ويقول: زملونى، ويغطونه حتى ذهب عنه الروع، وذهبت خشيته على نفسه، ولا شك أن رؤية الملك فى صورته الملكية لأول مرة تحدث مثل هذا مع رسول الله ﷺ، ولكن ما ذكر من رجف الفؤاد والروع والخشية على النفس، لا تذهب وعى رسول الله ﷺ وحفظه لما قال جبريل، وما بلغه، بل وصف ما حدث له بدقة، واتضح ذلك فى حكاية ما حدث لخديجة ﵂، وحكاية ذلك أيضا لورقة بن نوفل؛ حيث أخبره خبر ما رأى، وكيف قال له: اقرأ، وكيف أخذه وضمه ضمة شديدة حتى بلغ منه الجهد، مع ذكر عدد الضمات على شدتها، وكان فى هذه المرة تبليغ جبريل لأولى الآيات المنزلة من القرآن الكريم فى شهر رمضان، وفى الليلة المباركة التى هى ليلة القدر. قال تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [البقرة: ١٨٥]. وقال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) [الدخان]، وقال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥) [القدر]. وسنحقق إن شاء الله هذه المسألة فى تحديد أول ما نزل من القرآن فى حينه، غير أن الذى نرى أن نؤكده أن ضبط ما بلغ مع هذا الروع كان فى أحسن حالاته: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ
وَقُرْآنَهُ
(١٧) [القيامة]، فقراءة النبى، وحفظه لما يوحى إليه، بإذن ربه، وبفضله، وتوفيقه، وقوته:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) [العلق].
وتعليق أم المؤمنين خديجة ﵂ على هذه الرؤية الأولى وما صحبها من الروع والخشية والرجفة ليس من قبيل ما اعتاده الناس فى مثل هذه الحالات، فمثل النبى ﷺ
1 / 18
وما يتصف به من شمائل لا يخزيه الله أبدا؛ فهو الذى يصل الرحم، ويعين الضعفاء، ويعطى المحتاجين، ويأخذ بأيديهم، ويكرم الضيف، ويعين على المصائب التى تقع على الناس، ومن يفعل هذا صاحب نفس مطمئنة، وقلب سليم، فما يجده إنما يكون من روعة اللقاء الأول مع جبريل فى هيئته الملكية.
وأما الرؤية الثانية التى رأى فيها الرسول ﷺ جبريل ﵇ على هيئته، ففي ليلة المعراج، عند سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى، ولم يأت فى حديث النبى ﷺ ما يفيد أنه خشى، أو رجف فؤاده، من هذه الرؤية الثانية، وهذا يدعم ما ذهبنا إليه من روعة اللقاء الأول، وعلى الصورة التى فصلناها. وفى الثانية كذلك كانت الرؤية مصحوبة بالوعى التام، ما زاغ البصر من النبى ﷺ، وما مال بصره عن مرئيه المقصود له ولا جاوزه تلك الليلة.
هذه هى المرتبة الثانية من مراتب الوحى وصوره التى تحققت للنبى ﷺ، وهى مجىء ملك الوحى على هيئته الملكية.
1 / 19
صورة مجىء ملك الوحى فى هيئة رجل
وهى صورة أخرى من صور الوحى مع النبى ﷺ، يتكلم معه الملك فى مشهد من أصحاب النبى ﷺ. ويعنى هذا أن الجالسين يرونه، ويسمعون قوله، يتضح ذلك بتأملنا فى الحديث الذى رواه عمر بن الخطاب ﵁ قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله ﷺ ذات يوم إذ طلع علينا رجل، شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبى ﷺ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد: أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله ﷺ: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا»، قال:
صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: فأخبرنى عن الإيمان، قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره»، قال:
صدقت، قال: فأخبرنى عن الإحسان، قال: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، قال: فأخبرنى عن الساعة، قال: «ما المسئول عنها بأعلم من السائل»، قال: فأخبرنى عن أماراتها، قال: «أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاة يتطاولون فى البنيان»، قال: ثم انطلق فلبثت مليا، ثم قال لى: «يا عمر أتدري من السائل؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» «١».
ففي هذا الحديث الجامع الذى قال عنه القاضى عياض ﵀ فيما حكاه النووى، فى شرحه للحديث فى صحيح مسلم: «وهذا الحديث قد اشتمل على شرح جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة؛ من عقود الإيمان، وأعمال الجوارح، وإخلاص السرائر، والتحفظ من آفات الأعمال، حتى إن علوم الشريعة كلها راجعة إليه، ومتشعبة منه، قال: وعلى هذا الحديث وأقسامه الثلاثة ألّفنا كتابنا الذى سميناه ب «المقاصد الحسان فيما يلزم الإنسان»؛ إذ لا يشذ شىء من الواجبات والسنن والرغائب والمحظورات والمكروهات عن أقسامه الثلاثة، والله أعلم «٢».
_________
(١) صحيح مسلم ١٥٧ - ١٦٠.
(٢) صحيح مسلم بشرح النووى ١/ ١٥٨.
1 / 20
ففي هذا الحديث جاء جبريل فى صورة رجل يعلم الجالسين على لسان رسول الله ﷺ أمور دينهم، فى صورة سؤال وجواب، وهى طريقة لطيفة تيسر توصيل المفاهيم وتثبيتها، وتعين على حفظها، كما أن مجىء جبريل فى صورة رجل ليعلم الجالسين وغيرهم أدب طلب العلم فى حسن الجلوس وحسن المتابعة والإنصات، وهذه مهمة أساسية فى الإسلام فالرسول الكريم بعث معلما للعالمين، وهذا العلم الذى يعلمه هو علم النجاة، وأصحابه هم حملة هذا العلم عنه، وهم المبلغون له من بعده، ولا بدّ من حسن المنهج والسير عليه فى تلقيهم لهذا العلم وتبليغه فكانت مهمة جبريل ﵇ فى أداء هذا الدرس العملى. والذى يحكى لنا هذا المشهد صحابى جليل من تلاميذ مجالس النبى الكريم العلمية، إنه عمر بن الخطاب ﵁، ووصفه للمجلس كان دقيقا، ورؤيته للسائل وطريقة سؤاله كانت دقيقة، أشعرنا فيها منذ قراءتنا الأولى للحديث أن السائل ليس رجلا عاديا. فالرجل- كما جاء فى وصف عمر- طلع عليهم وهم جلوس عند رسول الله ﷺ، ولا يعرفه من الجالسين أحد، ومعنى ذلك أنه غريب عن المكان، ويقتضى ذلك أنه قادم من سفر، ولكن المدهش أنه لا يرى عليه أثر السفر؛ لا فى ثيابه، ولا فى شعره؛ فثيابه وصفت بأنها شديدة البياض، وشدة البياض مع السفر تجعل أثر الغبار واضحا مهما كان يسيرا، فالبياض يظهره، وكذلك الشعر، شديد السواد، لا أثر لغبار الطريق عليه، وبعد وصف عمر للرجل فى ذاته، يصفه فى هيئته التعليمية؛ حيث جلس إلى النبى ﷺ جلسة الأدب، فاقترب من المعلم حيث أسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، كما يضع الإنسان وهو جالس للتشهد، وأخذ يسأل، ويتابعه عمر فى أسئلته ليقدم لنا تعجبا آخر يشعرنا به أن شيئا وراء هذا الرجل، فسأل عن الإسلام، ولما أجابه النبى ﷺ قال له الرجل: صدقت. وسبب التعجب أن هذا خلاف عادة السائل الجاهل، وإنما هذا كلام خبير بالمسئول عنه، ولم يكن فى ذلك الوقت من يعلم هذا
غير النبى ﷺ، ولذلك قال عمر: فعجبنا له يسأله ويصدقه، وصدق عمر فى تعجبه وتوقعه فالرجل ليس عاديا، فإنه لما انتهى من أسئلته وانصرف وطلب النبى ﷺ أن يردوه لم يجدوا أحدا، أى أنه منذ تركه للمجلس قد اختفى عنهم، فليس غريبا مسافرا، وليس بشرا منهم، بل جاء على صورة بشر ليقوم بهذه المهمة، قال الرسول لهم: «إنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم».
ووصف عمر يفيد أن جبريل ﵇ عند ما كان يأتى فى هذه الصورة البشرية ليعلم جديدا، أو ليراجع ما علم، أو غير ذلك كان مشاهدا يسمعه الجالسون ويرونه، وهذه
1 / 21
صورة من صور الوحى ومرتبة من مراتبه تم فيها بيان معنى الإسلام، ومعنى الإيمان ومعنى الإحسان، وبيان مصير الإنسان فيما يتعلق بالساعة وعلاماتها.
وإذا كان جبريل قد أتى إلى النبى ﷺ فى صورة رجل فإنه قد يلقى ما لديه من معانى فى روع النبى ﷺ بدون أن يتمثل له رجلا، وهذه صورة أخرى من صور الوحى.
1 / 22
النفث فى الرّوع
والنفث لغة: قذف الريق القليل، وهو أقل من التفل، كما ذكر الراغب فى مفرداته، ويرى الإمام البغوى أن النفث شبيه بالنفخ، والروع: الخلد والنفس، والمعنى هنا أن ملك الوحى- وهو الروح الأمين، أو الروح القدس- يلقى المعنى من غير أن يراه، ولنتأمل معنى من هذه المعانى التى جاءت عن مثل هذا الطريق، وهذه المرتبة.
قال النبى ﷺ: «إن روح القدس نفث فى روعى أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله، وأجملوا فى الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته». وهذا حديث صحيح بشواهده، أخرجه أبو نعيم فى الحلية من حديث أبى أمامة، وفى سنده عفير بن معدان وهو ضعيف وباقى رجاله ثقات، وأورده الهيثمى فى مجمع الزوائد، ونسبه للطبرانى فى الكبير وأعله بعفير بن معدان، لكن له شاهد من حديث ابن مسعود عند الحاكم، وآخر من حديث جابر عند ابن ماجة وابن حبان والحاكم كذلك، وأبى نعيم فى الحلية، وله شاهد ثالث من حديث حذيفة عند البزار. فيصح الحديث بها «١».
وهذا المعنى الذى ألقى فى روع النبى ﷺ من المعانى العظيمة التى توجه الإنسان وترشده فى أخطر القضايا التى قد تزعجه وتقلقه، والتى تقوم الصراعات الدموية حولها نتيجة الجهل بحقيقتها. إنها قضية الرزق وطلبه، فجبريل ﵇ يلقى فى قلب النبى ﷺ بهذه الحقيقة، فالرزق مقسم ولا بدّ أن تصل إلى كل نفس قسمتها، ولن تموت حتى توفى مالها من هذه القسمة، فأما قسمة الرزق فقد جاء ذكرها صريحا فى قول الله تعالى ردا على من زعم لنفسه جدارة التنزيل عليه- أو على عظيم آخر- على مقياس العظمة الذى تخيلوه فى المال الكثير والجاه العريض، حتى يخيل إليهم أن الإنسان لا يكون أهلا لأى مكرمة إلا على أساس حجم ما يملك من هذه، ولو كانت هذه المكرمة وحيا من الله، قال تعالى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا
_________
(١) زاد المعاد ١/ ٧٩.
1 / 23
بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢) [الزخرف] فمسألة الرزق- إذن- بيد الرزاق ذى القوة المتين وحده وقد قسمه بين خلقه فيبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وأمرنا بالسعى والحركة والعمل الجاد النافع، ليكون جلب هذه القسمة حلالا يوافق ما يرضيه سبحانه، ولن يموت الإنسان إلا وقد استوفى ما كتب الله له من رزق، وما قدر له من مأكول ومشروب وملبوس وغيره.
فإذا كان الأمر كذلك فليطمئن الإنسان إلى هذا الوعد الكريم الذى جاء فى هذه الصورة من صور الوحى، ويتقى الله ويجمل فى الطلب، أى لا يطلب هذا الرزق المقسوم إلا من طريق جميل أحله الله، ومن كسب مشروع أباحه الله، على أن الإنسان يخطئ عند ما لا يفرق بين رزق حلال يغطى حاجاته ومسئولياته وما يتزين به فى حياته، وهذا يكفيه الحلال؛ لأن حاجات الإنسان محدودة؛ فليست له أكثر من بطن للطعام والشراب، وبدنه محدود، وحاجاته إذن محدودة يغطيها ما أحل الله من رزق، ولكن ينسى الإنسان ولا يفرق بين هذا المعنى وبين جمع المال وتكثيره حتى يصير حبه للمال حبا جما يدفعه إلى طلب المزيد منه للتكاثر فقط، وعندئذ لا يبالى؛ من حلال جمعه أم من حرام. فعن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: انتهيت إلى رسول الله ﷺ وهو يقرأ هذه الآية: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) [التكاثر]، قال: «يقول ابن آدم مالى، وهل لك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت». أخرجه مسلم والترمذى والنسائى وأحمد «١».
وهذا الجمع الكثير للمال وبهذه الكيفية؛ أى بغير مبالاة من حرام أم من حلال يدل على حماقة وجهل بحقائق الأمور؛ فإنه بهذا الحب يجمع الكثير ويبخل به فلا ينفق احتسابا فى وجوه البر، وقد لا ينفق على نفسه، فيصير هذا الجمع لغيره، ويصبح هم الطلب له، والانتفاع بالمال لغيره، وعليه بعد ذلك حمل السؤال عنه، ويتضح لنا هذا المعنى من السؤال النبوى الكريم الذى وجهه الرسول ﷺ لأصحابه فى قوله: «أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه؟» قالوا: يا رسول الله ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال: «اعلموا ما تقولون»، قالوا: ما نعلم إلا ذلك يا رسول الله، قال: «ما منكم رجل إلا مال وارثه أحب إليه من ماله»، قالوا: كيف يا رسول الله؟
قال: «إنما مال أحدكم ما قدّم، ومال وارثه ما أخّر». حديث صحيح «٢».
فإذا أدرك الإنسان هذه الحقائق، وعرف قسمته، وأنها بيد خالقه اتقى الله واكتفى
_________
(١) انظر: شرح السنة النبوية ١٤/ ٢٥٨.
(٢) شرح السنة ١٤/ ٢٥٩، ٢٦٠.
1 / 24