يطلب أبي لي كوبا من عصير القصب. يضع العامل ثلاثة أعواد من القصب بين أسطوانتين خشبيتين. يدفع العجلة التي تحركهما. يسيل العصير في مجري معدني. يلقي بقطع من الثلج في دورق زجاجي. يضعه أسفل نهاية المجرى. يرفعه عندما يمتلئ. يصب لي كوبا. أشربه في استمتاع.
نعود إلى الميدان. نلج ممرا ضيقا داخل العمارة الضخمة. حديقة صغيرة. صالة واسعة بها موائد ومقاعد. نجلس في أحد الأركان. يقترب منا جرسون يوناني في قميص أبيض وبنطلون أسود. تزين رقبته ربطة عنق سوداء على هيئة فراشة. يخاطب أبي قائلا: بونجور يا إكسلانس. يحضر صينية فوق فوطة بيضاء نظيفة. ينقل منها إلى المائدة أطباقا صغيرة. طحينة وقطع من خبز الفينو على شكل أهله. زيتون أسود. فول سوداني. يمضي إلى منصة عالية في نهاية الصالة. أمامها مقاعد عالية. في طرفها برميل من الخشب مائل على جانبه. يضع كوبا زجاجية أسفل حنفية صغيرة في طرف البرميل. ينتظر حتى تمتلئ وتسيل الرغوة البيضاء على جوانبها. يرفع الكوب ويجفف جوانبها بالفوطة. يحملها إلينا.
يخلع أبي طربوشه. يمسح العرق عن صلعته بمنديل. يحتسي رشفة من كوب البيرة ثم يشعل سيجارته. أتناول قطعة خبز. أغمسها في الطحينة وألتهمها. ألتقط حبات الفول السوداني. يقترب منا بائع بجلابية يحمل سبتا صغيرا به جمبري مسلوق. يهز أبي رأسه نفيا. يتبعه بائع أوراق اليانصيب. يتناول أبي منه دفترا به جداول من الأرقام. يخرج من سترته ورقة يانصيب. يراجع رقمها على الدفتر. ثم يعيدها للبائع وعلى وجهه ابتسامة أسف. يتناول منه عدة أوراق. يختار منها واحدة. يدفع له قرشا. يقترب منا ماسح أحذية. يقعي عند قدمي أبي. يضع أبي قدمه اليمنى على مسند المسح.
أتأمل المنصة العالية التي تحلق حولها عدد من الرجال. خلفها رفوف من الزجاجات الملونة. ألمح عجوزا ذا ملامح أجنبية في ملابس أنيقة ممددا على الأرض بجوار المنصة. يردد كلمات يضحك لها الواقفون. لا يعبأ أحد بمساعدته على النهوض. الزجاجة الصغيرة فوق سطح المائدة. حولها أطباق عديدة. رائحة كبدة محمرة. الغرفة خالية. يأتي صوت أمي من غرفة النوم: «يا حبيبي تعالى الحقني شوف اللي جرالي.» صوت أبي ببقية الأغنية: «غرامي هالكني».
ينتهي الماسح من فردة الحذاء اليمنى فيدق صندوقه الخشبي. ينزل أبي قدمه ويضع القدم اليسرى. أتناول قطعة الخبز الباقية. أمسح بها طبق الطحينة. ينتهي مسح الحذاء. يعطي أبي الماسح تعريفة. يرفع كوب البيرة إلى شفتيه. يجرع ثمالته على مهل. يأتي الجرسون ويسأل إذا كان أبي يريد شيئا. يهز رأسه نفيا. يدفع ونغادر المكان.
نستقل الترام. نركب العربة المغلقة. نجد مقعدا خاليا إلى جوار رجل في قفطان ولبدة رأس ريفية . أجلس فوق ركبتي أبي. ظهر المقعد التالي أمامي. تحتله امرأة في ملاءة سوداء وبجوارها فتاة في بلوزة وجونلة. الأولى جالسة لصق الممر الفاصل بين المقاعد. فخذها بارز قليلا خارج المقعد. يقترب رجل في بزة وطربوش. يقف إلى جانب مقعدها. يستند بيده على حافة المقعد. ركبته قريبة من الجزء الخلفي من فخذ المرأة.
أتطلع من النافذة إلى إعلانات الأفلام. يهتز الترام. ألتفت أمامي. ألمح ركبة الرجل تحتك بساق المرأة. تميل على صديقتها. تبادلها حديثا خافتا. يحرك الرجل ركبته فوق فخذها. أرفع عيني إلى وجهه. يبادلني النظر. أتحول بعيني نحو النافذة. أتظاهر بتأمل الشارع. أراها بركن عيني تزداد ميلا على صديقتها. تصبح ركبة الرجل بين فلقتيها. أرفع عيني إلى وجهه. يتطلع إلي. يحدق في فأحول نظري. يتوقف الترام. تقوم المرأة مسرعة. تودع صديقتها. تتحاشي النظر إلى الرجل. تمرق بسرعة بين الواقفين. ألمح وجهها مضرجا. تتجه إلى الباب. الملاءة مكومة بين فلقتيها. يحتل أحد الواقفين مكانها. وجه الرجل شاحب. العرق يتجمع فوق جبينه. ينحني برأسه لينظر من نافذة الترام. يعتدل واقفا. ينظر حوله. تلتقي عيوننا. يحدق في. أحول عيني بعيدا.
نغادر الترام في الميدان. نعبره إلى حانوت الدخاخني على ناصية شارعي «فاروق» و«الظاهر». يشتري أبي علبة سجائره ذات الغلاف الأصفر الذي يتوسطه رأس حبشي. نلف الميدان. نعبر الشارع المؤدي إلى منزلنا القديم. نصبح أمام سبيل «أم عباس». أحد المارة يشرب من حنفية السبيل. أتطلع إلى الشارع الصاعد إلى منزلنا القديم. بائع الورد على الناصية. رأس حصان مدفون في كيس تبن. ثلاثة من الكناسين بملابسهم الصفراء وشواربهم المدلاة ومقشاتهم الطويلة. الحواف الأمامية لأغطية رءوسهم مدارة فوق أقفيتهم. يدق عصا المكنسة في الأرض ليثبت قشها. يزيح الأتربة. ينفصل القش عن العصا مرة أخرى. يقتعد الرصيف. يدس خرقة قماش بين العصا وحزمة القش.
نعبر الشارع. نتجاوز مخبز «عبد الملاك». نتجه إلى الأجزخانة. يدفع أبي بابا من الزجاج المغبش. يلفحنا الهواء الذي تحركه مروحة دائرية مدلاة من السقف. الصيدلي يرتدي نظارة ذات عدستين سميكتين. يستفسر أبي عن حسابه . يقلب الصيدلي صفحات دفتر. يدفع له أبي جانبا من الحساب. يعده بأن يدفع الباقي في أول الشهر القادم. يميل عليه ويهمس بشيء. يبتسم الرجل ويقول: يا ريت. خد فيتامين ب. يشتري أبي زجاجتين صغيرتين؛ واحدة من صبغة اليود والأخرى من الميكروكروم.
نعود في اتجاه شارع «النزهة». نتوقف أمام الجزار. يشتري أبي رطلا من الكلاوي وخصية خروف. يدفع حساب الشهر الماضي. يسأله: أخبار أبوك إيه؟
Página desconocida