وفي ليلة الجمعة مستهل رمضان سنة أربع وخمسين وستمائة وقعت نار بالمدينة (¬1)، فاحترق المنبر، وبعض المسجد، وبعض سقف الحجرة، فكتبوا إلى الخليفة المستعصم، فأرسل بصناع وآلات من بغداد، / وابتدئ بعمارته أول سنة خمس وخمسين وستمائة، ولم يجسروا على إزالة ما وقع من السقوف على القبور حتى يطالعوا المستعصم، [واشتغل المستعصم] (¬2) بالتتار، فسقفوا الحجرة (¬3)، ووصل من مصر آلات العمارة في دولة المنصور علي بن المعز إيبك، ووصل من اليمن من ملكها شمس الدين المظفر يوسف بن المنصور عمر بن علي بن رسول آلات وأخشاب، وتسلطن بمصر المظفر قطز، واسمه الحقيقي محمود بن ممدود ابن أخت جلال الدين خوارزم شاه، وأبوه ابن عمه وقع عليه السبا فبيع بدمشق وسمي قطز، واشتغل بالتتار حتى كسرهم في عين جالوت، ومات في دون السنة، وتسلطن الملك الظاهر، وكان صاحب اليمن أرسل منبرا من صندل فقلعه الملك الظاهر، وأرسل منبرا من جهته، وكمل عمارته، والملوك يفعلون ذلك افتخارا به (¬4)، والله ورسوله غني عنهم:
نفس النبي لدي أغلى الأنفس ... فاتبعه في كل النوائب وائتسي
واترك حظوظ النفس عنك وقل لها ... لا ترغبي عن نفس هذا الأنفس
فردي الردى، واحميه كل ملمة ... فلقد سعدت إذا خصصت بأبؤس (¬1)
إن تقتلي يصعد بروحك في العلا ... بيد الكرام على ثياب السندس (¬2)
وترين ما ترضين من كل المنى ... في مقعد عند المليك مقدس
أو ترجعي بغنيمة تحظي بها ... وبذخر أجر ترتجيه وترأس
ما أنت حتى لا تكوني فدية ... لمحمد في كل هول مبلس (¬3)
ما في حياتك بعده خير ولا ... إن مات تخلفه جميع الأنفس
فمحمد بحياته تهدى الأنام ... وتنمحي سدف الظلام الحندس (¬4)
ويقوم دين الله أبيض ظاهرا ... في غيظ إبليس اللعين الأنجس
أعظم بنفس محمد أن تفتدى ... أهون بنفسك يا أخي وأخسس
نظمت هذه الأبيات في سنة سبع وثلاثين وسبع مائة في كلام تفسير قوله تعالى: {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه} (¬5)، والآن زدت فيها لهذا المعنى العارض:
ولقبره أغلى البقاع وخيرها ... زاك على التقوى أجل مؤسس
فبطيبه طاب الثرى ونزيلها ... أزكى قرى في كل واد أقدس
أفدي عمارتها ومسجدها بما ... أحوي، وبي كل البرية تأتسي
إني يهون علي بيع حشاشتي ... في ذاك بالثمن الأقل الأبخس
Página 64