وخرج إلى الحقل قارعا الأعشاب المصفرة برجليه، هائما على نفسه بين الصخور الجرداء.
وفي اليوم الثاني، بينما كانت الشمس تجنح إلى المغيب، وتنطفئ في وسط الضباب، غاسلة الأشياء بهبوات ذهبية ذات أشعة أرجوانية، عاد الأخ إلياس إلى صومعته مصغيا إلى أصوات الأجراس، تنشر على الدير ألحانها البهية معلنة للشعب المسيحي دنو العيد العظيم! •••
كان المبتدئون يذهبون ويجيئون، وعلى محياهم أمارات الانهماك الشديد، وكانوا يتكلمون بأصوات خافتة ويعطي كل منهم أوامره للآخر.
أما في الكنيسة فكانت الجبال ترتفع إلى جانب المغاور، والرعاة يتجهون إلى المذود، حاملين النعاج البيضاء، وهم في حللهم المطرزة.
وأما القسوس القدماء، فكانوا يتبسمون بحرارة وتؤدة، ويشجعون المبتدئين بنظراتهم الملأى حنوا وإيمانا ... حتى إذا ما انتهى كل شيء، انصرف الرهبان إلى قلياتهم؛ ليأخذوا بعض دقائق من الراحة. •••
وقف الأخ إلياس صامتا أمام المذود، يتأمل الطفل الإلهي ممددا على فراشه القاسي ... وبعد هنيهة حول بصره إلى الجدار، وقد أيقظ المذود في نفسه ذكريات رهيبة وعذبة ... فتراءى له الماضي ينبعث من روحه المستحمة في مياه الألم، ورجع بالتذكار إلى أيام حداثته عندما كان يسجد بخشوع على درجات الخورس، في حين كان الرئيس المحترم يرسم حول جبينه الإكليل الذي جعله عبدا للمسيح، وتذكر تلك الساعة التي أقسم فيها، وهو ساجد على قدم الهيكل، أن يطيع المسيح ويكون له خادما أمينا! ... تلك الساعة التي أقسم فيها أن يحيا فقيرا، ويضحي بجسده في سبيل ابن الله! ...
عند هذا تفطر قلبه واضطرب لدى تذكار اليوم الكبير، فقال بصوت خنقته غموم شديدة: آه! إني أشعر بالظلمات تكتنفني وبالخوف واليأس يتسلطان علي!
ثم شخص إلى ابن الله بعين تائهة، ولم يمض فترة قصيرة حتى ارتعشت أعضاؤه، وتثاقل اللهاث في صدره، وتلاشت ركبتاه من الضعف، فسقط على الحضيض صارخا: رباه! إذا كان حقا أنك تجسدت، وضحيت بنفسك في سبيل البشر، وخرجت من القبر حيا بعد ميتة أخذت من الأيام ثلاثة، آه! إذا كان ذلك حقا فأكده لي، خاطبني يا أبتاه! لا تبقي هذا السر مشكلا يتقاذفني تياره! لقد كنت رجل الأوجاع فانزل إلى نجدتي وأنقذني من مصائبي! كن شفيقا علي، وارحم بائسا حسب رأفتك وحنانك! ... لقد آمنت بذكائي العاجز المريض، فاشفق علي وامح مآثمي! إنك لجدير بكل مجد، فأنت القاعدة المطلقة، ومحور المخلوقات أجمع، خذ معارفي يا الله وأعطني الإيمان! هبني الإيمان يا خالقي، الإيمان! ...
كان يبكي ويتألم، وهو منطرح على البلاط، وبعد ثوان قلائل ساد السكون، فسمع صوتا ينشد في نفسه قائلا: ليس الصيام والتقشفات هي التي تنقذك! ... كن حنونا ومتواضع القلب، ستحني جبينك أمام عظمتي الملكية ، ستعترف بعدمك وفنائك! ... سلام على البشر أولي الإرادة الطيبة ...
انهض أيها الإنسان وليضئ النور سبيلك! ...
Página desconocida