Biografías Egipcias y Occidentales
تراجم مصرية وغربية
Géneros
وفي أواخر عهد البطالسة بدأ نجم روما يعلو في سماء السياسة العالمية، وبدأت روما تطمع في التغلب على مصر بعد أن كانت تخطب ودها وتخشى غضبها، وكما وهبت الأقدار الإسكندر المقدوني المقدرة الحربية التي استطاع بها أن يتغلب على كل شعوب العالم المعروف يومئذ، كذلك وهبت هذه الأقدار مثل تلك المقدرة يوليوس قيصر صاحب عرش روما، فلقد ظفرت جيوش قيصر بالشعوب كلها ورفت راية روما على اليونان والشام، وامتدت غزواتها إلى ناحية آشور، ثم سارت شمالا وغربا فأخضعت السكسون في ألمانيا والفرنسيين في بلاد (الجول) وأخضعت أهل الجزيرة البريطانية لحكم قيصر، فإذا كانت هذه الأقدار قد عصفت بمصر فلم تكن مصر لذلك متفردة بالخضوع دون غيرها من أمم العالم، وصحيح أن حكم روما لمصر عن طريق حاكم تبعث به إليها ظل متتابعا قرونا عدة، لكن الصحيح كذلك أن هذا الحاكم كان يجد أكثر الأمر أشد العنت في حكم البلاد، وكان يتعرض للثورات المتوالية تقوم عليه وتضطر روما معها للاحتماء بالإسكندرية أحيانا تاركة داخلية البلاد يحكمها أهلها، وتتمكن أحيانا أخرى من قمع هذه الثورات والتغلب عليها وإخضاع مصر لنير روما قهرا عنها.
والمؤرخون جميعا متفقون تمام الاتفاق على أن السكينة والأمن لم يسودا مصر طول هذا الذي يسمونه العهد الروماني، فإن روما كانت - كما كانت بيزانس من بعدها - دائمة الوجل من ناحية مصر من خشية أن ينقطع عنها مدد الغلال التي كانت مصر تبعث بها غذاء لأهل عاصمة العالم في ذلك الحين، ولم تكن أسباب الاضطراب يومئذ مقصورة على الناحية السياسية، بل خلق المصريون منها في سائر النواحي ما ارتبكت روما معه وما اضطرت بسببه لارتكاب الفظائع التي لا يزال تاريخها ملطخا بها، من هذه الأسباب السبب الديني؛ فقد كان الدين المصري القديم بعد اختلاطه بالتعاليم اليونانية قد قصر عن أن يلهم الشعب ما يلهم كل دين من طمأنينة النفس وسعة الأمل، وكانت المسيحية الوليدة في روما قد بدأت تنتقل إلى مصر رويدا رويدا، وكان الطبيعي أن يلقى الدين الجديد في مصر قبولا حسنا، فقد كان اليهود في مصر كثيري العدد جدا، وكانت الديانة اليهودية تتصل في كثير بالديانة الفرعونية القديمة أن كان موسى مصريا تلقى الطقوس أيام شبابه على كهنة إيزيس، وكان الاضطهاد الروماني مما جعل الناس أشد إقبالا على دين يدعو إلى الإخاء والسلام والتسامح، ويعد الجنة المحروم والبائس والمظلوم، على أن خلافا في الرأي الديني ما لبث أن نشأ في مصر بين المتشبعين من قبل بتعاليم الفلسفة اليونانية والآخذين بروحية الديانة المصرية القديمة، وكم أثار هذا الانقسام الديني من خلاف! وكم اتخذ سببا خفيا للثورة على روما ومحاربتها والتغلب في بعض الأحايين على ولاتها وحكامها واستقلال أهل مصر بالحكم في مختلف ولاياتها.
وكذلك نرى أن مصر قد تمثلت البطالسة وهضمتهم طبيعتها فأصبحوا مصريين كسائر المصريين وإن كانوا من أصل يوناني، فأما الرومانيون الذين أرادوا الاحتفاظ برومانيتهم وحكم مصر على غير إرادة أهلها، فقد ظلوا تناهضهم عناصر الحياة في مصر حتى انجلوا عنها كارهين، وكذلك كانت دورات التاريخ في مصر دائما؛ فمن خضع لحكم الطبيعة المصرية القوية في تمثلها من ينزل ربوعها كان له أن يطمع في نعيمها وأن يستريح إلى خيرها ورخائها، ومن حاول محاربة هذه الطبيعة المصرية كانت عليه حربا عوانا، لكنها لا تلجأ في حربها إلى العواصف الاجتماعية التي تثور فجأة مرة بعد أخرى، كلا! بل هي تلجأ في الناحية السياسية والاجتماعية إلى مثل ما تلجأ إليه الطبيعة المصرية من شمس وهواء ونهر وأرض ورمال، هذه الطبيعة لا تعصف بشيء أجنبي عنها ولكنها تظل حتى تبليه وتفنيه.
وانتهى حكم الرومان وعقبه العصر الإسلامي لتكتب مصر خلاله صحف مجد في تاريخها كأمة مستقلة ناهضة بأعباء الحضارة في العالم على نحو ما كانت مصر الفراعنة، تاركة من آثار ذلك مثل ما تركوا مما لا يزال شهيدا على العظمة والجلال وتقدم المدنية وارتقاء آثارها من علم وفن إلى أبعد حدود الارتقاء، فقد نهض العرب منذ أوائل القرن السابع الميلادي نهضة روحية بفضل الإسلام أعقبتها نهضة حربية قوية متأثرة بها لا تقل في اندفاعها اكتساحا لغيرها من الأمم عن نهضة الإسكندر في اليونان وقيصر في روما.
ولم تقف مصر في وجه تيار هذه النهضة أن شامت في الدين الجديد جدة روحية كانت تشعر بالحاجة إليها شعورا عميقا، فإن المسيحية - على أنها دين فضل وجمال - قد خالطت طقوسها صور من الزهد والتقشف والانقطاع بما لا يتفق مع طبيعة وادي النيل الدائم الصفو الدائم الابتسام، وهذا التنافر بين ابتسام الوادي وعبوس التقشف، جعل دعاة المسيحية في مصر يبالغون في ميلهم إلى جانب الانقطاع والزهد، ويفضلون العيش في صوامع خشنة فوق رمال الصحراء المحرقة، وذلك لفرط خوفهم من زخرف الوادي وغضارة نعيمه، وبالرغم من قيام طائفة من المصريين المسيحيين تحاول التوفيق بين تعاليم دين عيسى وفيض النيل ببركاته فإن دعاة الزهد والتقشف كانوا أصحاب الغلب.
فلما أذن مؤذن المسلمين بأن التقرب إلى الله لا يصد عن المتاع بالدنيا ونعيمها، دخل المصريون في دين الله أفواجا، وآوت مصر من العرب حملة هذا الدين وحماته كل من تستطيع أن تؤويه، ولم يكن ذلك عجبا في أرض الأنبياء، ولا هو كان عجبا في عصر لم تكن الفكرة القومية فيه قد نمت النمو الذي نعرف اليوم، فالأماكن المقدسة في مكة والمدينة كانت معتبرة في نظر المسلمين جميعا عاصمة المملكة الإسلامية كما كان الخلفاء الراشدون، ثم أمراء المؤمنين من بعد، معتبرين كلمة الله على الأرض تجب لهم على كل مسلم الطاعة المطلقة.
لكن غريزة القومية كانت قوية في مصر بسبب عزلة مصر عما جاورها، يفصل بينها وبين كل جار من البحار أو الصحارى ما لا يسهل اجتيازه؛ لذلك لم تلبث خلافة الراشدين أن انتهت وأن قام يزيد بن معاوية أميرا للمؤمنين خلفا لأبيه حتى بدأت نذر الانتقاض على السلطة المركزية تبدو في مصر برغم أنها كانت حلقة وسطى في سلسلة الفتوحات الإسلامية المستمرة المتوالية ذاهبة إلى الغرب حتى تصل إلى مراكش كي يغزو موسى بن نصير الأندلس منها متخطيا جبل طارق، ولم يكد حكم بغداد وسلطان الدولة العباسية يستقر ويطمئن حتى بدأت مصر تقوم مستقلة استقلالا ناجزا صحيحا: استقلت أول أمرها حين قامت الأسرة الطولونية بالحكم فيها، ونازع الإخشيديون الطولونيين وغلبوهم واستقلوا بعرش مصر، ثم جاء الفاطميون من ناحية المغرب فأجلوا الإخشيديين وأسسوا بمصر دولتهم بفضل قائدهم جوهر الصقلي الذي أنشأ القاهرة، واعتلى الأيوبيون العرش من بعد الفاطميين.
وفي هذه القرون المتوالية كانت مصر مستقلة بشئونها بالغة في أحيان كثيرة المكانة الأولى بين الأمم الإسلامية صاحبة الغلب على أمم العالم جميعا، ولن ينسى أحد من ذلك فضلها العظيم في الناحية العلمية والأدبية، فقد كان الجامع الأزهر منذ أنشأه الفاطميون الجامعة الإسلامية الأولى، سواء كان ذلك في أول عهد الفاطميين حين كانت التعاليم الشيعية تلقى من فوق منابره، أو كان في العهد السني الذي جعل له حتى عصرنا الحاضر المقام الأول بين الجامعات الدينية الإسلامية.
ثم لن ينسى أحد كذلك ما كان لمصر من مجد وفخار في الحروب الصليبية حين تألبت أوربا تريد أن تغلب المسلمين على أمرهم في الأماكن المقدسة بفلسطين، وتضع يدها عليها باسم الصليب؛ فقد كانت الجيوش المصرية المظفرة هي التي صدت أكبر الغارات وأشدها هولا. واسم صلاح الدين الأيوبي باق على الزمان بقاء الزمان كلما ذكرت تلك الحروب، وهزيمة لويس التاسع في المنصورة وسجنه بها باق كذلك شهيد على مجيد فعال مصر في صد الغارة الصليبية.
وكان هذا كله والدولة العباسية ببغداد لا تزال باقية ولا يزال لها اسم دولة الخلافة مما أدى بطائفة من المؤرخين للوقوع في الخطأ واعتبارهم هذه القرون المتوالية على مصر، وهى متمتعة باستقلالها مقيمة من صروح الحضارة والعلم ما فاق كل ما عرفت بغداد، بعض ما توالى على مصر من ظلم وما ناء به أهلها من مهانة وذل.
Página desconocida