تَعَالَى فَمِمَّا تَظَافَرَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَهُوَ فِي حَقِّهِ تَعَالَى يَدُلُّ عَلَى الْبَذْلِ الشَّامِلِ وَالْعَطَاءِ الدَّائِمِ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ وَلَا غَرَضٍ وَلَا عِوَضٍ، وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ أَوْ الْأَفْعَالِ، وَالْوَجْهُ الصَّحِيحُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ.
(وَأَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِثَوَابِ يَوْمِ التَّنَادِ) أَيْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ سُمِّيَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يُنَادِي فِيهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِلِاسْتِغَاثَةِ أَوْ يَتَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ، وَأَصْحَابُ النَّارِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ وَهَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ الدَّالُ مُشَدَّدَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُشَدَّدَةً فَلِأَنَّهُ يَنِدُّ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضِ أَيْ يَفِرُّ كَمَا قَالَ تَعَالَى ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ﴾ [عبس: ٣٤] الْآيَةَ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الرِّوَايَةُ، وَقِرَاءَةُ السَّبْعَةِ فِي قَوْله تَعَالَى ﴿إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ﴾ [غافر: ٣٢]، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْمُصَنَّفُ مُحْتَاجًا إلَى كُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ فِي الدُّنْيَا مِنْ التَّصْنِيفِ نَشْرُ الْمُصَنَّفِ وَالتَّحَلِّي بِمَعْرِفَتِهِ، وَهُوَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِعَلَاقَةِ الْقُلُوبِ بِكِتَابَتِهِ، وَمُدَارَسَتِهِ وَاعْتِقَادِ صِحَّتِهِ وَحَقِيقَتِهِ، وَفِي الْآخِرَةِ إفَاضَةُ الْجُودِ وَالْإِحْسَانِ مِنْ الْكَرِيمِ الْمَنَّانِ مُسَبِّبًا ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ عَمَّا عَانَاهُ الْمُصَنِّفُ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ فِي سَالِفِ الْأَزْمَانِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مَقْذُوفًا بِمُقْتَضَى فَضْلِ اللَّهِ الَّذِي يَخُصُّ بِهِ سُبْحَانَهُ مَنْ شَاءَ مِنْ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ.
قَالَ: (وَاَللَّهَ ﷾ أَسْأَلُ ذَلِكَ) أَيْ جَعْلَهُ فِي الدُّنْيَا مَقْبُولًا، وَفِي الْآخِرَةِ جَزِيلَ الثَّوَابِ حَبْلًا مَوْصُولًا وَذَلِكَ مِمَّا يَصْلُحُ أَنْ يَقَعَ إشَارَةً إلَى الْمُثَنَّى بِدَلِيلِ قَوْلِهِ ﴿لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٦٨]، وَقَدَّمَ الْمَفْعُولَ وَهُوَ الِاسْمُ الْجَلِيلُ لِلِاهْتِمَامِ وَالتَّخْصِيصِ (وَهُوَ سُبْحَانَهُ نِعْمَ الْوَكِيلُ) وَكَفَى بِهِ وَكِيلًا، وَكَيْفَ لَا وَهُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِجَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ جَمِيعُ الْخَلْقِ، وَقَدْ وَكَلَ أُمُورَ خَلْقِهِ إلَيْهِ وَوَكَلَ عِبَادُهُ الْمُتَوَكِّلُونَ عَلَيْهِ أُمُورَهُمْ إلَيْهِ ثُمَّ هَذَا مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الَّتِي تَظَافَرَ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَعَلَيْهِ تَفْسِيرُهُ بِالْمَوْكُولِ إلَيْهِ الْأُمُورَ مِنْ تَدْبِيرِ الْبَرِّيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَأَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَعَلَيْهِ تَفْسِيرُهُ بِالْكَفِيلِ بِالرِّزْقِ وَالْقِيَامِ عَلَى الْخَلْقِ بِمَا يُصْلِحُهُمْ وَبِالْمُعِينِ وَبِالشَّاهِدِ وَبِالْحَفِيظِ وَبِالْكَافِي إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ أَفَادَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْوَكِيلُ الَّذِي وَكَلَ عِبَادُهُ أُمُورَهُمْ إلَيْهِ وَاعْتَمَدُوا فِي حَوَائِجِهِمْ عَلَيْهِ فَهُوَ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ فِيهِ مَعْنَى الْإِضَافَةِ الْخَاصَّةِ إذْ لَا يَكِلُ أَمَرَهُ إلَيْهِ مِنْ عِبَادِهِ إلَّا قَوْمٌ خَاصَّةٌ وَهُمْ أَهْلُ الْعِرْفَانِ، وَإِذَا كَانَ الْوَكِيلُ الَّذِي وَكَلَ أُمُورَ عِبَادِهِ إلَى نَفْسِهِ، وَقَامَ بِهَا وَتَكَفَّلَ بِالْقِيَامِ عَلَيْهَا كَانَ وَصْفًا فِعْلِيًّا مُضَافًا إلَى الْوُجُودِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ لَا يَلِيقُ بِغَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ شَرْحُ الْعُلَمَاءِ لِهَذَا الِاسْمِ وَيَتَضَمَّنُ أَوْصَافًا عَظِيمَةً مِنْ أَوْصَافِهِ كَحَيَاتِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ الْمُنْفَصِلُ هُوَ الْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ قَدَّمَهُ لِلتَّخْصِيصِ.
(وَسَمَّيْته بِالتَّحْرِيرِ) لِكَوْنِهِ مُشْتَمِلًا عَلَى تَقْوِيمِ قَوَاعِدِ هَذَا الْفَنِّ وَتَقْرِيبِ مَقَاصِدِهِ وَتَهْذِيبِ مَبَاحِثِ هَذَا الْعِلْمِ وَكَشْفِ الْقِنَاعِ عَنْ وُجُوهِ خَرَائِدِهِ (بَعْدَ تَرْتِيبِهِ عَلَى مُقَدِّمَةٍ هِيَ الْمُقَدِّمَاتُ) الْآتِي ذِكْرُهَا، وَهِيَ الْأُمُورُ الْأَرْبَعَةُ بَيَانُ الْمَفْهُومِ الِاصْطِلَاحِيِّ لِلِاسْمِ الَّذِي هُوَ لَفْظُ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَبَيَانُ مَوْضُوعِهِ أَيْ التَّصْدِيقِ بِأَنَّهُ مَا هُوَ، وَبَيَانُ الْمُقَدِّمَاتِ الْمَنْطِقِيَّةِ الَّتِي هِيَ جُمْلَةُ مَبَاحِثِ النَّظَرِ وَطُرُقِ مَعْرِفَةِ صَحِيحِهِ وَفَاسِدِهِ وَبَيَانُ اسْتِمْدَادِهِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ فَصَارَتْ الْمُقَدِّمَةُ تُقَالُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَيَانَاتِ الْأَرْبَعَةِ، وَعَلَى مَجْمُوعِ الْبَيَانَاتِ كَمَا يُقَالُ لِكُلِّ فَرْدٍ إنْسَانٌ وَلِلْكُلِّ الْإِنْسَانُ، وَقَدْ يُقَالُ إنْسَانٌ بِمَعْنَاهُ، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ مُقَدِّمَةٌ هِيَ الْمُقَدِّمَاتُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ - غَفَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ -: فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُقَدِّمَةِ هُنَا مَا يُذْكَرُ أَمَامَ الشُّرُوعِ فِي الْعِلْمِ لِتَوَقُّفِ الشُّرُوعِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَوْ زِيَادَتِهَا عَلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَ كُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ لَا تَنْفَكُّ عِنْدَ التَّحْقِيقِ عَنْ أَحَدِ هَذَيْنِ كَمَا أَنَّ جُمْلَتَهَا لَا تَنْفَكُّ عَنْهُمَا بِطَرِيقِ أَوْلَى سَاغَ أَنْ يُتَرْجَمَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِلَفْظٍ مُفْرَدٍ نَكِرَةٍ نَظَرًا إلَى أَنَّهُ مَعْنًى كُلِّيٍّ تَشْتَرِكُ فِيهِ هَذِهِ الْمَاصَدَقَاتُ فَيَكْفِي فِي التَّعْبِيرِ عَنْهُ اسْمُ الْجِنْسِ النَّكِرَةِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَسْمَاءِ التَّنْكِيرُ عَلَى مَا عُرِفَ ثُمَّ لَا مُوجِبَ هُنَا يُوجِبُ مُخَالَفَتَهُ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ عَلَى الْأَصْلِ لَا يُسْأَلُ عَنْ سَبَبِهِ.
ثُمَّ لَمَّا كَانَتْ الْمُقَدِّمَاتُ عِبَارَةً عَنْ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الشُّعُورُ بِالْمَعْنَى الْكُلِّيِّ
1 / 13