وكان هذا الاختلاط الفكري يفتت الوطنية المصرية. فلما كانت الحرب الكبرى الأولى رأينا الإنجليز يتصرفون بحظوظنا كما لو كانوا آلهة فوق السحاب يعلنون على العالم «حماية» مصر . ثم يخلعون الخديوي، ثم يرتقي عرش مصر بدلا منه السلطان حسين. ثم يمنعوننا من الاجتماع أو الكتابة ويراقبون جرائدنا حتى لا يكتب حرف إلا بإذنهم، ولكن بعد ذلك يصيح بنا ولسن: هبوا إن لكم حق تقرير المصير.
وكان أكثر الأمة وجدانا بأن سنة 1919 يجب أن تكون سنة فاصلة في تاريخنا أولئك الذين عاشوا في الثورة العرابية واشتركوا فيها. وكان سعد زغلول في مقدمة هؤلاء؛ فإن لوحة التاريخ المصري من 1880 إلى 1919 كانت واضحة الخطوط والصور في ذهنه.
فما هو أن أعلنت الهدنة حتى قصد هو وعلي شعراوي باشا وعبد العزيز فهمي باشا، وكلاهما رأى الثورة العرابية أيضا وعاش في سني الخزي الوطني التي أعقبتها أو في العصر الجليدي للوطنية المصرية، قصدوا إلى دار المندوب السامي البريطاني وطلبوا في إلحاح الإذن لهم بالسفر إلى لندن كي يطلبوا استقلال مصر.
ولكن المندوب السامي كان يفكر في تيار آخر هو استعمار مصر؛ ولذلك لم يسغ هذا الطلب، ورفضه. وشرع سعد يبعث في الأمة وجدانا بالظروف الجديدة التي تجعل الاستقلال طلبا أساسيا لا نقبل دونه شيئا آخر. وسرت في البلاد موجة من السخط على الإنجليز. واعتقل الإنجليز سعدا ورفاقه ونفوهم إلى مالطة في مارس من 1919. وزاد السخط وكثرت الإضرابات من الطلبة والموظفين، وقطعت السكك الحديدية وأسلاك التليفون والتلغراف. وعندئذ أذن الإنجليز بسفر الوفد؛ أي سعد ورفاقه، إلى باريس كما أرسلوا لجنة إنجليزية برياسة الاستعماري القارح ملنر لتحطيم الحركة الوطنية بإغراء عناصر أخرى، غير أعضاء الوفد، حتى يقبلوا الحكم ويضربوا الأمة بالحديد والنار كي تقبل الاستعمار البريطاني وتخضع له.
ووصلت لجنة ملنر إلى مصر في ديسمبر من 1919. وكان سعد ورفاقه - أي الوفد المصري - في باريس، فكان إرسال هذه اللجنة بمثابة التلصص على الحركة الوطنية أو الدخول إليها من الباب الخلفي للاتفاق مع العناصر التي ليست مع سعد. ولكن الشعب قاطع هذه اللجنة، بل إن محمد سعيد باشا رئيس الوزراء استقال احتجاجا على إرسال هذه اللجنة مع وجود الوفد المصري في باريس.
واستطاعت لجنة ملنر وهي في مصر أن تقنع عدلي باشا بالمفاوضة مع الإنجليز. وكان سعد والوفد - وهما في باريس - يطالبون باستقلال مصر باعتبار هذا الاستقلال جزءا من مفاوضات الصلح العام في 1919. وسافر عدلي إلى سعد وأقنعه بضرورة السفر إلى لندن في مايو من 1920 للمفاوضة. وهنا تغير موقفنا؛ فقد كان سعد والوفد يطلبان الاستقلال باعتباره من القضايا التي تتجاوز حق الإنجليز أو حق استئثارهم في بحثه، وأن الدول المجتمعة في باريس - أي الولايات المتحدة وفرنسا وسائر الدول الصغرى - لها حق البحث لهذا الموضوع إلى جنب بريطانيا. ولكن عدلي نقل هذه القضية من هذا الموقف الرحب إلى موقف حرج هو المفاوضة مع الإنجليز فقط.
وتقهقرت القضية المصرية خطوات إلى الوراء بهذا الموقف الجديد، وسافر الوفد المصري إلى لندن؛ فطلبنا نحن الاستقلال وطلب الإنجليز الاستعمار، وهذا هو ما كان ينتظر. وكان الإنجليز يرمون إلى تضعضع الروح الوطني بمرور الأشهر حين يجد المصريون ركودا وهمودا فتموت الحركة الوطنية.
وعاد سعد والوفد المصري إلى مصر. وشرع سعد يبعث الحرارة والنشاط في الأمة بالخطب والمنشورات. وكان عدلي قد فشل في مفاوضاته مع الإنجليز، وقد وصف سعد هذه المفاوضات بأن جورج الخامس يفاوض جورج الخامس. وكثرت الاضطرابات، فعمد الإنجليز إلى العنف والعسف فألقوا القبض على سعد ورفاقه ونفوهم في 1921 إلى سيشيل. واتبع الإنجليز سياستهم وهي الإغراء، فأعلنوا «استقلال» مصر في 28 فبراير من 1922 بشروط أربعة هي حق الإنجليز في: (1)
حماية المواصلات الإمبراطورية في مصر. (2)
الدفاع عن مصر ضد أي اعتداء أجنبي. (3)
Página desconocida