وقد كنت - وما زلت إلى الآن - أجد لذة واهتماما في أن أتابع فراشة بل أجري وراءها كالصبي حتى أمسكها وأتأملها وأبحث عن أعضائها، ثم أطلقها. وسلوكي هذا كثيرا ما كان يبعث الابتسامات بين الفلاحين الذين يعتقدون أن مثل هذا العبث لا يتفق والوقار ... وما زلت إلى الآن متعلقا بالريف أخطف إليه الزيارات بل ما زلت أحلم بأن أقضي السنة الأخيرة من عمري في الريف.
وريفنا الذي صنعته الطبيعة، ريف الحقول والزهر والشجر والطير والفراش، هذا الريف يتلألأ بالجمال ويبعث الحياة تنبض في عروقنا حين نشرب من هوائه ونشم منه خضرة البرسيم أو الذرة التي تغمر نفوسنا. ولكن الريف الذي صنعه المجتمع المصري، ريف المساكن الكالحة المبنية من الطين المجفف، ريف الإيجارات والمحاسبات والحرمان للفلاحين، هذا الريف لا يوحي إلينا الصلاة بل يوحي الغضب واللعنة وكراهة الحياة في مصر؛ فإن المالك يعامل أحيانا الفلاحين بروح تجاري لا يبالي هل هو يجوع أو يمرض بسبب الإيجارات العالية التي يفرضها عليه.
وأذكر أن أحد الفلاحين في عزبة غير بعيدة قدم إلي ذات صباح في 1915 وعرض علي أن ينتقل إلى عزبتنا، فقبلت. وقبيل الغروب حضر هو وزوجته التي كانت تحمل ابنتها على صدرها، وكان هو يحمل جرة بها «مخلل». وكانت هذه الجرة كل ما يملك من متاع في الدنيا؛ فقد حاسبه صاحب الأرض وأخرجه خالصا لا عليه ولا له. وفاحت رائحة كريهة من الجرة، فكشف عنها أحد الحاضرين وصب منها على الأرض، وما زال يصب حتى فرغت، وكان هذا «المخلل» الذي ذكره هذا المسكين لا يتجاوز هذا السائل الكريه يبلل به هو وزوجته خبز الذرة ثم يبلعانه. وكان الهزال واضحا في الثلاثة، وكان أوضح في الطفلة التي كانت تتعلق بصدر أمها كأنها خرقة بالية معلقة في ترهل، وقد ماتت هذه الطفلة بعد نحو أسبوعين.
وقص علي علي - وهذا اسمه - مأساته؛ فقد دخل تلك العزبة قبل ست سنوات ومعه بقرة وحمار، وكان لزوجته صندوق ولحاف وحصيرة ومخدة، ولكن المالك كان «يحاسبه» كل عام، فيخرج مدينا. وباع بقرته وحماره في تسديد الدين، ثم باعت زوجته كل أمتعة البيت كي تشتري الذرة.
وذات مساء أقبلت على العزبة فوجدت عليا مبطوحا على بطنه وهو يصرخ صرخات عالية، وفزعت عندما رأيته على هذه الحال، وظننت أنه قد تسمم أو أن وباء الكوليرا قد نقل إلى مصر مع بعض الجنود الهنود، ولكن المسكين سكت خجلا عندما رآني. وذهبت به اليوم التالي إلى الزقازيق لأحد الأطباء، فقال إنه مريض بالبلاجرا وهو مرض ينشأ من النقص الغذائي، فذكرت الجرة التي جاء بها وصببنا منها المخلل على الأرض ...
وتفاقمت حاله، وظهرت عليه أمارات البلاهة. وتركته زوجته وتزوجت غيره. ثم حدث حريق في بهنباي بعد ذلك بسنين، وكان هو في أحد أزقتها، فخانه ذكاؤه الذي تقهقر من البلاجرا فعجز عن التخلص من النار ومات بالحريق.
وفي الريف المصري الجميل آلاف من هذه المآسي التي تعود إلى الروح التجاري في محاسبة الفلاحين وزيادة الإيجارات حتى يموتوا في بطء لقلة الطعام. وأغلب المسئولين عن هذه القسوة هم من المالكين الذين يعيشون في المدن ويستغلونها - غيابيا - أرضهم، فلا يستطيع وكلاؤهم التسامح - ولا نقول الرحمة - مع المأزومين والفقراء، بل أحيانا يبرهن هؤلاء الوكلاء على إخلاصهم واجتهادهم للمالكين بزيادة الإيجارات على هؤلاء المساكين.
وكنا نقرأ الأخبار كما يحب الإنجليز أن نفهمها؛ ولذلك كانت الرقابة صارمة شاملة؛ فقد اشتركت في بعض المجلات الأمريكية كي أصل عن طريقها إلى الأخبار الصحيحة. فكانت إما تمنع من الوصول إلي وإما تقص أوراقها التي تحمل أخبارا غير ملائمة للإنجليز. ولكن حتى بين المحررين المصريين من كان يستطيع أن يروي الخبر بحيث يجوز ظاهره على الرقيب ويدرك قارئه ما بين سطوره، مثل:
جاء في التلغراف أن هزيمة الألمان عند فردان كانت فادحة؛ إذ تقدموا بعد جهد كبير عشرة كيلومترات، ولكن ارتد عليهم الجنود الإنجليز والفرنسيون فانتزعوا منهم طاحونا، وقد أحدث هذا المنظر فرحا عاما في قيادة الحلفاء.
وكان الرقيب ينخدع بهذه البهجة وينسى المعاني الواضحة.
Página desconocida