تقريب الوصُول إِلى علم الأصُول
تأليف
أبي الْقَاسِم مُحَمَّد بن أَحْمد بن جُزَيّ الْكَلْبِيّ الغرنَاطي الْمَالِكِي
الْمُتَوفَّى سنة ٧٤١ هـ
1 / 127
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ترجمة المصنّف
هو محمد بن أحمد بن محمد بن عبد اللَّه بن يحيى بن عبد الرحمن بن يوسف بن سعيد بن جُزي الكلبي، كنيته أبو القاسم.
وُلِدَ سنة ٦٩٣ هـ في الأندلس، وأخذ عن أبي جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الغرناطي: النحوي، الأصولي، الأديب، المقرئ، المفسّر، المؤرّخ، وأبو القا سم قاسم بن عبد اللَّه بن محمد بن الشاط الأنصاري السبتي، الحافظ الفقيه، المالكي، الأصولي.
وأبو عبد اللَّه محمد بن أحمد اللخميّ المعروف بابن الكماد، وأبو عبد اللَّه محمد بن عمرو الفهري السبتي، المعروف بابن رشيد، وأبو عبد اللَّه محمد بن أحمد بن يوسف بن أحمد بن عمر الهاشمي الطناجي، وغيرهم.
له مصنفات كثيرة منها: وسيلة المسلم في تهذيب صحيح مسلم، والدعوات والأذكار المتخرجة من صحيح الأخبار، والقوانين الفقهية في تلخيص مذهب المالكية، والتنبيه على مذهب الشافعية، والحنفية، والحنبلية، وتقريب الوصول إلى علم الأصول [وهو كتابنا].
وفاته: توفي ﵀ شهيدًا يوم الكائنة بطريف سنة [٧٤١ هـ] (١).
وصف المخطوط
لقد استعنّا في تحقيق هذا الكتاب بالإضافة إلى المطبوعة على النسخة الخطية في الخزانة العامة بالرباط تحت رقم [١٨٦٣]، وتقع في [٦٥/ ق].
_________
(١) انظر ترجمته في: نفح الطيب [٥/ ٥١٤]، الديباج المذهب [٢٩٥]، الدرر الكامنة [٣/ ٤٤٦]، الإحاطة [٣/ ٢٠]، الفتح المبين [٢/ ١٥٤].
1 / 129
ل/ أالورقة الأولى
1 / 131
الورقة الأولى [ل/ ب] الرباط
1 / 132
ورقة من المخطوط [ل/ أ] الرباط
1 / 133
ورقة من المخطوط [ل/ ب] الرباط
1 / 134
اللوحة الأخيرة
1 / 135
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
صلّى اللَّه على سيّدنا محمد وآله وصحبه وسلم
قال الشيخ الفقيه الأستاذ العالم أبو القاسم بن أحمد بن جزي وحمه اللَّه تعالى، وجعل الجنة مثواه، آمين:
الحمد للَّه الذي رفع بالعلم درجات أهله، وأجزل ثوابهم على اكتسابه وعلى نقله، كما أنعم عليهم بالتوفيق لدرسه وحمله، وصلوات اللَّه وسلامه على سيدنا محمد خاتم أنبيائه ورسله، الذي هدى كافة الخلق إلى منهاج الحق وسبله، وبالغ في تبليغ الرسالة بقوله وفعله، بذل جهده بين إقامة دين اللَّه وبيان فرعه وأصله، حتى ظهر مصداق قول الملك ﷻ: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ [التوبة: الآية ٣٣]. ورضي اللَّه عن أهل بيته الطاهرين وأصحابه الأكرمين وحشرنا معهم تحت ظلال عرشه يوم لا ظل غير ظله.
أما بعد:. . .
فإن العلوم على ثلاثة أضرب: علم عقلي، وعلم نقلي، وعلم يأخذ من العقل والنقل بطرف، فلذلك أشرف في الشرف على أعلى شرف، وهو علم أصول الفقه الذي امتزج به المعقول بالمنقول، واشتد على النظر في الدليل والمدلول، وإنه لنعم العون على فهم كتاب اللَّه وسنة الرسول ﷺ، وناهيك من علم يرتقي الناظر فيه عن حضيض رتبة المقلدين، إلى رفيع درجات المجتهدين، وأقل أحواله أن يعرف وجوه الترجيح فيفرقه بين الراجح والمرجوح، ويميز بين السقيم والصحيح، وإني أحببت أن يضرب ابني محمد -أسعده اللَّه- في هذا العلم بسهمه، فصنفت هذا الكتاب برسمه ورسمته بوسمه، لينشط لدرسه وفهمه، وعولت فيه على الاختصار والتقريب، مع حسن الترتيب والتهذيب، وقسمته إلى خمسة فنون:
الفن الأول: في المعارف العقلية.
1 / 137
الفن الثاني: في المعارف اللغوية.
الفن الثالث: في الأحكام الشرعية.
الفن الرابع: في الأدلة على الأحكام الشرعية.
الفن الخامس: في الاجتهاد والترجيح.
وجعلت في كل فن عشرة أبواب، فاحتوى الكتاب على خمسين بابًا، وقدمت في أوله مقدمته يحتاج إليها وسميته: "تقريب الوصول إلى علم الأصول" واللَّه المستعان.
الفصل الأول: في تفسير أصول الفقه
وهو مركب من كلمتين، فنفسر كل واحدة على انفراد، ثم نفسر المركب منهما. أما الأصول فجمع أصل، وله في اللغة معنيان: أحدهما: ما منه الشيء والآخر ما يبنى عليه الشيء (١) حسيًّا أو معنى، وله في الاصطلاح معنيان: أحدهما: الراجح والآخر: الدليل (٢).
وأما الفقه فهو في اللُّغة الفهم (٣)، وهو في الاصطلاح: (العلم بالأحكام الشرعية الفرعية بأدلتها على التفصيل في الأحكام وفي أدلتها).
فقولنا: العلم، نريد به ما يشمل القطع والظن، لأن الفقه منه مقطوع به ومظنون، فالعلم هنا الظن وما في معناه.
وقولنا: بالأحكام، تحزّزًا من العلم بالذوات.
وقولنا: الشرعية، تحزّزًا من العقلية وغيرها.
وقولنا: الفرعية، تحزّزًا من أصول الدين.
وقولنا: بأدلتها، تحزّزًا من التقليد، وهو: (الاعتقاد بغير دليل)، فإنه لا يسمى في الاصطلاح فقهًا.
وقولنا: على التفصيل في الأحكام وفي أدلتها: تحرزًا من أصول الفقه، فإنَّ الفقيه يعرف آحاد مسائل الأحكام، ويستدل بآحاد أدلة، والأصولي إنما يعرف أنواع
_________
(١) انظر القاموس المحيط ٣/ ٣٢٠.
(٢) انظر المستصفى للغزالي ١/ ٥، والأحكام للآمدي ١/ ٨، وفواتح الرحموت للأنصاري ١/ ٣.
(٣) انظر القاموس المحيط ٤/ ٢٨٩.
1 / 138
الأحكام ويستدل عليها بآحاد الأدلة من تعيين آحادها، وتحرزًا أيضًا بقولنا: على التفصيل في الأدلة من استدلال المقلد على الجملة، فإنه يستدل بأصل إمامه على صحة قوله.
وأما أصول الفقه: (فهو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية على الجملة وبأدواتها والاجتهاد فيها وما يتعلق به).
الفصل الثاني: في وجه تقسيم هذا الكتاب إلى الفنون الخمسة المذكورة
وذلك أن المقصود الأول إنما هو معرفة الأحكام الشرعية، فهذا الفن هو المطلوب لنفسه، وإنما احتيج إلى سائر الفنون من أجله، ولما كان ثبوت الأحكام متوقفًا على الأدلة احتيج إلى فن الأدلة، ولما كان استنباط الأحكام من الأدلة متوقفًا على شروط الاجتهاد احتيج إلى فن في الأدلة وشروطه، وكيفيته من الترجيح وغيره، ثم إن ذلك كله يتوقف على أدوات يحتاج إليها في فهمه والتصرف فيه، وهي له آلات، وهي على نوعين:
منها ما يرجع إلى المعاني وهو من المعارف العقلية.
ومنها ما يرجع إلى الألفاظ وهي فن المعارف اللغوية، فانقسم العلم بالضرورة إلى تلك الفنون الخمسة، فقسمنا كتابنا هذا إليها، وقدمنا الأدوات، لأنه لا يتوصل إلى فهم ما سواها إلا بعد فهمها.
1 / 139
الفن الأول من علم الأصول في المعارف العقلية
وفيه عشرة أبواب:
الباب الأول: في مدارك العلوم
وهو ضربان: تصور وتصديق:
- فأما التصور، فإدراك الذوات المفردة كمعرفة معنى الجسم، والحركة، والحيوان، والجماد، والحادث، والقديم، وغير ذلك.
- وأما التصديق، فهو إسناد أمر إلى ذات بالنفي والإثبات، كقولنا: الجسم حادث والجسم ليس بقديم (١)، فالتصور مقدم والتصديق متأخر عنه، ثم إن الإسناد التصديقي على خمسة أنواع: علم، وجهل، وشك، وظن، ووهم.
- فالعلم: هو الجزم المطابق للحق، وقيل في حده: معرفة المعلوم على ما هو به (٢)، فاعترض بلزوم الدور فقيل فيه العلم صفة توجب تمييزًا لا يحتمل النقيض (٣).
- والجهل: هو الجزم غير المطابق، وقد يقال فيه جهل مركب (٤).
- والشك: هو احتمال أمرين فأكثر من غير ترجيح (٥).
- والظن: هو الاحتمال الراجح (٦).
- والوهم: هو الاحتمال المرجوح (٧).
_________
(١) انظر المستصفى ١/ ١١.
(٢) انظر البرهان للجويني ص ١١٥، والمنخول للغزالي ص ٣٣.
(٣) انظر الأحكام للآمدي ١/ ١٠.
(٤) انظر شرح الكوكب المنير ص ٢٢.
(٥) انظر التعريفات ص ١٢٨.
(٦) انظر شرح تنقيح الفصول ص ٦٣.
(٧) انظر المحصول ١/ ١ ص ١٠١.
1 / 141
تكميل:
حكم العقل بأمر على أمر يسمى تصديقًا، فإن تكلم به فهو خبر فإن رام الاحتجاج عليه سمي دعوى، فإن ذكره في معرض الحجة سمي قضية.
الباب الثاني: فيما يوصل إلى التصور
وذلك ثلاثة أشياء: الحد، والرسم، واللفظ المراد.
- فأما الحدّ: فهو تعريف ماهية الشيء بجنسه وفصله.
- وأما الرسم: فهو تعريف ماهية الشي بجنسه وخاصته.
فقولنا: ماهية الشيء، هي التي يسأل عنها بـ "ما"، وتحرزنا بذلك مما يسأل عنه بـ "أي" وبـ "أين" و"متى" و"كيف".
وقولنا: بجنسه، يشمل الجنس الأعلى وما تحته النوع، فإن النوع جنس بالنسبة إلى ما تحته، ولكن الأولى أن يذكر في الحد والرسم الجنس الأقرب.
وقولنا في حد: الحد بفصله هو الوصف اللازم الذاتي الذي لا يفهم الشيء بدون فهمه كالنطق النفساني للإنسان.
وقولنا في حدة الرسم بخاصته الخاصة وصف لازم، إلا أنه غير ذاتي فلا يتوقف الفهم عليه كالضحك بالقوة للإنسان، بقولنا الإنسان هو الحيوان الناطق حد وقولنا: الإنسان هو الحيوان الضاحك رسم، وإنما اشترطنا ذكر الجنس ليعم فيكون (الحد والرسم) جامعًا، وهو المقصود.
واشترطنا الفصل والخاصة ليخرج غير المطلوب، فإنهما وصفان يتميز بهما الموصوف من غيره فيكون الحد أو الرسم مانعًا وهو المنعكس، وقد يسقط ذكر الجنس من الحد أو الرسم فيكون ناقصًا كقولنا: الإنسان هو الناطق أو الضاحك.
- وأما اللفظ المرادف فنحو قولنا: البر وتقول: القمح، ويشترط أن يكون مساويًا لا أعم ولا أخص (١)، ويحترز في الحد والرسم والمرادف من التعريف [بالمساوي]، والأخفى من الإجمال في اللفظ، ومن الدور، وهو التعريف بما لا يعرف إلا بحد معرفة المطلوب، فيتوقف.
_________
(١) انظر الأحكام للآمدي ١/ ٢٠.
1 / 142
تنبيه:
الحد غير المحدود إن أريد به اللفظ وهو نفسه، إن أريد به المعنى، فإنَّ لكل شيء في الوجود أربع مراتب:
حقيقتُه في نفسه، ومثالُه في الذهب، وذكرُه باللسان، وكتابتُه بالقلم (١).
الباب الثالث: فيما يوصل إلى التصديق
فالمُوصل إلى العلم يسمى دليلًا (٢)، والمُوصل إلى الظن يسمي أمارة، ثم إن الدليل ينقسم أربعة أنواع:
سَمعي، وعقلي، وحسي، ومركب من العقل والحسن.
- فأما السمعي: فهو دليل الكتاب والسنة المتواترة، والإجماع لا غير فإن غيرها كالقياس وشبهه إنما يفيد الظن.
- وأما العقلي: فينقسم قسمين: ضروري، ونظري.
فالضروري: هو الذي لا يفتقر إلى نظر واستدلال، ويسمى أيضًا البديهي، كعلم الإنسان بوجود نفسه، وعلمه بأن الاثنين أكثر من الواحد، وعلمه بأن المصنوع لا بد له من صانع، وشبه ذلك من الأوليات.
والنظري خلافه: وهو الذي يفتقر إلى نظر واستدلال.
- وأما الحسي: فهو الإدراك بالحواس الخمس، وهي: السمع والبصر والشم، والذوق، واللمس، وينخرط في سلكها الوحدانيات كعلم الإنسان بلذته وألَمِه.
- وأما المركب عنهما من الحس والعقل، فهو التواتر والتجريب والحدس وزاد أبو المعالي وأبو حامد قرائن الأحوال، كصفرة الوجل (٣) وحمرة الخجل، فتلخص من هذا أن المفيدات للعلم تسعة وهي:
السمع، وضرورة العقل، والنظر العقلي، والحس، والوجدان، والتواتر والتجريب، والحدس، وقرائن الأحوال.
_________
(١) انظر المستصفى ١ - ٢١/ ٢٢.
(٢) انظر المحصول ١/ ١/ ١٠٦.
(٣) الوجل: الفزع والخوف، انظر لسان العرب ٣/ ٨٨٣.
1 / 143
ثم دون هذه المرتبة ما يفيد الظن وهي ثلاثة أشياء: المشهورات، والمقبولات، والوهميات.
فأما المشهورات: فهي ما اتفق عليه الناس أو أكثرهم أو به الأفاضل منهم من العوائد وغيرها، وقد يحكم العقل بمقتضى ذلك أو لا يحكم به ولا يخالفه.
وأما المقبولات: فهي ما يخبر به الثقة أو الثقات الذين لم يبلغوا مبلغ التواتر، ولكن تسكن النفس إليها.
وأما الوهميات: فهي ما يتخيل أنه عقلي وليس كذلك (١).
الباب الرابع: في أسماء الألفاظ
وهي:
المشترك، والمترادف، والمتواطي، والمشكك، والمتباين، ونبينها بتقسيم وهو: أن اللفظ ومعناه على أربعة أقسام:
الأول: أن يتحد اللفظ ويتعدد المعنى فهو المشترك كالعين.
الثاني: أن يتعدد اللفظ ويتحد المعنى، فهو المترادف كالقمح والبر والحِنطة.
الثالث: أن يتحدد اللفظ والمعنى، فإن كان معناه مستويًا في محاله كالرجل فهو المتواطي، وإن كان معناه متفاوتًا أو مختلفًا، فهو المشكك كإطلاق النور على ضوء الشمس وضوء المصباح.
الرابع: أن يتعدد اللفظ والمعنى، فهو المتباين كالإنسان والفرس والطير (٢). ومن هذا التقسيم، تؤخذ حدودها.
تنبيهان:
- الأول: قد يتوهم في ألفاظ أنها مترادفة، وهي متباينة كالسيف، والصارم، والمُهَنَّدِ، فإن السيف اسم للذات فقط والصارم باعتبار القطع، والمهند باعتبار أنه من الهند. وكذلك قولنا زيد متكلم فصيح، فإن الأول للذات، والثاني للصفة، والثالث لصفة الصفة (٣).
_________
(١) انظر البرهان ١/ ١٣١ - ١٣٣، ١٣٦.
(٢) انظر المستصفى ١/ ٣١.
(٣) انظر المستصفى ١/ ٣٢.
1 / 144
- الثاني: إن المشترك هو: اللفظ الموضوع لمعنيين وضعًا لم ينقل من أحدهما إلى الآخر، فإن كان منقولًا من أحدهما إلى الآخر فلا يسمى مشتركًا في الاصطلاح ولكن إن نقل لغير علاقة، سمي بالمنقول، وإن نقل لعلاقة، سمي بالنظر إلى المعنى الأول حقيقة وبالنظر إلى الثاني مجازًا.
الباب الخامس: في الدَّلالة
وهي ثلاثة أنواع: مطابقة، وتضمن، والتزام.
- فدلالة المطابقة: هي دلالة اللفظ على كمال مسماه كدلالة لفظ البيت على جميعه.
- ودلالة التضمن: هي دلالة اللفظ على جزء مسماه كدلالة لفظ البيت على سقفه.
- ودلالة التزام: هي دلالة اللفظ على لازم مسماه كدلالة السقف على الجدار (١).
تنبيهات ثلاثة:
الأول: زاد فخر الدين بن الخطيب (٢) قيدًا في دلالة التضمن وهو أن قال على جزء مسماه من حيث هو جزء تحرز من دلالة اللفظة بالمطابقة على معنى، وبالتضمن على غيره كقولنا: حرف لأحد حروف المعنى نحو: لَيْتَ، ولَعَلَّ وحرف اللام وحدها بمعنى حرف هجاء، فالأول يدل على اللام بالتضمن، والثاني يدل عليها مطابقة.
- الثاني: يشترط في دلالة الالتزام أن تكون الملازمة في الذهن والخارج، أو في الذهن خاصة لا في الخارج خاصة.
- الثالث: جعل شهاب الدين القرافي الدلالة قسمين:
دلالة اللفظ وهي ما ذكرنا.
والدلالة باللفظ: وهي استعمال المتكلم اللفظ في حقيقته أو مجازه.
_________
(١) انظر المستصفى ١/ ٣٠.
(٢) هو محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري أبو عبد اللَّه فخر الدين الرازي، انظر شذرات الذهب ٥/ ٢١.
1 / 145
الباب السادس: في الفرق بين الجزئي والكلي، والكل والجزء والكلية والجزئية
- أما الكلىُّ: فهو الذي لا يمنع تصور معناه من تعدده سواء وجد في الوجود متحددًا كالإنسان أو واحدًا كالشمس أو لم يوجد في الوجود، فإن الاعتبار هنا من جهة تصوره في الذهن.
- أما الجزئي: فهو الذي يدل على واحد بعينه كالاسم العلم ويسمي النحويون الكلي نكرة، ويسمون الجزئي معرفة.
وأنواعها خمسة: المضمر: وأسماء الإشارة، والعلم، والمعرف بالألف واللام، والمضاف إلى المعرفة.
فائدة:
المضمر عند أكثر الناس جزئي كاختصاصه بمتكلم أو مخاطب أو غائب، وقال النحويون فيه: إنه أعرف المعارف.
وقال شهاب الدين: إنه كلي في وضعه وإنما اختص في استعماله.
- وأما الكل: فهو المجموع بجملته كأسماء الأعداد.
- والجزء: هو ما تركب الكل منه كتركيب العشرة من اثنين في خمسة.
- وأما الكلية: فهي ما يقتضي الحكم على كل فرد من أفراد الحقيقة، كقوله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (٢٦)﴾ [الرحمن: الآية ٢٦].
والجزئية: ما تقتضي الحكم على بعض أفراد الحقيقة، كقولنا: بعض الحيوان إنسان.
بيان:
قد يعسر الفرق بين الكل والكلية، وهو أن الحكم في الكل على المجموع لا على كل فرد بانفراده، وذلك كقولنا: كل إنسان يَشِيلُ الصخرة العظيمة، والحكم في الكلية على كل فرد بانفراده حتى لا يبقى فرد، كقولنا: كل إنسان يشبعه رغيف.
الباب السابع: في نسبة بعض الحقيقة من بعض
إذا نظرنا إلى حقيقة مع أخرى وجدتها على أربعة أقسام:
1 / 146
- الأول: أن تكون إحداهما أعم مطلقًا، والأخرى أخص مطلقًا، كالحيوان والإنسان، يستدل بوجود الأخص على وجود الأعم، وينفي الأعم على نفي الأخص، ولا دليل في عدم الأخص ولا في وجود الأعم.
- الثاني: أن يكون كل واحد منهما أعم من وجه وأخص من وجه آخر كالإنسان والأبيض، فلا دليل لأحدهما على الآخر أصلًا.
- الثالث: أن يكونا متساويين كالإنسان والضاحك بالقوة، فيستدل بوجود كل واحد منهما على وجود الآخر، وبعدمه على عدمه.
- الرابع: أن يكونا متباينين كالحيوان والجماد، والمعلومات أيضًا على ثلاثة أقسام:
نقيضان: وهما اللذان لا يجتمعان معًا ولا يرتفعان معًا كوجود زيد وعدمه، فيستدل بوجود أحدهما على عدم الآخر، وبعدمه على وجوده.
وضدان: وهما اللذان لا يجتمعان ويمكن ارتفاعهما كالسواد والبياض، فيستدل بوجود أحدهما على عدم الآخر، ولا دليل في عدم واحد منهما.
وخلافان: وهما اللذان يمكن اجتماعهما وارتفاعهما كالإنسان والفرس، فلا دليل في وجود واحد منهما ولا في عدمه.
قانون:
في هذا الباب وذلك بإدخال كل على إحدى الحقيقتين والإخبار بالأخرى فإن صدقت القضية من الجهتين فهما متساويان كقولنا: كل إنسان ضاحك، وكل ضاحك إنسان، وإن كذبت من الجهتين، فهما متباينان، أو أعم من وجه وأخص من وجه، وإن صدقت من الجهة الواحدة، فهما أعم مطلقًا وأخص مطلقًا كقولك: كل إنسان حيوان، والمضاف إلى "كلُّ" هو الأخص، والخبر هو الأعم، وإن عكستها كذبت.
الباب الثامن: في أنواع الحجج العقلية
وهي ثلاثة أنواع: قياس، واستقراء، وتمثيل.
- فأما القياس: فهو عبارة عن كلام مُؤلَّفٍ مقدِمتين فأكثر، يتولد منهما نتيجة (١) وهي المطلوب إثباتها أو نفيها، فنذكره في موضعه.
_________
(١) انظر المستصفى ١/ ٥٢.
1 / 147
وهذا القياس في اصطلاح أهل المنطق، وأما القياس في اصطلاح الفقهاء فنذكره في موضعه. ثم إن هذا القياس المنطقي إن كانت مقدماته قطعية وركبت كما يجب بشروطها، سمي برهان، وكانت النتيجة علمًا يقينيًا (١)، وإن كانت مقدماته أو واحدة منهما غير قطعية أو دخله خلل في التركيب أو نقص من شروطها لم يفد اليقين، وقد يفيد الظن أو ما دونه.
- وأما الاستقراء: فهو أن ينظر الحكم في كثير من أفراد الحقيقة، فيوجد فيها على حالة واحدة، فيغلب على الظن أنه على تلك الحالة في جميع أفراد الحقيقة (٢).
- وأما التمثيل: فهو أن يحكم لجزء بحكم جزء آخر (٣) وهو أضعفها.
والفرق بينها:
أن القياس احتجاج منقول على معنى كلي إلى معنى كلي تحته، أو إلى جزئي، وأن الاستقراء منقول من جزئيات متعددة إلى كلي، وأن التمثيل منقول من جزئي إلى جزئي.
الباب التاسع: في أنواع القياس المنطقي
وهو خمسة: برهان، وجدل، وخطابة، وشعر، وسفسطة.
- فأما البرهان: فهو القياس اليقيني الصحيح.
الصحيح: وهو الذي تكون مقدماته قطعية كلها البديهيات، والنظريات الصحيحة، والحسية السالمة من غلط الحس.
- وأما الجدل: فهو الذي تكون مقدماته مقبولة أو مشهورة عند الكافة وهي في الأغلب صادقة، وقد تكون كاذبة في النادر.
وفائدة الجدل أن يغلب الخصم خصمه.
- وأما الخطابة: فهي التي تكون مقدماتها مقبولة يحصل بها غلبة الظن فتقتنع النفس بها وتركن إليها مع حضور نقيضها بالبال، أو قبول النفس لنقيضها.
_________
(١) انظر المستصفى ١/ ٣٧.
(٢) انظر التعريفات ص ١٨.
(٣) انظر التعريفات ص ٦٦.
1 / 148
وفائدة الخطابة أن يميل السامع إلى ما يراد منه ويركن إليه ويقوي ذلك بفصاحة الكلام وعذوبة الألفاظ وطيب النغمة.
- وأما الشعر: فهو ما يتضمن تشبيهًا أو تمثيلًا أو استعارة، أو تخييل أمر في النفس يقصد به الترغيب أو الترهيب أو التشجيع أو الحث على العطاء أو تحريك فرح أو حزن أو تقريب بعيد أو غير ذلك، وهو يؤثر في النفس مع العلم بكذبه، ويشتمل تأثيره بحسن الصوت والتلحين.
- وأما السفسطة: فهي المغالطة، والغلط يقع بوجوه كثيرة من جهة اللفظ أو من جهة المعنى أو من طريق الحذف والإضمار، أو في تركيب المقدمات الوهمية مكان القطعية إلى غير ذلك.
تحقيق هذه الألفاظ في هذا الاصطلاح بخلاف معناها في اللغة والاصطلاح العام:
- أما البرهان: فهو في اللغة كل ما يوصل إلى التحقيق، سواء كان كلامًا أو غيره.
وفي هذا الاصطلاح كلام مُؤَلَّفٌ على وجه مخصوص بشروط مخصوصة.
- وأما الخطابة فهي في اللغة كلام الخطيب سواء تكلم بما يفيد الظن أو اليقين وهي هنا ما يفيد الظن خاصة (١).
- وأما الشعر: فهو في هذا الاصطلاح أعم منه في الاصطلاح العام لأنه هنا المجاز والتمثيل وشبه ذلك، مما ليس بحقيقة سواء كان منظومًا أو منثورًا، وهو في الاصطلاح العام: المنظوم الأعاريض المعروفة.
الباب العاشر: في البرهان
ونتكلم في أجزائه التي تتركب منها، وفي ضروبه.
- أما أجزاؤه فلا بد في كل برهان وقياس منطقي من مقدمتين فأكثر ونتيجة تحذف إحدى المقدمتين للعلم بها.
_________
(١) انظر التعريفات ص ٩٩.
1 / 149
والمقدمة هي جملة خبرية تسمى قضية، وتشتمل على موضوع ومحمول ويسمي أهل المنطق المخبر عنه بالموضوع والخبر بالمحمول، ويسميها النحويون مبتدأ وخبرًا، ويسمي الفقهاء حكمًا، والمبتدأ محكومًا عليه.
ويشترط أن تكون ما تقتضيه هذه القضية من نفي أو إثبات معلومًا أو مُسَلَّمًا عند الخصم، فإذا ازدوجت هذه القضية وهي المقدمة مع مثلها، تولدت بينهما النتيجة، وهي جملة أخرى خبرية تسمى أيضًا قضية، وهي التي قصد إثباتها أو نفيها، ولذلك يقول الفقهاء وجه الدليل ويعنون به وجه لزوم النتيجة من المقدمات.
وتنقسم القضايا أيضًا قسمين: موجبة وهي المثبتة، وسالبة وهي المنفية وتنقسم كل واحدة أربعة أقسام: كلية محصورة، وجزئية محصورة، وشخصية، ومهملة.
- فالكلية المحصورة هي التي يكون موضوعها عامًّا كقولنا: كل مسكر حرام.
- والجزئية المحصورة نحو قولنا: بعض الحيوان إنسان، واللفظ الحاصر لهما يسمى سيورًا نحو كل وبعض.
- والشخصية: هي التي يكون موضوعها جزئيًا كقولنا: زيد قائم.
- والمهملة: وهي التي يتبين فيها أن الحكم للكل أو للبعض كقولنا: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (٢)﴾ [العصر: الآية ٢].
إلا أن الشخصية والمهملة مطرحتان في العلوم، فبقيت المحصورتان الكلية والجزئية، وكل واحدة منهما تكون موجبة وسالبة، فالقضايا على هذا أربع.
- ثم إن البرهان من طريق صورة تركيبه على ثلاثة أضرب:
الضرب الأول: ويسميه بعض الناس القياس الاقتراني، ويسميه أهل المنطق الحسيني، ويسميه أهل اللغة برهان العلة، وهو يشتمل على مقدمتين، في كل مقدمة محمول وموضوع وهما الحكم والمحكوم عليه فتلك أربعة أشياء، إلا أن واحدًا منها يتكرر في المقدمتين فتبقى ثلاثة أشياء يسميها أهل المنطق حدودًا وهي الحد الأوسط، والحد الأكبر والحد الأصغر.
- فأما الحد الأوسط فيسميه الفقهاء علة، وهو الذي يتكرر في المقدمتين.
- وأما الحد الأكبر: فهو الحكم وهو الذي يكون في النتيجة محمولًا.
1 / 150