أخرج مرة أخرى قبل المغرب لشراء فول مدمس للسحور. البائع خلف قدرته في مدخل الحارة . حوله زحام من الأطفال والبنات. أيديهم ممدودة بالأطباق والحلل. يتصايحون كي يلفتوا انتباهه. نتابع في لهفة خروج يده اليمنى من القدرة بكبشة الفول. أشاركهم الصياح مادا يدي اليمنى بالطبق واليسرى بالنقود. أصواتهم أعلى من صوتي.
أعود بطبق الفول بعد أن بدأت تلاوة القرآن. تأتينا عبر الراديو من ناحيتين؛ ميكروفون الحاج «مشعل» وراديو «أم زكية». يضع أبي حبتين من البلح الإبريمي الجاف في كوب ماء. تنتهي «فاطمة» من خرط الملوخية. تضعها على النار. تبدأ في تقشير الثوم لإعداد التقلية. يحذرها أبي من طش التقلية الآن. يقول إن «أم نبيلة» - الله يرحمها - كانت تستعد لطش الملوخية عندما تسمع صوت أقدامه على السلم، ولا تطشها إلا بعد أن يجلس إلى المائدة كي تغمره الرائحة.
يتوضأ ويستعد للصلاة. يختم المقرئ ب «صدق الله العظيم.» تمر لحظة صمت ونحن ننتظر في لهفة. ينطلق مدفع الإفطار من «القلعة». يتكرر صوته من الراديو والميكروفون. يتبعه أذان المغرب. يرفع أبي كوب البلح ويرتشف منه على مهل. يمضغ بلحة. يفرش سجادة الصلاة فوق البلاط. يصلي المغرب. تطش «فاطمة» الملوخية. تجلب الحلة إلى المائدة المستديرة. تتبعها بحلة الأرز وطبقين. - عاوزين حاجة تانية؟ يرفع أبي صوته بالتلاوة ناهرا. تقول: طيب، أنا مروحة. تخرج مهرولة. ينتهي أبي من الصلاة. ضوء المغرب يتلاشى بسرعة. يضيء نور المصباح الكهربائي. يجلس على حافة السرير. أجلس أمامه فوق الكرسي. يغرف لي بالكبشة من الملوخية. يضيف قطعة من اللحم. أمزق نصف رغيف إلى لقيمات. أدسها في الملوخية. يغرف لنفسه. يسود الحارة هدوء تام. صوت ملعقة تصطدم بطبق. الصوت قريب للغاية كأنه في شقتنا.
تدوي فجأة صفارة الإنذار. أصوات من الحارة: طفي النور. أزيح الكرسي إلى الخلف. أهرع إلى مفتاح النور. أضغطه. يسود الظلام. ينهض أبي واقفا. ينادي علي. أقول له: أنا هنا يا بابا. يمد يده فيحتضنني. نستدير ناحية البلكونة. نقترب منها. تسكت الصفارة. يسود سكون شامل. يقول: الكلاب. ده الهدنة مخلصتش. يمد يده ليغلق باب البلكونة. ثم يعود يفتحه. يقول: أحسن القزاز يكسر.
أقترب أكثر. الحارة غارقة في الظلام. أمد عنقي متطلعا إلى أعلى. الكشافات تجوب السماء في سرعة محمومة. يتوقف اثنان منها فوق نقطة مضيئة. يبتعدان. تختفي الكشافات كلها مرة واحدة. يدوي صوت انفجار خافت بعيد. تقبض يده على كتفي بعنف. يقول: تعالى هنا أأمن.
يجذب بطانية من فوق السرير. يزحف أسفله. يزيح حقيبة السفر القديمة. يبسط البطانية فوق البلاط. أتبعه. يعتمد على ركبتيه منحنيا إلى الأمام حتى لا يصطدم رأسه بملة السرير. أنكمش إلى جواره. يحتضنني بذراعه.
أزحف إلى حافة السرير مقتربا من باب البلكونة. أخرج رأسي وأتطلع إلى الجزء الظاهر من السماء. تنساب إحدى النجوم في سرعة. تتلاقى الكشافات وتتعانق في محاولة للإمساك بها. يهمس أبي: إنت رحت فين، تعالى هنا. أعود إلى جواره. ألتصق به. ننتظر في صمت. يتناهي إلى سمعنا طنين. يزداد اقترابا. يتوقف فجأة.
أسمع صوت انفجار. صفارة الإنذار المتقطعة. أبي يطفئ الأنوار. ترفض أمي الذهاب إلى المخبأ. يلح عليها. تصيح به: هو المخبأ يحمينا؟ فوق يا راجل لنفسك. الله هو المنجي. نجلس في الصالة. يأخذني في حضنه. أصوات مدافع بين الحين والآخر. أزيز خافت مألوف. يقترب الصوت. يزداد اقترابا. يتوقف. تسقط القنبلة الألمانية في دوي أمام المنزل. يتحطم زجاج نافذة المنور. يتحرك البوفيه إلى الأمام. تسقط المرآة التي تتصدره. بعد قليل تنطلق صفارة الأمان. ينهض أبي ليضيء النور وهو يغمغم بالشكر لله. وجه أمي شديد الشحوب.
ألتصق بأبي. يجذبني إلى حضنه. يزحف خارج السرير وأنا معه. نغادر الغرفة إلى الصالة. نتجه إلى دورة المياه. يدخل الكنيف. الماء يسيل من الحنفية في سرسوب ضئيل. يلم جلبابه وينحني إلى الأمام. يحكم إغلاق الصنبور. يخرج علبة كبريت من جيبه. يشعل عودا. تظهر الفتحة الدائرية للكنيف. يرفع العود إلى أعلى. يرتقي القاعدة الحجرية. أتشبث بجلبابه. يمد يده إلي ويجذبني إلى جواره. أتحاشى النظر إلى الجدران. أغلق عيني. أتجاهل رائحة الكنيف المقززة. أدفن رأسي في جلبابه. أنصت إلى صوت تنفسه. تحتك أذني بقطعة معدنية في حزام الفتق. تتوالى أصوات الانفجارات. يرتجف. يهتف بقوة: يا لطيف الطف.
أدرك بعد قليل أن الانفجارات توقفت. تسترخي قبضته فوق كتفي. يدوم السكون بعض الوقت. ثم تدوي صفارة الأمان الطويلة. يهدأ تنفسه. نخرج إلى الطرقة. يضيء نور الصالة. ندخل الغرفة. يضيء النور. يشعل سيجارته السوداء. نتجاهل الطعام ونقف في البلكونة. يظهر أولاد الحارة بالفوانيس. «سمير» يحمل. فانوسا ذا جوانب بيضاوية الشكل. كل جانب بلون مختلف. آخر يحمل فانوسا على شكل الكرة. أدخل الغرفة. أتناول فانوسي من فوق المكتب. جوانبه الزجاجية مربعة الشكل. أفتح بابه وأشعل شمعته. أغلق الباب فينفتح مرة ثانية. أغلقه بقوة. أحمله في حذر من حلقة صفيح في قمته كي لا تجرحني حافة قاعدته أخرج إلى البلكونة.
Página desconocida