بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد وآله
تلخيص
المقالة الأولى
من الخطابة
قال: إِن صناعة الخطابة تناسب صناعة الجدل، وذلك إِن كليهما يؤمان غاية واحدة: وهي المخاطبة؛ إذ كانت هاتان الصناعتان ليس يستعملها الإنسان بينه وبين نفسه كالحال في صناعة البرهان، بل إنما يستعملها مع الغير؛ وتشتركان بنحو من الأَنحاءِ في موضوع واحد، إذ كان كلاهما يتعاطى النظر في جميع الأشياءِ، ويوجد استعمالها مشتركا للجميع: أعني إِن كل واحد من الناس يستعمل بالطبع الأَقاويل الجدلية والأَقاويل الخطبية. وإِنما كان ذلك كذلك، لأَنه ليست واحدة منهما علما من العلوم منفردا بذاته. وذلك إِن العلوم لها موضوعات خاصة، ويستعملها أَصناف من الناس خاصة. ولكن من جهة إِن هذين ينظران في جميع الموجودات وجميع العلوم تنظر في جميع الموجودات، فقد توجد جميع العلوم مشاركة لهما بنحو ما.
وإذا كانت هاتان الصناعتان مشتركتين، فقد يجب إِن يكون النظر فيهما لصناعة واحدة: وهي صناعة المنطق.
وكل واحد من الناس يوجد مستعملا لنحو ما من أنحاءِ البلاغة ومنتهيا منها إِلى مقدار ما وذلك في صنفي الأَقاويل اللذين أحدهما المناظرة، والثاني التعليم والإِرشاد. وأكثر ذلك في الموضوعات الخاصة بهذه الصناعة، وهي مثل الشكاية والاعتذار وسائر الأَقاويل التي في الأُمور الجزئية.
ويوجد كثير منهم يبلغون مقصودهم بهذا الفعل. فمن الناس من يفعل ذلك بالاتفاق؛ ومنهم من يفعله بالاعتياد وبملكة ثابتة. ومعلوم إِن الذي يفعل هذه الصناعة بملكة ثابتة أفضل من الذي يفعلها بالاتفاق. وإِذا كان ذلك كذلك، فالذي يفعلها بملكة ثابتة وعلم بالسبب الذي به يفعل فعله أتم وأفضل. وهذا أمر يعرفه الجمهور فضلا عن الخواص. ولذلك كان واجبا إِن تُثبت أجزاءُ هذه الصناعة في كتاب، ولا يقتصر على ما يوجد من ذلك بالطبع فقط، ولا بالاعتياد، كالحال في كثير من الصنائع القياسية.
قال: وكل من تكلم في هذه الصناعة ممن تقدمنا، فلم يتكلم في شيء يجرى من هذه الصناعة مجرى الجزء الضروري، والأَمر الذي هو أحرى إِن يكون صناعيا: وتلك هي الأُمور التي توقع التصديق الخطبي، وبخاصة المقاييس التي تسمى في هذه الصناعة الضمائر، وهي عمود التصديق الكائن في هذه الصناعة، أعني الذي يكون عنها أولًا وبالذات. وهؤلاءِ فلم يتكلموا في الأَشياءِ التي توقع التصديق الخطبي بالجملة، ولا في الضمائر التي هي أحرى بذلك؛ وإِنما تكلموا فأكثروا في أشياء خارجة عن التصديق، وإِنما تجرى مجرى الأَشياءِ المعينة في وقوع التصديق، مثل التكلم في الخوف والرحمة والغضب وما أشبه ذلك من الانفعالات النفسانية التي ليست معدة نحو الأَمر المقصود تبيينه أولًا وبالذات، وإنما هي معدة نحو استمالة الحكام والمناظرين ولذلك كانت كأنها موطئة للتصديق، لا فاعلة له.
قال: فلو كان إِنما يوجد من أجزاءِ الخطابة الشيء الذي هو موجود الآن منها في بعض المدن، لما كان لما تكلم هؤلاءِ فيه من الخطابة جدوى ولا منفعة، وإن كان قد تكلموا فيها تكلما جيدا، وهي المدن التي لا تبيح السنة فيها التكلم بين يدي الحكام بالأَشياءِ التي تمُيل الحكام وتستعطفهم إِلى أحد المتكلمين، بل إِنما تباح فيها الأُمور التي توقع التصديق فقط. وذلك إِن أهل المدن يلفون في هذا الوقت فريقين: فمنهم من يرى أنه ينبغي إِن تُثبَّت السنن التي يؤدب بها أهل المدينة في نفوس المدنيين بجميع الأُمور التي لها تأْثير في التصديق، كانت أشياء توقع التصديق أو أُمور خارجة، ومنهم من يمنع إِن يذكر شيء من الأُمور التي من خارج، وبخاصة عند الحكام على ما كان عليه الأَمر في موضع الحكومة في أثينيا وفي بلاد اليونانيين.
قال: ورأْيُ من رَأى إِن استعمال جميع الأَشياءِ التي لها تأْثير في التصديق في تثبيت الأَشياءِ التي يراد تثبيتها بطريق الخطابة هو الصواب.
وخليق إِن استعمل أحد هذا القانون إِن يكون باستعماله يصير في هذه الصناعة لبيبا أديبا.
1 / 1
وقد يدل على إِن الأُمور التي من خارج ليس لها كبير جدوى في هذه الصناعة إِن الذي يروم إِن يثبت شيئا بين يدي الحكام فهو إِما إِن يثبت إِن الشيء موجود أو غير موجود فقط، أعني أنه كان أو لم يكن، وذلك إِذا كان قد حدد صاحب الشريعة إِن ذلك الشيءَ الذي فيه الشكوى عظيم أو يسير، وأنه عدل أو جور، وإِما إِن يثبت الأَمرين، وذلك إِذا لم تحدد الشريعة ذلك الشيء الذي فيه الكلام فأما استعمال الانفعالات في تثبيت إِن الأَمر عدل أو جور فغير ممكن، وذلك إِن الانفعال بالرحمة أو البغضة إِنما يكون لشيءٍ جزئي، والعدل والجور أُمور كلية. وأما استعمالها في إِن الأَمر كان أو لم يكن فله في ذلك تأْثير لكنه ليس يوجب إِن الأَمر كان أو لم يكن بالذات، بل إِنما يُميل الحكام إِلى إِن يقولوا إِنه صدَق فيما ادعى أو لم يصدق، من غير إِن يحدث للحاكم أو المناظر بذلك تصديق زائدا بالشيء الذي فيه الكلام.
قال: وقد يجب إِن تكون السنن هي التي تحدد إِن الأَمر جور أو عدل، وتفوض إِن الأَمر وجد من هذا الشخص أو لم يوجد إِلى الحكام. وبالجملة: فتفوض إِليهم الأُمور اليسيرة. وذلك لسببين: أما أولا فإِنه قل ما يوجد حاكم يقدر إِن يميز الأُمور على كنهها، فيضع إِن هذا الأَمر جور وهذا عدل في الأَقل من الزمان. وأكثر الحكام الموجودين في المدن في أكثر الزمان ليس لهم هذه القدرة.
وأما ثانيا فلأَن الوقوف على إِن الشيء عدل أو جور يحتاج واضع السنن فيه إِلى زمان طويل، وذلك لا يمكن في الزمان اليسير الذي يقع فيه التناظر في الشيء بين يدي الحكام.
فلمكان هذين الأَمرين يصعب إِن يُفَوض إِلى الحكام إِن هذا الأَمر عدل أو جور أو نافع أو ضار، بل إِنما يُفَوض إِليهم إِن الأَمر وقع من هذا الشخص أو لم يقع، وذلك لبيانه، ولأَنه أمر لا يمكن إِن يضعه صاحب السنة.
قال: وإِذا كان الأَمر هكذا، فمعلوم إِن هؤلاءِ الذين تكلموا في الأَشياءِ التي من خارج، أني في صدور الخطب وفي الاقتصاص وفي الانفعالات وما يجري هذا المجرى، لم يتكلموا في شيءٍ يجري من الخطابة مجرى الجزء، وإِنما تكلموا في أشياء تجري مجرى اللواحق. فأما الأَشياءُ التي تكون بها التصدبقات الصناعية - وهي أول ذلك الضمائر - فلم يتكلموا فيها بشيءٍ.
ومن أجل أنا نحن نرى إِن الضمائر عمدة هذه الصناعة، نعتقد إِن المخاطبة التي تكون على جهة التشاجر والتنازع بين يدي الحكام والمخاطبة التي تكون على جهة الإِرشاد والتعليم هي لصناعة واحدة، وهي هذه الصناعة، وأما هؤُلاءِ الذين تكلموا في هذا الجزء من الخطابة فقد يلزمهم ألا ينسبوا من الكلام في هذه الصناعة إِلى هذه الصناعة إِلا ما كان منه على جهة التنازع والتشاجر وليس في كل الأَصناف التي يتشاجر فيها، بل في الصنف الخسيس منها، وهي الأًمور السوقية التي يتشاجر فيها بين يدي الحكام. وأما التشاجر الذي يكون في وضع السنن فليس ينتفع فيه بالجزءِ الذي تكلم هؤلاءِ فيه من الخطابة. إِذ كان هؤلاءِ لم يتكلموا في الضمائر بشيءٍ. لكن لما تكلموا في الأَشياءِ التي بها يخسس الشيء أو يفخم، ظنوا أنهم قد تكلموا في جميع الأَشياءِ التي تستعمل فيها الأَقاويل الخطبية. واستعمال الأَشياء التي من خارج في الخطابة، دون استعمال الأَشياء التي هي من نفس الأَقاويل الخطبية، فعل خسيس.
1 / 2
وليس لقائل إِن يقول: إِن الأَقاويل التي تكون في التشاجر قد يستغنى فيها بالأُمور التي من خارج عن الشيءِ الذي هو من نفس الأَمر، إِذ كانت السنن في أكثر المدن هي التي ترسم ما هو جور وما هو عدل وعظيم أو صغير، فليس يحتاج في هذا النوع من الخطابة إِلا لما يُميل الحكام فقط، وذلك بخلاف الأَمر في الأَقاويل التي تستعمل في الأُمور المشاورية. فإِن الأَقاويل المشيرة بما يفعل بذوي الجنايات مما هو نافع أو ضار أيسر على الخطيب من الأَقاويل المشاجرية فيهم، أعني التي تثبت فيهم أنهم جاروا أو عدلوا. وليس هذا في ذوي الجنايات فقط. وهذه حال التكلم في الأَشياءِ المشاورية مع التكلم في الأَشياءِ المشاجرية. وذلك إِن الحكام إِنما يحكمون في الأَشياءِ التي يشار بها بأُمور معروفة عند الجمهور، وهو إِن هذا الشيء الذي يشار به نافع أو ضار، فلا يخاف من الحكام إِن يحيفوا فيه. وإِذا كان الأَمر على هذا، فليس يحتاج المتكلم بين أيديهم إِن يثبت أكثر من إِن الأَمر نافع أو ضار، فيوافقه الحكام على ذلك، ولا يمكن إِن يخالفوه لاستواءِ معرفة الجمهور مع الحاكم في النافع والضار. وأما المتكلم بين يدي الحاكم في الأُمور المشاجرية فقد ينبغي له إِن يتحفظ من الحكام في قضائهم إِن هذا عدل أو هذا جور، لأَن معرفة العدل والجور هو شيء غريب عند الجمهور، وإِنما يعرفه القوام بالشريعة. فلذلك يمكن إِن يسلم الحاكم للمتكلم الشيء الذي رام تثبيته، ولا يفضى له بما فيه من الجور أو العدل، فيحتاج المتكلم بين أيديهم إِن يعرف الأَشياء التي هي جور والتي هي عدل، والأَشياء التي يثبت بها أنها عدل أو جور.
ولمكان هذا تمنع السنة في مدن كثيرة إِن يتكلم بين يدي الحاكم في الأشياء التي تمُيلهم وتستعطفهم عن أحد المتنازعين. وإِنما يباح لهم التكلم بين أيديهم بأشياء محدودة مما رسمها واضع السنة.
وأما المتكلم في الأُمور المشورية فليس يحتاج إِلى مثل هذا التحرز. فإِن الحكام يبالغون في التحفظ من إِن يقولوا في الشيء النافع إِنه ليس بنافع أو في الضار إِنه ليس بضار، إِذ كان ذلك مما يحط منزلتهم عند الجمهور لاستواءِ علمهم به وعلم الحكام. وإِذا كان الأَمر هكذا، فإِذن ما يحتاج إِليه الخطيب في الأُمور المشاجرية من معرفة الأَشياءِ التي توقع التصديق أكثر مما يحتاج إِليه الخطيب في الأُمور المشاورية.
قال: ومن أجل أنه معلوم إِن الأَشياء المنسوبة إِلى هذه الصناعة إِنما يقصد بها التصديق والاعتراف من المخاطب بالشيء الذي فيه الدعوى، وذلك لا يكون إِلا بتثبيت الشيء عنده المعترف به، وذلك أنا إِنما نعترف بالشيءِ إِذا رأينا أنه قد ثبت عندنا. والشيء الذي نثبت به الأَشياء على طريق الخطابة هو الضمير، لأن هذا هو أصل التصديق وعموده في الأُمور التي توقع هذا النحو من التصديق، أعني التصديق البلاغي.
1 / 3
والضمير هو نوع من القياس. ومعرفة القياس هو جزء من صناعة المنطق. فقد يجب إِن يكون صاحب المنطق هو الذي ينظر في هذه الصناعة: إِما في كلها، وإِما في أجزاءٍ منها. وبينّ إِن الذي يعرف القياس من كم شيء يلتئمُ ويكون، ومتى يكون، فهو أقدر على عمل الضمير ممن يعرف الضمير فقط دون إِن يعرف القياس الذي هو جنسه. والذي يزيد على هذا فيعلم لماذا تعمل الضمائر والفصول التي بين الضمير وبين سائر المقاييس التي تستعمل في الصنائع الأُخر فهو أقدر من ذينك. والمعرفة بهذا كله إِنما هو لصناعة المنطق. فإِن للقوة الواحدة بعينها، أعني للصناعة الواحدة بعينها، إِن تعرف الشيء الذي هو حق والذي هو شبيه بالحق. والتصديقات الخطبية، وإِن لم تكن حقا، فهي شبيهة بالحق. وأيضا فإِن الناس متهيئون بطبيعتهم كل التهيئة نحو الوقوف على الحق نفسه، وهم أكثر ذلك يؤمونه ويفعلون عنه. والمحمودات وهي التي تكون منها الضمائر شبيهة بالحق من قبل أنها نائبة عند الجمهور مناب الحق، والشبيه بالحق قد يدخل في علم الحق الذي هو علم المنطق. وإِذا كان الأَمر هكذا، فقد استبان إِن قصور هؤلاءِ فيما تكلموا فيه من أمر الخطابة إِنما كان من أجل أنه لم يكن عندهم علم بالمنطق، وأن سائر من تكلم في الخطابة ومن يستعمل الأَقاويل الخطبية فقط من غير إِن يتقدموا فيعرفوا هذه الأَشياء التي هي عمود البلاغة، إِنهم إِنما يتكلمون في أشياء تجري من البلاغة مجرى التزيين والتنميق الذي يكون في ظاهر الشيء وصفحته لا في الأَشياءِ التي تتنزل منها منزلة ما به قوام الشيء ووجوده، وإِن كان قد يظن بما فعلوا من ذلك أنهم قد بلغوا الغاية من الأَقاويل الإِقناعية وجروا في ذلك على طريق الصواب والعدل.
قال: وللخطابة منفعتان: إِحداهما إِن بها يحث المدنيين على الأَعمال الفاضلة، وذلك إِن الناس بالطبع يميلون إِلى ضد الفضائل العادلة. فإِذا لم يضبطوا بالأَقاويل الخطبية، غلبت عليهم أضداد الأَفعال العادلة، وذلك شيء مذموم يستحق فاعله التأنيب والتوبيخ، أعني الذي يميل إِلى ضد الأَفعال العادلة أو المدبر الذي لا يضبط المدنيين بالأقَاويل الخطبية على الفضائل العادلة. وأعني بالفضائل العادلة التي هي فضائل بين الإِنسان وبين غيره، أعني بينه وبين المشارك له في أي شيء كانت الشركة، لا بينه وبين نفسه.
والمنفعة الثانية أنه ليس كل صنف من أصناف الناس ينبغي إِن يستعمل معه البرهان في الأَشياءِ النظرية التي يراد منهم اعتقادها، وذلك إِما لأَن الإِنسان قد نشأ على مشهورات تخالف الحق، فإِذا سلك به نحو الأَشياء التي نشأ عليها سهل إِقناعه، وإِما لأَن فطرته ليست معدة لقبول البرهان أصلا، وإِما لأَنه لا يمكن بيانه له في ذلك الزمان اليسير الذي يراد منه وقوع التصديق فيه. فلهذا قد نضطر إِلى إِن نجعل التصديق بالمقدمات المشتركة بيننا وبين المخاطب، أعني بالمحمودات. وهذه المنفعة تشارك هذه الصناعة فيها صناعةَ الجدل، كما ذكرنا ذلك في كتاب الجدل عند قولنا في الأَشياء التي يمكننا بها إِن نبين مطلوبات مختلفة.
1 / 4
وهذه الصناعة يمكنها الإِقناع في المتضادين جميعا، كما يمكن ذلك في القياس الجدلي. وذلك أنا قد نقنع في ذي الجاني أنه أساءَ وأنه لم يسيء، ولست أعني أنا نفعل الأَمرين جميعا في وقت واحد، بل نفعل هذا في وقت، وهذا في وقت بحسب الأَنفع، وذلك أنه كثيرا ما يكون الشيءُ نافعا في وقت، وضده نافعا في وقت آخر. وأيضا فإِنه إِذا كانت الأَشياءُ التي تثبت الشيءَ وضده عندنا عتيدة، وسمعنا متكلما قد أقنع في الضد الذي ليس بعدل، أمكننا بهذه القوة إِن ننقض عليه قوله. فهاتان المنفعتان موجودتان في القدرة التي في هذه الصناعة على الإِقناع في الشيءِ وضده. وليس توجد هذه القوة في شيء من الصنائع القياسية إِلا في هاتين الصناعتين، أعني صناعة الخطابة وصناعة الجدل. وكلا هاتين الصناعتين هما مهيئتان بالطبع وعلى السواءِ للإِقناع في كلا المتقابلين، أعني أ، هـ ليس واحدة منهما توجد أشد استعدادا للإِقناع في أحد المتقابلين منها في الآخر، بل الاستعداد الموجود فيها على الإِقناع في المتقابلين هو على السواء. فأمما الأَشياءُ الموضوعة لهاتين الصناعتين، أعني الأَشياء التي فيها تقنع وبها تقنع، فليس استعدادها لقبول الإِقناع على السواءِ، ولا جدوى الإِقناع فيها على السواء. لكن إِذا كانت الأُمور التي تقنع فيها صادقة، كانت الأَقاويل الخطبية والجدلية التي تستعمل فيها أفضل وأبلغ.
قال: وليس واجبا إِن نرى أنه قبيح بالإِنسان إِن يعجز عن إِن يضر بيديه، ولا نرى أنه قبيح إِن يعجز عن إِن يضر بلسانه الذي المضرة به مضرة خاصة بالإِنسان، أعني إِن يعجز عن إِن يضر بلسانه الضرر العظيم، لا الضرر الذي هو عدل فقط، بل والضرر الذي هو جور. فإِنه يظن إِن هذا شيء يوجد عامَّا في جميع الفضائل التي هذه الصناعة واحدة منها، ما عدى الفضيلة النظرية والخلقية، ولا سيما في الأُمور العظام النافعة مثل الجلَد والصحة واليسار والسلطان وما أشبه هذه الأَشياء من الأُمور النافعة، أعني إِن كل واحد من هذه الخيرات هي معدة لأن ينفع بها المقتنى لها غيره منفعة عظيمة إِذا استعمل العدل، ويضر بها ضررا عظيما وذلك إِذا استعمل الجور. فإِن الصحة والجلَد والسلطان قد يستعملها المرءُ في الضرر والنفع، وكذلك الحال في الخطابة. فقد استبان من هذا إِن هذه الصناعة ليس تنظر في أحد المتقابلين، ولكنها تنظر فيهما على السواءِ، كالحال في الجدل، وأنها نافعة لهذا جدا.
وليس عمل هذه الصناعة إِن تقنع ولا بد، أعني أنه ليس يتبع فعلها الإِقناع ضرورة، كما يتبع فعل النجار وجود الكرسي ضرورة، إِذا لم يكن هنالك عائق من خارج، بل عملها هو إِن تعرف جميع المقنعات في الشيءِ وتأًتى بها في ذلك الشيء، وإِن لم يقع إِقناع. والحال فيها في هذا المعنى كالحال في صناعات كثيرة مثل صناعة الطب، فإِنه ليس فعلها الإِبراء ولا بد، بل إِنما فعلها إِن تبلغ من ذلك غاية الشيء الممكن فعله في ذلك الشيء المقصود بالإِبراء. ولذلك قد يشارك في أفعال هذه الصنائع مَنْ ليس مِنْ أهلها، مثل إِن يبرئ مَن ليس بطبيب، ويقنع مَنْ ليس بخطيب. لكن الفعل الحقيقي إِنما هو لصاحب الصناعة، وذلك إِن الغاية تتبع فعل هذا على الأَكثر، وذلك على الأَقل.
1 / 5
وكما إِن في الجدل ما هو قياس وما يظن به أنه قياس، وليس بقياس، وهو القياس السوفسطائي، كذلك في الأَقاويل المقنعة المستعملة في هذه الصناعة ما هو مقنع بالحقيقة، وما يظن به أنه مقنع من غير إِن يكون كذلك. لكن لما كان السوفسطائي ليس إِنما يكون سوفسطائيا من قبل القوة والملكة التي بها يفعل الأَقاويل السوفسطائية، بل إِنما هو سوفسطائي من قبل ما يقصد بتلك الأَقاويل من الكرامة والخيرات الخارجة، وذلك لإِيهامه أنه حكيم، وكان الجدلي إِنما هو جدلي بالملكة الحاصلة له عن الصناعة، فبالواجب لم تكن الأَقاويل السوفسطائية جزءًا من صناعة الجدل، أعني التي يظن بها أنها مقاييس جدلية من غير إِن تكون جدلية، إِذا استعملت نحو هذه الغاية، وأما إِذا استعملت على طريق الامتحان فهي جزء منها. وأما الخطيب فلما كان قد يكون خطيبا من أجل الأُمور التي من خارج مثل الكرامة وغير ذلك من سائر الخيرات، وقد يكون خطيبا من قبل ملكة هذه الصناعة، كانت الأَقاويل التي يظن بها أنها مقنعة وليست بمقنعة جزءًا من هذه الصناعة، لأَن المقصود بهذه الأَقاويل في هذه الصناعة قد يكون بعينه مقصود السوفسطائي. وِإنما كان ذلك كذلك لأَن المقصود بهذه الصناعة من الذي يراد إِقناعه إِنما هو الفعل أو الانفعال. فإِذا حصل ذلك منه، فلا فرق بين إِن يكون حصوله عن أقاويل هي مقنعة في الحقيقة أو عن أقاويل يظن بها أنها مقنعة، وليست بمقنعة. فإِن كان ذلك الفعل المقصود من المخاطب أو الانفعال خيرًا ما له، لا للخطيب، كانت الأَقاويل التي يظن بها أنها مقنعة وليست بمقنعة داخله في هذه الصناعة بالجهة التي دخلت في صناعة الجدل الأَقاويل التي يظن بها أنها جدلية وليست بجدلية، إِذا لم يقصد بها مقصد السفسطة. وإِن كان مقصود الخطيب خيرًا يناله من الخيرات التي يقصدها السوفسطائي، كان يقول الذي يظن به أنه مقنع وليس بمقنع من جهة ما هو سوفسطائي جزءًا من هذه الصناعة، إِذ قد يشارك الخطيب السوفسطائي في غايته، فلذلك قد تدخل الأَقاويل السوفسطائية في هذه الصناعة ولا تدخل في صناعة الجدل.
قال: فهذه الصناعة التي ذكرنا منافعها وأن كل مَنْ تكلم فيها لم يتكلم فيها بما هو كافٍ في أمرها التي قصدنا للكلام فيها من أول الأَمر، وذلك بأن نخبر من أي شيء تأْتلف هذه الصناعة، وكيف تأْتلف وما تكلمنا فيه قبل هذا فكأنه لم يكن لنا مقصودًا أولًا، ولذلك قد ينبغي إِن نستأْنف هاهنا القول فيها ونعود إِلى مقصودنا كأنا مبتدئون من هذا الموضع، فنبتدئئ أَولا ونحد هذه هذه الصناعة فنخبر ما هي ونحو ماذا، وذلك بأن نعرف جنسها القريب وفصلها الخاص بها، ثم نتطرق من ذلك إِلى إِحصاءِ أجزائها على جهة تحليل الحد.
قال: والخطابة هي قوة تتكلف الإِقناع الممكن في كل واحد من الأَشياءِ المفردة. ويعني بالقوة: الاصناعة التي تفعل في المتقابلين وليس يتبع غايتها فعلها ضرورة. ويَعني بتتكلف: إِن تبذل مجهودها في اسقصاءِ فعل الإِقناع الممكن. ويعني بالممكن: الإِقناع الممكن في ذلك الشيء الذي فيه القول، وذلك يكون بغاية ما يمكن فيه. ويعني بقوله في كل واحد من الأَشياءِ المفردة، أي في كل واحد من الأَشخاص الموجودة في مقولة مقولة من المقولات العشر.
وهذا هو الفصل الذي به تنفصل هذه الصناعة عن سائر الصنائع التي يظن بها أنها قد تقنع في الأُمور التي قد تنظر فيها. وذلك إِن كل صناعة إِنما هي معلمة، أي مبرهنة، ومقنعة، في الجنس الذي تنظر فيه، لا في جميع الأَجناس. مثال ذلك: إِن الطب إِنما يعلم على طريق البرهان ويقنع في الصحة والمرض وفي أنواعهما، وكذلك الهندسة إِنما تعلم على طريق البرهان وعلى طريق الإقناع في الأَعظام، والأَشكال التي توجد في الأَجسام.
وأما الخطابة فهي تتكلف الإِقناع في جميع الأَشياءِ: في أيّ مقولة كانت وأيّ جنس كان. ولذلك ليس تنسب إِلى جنس خاص.
فأما الأَشياءُ التي تفعل التصديقات في هذه الصناعة: فمنها ما هي صناعية وتلك هي التي وجودها إِلى اختيارنا ورويتنا ونحن الفاعلون لها، ومنها ما هي غير صناعية وهي التي ليس وجودها لاختيارنا ورويتنا، مثل الشهود والتعذيب والعقود وما أشبه ذلك مما سيذكر بعد.
1 / 6
والأَشياءُ الصناعية التي نحن الفاعلون لها: منها أشياء قد تقدم غيرنا فصنعها، مثل الاحتجاج بالأَمثال السائرة التي قد وضعت واشتهرت، ومنها ما نخترعها نحن عند القول في الشيء الذي فيه الإِقناع ونستنبطها.
فأما التصديقات التي نفعلها نحن ونخترعها فهي ثلاثة أنواع: أحدها إِثبات المتكلم فضيلة نفسه التي يكون بها أهلا إِن يُصدق، كما قال تعالى حاكيا عن هود: " وأنا لكم ناصحا أمين "، وأن يكون عند التكلم بهيئة في وجهه وأعضائه شأْنها إِن توقع التصديق بالشيء المتكلم فيه، مثل التؤدة والوقار وغير ذلك. والفضيلة التي شأْنها هذا هي التي يعني أرسطو بالكيفية والهيئة التي شأْنها هذا هو الذي يعني بالسمت. وقد يدل على إِن الفضيلة لها تأْثير في التصديق إِن الصالحين الفاضلين يُصدقون سريعا دون قول يتكلفونه في الشيءِ. وإنما يكون ذلك في الأُمور الظاهرة للحس التي يزعمون أنهم أحسوها، مثل أنه شرب أو قتل. فأما إِخبارهم عن الأُمور الخفية عند الحس وهي التي يظن أنه خفى عنهم ما أحسوا من ذلك أو وهموا فيه، إِذا كان ذلك الشيء ممكنا إِن يهم فيه الحس، فليس يُصدّقون في الأَشياءِ التي يدعونها في أمثال هذه الأَشياء دون إِن يستعملوا، في تثبيت ذلك الشيء، القولَ.
قال: وليس كما ظن الذين ذكرنا أنهم تكلموا في الخطابة إِن الفضيلة والأَناة أنما هي نافعة في باب الإِنفعال فقط.
وأما الصنف الثاني من التصديقات فهو الصنف الذي يكون بأن يكسب السامع بالقول إِنفعالا ما يوجب له التصديق بالشيءِ الذي فيه القول، فإِنه ليس تصديقنا بالشيءِ وإِقرارنا به ونحن في حال الفرح أو الحزن تصديقا واحدا، وكذلك إِذا كنا في حالة السخط على الشيء أو في حال الرضا عنه. وهذه هي الأَشياءُ التي تكلم فيها أُؤلئك الذين ذكرنا أنهم تكلموا في هذه الصناعة.
وأما الصنف الثالث من هذه التصديقات فهو تثبيت الشيء بالكلام المقنع، أو ما يظن به أنه مقنع، وذلك في الأُمور الجزئية التي تقنع فيها هذه الصناعة. وإِذا كانت التصديقات إِنما تكون في هذه الصناعة بهذه الوجوه، فهو بيّن إِن الذي يقدر إِن يقنع الإِقناع الممكن في كل واحد من الأَشياءِ إِنما هو الذي يكون عالما بثلاثة أشياء، أولها: معرفة الأَقاويل المقنعة، وثانيها: معرفة الأَخلاق والفضائل، وثالثها: معرفة الانفعالات، وذلك بأن يعرف كل واحد من الانفعالات: ما هو، ومن أي شيء يكون، ومتى يكون، وكيف يكون. وإِذا كان ذلك كذلك، فهذه الصناعة كأنها مركبة من صناعة الكلام والصناعة الخلقية، أعني المدنية. وإِنما لم يوجد لمن تقدم قول مستوفي في أجزائها إِما من قبل جهلهم، وإِما من قبل أنهم ضنوا على غيرهم وبخلوا عليهم بما وقفوا عليه من ذلك لمكان الخيرات التي من خارج.
فهذه الصناعة هي جزء من صناعة المنطق، وهي شبيهة بالجدل في أ، ها تنظر في كلا المتقابلين، وفي أنهما ليسا ينظران في شيءِ محدود نظرًا يبلغان به اليقين، لكن إِنما يبلغان من النظر ما دون اليقين. وقد تكلم في ذلك فيما كافيا.
1 / 7
وينبغي إِن نبتدئ بتعريف الأَقاويل المقنعة وما يرى أنه مقنع، فنقول: إِن الأَقاويل التي يكون بها الإِثبات والإِبطال كما أنها في صناعة الجدل صنفان: أحدهما الاستقراءُ، وما يظن به أنه استقراء، والصنف الثاني القياس، وما يظن به أنه قياس، كذلك الأَقاويل المثبتة في هذه الصناعة والمبطلة صنفان: أحدهما شبيه بالاستقراءِ وهو المثال، والآخر شبيه بالقياس وهو الضمير. والضمير الذي يظن به أنه ضمير وليس بضمير يشبه القياس الذي يظن به هنالك أنه قياس وليس بقياس. وكذلك المثال الذي يظن به أنه مثال وليس بمثال يشبه الاستقراء الذي يظن به أنه استقراءٌ وليس باستقراء. فالضمير هو القياس الخطبي، والمثال هو الاستقراء الخطبي. والخطباءُ إِذا تُؤمل أمرهم ظهر أنهم إِنما يفعلون جميع التصديقات التي تكون بالقول بهذين الصنفين، أعني إِما بالمثال، وإِما بالضمير، وذلك أنهم يؤمون بفعلهم هذا إِن يتشبهوا بالاستقراءِ والقياس. والذي يفعلون من ذلك إِنما يفعلونه بما هو مثال في الحقيقة وضمير في الحقيقة أو بما يظن به أنه كذلك، وليس كذلك. وقد تبين في كتاب القياس إِن كل تصديق فإِنه يكون بالقياس، وإِن الاستقراءَ والمثال إِنما يفيدان التصديق بما فيهما من قوة القياس. فأما ما هو القياس، وما الفصل بينه وبين البرهان، فإِنه قد قيل في كتاب الجدل. وقد تبين هنالك أيضا الفرق بين القياس والاستقراء.
والاستقراءُ والمثال يشتركان في إِن كليهما يثبتان إِن هذا الشيء موجود كذا، أو غير موجود كذا من أجل وجود ذلك الشيء أو لا وجوده في شبيهه.
والضمير والقياس يشتركان في إِن كليهما قول يوضع فيه شيء فيلزم عنه شيء آخر.
وإِذا كان الأَمر هكذا، فهو بيّن إِن في كل واحد من هذين الجنسين من القول نوعا خطبيا ونوعا جدليا ونوعا برهانيا ونوعا سوفسطائيا. فإِنه كما يوجد الاستقراءُ والقياس في هذه الصنائع، كذلك يوجد في الخطابة المثال والضمير. وإِنما تختلف في هذه الصنائع بجهة الاستعمال، أعني في صناعة البرهان وصناعة الجدل. والقياس في الجدل أوثق من الاستقراء. والمثال في الخطابة أقنع من الضمير؛ لأَن الضمير يتطرق إِليه العناد أكثر من تطرقه إِلى المثال. وسبب هذا سنخبر به فيما بعد، وكذلك كيف نستعمل هذه الأَشياء.
فأما الآن فينبغي إِن نحدد هذين الطريقين من الإِقناع: أعني الضمير والمثال، فنقول: المثال إِن القول المقنع إِما إِن يكون مقنعا لواحد من الناس، أو لجماعة من الناس أو لأَكثر الناس. وأيضا منه ما يكون إِقناعه في أمْرٍ كُلي، ومنه ما يكون في أمْرٍ جزئي. وكلا هذين منه ما يكون إِقناعه بينًا بنفسه، ومنه ما يكون إِقناعه بغيره في الجزئيات ضربان أحدهما إِن يقول القائل: إِن كذا إِنما هو كذا لموضع كذا، مثل قول القائل: إِن شراب السكنجبين ينفع فلانا لأَنه محموم. وهذا هو الذي يسمى الضمير. والضرب الثاني إِن يقول إِن كذا إِنما كان كذا لأَنه مثل كذا، مثل إِن يقول: إِن فلانا ينتفع بشراب السكنجبين، لأَن فلانا انتفع به. وهذا هو الذي يسمى المثال.
والمقنعات التي هي مقنعة عند واحد من الناس فليس تستعملها هذه الصناعة، لأَن ذلك غير متناه وغير معلوم عند المستعمل لها.
1 / 8
ولذلك ليست تستعمل هذه الصناعة من المقدمات المحمودة، أعني المقبولة، ما كان مقبولا عند واحد من الناس، وتلك هي الآراء الحادثة للناس عند الشروق والهوى، بل إِنما تستعمل المحمود عند الأَكثر أو الجميع على مثل ما تستعمله صناعة الجدل. وإِذا كان الأَمر هكذا، فالذي يفترق به القياس المستعمل في صناعة الجدل وفي صناعة البرهان من الضمير المستعمل في هذه الصناعة إِن القياس يرتب الترتيب الذي يكون به القول منتجا بالضرورة. وأما الضمير فإِنه ترتب مقدماته الترتيب الذي هو معتاد عند الجمهور إِن يقبل، وذلك هو بخلاف الترتيب الصناعي. فإِن الناس يستريبون باللازم عن القول الصناعي، ويرون إِن ذلك إِنما لزم من جهة الصناعة لا من جهة الأَمر في نفسه. وأيضا فإِن الترتيب الصناعي يقتضي إِن يصرح فيه بجميع المقدمات الضرورية في بيان ذلك المطلوب، والجمهور لا يستطيعون إِن يفهموا لزوم النتيجة التي تلزم عن مقدمات كثيرة. وأيضا فإِنهم لا يباعدون بين النتيجة والشيءِ الذي تلزم عنه النتيجة، أعني أنهم لا يصرحون في المقاييس بالمقدمتين جميعا مع النتيجة، بل إِنما يأتون بمقدمة واحدة ثم يردفونها بالنتيجة، مثل أنهم يقولون: هذا يدور بالليل فهو لص، ولا يقولون: وكل من يدور بالليل فهو لص، وهي المقدمة الكبرى. وأيضا فإِن الضمائر لما كانت تصنع في الأَكثر في الأُمور الممكنة، وذلك بيّن في الأُمور المشاورية، فإِنه ليس يشير أحد على أحد بأمر ضروري الوجود ولا ممتنع الوجود، وكانت المقدمة الكبرى في أمثال هذه المواد كاذبة بالجزءِ، لم يصرحوا بها في المقاييس التي يستعملونها في هذه الصناعة لئلا يفطن لكذبها. وأيضا فلما كانت المقاييس الجيدة الصنعة في هذه الصناعة إِنما هي أحد صنفين: إِما المقاييس التي تؤلف من المقدمات البينة إِقناعها بنفسه، وإِما من مقدمات تتبين مقدماتها بمقدمات أُخر تخلط بها، وإِلا لم يتبين حمدها، فقد يلحق ضرورة في هذا الصنف الثاني إِن يَعْسر تأْليف المقدمات وترتيبها الترتيب الصناعي لمكان كثرة المقدمات وطول الزمان الذي يصرح فيه بجميعها وترتب ترتيبا صناعيا. وذلك شيء لا يساعد عليه الحكام بل يحملون المتكلم بين أيديهم إِن يكون كلامه بسيطا غير متكلف فيه صنعة على عادة الجمهور. فإِنه متى كان الكلام ليس على هذه الصفة، كان غير مقنع، وذلك في الأَمرين اللذين يكون فيهما الإِقناع، أعني في إِن الشيء موجود أو غير موجود وفي أنه، إِذا وجد، محمود أو غير محمود. وكذلك إِذا استعمل التصديق بطريق أخذ الأَشباه، فاستقصى فجعلها على طريق الاستقراءِ، عرض العير الذي وصفناه من الطول والكثرة. وإِذا كان هذا هكذا، فإِذن القياس الخطبي وهو الضمير والمثال إِنما يكونان في الأَشياءِ التي يكون فيها القياس والاستقراءُ بإِطلاق. وتلك الأَشياءُ مأْخوذة بحال غير الحال التي أخذت بها في القياس والإستقراءِ. فإِذا استعمل تلك الأَشياءُ بالحال التي بيّن في كتاب القياس، عاد المثال استقراء، والضمير قياسا. وإِذا أخذت بهذه الحال التي ذكرنا، عاد الاستقراءُ مثالا والقياس ضميرا. وتلك الحال هي أخذ القياس والاعتبار بمقدمات قليلة وجيزة. فإِن الإِقناع إِنما يكون أكثر من ذلك بالمقدمات القليلة الوجيزة، أو بالمقدمات التي هي في غاية الظهور وحذف ما خفي منها. وأيضا فإِن المحمود في هذه الصناعة إِن يحذف اللازم عنه، ويؤتى بالشيءِ الذي الذي يلزم، لأنه إِذا أخبر باللازم والملزوم فكأنه قد ذكر الشيءَ مرتين، فيكون هزرًا في بادئ الرأي. وعلى هذا فلا يصرح بالحد الأوسط في القياس إِلا مرة واحدة، ولا في الاعتبار إِلا بشبيه واحد، فيكون القياس ضرورة ضميرا أي محذوفا إِحدى مقدمتيه، وبهذا سمي ضميرا، إِذ كانت إِحداهما مضمرة، ويكون اٌلإِستقراءُ ضرورة تمثيلا.
قال: ومقدمات القياسات الخطبية قد تكون ضرورية وذلك في الأَقل، وتكون ممكنة وذلك في الأَكثر. لأَن أكثر الفحص الجمهوري إِنما هو فيما يمكن إِن يكون بحال، ويمكن ألا يكون بتلك الحال. وذلك بيّن في الأَشياءِ التي يشار بها، وذلك أنها كلها أمور مفعولة للإِنسان. وليس يمكن إِن تكون الأَشياءُ المفعولة للإِنسان لا ضرورية الوجود ولا ممتنعة الوجود. والنتائج الضرورية فإِنها تكون بالذات عن مقدمات ضرورية، والممكنة عن مقدمات ممكنة.
1 / 9
والضمائر منها ما يكون عن مقدمات محمودة، ومنها ما يكون من الدلائل. وأعني بالمقدمات المحمودة التي ليست دلائل، مثل أنه ينبغي إِن يشكر المنعم وأن يُساءَ إِلى المسيء. وأعني بالدلائل الأَشياءَ التي تدل على وجود شيء لشيءٍ. وهذان الصنفان من المقدمات توجدفي المواد الضرورية والممكنة، أعني المحمودات والدلائل، وليس توجد في الممكنة على الأَكثر فقط، بل وفي الممكنة على التساوي وهي التي نسبتها إِلى المقدمات الممكنة على الأَكثر نسبة التي على الأَكثر إِلى الضروري، وهي نسبة الكل من البعض. وذلك إِن الصدق في الضرورية أعم من الصدق في الممكنة على الأَكثر، إِذ كانت الضرورية توجد لكل الموضوع، والممكنة على الأَكثر لا توجد لكله. وكذلك نسبة الممكنة على التساوي إِلى الممكنة على الأَكثر هي هذه النسبة، أعني إِن الممكنة على الأَكثر تصدق في موضوعاتها على اكثر مما تصدق الممكنة على التساوي.
والدلائل المأخوذة حدًا أوسط: منها ما هو أعم من الطرف الأَصغر وأخص من الأَكبر، ومنها ما هو أعم من الطرفين، ومنها ما هو أخص منهما.
أما الذي هو أعم من الطرف الأَصغر وأخص من الأَكبر فإِنه يأْتلف ضرورة في الشكل الأَول. وإِذا كان في المادة الممكنة على الأَكثر فهو الذي يعرفه القدماء بالأَشبه. ومثاله في المادة الضرورية: هذه المرأة لها لبن فهي قد ولدت. وفي الممكنة على الأَكثر: فلان يعد السلاح ويجمع الرجال وليس قربه عدو، فهو يريد إِن يعصى الملك. ومثال الممكنة على التساوي: فلان قد تعب، والمتعوب محموم، ففلان محموم. وهذا هو الذي يعرف بالمشبه.
وأما ما هو أعم من الطرفين فإِنه يأْتلف في الشكل الثاني إِلا أنه غير منتج إِلا في بادئ الرأي. مثال ذلك في المادة الممكنة على الأَكثر قول القائل: سقراط يتنفس متواترا، والمحموم يتنفس متواترا، فسقراط محموم. فهاتان المقدمتان صادقتان، والنتيجة قد تكون كاذبة، إِذ قد يمكن إِن يتنفس سقراط متواترا لموضع إِحضاره. ولما كان ذلك خافيا على كثير من الناس، إِذا رأوا في أمثال هذه المقدمات الصادقة أنها تنتج كذبا، ظنوا لذلك أنه قد انطوى فيها كذب، فيرومون إِن يعاندوا المقدمات، فيعسر ذلك عليهم لمكان صدقها، فيتحيرون لذلك.
وأما التي هي أخص من الطرفين فتنتج في الشكل الثالث جزئيا لا كليا، لكن تؤخذ نتيجته في هذه الصناعة كلية. مثال ذلك في المادة الضرورية قول القائل: الأَشياء كلها في كرة العالم، والأَشياءُ كلها في الزمان، فالزمان كرة العالم. وفي الممكنة قول القائل: الحكماءُ عدول، لأن سقراط حكيم وعدل.
والدلائل التي تكون في الشكل الثالث والثاني تخص باسم العلامة، وما كان منها في الشكل الأَول يخص باسم الدليل. والذي في الشكل الثاني هو أخص باسم العلامة من الثالث. كما أنه ما كان من ذلك في الممكنة الأَكثرية يخص الأَشبه، وإِن كان في الممكنة على التساوي خص باسم الضمير المشتبه.
فقد تبين من هذا القول ما هي المحمودات والدلائل والعلامات، وما الفرق بينهما. لكن الذي تبين من الأَقاويل القياسية على الحقيقة إِنما هو في كتاب القياس، وتبين في جنس جنس منها ما هو قياس وما ليس بقياس.
1 / 10
وأما المثال فقد بينا في ما تقدم أنه استقراء ما، لكن يباين الاستقراء بأنه ليس يصار فيه لا من الجزئي إِلى بيان الأَمر الكلي كما يصار في بعض أنواع الاستقراء، ولا من الكلي إِلى الجزئي كما قد يصار في بعض أنواع الاستقراءِ، وذلك إِذا بينا بالكلي الذي أثبتناه بالاستقراءِ جزئيا آخر غير الجزئيات التي أثبتنا الكلي باستقرائها؛ ويوافقه في أنه يصير من جزئي إلى جزئي لاجتماعها في أمر كلي، وذلك إِذا جمعنا في الاستقراءِ الأَمرين جميعا، أعني إِن نصير فيه من الجزئي إِلى الكلي، ثم من الكلي إِلى جزئي آخر، فإِنا في هذا الفعل قد صرنا من جزئي إِلى جزئي بتوسط الكلي، كالحال في المثال. فإِن المثال إِنما نصير فيه من جزئي إِلى جزئي لاشتراكهما في أمر كلي، إِذا كان الحكم المنقول من أحدهما إِلى الآخر موجودا للجزئي الأَعرف من أجل ذلك الكلي أوْ يظن به أنه يوجد له من جهته، وإِلا لم تصح النُّقلة من جزئي إِلى جزئي، أعني إِن لم يكن هنالك كلي، وكان وجود ذلك الحكم من أجله للجزئي الأَعرف. ومثال ما يعرض من هذا في الاستقراءِ، أعني إِذا كانت النقلة من جزئي إِلى جزئي بتوسط النقلة إِلى الكلي، قول من قال: أيها الملك، إِن فلانا طلب إِن يكون في جملة العسس، وقد كان في جملة عدوك، فلا تبح له ذلك، فإِنه يريد إِن يفتك بالملك، لأن فلانا طلب ذلك من فلان الملك، وفلانا من فلان الملك، لأَقوام يعددهم، ففتكوا بملوكهم. فإِنَّ قائلَ هذا القول قد جعل النقلة فيه من جزئي إِلى جزئي بتوسط الكلي الذي هو إِن كل من طلب إِن يدخل في الحرس ممن كان في جملة عدو الملك فهو يريد إِن يفتك به. إِلا إِن هذا الكلي الذي ارتسم في النفس بالقوة، وإِن لم يصرح به، يستعمل النقلة من جزئي إِلى جزئي، إِذا كانت النقلة إِليه في الذهن من أكثر الجزئيات، كان استقراء، وإِن كان من واحد منها، أو من الأَقل، كان تمثيلا.
قال: فأما القول في هذه الأَشياء التي يقال لها مثالات، فقد يكتفي هاهنا بهذا المقدار المعطى منها.
وأما القول في فصول الضمائر من جهة الأَشياءِ التي منها تعمل، فإِن القول فيها غامض وخفي وهو عظيم الغناءِ فيما نقصده هاهنا. وسبب غموضه إِن الضمائر تكون في جميع المقولات العشر كما تكون القياسات الجدلية. لكن من الضمائر ما يكون في المواد التي في الصنائع مثل الضمائر التي تستعمل في الأُمور الكلية والجزئية في صناعة الطب وغيرها من الصنائع. وهذه فينبغي إِن تستعمل في هذه الصنائع على نحو استعمال البراهين في تلك الصناعة، لا على نحو ما يستعملها الخطيب في المادة التي تخص الخطابة، مثل إِن يأْتي بها جزءَا من خطبة وسائر الأَشياءِ التي تكون بها الأَقاويل الخطبية أتم فعلا وأنفذ مما يذكر بعد. ومن الضمائر ما يكون في الأُمور التي تخص هذه الصناعة بحسب ما تبين من منفعتها وهي الأُمور الإِرادية، وهذه هي التي ينبغي إِن تستعمل على جهة ما يستعمل الخطباءُ الأَقاويل الخطبية. ومن هذه الأَشياءِ ينبغي إِن تعدد في هذه الصناعة الأَشياء التي هي فصول الضمائر لا من تلك المواد التي تحتوي عليها صناعة صناعة.
قال: وكلما كان القول أكثر عموما، كان أكثر مؤاتاه وتأتيا لأَن يستعمل في أشياء كثيرة. وكلما كان أقل عموما، كان أحرى إِن يكون جزءًامن صناعة مخصوصة. ولذلك كانت المواضع أعم من القياسات الخطبية والقياسات الجدلية. وذلك إِن المواضع توجد تعم الأُمور المنطقية والطبيعية والسياسية، أعني الإِرادية، وذلك مثل مواضع الأَقل والأَكثر التي عددت في الثانية من كتاب الجدل. وذلك إِن هذه المواضع ليس تعمل منها المقاييس في صناعة واحدة من هذه الثلاث التي ذكرنا، بل في جميعها، إِذ كانت لا تستعمل نفسها وإِنما تستعمل قوتها.
وأما الأَنواع فهي المقدمات الخاصة بصناعة صناعة من الصنائع الجزئية، مثل المقدمات التي تعمل منها المقاييس في الأُمور الطبيعية، فإِنها لا تعمل منها المقاييس في الأُمور الخلقية، ولا التي في الخلقية تعمل منها المقاييس في الأُمور الطبيعية.
1 / 11
وإِذا كان الأَمر هكذا، فإِذن المواضع لا يؤلف منها قياس في صناعة مخصوصة، إِذ ما يتصور منها هو عام لأَكثر من صناعة واحدة. وأما الأَنواع فهي التي تؤلف منها المقاييس التي تلتئم منها الصناعة التي تلك الأَنواع مخصوصة بها. لكن الأَنواع التي نحن عازمون في هذا الكتاب على ذكرها ليست هي مقدمات يقينية، لأَنه لو كان ذلك كذلك لكانت المقاييس الخطبية مقاييس يقينية ولم تكن مقاييس جدلية فضلا عن خطبية. والضمائر المعمولة في هذه الصناعة أكثر ذلك إِنما تؤلف من هذه الأَنواع ماكان منها خاصا بجنس جنس من أجناس الخطابة الثلاثة وماكان منها عاما للأَجناس الثلاثة التي تحدد بعد.
قال: وقد يجب إِن يفعل هاهنا في هذه الأَشياءِ مثل ما فعل في كتاب الجدل. فكما إِن ما ذكر هنالك من مواد الأُمور الجدلية قسمت إِلى مواضع وأنواع، كذلك يجب إِن تقسم هاهنا الأُمور التي تعمل منها الضمائر إِلى مواضع وأنواع. والأَنواع: هي المقدمات الكلية التي تستعمل في صناعة صناعة.
والمواضع: هي المقدمات الكلية التي تستعمل جزئياتها في صناعة صناعة. فيجب إِن يقال أولًا في الأَنواع، ثم من بعد ذلك في المواضع. وذلك بأن نبدأ أولًا فنحد أجناس الأَشياء الخاصة بهذه الصناعة، أعني أجناس موضوعات هذه الصناعةالخاصة بها. فإِذا حددناها، أخذنا حينئذ في تعديد اسطقساتها ومقدماتها على حدة.
وقد توجد أجناس الأَشياءِ التي تنظر فيها الخطابة من الأُمور الإِرادية ثلاثة، كما يوجد عدد أصناف السامعين للقول الخطبي ثلاثة. وذلك إِن الكلام مركب من ثلاثة: من قائل وهو الخطيب؛ ومن مقول فيه وهو الذي يعمل فيه القول؛ ومن الذين يوجه إِليهم القول وهم السامعون. والغاية بالقول إِنما هي متوجهة نحو هؤلاءِ السامعين. والسامعون لا محالة: إِما مناظر، وإِما حاكم، وإِما المقصود إِقناعه. والحاكم: أما إِن يكون حاكما في الأُمور المستقبلة، وهي النافعة والضارة، وإِما في الأُمور التي قد كانت. والأُمور التي قد كانت: منها ما توجد في الإِنسان باختياره، وتلك هي الفضائل والرذائل، ومنها ما توجد في الإِنسان بغير اختياره، بل من إِنسان آخر، وهو الجور والعدل. والحاكم في الأُمور المستقبلة هو الرئيس، والحاكم في الأُمور الكائنة هو الذي ينصبه الرئيس، مثل القاضي في مدننا هذه، وهي مدن الإِسلام. وأما المناظر فإِنما يناظر بقوة الملكة الخطبية. فإِذن أجناس القول للخطبي ثلاثة: مشوري ومشاجري وتثبيتي. فأما الضمير المشوري: فمنه إِذْن، ومنه منع؛ وذلك إِن كل من يشير إما على واحد من أهل المدينة بما يخصه، أو على جميع أهل المدينة بما يعمهم، فإِنما يشير أبدا بقول هو إذن أو منع. وأما القول المشاجري فهو أيضا صنفان: شكاية وتنصل من الشكاية. وأما القول التثبيتي فهو أيضا صنفان: إما مدح، وإما ذم. والزمان الخاص بالأَشياءِ التي يشار بها هو الزمان المستقبل، لأَنه إِنما يشير إِنسان على إِنسان بأشياءِ معدومة. والزمان الخاص بالأَشياءِ المشاجرية هو الزمان الماضي، لأَنه إنما يتشكى من الأَشياءِ التي قد وقعت. وإِن تشكى من أُمور تتوقع من المشتكى به، فإِنما تلك شكاية على طريق الإِشارة بالنافع في ذلك. وكذلك قد يعرض إِن تكون المشورة في الأَشياِء التي قد كانت، لكن من جهة ما يتوقع منها. فمتى كانت الشكوى في شىء واحد، لا من أجل غيره، فإِنما تكون أبدا في الشيءِ الذي قد وقع. وأما الأَشياءُ التثبيتية: فإِن أوْلَى الأَزمنة بها هو الزمان الحاضر، أعني القريب من الآن. فإِن الناس إِنما يمدحون ويذمون بالأَشياءِ الموجودة في حين المدح وحين الذم في الممدوح والمذموم. وربما مدح بعضهم على طريق الحيلة في استكثار فضائل الممدوح أو مذامّه بالأَشياءِ التي يتوقع حدوثها منه، أو يرجى حدوثها منه، فيخلطون مع المدح الإِشارة على الممدوح بفعل تلك الأَشياءِ.
1 / 12
وأما الغايات من هذه الأَقاويل فهي ثلاث غايات لهذه الثلاثة الأَقاويل. أما القول المشير فغايته النافع والضار. فإِن الذي يشير، فإِنما يأْذن في النافع أو في الذي هو أنفع، ويمنع من الضار أو من الذي هو أضر. وأما القول المشاجري فغايته العدل والجور. وأما القول المثبت فغايته الفضيلة والرذيلة. وإن استعمل واحد من هذه غاية صاحبه، فليس على القصْد الأَول، بل من أجل الغاية الخاصة به. مثال ذلك إِن المشير قد يقنع إِن هذا عدل أو جور، ليشير بالإِذن فيما يكون عن العدل من المنفعة، وبالمنع عما يكون على طريق الجور لما في الجور من المضرة التي تتوقع. وكذلك قد تستعمل الفضيلة والرذيلة، أعني من جهة ما يلحقها من النافع والضار.
وإِذا كانت هذه الغايات الثلاث تخص كل منها واحدًا من هذه الأَقاويل، أعني من جهة ما هي غايات على القصْد الأَول، فالحدود المميزة لكل واحد من هذه الأَقاويل الثلاثة إنما تكون الفصول المعطاة فيها من قبل هذه الغايات. وقد يدل على إِن هذه الغايات هي خاصة بواحد واحد من هذه الأَجناس الثلاثة من الأَقاويل أنه إذا أقنع كل واحد منها في غاية الجنس الآخر، ربما لم يكن للمناظر في ذلك معاسرة ومشاكسة، بل كثيرًاء ما يسلم له ذلك، ولكن لا يسلم له غاية ذلك القول التي تخصه. مثال ذلك إِن المدعي إذا ادعى إِن فلانا أخذ المال من فلان، وذلك لا شك ضرر به، فربما يسلم له الخصم إِن ذلك كان، ولكن لا يسلم له إِن أخذه المال منه كان على جهة الجور. وكذلك المشير قد يسلم إِن الفعل الممكن جور، ولا يسلم أنه ضارٌ. ولمكان تداخل هذه الغايات يعرض للمشيرين كثيرًا إِن يشيروا بأشياء ضارة على جهة المغالطة من قِبَل أنها عدل أو أنها ليست بجور، ولكن لا يقرون بأنها ضارة، بل ربما أحتالوا في دعوى وجود النفع فيها. مثال ذلك أنهم قد يشيرون بالصبر على الموت في الحرب، وألا يفروا، لكوْن الفرار جورًا في الشريعة. وكذلك متى قهر قومًا واستولوا عليهم، ربما أشار المشير عليهم ألا يمتعضوا لذلك القهر لأَنه لم يكن جورًا، وربما أوهم فيه أنه غير ضار لهم. وكذلك المادح قد يسلم إِن الشيءَ ضار، ولكن يدعى أنه فضيلة، مثل من يخلص إِنسانا من الموت ويعلم أنه يموت بتخليصه ذلك الإِنسان. فالموت يسلم الخصم أنه ضار، ولكن يرى أنه فضيلة. كذلك ربما مدح بالرذيلة على جهة المغالطة من جهة أنها نافعة، لكن لا يقر أنها رذيلة. بل يدعي فيها أنها فضيلة ما لمكان النفع الذي فيها. فإِذن كل واحدة من هذه المخاطبات قد تستعمل غاية صاحبتها بالعرض ولذلك لا يشاكس فيها، ويشاكس ولا بد في غايتها. وإِذا استعملت الواحدة غاية صاحبتها فعلى جهة المغالطة.
قال: ولما كانت هذه الصناعة قياسية، فمعلوم أنه يجب إِن تكون فيها مقدمات، ومقدماتها هي الثلاث التي وصفنا: المحمودات والدلائل والعلامات. وذلك إِن القياس المطلق يكون من المقدمات المطلقة. والقياس الخاص بصناعة صناعة يكون من مقدمات خاصة. ولذلك كان الضمير قياسًا يأْتلف من هذه المقدمات التي ذكرنا. ولأَن الأَمر الذي يشير به يحتاج إِن يعرف من أمره أولًا أنه ممكن، لأَن الأُمور الغير ممكنة لا يستطاع إِن تفعل لا في الحاضر ولا في المستقبل. وكذلك يحتاج في الجنسين الباقيين من أجناس هذه الصناعة، أعني إِن نبين أولا إِن الأَمر قد كان وقع، أعني الجنس التثبيتي والجنس المشاجري. فإِذن لا بد لصاحب هذه الصناعة إِن تكون عنده مقدمات يقنع بها في إِن الأَمر ممكن أو غير ممكن، وفي أنه قد كان أو لم يكن، سوى المقدمات التي يبين بها تلك الغايات الثلاث. ثم أيْضا لما كان الخطباءُ ليس يقتصرون على المدح والذم والإِذن والمنع والشكاية والإِعتذار، بل يتكلفون مع هذا إِن يثبتوا إِن الأَمر - الذي هو خير أو شر - عظيم أو صغير، شريف أو خسيس، ولائق أو غير لائق، وذلك إِما على الإِطلاق وإِما بالمقايسة، أعني أنه أعظم وأشرف، أو بالضد، فمعللوم أنه ينبغي إِن تكون عند الخطباءِ مقدمات يثبتون بها إِن الخير أو الشر عظيم أوْ صغير، وخسيس أوْ شريف، ولائق بالمنسوب إِليه أو غير لائق. فهذه هي جميع أنواع المقدمات التي تستعملها هذه الصناعة.
1 / 13
وإِذ قد تبين ذلك فينبغي إِن نبتدئ بتعديد المقدمات التي تخص غرضا غرضا من الأَغراض الثلاثة ونجعل الكلام أولا في تعديد المقدمات المشورية، ثم ثانيا في التثبيتية، ثم ثالثا في المشاجرية.
فأول ما يجب إِن ننظر فيه من أمر الأَشياءِ التي يشار بها ما هو الخير الذي يشار به. فإِنه ليس تكون المشورة في كل خير، لكن في الخيرات التني تستطيع إِن تكون أو إِن لا تكون. فأما الخيرات التي كونها أو لا كونها من الاضطرار، فليس تكون فيها مشورة. ولا أيضا المشورة تكون في جميع الخيرات الممكنة، فإِن هاهنا خيرات ممكنة وجودها عن الطبيعة، بل في الخيرات الممكنة التي إِلينا إِن تكون أو إِن لا تكون، وهي الأَشياءُ التي التي بدءُ كونها من قبل الاختيار والإِرادة. ومن هذه فيما كان وجوده أو لا وجوده تابعا لرويتنا وأفعالنا على الأَكثر. وأما ما كان منها يعرض عن الروية بالاتفاق وأقل ذلك، فليست هي في الأَكثر مما يشار بها، إِلا حيث لا يمكن إِن يوجد الجنس الآخر. وقد يدل على إِن االإِشارة إِنما تكون بهذه الأَشياءِ إِن الإِنسان إِنما ينظر أولًا هل الأَمْرُ الذي يريد إِن يفعله ممكن أو غير ممكن، ثم إِن كان ممكنًا، بأي شيءٍ يمكن وكيف يمكن. فإِذا تبين له ذلك، شرع في السعي فيه. وإِن تبين له أنه غير ممكن، خلا عنه. والأَشياءُ التي بها نشير هي التي فيها نروى. فقد تبين من هذا القول ما هو الخير الذي نشبر به وفي أي الأَشياءِ يكون، وهي الأُمور الإِرادية التي مبدأ وجودها منا، لا الأُمر الاضطراراية التي ليس إِلينا وجودها. وإِعطاء الفرق التام بين الأَشياءِ الإِرادية وغير الإِرادية وتصحيح عدد أنواعها ومعرفة ماهية كل واحد منها على أقصى ما في طباعها إِن تعلم فليس من شأن هذه الصناعة إِن تبلغه من معرفة الأَشياءِ الإِرادية، ولكن ذلك من شأْن صناعة الفلسفة التي لها الفضل على هذه في التصور والتصديق، والمقدمات المستعملة فيها أصدق وأصح من هذه. وذلك إِن هنا لسنا نتكلف من معرفة هذه الأَشياء الأَحوال الذاتية المناسبة لها، بل الأُمور المشهورة. وإِذا كان الأَمر في هذه الأَشياء كما وصفنا، فقد تبين أيضا من هذا القول إِن جميع ما قلناه في أجزاءِ هذه الصناعة هو حق، أعني أنها مركبة من علم المنطق ومن علم السياسة الخلقية وأن فيها أشياء جدلية أو شبيهة بالأَشياء الجدلية وأيضا سوفسطائية أو شبيهة بالسوفسطائية. والأَشياءُ التي في صنائع كثيرة إِنما تكون أجزاء أجزاء لصناعة واحدة متى أخذ جميعها بالجهة والحال التي تكون بها تلك الأَشياءُ الكثيرة متعاونة ونافعة في غرض تلك الصناعة الواحدة، وطرح منها الأَحوال التي بها تختلف، أعني الأَشياء التي ليست تكون بها مغنية في غرض تلك الصناعة الواحدة. وإِذا كان ذلك كذلك، فالأَشياءُ الخلقية إِنما صارت جزءًا من هذه الصناعة من حيث هي معدة نحو الكلام والمخاطبة، وهي من صناعة السياسة من حيث هي أحد الموجودات التي نقصد معرفتها وعلمها. والأَشياءُ الجدلية والسوفسطائية إِنما صارت جزءًا من هذه الصناعة من حيث إِن الذي تستعمل منها هذه الصناعة هو سابق المعرفة الأُولى للإِنسان، لا ما هو بعيد عن معرفة الجمهور، مثلأنها إِنما تستعمل من القياس القياس المعروف عند الجمهور وهو التمثيل والضمير. وكذلك الحال في الأُمور السوفسطائية إِنما تستعمل منها ما جرت العادة باستعماله عند الجمهور، مثل مواضع الإِطلاق والتقييد وغير ذلك مما يستعمله بطباعهم الجمهور. فهي إِنما تخالف هذه بمقدار النظر. وقد تخالف أيضا بمقدار النظر هذه الصناعة في الأُمور الإِرادية النظر الذي للعلم السياسي فيها، أعني أنها إِنما تنظر في الأُمور الإِرادية النظر الذي هو في سابق المعرفة للإِنسان وتدع تقصي النظر في ذلك للعلم السياسي.
والأُمور التي يشير بها الخطيب منها ما يشير به على أهل مدينة بأسرهم، ومنها ما يشير به على واحد من أهل تلك المدينة أو جماعة. فأما الأَشياءُ التي تكون فيها المشورة في الأُمور العظام من أمور المدن فهي قريبة من إِن تكون خمسة: أحدها الإِشارة بالعدة المدخرة من الأَموال بللمدينة. والثاني: الإِشارة بالحرب أو السلم. والثالث الإِشارة بحفظ الثغر مما يرد عليه من خارج. والرابع الإِشارة بما يدخل في البلد ويخرج عنه. والخامس الإِشارة بالتزام السنن.
1 / 14
فالذي يشير بالعدة يحتاج إِن يعرف ثلاثة أمور: احدها إِن يعرف غلات المدينة ما هي، أعني هل هي نبات أو حيوان أو معدن أو جميع هذا أو اثنان، كيما إِن نقص من الفاضل منها للعدة شيء أشار بالزيادة. والثاني إِن يعرف مع ذلك نفقات أهل المدينة كلها. والثالث إِن يعرف أصناف الناس الذين في المدينة. فإن كان فيها إنسان بطال وهو الذي لا فضيلة عنده، أو عاطل وهو الذي لا صناعة له، أشار بتنحيته من البلد. وإِن كان هنالك عظيم النفقات في غير الجميل أو غير الضروري أشار بأخذ ذلك الفضل من المال منه. فإِنه ليس يكون الغنى بالزيادة في المال، بل وبالنقصان من النفقة. ولذلك قيل: قلة العيال أحد اليسارين.
قال: ومن الضرورة الداعية إلى هذه الأَشياء ومقدار الحاجة إليها يقف الخطيب على ما يحتاج إِن يشير به في واحد واحد من هذه الأَشياء. وليس يحتاج عند الإِشارة بالزيادة في النبات إِن يكون فلاحا، ولا في الحيوان إِن يكون راعيا، لكن يكفيه في ذلك معرفته بمقدار الحاجة إليها. لكن يحتاج مع هذا إِن يكون عالما بالسير المتقدمة في هذه الأَشياءِ وما عند الناس فيها.
وأما المشير بالحرب أو السلم فإِنه يحتاج إِن يعرف قوة من يحارب ومقدار الأَمر الذي ينال بالمحاربة هل هو يسير أو عظيم، وحال المدينة في وثاقتها وحصانتها، وضعف أهلها وقوتهم، وفي صغر المدينة وعظمها، أعني هل مقدارهم مقدار من يستطيع المحاربة أم ليس مقدارهم ذلك المقدار، وهل هم بصفة من تمكنهم المحاربة أم ليس هم، وأن يعرف مع ذلك شيئا من الحروب المتقدمة ليصف لهم كيف يحاربون إِن أشار عليهم بالحرب ويهون عليهم أمر الحرب، أو يعرفهم بما في الحرب من مكروه إِن أشار عليهم بترك الحرب. وقد يحتاج إِن يعرف ليس حال أهل مدينته فقط، بل وحال من في تخومه وثغره، أعني كيف حالهم في هذه الأَشياءِ وحالهم مع عدوهم في الظفر به أو العجز عنه. فإِنه يأخذ من هاهنا مقدمات نافعة في الإِشارة عليهم بالحرب أو السلم. ويحتاج مع هذا إِن يعلم الحروب الجميلة من الحروب الجائرة وأن يعلم حال الأَجناد هل هم متشابهون في القوة والشجاعة والرأْى وإِجادة ما فوض إِلى صنف صنف منهم من القيام بجزء جزء من أَجزاءِ الحرب، أعني إِن يكونوا في ذلك متشابهين، فإِنه ربما كثروا وتناسلوا حتى يكون فيهم من لا يصلح للحرب أو للجزءِ من الحرب الذي فوض إِليه القيام به. وقد ينبغي مع هذا إِن يكون ناظرا ليس فيما أفضت إِليه محاربتهم بل وفيما أفضت إِليه حروب سائر الناس من المتقدمين المشابهين لهم، فإِن الشبيه يحكم منه على الشبيه، أعني أنه إِن كان أفضت الحروب الشبيهة بحربهم إلى مكروه إِن يشير بالسلم، وإِن كانت أفضت إِلى الظفر إِن يشير بالحرب.
وأما حفظ البلاد فإِنه يحتاج المشير بالحفظ، إِن يعرف، كيف تحفظ البلاد، ومامقدار الحفظ المحتاج إِليه في طارئ، وكم أنواع الحفظ ويعرف مع هذا المواضعَ التي يكون حفظها بالرجال وهي التي تسمى المسالح. فإِن كان الحفظة لتلك المواضع قليلا، زاد فيهم. وإِن كان فيهم من لا يصلح للحفظ، نحاه، ممن ليس يقصد قصد المحاماة عن المدينة، بل يقصد قصد نفسه. وينبغي له إِن يحفظ أكثر ذلك المواضع الخفية، أعني التي المنفعة بحفظها أكثر. فمن عرف هذا فقد يمكنه إِن يشير بالحفظ وأن يكون خبيرا بالبلاد التي يشير بحفظها.
وأما الإِشارة بالقوت وسائر الأَشياءِ الضرورية التي تحتاجها المدينة فإِنه يحتاج المشير فيه إِن يعرف مقدارها، وكم يكفي المدينة منها، وكم الحاضر الموجود في المدينة من ذلك وهل أدخل الكافي من ذلك في المدينة وأحرز أم لم يدخل، وما الأَشياءُ التي ينبغي إِن تخرج من المدينة وهو الفاضل عن أهل المدينة. وما الأَشياءِ التي ينبغي إِن تدخل وهو ما قصر عن الضروري، لتكون مشورته وما يعهد به على حسب ذلك. فإِنه قد يحتاج المرءُ إِن يحفظ أهل مدينته لأَمرين: أحدهما لمكان ذوي الفضائل، والثاني لمكان ذوي المال اللذين هم من أجل ذوي الفضائل. والحافظ للمدن يحتاج بالجملة إِلى إِن يكون عارفا بجميع هذه الأَنواع الخمسة عند حفظه لها.
1 / 15
قال: وأما النظر في وضع السنن والإِشارة بها فليس بيسير في أمر المدن. فإِن المدن إِنما تسلم ويلتئم وجودها بالسنن. ولذلك قد ينبغي لواضع السنن إِن يعرف كم أصناف السياسات وأي سُنة تنفع في سياسة وأي سُنة لا تنفع وأي ناس تصلح بهم سُنة سُنة وسياسة سياسة وأي ناس لا تصلح بهم، وأن يكون يعرف الأَشياءَ التي يخاف إِن يدخل منها الفساد على المدينة وذلك إِما من الأَضداد من خارج، وإِما من أهل المدينة. فإِن سائر المدن، ما عدا المدينة الفاضلة، قد تفسد من قبل السنن الموضوعة فيها، وذلك إِذا كانت السنة مفرطة الضغف واللين أو مفرطة الشدة وسواء كانت في رأْي أو في خلق أو في فعل. وذلك إِن السياسة التي تسمى الحرية قد يظهر من أمرها أنها تنتقل كثيرا من قبل هذا المعنى إِى رياسة الخسة، أعني رياسة الشهوات أو رياسة المال. والذي قاله ظاهر عندنا من أمر السياسات التي وصلتنا أخبارهم.
قال: وليس يؤول الأَمر في هذه السياسة، أعني سياسة الحرية، إِلى سياسة الأَخساء من قبل استرخاءِ السنن ولينها، وإِن كان ذلك هو الأَكثر، بل ومن قبل الإِفراط. فإِن كثيرا من الأَشياءِ إِذا أفرطت بطل وجودها، كما يبطل وجودها من قبل الضعف والتقصير. ومثال ذلك: إِن الفطس إِذا أفرط وتفاقم، كان قريبا من إِن يظن أنه ليس هنالك أنف. وإِذا كان غير مفرط، قرب من الاعتدال.
قال: ويحتاج مع ذلك إِن يعرف السنن التي وضعها كثير من الناس فانتفعوا بها في سياسة سياسة من السياسات المشهورة وفي أمة أمة ليستعمل منها النافع الذي يخصه والأُمة التي تخصه. ولذلك يتبين إِن معرفة واضع السنن بأمزجة الناس وأخلاقهم وعاداتهم مما ينتفع به في وضع السنن. فإِن من هاهنا يمكن إِن يضع السنن النافعة لجميع الأُمم المختلفة الطبائع. وأما الفساد الداخل على المدن من خارج، أعني من الأَعداءِ، فأمر ظاهر بنفسه، وقد كتب الناس في الأَوجه التي يتوقع منها غلبة الأَعداءِ، والأَوجه التي يتحرز بها منهم. ومن هذه الأَشياءِ يأخذ المقدمات التي يشير بها على أهل مدينته بالتحفظ من الأَعداءِ. وما قلنا في وضع السنن وما يحتاج إِليه واضعها هو من علم السياسة، لا من علم الخطابة. وإِنما يذكر منها هاهنا ما يكفي في هذه الصناعة.
قال: فهذه هي الأُمور العظمى التي بها يشير المشيرون على أهل المدن، وفيها دلالة على الأَشياءِ التي منها يشار على واحد واحد من الناس. ونحن قائلون الآن في الأَشياءِ التي منها يكون الإِذن والمنع لواحد واحد من الناس، ومبتدؤن أولا بالإِخبار عن الأَشياء التي من أجلها يشير المشيرون فيأذنون فيها أو يمنعون من أضدادها. ويشبه إِن يكون لكل واحد من الناس انفعال ما وتشوق بالطبع للخير الذي يتشوقه الكل لنفسه ويشير به على غيره من غير إِن يعرف واحد منهم ما هو ذلك الخير فيختارونه ويأثرونه على غيره، أو إِذا سئل عنه أجاب فيه بجواب منبئ عن طبيعته، بل إِنما عند كل واحد منهم وجوده فقط. وإِذا سئل واحد واحد منهم عما يدل عليه اسمه، أجاب فيه بجواب غير الجواب الذي يجيب فيه الآخر. وإِنما يؤثره الجميع لمكان هذا الانفعال الموجود له بالطبع عند الجميع. وهذا الخير في الجملة هو صلاح الحال وأجزاءُ صلاح الحال. ولذلك فقد ينبغي إِن نفضل أولًا ما هو صلاح الحال بقول عام، ثم نفصل أجزاءه ونخبر عن أضدادها وعن الأَشياءِ التي يكون فيها الإِذن والمنع وهي النافعة في صلاح الحال أو الأَنفع فيه، أو الضارة فيه أو الأَضر فيه. فإِن بهذا يتم لنا القول في الأَشياءِ التي منها تلتئم الأَقاويل المشورية المستعملة مع جميع الناس.
قال: والذين تكلموا في هذه الصناعة فلم يتكلموا من هذه الأَشياءِ إِلا فيما يجري مجرى الأُمور الكلية، مثل أنهم قالوا ينبغي للخطيب إِن يعظم الشيءَ الصغير إِذا أراد تفخيمه، ويصغر الشيءَ الكبير إِذا أراد تهوينه، وينبغي له إِن لا يأْذن في الأَشياءِ التي تفسد صلاح الحال ولا في الأَشياءِ التي تعوق عن صلاح الحال أو تتجاوز صلاح الحال إِلى ضده، ولم يقولوا ما هي الأَشياءُ التي بها يعظم الشيءُ أو يصغر، ولا ما هي الأَشياءُ التي توجب اختلال صلاح الحال أو تعوقه أو تتجاوزه إِلى ضده.
1 / 16
قال: فأما صلاح الحال هو حسن الفعل مع فضيلة وطولٍ من العمر وحياة لذيذة مع السلامة والسعة في المال وحسن الحال عند الناس مع تحصيل الأَشياء الحافظة لهذه الأَشياء والفاعلة لها. وقد يشهد إِن هذا هو رسم صلاح الحال المشهور إِن جميع الناس يرون إِن صلاح الحال هو هذا أو شيء قريب من هذا. وإِذا كان صلاح الحال هو هذا، فأجزاؤه هي كرم الحسب وكثرة الإِخوان والأَولاد واليسار وحسن الفعل والشيخوخة الصالحة، وفضائل الجسد، مثل الصحة والجمال والجلد والجزالة والبطش والمجد والجلالة والسعادة والفضيلة، وأجزاؤها مثل العقل والشجاعة والعفاف والعدالة والبر. فإِنه هكذا أحرى إِن يكون الإِنسان موفورا مكفيا، أعني إِذا كانت له الخيرات الموجودة من خارج والخيرات الموجودة فيه النفسانية والجسدانية. والتي من خارج هي الحسب والإِخوان والمال والكرامة. وقد يظن أنه يُعَد مع هذه نفوذ الأَمر والنهي والاتفاقات الجميلة وهي المسماة عند الناس سعادة. فإِن بهذه الأَشياءِ تكون حياة المرء في سيرته حياة من لا ينقصه شيء من خارج ولا يشوب خيره شيء مضاد. وإِذا كان هذا هكذا، فيجب إِن ننظر في كل واحد من هذه ما هو بحسب النظر المقصود هنا وهو النظر المشهور. فأما الحسب فهو إِن يكون القوم اللذين هو منهم هم أول من نزل المدينة أو يكونوا قدماء النزول فيها، ويكونوا مع هذا حكاما أو رؤساء ذوي ذكر جميل وكثرة عدد، وأن يكونوا مع هذا أحرارا لم يجز عليهم سِباء، أو يكونوا ممن نال الأُمور الجميلة المغبوطة عند الناس، وإِن لم يكونوا حكاما ولا رؤساء. فأما النظر في الحسب هل هو من الرجال فقط أو من النساءِ، فالظاهر من ذلك والمتفق عليه عند الجميع أنه يكون أتم إِذا كان من كليهما. وينبغي إِن يستعمل الخطيب من ذلك المشهور في أمة أمة. ومن شروط الحسب إِن يكون الرؤساءُ والأَحرار من أولئك القوم اللذين شهروا بالفضيلة واليسار وغير ذلك من المكرمات لم ينقطع وجودهم في القوم الذين هو منهم إِلى وجوده هو، بل يوجد في ذلك الجنس أبدًا أشياخ بهذه الصفة يخلفهم غلمان في تلك الخصال. فإِنه إِن انقطع الشرف في ذلك الجنس الذي هو منهم لم يكن حسيبا. وإِن لم ينقطع منهم فهو حسيب، وإِن انقطع فيمن ولد منهم.
وأما حسن الحال بالأَولاد وكثرتهم فهو مما لا خفاء به. وحسنالحال بالأَولاد المشترك للجميع هو كثرة الغلمان وصلاحهم في فضائل الجسد وفضائل النفس. أما في فضائل الجسد فبأربع: إِحداها الجزالة وهي إِن تكون خلقهم خلقا طبيعية يفوقون فيها كثيرا من الناس. والثانية الجمال، والثالثة الشدة، والرابعة البطش. فبهذه الأَربع يكون الغلمان صالحين في فضائل أجسامهم. وأما فضائل النفس فيكونون صالحين باثنتين: بالعفاف والشجاعة. وأما ما قد يكون به صلاح حال بعض الناس فكثرة الأَولاد من الذكور والإِناث. وصلاح الحال بالإِناث أيضا يكون بفضيلتين في الجسد والنفس. أما في الجسد فاثنتان: العبالة وهو عظم الأَعضاء العظم الطبيعي وكثرة اللحم الطبيعي لا اللون، والجمال. وأما في النفس فثلاث: العفاف وحب الأُلفة وحب الكد. فإِن بهذه الفضائل يكمل المنزل. وهذه الفضائل التي قلنا سبيلها إِن توجد في النساء كلهن اللاتي من نسب ذلك الرجل على العموم، وفي الرجال كلهم على العموم، وفي أولاده الذكور خاصة إِذ كان الولد به ألصق.
وقد ينبغي للخطيب إِن ينظر هل الفضائل في الأُمة التي هو منها هي هذه الفضائل عندهم، أعني في أولادهم، أم ليس هي هذه. فإِن كثيرا من الأمم يربون أولادهم الذكور والإِناث بالزينة والسمن. وهؤلاءِ يقول فيهم أرسطو إِنه قد فاتهم النصف من صلاح الحال بالأَبناءِ.
فأما أجزاءُ اليسار بكثرة الدنانير والأرضين والعقار والأَثاث والأَمتعة والمواشي وجميع الأَشياءِ المختلفة في النوع والجنس، وكل ذلك إِذا كانت هذه الأَشياءُ في حفظ ومع حرية، وأن يكون فيها متمتعا، أي ملتذا، لا حافظا لها فقط أو منميا.
قال: ومن الأُمور النافعة في اليسار والفاعلة له الأَشجار المثمرة والغلات من كل شيءٍ، واللذيذ من هذه هو ما يجنى بغير تعب ولا نفقة. وحد الحفظ والإِحراز للمال هو إِن يكون في الموضع الذي لا يتعذر منه عليه، وأن يكون بالحال التي يمكن إِن ينتفع بها، مثل إِن كانت أرضا ألا تكون سبخة، وإِن كان فرسًا ألا يكون جموحًا.
1 / 17
وحد الحرية في المال إِن يكون إِليه التصرف في المال بالإِعطاء والبيع والشراءِ. وأما التنعم بالمال فهو استعماله على طريق التلذذ به، وإِنما اشترط في الغناء هذا الشرط لأنه إِن يكون الغنى في استعمال المال أحرى منه إِن يكون في اقتنائه. لأَن الاقتناء هو فاعل الغنى. وأما الاستعمال فهو الغنى بعينه.
وأما حسن الفعل على الرأي والصواب فهو الذي يظنه الكل فاضلا، وهو الذي يغتني الشيء الذي يتشوقه الأًكثر لا محالة أو الأَخبار من الناس وذوو الكَيْس والفطنة.
قال: وأما الكرامة فإِنها في زماننا هذا للمعتني بحسن الفعل. وإِكرام الناس اللذين لهم العناية الحسنة بهم هي مكافأة على طريق العدل والحق، إِذ كانت هذه الأَفعال ليس تكافئها الدنانير والدراهم. وليس يكرم اللذين لهم العناية الحسنة بالناس فقط، بل واللذين يستطيعون إِن تكون لهم العناية الحسنة، أعني اللذين لهم قوة على ذلك وإِن لم يفعلوا ذلك في حال الإِكرام. والعناية بالناس التي تستوجب الكرامة هي العناية بتخليصهم من الشرور التي ليس التخلص منها بهين، أو إِفادتهم الخيرات التي ليس إِفادتها بالسهل. وهذه الأفعال الجميلة هي التي تكون عن الغنى أو السلطان أو ما أشبه ذلك مما يكون للإِنسان به القدرة على أمثال هذه الأفعال. وقد يكرم كثير من الناس على خيرات يسيرة لكنها تكون كثيرة بالإِضافة إِلى ذلك الزمان وإِلى تلك الحال. فكأن الكرامة على الأشياءِ اليسيرة هي بالعرض، أي من جهة ما عرض لتلك الأشياءِ إِن تكون كثيرة بالإضافة إلى ذلك الوقت أو الحال.
وأما الأشياءُ التي تكون بها الكرامة فمنها مشتركة لجميع الأُمم ومنها خاصة. فالجاصة مثل الذبائح والقرابين التي كانت قد جرت عادة اليونانيين إِن يكرموا الأموات، ومنها عامة وهي المراتب في المجالس والمسارعة إلى أقواله وترك مخالفته والهداية التي توجب المحبة والقرب. فإِن الهدية جمعت أمرين: بذل المال والكرامة، ولذلك كانت مستحبة لجميع الناس، وكل إِنسان يجد فيها ما يتشوقه. وذلك إِن الناس ثلاثة أصناف: إِما صنف يحب الكرامة، وإِما صنف يحب المال، وإِما صنف جمع الأمرين. والهدية قد جمعت متشوق هذه الأصناف الثلاثة.
قال: وأما فضيلة الجسد فالصحة وذلك إِن يكونوا عريين من الأَسقام ألبتة وأن يستعملوا أبدانهم، لأَن من لا يستعمل صحته فليس تغبط نفسه بالصحة، أي ليس هو حسن الحال بها وهو بعيد من جميع الأَفعال الإِنسانية أو من أكثرها.
قال: وأما الحسن فإِنه مختلف باختلاف أصناف الأَسنان. فحسن الغلمان وجمالهم هو إِن تكون أبدانهم وخلقهم بهيئة يعسر بها قبولهم الآلام والانفعال أي لا يكونون غير محتملين للأَذى وأن يكونوا بحيث يستلذ إِن ينظر إِليهم عند الجري أو الغلبة.
قال: ولذلك ما يرى الناس الغلمان الذين هم مهيئون نحو الخمس المزاولات واللعبات حسانا جدا. ونعني بالخمس المزاولات واللعبات الأَشياء التي كان اليونانيون يروضون بها صبيانهم، وهي العدو والركوب والمثاقفة والصراع والملاكزة.
قال: وإِنما كان الناس يرون فيمن كان مهيئا نحو هذه الأَفعال الخمسة أنه جميل لأَنه مهيأ بها نحو الخفة والغلبة. وإِذا شب هؤلاءِ الغلمان كانوا لذيذي المنظر عند العمل في الحرب، وذلك بحسب الهيئة التي كانوا معدين بها نحو الحرب. وأما الشيوخ فجمالهم هو أستلذاذ أفعالهم في الأَعمال التي هي جد، وهي التي من أجلها يراض الصبيان على هذه اللعبات الخمس، وهي الحروب، وأن يكونوا مع ذلك يرون غير ذوي أحزان ولا غم، وذلك إِن الحزن والغم إِذا ظهر بالشيخ ظن به إِن ذلك الطارئ الذي طرأ عليه مما يضر في شيخوخته، مثل الفقر أو الهوان أو غير ذلك.
قال: وأما البطش فإِنه قوة يحرك المرءُ بها غيره كيف شاءَ. فإِنه إِذا جذب غيره أو دفعه أو أشاله أو أخرجه أو ضغطه، وكان هذا الفعل منه بكل من يتصدى له أو بأكثرهم، فهو ذو بطش.
قال: وأما فضيلة الضخامة فهو إِن يفوت كثيرًا من الناس ويجاوزهم في الطول والعرض والعمق، وتكون مع ضخامته حركاتُه غير متكلفة لجودة هذه الفضيلة. وتكون ضخامته ليس سببها سمنا ولا أمرًا مكتسبا.
1 / 18
قال: وأما الهيئة التي تسمى الجهادية فإِنها مركبة من الضخامة والجلد والخفة. وذلك أنه إِذا اقترنت الخفة مع القوة أمكن إِن يبلغ بالسرعة أمدًا بعيدا؛ لأَنه إِن كان خفيفا دون جلد لم يبلغ بالسرعة أمدا بعيدا. وذلك إِن الذي جمع الضخامة والقوة هو مصارع. والذي جمع الضخامة والقوة والخفة هو مجاهد. وأما الذي جمع الصراع والخفة معا فيسمى عندهم باسم مشتق من الحذق باستعمال القوة والخفة. وأما الذي جمع هذه الخصال كلها فهو الذي يسمى عندهم ذا الخمس اللعب.
قال: وأما الشيخوخة الصالحة فإِنها دوام الكبر مع البراءة من الحزن، لأَنه إِن عجلت وفاة الإِنسان قبل إِن يبلغ منتهى الشيخوخة لم يكن ذا شيخوخة صالحة، وإِن كان بريئا من الأَحزان؛ ولا إِن أمهل إِلى منتهى الشيخوخة وكان في كرب وحزن كان ذا شيخوخة صالحة. وإِنما يكون بريئا من الأَحزان إِذا كان ذا حظ من الجد وفضائل البدن، أعني إِن يكون صحيحا ولم تعتره مصائب تكدر شيخوخته. وذلك أنه إِذا كان ممارضا، أو كان الجد غير مساعد له بأن يكون قد اعترته مصائب، فإِنه ليس بصالح الشيخوخة، وإِن كان معمرا، وكذلك إِن كان ممارضا. وقد يشك كيف يكون طول العمر مع الأَمراض، لكن يشبه إِن تكون قوة طول العمر غير قوة الصحة. فإِنا نرى قوما كثيرين تطول أعمارهم مع أنهم مسقامون. وتصحيح هذا هو للعلم الطبيعي، وليس في تصحيحه في هذا العلم منفعة. والخطيب إِنما يكتفي من ذلك بالشيءِ الظاهر.
قال: وأما كثرة الخلة وصلاح حال الإِنسان بالإِخوان فذلك أيضا غير خفي، إِذا حُد ماهو الخليل والصاحب وهو إِن يكون كل واحد منهما يفعل الخير الذي يظن أنه ينفع به الآخر، لا الخير الذي ينتفع به في نفسه فقط. وإِذا كانت الخلة والصحبة هي هذه، فبيّن إِن المرءَ يكون صالح الحال بالإِخوان الكثيرة.
قال: وأما صلاح الجد فهو إِن يكون الاتفاق لإِنسانٍ ما علة لوجود الخير له وذلك إِما من الخيرات الموجودة في ذاته، وإِما من الخيرات الموجودة له من خارج. وعلة الاتفاق قد تكون الصناعة، وقد تكون الطبيعة وهو الأَكثر. فمثال ما يكون عن الاتفاقالطبيعي إِن يولد الإِنسان ذا قوة وهيئة يعسر بها قبوله الأُمور الواردة عليه من خارج. فأما إِن يكون الإِنسان صحيحا، فقد يكون سببه الاتفاق الطبيعي مثل إِن يولد صحيحا، وقد يكون الاتفاق الصناعي مثل إِن يسقى سما فيبرأ به من مرض كان به. وأما الجمال والضخامة فعلتهما الاتفاق الصناعي والطبيعي. وجملة الأَمر إِن الخيرات التي سببها الجد الذي هو حسن الاتفاق هي الخيرات التي يكون المرءُ مغبوطا بها محسودا عليها. ويكون الجد علة لخيرات ليست هي خيرات بالحقيقة وإِنما ترى خيرات بالإِضافة والمقايسة إِلى الغير، كما قد يكون القبح في حق إِنسانٍ خيرًا ما إِذا رئى غيره أقبح منه. ومثل إِن يكون إِنسانان وقفا من الحرب في موضع واحد فأصاب أحدهما السهم ولم يصب الثاني. فإِن الذي لم يصبه السهم يرى أنه قد ناله بالإِضافة إِلى صاحبه خير كثير، وبخاصة إِن كان ذلك الذي لم يصبه السهم من عادته إِن يشهد الحروب كثيرا، والآخر لم يشهد قط إِلا تلك الحرب.
وكذلك إِذا وجد الكنز واحد ممن طلبه، قد يرى أنه خير بالإِضافة إِلى من لم يصبه، وإِن كان الكنز يسيرا. فمن هذا ونحوه وينظر الخطيب في سعادة الجد.
وأما تعريف الفضيلة فأولى المواضع بذكرها هو عند القول في الأَشياءِ التي يمدح بها، لأَن الفضيلة خاصة بالمادح. ولذلك وجب إِن يكون المادح هو الذي يعرف باستقصاء الفضيلة. والفضائل وإِن كان منها مستقبل وحاضر، فالمادح إِنما ينظر فيها من جهة ما هي حاضرة، والمشير من جهة أنها مستقبلة، أي نافعة.
فهذه هي الغايات التي من أجلها يشير المشير. وبيّن من هذه أضدادها التي من أجْلها يمنع المشير وهي التي تؤلف منها أقاويل المنع، إِذ كان عددها هو ذلك العدد بعينه، ووضعها من الأَقاويل المشورية هو ذلك الوضع بعينه. ومن أجل إِن المشير إِنما غرضه المقدم في فكره هو إِن يشير بالشيءِ النافع الذي تلزم عنه واحدة واحدة من هذه الغايات، وذلك إِن هذه الغايات هي أول الفكرة وآخر العمل، والأَشياءُ النافعة هي آخر الفكرة وأول العمل، وأعني بأول الفكر النتيجة، وبآخر الفكر المقدمات.
1 / 19
فقد يجب إِن يكون للخطيب أصول وقوانين يعرف بها الأَشياءَ النافعة في الغايات، وهي العواقب إِذ كانت هي أول العمل. والنافعات وإِن لم تكن خيرًا مطلقا فهي خير لأَنها طريق إِلى الخير بإِطلاق. فالخير المطلق هو الذي يختار من أجل نفسه، ويختار غيره من أجله، وهو الذي يتشوق إِليه الكل، وأعني هاهنا بالكل ذوي الفهم الحسن من الناس والذكاءِ. وذلك قد يكون خيرا في الحقيقة، وقد يكون خيرا في الظن، وذلك بحسب اعتقاد إِنسان إِنسان في هذا الخير. ولذلك إِذا كان الشيءُ الذي يعتقد فيه الإِنسان هذا الاعتقاد موجودا له فقد اكتفى به ونال حاجته ولم يبق له تشوق إِلى شيء أصلا. والأَشياءُ النافعة في هذا الخير هي بالجملة أربعة أجناس: الأَشياءُ الفاعلة، والأَشياءُ الحافظة له، وما يلزم الحافظة، وما يلزم الفاعلة. وذلك إِن لازم الشيء يعد مع الشيء. وكذلك أيضا يعد لازم المفسد مع المفسد، ولازم ضد الفاعل مع ضد الفاعل في الأَشياء التي ينهى عنها. ولزوم الغاية للفاعل ربما كان معا مثل ما يلزم المدح اقتناء الأَشياء الممدوحة، وربما كان متأخرا مثل العلم الذي يتبع التعلم بأخرة.
والأَشياءُ الفاعلة ثلاثة أصناف: إِما بالذات، وإِما بالعرض. والذي بالذات اثنان، إِما قريب مثل فعل الغذاء الصحة، وأما بعيد مثل الطبيب. والذي بالعرض مثل فعل التعب في الرياضة للصحة. وإِذا كان واجبا إِن تكون أصناف الأَشياء الفاعلة للخير هي هذه الأَصناف الثلاثة، فباضطرار إِن تكون الأُمور النافعة في الخير بعضها خير في ذاته مثل نفع الغذاء في الصحة وبعضها شر في ذاته وخير ما بحسب نفعه في الخير مثل شرب الدواء للصحة. والشرور التي تنفع في الخير هي نافعة على وجهين: أحدهما إِن يستفاد بها خير هو أعظم من الشر اللاحق من استعمالها مثل استفادة الصحة عن شرب الدواءِ، ومثل المشقة اليسيرة في استفادة المال الكثير. ومنها ما تنال به السلامة من شر هو أعظم من الشر الذي ينال منها، مثل ما ينال رُكَّابُ البحر من السلامة إِذا طرحوا أمتعتهم. فإِن طرح أمتعتهم شر، لكن تستفاد منه السلامة من شر هو أعظم وهو العطب. والخيرات التي تستفاد من الخيرات يسميها أرسطو فوائد بإِطلاق، وأما تلك فيسميها انتقالا. ويعني بذلك أنها انتقال من شر إِلى ما هو أخف شرا منه أو انتقال من شر إِلى ما هو خير.
قال: والفضائل وإِن كانت غايات فهي أيضا خيرات في أنفسها ونافعة في الخير. فإِن المقتنين لها هم بها حسنو الأَحوال. وهي مع هذا فاعلة للخير ومستعملة فيه.
قال: وقد ينبغي إِن نخبر عن كل واحد من هذه وكيف هي خير في نفسها وكيف هي فاعلة للخير ونفصل الأَمر في ذلك. واللذات أيضا هي خير بنفسها لأَن جميع الحيوان يشتاق إِليها. والأُمور اللذيذة إِنما تكون خيرًا إِذا كان بها الملتذ حسن الحال. وقد يستبين من التصفح أنها خير وأنها أيضا قد تكون نافعة في الخير. وأجزاءُ صلاح الحال بالجملة منها ما هي غايات فقط، ومنها ما قد تعد غايات وهي نافعة أيضا في الغايات؛ وذلك إِن لبعضها ترتيبا عند بعض، أعني إِن بعضها علة لوجود بعض ومتقدم عليه. ومثال ذلك إِن الشجاعة والحكمة والعفاف وكبر النفس والنبل وما أشبهها من فضائل النفس قد تختار أشياء كثيرة من أجزاءِ صلاح الحال من أجلها. وكذلك الصحة والجمال من فضائل الجسد قد تختار أشياء من أجلها هي من صلاح الحال وهي فاعلاتها. وكذلك تختار فاعلات أشياء أخر من صلاح الحال مثل فاعلات اللذة وفاعلات السيرة الحسنة. ولذلك ما يظن باليسار أنه خير، إِذ كان سببا لهذين الأمرين الشريفين: أحدهما اللذة، والآخر حسن السيرة. وصلاح الحال بكثرة الإِخوان قد يوجد فاعلا لأَشياء كثيرة من الخيرات. وذلك إِذا كانت الصداقة التي بينهما من أجل المحبة نفسها، لا إِن تكون المحبة بينهما من أجل شيءٍ آخر. فإِن الإِخوان اللذين بهذه الصفة هم يفعلون الكرامة والتمجيد بغير ذلك مما يجري مجراهما من الخيرات. وذلك يكون منهم بالقول والفعل. فإِن الأَقوال والأَفعال التي تفعل بها الكرامة والتمجيد وغير ذلك مما يجري مجراهما هي خير ونافع.
1 / 20