Biografías Egipcias y Occidentales

Muhammad Husayn Haykal d. 1375 AH
58

Biografías Egipcias y Occidentales

تراجم مصرية وغربية

Géneros

هيلجنستات في 6 أكتوبر سنة 1802

لدفج فان بتهوفن

لم تنشر هذه الوصية إلا بعد وفاة بتهوفن، لكنها تدل على مبلغ ما كانت تضطرب به نفسه حين كتبها من الآلام، وعلى شديد إيمانه مع ذلك بالفن، هذا الإيمان الذي جعله يستأخر الموت وإن كان في الموت راحة من شقوته وأوصابه، ويستأخره ليتم رسالته وإن عانى في سبيل إتمامها من الآلام ما لا قبل لغيره باحتماله، وكذلك ترى النوابغ حقا يستهينون في سبيل إبراز مواهبهم بكل ما يحرص الناس عليه وبكل ما يجزعون منه ويفرون، فبينا كان بتهوفن يكتم هذه الصيحات الفاجعة مكتفيا بترجيعها في صدره بينه وبين نفسه، وبإثباتها على القرطاس لتكون سبيلا إلى سلامه بعد موته، كان أخواه يستغلان ألحانه استغلالا ماديا ما كان بتهوفن ليعنى به لولا حبه لأخويه حبا يتفق مع عظمة الفضيلة التي تفيض بها نفسه أناشيد وألحانا قدسية سامية، وكثيرا ما خاطبه أصحابه فيما يجني عليه أخواه من مساءات، فكان جوابه وهو يبكي: «لكنهما أخواي»، وما لأخويه وبكائه؟ إنه لهما مزرعة تستغل ومورد رزق فياض، كتب أحد أخويه لناشر طلب بعض قطع أصلية من ألحان بتهوفن وأناشيده: «ليس لدينا من ذلك الآن إلا لحن وعزيف كبير للبيانة وثمن كل ثلاثمائة فلورين، أفتريد ثلاث سونات للبيانة؟ نحن لا نستطيع أن نقبل فيها أقل من تسعمائة فلورين، على أن تسلم بعد خمسة أسابيع أو ستة؛ لأن أخي أصبح لا يعنى الآن بأمثال هذه التفاهات ولدينا ...» وذكر بقية «البضائع»، وبتهوفن لا يفيد من ذلك المال كله إلا ما يقيم حياته المليئة بالآلام، فأما هذه الحياة التي يحتفظ هو بها للفن فليست في ملكه، لأنها هبة القدر للوجود كله في حاضره ومستقبله، هي قيثارة قدسية بعثتها يد العناية إلى هذا العالم لتنشد الناس كل ما أبدعت العناية في الخلق من نغمات، وإلى أن تتم هذه الرسالة الواجبة عليها يجب أن يبقى صاحبها معذبا شقيا، ويجب أن يستريح لعذابه ولشقوته، أو على الأقل يجب أن ينسيه إيمانه برسالته وانصرافه بكل وجوده لإبلاغها هذا الشقاء وهذا العذاب.

لكن المرأة هي البلسم والشفاء لعذابه أو لتسكينه، وقد عبثت جوليتا ببتهوفن عبثا قاسيا برغم ما كان من شديد تعلقه بها، فهل جفاه الحب بعدما جفته هذه اللعوب الأثرة المحبة لترف الحياة التافه أكثر من حبها لمجد العظمة الخالد؟ كلا! فما تزال لبتهوفن ساعات سعادة في الحياة ينعم بها برغم همه، وملاك هذه الساعات المخلص الطاهر هي تريز برنسويك.

وكان بتهوفن قد عرف تريز منذ أيامه الأولى في فيينا أن كان يعلمها البيانة، لكنه لم يتعلق بها يومئذ ولم يسر إلى قلبه خاطر الحب منها وإن اتصل بأخيها الكونت فرنسوا بصداقة متينة، فلما كانت سنة 1806 وكانت جوليتا قد تزوجت منذ ثلاث سنين زار بتهوفن صديقه القديم في مارتنفاسار بالمجر، قالت تريز: «وبعد العشاء ذات مساء أحد جلس بتهوفن في ضوء القمر إلى البيانة ومر بيده على ملامسها، وكنت أعرف أنا وأخي ذلك منه، فكذلك كان يبدأ دائما، ولعب بعض تقاسيم على طبقات القرار، ثم انتقل من ذلك إلى لعب أغنية سباستيان باخ: إن شئت أن تهبيني قلبك فليكن ذلك أول الأمر في خفية حتى لا يستطيع أحد أن يحس مسارح أفكارنا المشتركة، ولعب هذا اللحن في وقار وهيبة، وكانت أمي وكان القسيس قد ناما، ونظر أخي إلى ما أمامه ذاهلا، أما أنا فأخذتني نظرته وأخذني غناؤه وأحسست بالحياة كاملة، وفي صباح الغد تقابلنا في الحديقة فقال لي: أكتب الآن أوبرا أرى بطلتها في دخيلة نفسي وأراها أمامي حيثما ذهبت وأينما أقمت، وما أحسبني سموت يوما هذا السمو، فكل ما أمامي ضياء وطهر ونور، وفي شهر مايو أصبحت مخطوبته بإقرار أخي فرنسوا وحده.» وظلت هذه الخطبة حتى سنة 1810 حين انفصمت عروتها وإن لم تنفصم عروة الحب بين الخطيبين اللذين عاشا به سعيدين حتى مات هو في سنة 1827 وماتت هي وما تزال على عهده في سنة 1861.

وكان لهذا الحب في نفس بتهوفن وفي حياته الموسيقية أثر أي أثر، فاللحن الرابع الذي كتب في أول أعوام الخطبة زهرة تتضوع بشذا السكينة والخلود إلى صفو العيش مع الناس، وكذلك كانت الألحان التي كتبت في هذه السنوات أقل ثورة وأكثر ترنما بنعمة الحب والحياة، ومنها لحن الريف بأغاريد بلابله وأطياره وأغنيات شبانه وعذاراه، ولم يقف أثر الحب عند موسيقى بتهوفن بل تعدى إلى حياته فجعله محبا للتأنق في ملبسه ميالا للاختلاط بالناس والتحدث إليهم حاضر النكتة ظريفا، وبلغ من ذلك أن الناس نسوا صممه ولم يلاحظوا عليه إلا ضعف بصره الحاد النظرة، ومن ذلك العهد السعيد في حياة بتهوفن يحفظ التاريخ خطابا يبث فيه لتريز ما يبعثه الحب المضطرم في النفس الثائرة من عواطف مضطربة متلاطمة، قال فيه:

يا ملاكي وكلي ونفسي، انظري في بدائع الطبيعة واطمئني إلى ما هو محتوم، فالحب يلح عدلا في أن يكون له كل شيء، ذلك شأنه معي في أمرك، وهو شأنه معك في أمري، إن قلبي لمفعم بما أريد أن أبثك إياه، أينما كنت فأنت معي، إني لأبكي حين أذكر أنك لن تقفي على أول أخباري قبل يوم الأحد على الغالب، إني أحبك كما تحبينني بل أقوى وأشد، إلهى، أية حياة هذه من غيرك! فأنت قريبة بعيدة، وأفكاري تتدافع نحوك يا محبوبتي الخالدة وهي سعيدة طورا حزينة تارة تسائل القدر هل هو سيرعانا؟

أنا لا أستطيع العيش إلا معك وإلا فلا عيش لي، ولن ينال غيرك قلبي أبدا، أبدا! لم يجب يا رب أن يبتعد متحابان كل عن صاحبه، على أن حياتي إنما هي الآن حياة أحزان، ولقد جعلني حبك في نفس الوقت أسعد الناس وأشقاهم، اطمئني، اطمئني، وأحبيني اليوم وبالأمس، ما أعظم تطلعي إليك! وما أكثر دموعي من أجلك أنت! أنت أنت يا حياتي، يا كلي وداعا، وأقيمي على حبي ولا تنسي أبدا قلب حبيبك بتهوفن، لك إلى الأبد، لي إلى الأبد، لنا إلى الأبد.

وهذا الخطاب كوصيته وجد في أوراقه بعد موته، ولعله كتبه في آخر سنوات خطبة تريز له، ففيه من اليأس أكثر مما فيه من الرجاء، وهذه العبارة التي يسائل فيها القدر هل هو سيرعاهما تنبئ عن بداية انحلال الخطبة، على أن قلبه وقلبها ظلا عامرين بهذا الحب إلى آخر حياتهما، فمن كلمات بتهوفن في سنة 1816: «يدق قلبي كلما ذكرتها بنفس القوة التي دق بها حين رأيتها لأول مرة.»

وفي هذه السنة عينها، سنة 1816، وضع الأنغام الأربع البديعة: «إلى العزيزة المحبوبة النائية» وكتب في مذكراته: «يفيض قلبي لمشهد هذه الطبيعة البديعة وهي مع ذلك ليست هنا إلى جانبي.» وكانت تريز قد أهدت إليه صورتها وكتبت عليها هذا الإهداء: «إلى النابغة الفذ والفنان العظيم والرجل الطيب.» وقد دخل صديق على بتهوفن في آخر سنة من سني حياته فألفاه يقبل الصورة ويبكي ويناجي نفسه بصوت رفيع: «لقد كنت جميلة، وكنت عظيمة، وكنت كالملائكة الأطهار.» وبلغ من شدة تأثره لفراق تريز أن كتب يوما إلى أحد أصدقائه: «أيها المسكين بتهوفن - محدثا عن نفسه - ليس لك في هذا العالم حظ من السعادة، إنما حظك منها في رحاب المثل الأعلى، فلك فيه أصدقاء.» وكتب في مذكراته «إسلاما! وإسلاما تاما لحظك، أنت لم تعد تستطيع أن تعيش لنفسك وإنما تعيش لغيرك، ولم يبق لك من نعيم في غير فنك، اللهم هبني قوة الانتصار على نفسي.» هذا ولم تفتأ تريز تذكر بتهوفن إلى آخر حياتها، فكيف انفصمت الخطبة ولم يجمع بينهما الزواج؟ ذلك ما لم يقف عليه أحد، ولعله كان لفقر بتهوفن واختلاف مكانته مع مكانة تريز الاجتماعية، ولعله كان لطبع بتهوفن الحاد القاسي السريع إلى التطير والذي لا تهون الحياة البيتية معه.

Página desconocida