ولهذا أيضا نجد أن الطالب الذي يدرس الطب نقول له في صراحة إن الذباب ينقل عدوى الرمد أو الدوسنطاريا، أو إن لحم البقر الذي أصيب بالدرن تنتقل عدواه إلى آكله من البشر، ولكنا لا نقول لهؤلاء التلاميذ أو الطلبة إن الأجور المنخفضة التي يحصل عليها العمال في مصر تفشي بينهم الدرن والعمى والموت؛ لأننا نخشى هنا الاستغراضات الامتيازية والاحتكارية والاقتصادية . ونخشى أن نصرح للفلاحين بأن كثيرا من الغيبيات التي يؤمنون بها خرافية.
ذات يوم في 1918 كنت قاعدا في الريف إلى قناة صغيرة في ظل شجرة وإلى جنبي فلاح قد بلغ الثمانين. وكنت أتأمل يرقات الضفادع وهي تسبح. فسألت الشيخ عنها فاتضح لي أنه لا يعرف أنها ضفادع صغيرة. ثم تشعب الحديث إلى النبات فقال: «إن لكل نبتة من هذه الأعشاب التي تنمو على شطوط القنوات ملكا يحرسها.» ولما نهضت أخذت أفكر في هذه الرواسب الثقافية التي انحدرت إلينا عن الفراعنة والكلدانيين والبابليين، وجعلتنا نعيش في غيبيات تحملنا على النظر المخطئ لحقائق هذا العالم وتباعد بيننا وبين النظر العلمي الموضوعي. وقلت في نفسي: هذا الرجل غيبي يؤمن بأن العالم حافل بالأرواح التي تحرس الناس والحيوان والنبات؛ إذن هو من خصوم داروين.
ولكن هذا الفلاح المسن يمثل في سذاجته المركزة جهل الرجل العادي والمرأة العادية. وكلاهما يعيش بذهنه على رواسب قديمة من العقائد؛ حتى إن فكرة «القرينة» عند الفراعنة لا تزال حية في أيامنا. أجل! لقد ذكرت الآن؛ فقد كنت طفلا لم أتجاوز السابعة أو السادسة، وكنت قد غضبت وصرخت ورفست وأنا على العشاء. فقالت لي أمي تخيفني: «دلوقت أختك تزعل منك وتضربك.»
وكانت تعني بأختي هذه «قرينة» الفراعنة. وقصدت إلى الفراش ونمت بلا عشاء. وإذا بي أحلم أن فتاة قد حضرت وهي تحمل سوطا ترفعه في الهواء كي تتحفز لضربي، فصرخت في النوم. وأقبلت إلي أمي في فزع فأيقظتني وحضنتني وجاءتني بكوب من الماء شربت منه جرعة. ثم أخبرتها عن الحلم، فأخذت تقبلني وهي تبكي: «حقك علي يا ابني، أنا كنت بضحك، مفيش أخت، مفيش أخت.»
ولكن مجتمعنا لا يزال في أسر هذه القرينة أو ما يشابهها من العقائد التي تتخذ أحيانا أسلوب البحث العلمي. كما نرى مثلا في أولئك الذين يزعمون أنهم يستجلبون الأرواح فتنقر على المائدة وتتحدث عن العالم الثاني ... وهذه العقائد تعيش كأنها كابوس للمجتمع تعمل على تجميده وتخويفه حتى لا يتطور. ودعاة الروح هؤلاء لا يختلفون عن تلك الأم الساذجة التي تقول عندما يعثر طفلها: «وقعت على أختك أحسن منك.» تمدح الأخت وتسترضيها حتى لا تصيب طفلها بأذى ...
وهذه القرينة أو هذه الأخت التي أفزعتني في نومي، وهذه الملائكة التي تحرس النباتات عند ذلك الفلاح المسن، هي ضباب العقل الذي كان يجب أن يقشعه العلم. وقد انقشع أو كاد في أمريكا وأوروبا. ولكنه لا يزال يخيم علينا؛ لأن الثقافة العلمية لا تزال بعيدة عنا لم نتنفس هواءها الصافي.
وهذه الثقافة العلمية هي ما أفتأ أرجو أن أجعلها أسلوبي في الحياة الشخصية والاجتماعية. ولكني لم أخطئ قط ذلك الخطأ المألوف بأن أجعل العلم غاية إذ هو وسيلة فقط. أما الغاية فيعينها الأدب والفن والفلسفة. أي إن غاية العلم هي الدين الذي نكسبه من الأدب والتاريخ والفن والفلسفة. أي كيف نعيش في مجتمعنا أصلح العيش وأروحه وأقصده وأشرفه.
وقد وضعت كتابي «نظرية التطور وأصل الإنسان» ولي مأرب هو مكافحة الغيبيات الشائعة، ونشرته كله مقالات في «البلاغ» قبل طبعه كتابا؛ كي أصل إلى أكبر عدد من القراء. ومن الذكريات السعيدة أني وقفت ذات يوم إلى دكان صغير لا تزيد مساحته على ثلاثة أمتار مربعة أشتري لابني بعض الحلوى، فعرفني البائع وأخبرني أنه قرأ كتابي هذا وفهمه.
ولو أني وجدت التشجيع لأرصدت حياتي لإخراج كتب شعبية مثل «نظرية التطور» و«العقل الباطن» ونحوهما. وكثيرا ما كنت أتحسر حين كنت أرى مؤلفات العقليين في لندن. فإن كتاب «أصل الأنواع» الذي زلزل به داروين الثقافة الأوروبية كان يباع بأقل من خمسة وعشرين مليما.
وحوالي 1930 وجدت أنا والأستاذ فؤاد صروف الفرصة سانحة لإيجاد حركة علمية شعبية في مصر. فعقدنا العزم على تأليف «المجمع المصري للثقافة العلمية». وكانت الغاية منه أن يضم جميع المهتمين بالثقافة العلمية ونشرها بين الجمهور. ونجحنا في المشروع نجاحا لم نكن ننتظره، وعقدنا الاجتماع السنوي الأول له وألقيت فيه محاضرة سيكلوجية عن طبيعة التفكير في ضوء الأحلام في قاعة الجمعية الجغرافية. ولكني في ذلك الوقت كنت أمارس نشاطا سياسيا مركزا في مكافحة إسماعيل صدقي (باشا) حين ألغى الدستور واستبدل به غيره، واتفق مع المستعمرين والمستبدين على إعادة الحكم التركي الشركسي الذي حاول عرابي أن يحطمه. وأدى نشاطي هذا في السياسة إلى طردي من المجمع.
Página desconocida