ذات يوم بينما كان يوسف ساجدا أمام أيقونة العذراء، شعر بقلبه يتحطم من كثرة الحزن فهتف صارخا: أيتها الملكة، أيتها الأم العذراء، انظري إلي نظرة رحمة وشفقة، فلقد وقفت للخالق نفسي وقلبي، ونذرت له كياني ... لقد كابد ولدك من الآلام ما لا يطاق، أما أنا فأراني مسرورا ومغتبطا في هذه الحياة! لقد ضحى بنفسه في سبيل الإنسان، وأراني يحف بي المديح من كل صوب، هو المجد الأبدي وأنا ابن العدم! ...
عند هذا سمع صوتا صادرا من شفتي العذراء يقول: أيها الولد العزيز بلغت ما ترغب في نيله، فسوف تشبعك الأحزان وتصبح هدفا لسخط البشر، سوف يجحدك أهلك وينكرونك، فأنا أم الأوجاع! ... أنا شافية المرضى! ... والخالق يلذ له أن تضحي بذكائك في سبيله! ستحظى بمجد لا مجد بعده أيها الولد، يا فدية الكبرياء، وستمسي كاهنا! ...
بعد أيام قلائل شحب وجه الولد واصفر، ولامس الذبول عينيه السوداوين، وغطى جسده قروح سمجة، حتى إن أمه نفسها أصبحت لا تقترب منه إلا بتكره ونفور.
بقي الولد منطرحا على فراشه العفن، وقد ابتعد عنه الجميع، حتى أقرب الناس إليه.
ذات يوم قدم البلدة ناسك غريب، فدخل بدون أن يتلفظ بكلمة، إلى الكوخ الحقير، حيث كان يوسف ينزع نزعا أليما، وعندما اقترب من فراش المريض دهنه بمرهم ثمين، فختمت القروح، وتساقطت عنها القشور الكريهة، فنهض البريء هزيل الجسم واهن القوى، وقد أصبح عاجزا عن استرجاع ذكائه القديم.
أما روحه فكانت شاخصة إلى الله، ترتفع من يوم إلى يوم عن أباطيل هذا العالم وترهاته، وقد شعر بأنه يتنازع بين حياة الدير وحياة هذا الوجود، حتى دفعته النفس يوما إلى أن يطرق باب الكبوشيين، فعين خادما للمائدة في ذلك الدير.
ذات يوم، في حين كان الأخ يوسف يخدم على المائدة سمع القارئ يتلفظ باسم الله والمسيح ومريم، فاضطرب اضطرابا شديدا، وتساقطت الصحون من يده على الأرض، حيث تحطمت إلى أجزاء عديدة.
عندئذ لبث منتصبا على قدميه في منتصف القاعة، لا يبدي حراكا، وعيناه سابحتان في عالم مبهم غير مكترث لتأنيب رئيسه، ولكل ما يحيط به.
أما الرئيس، فود أن يمتحن طاعته، فأمره بأن ينقل ماء من رواق الدير إلى الكهنة القانونيين، فرضخ الأخ المسكين لأمر رئيسه، إلا أنه كلما صادف صورة قديسة يقع في ذهول لا حد له، فيسهو عن واجبه، حتى غضب الرئيس غضبا شديدا، وما عتم أن طرده من الدير بعد أن نزع عنه جبته الثقيلة.
وأخيرا قرر الأخوة الأصغرون أن يرسلوه إلى دير صغير، حيث يتعهد البغال، فقال في نفسه: هذا خير ما يوافقني!
Página desconocida