Biografías Egipcias y Occidentales

Muhammad Husayn Haykal d. 1375 AH
71

Biografías Egipcias y Occidentales

تراجم مصرية وغربية

Géneros

وكان وليم جدوين من أشد كتاب ذلك العصر تأثرا بمبادئ الثورة الفرنسية ودعوتها إلى الحرية المطلقة في التفكير، وما ترتب على هذه الدعوة من خروج على طائفة رجال الدين وتعاليمهم ومن المبالغة في ذلك إلى إنكار الدين نفسه، على أن جدوين يختلف مع كتاب الثورة الفرنسية ورجالها أشد الاختلاف فيما يتعلق بوسائل تحقيق الإصلاح الذي يريد إدخاله على النظم وعلى قواعد الجمعية، فكان يرى العقل والمنطق وحدهما وسيلة الإصلاح، وكان ينفر أشد النفور ويطعن مر الطعن على الالتجاء للعنف ولوسائل القوة وضروب القسوة، ودفعه تفكيره الحر هذا إلى إنكار أكثر القواعد التي تقوم عليها جمعية عصره، دفعه إلى إنكار الملك الخاص إلا بمقدار حاجة الشخص له والطعن لذلك على الثروات الواسعة، ودفعه إلى إنكار الزواج على أنه نظام، لأنه مناط فكرة الملك الخاص، وانتهى من تفكيره إلى وجوب إقامة الجمعية على أساس من العقل وحده، وإلى القول بأن هذه الأسس لو وضعت على صورة صحيحة زال ما يشكو منه الناس من بؤس وشقاء وجريمة، وأضحت العقوبة وصمة في جبين الإنسانية، ولذلك كان لا يكفيه أن يطلب إلغاء عقوبة الإعدام، بل كان يطلب إلغاء العقوبات جميعا.

في هذه المبادئ التي وضعها جدوين كثير سبقه إليه روسو وتأثر به أهل فرنسا ورجال الثورة فيها، على أن المبالغة هي التي أدت بهم لينكروا حتى الدين الطبيعي الذي دعا روسو إليه وليجعلوا الإلحاد وسيلتهم إلى حرية الفكر، ولعلك إن التمست تفسيرا لهذا وجدته في تشبث رجال الدين يومئذ بسلطانهم تشبثا كان يزداد كلما شعروا بسلطتهم معرضة للنقص ثم الاضمحلال، على أن واحدا من هؤلاء الذين دفعهم تعصب رجال الدين للمجاهرة بالإلحاد لم يلبث أن عاد إلى نوع من الإيمان فيه جمال وله جلال، ودعا إليه عن يقين واقتناع لم يكن لرجال الدين حظ منهما، ولقد تأثر شلي في الأيام الأولى من شبابه إلى أبعد مدى بكتاب جدوين ورأى في نظم الجمعية السياسية والاجتماعية والدينية ما لا يتفق مع حكم العقل، واقتنع بأن مرجع هذا كله إلى تشبث رجال الدين بأن يخلعوا على كل دقيقة وجليلة من نظام الجمعية ثوبا من القداسة يحول دون التفكير في معالجته أو إدخال أي إصلاح عليه، أليس نظام الزواج قد طبع بميسم الدين؟ أليست عروش الملوك قد أحيطت بسياج من القداسة الدينية؟ أليس التملك والتوارث وكل ما هو من شئون هذا العالم الدائم التغير والتطور قد سبك في قوالب الدين التي يقولون إنها لا تقبل التغير ولا التطور؟ لذلك مال شلي إلى ناحية الإنكار على أنه الوسيلة لكل إصلاح ما دام الإنكار هو الوسيلة الوحيدة للحرية في التفكير والشعور والإلهام والإيمان.

إلى جانب هاته المطالعات التي كانت تثير سخرية أبناء أيتون من شلي كانت طبيعته الحساسة الفياضة بالشعر وبما يلهم الشعر من تعلق بما وراء الطبيعة تدفعه إلى دراسات أخرى جعلت زملاءه في المدرسة يطلقون عليه لقب (المجنون شلي)، فقد كان يعنى بالسحر والسيمياء ويعتقد في الجن والأطياف ويرى في الهواء والماء شياطين وآلهة كانت تحيا في خياله وتصبح ذات كيان ووجود؛ لكثرة مطالعاته في أساطير اليونان وتاريخهم، واتجه عقله متأثرا بهذه الناحية من نواحي طبيعته يلتمس أسرار العلم ويريد أن يكشف عن مخبوء قوى الكهرباء والضوء، ولذلك كان شديد الولع بأن يكون لديه معمل كيميائي صغير يرضي طلعته العلمية والسحرية، على أنه كان كلما ازدادت في هذا الباب بحوثه ثبت لدى زملائه جنونه، فلم يستمع له أحد قولا ولم يرض أحد عن نظرياته الجريئة في الحياة وفي الحب وفي الإصلاح الذي أولع هو به بعد الذي أفاد من مطالعاته، بل كانت كل محاولة من جانبه لإقناعهم برأيه مثار احتكاك بينهم وبينه وسببا للكمه ولطمه.

وزاده تحديهم إيمانا بضرورة إصلاح الجماعة وتغيير أسس نظامها ومقومات حياتها، لكنهم لم يكونوا يسمعون لما يريد أن يقوله لهم في هذا برغم أنه لم يفكر في كراهيتهم بسبب ما يصل إليه من أذاهم، وإن كان دائم التفكير في إصلاحهم برا بالإنسانية وعطفا عليها، فلما لم يجد منهم سميعا جعل من أخواته البنات ومن ابنة عمه هاريت جروف تلميذاته في إجازاته المدرسية يلقي عليهن تعاليمه ويطالعهن برسالته، ولقد كن بطبيعة الحال ألين من زملاء المدرسة عريكة وأسلس قيادا، وكانت إليزابث كبرى أخواته أشدهن إيمانا به وتقديسا له وإعجابا بكل ما يقوله.

هو يرى الشر في الملوك والأغنياء والقسس، ويرى الخير عند البؤساء والفلاسفة، إذا فالخير عند هؤلاء والشر في أولئك، وهو يرى الزواج نظاما تعسا، وإنما يجب أن تقوم صلات الرجل والمرأة على أساس من الحب المقدس، فالزواج إذا نظام تعس، وكم كانت شاعريته الوليدة تخلع على صور الحب التي يقصها أمام الفتاتين من باهر الألوان ما يسحرهما عن كل ما سوى الحب مما يقوله ويجعلهما تؤمنان به من غير بحث فيه، أليستا يافعتين تتقدمان إلى الصبا ويبدأ في دمهما مسرى رغباته؟ والحب عنوان هذه الرغبات وطليعتها، وشلي شاب جميل حلو الحديث عذب النفس، له من نوازع الصبا ما لهما ويطير على أجنحة الحب مطارهما.

ولئن كانت ابنة عمه هاريت ترى في حديثه عن الزواج واعتراضه عليه تجديفا لا تميل إليه نفس الأنثى الحريصة على أن تجد من الجمعية كل حماية وعناية، فلعل الحب الوليد الذي ينشأ بينها وبين شلي يكفل من بعد اعتداله ويدفعه ليعدل عن أوهام الإصلاح في نظام الأسرة المقدس على الزمان، وإن هو لم يعدل من بعد فهي ما تزال بعيدة عن التفكير في الزواج وفي الارتباط به أو بغيره، يكفيها اليوم أن تخرج معه ومع أخته وأن تسمع لعذب حديثه وحلو ترنمه، وأن ترى في نظراته وابتساماته لها ما يسليها عن نظريات يجمل بها أن تعتنقها لتزيده بها تعلقا ولها ابتساما، وكانت إليزابث تشعر في بعض الأحايين أن قد طال بها المقام وأن قد سمعت من نظريات أخيها واستمتعت من عطفه بما يكفيها بقية يومها فتذره وابنة عمها وحيدين يتبادلان نجوى الهوى وحلو حديث الغرام، ثم يعودان متخاصرين يسري إلى جسم كل منهما دفء جسم صاحبه.

وكانت أيام إجازته المدرسية تنقضي في هذه السعادة الكاملة، فهو يدعو إلى مذهبه فتاتين بديعتي التكوين، والفتاتان تؤمنان به وتبادلانه حبا خالصا؛ حب أخت ترى في أخيها نبوغا تفخر به ويزيدها حبا له، وحب فتاة تصبو إلى ما يدفع الحب إليه كل فتاة وفتى من تخليد الحياة في أجيال وأجيال، على أن يكون تخليدا ترضاه الجماعة وترعاه، فإذا انقضت الإجازة عاد إلى أيتون مترفعا عن الساخرين منه مكبا على قراءاته وبحوثه العلمية والسيمية منتظرا يوما يعود فيه إلى تلميذتيه يحدثهما من جديد عن مذهب جدوين، ويتحدث إليهما عما نكب به رجال الدين الجماعة من أسس فاسدة.

وأتم دراساته بأيتون وذهب به أبوه في أكتوبر سنة 1810 فألحقه بأكسفورد، وفيها تعرف إلى شاب من أمثاله اسمه جفرسون هوج دهش بعد قليل من تعارفهما لكثرة مطالعات صاحبه ولعنايته عناية خاصة بالعلوم والميكانيكا، وقد زادته هذه العناية دهشة حين رأى في غرفة شلي من الأنابيب والزجاجات ومولدات الكهرباء ما جعلها معملا عجيبا. لكن هذه العناية لم تكن لتصرفه عن مراجعة هيوم ولوك وفولتير وهولباخ وعن مداومة الدراسة في كتاب جدوين. وكان من دواعي عجب هوج أن يكون لهؤلاء المتشككة كل ما كان لهم من سلطان على ذهن صاحبه المتجه بطبعه إلى ناحية التأملات الروحية، لكن عجبه هذا لم يمنع إعجابه بشلي الذي كان يخرج معه كل صباح يجوبان الأحراش فينطلق شلي مرحا يجري وينط ويلقي بنفسه مقتحما الماء إذا هو صادفته بحيرة من البحيرات ليعود بعد رياضته هذه إلى علمه وإلى تأملاته، ويعود كذلك إلى كتابة القصص والنشرات، فلقد بدأ مع ابنة عمه ومع أخته قصة زاستروزي، وهذا هو يكتب قصة أخرى يجعل عنوانا لها (القديسة أرفيني) يروي فيها شيئا من تفكيراته، ثم هذا هو كذلك يضع نشرة يجعل عنوانها (الحاجة إلى الإلحاد) ويوقعها باسم جروميا ستكلي ويعمل لنشرها في كل مكان لينتهي بسبب ذلك إلى طرده من أكسفورد وإلى هجرة بيت أبيه وإلى ما كان بعد ذلك من حياته المشردة.

وكان في وسعه أن يتوقع ما ترتب على هذه النشرة من نتائج، بل لعله توقعها ولم يحفل بها، أو لعل الدافع الذي أدى به لكتابة هذه النشرة لم يكن مما يمكن دفعه أو مقاومته، فقد بعث الناشر ستكديل إلى مستر تموذي شلي خطابا يخبره فيه بأن ابنه بعث له بقصة القديسة أرفيني وأن فيها من الآراء ما لا يسيغه الجمهور وما يبعث الناس على القيامة ضده، فكتب مستر تموذي للناشر بأنه غير مستعد أن يدفع له شيئا من نفقات الطبع والنشر، وانتظر حضور ابنه في إجازة عيد الميلاد، فلما حضر ألفى الجو حوله متجهما وألفى الناس من أهل هذه البلاد يتهامسون بإلحاده ويزورون عنه وينأون بجانبهم، وتحدث إليه أبوه ساعيا أن يقنعه من طريق المناقشة، فإذا برسي أقوى منه حجة وأسطع برهانا، وإذا الأب يقنع آخر الأمر بأن يقول له في غضب: إني أؤمن لأني أؤمن، على أن غضب مستر تموذي وتهامس الناس وانصرافهم عن شلي لم يؤثر في نفسه ولا دعاه إلى التفكير في أمرهم، لكنما أثر في نفسه وبلغ منها وأثار حزنها ما كان من ابنة عمه هاريت، فهو لم يكن يشك في عمق ما بينهما من حب عمقا وصل إلى شغاف القلب، فليس يستطيع أمر من أمور الحياة أن يغير أحدهما على صاحبه أو أن يعدل بهما عما تفاهمت نظراتهما عليه من تقاسم الحياة والاشتراك في ورد ما فيها من جمال وسعادة، لكنه ما لبث بعد عودته أن تحدث إلى أخته إليزابث التي ظلت وحدها صادقة الود له، وسألها عن هاريت وشأنها حتى تولاه الجزع حين سمع منها أنها انصرفت عنه كما انصرف عنه غيرها، وأن حبها تطايرت جذوته حين علمت أن أهلها والمحيطين بها لا يرون زواجها من هذا الذي جنت من قبل به وجن بها، وعبثا ذهب شلي وقابل هاريت وحاول إقناعها، فقد ألفاها أشد حرصا على المتاع بنعيم الجمعية من ملبس وحلي ورقص منها على الأفكار التي يسبح هو في سماواتها متوهما أنه يسعد العالم بإقناعه بها، وألفاها أشد حرصا على علاقاتها بأبويها علاقة اطمأنت لها منذ مولدها منها على صلتها بشاب لا تدري ما عسى أن يكون المستقبل معه.

تولى شلي الجزع، فكتب باكيا ثائرا إلى صديقه هوج خطابا يذكر له فيه أنها لم تبق له وأنها انقلبت تكرهه لأنه متشكك بعد أن كانت هي من قبل متأثرة بتعاليمه، ويعلن ثورته على التعصب ويقسم أنه لن يعفو عنه، ويعلن أنه، وإن لم يكن يقر الانتقام فهو يرى الانتقام من التعصب عدلا بل واجبا، وأنه سيكرس كل لحظة من حياته لمحاربته؛ لأن التعصب هو الذي يهدم الجمعية ويشجع العقائد الفاسدة التي تحطم أقدس الصلات وأرقها وأعزها، وله عن ثورته هذه العذر أنه لم يكن يتوقع أن تحطم تعاليم الدين أشرف عاطفة وأسماها، وأن تستل من بين الجوانح حبا قائما على التفاهم وحسن إدراك الحياة والتوجه إلى ما فيها من جمال لعبادته والتسبيح بحمده، وكيف كان له أن يتوقع هذا، وقد كان يرى في الحب عاطفة قدسية تسمو بالنفس إلى ما فوق منافع الحياة ومطامعها، وتحلق بها في أجواء أثيرية تشهد منها بدائع هذا الخلق جميعا متجليا فيما يقع عليه الحس من صور جماله، والحق أن الحب عند شلي كان له معنى أسمى بكثير من معناه عند غيره، هو لم يكن يرى فيه مجرد رابطة نفعية وشركة للتعاون على حمل عبء الحياة، بل كان يريده امتزاجا روحيا لاستشفاف ما حولنا من جمال هو مصدر الحياة، وشركة في حب هذا الجمال في متباين صوره ومختلف ألوانه، ولعل أجمل ما يستطيع إنسان أن يعبر به عن هذا المعنى ما عبر هو به في قصيدته (أببسيشديون) حيث يقول ما ترجمته: «لم أتصل قط يوما بهذه الطائفة الكبيرة التي يوجب مذهبها على الفرد أن يختار من بين الجماعة كلها رفيقة أو صديقة وأن يلقي بالباقين، وإن يك لهم ما لهم من جمال وحكمة، في جمود النسيان ... فالحب الصادق يختلف عن الذهب والتراب في أنك كلما شاطرتهما أخذت منهما وأنقصتهما، على حين هو يشترك مع الفهم الذي يزداد بريقا كلما ازدادت الحقائق التي ينبعث نظره إليها، وهو كالخيال يستمد نوره من الأرض والسماء ومن أعماق أهواء الإنسان ومن ألف مرآة وألف ضلع، ثم يملأ الوجود بالأشعة الباهرة يقتل بها جرثومة الخطأ بما يسلط عليها ضياؤه من سهام كأنها أشعة الشمس، ويا ضيق قلب ينحصر حبه، وعقل يقف تفكيره، وحياة تنتهي غايتها، وذهن يقف خلقه عند شيء واحد، وصورة واحدة، يبني لذلك بها قبر خلده.»

Página desconocida