Biografías Egipcias y Occidentales
تراجم مصرية وغربية
Géneros
ولم يكن عجيبا أن يكتب قاسم أمين على هدوء نفسه وحسن تقديره هذا الذي كتب، ولم يكن عجيبا أن يحرك مصر من أقصاها إلى أقصاها الحزن لوفاة الزعيم الشاب، فقد جاء به القدر في فترة من فترات حياة هذا الوطن حين بدأت الأمة تنسى مظالم الماضي أيام حكم إسماعيل وتشعر بشدة وطأة الحكم البريطاني الذي قام على أساس من المصالح المادية وحدها، فلم يعن إلا بتخفيف الأعباء المالية ناسيا كل اعتبار غير تخفيض الضرائب؛ ليخيم على البلاد الجهل، وليكن الغرض الأسمى من التعليم خلق الموظفين، وليشعر المصريون بافتقارهم للحاكم البريطاني وبضعفهم أمامه، فذلك كله هين ويسير ما دامت الضرائب المرهقة وما دامت السخرة والكرباج قد ألغيت، في هذه الفترة التي شعرت فيها الأمة بالحاجة المعنوية للعزة القومية وللكرامة الإنسانية، بعث القدر مصطفى بشيرا بهذه الحاجات السامية رفيع الصوت، عالي الكلمة، طلق اللسان، قوي الجنان، حلو الأسلوب، يتغنى لقومه بما تشعر به نفوسهم في غور أعماقها، فكان طبيعيا أن يلتف الظمأى حول هذا الورد من الكلام السائغ يسمعون عنده الأناشيد التي تطرب لها نفوسهم وتهتز لها قلوبهم ويجد فيها شعورهم الحبيس منفذا ومتنفسا، ليكن ذلك الكلام غير ذي غناء، ولتبق القوة الغاشمة قديرة على أن تسير في طريقها، ترفع من شأن المصالح المادية على حساب حاجات النفس المعنوية، فلن يغير ذلك من قيمة هذا الذي يشدو باسم الوطن ومن محبة الناس له شيئا، ألست ترى إلى الجمع الحافل من العمال يسد جوعه على مائدة ذي المال جزاء كدحه طول نهاره، ثم ما يلبث أن يذهب لسماع الشاعر أو المغني يروي عنده ظمأ روحه؟ وهو لهذا المغني أشد حبا منه لمن يمسك عليه حياته المادية؛ لأنه يحس في الشاعر معنى إنسانيا، في حين أن سعيه لدى المالك وجزاءه من سعيه لا يجزيه إلا الإبقاء على حياته الحيوانية البحتة.
لذلك كان جزاء وفاقا أن تحزن مصر على شاعر الوطنية العظيم مصطفى كامل، وكان حقا أن يرى قاسم أمين في وحدة هذا الشعور بفقد الزعيم الشاب الذي كرس حياته ليتغنى باسم مصر وليعلن أنه وهبها حياته، وحدة في الأمل الكبير بمستقبل زاهر. •••
ولد مصطفى كامل في سنة 1874، أي في السنة التي ولد فيها الخديو عباس حلمي الثاني، وقد بعث به أبوه علي أفندي محمد - وكان مهندسا - إلى مدرسة أم عباس، فمدرسة القربية الابتدائيتين حيث تلقى دراسته الأولى، وفي أواخر أيامه بهما توفي أبوه وكفله أخوه حسين واصف باشا وزير الأشغال السابق، وبعد الدراسة الابتدائية التحق بالمدرسة التجهيزية - الخديوية الآن - لتلقي دراسته الثانوية، وفيها ظهر جريئا أكثر من زملائه جميعا، وجرأته هي التي جعلته دون سائر إخوانه يذهب بنفسه فيقابل ناظر المعارف إذ ذاك علي باشا مبارك يشكو له حيف نظام الامتحان حيث أدى إلى رسوبه ورسوب زملائه، وإعجاب ناظر المعارف بهذه الجرأة هو الذي جعله يعدل عن هذا النظام فيؤدي ذلك إلى نجاح مصطفى وكثيرين من زملائه، فلما أتم دراسته الثانوية التحق بمدرسة الحقوق الخديوية في العام المدرسي 1891-1892، ومن ذلك التاريخ بدأ ينشر رسائل ومقالات في الصحف، كما أنه - على ما يذكر مؤرخوه ومن بينهم مدام جوليت آدم - ارتبط بالخديو السابق عباس حلمي الثاني برابطة كانت ذات أثر مباشر في حياته كلها بعد ذلك.
ولم يكن مصطفى كامل هو وحده الشاب الذي اصطفاه عباس الثاني، ولا كان هو وحده الذي أثر ارتباطه به في حياته، بل لقد اصطفى كثيرين من الشبان يومئذ ممن توسم فيهم الذكاء والإقدام فعاونهم في دراساتهم وعاونهم بعد الدراسة، وأوفدهم إلى أوربا لمهمات سياسية يؤيد بها سلطته ومركزه كحاكم مصر الشرعي، وسياسة عباس الثاني كانت معارضة تمام المعارضة لسياسة الإنجليز، فإنه ما لبث أن تبوأ عرش أبيه وجده حتى وجد ندا له في قصر الدوبارة، لورد كرومر معتمد بريطانيا صاحبة السلطان الفعلي في البلاد بقوتها وبجيش احتلالها وباستئثارها بكل المناصب الرئيسية في الحكومة، وهو ما لبث أن تبوأ عرش أبيه وجده وأراد - مدفوعا بحماس الشباب - أن يظهر للناس حقه وسلطانه حتى صدمته حادثة الحدود التي اضطر معها إلى الاعتذار عن ملاحظته التي أبداها للقائد كتشنر حين استعراضه الجيش المصري بالسودان، وكان المتقدمون في السن من المصريين الذين شهدوا عهد إسماعيل ومظالم حكومته والذين رأوا حركة عرابي واشتركوا أو لم يشتركوا فيها وشهدوا فشلها وتغلب سلطان الإنجليز عليها وعلى فرنسا وانفرادهم دونها بأمر مصر - كان هؤلاء المتقدمون في السن أشد الناس ترددا في مشاركة الأمير الشاب الذي اعتلى العرش في الثامنة عشرة من عمره مطامعه ومطامحه، فلم يكن يستطيع الاعتماد إلا على الذين لم يهون عليهم ظلم إسماعيل استبداد الإنجليز والذين لم يضعف الجهل أو البله في نفوسهم معنى الحرية، وكان مصطفى كامل بين هؤلاء بل كان في مقدمتهم، فقد جمع إلى الشباب إقداما جاوز حدود الإقدام مع نشاط عصبي لا يهدأ إلا أن يهد المرض صاحبه ويقعده عن حركته الدائمة، وهو لذلك لم يقنع بدراسة الحقوق وبكتابة المقالات في الصحف بل أنشأ - وما يزال في أول سني طلب الحقوق - مجلة أسماها «المدرسة»، صدر أول أعدادها في 18 فبراير سنة 1892 وجعل نفسه بها زعيما لزملائه في الدرس يلقي عليهم النصائح ويرشدهم إلى الواجب ويقدم لهم مختلف المعلومات التي يرشده إليها اختباره الشاب في بطون الكتب والنشرات الدورية.
وفي يونية سنة 1892 سافر لأول مرة إلى فرنسا ليؤدي امتحان الحقوق الأول بباريس، وكان طبيعيا أن تأخذ بلبه الغض حضارة الغرب وأن تؤثر في أعصابه الحساسة مظاهر الحياة الناشطة والحرية المنظمة، وكانت فرنسا يومئذ قد أفاقت من كبوة سنة 1870 حين قهرتها ألمانيا، وجعلت تذكر في حسرة تدليها من الصف الأول في تصريف سياسة العالم، والشعور بالألم يحفز الإحساس ويفيض على اللسان الشكوى والطموح والأمل، وقد تأثر مصطفى كامل بهذا أيضا كما تأثر بالحضارة وبالحرية، وزاده تأثرا معاودته الحضور للامتحان في سنة 1894 بباريس، وفي أواخر هذه السنة بتولوز حيث نال إجازة الحقوق، ومن ذلك اليوم انفتحت أمام خياله الشاب آفاق الحياة وآمالها، ولعل مما وجه هذه الآمال وجهتها ما وقع له مصادفة من مقابلة الكولونيل بارنج شقيق لورد كرومر وما دار بينهما من حديث كان له في العالم السياسي قيمة وترتبت عليه حملة صحفية اشترك هو فيها فحالفه الفوز، فاتجهت إليه الأنظار، فرسم له القدر بذلك طريق حياته، فقد نشرت جريدة الأهرام الصادرة في 28 يناير سنة 1895 مقالا عنوانه (حديث ذو شأن) موقعا بإمضاء مصطفى كامل حاويا لما دار بين المصري الشاب وبين الضابط الإنجليزي من مناقشة أفضى فيها الضابط بكل سياسة إنجلترا في مصر مؤيدة بالدليل القاطع الذي لا يعرف حجة ولا جدلا: دليل قوة السيف والمدفع، وأفضى فيها المصري الشاب بحجة مصر وحقها وباعتمادها لنيل هذا الحق على قوته في ذاته وعلى أوربا التي لا تنظر إلى إنجلترا في وادي النيل بعين مطمئنة، ولعل هذه الفقرة من أقوال مصطفى كامل تفسر نشاطه في المستقبل وتفسر السياسة التي اتبعها إلى سنة 1904 حين تم الاتفاق الودي بين فرنسا وإنجلترا اتفاقا انضمت إليه ألمانيا والنمسا، قال مصطفى: «إن لمصر أن تأمل من أوربا نجاتها وخلاصها، ولنا أوربا بأسرها التي تناديها صوالحها العدة بأن تنصرنا نصرة لتلك الصوالح التي سعيتم من يوم احتلالكم البلاد في تقويض أركانها.»
وربما كان للخديو ومصطفى كامل ولكثير من المصريين يومئذ العذر في اعتمادهم على أوربا والتجائهم إلى بعض دولها لمناوأة البعض الآخر، فلم تكن سياسة أوربا الاستعمارية قد استقرت يومئذ على أساس ارتضته دولها الكبرى، واطمأنت معه كل واحدة منها إلى أنها نالت من الغنيمة الحظ الذي يكفيها، والتي تكفي قواها للدفاع عنه ولاستغلاله وامتصاص دمه، بل كانت المنافسات ما تزال على أشدها بين إنجلترا وفرنسا، وكانت ألمانيا الناشئة متطلعة إلى مثل الإمبراطورية البريطانية، وكانت النمسا تنظر إلى ماضيها بعين الوجل إذ تراه يرتجف، وكانت سياسة الباب العالي في الأستانة قائمة على الاستفادة من هذه المنافسات الدولية، فلم لا تقوم سياسة مصر على الاستفادة من هذه المنافسات الدولية، فلم لا تقوم سياسة مصر على هذه القاعدة أيضا؟ ولم لا تستفيد مصر من تطلع هذه الدول جميعا إليها لتتخلص منها جميعا ولتصل إلى نوع من الحيدة يكفل لها ولو الاستقلال الداخلي الواسع النطاق الذي وصل إليه إسماعيل باشا؟
والواقع أن فرنسا كانت ما تزال دامية الجرح لفشل سياستها بمصر بعد إحجامها عن الاشتراك مع إنجلترا في التدخل المسلح سنة 1882، وكان ألمها أشد لأن هذه الضربة كانت في حكم القاضية على ما نالته في وادي النيل من نفوذ منذ حملة نابليون في سنة 1798، ومنذ اصطفائها محمد علي وسعيد من بعده، ومنذ قيامها بحفر قناة السويس ونشر الثقافة الفرنسية في بلاد الفراعنة، وزاد الجرح إيلاما أن الفشل لم يقف عند مصر، بل تناول نفوذ فرنسا في الشرق الأقصى بسبب تغلب إنجلترا عليها في الهند وفي غير الهند من الممتلكات.
وقد أراد الخديو مستترا وأراد مصطفى كامل أن يستفيد من هذه السياسة غاية الاستفادة، وكانت القاعدة التي رسمت أن تطالب الدول الأوربية إنجلترا بتنفيذ وعدها بالجلاء عن مصر، وأن تدفع الدول الأوربية إلى هذه المطالبة ببيان ما تقوم به إنجلترا في وادي النيل من أعمال تدل على قصدها البقاء فيه، وكان حديث مصطفى كامل مع الكولونيل بارنج خطوة أولى وخطوة قوية في هذا السبيل، ولم تمض على هذه الخطوة أسابيع حتى استصدرت إنجلترا من الحكومة المصرية دكريتو بتأليف محكمة مخصومة تحاكم المصريين الذين يعتدون على جنود جيش الاحتلال أو ضباطه، وانتهز مصطفى كامل الفرصة للاستفادة من هذا الحادث أيضا، ثم كان أن جاء مسيو دلونكل عضو مجلس النواب الفرنسي إلى مصر في 21 مارس سنة 1895، ولعله وحده، بل لعل الحكومة الفرنسية وحدها لم يكونا كل السبب في حضوره، وقد استقبله مصطفى كامل بالإسكندرية وظل معه يصل بينه وبين المصريين من الطبقات المختلفة حتى غادر مصر عائدا إلى بلاده في 13 أبريل من ذلك العام، وفي يوم 11 أبريل أولم دلنكل للصحفيين بالإسكندرية وخطبهم فرد عليه مصطفى كامل شاكرا إياه وشاكرا فرنسا منتظرا منها معونة مصر وتأييدها.
ويذكر المرحوم علي بك فهمي كامل في السيرة التي وضعها لأخيه أنه بعد أيام من ذلك وساعة سفر علي مع الأورطة البيادة الأولى أسر إليه مصطفى بأنه مسافر إلى باريس، وقد دهش علي لهذا السفر المفاجئ على غير ميعاد وبلا سبب، وربما دهش له لسبب آخر حين ذكر له أخوه أن سفره إنما تدعو إليه «المسألة المصرية» لما يقتضيه هذا السفر وهذه المسألة والدعوة لها من طائل النفقة.
وسافر مصطفى إلى باريس، والحق أنه قام بالدعوة فيها بطريقة تدل على مهارة لا تتاح لفرد، بل تدبرها جماعة، وعلى نشاط لا يؤتاه كثيرون، فذكر بداءة أنه موفد من قبل الحزب الوطني المصري، والحزب الوطني على ما نعرفه نحن اليوم وعلى ما خلفه مصطفى كامل في سنة 1908 لم يكن له وجود في سنة 1895، لكن الحزب الوطني هو الاسم الذي كان يطلق على العرابيين، وإذا فهو يذكر الفرنسيين بهذا الحزب الذي تغلب عليه الإنجليز وحدهم حين تنحى الفرنسيون عن وادي النيل.
Página desconocida