المقدمة
سيدة عابري السبيل
العكاز الذهبي
وردة الجنة
راهب وملك
الزهرات البيضاء
مطوقة الطوباوي يوسف ده كوبرتينو
كتاب الفرض
الناسك
المقدمة
سيدة عابري السبيل
العكاز الذهبي
وردة الجنة
راهب وملك
الزهرات البيضاء
مطوقة الطوباوي يوسف ده كوبرتينو
كتاب الفرض
الناسك
طاقات زهور
طاقات زهور
تأليف
إلياس أبو شبكة
المقدمة
هذه صفحات روحية أرفعها اليوم إلى أبناء بلادي، ففي كل صفحة منها عظة لمن يتعظ، وعبرة لمن يعتبر.
إن من يقرأ قصة «سيدة عابري السبيل» تتجسم أمام عينيه عاقبة القاتل الجبان، ويلامس في كل سطر من سطورها رعشة الضمير الهارب من جريمته، ومن يقرأ قصة «راهب وملك» تتراءى له التضحية ومحبة البائسين، ومن يقرأ قصة «مطوقة الطوباوي يوسف ده كوبرتينو» يرى فيها انتصار الفضيلة على الشر، ومن يقرأ قصة «الزهرات البيضاء» يتمثل له جزاء عرفان الجميل، ومن يقرأ قصة «وردة الجنة» يلامس عذوبة التعزية في وسط الآلام، وينكشف له ينبوع السلام يترقرق صافيا بين مفاوز الشكوك وعقبات الحياة.
هذه صفحات روحية ملؤها التعزية والحب، فليتصفحها كل من يشعر بحاجة إلى التعزية!
إلياس أبو شبكة
سيدة عابري السبيل
كانت النار تزفر في الموقد.
وكانت أيدي الأحداث الحمراء من شدة البرد تتزاحم مضطربة فوق المستوقد.
وفي الخارج كانت الرياح تعصف بقوة، والهواء المجنون يزمجر في الأبعاد، جارا خلفه أطواد الثلوج، وأغصان الأدواح من أعالي الجبال.
أما الباب المضطرب فوق رزاته، فقد كان يئن أنينا مزعجا.
اقترب الأحداث من وردة المسنة، التي كانت تبرم دولابها تحت مئزر الداخون، وقال لها فريد، وهو أكبر الأحداث سنا: احكي لنا حكاية يا أم وردة، حكاية طويلة وجميلة.
كانت ليالي الشتاء طويلة كثيرة الساعات، وكان الأهل يرسلون أولادهم في أغلب الأحيان إلى الأم وردة؛ لتعلمهم مخافة الله، ومحبة القريب، وتقص على مسامعهم حكايات قديمة.
فابتسمت الأم وردة لفريد وقالت له: أية حكاية تود أن أقصها عليك يا بني؟ أعصفور النار ... أم سيدة البحيرة الوردية؟
فأجابها الأحداث بحمية: لا، لا، بل حكاية مخيفة يا أم وردة.
فأردفت الفتيات الصغيرات قائلات وهن يضطربن: أجل نريدها مخيفة يا أم وردة.
فتجمعت الأم وردة، وبعد أن ترددت قليلا تركت شفتيها تتلفظان بهذه الكلمات: أصغوا لأقص عليكم ... فريد، انظر هل الباب مغلق ... فلا يجب أن يمر الروح القدس في هذه الساعة ... أصغوا لأقص عليكم حكاية بيلاطوس البنطي.
عندما سمع الأحداث هذا الاسم المخيف حدق بعضهم في بعض بخوف ورهبة ورسموا شارة الصليب على وجوههم.
ثم أكملت الأم وردة حديثها قائلة: أنتم تعرفون حق المعرفة أن بيلاطوس البنطي حكم بالموت على سيدنا يسوع المسيح.
هذا الرجل الملعون كان الحاكم المطاع في بلاد اليهود؛ وكان لا يحتاج إلى أكثر من إشارة يعطيها لجنوده حتى يقهر الفريسيين الكفرة، إلا أنه كان جبانا ومتكبرا ...
أجل كان متكبرا، أتسمعين يا سليمة؟ ...
كان لا يود أن يفقد مركزه في المدينة؛ إذ إن اليهود كانوا يتهددونه بالخلع عن عرشه إذا عرف عاهل روما أنه لم يحكم بالموت على ملك اليهود.
عند ذلك نزل بيلاطوس عند رغائب الشعب اليهودي، وحكم على المسيح بالصلب على خشبة كبيرة بين لصين.
ثم غسل يديه ليوهم الناس أنه بريء من هذا الذنب الفظيع، وأنه لم يثقل ضميره بتلك الجناية التي لا وجه لها من العدل.
إلا أنه لم يستطع أن يضل نفسه، فلم تكد روح سيدنا يسوع المسيح تفيض على الصليب، حتى تمسك الندم بروح بيلاطوس كما يتمسك الخفاش بشباك أحد الكهوف!
وبعد بضعة أعوام طلب العاهل بيلاطوس، ووبخه غاضبا، وقال له إنه لم يبق بحاجة إليه؛ لأنه لم يحسن إدارة الشعب، وزاد على ذلك بأن أمره بالرحيل عن روما، والسكن بعيدا عنها لكي ينسى الجميع حتى اسمه.
إلا أن العاهل قد أخطأ خطأ عظيما يا بني، إذ إن الشعب لم ينتبه إلى بيلاطوس ويذكر جريمته إلا منذ هجر روما.
يتأكد لنا من مصيبة بيلاطوس وأوجاعه أن الله لا يحب الأردياء، الذين يرتكبون الجرائم بجبانة وخوف!
لا تنسوا هذه العبرة يا أولادي، وأنتن يا صغيراتي، عندما تصبحن كبيرات، وتجلسن إلى أبنائكن لتقصصن عليهم حكايات الأم وردة، يجب أن تسردنها كما أسردها أنا على مسامعكن الآن.
فهتف حبيب وسليمة بصوت واحد قائلين: نعم يا أم وردة!
فعادت الأم إلى حكايتها فقالت: تملك اليأس من نفس بيلاطوس فذهب إلى أقاصي الأرض هاربا من الضمير، إلا أن شبح الصليب بقي ماثلا أمام عينيه في كل حين.
ولكي يخنق صوت ضميره أخذ يبحث عن جنوده وشعبه، فلم يجد أحدا منهم، فهام على نفسه في مجاهل الأرض، لا يهدأ له روع ولا يقر له قرار!
فعندما كان يمر أمام الينابيع أو البحيرات كان يغمس يديه في مياهها، تينك اليدين اللتين أشارتا بالحكم على المسيح المبارك، وشفتاه المرتعشتان تتمتمان بهذه الكلمات: أنا بريء من دم هذا الصديق!
أما البشر فكانوا يرونه مجتازا من مدينة إلى أخرى بدون أن يضطربوا منه، أو أن يوجسوا خيفة من شره.
وبعد حين عاد بيلاطوس إلى بلاد اليهود، ووقف في روما مرة أخرى ... وفي أحد الأمساء رآه الشعب «مشنوقا» بعصابة وشاحه، فنزعوه عن الشجرة، ورموه في أعماق هوة مظلمة.
أما الأرض فلم تكن ترضى به طعاما في بطنها فبصقته، واضطر الشعب إلى إرجاعه إليها أولا وثانيا وثالثا، حتى أمر عاهل روما بأن يوضع في كيس مثقل بحجارة ضخمة، ويلقى في نهر التيبر، أحد أنهر روما.
إلا أن النهر لم يلبث أن هيج مياهه، وفاض على شواطئه حتى غمر عدة شوارع من المدينة.
أما المراكب فشرعت تتعالى مع الأمواج المجنونة، وينقلب بعضها على بعض، فخشي البحارة هول العاقبة، فنزعوا الجثة من أعماق المياه، وأخذوها إلى فرنسا حيث حفروا هوة عميقة في جبل قريب من مقاطعة فيان رموا فيها جثة بيلاطوس بعد أن ثقلوها بأطواد هائلة.
إلا أن الصواعق بدأت تنقض وتثور متلفة كل ما يتفق لها أن تجده في طريقها، حتى أحدثت أضرارا أكثر من التي حدثت في روما.
إذ ذاك استولى الشعب على الجثة ورموها في الرون، وهو نهر يضارع السهم بجريانه السريع.
إلا أن النهر لم يلبث أن غضب غضبة أشد من التي غضبها التيبر والجبل القائم في فرنسا والنمسا، فأخذ يطرح الجثة تارة على شاطئه الأيمن، وطورا على الأيسر، حتى دب الخوف في قلوب السكان، فعرضوا أمرهم لشارلمان، الذي كان أعظم ملك في العالم كله.
عند ذلك فكر الملك طويلا يا بني، ثم استشار أساقفته وقواده في الأمر.
إلا أن هؤلاء كانوا أشد تحيرا منه.
أخيرا عندما رأى الملك أن الشعب الفرنسي لم يبق باستطاعته أن يتحمل خوفه ورهبته أصدر أمره بنقل الجثة إلى لوزان.
إلا أن حاكم هذه المدينة لم يتردد بأن استرحم الملك بأن يبعد عنه تلك الجيفة التي أرعبت المدينة بأسرها.
إذ ذاك أشار الملك شارلمان بأن يدفن بيلاطوس في جبلنا العالي، وأن يبقى فيه إلى ما شاء الله.
لم يكن عندنا يوم ذاك من يدافع عنا، يا أعزائي، فجاءوا بالجيفة الملعونة ودفنوها في هذا الجبل الذي أطلق عليه اسم «جبل بيلاطوس».
وهنا توقفت الأم وردة عن الكلام، ثم قالت: لقد مضى هزيع من الليل يا بني، فيجب أن ترجعوا إلى مآويكم، وغدا، إن شاء الله، أكمل لكم قصة بيلاطوس.
فتململ الأحداث لدى توقف الأم وردة عن إكمال الحكاية، وقالوا لها: لا تتوقفي يا أم وردة، وأخبرينا عما جرى في جبل بيلاطوس بعد أن دفنت فيه الجثة، فما من أحد هنا يستطيع أن يقص مثلك حكايات مخيفة، هذا ما قاله لنا أمس رئيس المدرسة.
فتهددتهم الأم وردة بإصبعها، وقالت لهم محدقة من خلال نظاراتها إلى يوحنا الصغير: يا لكم من ملاقين صغار ... ولكن لا بأس فاسمعوا النهاية: عندما دفنت جثة بيلاطوس في جبلنا هذا يبست الأعشاب، وجفت الينابيع، وماتت الطيور، وهربت حيوانات الجبل مذعورة مضطربة، وترامت الأشجار تحت انقضاض الصواعق، وذبلت أجساد السكان وشحبت وجوههم ...
أما الحجارة فكانت تتهير من البروق الزرقاء، وأطواد الصخور تتساقط من قمة الجبل وتترامى في مياه البحيرة الزرقاء، والأرض تتشقق عن لجج عميقة، وكهوف سوداء تشرئب منها أعناق أفاع هائلة وثعابين ذات رءوس عديدة!
أما اليوم، فيقال: إن شبح بيلاطوس يجتاز الجبل في «الجمعة الحزينة» ويمر «بمعبر الشيطان» متبوعا بالأرواح الشريرة!
من هم هؤلاء الأرواح؟ وما شأنهم في الجبل؟ ...
ما من أحد يدري يا صغاري، ولكن ويل للمسيحيين الذين يمرون بمعبر الشيطان، فإنهم يموتون شر ميتة إذا هم لم يستنجدوا بحراس السماء، ولا تجرؤ العقبان أن تأكل لحومهم الدنسة!
ويل للمسيحيين الخطأة، الذين يجتازون الجبل ويلقون في مياه البحيرة حجرا أو قضيبا!
ويل لهم من شبح مخيف، يتمسك بعنقهم ويرفعهم إلى الفضاء، ثم يطرحهم في أعماق اللجة!
لم تكد الأم وردة تصل إلى هذه الكلمة حتى قرع الباب قرعة هائلة، فتضعضع الأحداث وجمدوا في مكانهم من شدة الخوف.
فانتصبت الأم وردة أمام الباب شاحبة الوجه مضطربة الأعضاء ورسمت على وجهها إشارة الصليب.
عند هذا قرع الباب قرعة أخرى، وسمع صوت قائلا: افتحي يا أم وردة! ...
عرفت الأم وردة صاحب الصوت، فجذبت زلاج الباب واندفع رجلان إلى الغرفة، فقالا لفريد: تعال يا فريد، انهض واتبعنا! ...
وفي حين كان الولد يتوارى في الظلمة المتفلعة بالبروق الزرقاء، عكف أحد الرجلين فوق الأم وردة وقال لها: اضرعي إلى الله يا أم وردة ... فوالد فريد سحق تحت صخر هائل في معبر الشيطان ... •••
لم يبق فريد ذلك الولد الضاحك، الذي أطلق عليه فيما مضى اسم «عصفور الغابات» ففمه الحزين كان مستبقيا طية أليمة، وجبهته البيضاء كانت دائما منحنية إلى الأمام، وكانت عينه المغلفة بالدموع مرتسمة عليها معاني فكرة موجعة، هي البحث المستمر عن مشكل لا يدرك!
فعندما كان يذهب إلى ضفاف البحيرة الزرقاء ليرعى مواشيه حسب عادته، كان يرى الجبل صامتا ساكنا لا يجيب إلى أغانيه المفرحة بأغان مفرحة! فالصدى كان أخرس كفريد!
كانت الأشهر الطويلة قد مرت على ذلك اليوم المشئوم، واستحمت الطبيعة بلهاث نيسان الجميل وأنفاسه العطرية العذبة، وتفتحت الأزهار عن براعمها لتستقبل قبلات الشمس الأولى، وأنشدت الطيور أغاني الربيع الزاحف على التلال.
أما مياه البحيرة فلم تبق كما كانت هائجة متلاطمة، بل إنها استعادت جمالها القديم، القديم ... وهدوءها العذب حيث انعكست قمة الجبل البيضاء وزرقة الجلد الصافي.
وأما الأكمات الخضراء فعادت تؤلف زنارا من الأعشاب، تحيط به تلك البحيرة ذات المياه الممتدة إلى أقاصي الخلجان الصغيرة.
هناك، كان جبل بيلاطوس نفسه يعود إلى الحياة محاطا بأبخرة وردية شفافة، ويتبسم عن أجمل ما وهبته إياه الطبيعة، بعد أن كان نذيرا ينذر الأهلين بالويل!
أما فريد فكان منصرفا عن كل ما لا يمت إلى الحزن والألم.
أحيانا كان يجلس على ضفة البحيرة فيدلي رجليه فوق المياه، ويأخذ بنزع طاقات من القصب الذابل المتلاعبة به تموجات الأمواه؛ وأحيانا كان ينتصب على قدميه مقطب الجبين مشتت الأفكار، ويصرف ساعات طويلة شاخصا إلى جبل بيلاطوس، ثم يهز رأسه المفكر، ويستسلم للنحيب والدموع! ...
ذات مساء قرع جرس الكنيسة قرعات محزنة، مذكرا المؤمنين بموت المسيح، فلم يتردد فريد أن أرجع مواشيه إلى المزود، وسجد عند أعمدة سريره، وجعل يصلي أمام تمثال صغير للسيدة العذراء، ثم نهض فجأة وأخذ عصية حديدية بيده وخرج ...
كان فريد يسير في عقبة ذات مسالك صعبة، فيتسلق المنحدرات الوعرة، والأطواد الشاهقة، ولا يلتفت إلى الحصيات المتهيرة تحت أقدامه من مرتفع العقبات إلى أعماق اللجج.
وكانت العقبة تحتجب شيئا فشيئا وراء السرو المنتصب في أطراف الصخور.
أما النهار فكان يضيء الأشياء بشعاع شاحب باهت، وبعد هنيهة وقف الفتى الهائم على نفسه في المفاوز الوعرة، وكان قلبه يخفق خفقانا شديدا فقال: كن عونا لي يا ملاكي الحارس ولا تهملني!
ثم تقدم إلى الأمام بخطى وثيقة، في حين كانت الهوة تفغر فاها عن يمينه، والسرو الشاهق يهزهز أغصانه المستطيلة عن يساره، حتى انتهى به السير إلى مكان خطر رهيب، فخيل إليه أنه يسمع «طقطقة عظام صادرة من بين الصخور»، فاضطرب اضطرابا عنيفا، وحدق بنظره إلى الشفق البعيد فتراءت له مياه البحيرة من خلال شق في الجبل تذيب عليها الشمس أشعتها الصفراء، كأنها قمين من نحاس مذوب.
بعد فترة قصيرة زحف الضباب الكثيف في وسط أنوار بخارية، فامحقت تحته الأشياء، وأقبل الليل على صهوة جواد أدهم، فساد السكون في مطارح الجبل، ولم يبق من متحرك إلا حفيف الأوراق، ورقرقة المياه المتسربة من أعالي القمم.
مرت ساعات عديدة وفريد يضطرب وراء صخر منحن، شاخصا إلى الظلمة بعين تائهة بلهاء.
كان يلعن تهوره المجنون، وغباوته التي لا وجه لها من الحكمة، وود لو استطاع أن يهرب.
وإذ به يبصر مشهدا رهيبا تبسط أمام عينيه.
ذلك أنه رأى أشباحا سوداء، مرتدية ثيابا رهيبة، تزحف بسكون على الحضيض، كان بعضهم ينفخون في أبواق معكوفة، والبعض الآخر يحركون أذرعهم المجردة من اللحم، وهم ممددون في أكفان خفاقة من نسيج أبيض، وكانت شعلة مخيفة تعصب جبين أحد هؤلاء الأشباح، في حين كان تاج من الحديد يسحق بثقله رأس شبح يتثاقل بمشيته.
وكان بين الأشباح دودة قذرة، تعد قطعا من الدراهم، بدون أن ينهكها التعب، فيصعد من تلك القطع النحاسية رنين مزعج مخيف!
كان شبح من هؤلاء الأشباح يزحف مضطربا تائها، ويداه المرتعشتان تتجردان من الجلد شيئا فشيئا، وقد أحاطت به أخيلة رهيبة ذات شكل وحشي.
أما هؤلاء الأشباح، فكانوا يضحكون ضحكا عاليا، فيتصاعد من بين أرديتهم الخفاقة دوي عظام يصطك بعضها على بعض، وتنفذ من محاجرهم المجوفة أشعة حمراء جهنمية.
كانوا يسيرون ببطء على الحضيض، وفريد يتبعهم بسكون وتيهان! فمروا خلال المجاري المتحدرة من أعالي الذرى، واجتازوا اللجج العميقة والسهول الرحبة، فكانت السيول والجداول تجف عند مرورهم، وتيبس الأعشاب، وتجمد الشجر بعد أن تعرى من أوراقها! لقد كانوا مندفعين في جولان لا نهاية له ولا قرار ...
بعد فترة انقضت صاعقة هائلة عقبها بروق أنارت الجبل بلمعانها الغريب، عند هذا توقف التطواف الجهنمي، فأبصر فريد بحيرة سوداء ذات مياه وبائية قامت على جوانبها عمد من الصخور الضخمة، وفي طرف هذه البحيرة حجارة ترتفع فوق قبر أسود، وقف على أحدها شبح متوج.
كانت طائفة من البشر أو من الحيوانات - لا أدري - جاثية على جوانب تلك الحجرة، وقد فغرت أشداقا مخيفة تطاير منها شعلات خضراء أنارت مطارح الجبل.
وكانت سحائب من الأشباح المجنحة تتطاير في مذاهب الفضاء، فوق كوم من السمندر والضفادع المدملة والحراذين المنتفخة ، تدب على الأرض بكل ما فيها من السموم.
أما الشبح التائه، الذي كان يرتعش ارتعاش الأوراق، فصعد إلى حجر عال كأنه كرسي قضاء، وانتصبت تحته الأشباح ذات التيجان الحديدية، وأما الدودة، فقد بقيت تعد قطع الدراهم بدون أن تعي، فيتصاعد منها رنين رهيب.
في تلك الساعة المخيفة صرخت الأشباح والديدان والخلائق ذات الحناجر المفغورة والأفاعي السامة قائلة: يوداص! يوداص! يوداص! ...
عند هذا رمت الدودة الرهيبة، التي أطلق عليها اسم يوداص تلك القطع الفضية من يديها الجشعتين؛ ثم انحنت لتلتقط غنيمتها، وإذا بالأصوات الجهنمية تنطلق صارخة: يوداص! يوداص! يوداص!
عند هذا تشقق الأفق في المشرق، وانتصب الصليب بين هالة من النور، فنزع الخائن حبلا من وسطه وأحاط به عنقه، ثم رمى بنفسه من قمة الصخر إلى الأسفل ... فانشق بطنه وتدفقت أحشاؤه على الأرض.
في تلك الدقيقة فرح الأشباح فرحا عظيما، وانطلق الضحك من أفواههم، وظهر على الصليب رجل مدمى!
فأبصر فريد الشبح الكبير الذي كان جالسا على كرسيه ينتصب على قدميه صارخا: أنا بريء من دم هذا الصديق! ...
وتراءى له طيف في يده قصعة ماء، يسكب منها على يدي بيلاطوس اليائس، فيستحيل ذلك الماء دما على يديه ...
وسمع طائفة الأشباح تهتف بأصوات مرتفعة قائلة: أيها الجبان! أيها الجبان! فيردد الصدى في الأبعاد قائلا: جبان! جبان! ...
ثم رأى الأشباح الرهيبة ذات الشكل الوحشي تعكف فوق قبر بيلاطوس، وتنزع منه بعض عظام نخرة!
أما هذه العظام، فكانت تستحيل تحت لهاث الأشباح إلى أفاع، تحمل على جباهها هذه الكلمة: جبانة!
وتحت لهاث الأشباح الفاسد كانت عظام يوداص تستحيل إلى أفاع تحمل على جباهها هذه الكلمة: خيانة!
وتراءى له أن الأفاعي يشهر بعضها حربا على بعض، حتى إذا استعادت العظام شكلها الأول مزق قيافا رداءه، وصرخ قائلا: لقد جدفت!
وكانت الديدان تفترس صدره، فسقط على الخضيض دفعة واحدة، في حين كان هيرودس يصرخ بملء شدقيه: أنا المجنون! ... أنا المجنون! ...
وكان بيلاطوس وهيرودس وقيافا والفريسيون والكتبة ويوداص «المشنوق» يتخاصمون، ويشتم بعضهم البعض، ويوبخ كل منهم الآخر على إماتة الصديق، مستسلمين لنيران الجحيم.
لم يكن يسمع من تلك الغوغاء المخيفة إلا أصوات الشتائم واللعنات.
بعد فترة قصيرة توارى الصليب، وسمع صوت عظيم من الحجرة الملعونة صارخا: أيتها الأرواح الساقطة، لقد لعننا الله إلى الأبد! ... فقفوا عن النزاع ولنحارب تلاميذ المصلوب ... إلي يا يوداص! إلي يا بيلاطوس! إلي يا هيرودس وقيافا! ... إلي أيها الكتبة والفريسيون ... إلي أيتها الأرواح المتسربة في أعماق الظلمات، ولنثر ضد العدالة والحرية والحقوق! ولننتقم من البشر أجمعين! ... فهذا الجبل الملطخ بهيكلك يا بيلاطوس هو ملكنا! فاقتل ودمر ولا تدع مسيحيا واحدا يفلت من يديك القاهرتين! ... افرح يا بيلاطوس فدونك ضحية!
عند هذا أبصر فريد الشبح المتوج، يشير إليه بإصبعه النارية، ورأى بيلاطوس ينحدر إليه وفي مقلتيه أشعة ملتهبة ... فاضطرب اضطرابا عظيما وصرخ قائلا: إلي يا سيدة عابري السبيل!
ولم يكد يتلفظ بهذه العبارة حتى أغمي على الأشباح. •••
عندما استفاق فريد على ضفة البحيرة الزرقاء، شعر بيد تمسح العرق البارد عن جبينه، فجلس فجأة مضعضع الأفكار، وصرخ صوتا خنقته الرهبة وقال: من هنا؟ من هنا؟
فسمع فريد صوتا يقول له: ألم تنادني يا بني؟ ...
وأبصر سيدة مرتدية وشاحا أبيض، ذات عينين تذوبان جمالا سماويا تنظر إليه بعذوبة وحنو، وكانت نظرات السيدة، تلك النظرات الوالدية، تسير في عروقه دما جديدا، وتمحق من رأسه التائه تلك الرؤى الرهيبة! فانطرح فريد على ركبتيه وصرخ قائلا: أيتها الأم! أيتها الأم، أأنت؟ هل أشفقت على ضعفي، ولم تغضبي من تهوري وجسارتي؟ ...
فابتسمت مريم في وجهه وقالت له: أنا عارفة يا بني أن التطفل ليس هو الذي دفعك إلى اقتحام هذه الأخطار.
فلقد رغبت في معرفة الخطر، حتى تميل إخوتك عنه ... فارتعش قلبي الوالدي يا فريد وأسرعت إلى إنقاذك، وإنقاذ إخوتك ...
فريد، أطلب أن يبنى لي معبد في مدخل معبر الشيطان.
فحار الولد في أمره وأجابها: من أنا؟ ومن يصدقني؟ ... ومن يجرؤ أن يصدقني؟ ... - إن قوة الله تسير إلى جنبك يا فريد ... فوالدك يضرع في السماء! ثم توارت الرؤيا البيضاء. •••
تبسم الرئيس في وجه فريد وقال له: إذن يلزمك معبد يا بني؟ - ولكن يا سيدي الرئيس، ليس أنا الذي يطلب ذلك، فسيدتنا العذراء ترغب في أن يخصص لها معبد في الجبل. - آه! أراك تمتزج بالأرواح السعيدة وتتحدث إليها! ألا تعلم أنه الشرف العظيم للرعية أن يكون بين أفرادها رجل مثلك؟ ...
فأجابه فريد بحزن عميق: لا بأس إذا سخرت مني يا سيدي الرئيس، ولكن ثق بأنني لم أحلم ولم أكذب، فسيدتنا العذراء تريد معبدا لها، وسيتم لها ذلك طوعا أو كرها! - لا تدع الحدة تستولي عليك يا بني، فإذا كانت السيدة ترغب أن يبنى لها معبد فلا بد أن تنال ما ترغب، إذن فلا تغضب وعد إلى قطيعك. •••
شاع في القرية أن العذراء أصدرت أمرها ببناء معبد في مدخل معبر الشيطان ...
أية غرابة في ذلك؟ فالعذراء يحق لها دائما، وفي كل مكان أن تسحق رأس الثعبان الجهنمي! هذا ما ثبتته الكنيسة، وتلفظ به الرئيس مرات عديدة وهو يعظ في الكنيسة أمام المؤمنين.
أليست العذراء القادرة الأم الرحيمة؟ ...
ألم تظهر للقديس منراد بمجد عظيم؟
فلماذا لا تظهر لفريد، وهو ولد تقي مات والده منسحقا تحت صخرة هائلة في معبر الشيطان؟ ...
وهكذا بقيت الإشاعة تتردد من فم إلى فم ...
أما السيد راغب، وهو رجل بدين لين العريكة بالرغم من تصنع في كلامه وأبهة هيئته، فقد قال يوما لكثير من مأموريه إن هذه المسألة تزعجه وتؤلمه، وإنه لا يرى حلا لهذا المشكل الغريب، وزاد على ذلك بقوله إن فريدا مع ما هو عليه من التقاوة وحسن السلوك، لم يخرج عن أن يكون ولدا غير مدرك.
وهنا أخذ السيد راغب يضيع في تآويل شتى عن الأولاد وتهورهم وقصر نظرهم، ثم قال: إذا قدر فريد أن يمهد لي سبيلا أستطيع به أن أؤمن حياة البنائين المعهود إليهم ببناء المعبد، فلا أتردد بأن أقف ما يرغب فيه للسيدة العذراء.
أما فريد فكان يعول على وعد العذراء التي قالت له: إن قوة الله تسير إلى جنبك.
فجعل يتحدث إلى راغب مدة طويلة، حتى عزم هذا أن يبني المعبد، بشرط أن يذهب فريد إلى معبر الشيطان ويعود سالما.
أخذ راغب البدين يحث الجماهير على الرحيل، فلم يمر وقت قصير حتى كان سكان القرية جميعهم - ما عدا الرئيس - في طريقهم إلى الوادي الملعون.
عندما بلغ الجمهور منتصف الجبل، وأطلوا على معبر الشيطان، ترددوا عن المسير خطوة واحدة، فبقي فريد يتقدم وحده إلى أن وصل إلى صخر متداع، فأمر عليه عصيته ثلاث مرات، فدهش الجميع وحاروا؛ إذ إنهم أبصروا خيوطا واهية دقيقة تتصاعد من الأدغال، وتترامى من قمم الأدواح المرتفعة، وهي تلمع لمعان الفضة، وما لبثت هذه الخيوط الواهية الدقيقة أن شبكت الصخر المتداعي وأوثقته على كنف الجبل.
وكان فريد يذهب ويجيء، فيلامس بعصيته الصخور والحجارة والأطواد، فترتجف هذه كلها، وتمحق تحت شباك فضية، ثم تبين موثقة على كنف الجبل!
بعد أشهر قليلة كان معبد أبيض الجدران قائما في مدخل الوادي، وكان على هذا المعبد تمثال العذراء المجيدة، يبارك بذراع مستطيلة جبل بيلاطوس والمضايق العميقة والبحيرة الزرقاء.
ومنذ عام 1585 كلما مر عابر مسيحي من ذلك الجبل، لا يجد بدا من السجود على أقدام سيدة عابري السبيل.
العكاز الذهبي
كان في الزمان القديم كاهن يدعى سليما، يقيم في مدينة صور، وكان يدرك خفايا العلوم، ويعرف أمورا لا يعرفها غيره، فلم تكن السماء ولا الأرض ولا المياه لتستطيع أن تخفي عنه أسرارها مهما كانت غامضة ومبهمة.
صرف الأب سليم قسما كبيرا من شبابه في مطالعة الكتب الغريبة، حتى إن الأب يوحنا لم يكن يستطيع النظر إليه بدون أن يرسم على وجهه إشارة الصليب بخوف ورهبة.
أما علماء الطبيعيات والجهابذة المشاهير والكيماويون النوابغ، فقد كانوا يضطربون ويتهيبون لدى حضور الأب سليم، مع أن أنانيتهم كانت تتألم بشدة من تفوقه عليهم، إذ إنهم كانوا يلتجئون إليه في شكوكهم وارتيابهم، ويستنيرون بحكمته وعلومه.
كانوا ينظرون بعجب وخوف إلى هذا الكاهن الشاب، الذي كثيرا ما أرهب العلماء بمعارفه، وأذهلهم بفصاحته وسلامة بيانه.
ومع ذلك كانوا يتوقون إلى التحدث إليه، ويخضعون أمامه أفكارهم وآراءهم، نازلين بكل رغبة واحترام عند أقل إرشاد يصدر من شفتيه الصفراوين.
بقي الأب سليم يشتغل ويشتغل كثيرا، تحت مقلة الله بدون أن تقرع الكبرياء أو الصلف باب قلبه الوديع، إذ إنه كان ورعا مستقيما.
كان الأب سليم مفخرة الدير، وكان رفاقه الكهنة لا يقسمون إلا به. •••
عندما كان الأب سليم ولدا، كان يسترئي الآفاق والبحار، وكواكب السماء، وأشجار الأحراج ... في حين كان والده يعيش من نتاج شبكته.
ففي أحد الأيام ذهب هذا الوالد في مركبه الصغير ولم يرجع؛ لأن المياه كانت قد ابتلعته ودفنته في أحشائها.
عند هذا تراءى شبح الجوع الرهيب، ووطد مكانا له على عتبة منزل الأرملة المسكينة!
فحارت في أمرها وضاقت الحياة في وجهها، إذ إنها كانت أما لأولاد تسعة.
ذات يوم جميل مر رئيس أحد الأديرة الغنية أمام باب الكوخ الحقير، فأبصر سليما، فأعجبه نظره الوقاد الممتلئ ذكاء، ونجابة، فحدثه، فأجابه الوالد أجوبة أخذت بمجامع قلبه، فوعد أمه بمد يد المساعدة إليها، وأخذ الولد إلى ديره، حيث ألبسوه ثياب مبتدئ بيضاء ورسموا حول جبينه الإكليل الرمزي.
لبث الولد يهز المبخرة الذهبية أمام المذبح، حتى كبر وصار معلما يرجع إليه في حل المشاكل الصعبة، التي كان الكهنة الشيوخ يقفون عندها وقفة العجز.
في ذلك العهد كان يرئس الدير الأب بولس، وهو شيخ مسن بلغ أقصى درجات الفضيلة.
ففي ذات صباح من أيام نيسان، سمعت الأجراس تدق نعيا محزنا! فألبسوا الأب بولس غفارة فضية، وعصبوا جبينه المغضن بتاج من الصوف الأبيض، ثم أرقدوه في ضريح من الرخام، بعد أن خدم الدير خدمة يعجز عن مثلها إلا كل من تشربت روحه الفضائل السامية والإيمان الحي.
بعد ذلك اجتمع الرهبان والمبتدئون؛ ليقيموا خلفا لرئيسهم المتوفى، واتجهوا إلى الكنيسة؛ ليقسموا قسم الطاعة والأمانة للمنتخب الجديد.
كانت شباك الخورس مشرعة الدرفتين، وكان قسيس شاحب اللون ذو نظرات وقادة جالسا على العرش الرئيسي، مرتديا ثوبا تدلت عليه شرائط ثمينة.
يا لأسرار القلب البشري من أسرار غريبة!
كان سليم قد قوي على تجارب الكبرياء، ونذر لله مواهب ذكائه ومعارفه، تلك المواهب التي حالت بينه وبين سائر البشر؛ فعندما رأى نفسه جالسا على ذلك العرش، عندما اتكأ على العكاز العاجي بيد مضطربة، وأتيح له أن يبارك الشعب والكهنة الساجدين على أقدامه، شعر بعاطفة مجد باطل تحرك قلبه الضعيف السكران ...
عندما وصلت بي المرأة المسنة التي كانت تقص على مسمعي هذه الحكاية إلى هنا، قالت لي: لقد عاقب الله الأب سليما عقابا هائلا!
كان الأب سليم يحب مريم العذراء محبة عظيمة؛ ولذلك أنقذته من عذاب جهنم الأليم.
إلا أنه لم ينج من نيران المطهر، حيث قضي عليه أن يكفر عن خطيئة الكبرياء، حتى يحين يوم الدينونة الأخيرة ...
لا تخف يا سيدي إذا أبصرت الأب سليما منتصبا بين الخرائب في منتصف الليل، فكثيرون هم الذين رأوا خياله التائه في مثل تلك الساعة المتأخرة.
ثم رسمت شارة الصليب واستطردت قائلة: لنبتعد الآن، فالليل على وشك الهبوط، ولا يجمل بنا أن نبقى في هذا المكان عرضة للخوف والرهبة.
ولم تكد المرأة المسنة التي قادتني إلى خرائب الدير، تتلفظ بهذه الكلمات، حتى أسرعت بالعود إلى المدينة.
بقيت وحدي مدة قصيرة أتأمل الكنيسة المدمرة، والدير المهدوم، ثم عدت على أعقابي صامتا مفكرا موقظا في مخيلتي ذكريات الماضي، وقد تراءت لي أخيلة الرهبان الذين أنقذوا من الهمجية شعبا جاهلا، وغرسوا في الصدور محبة الله العظيم!
كانت الشمس قد انحدرت إلى مغيبها، فانعكست على قبة الدير أشعة صفراء باهتة.
وكنت أجتاز الأروقة ناظرا إلى الأعمدة المنهارة على أقدامها حجارة ضخمة، كأنها أشباح بيضاء لا حراك لها! حتى انتهيت إلى مكان كثر فيه العوسج، فأبصرت كاهنا ملتفا برداء طويل نحت في رخام أحد القبور! كان رأسه مستندا إلى مخدة هابطة، ويداه قابضتين على عكاز! ...
في تلك الساعة كان القمر يشق الظلمات بصعوبة وعجز، وأشعته الباهتة ترسل إلى الأطواد المحطمة أخيلة رهيبة! فشعرت بخشوع ينتابني أمام هذا المشهد.
ولم ألبث أن اقشعر بدني واعتراني خوف شديد.
دقت الساعة معلنة منتصف الليل، فجمد الدم البارد في عروقي، وسمرتني الرهبة في مكاني؛ وسمعت طقطقة عظام صاعدة من أعماق القبر ...
ثم تراءى لي شبح كاهن أبيض منتصبا أمامي! ... عقبه أشباح كهنة رهيبة، خرجت من قبور لا يحصى عددها! ورأيت اثنين منهم ينحنيان بخشوع أمام الشبح الأبيض، ثم يجرانه إلى المعبد المنهار!
عند هذا سمعت أنغاما ذات تموجات عذبة، تملأ الهيكل المقدس، وأبصرت بخورا يتصاعد من مباخر عديدة، وبدرت مني التفاتة إلى العرش الرئيسي، فرأيت عليه الشبح الأبيض يلبسه الأشباح الصامتون جبة ذهبية، تخللتها جواهر كريمة كاد يرزح تحت ثقلها العظيم!
أما رأسه فكان معصبا بتاج من ذهب، وقدماه ملتويتين تحت ثقل العكاز الذهبي.
وأما الأنغام، فكانت تتصاعد مخيفة من وراء القبر.
بعد فترة قصيرة تقدم الكهنة اثنين اثنين، حتى بلغوا إلى أعمدة العرش، وعوضا عن أن يحيوا الرئيس استمروا منتصبين على أقدامهم لا يبدون حركة، في حين كان هذا ينعكف تحت الثقل ويخضع أمامهم.
ولما انتهت هذه «الرتبة» انحدرت أشباح الكهنة إلى المعبد، فاجتازته إلى أروقة الدير المتلف، حيث لمستني عند مرورها، فشعرت عندئذ بخوف عظيم في قلبي.
كان الرئيس المسكين يتثاقل وراء الأشباح، غير قادر على رفع عكازه الذهبي الثقيل، وكان محجراه المجوفان المنطفئة فيهما المقلتان طافحتين بالدموع.
تسلق الشبح الأبيض أدراج العرش، وحاول أن يرفع يده ليبارك، إلا أنها لم تستطع أن تتملص من العكاز.
عند هذا صعدت من صدره الملتهب تنهدات مختنقة وشكايات باحة، فانتفض انتفاضة أليمة، وصرخ بصوت ضعيف قائلا: يا مريم! يا أمي الحنونة!
فاستطار العكاز الذهبي من يده وتحطم إلى أجزاء عديدة ... وأبصرت مطوقة بيضاء فرت من بين شفتيه، وصعدت في مذاهب السماء ...
في تلك الدقيقة غسل النور مطارح الأشياء، وأغمي على الأشباح ... فاستفقت من غيبوبتي، فوجدتني على ضريح الأب سليم، خائر القوى مضطرب الأعصاب. وكانت الشمس تتلألأ في الأفق!
وردة الجنة
كان الظلام يمتد رويدا رويدا.
وكان هيكل الدير الجاثم كوكر النسر على قمة صخر منيع، يترامى عليه آخر شعاع من أشعة المغيب، فيتألق بمجد لا مجد بعده، في حين كانت الأبراج والشرفات والنوافذ تتصاعد كسنابل من نار، وتشعل في الشفق أنوارا حية.
أما الأحراج العظيمة الممتدة على أقدام جبل كسن، فقد كانت تبرز في وسط بخار من الأنوار البنفسجية الشاحبة، مؤلفة زنارا رحب الجوانب تحيط بذلك الجبل الحصين.
هناك، في منعطف طريق ضيق، كان رجل طويل القامة مرتد جبة سوداء، يفكر بسكون وهدوء، وقد مضى عليه ساعات عديدة وهو مطرق إلى الحضيض، ومستسلم لتأملات رهيبة.
بعد هنيهة اضطرب اضطرابا شديدا!
كان الجرس يدق في الأبعاد مرسلا إلى أصدية الأحراج نداء طويلا يائسا!
نزع القسيس عن رأسه قبعته التي كانت تستر عينيه، واتجه بمهل إلى الدير.
كان الظلام يهبط بسرعة عظيمة، حتى ساد السكون في جميع الأنحاء، ولم يبق من متحرك إلا أغصان الأدواح المرتفعة، يتصاعد منها من فترة إلى أخرى حفيف خافت، كأنه ضوضاء صماء.
بعد هنيهة تراءت خطوط نارية تشق الظلمة بأضوائها، وتنبعث من أعماق الأجمات، ثم قربت أصوات عديدة منادية: يا أخ إلياس! يا أخ الياس!
وبرز بعض القسوس من بقعة لا شجر فيها، تلوح على محياهم أمارات الجزع!
فقال لهم الكاهن مبتسما ابتسامة صفراء: ها أنذا يا أصدقائي، ها أنذا! فما الذي تخافون؟
فقال له أحد القسوس منحنيا: لقد أمرنا رئيسنا الجزيل الاحترام، بأن نبحث عنك ونصحبك إليه باسم الطاعة المقدسة، فالليلة مظلمة، والغاب شديد الوعورة، والمسالك صعبة خطرة! فلا يبعد أن تضل السبيل، وتقع في مكيدة من مكائد الحرج، وثق بأنك إذا ضعت، أنت مفخرة سر الكهنوت، يموت رئيسنا الجزيل الاحترام حزنا عليك!
ففكر الكاهن فترة، ثم قال: آه! مفخرة سر الكهنوت! أنتم لا تدركون ... وصمت فجأة صمتا غريبا، فاحترم القسوس صمته، ولكن النظرات التي كانوا يتبادلونها كانت تنم عن تعجب من ذلك الاحترام الرفيع. •••
منذ سنوات عديدة كانت امرأة تجتاز مسالك الدير صبيحة يوم جميل، حتى انتهى بها السير إلى قاعة الرقباء، فالتمست مقابلة الرئيس، وكان يتبعها ولد جميل قسمات الوجه، ذو نظرات عذبة تشف عن ذكاء ونجابة.
كان بود هذه المرأة أن تقف ولدها إلياس لخدمة المعبد؛ لأنه لم يكن يحلم بسوى المباخر والسجود والأغاني الروحية المقدسة.
فكثيرا ما كان يطرح على والديه أسئلة غريبة، فيتحيران في أمرهما فيحيلانه إلى أحد الكهنة؛ ليحل له معقدات أسئلته، فيعجز هذا عن إقناع ذكاء الولد المضطرب.
وأخيرا اعتقد الوالدان أن إرادة الله تتجلى في تلك الدلائل الغريبة، فلم يترددا أن انفصلا عن ابنهما الحبيب.
استقبل الرئيس الولد بسرور وغبطة، فارتدى هذا ثوبه الأسود الخشن وأخذ كل صباح يقدم للكاهن نبيذ الذبيحة.
مرت الأعوام فكبر الولد وأصبح يميل إلى الوحدة، فيتنحى عنه رفاقه المبتدئين ويصرف الساعات الطويلة متمشيا على الأسوار، لا أنيس له سوى أفكاره المضطربة.
أما رفاقه في الدرس وأستاذه فكانوا ينظرون بدهشة إلى الشعلة المنبعثة من عينيه، ويصغون بحيرة إلى الكلمات المتناثرة من شفتيه الفتيتين، أصدية الأفكار السامية التي كانت تزدحم تحت جبينه الصبيح.
ذات يوم، بعد مناظرة لاهوتية طرحت فيها أصعب المسائل الفلسفية، فاز الأخ إلياس على خصومه فوزا باهرا، حتى إن أستاذه الشيخ لم يملك نفسه أن نزل عن كرسيه وضم إليه تلميذه النجيب قائلا له: اصعد إلى هذا المنبر يا ولدي، فأنت أحق به من غيرك، ماذا باستطاعتي أن أعلمك بعد الآن؟ ألست أنا الواجب علي أن أصغي إلى تعاليمك؟ ستكون مفخرة الكهنوت، وضياء الكنيسة.
بقي الأخ إلياس - ذلك المعلم الفتى - يدرس وحيدا في قليته بين مخطوطات اللاهوت، وعلم الفلك، والأسباب الأولية ... وكل ما يمت إلى العلوم الإلهية والإنسانية.
ولم يزل على ما هو حتى اجتازت شهرته حدود جبل كسن، وسادت تعاليمه في الأديرة أجمع، وأصبح القسوس والعلماء والجهابذة الغرباء يحجون إليه من أقاصي البلدان، ويخضعون مشكلاتهم لأنواره السامية، مطلقين عليه لقب العالم المنير.
كان الأستاذ الشيخ صادقا في نبوءته، فالأخ إلياس أصبح بلا منازع مفخرة الكهنوت.
عندما كان يمر في أروقة الدير، كان القسوس، حتى القدماء منهم، ينحنون أمامه باحترام وتؤدة. •••
طرأ على الأخ إلياس طارئ فجائي، قلب أفكاره، وأدب السويداء في نفسه، فتوارت أخيلة البسمات عن شفتيه، وأصبح مشتت الأفكار مضطربا، لا ينتبه إلى ما حوله إلا نادرا، ولا يعير إصغاءه إلى من يستفتيه في مسألة، فيجيب بكلمات مبهمة غامضة!
كان عقله في مكان قصي سابحا في مبهمات تتناوبه، حتى إنه لم يكن يستطيع البقاء في الدير، فيخرج إلى الحرج ويتيه في أعماقه بين الأشجار الكثيفة والصخور الجرداء!
أما القسوس فكانوا يتساءلون بصوت خافت منذهلين من تصرفه الغريب: ما حل بالأخ إلياس؟ ... ما دهاه؟ ...
وكان الرهبان الشيوخ يرفعون أكتافهم مستغربين تصرفه، جاهلين أمره!
أما الأحداث منهم فكانوا يقولون: إن الأخ إلياس يبحث عن حل لبعض المشاكل السرية، ويشتغل في مؤلف عظيم الشأن.
كان الأخ إلياس، العالم الكبير، رجل اللاهوت المستنير، الفيلسوف الدامغ، الذي بلغ أسمى قمة من قمم الفكر، وأضاء مبهمات عديدة من مبهمات اللاهوت المقدس، كان يقاسي هجمات رهيبة من جهنم!
كانت الشكوك قد تسلطت على ذلك الذكاء المشتعل بكل ما أوتيت من الهول المظلم، وكالحشرة القارضة تسربت إلى القسم الرفيع من تلك الروح، ومدت حواليها مضارب الدمار والغموم والموت! ...
ترك الأخ إلياس نفسه تستسلم لمداجنة المقاييس الفاسدة، وكان يسمع من حين إلى آخر صوتا علويا يقول له: أتعتقد أنك تستطيع الوصول إلى الحقائق بعسى وقد يمكن؟ ...
أتظن أنك تقدر أن تبلغ مطارح اليقين بالشك والريبة، أنت الذي اجتزت حدود العلوم؟ ...
إيه لعبة العجائب، اللاعدد لها، هل نفذت إلى جوهر المخلوقات؟ ...
وأحيانا كان يصغي إلى صوت هامس في نفسه: لم صيامك هذا يا أخ إلياس، ولم تقشفك؟ ... أأنت واثق من اللانهاية؟
كانت أفكار الكاهن رازحة تحت ظلام كثيف، وكان الليل مستوليا على روحه، يوحي إليها عذابات مفجعة، فمرارا كان يترامى على حضيض حجرته البارد بعد أن يكبل رجليه بالسلاسل، ويجعل يجلد نفسه حتى يدمى، فيرفع نظره الكئيب إلى السماء ويهتف صارخا: إلهي، أود أن أؤمن! أود أن أؤمن! ...
ويهبط الظلام القاتم على ما حوله، شديد الرهبة كثيف الحلوك! ... •••
في ليلة جميلة من ليالي الشتاء، أبصر الأخ إلياس تحت رواق من أروقة الدير - رواق رغب عنه منذ زمن بعيد، وكان شاهدا على حداثته السعيدة، طالما أيقظ في نفسه المعذبة ذكريات أفراحه الطاهرة - أبصر الأخ إلياس نصبا، فتقدم منه، وأخذ يتأمل بكل سكون مبتدئا لا يزال في ميعة عمره، ساجدا على ركبتيه، يرسم بيد واثقة بفنها، صورة تمثل السيدة العذراء.
كانت عينا مريم تكتنفان الطفل الإلهي بنظرات ملؤها الحنو الوالدي، وقد ضمت إليها ابنها بيد، وقدمت له بيد أخرى وردة ذات ألوان عجيبة!
وعندما انتهى المبتدئ من رسم الوردة، هتف الأخ إلياس قائلا: يا لها وردة جميلة!
فتحول المبتدئ مدهوشا، وعندما وقع نظره على المعلم، فاجأت حمرة الخجل وجهه الشاحب، فقال بلهجة غريبة: إنها لجميلة، أليس كذلك؟
فقال الأخ إلياس مشيرا بيده إلى الحديقة الماحلة: ولكن لم أدرك أية وردة قدرت أن تعطيك نموذجا في هذا الفصل القاحل. - إن وردتي هذه ليست من الأرض، فلقد أبصرتها في الجنة!
قال ذلك وانبعث من عينيه الكبيرتين شعاع رؤيا عجيب!
فتمتم المعلم بصوت ضعيف قائلا: آه! في الجنة! في الجنة!
وابتعد مفكرا! إلا أنه لم يستطع إلى السكينة سبيلا؛ فعاودته أفكاره المجنونة الهائمة! واصطك صدغاه بشدة فقال: آه! لقد أبصر الجنة وهو في ريق حداثته! ... إنه لا يكاد يلكن ببعض منطق فاسد ويرى نفسه مدركا! ... وأنا، أنا الذي تعمقت في العلوم وفتحت لها آفاقا رحبة جديدة لا أراني عارفا، بل أشك! ...
ثم ضغط بيديه المضطربتين على جبينه الملتهب! وبعد فترة قال: آه! لو أستطيع رؤية وردة من أوراد الجنة!
وخرج إلى الحقل قارعا الأعشاب المصفرة برجليه، هائما على نفسه بين الصخور الجرداء.
وفي اليوم الثاني، بينما كانت الشمس تجنح إلى المغيب، وتنطفئ في وسط الضباب، غاسلة الأشياء بهبوات ذهبية ذات أشعة أرجوانية، عاد الأخ إلياس إلى صومعته مصغيا إلى أصوات الأجراس، تنشر على الدير ألحانها البهية معلنة للشعب المسيحي دنو العيد العظيم! •••
كان المبتدئون يذهبون ويجيئون، وعلى محياهم أمارات الانهماك الشديد، وكانوا يتكلمون بأصوات خافتة ويعطي كل منهم أوامره للآخر.
أما في الكنيسة فكانت الجبال ترتفع إلى جانب المغاور، والرعاة يتجهون إلى المذود، حاملين النعاج البيضاء، وهم في حللهم المطرزة.
وأما القسوس القدماء، فكانوا يتبسمون بحرارة وتؤدة، ويشجعون المبتدئين بنظراتهم الملأى حنوا وإيمانا ... حتى إذا ما انتهى كل شيء، انصرف الرهبان إلى قلياتهم؛ ليأخذوا بعض دقائق من الراحة. •••
وقف الأخ إلياس صامتا أمام المذود، يتأمل الطفل الإلهي ممددا على فراشه القاسي ... وبعد هنيهة حول بصره إلى الجدار، وقد أيقظ المذود في نفسه ذكريات رهيبة وعذبة ... فتراءى له الماضي ينبعث من روحه المستحمة في مياه الألم، ورجع بالتذكار إلى أيام حداثته عندما كان يسجد بخشوع على درجات الخورس، في حين كان الرئيس المحترم يرسم حول جبينه الإكليل الذي جعله عبدا للمسيح، وتذكر تلك الساعة التي أقسم فيها، وهو ساجد على قدم الهيكل، أن يطيع المسيح ويكون له خادما أمينا! ... تلك الساعة التي أقسم فيها أن يحيا فقيرا، ويضحي بجسده في سبيل ابن الله! ...
عند هذا تفطر قلبه واضطرب لدى تذكار اليوم الكبير، فقال بصوت خنقته غموم شديدة: آه! إني أشعر بالظلمات تكتنفني وبالخوف واليأس يتسلطان علي!
ثم شخص إلى ابن الله بعين تائهة، ولم يمض فترة قصيرة حتى ارتعشت أعضاؤه، وتثاقل اللهاث في صدره، وتلاشت ركبتاه من الضعف، فسقط على الحضيض صارخا: رباه! إذا كان حقا أنك تجسدت، وضحيت بنفسك في سبيل البشر، وخرجت من القبر حيا بعد ميتة أخذت من الأيام ثلاثة، آه! إذا كان ذلك حقا فأكده لي، خاطبني يا أبتاه! لا تبقي هذا السر مشكلا يتقاذفني تياره! لقد كنت رجل الأوجاع فانزل إلى نجدتي وأنقذني من مصائبي! كن شفيقا علي، وارحم بائسا حسب رأفتك وحنانك! ... لقد آمنت بذكائي العاجز المريض، فاشفق علي وامح مآثمي! إنك لجدير بكل مجد، فأنت القاعدة المطلقة، ومحور المخلوقات أجمع، خذ معارفي يا الله وأعطني الإيمان! هبني الإيمان يا خالقي، الإيمان! ...
كان يبكي ويتألم، وهو منطرح على البلاط، وبعد ثوان قلائل ساد السكون، فسمع صوتا ينشد في نفسه قائلا: ليس الصيام والتقشفات هي التي تنقذك! ... كن حنونا ومتواضع القلب، ستحني جبينك أمام عظمتي الملكية ، ستعترف بعدمك وفنائك! ... سلام على البشر أولي الإرادة الطيبة ...
انهض أيها الإنسان وليضئ النور سبيلك! ...
وكأن رؤيا من رؤى السماء لامست مخيلة الكاهن، فشاهد تمثال الطفل الإلهي ينثر بيديه الصغيرتين أوراق وردة أرجوانية، فهتف قائلا: وردة الجنة! وردة الجنة!
واغرورقت عيناه بالدموع وقال: آمنت بالله! آمنت!
راهب وملك
دير روايومون يحتفل بعيد عظيم.
سينال الرئيس الجزيل الاحترام المنتخب من الكهنة القانونيين طاعة الرهبان وخضوعهم؛ لأنه سيد المدينة المطلق ومولاها الآمر.
أما الكنيسة الكبرى فقد غص فيها الجمهور المحتشد بين أعمدتها الضخمة، حتى إنك لتسمع من حين إلى آخر ضجة مبهمة تتصاعد من بين هذا الشعب، كأنما هي اصطخاب الأمواج في بحر هائج ...
فتحت شباك الخورس، وتقدمت طائفة مؤلفة من مئتي راهب أبيض، يتبعهم الرئيس واضعا على رأسه تاجا من الصوف، وفي يده المضطربة عكاز من العاج.
عند هذا علا الهتاف وامتد حتى ضاقت به رحابة الكنيسة، وسمعت أصوات تهتف قائلة: مبارك هو القادم باسم المسيح! ... حياة طويلة لسيدنا روبير! ... حياة طويلة! ... حياة طويلة! ...
صعد الرئيس الجزيل الاحترام إلى العرش المعد له في الكنيسة الكبيرة، ورفع ذراعيه الكبيرتين نحو السماء، وبصوت تقطعه العاطفة والشفقة قال: نحمدك اللهم!
فأكمل الرهبان قائلين بغبطة تقوية: نعترف بك يا رب، وتحترمك الأرض كلها أيها الآب الأزلي!
وكانت آيات التسابيح تتعالى من فترة إلى أخرى مشيرة إلى أن الحمية الدينية قد بلغت أرفع قمة من قممها، وكان الشعب المسيحي المدهوش بتلك القداسة يجمع صوته إلى صوت الإخوة، طالبا إلى فضائل السماء والملائكة والرسل والأنبياء والشهداء وإلى العالم بأسره، أن يعلنوا قداسة الرئيس الجزيل الاحترام.
في تلك الساعة فتح باب الكنيسة الكبرى، واندفع منه فارس مشعث الشعر، مبلبل الأفكار ذو نظرات خائفة وجلة وانطرح أمام الرئيس.
عند هذا قوطعت التسابيح، وساد سكوت رهيب على جماعة المؤمنين، فأخذوا ينظرون بأعين ملؤها الرهبة إلى الغريب المخيف!
أما الفارس فكان ينتحب ويصرخ صراخا متقطعا، وينادي نداء مبهما، ثم انتصب على قدميه وصرخ صوتا، هو أقرب إلى أصوات الأموات منه إلى أصوات الأحياء قائلا: لقد أذنبت، لقد أذنبت ... ضد العذراء أم الله! الرحمة! الرحمة! وكانت يداه تضطربان بشدة، وأسنانه تصطك اصطكاكا موجعا.
وأما الرهبان المضعضعون، فقد غرقوا في ذهولهم أمام هذا المشهد الهائل، ثم استفاقوا وانطرحوا على الحضيض يستمنحون الغفران للبائس المسكين.
وفي حين كان هؤلاء يلحنون في تلاوة الصلوات المؤثرة، كان الخاطئ يصرخ: الرحمة! ... الرحمة! ...
بعد هنيهة رفع الرئيس صوته قائلا: ماذا تريد؟ - أبتاه، أبتاه، أطلب غفران الله وغفرانك ... آه! أشفق علي ولا تنبذني! دعني أدفن حيا، ولا تدع مخلوقة بشرية ترفع الحجر عن فوهة قبري ... ولينسني البشر إلى الأبد! ...
فأجابه الرئيس بصوت عذب: ما هو ذنبك؟
فنهض الرجل لدى هذا السؤال وقد ازداد اضطراب ركبتيه، ورفع يده إلى جبينه وقال بصوت متقطع: ذنبي! آه! رباه! ... لقد صفعت السيدة العذراء على وجهها في ساعة من ساعات الغضب الأعمى ... لقد اقترفت جريمة لا تغتفر، فليبتلعني الجحيم!
ثم انطرح على الأرض والزبد يرغي بين شفتيه! •••
في واد ظليل من أودية روايومون يرتفع دير ذو جدران منحوتة، تحيط به أكمات كثر فيها الشجر، يشرف على نهر جميل ذي مياه زرقاء كمياه البحر.
أما الحور والدردار والأدواح الشاهقة، فقد طفت أخيلتها على مياه النهر الجميل وحركت أشذاءها العطرية في مطارح الوادي.
وأما الدير فقد زنرته الكروم الخضرة وأزهار البنفسج والورد والجداول الرقراقة العذبة.
مرت الأعوام مرور الحلم الجميل ...
بنى الرهبان أمام أسوار الدير في أجمة كثر فيها الشوك والعوسج بناء لا أبواب له ولا نوافذ إلا فتحة ضيقة في بطن الأرض، أطلق عليه اسم «البيت السري».
لم يؤذن لأحد بأن يدخل إليه إلا الأب الرئيس، وكاتم أسراره الأخ بلاسيد.
فعندما كان هذان الكاهنان يخرجان من تلك الفتحة الضيقة، وأمارات الرهبة مرتسمة على محياهما، كانا يقولان للإخوة بصوت تتخلله نبرات الخوف: لنضرع إلى الله يا أبنائي! إن في القبر رجلا دفن حيا في أعماقه ... فلا ريب بأنه عظيم من عظماء المدينة، أو كاهن ثار على القانون، أو مريض أصيب بداء البرص ...
عندما يمر الإخوة أمام القبر الملعون، يرسمون شارة الصليب برهبة وهول، وفي بعض الأحيان يسمعون شهيقا يتصاعد من أعماقه، يتخلله صراخ موجع وزفرات مختنقة، فيجمد الدم حتى في عروق أشدهم بأسا وشجاعة.
ذات يوم قال الأب إلياس للأب بلاسيد: أستحلفك بالله يا أخي الحبيب أن تطلعني على سر القبر!
فأجابه هذا بهدوء وتواضع: لا أقدر يا أخي، لا أقدر، فلا تعد على مسمعي هذا السؤال، لقد أمرني الرئيس الجزيل الاحترام باسم الطاعة المقدسة ألا أفوه بكلمة عن سر القبر!
فأجابه الأب إلياس وقد امتعض جبينه وظهرت عليه دلائل الانزعاج: حسنا، حسنا، ولكن بعد أيام قليلة سيحضر ملكنا المحبوب لويس ده بواسي إلى روايومون؛ ليسمع تفسير أنشودة الأناشيد، عند ذلك لا بد لي من أن أعرف كل شيء.
قال هذا وجنح عنه وذهب في سبيله. •••
قدم ملك فرنسا إلى روايومون، وفيما هو داخل إلى الدير تبعه الرئيس الجزيل الاحترام والكهنة وحرس الدير.
كان الملك مرتديا عباءة من الحرير الأزرق، وقبعة من ريش الطاووس، وكان يحيط به الآباء الواعظون، فيطرح عليهم أسئلة في اللاهوت صعبة، فيجيبونه عليها بتفاسير محكمة صائبة، فيبتسم ابتسامة رضى وارتياح.
كان الموكب يتجه إلى الكنيسة الكبرى، وكان بود الملك التقي أن يرفع إلى المسيح قبل كل شيء، هبة إيمانه وخدماته الجليلة، فأمر بحضور ثلاثة عشر فقيرا من فقراء المدينة، وعندما امتثلوا أمامه أمرهم بالجلوس إلى جانبه، وأشار إلى الرئيس الجزيل الاحترام بأن يجلس أمامه مع الكهنة المحترمين.
أما السيد جوانفيل، وحاشية الملك المؤلفة من جوفروا ده فيلات، وبيير ده فونتين، وفليب نانتويل، وجوفروا ده سارجين، وغوشي د شاتيليون، فقد شغلوا أطراف السماط، ووقف جيرفه رئيس الخبازين وراء منصة الملك، وفي حين كان الطعام يتعاقب على السماط بكثرة وكرم، كان الملك يصغي بانتباه عظيم إلى حديث الكهنة والأسياد.
كان جوفروا ده بوليو الدومينيكي، معرف الملك، يتكلم عن الإيمان بفصاحة أدهشت رجال الكنيسة، وكان جوانفيل يسمع بدون أن يفهم شيئا مما يقال؛ عند هذا وجه الملك كلامه إليه قائلا: ما اسم والدك يا جوانفيل ؟ - كان اسمه سيمون يا مولاي. - وكيف عرفت ذلك؟ - هذا ما كانت تقوله لي والدتي يا مولاي، فلا مندوحة من النزول عند كل ما كانت تقوله لي تلك الأم الصادقة. - إذن فيجب عليك أن تنزل عند كل عقيدة من عقائد الإيمان، التي يعلنها الرسل في أيام الآحاد. - ومن أين عرفت أننا لا نصدقها يا مولاي؟ ألم ندافع عنها، ألم ندافع معك عن الإيمان الصحيح في الحروب التي مرت علينا؟
ثم التفت إلى الحاشية وقال: لقد كنتم معنا في المنصورة يا رفاقي، وشاهدتم بأعينكم تلك الواقعة الهائلة، كنت يوم ذاك مع رجالي البواسل، لا أزال أتمثلك يا مولاي المحبوب قادما مع كتيبتك الباسلة، تدقون على الطبول وتنفخون في الأبواق، لقد كنت جميلا في ذلك الحين، وجميلا سيفك المنتصر في يدك الفتية!
عندما سمع الأسياد كلمة المنصورة، رجعوا بالتذكار إلى ذلك العهد الجميل فتمايلوا وهتفوا قائلين: ليحي الملك!
فأكمل جوانفيل وقد برقت عيناه: ثم ألا تذكر هؤلاء الكافرين الستة، الذين حاولوا أن يأخذوك أسيرا، فتخلصت من بينهم بضربة سيف فرقتهم أيدي سبا؟ ...
فابتسم الملك لهيجان جوانفيل، ذلك الهيجان الساذج، وقال له: أراك نسيت البلاء الحسن الذي أبلاه السيد جوهان، عندما طرد وحده كتيبة كاملة من الإسمعيليين.
فسر غوشي من شهادة ملكه، فبسط على السماط يده الجبارة وقال: وحق الله أيها الملك المحبوب، لقد فتكت هذه اليد بكتيبة من الكفرة الجاحدين!
قال هذا وضحك ضحكة رنت في القاعة الرحبة، رنين جرس من النحاس.
كان النبيذ يدور دورته في الكئوس، فلاحظ الملك أن السيد جوانفيل لم يكن يمزج خمرته بالماء فقال له: لأي سبب لا تضع ماء مع النبيذ يا جوانفيل؟ - إن السبب في ذمة الأطباء أيها الملك، فهم يقولون لي إنني ذو رأس ضخم ومعدة باردة لا تؤثر فيها عوامل الخمرة. - إن الأطباء يخدعونك يا جوانفيل، فإذا كنت لا تتعود شرب الخمر ممزوجة بالماء وأنت في ميعة شبابك، وتضطر إليها في شيخوختك، تصاب بداء المفاصل والمعدة وتفقد صحتك، وإذا شربت الخمر صافية صرفة وأنت شيخ لا تجد مهربا من السكر كل مساء، والسكر يا صديقي عادة معيبة، وعار على الرجل الشريف.
عندما انتهت الوليمة نهض الأب إلياس، وخضع أمام الملك باحترام كلي، وسأله عما إذا كان يرغب في أن يسمع تفسير أنشودة الأناشيد.
فقال له الملك: أرجئ ذلك إلى حين يا أب إلياس، فلا يجمل بنا أن نفسر بعد الغداء إلا آيات الراحة، هيوا بنا إلى ظلال الأشجار الباسقة، نتحدث معا حسب شروط الصحة. •••
لم يكد الملك يجلس في ظلال دوحة كبيرة، حتى تصاعد في الفضاء زفير رهيب عقبه شهيق ونحيب! فاستغرب الملك وسأل الحاضرين عن سبب ذلك، فلم يفده أحد، وظل القوم صامتين!
أما الرئيس فشحب لون وجهه واكفهر، وأما الأب إلياس فانحنى أمام الملك وقال له: إنه لسر القبر يا مولاي الجميل!
فحدق الرئيس الجزيل الاحترام في الأب إلياس، ورشقه بنظرات ملؤها التوبيخ.
فقال الملك للرئيس مستفهما: ماذا يعني الأب إلياس بهذه العبارة؟
فأجابه الرئيس مترددا: لا أدري أيها الملك ... - لا بد لي من أن أعرف كل شيء.
ثم حدج الكاهن بنظر متسلط قاهر، ففكر هذا هنيهة ثم نهض وقال: تعال يا مولاي وانظر!
فتقدم الملك وتبعه الرئيس والسيد جوانفيل والأب إلياس وجوفروا الدومينيكي، وفيما هم سائرون كان الصمت مستوليا عليهم جميعا، إذ إنهم لم يكونوا يجرءون على التفوه بكلمة أمام الأب الرئيس ...
فتح الباب الأرضي، ودخل الجميع بصعوبة إلى المأوى المظلم، حيث لا ترى العين إلا سوادا كالحا.
عند هذا فاحت رائحة منتنة علقت بحناجر الحاضرين، وشعر الملك وأتباعه بأن وشاحا من الجليد ألقي على أكتافهم المرتعشة!
في زاوية من زوايا معبر ضيق، كانت أشعة متموجة تنحدر من مكان مرتفع، وتنير حجرة رحبة ... فشخص الجميع أمامهم، فتراءى لهم كاهن مضطرب الأعضاء، ويداه الشاحبتان ملتحمتان على صدره، وقد جلس على منصب بالقرب من منضدة خشبية.
كان هذا الكاهن قطعة من لحم، لا يزال الدم جاريا في عروقها، ذات منظر أرهب من هيكل عظام، إذ إن قطرات صفراء ممزوجة بعصير مروب كانت تتساقط من محجريها المجوفين؛ وكانت ربوب منتنة تتقطر من مزقها الزرقاء، وتتجمد على الأنف النخر بخطوط سوداء، ومن هذا الجسم البشري النتن كان يتصاعد لهاث سام، كأنما هو ضباب كثيف! ...
ملك الخوف قلوب الحاضرين، فتراجعوا إلى الوراء أمام هذا المشهد الهائل، ولولا احترامهم للملك لما بقوا فترة واحدة في تلك الحجرة المخيفة!
أما الملك فلم يلبث أن شحب وجهه، وتسلطت عليه شفقة عظيمة، فرفع نظره إلى الرئيس مستفهما عن جلية الأمر، فأطلعه هذا على الحادث الذي أدب الخوف في الدير طيلة عشرين سنة، وعلى جريمة الفارس ويأسه وتكفيره وعقابه، ثم زاد على ذلك بقوله: كنت قد وهبته ثيابا مقدسة ورجوت منه أن يبقى مع الإخوة الأحداث، إلا أنه استرحمني أن أدفنه حيا فأذعنت لدموعه، وطلب مني أن أكتم اسمه عن الجميع، وألا أتلفظ به فرضيت، وكنت قد وعدته بألا أبوح بسره، أو أكشف لأحد مكان عزلته، إلا أنني لم أجد الآن بدا من النزول عند مشيئة مولاي الملك.
في تلك الدقيقة تصاعد صوت أجش من الجسم المدمى قائلا: لقد رحمني الله وأشفق على بؤسي وتعاستي، لقد عذبني فباركته! ... وعاقبني فحمدته، أجل، بعد أن مر علي بعض أسابيع وأنا في مدفني هذا، ملأ البرص وجهي، ولا سيما في المكان نفسه الذي صفعت فيه السيدة العذراء والدة الله العظيم! لقد انتقم مني البرص انتقاما عادلا!
آه! إنني أتألم تألما شديدا! وأشعر بعذاب لا طائل تحته يتناوب نفسي الخاطئة! الرحمة يا إلهي، الرحمة! ... إنني لا أستطيع أن أراك، ولكنني أشعر بالسأم الذي أسببه لك ...
ثم شخص إلى الحاضرين وقال لهم: ابتعدوا عني وصلوا لأجلي ولا تذكروني ...
فسجد الملك أمام الأجذم، وقبل رجليه قائلا له بعذوبة: آه يا أخي، يا أخي الموجع، إنك لسعيد بهذا العذاب المستوحى من الله؟ لقد كفرت عن جريمتك طويلا حتى طهرتك الآلام وجعلتك بريئا؛ فأصبحت نفسك بيضاء نقية كردائك الناصع البياض ... رحمة بهذا الأخ المسكين يا أرحم الراحمين!
كان الأجذم يشهق وينتحب ويذرف الدموع الحمراء على ردائه الأبيض وبعد هنيهة قال: أيها الملك القديس، بوركت إلى الأبد بكلامك العذب وشفقتك العظيمة، ولكن دعني وابتعد عني!
عند هذا تقدم جوانفيل من الملك وصرخ قائلا: دعه يا مولاي، فالله يمقت هذا الكاهن البائس، ويخيل إلي ...
فقاطعه الملك بقوله: اصمت يا جوانفيل، إنك لا تفقه ماذا تقول، يجب على الإنسان أن يحب خالقه فوق كل شيء ... ماذا! ألا تفضل أن تصاب بداء الجذام على أن ترتكب خطيئة مميتة؟
فصرخ جوانفيل الذي لم يكذب مرة في حياته: وحق السماء يا مولاي، إني لأفضل ارتكاب ثلاثين خطيئة مميتة على أن أصاب بمرض الجذام! - إنك لتتكلم كالمجنون الأبله يا جوانفيل ... ألا تدرك أن الجذام هو دون الخطيئة المميتة خطرا وبشاعة؟ ألا تدرك أن الخطيئة المميتة هي شبيهة بالشيطان، وتؤدي إلى الشيطان، أتوسل إليك بحق الله ومحبتي، بأن تحب الأمراض الجسدية مهما كانت خطرة ومشوهة، وتكره الخطيئة المميتة، ذلك الداء الروحي الذي لا شفاء منه إلى الأبد!
عند هذا هتف الدفين الحي قائلا: أجل إنني أعترف لله بأني أفضل الموت والجذام، الذي يقضم جسدي وأنا حي على أن أرتكب خطيئة مميتة! آه! فليعذبني الله وليرهق جسدي بالمصائب والأمراض، ولكن ليغفر لي، ولتطهر نفسي، يخيل إلي أني أرى وجه الخالق الرحيم في الجنة!
فتأثر الملك من هذا الكلام، فقال له: إنك لسعيد يا أخي؛ لأن الله أوحى إليك أسرار حكمته!
ثم رأى على المنضدة طعاما يعده الأب بلاسيد فقال: أتود أن أطعمك بنفسي؟ أترغب في الدجاج أم في الحجال؟ - كما تريد يا مولاي الملك.
فأشار الملك إلى الأب بلاسيد بأن يخرج لإحضار بعض من الدجاج والحجال، وبقي ساجدا على ركبتيه ينظر بحزن عميق إلى آلام الكاهن الموجع، بعد هنيهة عاد الأب بلاسيد ومعه دجاجتان وثلاثة حجال.
أما الملك فأخذ حجلا وقطع جانحيه بيده الملكية ووضعهما واحدا بعد الآخر في فم الأجذم، وكان الدم الفاسد يتقطر قطرة قطرة على يد الملك الساجد على ركبتيه، حتى اضطر إلى غسل يديه مرتين متواليتين؛ ثم سكب بعضا من النبيذ في كأس من الزجاج وقدمه بصعوبة كلية إلى الأجذم المسكين.
عند هذا لم يملك جوانفيل نفسه من ذرف دمعة حرى سقطت من عينيه الطافحتين بالشفقة والرحمة.
وأخيرا أخذ الملك يد الكاهن وقال له: أي مجد عظيم ستنال في السماء بعد هذه الآلام المرة؟ ألا فاضرع لأجلي أمام الله يا رمزا حيا للأجذم الإلهي!
ثم انتصب على قدميه وقبل وجه المريض الطافح بالدم الفاسد، فصرخ هذا صرخة عظيمة وجمد في مكانه ...
يا للعجائب! لم يكد الملك يضع شفتيه على وجه الكاهن حتى زال البرص، وبرقت مقلتا الأجذم من خلال وجهه الوردي! عند هذا تنهد الكاهن وترك شفتيه تتلفظان بهذه الكلمات: المجد لله في العلاء!
فتحول الملك إلى جوانفيل وقال له: جوانفيل، هل عرفت الآن من هو الله؟
فأجابه جوانفيل: آه يا مولاي الكريم، إن الله لأرحم الراحمين!
الزهرات البيضاء
في ذلك الحين كان أركلاوس بن هيرودس السفاك ملكا على اليهودية.
نسمة خفيفة مبتلة بعطر عذب تحرك بفتور وكسل، مياه بحر الجليل.
أردية بيضاء شفافة تنحني بلطافة على الأمواج.
بحيرة طبرية الجميلة تنعكس عليها أشعة الشمس فتتلون من حين إلى آخر بألوان اللازورد والياقوت ذات البريق المتباين الشكل.
الموج يهدر هديرا خافتا، ويسيل بين القصب المرتفع، فينحني القصب بلطف وعذوبة.
نهر الأردن يتفلت كأفعوان هائل من ذلك البحر الهادئ، ويزأر زئيرا رهيبا، ثم يحل عقدة حلقاته ويطلقها في مطارح الصحراء.
أما شجرات الأرز الكثيف، ذلك التاج العظيم المنعقد على قمم جبلي عجلون وإربل، فإنها تبرز في وسط ضباب بعيد، خضبه الذهب والأرجوان، وأعارته عناقيد الإزدرخت ألوان مشهد جميل.
هناك، ينتصب جبل حرمون ذو الجبين الناصع البياض.
وجملة ذات الأزهار الأرجوانية الجميلة تتنضد على منحدر الأكمات المنهبطة من بلاد جولان.
قرى عديدة يحيط بها النخل والزيتون والطلح والجميز.
قوافل من الجمال كثيرة العدد، ذات نظرات بلهاء تسير على طرق دمشق وبعلبك، ثم قطعان المواشي يليها جماعات من العبيد، فأفواج من الباعة يقصدون المدن البعيدة؛ ليتاجروا بطيوب آسيا، أو بقمح السهول الخصبة من مدينة بيرية.
بعض من النساء المحجبات يسرن بهدوء وسكينة.
جماعة من اليهود يتحولون بأنفة وازدراء عن سامري بائس.
صراخ وضحك وأصوات مختلفة، ترتفع من على شواطئ البحيرة ...
طاقات من الزهور تتمايل هنا وهناك، أغصان الخروب يتنحى بعضها عن بعض ... هو ذا صبية صغار يتسابقون ... ثمة فراشات شفافة ذات أجنحة ملونة بذهب وفضة تجنح مع النسيم حيثما يجنح ... والأولاد الأحداث يركضون وراءها ويتسابقون. •••
هو ذا رجل لا يزال في ريق عمره قد ظهر في منعطف الطريق، إنه يمشي متثاقلا، ويتوكأ على عصا طويل، وغبار السفر يملأ ثيابه؛ أراه يقود حمارا ذلولا على ظهره امرأة مرتدية ثوبا أسود، تحمل على ذراعيها طفلا نائما، لقد انحنت وتلفظت ببعض كلمات ... هو ذا المسافرون قد عرجوا عن الطريق إلى غيضة كثر فيها الليمون والنخيل؛ إنهم يستريحون على بساط من العشب في ظلال أشجار عطرية؛ لقد ناموا ملء عيونهم بعد أن استأنسوا بزقزقة الطيور المسكرة ... •••
صراخ موجع يتصاعد من الأبعاد!
لقد انقطع الضحك على كثيب الشاطئ، وتهافت الشعب بذعر شديد!
هذه امرأة سامرية تنتصب قبيل البحر، رافعة ذراعيها المضطربتين وعيناها التائهتان تحدقان في المياه! إنها تصرخ قائلة: ولدي! ولدي!
هو ذا صياد غطس في الماء بين الأمواج المصطخبة، وعاد إلى الشاطئ صفر اليدين؛ لقد عقبه ملاح، ثم صعد من المياه وبين يديه جثة هامدة! إنه يضع الولد على قدمي أمه الثكلى!
أرى هذه المسكينة تنظر إلى ولدها الميت بمقلة يائسة! ...
لقد استفاق الطفل النائم بين ذراعي المرأة ذات الثوب الأسود وقال لأمه: فلنذهب يا أم!
فابتسمت الأم ابتسامة عذبة، فابتسم الطفل وقال بهدوء: فلنذهب!
نهضت المرأة من جلستها واتجهت مع طفلها إلى كثيب الشاطئ؛ وعندما وقع نظرها على الأم الحزينة والولد الميت أدركت هول الموقف، فضمت إلى صدرها ولدها الحبيب ضمة ملؤها الحب والخوف.
عند هذا خرجت السامرية المنكودة الحظ من خمودها العميق، ووقفت أمام المرأة المعانقة ولدها وصرخت قائلة: لا تقتربي أيتها المرأة! لا تقتربي! لقد خطف البحر ولدي الوحيد، ولا يصعب عليه أن يخطف ولدك!
هو ذا جهبذ من جهابذة الشريعة يمر من هناك.
لقد نظر إلى المرأة الثكلى نظرة احتقار وتمتم قائلا: إنها لسامرية!
ثم حجب وجهه بيديه.
أما الطفل فقد تخلص برقة وخفة من عناق المرأة ذات الثوب الأسود، وانحنى فوق الجثة الصغيرة، ونفخ عليها ثلاث مرات، ثم أخذ يدها بيده وأنهضها عن الأرض ملأى بماء الحياة.
عند هذا تراجع القوم منذهلين أمام هذا المشهد الغريب!
أما والدة المنبعث من الموت فقد ترامت على قدميها بسكرة من سكرات الفرح العظيم وهتفت قائلة: أيتها المرأة! أيتها المرأة! ... من أنت؟ ... مبارك هو ابنك! ... مباركة أحشاؤك! ... ما هو اسمك؟ ... لأردده في كل حين وأحمد به الله!
فرفعت المرأة ذات الثوب الأسود نظرها إلى السماء، وجمعت يديها، وقالت: أنا مريم. - أمريم أنت؟ أجل، أنت نجمة البحار، وسلطانة الحياة والموت! ... أنا مديونة لك بولدي ... لأنك لم تزدري بي ... فكيف أشكرك؟ ثم نزعت طاقة زهر عطرية وقدمتها لمريم.
سقطت دمعة من عيني العذراء على ثنايا الأوراق الأرجوانية، فاستحالت إلى أزهار بيضاء! ...
مطوقة الطوباوي يوسف ده كوبرتينو
في مطلع القرن السابع عشر، كانت أسرة فقيرة من أسر العمال تعيش في مدينة كوبرتينو، القريبة من خليج تارانت.
كانت الحياة عبوسة في وجه هذه الأسرة، وكان القوت الضروري يمر مذاقه في أفواه أعضائها، إذ إن الحكمة الإلهية شاءت أن تكبلها بقيود ظالمة من الشقاء والتعاسة.
كان ديزه قد استدان مبلغا من المال، وعجز عن وفائه، فقامت عليه قيامة رجال العدالة وطردوه من كوخه، في حين كانت امرأته المسكينة تضع ولدها يوسف في أعماق مربط مظلم!
كبر الولد بين أحضان البؤس، وكان ذا جمال ينحط عن إدراكه تصور البشر؛ فالابتسامة العذبة كانت تطفو على وجهه الوردي، وعيناه الكبيرتان كانتا تلمعان بأشعة من أشعة الذكاء واللطف.
أما في المدرسة فكان شديد الانتباه، يصغي بدهشة وسرور إلى كلام المعلم عن الخالق وقديسيه، رافعا نظره إلى السماء كمن يضيع في نواح بعيدة عن هذا العالم، مستطلعا أفراح اللانهاية ... وأما رفاقه الأحداث الذين لم يكونوا يستطيعون أن يرتفعوا بعقلهم العاجز إلى ما فوق هذا العالم فكانوا يسمونه «الفم الفاغر».
كان ذكاؤه الفطري يخترق بدون إجهاد أصعب المسائل العلمية التي تدور حول محور النفس، فيستغرب أهله ومعلموه هذه الفطنة النادرة، وينظرون إليه بريبة قائلين في نفوسهم: ما يكون من أمر هذا الولد؟
كانت مخيلة يوسف مثقلة بأفكار غريبة، إذ إنه كان يفكر دائما بخطيئة الكبرياء، وبتمرد الملائكة، وبعقاب الجنة، وجبل الجلجلة ومزود البقر ... وكان قلبه يخفق ويضطرب لدى دفع الرغبات المجهولة، والأشواق إلى تلاشي قواه الذاتية، وإلى التضحية في سبيل العزة الإلهية.
ذات يوم بينما كان يوسف ساجدا أمام أيقونة العذراء، شعر بقلبه يتحطم من كثرة الحزن فهتف صارخا: أيتها الملكة، أيتها الأم العذراء، انظري إلي نظرة رحمة وشفقة، فلقد وقفت للخالق نفسي وقلبي، ونذرت له كياني ... لقد كابد ولدك من الآلام ما لا يطاق، أما أنا فأراني مسرورا ومغتبطا في هذه الحياة! لقد ضحى بنفسه في سبيل الإنسان، وأراني يحف بي المديح من كل صوب، هو المجد الأبدي وأنا ابن العدم! ...
عند هذا سمع صوتا صادرا من شفتي العذراء يقول: أيها الولد العزيز بلغت ما ترغب في نيله، فسوف تشبعك الأحزان وتصبح هدفا لسخط البشر، سوف يجحدك أهلك وينكرونك، فأنا أم الأوجاع! ... أنا شافية المرضى! ... والخالق يلذ له أن تضحي بذكائك في سبيله! ستحظى بمجد لا مجد بعده أيها الولد، يا فدية الكبرياء، وستمسي كاهنا! ...
بعد أيام قلائل شحب وجه الولد واصفر، ولامس الذبول عينيه السوداوين، وغطى جسده قروح سمجة، حتى إن أمه نفسها أصبحت لا تقترب منه إلا بتكره ونفور.
بقي الولد منطرحا على فراشه العفن، وقد ابتعد عنه الجميع، حتى أقرب الناس إليه.
ذات يوم قدم البلدة ناسك غريب، فدخل بدون أن يتلفظ بكلمة، إلى الكوخ الحقير، حيث كان يوسف ينزع نزعا أليما، وعندما اقترب من فراش المريض دهنه بمرهم ثمين، فختمت القروح، وتساقطت عنها القشور الكريهة، فنهض البريء هزيل الجسم واهن القوى، وقد أصبح عاجزا عن استرجاع ذكائه القديم.
أما روحه فكانت شاخصة إلى الله، ترتفع من يوم إلى يوم عن أباطيل هذا العالم وترهاته، وقد شعر بأنه يتنازع بين حياة الدير وحياة هذا الوجود، حتى دفعته النفس يوما إلى أن يطرق باب الكبوشيين، فعين خادما للمائدة في ذلك الدير.
ذات يوم، في حين كان الأخ يوسف يخدم على المائدة سمع القارئ يتلفظ باسم الله والمسيح ومريم، فاضطرب اضطرابا شديدا، وتساقطت الصحون من يده على الأرض، حيث تحطمت إلى أجزاء عديدة.
عندئذ لبث منتصبا على قدميه في منتصف القاعة، لا يبدي حراكا، وعيناه سابحتان في عالم مبهم غير مكترث لتأنيب رئيسه، ولكل ما يحيط به.
أما الرئيس، فود أن يمتحن طاعته، فأمره بأن ينقل ماء من رواق الدير إلى الكهنة القانونيين، فرضخ الأخ المسكين لأمر رئيسه، إلا أنه كلما صادف صورة قديسة يقع في ذهول لا حد له، فيسهو عن واجبه، حتى غضب الرئيس غضبا شديدا، وما عتم أن طرده من الدير بعد أن نزع عنه جبته الثقيلة.
وأخيرا قرر الأخوة الأصغرون أن يرسلوه إلى دير صغير، حيث يتعهد البغال، فقال في نفسه: هذا خير ما يوافقني!
صرف الأخ يوسف سنين عديدة في ذلك الدير طائعا، ورعا حتى اكتسب جميع القلوب، وما عتم أن رسم كاهنا، وظهرت للوجود دلائل تقاه وقداسته.
منذ ذلك الحين أخذ يبذر العجائب في كل مكان، ويقود الشعب إلى الإيمان الحي ومحبة الله، بالرغم مما كان عليه من الجهل؛ لأن المرض كان قد نزع من ذاكرته تلك العلوم التي تلقنها بذكائه الفطري. •••
على مقربة من كوبرتينو تقوم بلدة ماندورة الصغيرة، تحت سماء صافية الأديم، مذهبة بأشعة وردية اللون، تنعكس على مياه بحر هادئ ذات أمواج زرقاء.
ذات يوم شاع نبأ أليم في الجبل، فلم يتردد القديس يوسف أن أسرع إلى ماندورة، فرأى جماعة من البائسين المرضى يجولون في السبل، وأبصر بعض رجال أقوياء يضعون أمام باب الكنيسة حصيرة عليها فقير غطت القروح جسده، وشاهد فتاة لا تزال في ريق صباها تقود شيخا أصيب بالعمى، وامرأة تضم إلى صدرها طفلا أخرس، يتراوح بين الموت والحياة!
كان هؤلاء القوم يسرعون إلى ملاقاة القديس؛ ليستمنحوه إنزال عجائبه عليهم والرأفة بمصائبهم الأليمة. •••
هناك، تجاه قصر دوريا منزل صغير، أغلق الحزن بابه على العابرين، وتصاعدت منه أنات وتنهدات!
ذلك أن امرأة بائسة من المؤمنات فقدت وحيدها في ذلك المنزل، فتقاطر القوم زرافات إلى مؤاساتها، ودلائل الحزن بادية على وجوههم.
بعد هنيهة أبصروا القديس قادما، فهتفوا قائلين: هو ذا القديس! هو ذا القديس!
أما القديس، فتقدم عاري الرجلين من الجماعة، وقال لهم مبتسما: لا، لا تقولوا: هو ذا القديس، فأنا من الخاطئين، بل قولوا: هو ذا الخاطئ!
ثم اقترب من الولد الأخرس وقال له: قل معي يا بني: الأب يوسف خاطئ يستحق نار الجحيم!
فانتفض الولد وصرخ قائلا: الأب يوسف قديس عظيم يستحق السماء!
عند هذا غرق الشعب في بحر من الهذيان، وتراموا على قدمي القديس الكاهن، وأخذوا يقبلونهما، ويحاولون أن ينزعوا عنه سبحته وجبته.
في تلك الدقيقة أجهش أحد الرجال بالبكاء، وصرخ قائلا: إنه لقديس عظيم! إنه لقديس عظيم!
إذ ذاك حول القديس نظره إلى المنزل المحزون، وقد ارتسمت الآلام على قسمات وجهه، ثم أشرقت أسرته بنور جميل، وقال ناظرا إلى السماء: يجب أن تظهر اليوم عظمة الله يا إخوتي الأعزاء، فالله قد منح إيمانكم جزاء يستحقه، هيوا بي الآن! ...
عند هذا فتحت الأم الثاكلة باب منزلها، فدخل القديس يتبعه الشعب الغفير، فأبصر جثة باردة ممددة على فراش طويل، وبالقرب من الفراش تابوت ينتظر فريسته! فنزع الأب يوسف صليبه وقربه من شفتي الأم فقبلته، ثم انطرح على الأرض ورفع صوته قائلا: باسم المسيح آمرك أن تنهض أيها الشاب!
فانتصب الفتى على قدميه في وسط الغرفة، وأجال نظراته المسغربة فيمن يحيط به، وكانت عيناه لا تزالان مستبقيتين آثارا غريبة من مشاهد اللانهاية! ...
عندئذ تراجع القوم مذعورين، فقالت الأم المغتبطة، والدموع تتناثر من مقلتيها التائهتين: أيها الأب! أيها القديس! ...
إلا أن الكلام تردد بين شفتيها وتلاشى! فاتجهت بقدم متثاقلة إلى فسحة صغيرة، وعادت تحمل بين يديها مطوقة بيضاء، وقدمتها للقديس قائلة: هذا كل ما أملك أيها الآب فاقبلها مني.
فأخذ الطوباوي المطوقة وجعل يلاطفها قائلا: أيتها المطوقة العزيزة، يا مخلوقة الله العذبة، يا رمز البساطة والوداعة، يا أخت، أترغبين في أن تذهبي مع الأب يوسف؟
فشرعت المطوقة تهدل وتنحني وتصفق بجناحيها بين يدي الأب المباركتين. •••
ذات يوم بعد أن قام القديس بلم الصدقات حسب عادته اليومية، دخل إلى كنيسة كوبرتينو، فرأى المؤمنات ينشدن فرض الصلاة أمام الهيكل بأصوات ضعيفة متقطعة، فتأثر لدى هذا المشهد، ولم يملك نفسه من البكاء، ثم رفع ذراعيه إلى السماء وقال: رب! اغفر لهن؛ لأنهن لا يدركن ما يفعلن!
وتقدم منهن قائلا: يا أخواتي العزيزات، أنتن تهن الله إهانة عظمى بصلواتكن المبكية! أهكذا يكرمون الخالق؟ إن أحط الناس عقلا يقومون بواجباتهم أحسن من قيامكن، مع أنكن عرائس المسيح! ... احمدي الله أيتها المطوقة الصغيرة يا مخلوقة الله العذبة الوديعة ...
عند هذا أخذت المطوقة التي كانت جاثمة على كتفه، تحرك جناحيها بخفة وعذوبة، وطارت إلى شباك الخورس، حيث شرعت تسجع سجعا جميلا أثار كوامن الدهشة من صدور المؤمنات ...
فاستطرد القديس كلامه قائلا: يا أخواتي العزيزات! أنا تارك لكن هذه المطوقة البريئة؛ لتعلمكن أصول التسابيح، فتعهدنها بكل ما أوتيتن من الحنان.
بقيت المطوقة طيلة سنوات خمس خاضعة لمشيئة الأب يوسف، وذات يوم أساءت إليها إحدى المبتدئات بأن علقت جلجلا برجلها، فاختفت المطوقة ولم ترجع!
عند هذا قلق جميع من في الدير، فبعثن يطلبن الأب يوسف.
عندما قدم الطوباوي قال لهن: لقد وهبتكن موسيقيا بارعا فاستخدمتنه قارعا للجرس، إن المطوقة ذهبت إلى قبر المسيح، ولكنها ستعود. •••
في أثناء ذلك كان الجحيم يثور ثورة الهول، وكان أمير الظلمات قد أذن له من الحكمة الإلهية، بأن يعالج غضبه في خادم الله.
أما الأب يوسف، فأصبح يرى نفسه تارة على أبواب اللجج مدفوعا إلى أعدائه الألداء، وطورا يسمع صوتا يرن في مسمعه قائلا: دع هؤلاء البؤساء أيها القديس العظيم، فتجلس على عرشك السامي! فيظن القديس نفسه مذنبا بإصغائه إلى تلك الأراجيف، فيستسلم للبكاء ، وينادي الله لإنقاذه، والله أصم لا يسمع كأن السماء من نحاس!
وأما الرجال فقد أصبحوا يضطهدونه، وأنكره إخوته ورؤساؤه وجميع من عرفه وآمن به.
وفي المساء كان يتراءى له أشباح مخيفة تنتصب في حجرته، وتنشد على مسمعه أناشيد رهيبة، هي أقرب إلى الصراخ منها إلى الألحان!
ذات ليلة تراءى له المسيح بمجد عظيم وقال له: اقترب مني يا أب يوسف وقبل رجلي.
فرضخ المسكين طائعا، وعندما أدنى شفتيه من قدمي المسيح شعر بنتانة باردة! كان ملاك الشر قد تزيا بزي جسد براق!
أصبح الأب يوسف عاجزا عن أن يتبين الخير من الشر، فظن نفسه قد أهمل من الله والبشر، وتراكمت الظلمات في روحه وأحاطت به من كل الجهات.
هجع كل من في الدير، وساد سكوت رهيب فانحدر الأب إلى الكنيسة بقدم متثاقلة ووجه شاحب، واجتاز الخورس بسرعة كمن يظن نفسه غير جدير بأن يظهر أمام السيد.
ثم سجد في ناحية منفردة أمام مقعد بعيد.
عند هذا اضطربت ركبتاه، وارتفع صدره، وسال عرق بارد على أعضائه الضعيفة! وفجأة أثبت نظراته في الخورس، فأبصر خيالا صامتا ينحني بعجز أمام الله المحتجب في الهيكل، وبعد هنيهة تقدم الشبح إليه محتذيا حذاء من حديد، وكلما خطا بعض خطوات ضعفت المصابيح في الكنيسة، حتى إذا ما سادت الظلمة الملأى بالوعيد والإرهاب، انتصب الخيال أمام الأب يوسف، وبرقت عيناه ببريق أحمر مخيف، وصرخ فيه صوتا ارتجت من هوله جدران المعبد، وقال: اتبعني إلى الجحيم أيها الخبيث!
ثم جذبه بيده وطرحه إلى الحضيض، ورفع فوقه حذاءه الضخم ...
فصرخ المسكين بصوت أجش: أيتها العذراء، لا تتركيني! ...
في تلك الدقيقة أنيرت المصابيح، وأغمي على الخيال ... فتراءت المطوقة تصفق بجناحيها في فضاء المعبد، وسمع القديس نغمات عذبة، هي نغمات الجنة تنفذ إلى روحه، وشعر بنور الله يذيب على جسده أشعته الطاهرة.
منذ ذلك الحين أخذ الشيطان يصوب غضبه العاجز ضد مطوقة الطوباوي.
كان الأب يوسف في الكنيسة، يضرع إلى الله مختطف الروح، وكانت المطوقة تصفق بجناحيها، طائرة بين أعمدة الأروقة ، عندما قدم رجل مسلح وطلب الأب يوسف بإلحاح شديد، أما المبتدئون فقالوا له إنه في الكنيسة، عندئذ حاول الرجل الغريب أن يسيء إلى المطوقة، فهربت مسرعة إلى عذراء الدير، فلحق بها، وكاد يقضي عليها لو لم يمنعه التمثال الرخامي، الذي عكف على المطوقة المرتعدة وغطاها بوشاحه الأبيض.
دهش المبتدئون أمام هذا المشهد، وعندما رجعوا إلى صوابهم غضبوا غضبا شديدا، وتحولوا إلى الرجل المسلح، فرأوه قد احتجب كوميضة البرق! •••
بعد أيام قليلة مرض الطوباوي وأشفي، فأحاط به الإخوة وجعلوا ينشدون والدموع تتناثر من أعينهم، فتقطرت أحشاء الأب يوسف ورفع نظره إليهم، وقال لهم بصوت ملؤه التعزية: إلى اللقاء يا إخوتي الأعزاء، إلى اللقاء بين أحضان الله! المجد لله!
ثم استنار بشعاع علوي طفا على قسمات وجهه، وأغمضت عيناه فرقد هنيئا بين يدي ربه! أما المطوقة، فيقال إنها لم تعش بعده.
أخذت الكنيسة هذا المسكين الساذج، ووضعته على المذابح حانية جبهتها أمام مجده النقي.
كتاب الفرض
قرع الباب قرعتين، ودخل السيد يوسف فقلت له: أأنت يا سيد يوسف؟ أهلا وسهلا، ادخل!
فقال لي، وهو يقترب من الموقد: إن البرد لشديد الوخز في الخارج، فاسمح لي أن أصطلي على نارك، ثم نزع عنه فروته الطويلة، واقترب من النار التي كانت تتلظى في المستوقد، وبعد هنيهة قال لي: ألا تعرف ما الذي قادني إليك في هذه الساعة الباردة؟
فأملت إليه مسمعي وأصغيت، فقال: جئت أقلق راحة مكتبتك، وأقلبها بطنا لظهر.
فابتسمت له وقلت: إنها تحت أمرك يا سيد يوسف.
كان السيد يوسف كتبيا هجوميا، وكان يصرف نهارات طويلة، وأحيانا ليالي كاملة في البحث بين كتبه ومخطوطاته وتقاويمه ومجلداته، حتى استحالت رغبته في الكتب إلى هوس، هو هوس الشيخ المسن بمعتنياته العزيزة لديه.
كان السيد يوسف قد ناهز الستين من عمره، فاحدودب ظهره، وابيضت شعور رأسه، وأحاطت عينيه الثاقبتين دائرة صادئة، وكان لا يخرج من منزله، كمن أقام بقلعة محصنة، فيجلس إلى أوراقه وكتبه وكتبي أيضا؛ لأنها كانت مشتركة بيني وبينه، فيستعير منها ما يود ، وهي إرث وصل إلي من عم شيخ غزير المعارف، واسع الاطلاعات، عارف بمخابئ الكتب وقيمها.
أكرر عليك يا سيدي العزيز، أن مكتبتي كلها تحت أمرك.
فأطلق الكتبي زفرة استحسان وقال لي: كنت أخشى ... كنت أخشى رفضا منك. - معاذ الله يا سيد يوسف أرفض طلبك، لا أكتمك أنني شديد التمسك بمكتبتي وكتبي، إلا أنني أشد تمسكا بأصدقائي.
فبسط لي يده فهززتها بعاطفة قوية، وقلت له: ما عليك إلا أن تصدر إشارة فنتعاون في العمل. - كنت أخاف أن أطلب منك ذلك بعجلة. - ولكن في أي كتاب ترغب؟
فأمر يده على لحيته البيضاء، وهي علامة السرور عند الكتبيين، وقال: أبحث عن كتاب نادر جدا وجدا جدا، أذكر أنني رأيته مرة في مكتبة السيد ... أو في مكتبة ... نادر جدا وجدا جدا ...
فقاطعته قائلا: ألا يمكنني أن أعرف اسم هذا الكتاب النادر جدا وجدا جدا؟ - آه! لقد نسيت اسمه، ولكن ... ولكنه كتاب طبع في باريس عام 76 ... 17 أو عام 79 ... 17 أو عام 81 ... 17 أجل عام 1781، اسم الكتاب: منتخبات في قصص القرن الثاني عشر والثالث عشر لمؤلفه ليفران دوسه. - لدي هذا الكتاب ... هنا ... في هذه الخزانة القديمة، حيث أضع كتبي النادرة التي قليلا ما أبحث عنها وأستشيرها.
فشرع السيد يوسف يلاطف لحيته من شدة الفرح، وقال: نادر جدا وجدا جدا!
ثم نهض من جلسته، وعانقني بفرح لا فرح بعده، فقلت في نفسي: قد لا يبعد أن يتحول هوسه إلى جنون! مسكين يوسف!
وعندما نهضت وفتحت الخزانة القديمة، قال لي ببعض الحزن: أأنت واثق بأنك رأيت هذا الكتاب؟
فأجبته بحدة: واثق جدا وجدا جدا!
فابتسم وقال لي: أرى أنك ترغب في تنكيدي، أنت لا تزال فتيا يا صديقي، ويخيل إلي أني مضحك لديك، يا لي من شيخ مسكين! - آه! يا سيد يوسف! ماذا تقول؟ ... أنت مضحك! ... معاذ الله أن تمر في مخيلتي مثل هذه الفكرة!
فدمدم السيد يوسف، وقال لي: فلنباشر البحث حالا، أليس كذلك؟
شرعنا في العمل، فكانت المناضد والكراسي والداخون تحتجب جميعها تحت الكتب المكردسة هنا وهناك!
وكان السيد يوسف يذهب ويجيء، فتارة يصعد إلى فوق، وطورا يهبط إلى تحت، وحينا يميل إلى الشمال، وأحيانا إلى اليمين، ثم يقف لاهثا من التعب.
أما أنا فعندما يقف أنظر إليه مستغربا وقوفه، حتى أبصرته جمد في مكانه وشخص إلى كتاب مجلد تجليدا متقنا، وقال مستعيدا نغمته الأولى: نادر جدا وجدا جدا!
فقلت له: ماذا رأيت يا سيد يوسف؟
فقال لي: ولكن هذا الكتاب نادر جدا وجدا جدا! - هذا كتاب الفرض، إنه أكثر من كتاب نادر، فهو ذخيرة.
فرفع السيد يوسف نظره إلي، فأكملت حديثي متقطرا، فقلت: ألم يسبق لي أن أخبرتك قصة كتاب الفرض؟ - لا، أبدا، فهل أكون متطفلا إذا سألتك أن تقص علي هذه القصة؟ - ولكن ألم تبق في حاجة إلى كتابك النادر؟ - أبحث عنه ساعة أريد، فمكتبتك هي أمامي دائما! ولكني أتوق الآن إلى معرفة قصتك. - إذن فإليكها.
عند هذا عاد كل منا إلى مكانه بالقرب من الموقد، وبعد أن أذكيت النار، قلت: يجب علي أن أوقظ تذكارات أليمة من رقادها العميق ... عندما حكم المجلس بالموت على لويس السادس عشر - لا أشك في أنك تعرف أكثر مني تفاصيل هذه الفاجعة الأليمة، يوم ألقي رأس هذا الملك أمام ملوك أوروبا.
عند ذلك كان الله قد أبقى للملك لويس عزاء عظيما في وسط آلامه الشديدة، إذ إن الجلادين سمحوا لأحد الكهنة بأن يحضر للملك نجدة الدين، فعندما مثل الكاهن أمام الملك، صرف المسكين الليل كله في الصلاة، فتقبل القربان المقدس كما يتقبله كل مسيحي على الأرض عندما يذهب إلى الاستشهاد.
كانت إحدى العجلات تنتظر الملك، فجلس هذا في تلك العجلة إلى جنب الكاهن، الذي كان في يده كتاب فرض يتمتم فيه ببعض آيات مقدسة، وما لبث أن أخذ الكتاب من يد الكاهن، وجعل يقرأ الصلوات الأخيرة بصوت مرتفع هادئ، في حين كان الشعب يزأر زئيرا رهيبا، منشدا أغاني الموت واللعنات! ...
يا للمشهد الرهيب! صعد الملك درجات المقصلة متكئا على ذراع الكاهن، وقبل أن ينفذ فيه حكم الموت، رفع الكاهن ذراعيه إلى السماء، وقال للملك: اصعد إلى السماء يا ابن القديس لويس!
عند هذا برقت أشعة ذهبية، وتدحرج الرأس الملكي على درجات المقصلة! أما الكاهن فلم يكد يبصر هذا المشهد، حتى شحب لون وجهه، وسجد على ركبتيه تاركا كتاب الفرض يسقط من يده فوق دم الشهيد.
انظر إلى هذه النقط السوداء على غلاف الكتاب.
فتفحص السيد يوسف الكتاب متفطرا، وقال: أجل، إنه لذخيرة مقدسة ثمينة، ولكن كيف اتصل إليك هذا الكتاب؟ - اسمع ... كانت عائلتي تسكن مقاطعات الأشراف قريبا من أفينيون، ذات صباح دقت الأجراس طويلا طويلا ... فأخذت الجماهير تروح وتجيء والأجراس تقرع في المدينة، فمنهم من قال إنها ساعة النصر بعد الاندحار العظيم الذي حدث لنابوليون في روسيا، ومنهم من قال إنها تبشر بقدوم عظيم من العظماء، ثم أسرع الشعب للاطلاع على الحقيقة، وكان الخوف في تلك الساعة سائدا على المدينة، وبعد هنيهة أعلن قدوم البريد، فأسرع الشعب لملاقاة الساعي، وعندما بلغوا إليه وقف فجأة وصمت صمتا غريبا، ثم قال: أبشركم بقدوم قداسة البابا بيوس السابع إلى رومة واجتيازه مقاطعتنا!
فهتف الشعب هتافا عظيما قائلين: فليحي بيوس السابع! فليحي البابا! ...
كان العاهل نابوليون قد أطلق سراح بيوس السابع، فعاد إلى رومة عن طريق مقاطعة الأشراف.
في ذلك الوقت زين الشعب منازلهم، وطافت الأولاد في الشوارع رافعة أعلاما خضراء من أغصان الأشجار والأوراد النادرة.
بعد مرور ساعتين مرت كوكبة من الخيالة تحيط بعجلة فخمة، فترامى الشعب على الركب، وعلا الهتاف والدعاء، فوقفت العجلة وخرج منها شيخ مسن مرتد ثوبا أسود، زنر بزنار أحمر، وعلى رأسه قبعة حمراء، وبعد أن بارك الشعب قال: من منكم يستطيع أن يحضر بعضا من الطعام لقداسة البابا؟ فلقد فرغ الطعام الذي كان معنا.
عند هذا شقت إحدى النساء صفوف الحاضرين فتبعها ولد صغير، وعندما وصلت إلى العجلة تلفظت ببعض كلمات أمام الكردينال، وبعد هنيهة نزل بيوس السابع من العجلة، وعلى شفتيه ابتسامة عذبة فبارك الشعب، وصعد إلى عرش كان الجمهور قد أعده لقداسته، فسجدت المرأة والولد أمام البابا، وقدما له بعضا من الأثمار والحلويات وقدحا من النبيذ ... فشكرهما قداسته، ثم وضع يده على كتف الولد وسأله قائلا: ما اسمك يا بني؟
فأجابت المرأة خاشعة الرأس: لويس، أيها الأب الأقدس! - أهو ولدك؟ - نعم أيها الأب الأقدس! - حسنا، حسنا، إني أباركك يا بني أنت وجميع أهلك، فليحرسك الله وليساعدك! ما اسم والدك؟
فرفع لويس رأسه، وقال مفتخرا: والدي؟ لقد مات ساعة أقدم على إنقاذ الملك، وهو ذاهب إلى المقصلة، كان والدي شجاعا!
عند هذا أشار البابا إلى الكردينال، فجاء بعد فترة ثم نظرة إلى الولد، وقال: إن كأس الماء التي تعطى إلى الفقراء لا تذهب بلا أجر يا ولدي، فاقبل مني هذا الكتاب، فهو ذخيرة مقدسة، لقد مات والدك في سبيل ملكه، فخذ هذا الكتاب الملطخ بدم ملكك الشهيد.
فبكت الأم، وأخذ الولد كتاب الفرض فقبله، أما الشعب فكان يهتف هتافا عظيما، وقد تفطر من هذا المشهد الجميل المؤثر، وبعد أن بارك البابا الأقدس شعبه الأمين صعد إلى عجلته، وذهب ... أما ذلك الولد فقد أمسى اليوم شيخا نبيلا. - ألا يزال في قيد الحياة؟ - بلى، وأنت تعرفه يا سيد يوسف، فهو جدي.
الناسك
كان في سالف الزمان ناسك يسكن الصحراء.
كان هذا الناسك ابن أسرة عريقة في القدم.
ذات يوم، وهو صغير كان يلعب على ضفاف البحر تحت حراسة عبد يوناني، فمر من هناك جمع من الرجال والنساء يتقدمهم كاهن ذو لحية كثيفة وهيئة وحشية، فسمعهم الولد ينشدون ويهتفون بأصوات مرتفعة، وقد بسطوا أذرعهم الطويلة في الفضاء، فدهش لدى هذا المشهد، وأخذ يضحك بملء شدقيه.
أما الكاهن، فاقترب من الصبي وأخذه بيديه الجبارتين، ورفعه فوق الأمواج المصطخبة، وصرخ قائلا: أيها الإله، يا خالق البشر والأشياء، مر البحر أن يهدأ، لا تدع الروح الشريرة تثير أمواجه على الإنسان، أنت تحب البراءة، يا الله، فأنا أستحلفك بهذا الولد الذي يمثل البراءة نفسها، أستحلفك باسم المسيح المبارك في الأجيال ...
عند هذا أسرع العبد واختطف الولد باكيا من بين يدي الكاهن، ومضى به حتى وصل إلى كنيسة، فاعتقد حينئذ أن الأناشيد المقدسة، وشذا البخور، ورؤية المؤمنين تسكن جأش الصدور وتخفف الألم، فدخل إلى المعبد وجلس بين المؤمنين، وأخذ يلاطف بيد عذبة جبهة الولد وشعوره.
في تلك الساعة كان الأسقف جالسا على عرش مرتفع أمام باب الخورس يحيط به جمع غفير من الكهنة، وكان أحد القسوس يقرأ الإنجيل على الحاضرين، فتتناثر من شفتيه هذه الكلمات التي تلفظ بها الله: ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه. •••
صرف الولد حداثته بعذوبة وهدوء، وكان الجميع يعجبون من تقاه واجتهاده في الدروس الأدبية، حتى إنهم تنبئوا له بمستقبل عظيم.
أما الكلمات التي سمعها في الكنيسة، فقد كانت دخلت إلى أقاصي نفسه، ومهدت له مكانا موطدا فيها.
وعندما بلغ الثامنة عشرة من سنيه، نزع عنه ثوب الطفولة، ولبس ثوب الشباب.
إذ ذاك عزم أهله أن يحتفلوا بخروجه من الحداثة ودخوله في الحياة العالمية، فدعوا إلى الحفلة رهطا من الشباب الناهض، ووضعوا على رأس الفتى إكليلا من الأزهار العطرة، وأجلسوه في وسط المدعوين.
لا تسل عن الفرح العظيم الذي استولى على قلوب الحاضرين، عندما تقدم فتيان من المحتفل به ورفعا إليه غصنا من الفضة كتب على أوراقه هذه الكلمات الثلاث: إلى أمير الشباب.
كانت عطور الليمون والأزهار تمتزج بروائح الخمور في تلك الوليمة الكبرى، فشعر الفتى بأن قلبه يتفطر، وخيل إليه أنه يسمع صوتا في نفسه يقول له: إن جمالك وشبابك اليانع ومعارفك الواسعة تمكنك من الجلوس يوما على عرش الألم ... ألا فليذق جسدك طعم الملذات ... إنك لا تزال فتيا، وتستطيع أن تملك جميع ملذات الحياة ...
كانت الأشباح الغرارة تمر أمام عينيه، حاملة مشاهد اللذات الباطلة بدون أن يتمكن من مقاومتها.
في تلك الساعة مالت الشمس إلى المغيب، فخضبت الشفق بألوان حمراء أرجوانية، وانعكست آخريات أشعتها على الأعمدة المرتفعة، وانحدرت إلى جباه المدعوين، كأنما هي رؤيا من رؤى اللانهاية ...
أما الفتى فخفض نظره إلى الأرض، وأخذ سكينا بيده حفر بها بعض كلمات على المائدة بدون أن ينتبه إلى ما يفعل، ثم رجع إلى نفسه ونظر إلى الكلمات المحفورة أمامه فإذا هي: ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟
عند هذا ارتعش ارتعاشا شديدا، وعلا محياه أمارة الخجل، فانتصب واقفا نصف وقفة ... في حين كان المدعوون يهتفون بملء أصواتهم.
بعد هنيهة تحولت الأعين إلى مقام الشرف، وهم المدعوون أن يختموا الحفلة بتهنئة الفتى، إلا أنهم لم يبصروا أحدا! ...
كان الفتى قد احتجب من مكانه.
في تلك الدقيقة ساد سكون غريب في قاعة الوليمة، فتقدم والد المحتفل به من مقام الشرف، وقرأ بقلب منقبض تلك العبارة المحفورة على المائدة، ففهم كل شيء وأخذ يبكي.
أما الفتى فكان قد هرب إلى الصحراء ... •••
أخذ الفتى يمشي بين المفاوز والأكمات، وكانت نفسه المنتصرة ترفع صدره من حين إلى آخر، وقد شعر بأن شعاع اللانهاية يضيء في روحه، حتى وصل إلى مكان منفرد، فأبصر سهولا من القمح تمتد أمام عينيه، فعرف أنه أخطأ الطريق، فعرج على غابة حتى انتهى به السير إلى أكمات ترتفع عليها أشجار المشمش والتين والرمان واللوز، وتتخللها مجاري مياه عذبة، فسكن جوعه ببعض الأثمار وبل غليله ببعض جرعات من الماء، ثم صعد إلى قمة أكمة، فتراءى له واد ضيق يفصل بينه وبين جبل وعر تمتد وراءه صحراء واسعة، فلم يتردد أن أسرع الخطى نحو تلك الصحراء ...
شرع الفتى يتسلق المنحدرات بصعوبة وعناء، وكانت الأشجار الغضة تبسط على الجبل أخيلتها السوداء، حتى إذا ما انحدر الوادي سمع دويا يقرب منه دوي الصواعق، فرفع نظره إلى المرتفعات فأبصر منحدر ماء يهبط من محل شاهق، وينساب في وسط الوادي العميق.
كان المساء يحلك رويدا رويدا عند ما وصل الفتى إلى شجرات من النخيل، فحول نظره إلى جهة المشرق، وتمتم بروح مغتبطة قائلا: هو ذا مكان عزلتي. •••
منذ تلك الساعة بدأت حياته الأليمة.
في الغد نهض باكرا وبنى له كوخا من غصون النخل، وأحاط جسده بزنار من الأشواك وعمل من الأوراق رداء له.
أما غذاؤه الوحيد فقد كان من ثمر النخيل.
مر على الفتى عشرة أعوام في تلك العزلة صرفها في التقشفات والصلاة والبكاء، حتى انتشر خبر قداسته في المدينة، فأخذت الوفود تأتي لزيارته من أطراف الجهات البعيدة.
أما هو فلم يتردد أن هرب من تلك الصحراء ...
بعد مسيرة ساعات عديدة بلغ إلى قرية منفردة فاجتازها حتى وصل إلى حائط مرتفع، تقوم على أعمدته مغاور عديدة بعضها مهجور، والبعض الآخر تسكنه عيال من الوطنيين آثروا البقاء في مآوي جدودهم.
اختار الناسك مغارة ضيقة من تلك المغاور، بعيدة عن الناس ووطد إقامته بها.
منذ ذلك الحين آل أحد المسيحيين على نفسه أن يحضر له كل أسبوعين طعامه الضروري.
مرت الأيام على عزلته في تلك المغارة، وهو يضرع إلى الله ويحمل نفسه عذابات الجلد والجوع!
وفي ذات يوم أبصر جماعات من الزوار قادمين إليه ليتبركوا به، إلا أنه لم يخرج من مغارته ورفض أن يتحدث إليهم، فجعلوا يبكون أمام باب المغارة ويتضرعون، ولكنه بقي صامتا مستغرقا في تأملاته.
عند هذا اقترب المسيحي الذي يتعهده بالطعام إلى باب المغارة، وقال له إنه إذا بقي مصرا على صمته لا يحجم الزائرون عن إقلاق راحته، فاضطر الناسك أن ينزل عند توسلات الشعب، وأخذ يملي على بعضهم فقرات حكمية استوحاها من العزة الإلهية.
فاغتبط الجميع وسروا سرورا لا حد له.
وفي الليلة التالية تمكن الناسك من الهرب بمساعدة الرجل المسيحي، فوصل أمام كوخ سقف بالقصب والخيزران، فأبصر شيخا مسنا ذا لحية بيضاء جالسا يصلي على عتبة الباب.
أما الشيخ فعندما وقع نظره على الناسك بادره قائلا: اقترب مني يا بني، فأنا الكاهن باخوميوس، وقد مر علي تسعون سنة في خدمة المسيح.
لقد فتح الله بصيرتي بيده العذبة، فعرفت أنك تدعى سيراب الناسك.
إنك تستطيع أن تقوم بأعمال عظيمة، ولكن يجب عليك قبل ذاك أن تصلي كثيرا وتقاسي عذابات لا طائل تحتها ...
اذهب نحو جهة المشرق، وعندما تغيب الشمس ثلاث مرات، وتصل إلى سهل ملآن عشبا، بالقرب من هيكل مدمر، يفتح الله بصيرتك ويلهمك أشياء كثيرة.
أكمل طريقك يا بني وصل لأجلي ...
سلك الناسك طريقه حتى انتهى به السير إلى سهل يمتد على أقدام جبل مرتفع لا خصب فيه، فأبصر آبارا عديدة، تنتصب فوقها أدواح مسنة وتماثيل من الحجر محى الزمن رواءها، ووقع نظره على أعمدة متهدمة وأطواد محطمة يرتفع بينها عمود أبيض مستطيل، كأنما هو زهرة من أزهار الأحلام لا تزال مفتحة فوق تلك البقايا المحزنة.
أما الصخور المتهيرة، قفد كانت ترتفع بعضها فوق بعض مؤلفة مغاور كبيرة، أوى إليها بعض الرعاة مع مواشيهم.
اقترب الناسك من راع مسن، وأخبره أنه نذر نفسه لخدمة الله، وأنه بحاجة إلى العزلة والسكون.
ثم سأله أيتاح له أن يعيش على قمة ذلك العمود المرتفع؟
فأجابه الراعي بعد أن استشار رفاقه، أنه بالرغم من علو العمود يمكنه أن يصعده إلى قمته بواسطة حبل مستطيل، وتعهد له أن يرسل إليه من وقت إلى آخر طعامه الضروري.
ثم قال له: أهبك حبلا يبقى معك في عزلتك تدليه إلي كلما احتجت إلى الطعام.
بعد هنيهة كان الناسك على قمة العمود المرتفع، فجلس يحمد الله، ولم يمر عليه بعض ثوان حتى كانت روحه انتقلت إلى عالم اللانهاية ...
وفي المساء لاحظ الناسك أن ضيق العمود لا يسمح له أن يتمدد ويستريح، إلا أن ذلك لم يزعجه، بل شعر بغبطة لا حد لها.
أطلت الكواكب من كوى السماء، وانتشرت أشعتها في الفضاء الرحب، فأخذ الناسك ينشد بصوته العذب هذه المقاطع المقدسة:
رب! أيها المخلص الغفور
لقد بسطت إلي ذراعي رأفتك ومحبتك
لقد أنقذتني من الهلاك الأبدي
بعد أن خدعت ببريق اللذات الباطلة
وجنحت عن مطارح نورك وهداك! •••
رب! لقد سكبت علي شعاعا من وجهك الجميل
ونثرت في مسمعي كلمة من فهمك القدوس
لقد سمعت وصاياك الجميلة
وشعرت بعذوبة نيرك •••
اغمرني بالسكينة والسلام
ولا تدع أبناء البشر يعرفون مكاني
رب! لا تبعدني عن عزلتي قبل الوصول إليك
وأمدني بعونك وسهرك حتى أتمم مشيئتك •••
أبعد عني حيل إبليس وتجاربه
ومهد لي مأوى في أعاليك
رب! دعني أرقد وأستريح بين ذراعيك
لأنك أصل بدئي ونهايتي.
كان الرعاة السذج يصغون إلى هذه الأنشودة بدهشة واستغراب فيخيل إليهم أنها هابطة من السماء، فيقول بعضهم لبعض: إن فضائل هذا القديس لمشكاة تنير ذريتنا ...
ذات يوم فرغ الطعام عند الناسك، فلم يشأ أن يزعج الرعاة في راحتهم، فلم يدل إليهم الحبل كعادته، وبينما هو مستغرق في التأملات أبصر غرابا أسود جثم على حافة العمود، وفي منقاره قطعة من الخبز وضعها بالقرب من الناسك.
بقي الغراب تسع سنوات يقوم بهذه المهمة الإلهية. •••
جاء الخريف، فأسرع جمع غفير من الباعة إلى القرى المجاورة لذلك السهل حيث يسكن الناسك، وانتشروا في الأسواق مقلين الذهب، والعاج، والنسائج المختلفة، والأرجوان، والبرفير، وأثواب الكتان والصوف، وغير ذلك من مصنوعات سوريا ومصر واليونان، فكانت سوق راج فيها البيع والشراء.
وعندما هبط المساء واتجه هؤلاء الباعة نحو الخرائب، حيث يقيم الرعاة، أبصروا غرابا أسود يحمل في منقاره قطعة خبز، ويضعها على قمة ذلك العمود، فملكتهم الدهشة لدى هذا المشهد، فأخذوا يهتفون بأصوات شقت الفضاء.
أما الغراب، فعندما سمع ذلك الضجيج، حلق في مذاهب الجو وتوارى عن الأبصار ...
صعد البدر في السماء، ونشر أشعته الزرقاء على الخرائب المنطرحة في ذلك السهل الرحب، في حين كان سيراب الناسك باسطا ذراعيه على قمة العمود، تاركا شفتيه تتلفظان بهذه الكلمات العذبة:
أيتها الكواكب، باركي الله العظيم
احمديه أيتها الأجناد السماوية
فتفطر الجمع الغفير لدى هذه النغمات المقدسة، فأخذ ينشد قائلا:
أيها القمر والنجوم باركي الله العظيم
احمدي الله يا نيران الصيف المحرقة
باركي الله واحمديه أيتها الينابيع ...
كان كسيحان من فقراء إحدى القرى جالسين في مكان منفرد، يستمنحان صدقة المارين، فبلغهما أن قديسا من قديسي الله يسكن على قمة عمود، في وسط سهل قريب من القرية، فعزما أن يذهبا إليه على أمل أن يشفيهما.
وبعد جهد شديد وصلا إلى ذلك العمود بدون أن يشعر بهما أحد من الرعاة، فرسما إشارة الصليب، واستنجدا برحمة الله، ثم أمرا يديهما على حجر العمود.
عند هذا شعرا برعشة تجول في عروق جنبيهما، ولم يمر بعض ثوان حتى نشطا وقويا وعادا صحيحين كسائر الرجال.
ترامى الرجلان على الأرض، وبكيا طويلا، ثم نهضا وأخذا يقفزان بين الخرائب من شدة السرور.
لا تسل عن دهشة الجمهور عندما وقع نظرهم على ذينك الكسيحين.
أما الناسك فقد كان نائما في تلك الساعة، فاستفاق على الهتاف الشديد، فأبصر شبحا من النور منتصبا أمام عينه، وبعد ثانية سمع شبح النور يقول له: أيها الناسك لا يجمل بك أن تبقى طويلا في هذه الأنحاء المنفردة، ولا يجدر بك أن تبقي نبوغك في مطاوي النسيان، ذلك النبوغ الذي منحته في سبيل كثيرين من أبناء الله ...
فلم يجب الناسك، وظل منقبض القلب، فقال شبح النور: انظر الجماهير الغفيرة تحت قدميك، فالصحراء قد ملئت بالضجيج والعالم أجمع يتحدث بك.
ماذا يكون من أمرك لو امتزجت بالبشر ... وسكبت العزاء في النفوس؟ ... ستصبح أسقفا عظيما، وتقود شعب الله.
بقي الناسك صامتا لا يبدي حركة.
فقال شبح النور: لقد اكتشف الشعب مقرك، فلا سبيل إلى احتجابك بعد الآن؛ لأنك ملئت بمجد لا مجد بعده.
فدهش الناسك عند هذا الكلام، فقال: ماذا؟ ... أي مجد؟ ... ما تعني بهذا الكلام؟ ...
فقال شبح النور: لقد جوزيت جزاء حسنا بتقشفاتك وصلواتك ... حتى إن العمود الذي يحملك أصبح مقدسا بك، فهو يملك فضيلة إلهية، إذ إنه شفى كسيحين من الفقراء في هذه الساعة، إن عجائبك لتفوق عجائب الكتاب المقدس، فأنت قديس لا مثيل له.
فاضطرب الناسك وضرب صدره بكلتا يديه وقال: لا، بل أنا خاطئ، أنا رماد وتراب! ولا مجد إلا لله! ...
فقال شبح النور: لقد شفيت المرضى الكسحاء، فأنت عظيم في عملك ... اذهب فالساعة التي تجعلك سيد العلم قد آذنت.
فقال الناس بصوت جهوري: اذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ عد إلى جحيمك يا إبليس، فلقد تزينت بزي ملاك من النور، ولكنك لن تستطيع أن تحجب أعماق قلبك! عد إلى جحيمك فحيلك لن تجوز علي.
فقال شبح النور متهكما: حسنا ... أنا ذاهب عنك إلى حين، ولكن لا تظن أنك تملصت مني فستراني مرارا بعد الآن، واعلم أنني أوقعت من هم أشد قوة منك ... ثم توارى شبح النور! ...
عند هذا رفع سيراب الناسك نظره إلى السماء، وقال: رب ارمقني بنظرك الرءوف، واجعلني مطيعا لك في كل حين، لا تدع تجارب الشرير توقعني في هوة الهلاك.
مر ملائكتك أن تغمرني بأجنحتها السماوية، وإذا كان صحيحا ما قاله عدوك أنك وهبت الشفاء لرجلين من الكسحاء، فسيحتشد المرضى على أقدام هذا العمود، ويعكرون صفاء عزلتي بضجيجهم.
رب، لماذا سمحت حكمتك بكل هذا؟
أيمكنني أن أخدمك في وسط الضجيج؟
آه! لا، فدعني أعود إلى الصحراء المنفردة، وأنزوي في مغارة بعيدة ...
ونادى الرعاة بصوت مرتفع، فأسرعوا إليه قائلين في نفوسهم: ماذا يريد القديس؟ ... ما بدا له؟ ...
وعندما وصلوا إلى قدم العمود، أطل فوقهم وسألهم عن سبب تلك الجلبة، فأخبروه عن العجيبة المزدوجة.
فلم يتردد إذ ذاك أن ألح عليهم بأن ينزلوه عن مرتفعه، فحاولوا كثيرا أن يردعوه عن عزمه، فأبى.
وبعد هنيهة كان سيراب الناسك على الأرض، فشكرهم وباركهم جميعا، وأسرع الخطى نحو الصحراء الرحيبة ... •••
بعد أن مشى نهارا كاملا، وقف أمام تينة، فأكل من ثمارها ونام.
ولما كان غد أكمل طريقه في الصحراء، وكانت أشعة الشمس تلهب الرمال بلهاثها المحرق، وبعد فترة قصيرة هب هواء عاصف، ثارت تحته أمواج الرمال.
بقي الناسك يمشي حتى بلغ منه التعب مبلغه، فشعر بعطش محرق وبجوع قتال، إلا أنه لم يجد بدا من السير.
وفجأة أبصر وحشا ضاريا يقترب منه وفي يده قربة ملأى بماء بارد، فبسط يده ليأخذها، إلا أن الوحش تراجع عنه وهرب مسرعا من أمامه.
ثم تراءى له جدول تنساب فيه مياه عذبة، فعكف فوقه وأدنى شفتيه ليبل غليله، إلا أنهما لم يلامسا إلا رمالا مضطرمة.
عند هذا شعر بألم لا ألم بعده، وسال العرق المثلج من جبينه، فأغمي عليه ... •••
بعد هنيهة مرت قافلة من الجمال يقودها جمع من الباعة، ما كادوا يبصرون الناسك منطرحا على الرمال حتى حملوه إلى مكان ظليل، حيث مسحوا جبهته ووجهه بخرقة مبللة وسقوه بعض نقاط من الماء.
استفاق سيراب الناسك من الإغماء، فعادت إليه قواه المفقودة، وأعطاه الباعة قصعة ماء وبعضا من الزاد، فتمكن إذ ذاك من موالاة سيره ...
إلا أنه لم يكد يجتاز بضعة أميال حتى تراءى له وحش رهيب ذو نظرات نارية، يحدق فيه بعينين ملؤهما الهول!
فخاف بادئ ذي بدء، ولكنه ما لبث أن تشجع ووالى سيره بعد أن وكل الله بأمره.
وإذ به يبصر تمثالا ممددا على الرمال له جسد أسد ورأس رجل، فتبين له أن هذا التمثال يبلغ طوله مئة قدم، وعرضه أربعين، وخيل إليه أن عينيه تحدقان في مشهد لا تستطيع رؤيته الأعين المائتة.
جلس الناسك على صخر محطم، وأخذ يصوب نظره في نظر التمثال، كأنما هو يخاطبه بهذه الكلمات: من أنت أيها الوجه الغريب؟ ... وفي ماذا يحدق نظرك الثاقب؟ ... أفي ظلمات الخليقة وأسرار الحياة والموت؟ أم في الشرائع التي تدير مقدرات العالم؟ ... أفي جهالة الماضي وشكوك الحاضر؟ أم في مخبآت المستقبل المجهول؟ ... من يدري ... ربما هو يحدق في الفضاء اللانهائي ...
ثم نهض من جلسته وحاول الهرب، إلا أن قوة هائلة سمرته في مكانه، ذاك أنه أبصر التمثال قد انتصب على قدميه، وحدجه بنظر مخيف قائلا: آه! دعني أحرك مفاصلي المخدرة ... لقد مر ستون قرنا على جمودي ... كنت تظنني تمثالا لا حراك بي ولا حياة إلا في مقلتي ... لا، فأنت مخطئ ... فدم حقيقي يجول في عروقي، وفي عصبي قوة لا تقهر ...
كان لي فيما مضى معبد ترى بقاياه لا تزال بالقرب مني ... وكان في هذا المعبد كهنة يحرقون البخور بين أصابع رجلي ...
كنت يوم ذاك إلها! ...
فاضطرب سيراب الناسك لدى هذا الكلام وصرخ قائلا: ماذا تقول؟ كنت إلها! ... - وكانت الجماهير تستشيرني في أمورها، وهي ترتعش خوفا ورهبة لدن سماعها صوتي الإلهي! إلا أن أجوبتي كانت حكيمة وصادقة ...
لقد تعاقبت ذراري البشر أمام عيني، وما هذه الرمال التي حولي إلا رماد الموتى ...
ثم أشار إلى الأهرام وقال: لقد شهدت طيلة قرون قطعان العبيد الذين بنوا هذه القبور الهائلة تحت السياط.
لقد أبصرت موكب الفراعنة المنتصرين يمر أمامي على نغمات الأبواق الحربية.
ألا فانظر إلى العبارة المحفورة على الإصبع الثانية من قدمي اليسرى، فهي تقول إن وجهي هو وجه توتموزيس، هذا كذب، إذ إن الفراعنة كانوا يكذبون أحيانا.
لقد أبصرت يوسف منقذ مصر محاطا بإخوته، وموسى الشاعر، وابن الله على ذراعي أمه مريم ووالده يوسف، أتسمع، لقد أبصرت ابن الله يستريح في ظلالي هنا على هذا الحجر الذي إلى يمينك.
فنظر سيراب الناسك إلى الحجر نظرة احترام، ثم قبله بلهفة وخشوع.
فقال التمثال متهكما: تود أن تعرف سر المشكلات وتجهل من أنا! إنك تحمل في نفسك لججا عميقة وغضبا هائلا! إن صواعق البحار لأخف هولا من رغبات قلبك! أراك ظمآن للحياة من جهة، ومن جهة أخرى تشتهي أن تتذوق طعم الموت! كأن في نفسك منتهى القوة ومنتهى الضعف.
تارة تلامس السماء بجبينك الذي يرتفع إلى النجوم، وطورا تغرز عروقك في أعمق أعماق الغرائز الحيوانية.
ماذا! ... أترغب بعد ذلك أن تعرف في ماذا يحدق نظري؟ صبرا فستعرف ذلك! ...
ولكنك تدهشني بتصرفك الغريب.
لقد هجرت أهلك منذ ربع قرن، وملت عن اللذات والآمال والمطامع وآثرت السكينة في الصحاري المنفردة.
لقد أرهقت جسدك بالتقشفات، وظننت أن هربك من العالم يورثك هرب العالم منك.
أيها الجاهل، ألا تعلم أن العالم ورغباته ومطامعه وبؤسه هي ممزوجة بحمأة جسدك؟
ألا تعي ما قاله سيدك، إن العذابات لا توازي شيئا إذا امتنع القلب عن التكفير؟ ...
لقد احتقر الفلاسفة ظواهر العالم كما فعلت أنت، إلا أن أعمالهم ذهبت سدى؛ لأنهم لم يتبعوا المسيح، أي إنهم لم ينزعوا نفوسهم عن العالم إلا بالظواهر الباطلة ...
تارة أراك تعاهد الله على التثبت في خدمته وحده، وطورا أرى أباطيل العالم توقفك وتميلك عن وجه الله ...
إنك تقف أمامي مستطلعا خفايا أسراري يا سيراب ...
فقاطعه الناسك قائلا: لا، لم أمل مرة عن الله ولم أتردد فترة عن خدمته حق الخدمة ... ولكن من أنت وأي حق يخولك إلصاقي هذه التهمة؟ ... - أنا أبو الهول الخالد رمز الإنسانية وشعار القوة والذكاء، والذي حفر تمثالي في هذه الصحراء كان رجلا حكيما من أبناء الفراعنة ...
أنا هرميكس، أنا الأشعة والضياء ... أبدد ظلمات الأسرار وأحرس هياكل الموت! لقد جئت تستفتيني، فإليك فتواي: لقد ملأت العالم بدوي أعمالك وبعنايتك امتدت سلطة الدين المسيحي ...
كانت الحكمة الإلهية تعول عليك، إلا أنك هربت إلى الصحراء وجنحت عن إخوتك المحتاجين إليك ...
ماذا فعلت بإخوتك يا سيراب؟! ...
أصغ إلى نصيحتي التي ترشدك إلى الطريق القويم: يجب عليك أن تذهب إلى الإسكندرية، انظر إلى هذا المركب في مياه النيل، فهو راحل غدا ...
رفع التمثال رأسه إلى العلاء وحول نظره إلى جهة المشرق، فانبعث من مقلتيه نور عظيم شق ظلمات الليل.
إذ ذاك برزت الأشياء مغتسلة بضياء بنفسجي، فأبصر الناسك مركبا يتراوح فوق مياه النهر.
فقال التمثال: اذهب إلى الإسكندرية، لقد مات أثناسيوس الكبير، فاضطربت عند موته الأفكار واختلفت الآراء، وحلت الفوضى.
اذهب وابذر السلام بعظاتك المقدسة، فيباركك الله.
في الإسكندرية اليوم اختلاف حدث بين الكنيسة وقنصل نيسه، فالكنيسة تقول إن المسيح هو ابن الله ... والحقيقة هي لا ... إذ ...
عندما سمع الناسك هذا التجديف غضب غضبة عظيمة، فأخذ حجرا ورمى به الحيوان الهائل.
فتطاير الشرر من مقلتي التمثال، وحاول أن ينقض على سيراب ليمزقه شر ممزق.
إلا أن هذا صرخ صرخة شديدة، واستعان بالله فاحتجب التمثال كوميضة البرق ... •••
في صحراء قريبة من وادي الملوك تنتصب صخور سوداء، لا تجرؤ قدم بشر أن تبلغ إليها، كأنما الرهبة تحرس مدينة الأموات في ذلك المكان الرهيب!
هناك تخير سيراب الناسك مسكنا له صرف فيه أيامه بالصلوات والتقشفات، وقد خفي مقره عن البشر، فلم يزعج أحد عزلته الهادئة ...
كانت حيطان الغرفة التي أوى إليها الناسك مغطاة بتصاوير متباينة الشكل، تمثل حياة المصريين القدماء.
منها رسوم عجلات تجرها الثيران، ومنها رسوم بشر ذوي لون أحمر مرتدين قبعات وأردية بيضاء، يحرثون السهول الواسعة، وحولهم قطعان من النعاج والمعزى يحرسها رعاة وكلاب، ومنها رسوم مراكب ماخرة عباب النيل تقل البضائع إلى البلدان البعيدة، ورسوم صيادين يصطادون الأسماك ويضعونها في سلال كبيرة، وكروم ملأى بعناقيد العنب، وموسيقيات في أيديهن آلات من القيثارة والناي، وراقصات يرقصن على نغمات العازفات.
على رأس أحد الجدران رسم يمثل نهرا سارت على ضفته عجلة ذات جياد مزبدة، تقل فرعون واقفا وعلى رأسه تاج مصر العليا والسفلى.
ورسم آخر يمثل اثني عشر أميرا عائدين من ساحة النصر وعلى أكتافهم عرش من الذهب، جلس عليه فرعون الكبير، وعددا من الكهان يرشقون الملك بالأزهار ويرفعون إليه البخور، وجماعة من الملوك مكبلين بالسلاسل يستمنحون فرعون العفو والسماح.
ومن تلك الرسوم عدد يمثل مشاهد الموت.
هناك رسم أقرباء يصلون أمام الموميا المخبوءة في صندوقها المأتمي، ورسم يمثل النفس مسافرة في زورق الإله أنوبيس ووجهتها عرش أمون القاضي المطلق.
وهناك رسم آخر يمثل الميزان الإلهي وضع في كفته الأولى إناء هو رمز النفس، وفي كفته الأخرى ريشة نعامة، هي رمز العدل ... •••
وفي حين كان سيراب الناسك مستغرقا في الصلاة نفذت أشعة القمر إلى الغرفة، وأنارتها بنور ضئيل!
بعد فترة قصيرة أخذ النور يتضاعف رويدا رويدا حتى ملأ الغرفة بضياء عظيم.
فخيل للناسك أن الرسوم تتحرك وتنتعش، ثم أبصر فرعون يضع قدمه على جمجمة أحد الملوك المقهورين.
وما مضى بعض ثوان حتى انفجرت الجمجمة، وتدفق منها دم غزير.
عند هذا رحبت جدران الغرفة واحتجبت الكوة، فأبصر الناسك نفسه في سهل واسع يجتازه نهر كبير.
هناك شاهد الحصادين يحصدون، والجنود يرشقون السهام، والكلاب المفترسة تنبح نباحا مزعجا، والأسود تزأر زئيرا مخيفا، وسمع الطبول تدق، ونغمات الأبواق الحربية تتصاعد في الفضاء، وأبصر ضفادع ذات رءوس فيلة تزحف على الأرض، وفيلة ذات رءوس ضفادع تركض ركضا مخيفا، وتماسيح صغيرة تدب بين الصخور، لا يبلغ طول الواحد منها ما تبلغ الحشرة.
وشهد في الفضاء أفاعي مجنحة ووطاويط مرعبة يتساقط من أجنحتها ألوف من الحيات.
سلم الناسك أمره لله، وسجد ليصلي فتبددت تلك المشاهد المخيفة أمام عينيه.
وهكذا بقي سيراب طيلة أشهر عديدة عرضة لمثل تلك المشاهد الرهيبة. •••
ذات يوم في حين كان الناسك عائدا إلى غرفته وفي يده قربة ملأها من النيل، سمع أنينا وأبصر فلاحا ممددا على الأرض والدم ينبع غزيرا من جراح في رأسه.
فانحنى فوقه وغسل جراحاته وقرب الماء من شفتيه.
وبعد أن شرب الفلاح من يد الناسك رفع رأسه وحدق في سيراب قائلا: أنت لا تعرف من أنا! ... لقد ظننت أنك تنجد أخا من إخوتك، ولكن ساء فألك، فأنا إبليس!
عند هذا توارت الجراح عن رأس الفلاح وبرقت عيناه بريقا هائلا كأنه شعلة من نار.
أما الناسك فلم يضطرب وقال: لقد ظننتك رجلا متألما فأسرعت لنجدتك، فالله يحاسبني على جميلي هذا كما لو كنت قد أنجدت قريبا لي، إنني أعرف حيلك يا إبليس، ولكن نعمة الله تقويني على احتمالها بتجلد وصبر.
إذ ذاك توارى إبليس ولم يرجع بعد ذلك. ... مرت الأعوام العديدة على سيراب وهو يقاسي العذاب والجوع، وكان غراب السماء يأتيه كل مساء بقطعة من الخبز.
ذات ليلة بينما كان الناسك ساجدا على عتبة بابه يصلي ويضرع إلى الله، ظهر له ملاك ذو أجنحة نارية، فملكه الخوف والذعر الشديد! ...
قال الملاك: لا تخف فأنا الملاك روفائيل، لقد أذن الله بأن تهبط عليك نعمته العظيمة، فاصغ جيدا إلى ما يطلبه منك: غدا تذهب إلى الإسكندرية وتمثل بين يدي الأسقف بطرس، وهو رجل عادل ويخاف الله، اطلب منه أن يجمع المرضى والكسحاء في كنيسة القديس مرقس الإنجيلي.
وعندما يتم ذلك تتقدم أنت وتشفي جميع المرضى أمام الجماهير الغفيرة!
عندما سمع الناسك هذا الكلام ارتعش ارتعاشا عظيما، وصرخ قائلا والدموع تتناثر من مقلتيه: أجل، سأقوم بهذا العمل، فالله قادر على كل شيء، ولكن كيف أجسر أن أطلب ذلك من الأسقف؟ وهل يصدقني؟ ...
فقال الملاك ذو الأجنحة النارية: إذا طلب الأسقف منك أن تثبت له صحة كلامك فلا تتأخر، واعلم أن الله يكون إلى يمينك. •••
وفي الغد عندما بلغت الشمس كبد السماء، كان الناسك في الإسكندرية يستخبر عن مقر الأسقف بطرس خلف الأسقف أثناسيوس.
وعندما امتثل الناسك أمامه انحنى بخشوع واحترام، فاستقبله الأسقف مرحبا به.
فقال الناسك: أيها الأب القديس، أنا سيراب الناسك الذي صرف أيامه في العزلة والسكون، كنت قد نذرت ألا أخرج من العزلة السعيدة، إلا أن الله اختارني للرسالة التي سأبسطها الآن على مسمعك.
وأطلعه على كلام الملاك روفائيل وأوامر الله الصريحة، فأعار الأسقف اهتمامه الشديد لكلام الناسك، إذ إنه كان يدرك أن الله يتخذ أحيانا طرقا فوق العادة ليتمم مشيئته.
إلا أنه بالرغم من نزوله عند صدق الناسك بقي متريبا؛ لأنه لم يكن يجسر أن يتحمل تبعة أمر كهذا قبل أن يتأكد من المشيئة الإلهية.
فقال: أذكر أني سمعت منذ خمس عشرة سنة بناسك يدعى سيراب أظهر عجائب غريبة، أهو أنت؟
فقال الناسك: أبتاه، الحق يقال إنني صرفت بضعة أعوام على قمة عمود في الصحراء، فكنت كل يوم أردد هذه العبارة التي فاه بها المسيح: «ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟» أما أعمالي فهي غير كاملة ولا تستحق التفات الشعب واكتراثك.
فأجابه الأسقف: وهل قال لك الملاك لماذا يرغب الله في ذلك العمل؟
فقال الناسك: قال لي الملاك: انهض واذهب إلى الإسكندرية وامتثل بين يدي الأسقف بطرس وباسم المسيح تشفي المرضى والكسحاء.
فالتفت الأسقف بطرس إلى أبيليوس وقال له: ما رأيك يا أبيليوس؟
فابتسم هذا، وقال: قد يكون الرجل عرضة للهذيان.
فقال الناسك: أظن أني سليم العقل والجسم وأن الهذيان لم يلامس قط مخيلتي.
فقال الأسقف: أتقدر أن تعطيني برهانا عما تقول؟ - أجل - خذ عصاي واعمل بها ما عمله موسى أمام فرعون مصر.
فأخذ الناسك العصا ورماها أمام الأسقف، فانتعشت حالا واستحالت إلى أفعى هائلة كادت تنشب على أبيليوس، فاضطرب هذا وتراجع مذعورا إلى الوراء!
إذ ذاك عمل الناسك إشارة فعادت الحية إلى ما كانت عليه.
وعندما أخذ الأسقف عصاه استحالت في يده إلى غصن ذي رائحة زكية.
فقال: طلبت منك برهانا فأعطيتني اثنين، يكفي ما رأيت، فأنا واثق من رسالتك.
قال هذا والتفت إلى أبيليوس وقال له: أبيليوس، لقد سمعت مشيئة الله العلي وشهدت البرهان الساطع، فقم غدا واجمع المرضى والكسحاء في كنيسة القديس مرقس. •••
على قمة اصطناعية مشرفة على المدينة تقوم كنيسة القديس مرقس التي بنيت بأمر من قسطنطين الكبير.
يرى الناظر في حديقتها غديرا كان المؤمنون يغسلون أيديهم بمياهه قبل الدخول إلى المعبد كتبت على رخامه هذه العبارة: «لا تغسل يديك فقط، بل اغسل ذنوبك.»
أما الكنيسة فكانت مستطيلة في شكل مركب، تذكر المؤمنين بأن الكنيسة هي هيكل مقدس لا سلام للبشر إلا فيه، وأن الأساقفة والرسل هم الملاحون الذين يقودون ذلك المركب الكبير.
وأما الأسقف إسكندر فقد حفر على بابها هذه العبارة: أيها الأبناء الأحباء يجب أن تذكروا أن هذا العالم بحر مصطخب الأمواج، كثير المخاطر لا تستطيعون أن تعبروه سالمين إلا بواسطة مركب الكنيسة. •••
جاء الأحد المعين فازدانت الكنيسة بحلة الأعياد، إلا أن المرضى والكسحاء لم يحضر منهم إلا عدد قليل.
فتطلع الأسقف فلم ير الناسك، فاستغرب الأمر وسأل الكهنة فلم يفده أحد منهم.
أما أبيليوس فأخذ يتهكم ويقول: لا أدري أية ثقة تضعونها في ذلك الرجل الهارب الذي يطوف في المعمور مموها على عقول الناس ساعيا إلى استمالتهم بخزعبلاته وتدجيله! ...
وفي الغد امتثل سيراب الناسك أمام الأسقف شاحب الوجه، وقال له: أبتاه، لقد احتقروا أوامرك، فأنا لا أود أن أتهم إخوتي، ولكن أرى من الضروري أن تأتي بأبيليوس وتمتحنه.
كان أبيليوس قد اختفى، فكابد الباحثون عنه أتعابا شديدة في إحضاره.
عرف الأسقف أن أبيليوس لم يخبر المرضى أية نعمة يحرزونها إذا هم حضروا إلى الكنيسة، وأنه أعلن فقط لبعض الفقراء عن إحسان يوزع عليهم أمام باب المعبد.
تقدم أبيليوس وأخذ يتهكم عليه ويهينه ...
وإذ هو على هذه الحالة شحب وجهه واضطربت أعضاؤه، وظهر ملاك في يده سيف من نار.
فنهض الأسقف عن عرشه، وتوسل إلى الملاك أن يسكن غضبه، واعدا إياه بأن يتمم مشيئة الله.
ثم التفت إلى أبيليوس، وأمره بأن ينزوي في دير بعيد حيث يكفر عن ذنبه حتى آخر ساعة من حياته.
عند هذا انتشر الخبر في المدينة، فشك البعض وآمن البعض الآخر، وما عتم الأمر أن أسرعت الجماهير الغفيرة إلى الكنيسة بينهم المؤمن والملحد والمريض والكسيح والبائس والغني.
صعد الأسقف إلى المنبر الرخامي محاطا بكهنته ولفظ العظة الربانية، ثم نزل وتقدم نحو الهيكل.
عند ذلك صرخ أحد الكهنة قائلا: أعيروا انتباهكم!
وتقدم المؤمنون إلى الهيكل بينهم الإكليريكيون والنساك، وجمع من الرجال والفتيان والنساء والعذارى، وتناولوا جسد الرب بتؤدة وخشوع.
أما الرهبان فتقدموا إلى المرضى المؤمنين الذين كانوا يئنون تحت أثقال الأوجاع، ووزعوا عليهم القرابين في حين كانت أصوات الأحداث ترتفع منشدة تسابيح الله:
احمدي الله وباركيه أيتها الأمم والشعوب!
لأن رحمته حلت علينا جميعا
ولتدم إلى الأبد شريعة السيد العظيم!
جلس الأسقف بطرس على عرشه الرخامي، وبعد أن بارك الشعب قال بصوت جهوري: أيها الأبناء الأعزاء، لقد زار الله شعبه المؤمن ويود أن يبسط على آلامكم وأوجاعكم ذراعيه الإلهيتين بدون أن يستثني أحدا منكم.
إن الله يهب نور شمسه للأخيار والأشرار بدون تفاوت.
قولوا معي الصلاة التي أنزلها ابن الله على البشر:
أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض.
أعطنا خبزنا كفاة يومنا واغفر لنا ذنوبنا وخطايانا، كما نحن نغفر لمن أخطأ وأساء إلينا، ولا تدخلنا في التجارب، لكن نجنا من الشرير!
إن الله يريد سلام العالم.
فلقد أرسل ابنه الوحيد الذي مات من أجلنا ليعلمنا الحقيقة، ويبني كنيسته حتى تنتشر بواسطتها تلك الحقيقة الضرورية.
ومن جهة أخرى أعطى الله الإنسان حريته في اختيار الشر أو الخير، في اختيار الحقيقة أو الضلال.
يا للأسف! إننا نرى الإسكندرية، هذه المدينة التعسة، تمشي على سنة غير التي وضعها الله، فتحيد عن سيدة النور التي هي الكنيسة لتستسلم لشهواتها وتقع في ضلال معيب!
عند هذا أشار الأسقف بطرس إلى الناسك فصعد إلى المذبح، وقال بصوت جهوري: لقد انتخبني الله بالرغم من صغارتي؛ لكي أجرب فيكم جميعا عجائبه الإلهية.
إن الله يريد أن تؤمنوا جميعكم بالحقيقة الخالدة، ولذلك يود أن يشفيكم من أمراضكم المزمنة.
فعندما تدركون الحقيقة الناصعة لا تلبثون أن تصبحوا أحرارا؛ لأن الحرية هي بنت الحقيقة.
ولكي يتأكد السيد لوسيوس أن المسيح هو ابن الله أريد أن أشفي هؤلاء المرضى والكسحاء باسم المسيح.
فانتصب لوسيوس شاحب الوجه، وقال بصوت ضعيف: إذن فأظهر لنا قدرتك أيها الرجل.
فصرخ سيراب الناسك بصوت ملؤه الإيمان قائلا: أيها الإخوة الأحباء، اتحدوا معي بقلوبكم وأصغوا إلى ما أقول:
نؤمن بإله واحد، آب ضابط الكل، خالق السماء الأرض، كل ما يرى وما لا يرى، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور، إله من إله، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، له وللأب جوهر واحد، الذي به كان كل شيء، والذي من أجلنا نحن البشر، ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد من روح القدس ومن مريم العذراء، وصار إنسانا وصلب عنا على عهد بيلاطوس البنطي وتألم ومات وقبر وقام في اليوم الثالث.
ولما وصل الناسك إلى هذه الجملة، رفع نظره إلى العلاء وبسط ذراعيه فوق المرضى وقال: باسم المسيح ابن الله الحقيقي آمركم أن تمشوا، ألا فليحتجب أي مرض كان، ولترجع القوة والنشاط إلى أجسامكم جميعا!
عند هذا تصاعد هتاف عظيم، ونهض الكسحاء على الأرض، وأبصر العمي، وسمع الطرش، وتكلم الخرس، وشفي المرضى اليائسون.
فهجم الأهل والأصدقاء وأخذوا يعانقونهم بلهفة كمن لا يصدق ما يرى.
أما الناسك فجعل يهدئ هياج الشعب، ثم قال: احمدوا الله يا إخوتي الأحباء، المجد للمسيح ابن الله الحقيقي!
فهتف الشعب بصوت واحد كأنما هو الصاعقة المنقضة: في كل الدهور!
Página desconocida