أما حافظ إبراهيم فكان من الجواهر التي لا تزال تلمع وتسطع في ذكريات جميع الذين عرفوه. وكان يمتاز أو يتسم بوجه كالح متجهم يصدم بل يخيف لأول نظرة، حتى إذا قضى معه الإنسان نصف ساعة ود لو ينهض ليقبله ويعانقه. فقد كان أنيسا يحدثك بنكات، بالمعنى العربي القديم لهذه الكلمة. وكان وطنيا يطابق بين أمانيه وأماني الدهماء من الفلاحين والعمال والمتوسطين. وأذكر من نكاته أني سألته ذات مرة عن رأيه في أحد الشعراء، فكانت إجابته العجيبة: «إن أشعاره يجب أن تنسى عن ظهر قلب.» وهو عندي ذكرى تترنم بها نفسي.
وليس هناك مفر من المقارنة بين شوقي وحافظ ومطران؛ فإن دراسة هؤلاء الثلاثة تدل على التيارات المتناسقة والمتناقضة في المجتمع المصري في الخمسين من السنين الأخيرة. فإننا نحس أحيانا في قصائد شوقي ومقطوعاته جو الترف المصري الذي أوشك على الزوال: السجاجيد الإيرانية، وصينية القهوة الفاخرة يحملها عبد أسود، والمقاعد الناعمة والحجاب، حجاب المادة والروح. أما أشعار حافظ فصرخات المتألم، وأحيانا مهاترات العاجز. ونحن نقرؤها فنصرخ معه أو نهاتر في ألم وعجز؛ لأنه منا ونحن منه. شاعر مصري بلدي يقرأ أخبار المظاهرات ويفرح بها، ويؤلف القصائد عنها وكأنه يريد أن ينتظم فيها مع الطلبة. أما مطران فيشبه أحيانا تلك الحدائق الأنيقة التي يجمع فيها أصحابها الأثرياء أصص النباتات الأجنبية التي نسأل عن أسمائها ونعجب بروائها، ولكن ليس لها في قلوبنا ذلك الحنين الذي نحسه حين نذكر حقولنا المألوفة بفلاحيها وجداولها وأشجارها من الجميز والتوت.
ومن الشخصيات الذهبية التي تبرز في وجداني وأفتأ أذكرها كلما عن حديث عن الأدب أو القلم أو الشرق أو الحضارة، شخصية شبلي شميل. وكان رجلا قصيرا متكتل الجسم كأنه مصارع، عرفته في 1912 وبقينا على اتصال بل تحاب إلى وفاته في أواخر الحرب الكبرى الأولى. وكان في تلك السنوات يقارب السبعين ولكنه كان على صحة وشباب نادرين، وكان روحه الكفاحي للغيبيات يسم - وقد يقول غيري: يصم - كل كتاباته. ذلك أنه كان يدعو إلى الحرية الفكرية في كلمات جريئة وأحيانا في وقاحة جريئة، كما كان يدعو إلى نظرية «النشوء والارتقاء» أي التطور. وقد نقل إلى لغتنا كتاب بوخنر في هذا الموضوع. وكان يسخر من الغيبيات في كلمات لا يجرؤ غيره على استعمالها. ولما أصدرت مجلة «المستقبل» في 1914 أيدني وكان يكتب فيها بتوقيعه أو بلا توقيع، وقد كتب فيها قصيدة «فلسفية» لم أفهم غايته منها، وإلى الآن لا أفهمها.
وكان شبلي شميل مفكرا أكثر مما كان عالما. وكان يقنع القارئ بعقله وليس بمعارفه. ولذلك عندما نقرأ مخلفاته الآن نجد التفكير الرصين والأسلوب الرصين. وكان كثير من المعجبين به يستهويهم أسلوبه، وكان هو يرد على ذلك بأن رصانة الأسلوب هي ثمرة الرصانة في التفكير. وهذا حق. ولكني مع ذلك كنت عند زيارتي له في منزله أجد التوراة أمامه وأجد آثار التنقيب فيها. وكنت حين أداعبه بأن مكافحته للغيبيات لا تتفق وهذا الغرام بالتوراة كان يجيب بأنه يحب بلاغة التوراة وأن اهتمامه بها لغوي أثري.
وكان من حيث المزاج والتفكير بل المعيشة أوروبيا متمدنا. وكان يحمل على عادات الشرق وتقاليده في لهجة غاضبة. وكان متدينا شديد التدين بل متعصبا في تدينه بالديانة البشرية. وظهر هذا التدين عند إعلان الحرب الكبرى الأولى؛ فإنه بقي أسابيع وهو هائج كما لو كان قد استولى عليه نيوروز. وظني أنه لو كان في سن الشباب لتطوع لمحاربة ألمانيا لأنه عد هجومها هجوما على المبادئ البشرية.
وهذه الديانة البشرية التي ذكرتها كانت أيضا ديانة جميل صدقي الزهاوي. ولكن الزهاوي كان يعمل في بغداد، في السر والظلام. في حين كان شبلي شميل يجاهر ويعلن ولا يبالي. وحوالي 1925 زار الزهاوي القاهرة مع السيدة زوجته، وسارع إلى السؤال عني. وقضينا أياما ونحن نلتقي ونتحادث في كل شأن. وكان رجلا ضئيلا قد بلغ السبعين أو تجاوزها، وكان يسير على ساقين ركيكتين تكادان تعجزان عن حمله. وكان أيضا غربي الذهن على ذكاء خارق ولكن على معارف ناقصة في العلوم العصرية. وقبل أن يغادر القاهرة سلم إلي مخطوطة هي ديوان يجمع عددا من قصائده التي لو طبع بعضها لأدى إلى السجن؛ لأنها طعن وقح في كثير من العقائد التي اصطلح الناس على تقديسها. وهذا الديوان - بعد أن بقي عندي سنوات - طلبه مني زكي أبو شادي ولا يزال عنده إلى الآن. ولا أظن أن الظروف الحاضرة أو القادمة، في القريب، ستؤذن بطبعه.
وقد تركنا زكي أبو شادي يعيش في الولايات المتحدة؛ لأنه يعتقد أن الرجعية الفكرية قد خيمت على مصر في هذه السنوات الأخيرة، وأن الأحرار - لهذا السبب - لا يستطيعون أن يتنفسوا في الجو الخانق الذي سعى الإنجليز لإيجاده في جميع أقطار الشرق العربي. ونحن نخسر كثيرا بغيابه عنا. فإنه أديب عالم وقد أخرج مجلة وألف كتبا خدمت مصر وبسطت لنا آفاقا للتفكير العصري. وهو يجيد الكتابة بالإنجليزية كما يجيدها بالعربية. وله عندي مؤلف باللغة الإنجليزية في الديانة البشرية جدير بأن يوضع في صف مع المؤلفات التي من نوعه في أية أمة أوروبية متمدنة.
وحين أراجع المعاكسات التي لقيها زكي أبو شادي، والتي أدت أو أدى بعضها إلى تركه لمصر، زيادة على موجة الرجعية التي اكتسحتنا هذه السنوات الأخيرة، أجد أنها تعود إلى أنه متمدن. وأنه في سلوكه - فضلا عن لغته - لا يبالي أن يكون عصريا. وهذه العصرية تنعى على بعض الأشخاص المتمدنين. والناعون هم على الدوام شرقيون تقليديون كارهون للحضارة العصرية. ولكنهم في كراهتهم لا يتشوفون إلى حضارة مستقبلية راقية أو أرقى مما نجد في حاضرنا، بل يرجعون إلى تقاليد وعادات تنافي العصر الديمقراطي وتنكر مبادئه. ومن هنا فرار زكي إلى الولايات المتحدة وكراهته لجونا الحاضر. وهذا هو ما يجب أن نأسف عليه جميعا وأن نتأمل في مغزاه كثيرا.
ومن الأحرار الذين عرفتهم محمود عزمي، وهو الآن في كهولته «معتدل». ولكنه كان في شبابه جريئا واسع الآفاق بعيد الأمداء. وكان يجري في غلواء الشباب. دعوته ذات مرة في أواخر 1930 إلى أن يكتب للمجلة الجديدة مقالا فشرط علي أن يكتبه بالحروف اللاتينية. وكان هذا قبل أن يناضل عبد العزيز فهمي باشا لأجل الخط اللاتيني بنحو خمس عشرة سنة. ولم ينزل عن رأيه إلا بعد مناقشات متكررة. وكان يدعو إلى القبعة ويعتمر بها في شوارع القاهرة. وقل أن نجد كاتبا مثل محمود عزمي في نصاعة تفكيره وصحة منطقه. وهو هنا يشبه كثيرا عبد القادر حمزة. ومن الملذات الذهنية أن يقرأ له الإنسان مقالا يناقش فيه الموضوعات السياسية مناقشة موضوعية في تعقل بعيد عن الزخارف اللفظية أو الأوهام البلاغية.
وعندما أرجع بذاكرتي إلى كثيرين من الأدباء - وبعضهم لا أحب أن أذكرهم - وأتأمل المجهودات العظيمة التي بذلوها والنزعات النبيلة التي نزعوا إليها في أول عهدهم بالكفاح الأدبي، ثم كيف انتكسوا منهزمين راضين بالماضي بدلا من أن يقتحموا المستقبل، عندما أتأملهم، أجد أن العيب لم يكن فيهم وحدهم، وإنما هو أيضا في هذا القدر الذي حاطنا بظروف سياسية استعمارية أجنبية أو استبدادية داخلية، تعاقبنا - نحن الأدباء - على التقدم والرقي وتكافئنا على التأخر والانحطاط. أجل، هذا القدر القاسي الذي يهيئ لقوات الظلام في مصر وفي أقطار الشرق العربي كي تخيم على دعاة النور وتطمس نورهم، وقد انطمس كثير من النور.
Página desconocida