هذا آخر حديث في سلسلة أحاديثي، وهو يتناول تطور المجتمع المصري في السنوات المائة والخمسين الأخيرة، وهي فترة توثقت صلات البلاد خلالها بالغرب، وقبل أن أبين لكم الحقائق الكبرى لهذا الاتصال - كما أراها - أود أن ألفت أنظاركم إلى بعض الاتجاهات التي تسترعي النظر، ولا سبيل إلى إغفالها عند بحث هذا الموضوع. وأولى تلك الاتجاهات هي أن المؤلفين في هذا الموضوع يكتبون، كما لو أن الشعب المصري يتعين عليه أن يختار موقفا حاسما يلتزمه دون رجعة، وعلى أساس هذا الافتراض يشرع من نصبوا أنفسهم ناصحين لنا في الإفضاء إلينا بما يجب علينا اتباعه، فمنهم من يشير بأن نسير على نهج الحضارة الغربية في صميمها، أو في بهرجها، ومنهم من يعاوده الحنين إلى عصر رمسيس الثاني ، أو إلى عصر هارون الرشيد، أو إلى تقشف صدر الإسلام، أو إلى الجمع والخلط بين محاسن ما يمكن أن نلتقطه كافة من هنا أو من هناك.
ولا حاجة بي إلى أن أبين فساد هذا الافتراض، حقيقة إنه قد تحدث ظروف في تاريخ الجماعات يتعين فيها اتخاذ قرارات حاسمة، ولكن لم يحدث أبدا أن طرأ موقف كان لزاما فيه الانحياز إلى رأي نهائي، أو موقف محدد المعالم لا رجعة فيه، فالجماعات في تطور دائم، وكل ما في الأمر أن سرعة التطور تزيد في بعض الأحايين عنها في بعضها الآخر.
والاتجاه الثاني الذي يميل إليه بعض المؤلفين، هو الاعتقاد في أن ما يعتري مجتمعنا من أزمات ظاهرة خاصة بنا، والصواب أن الشعوب الأخرى تشترك معنا في هذه الحال، ومنهم الغربيون أنفسهم. اختر أية مشكلة، أو أية مسألة يختلف عليها الناس: مشكلة السكان، أو الأسرة، أو الطبقات، أو مدى تدخل الدولة، أو مسائل التصنيع، أو الاقتصاد الزراعي، أو المسائل المتعلقة بالديموقراطية بنوعيها الشعبي والبرلماني، أو تجريد الدولة من الصبغة الدينية، أو السيادة القومية المطلقة والنظام الدولي. ليس في هذه المسائل ما هو خاص بمصر أو بالغرب أو الشرق، فكلها مسائل نابتة من صميم العصر الذي نعيش فيه، وكل ما هنالك أن هذه المسائل ومثيلاتها تتخذ أوضاعا مختلفة في مختلف المجتمعات، كما أن من هذه المشكلات ما قد يكون أكثر ضغطا وأشد إلحاحا في بعض المجتمعات عنه في بعضها الآخر.
وفي المقام الثالث ميل الكتاب إلى أن يضعوا مصر مواجهة لمجتمع غربي ثابت. والواقع أنه قد طرأ على الغرب من التحول خلال المائة والخمسين سنة الماضية، ما هو أبعد مدى مما انتاب مصر خلال تلك الفترة، ومن رأيي أن توهمهم وجود غرب ثابت لا يتحول أو يتحرك، أو على الأقل فيما يختص بعلاقته بنا، يرجع إلى سببين:
أولهما:
أن السياسة التي تسير عليها الدول الأوروبية نحونا بالفعل، لم تكن عادة مما يتجاوب تجاوبا ناجزا وما كان يحدث في أوروبا من تطور اجتماعي. لا، بل بلغ الأمر أن كانت تلك السياسة تتعارض في بعض الأحايين تعارضا بينا ومبادئ العلاقات الاجتماعية السائدة في أوروبا.
وثاني السببين:
هو أن الأثر الذي تتركه فترة من فترات الاتصال بأوروبا في أذهان قومنا، قد يبقى طويلا بعد أن تطوى حوادث تلك الفترة في سجل النسيان، وأتخيل، على سبيل المثال، أن مرور الفرنسيين من جند ومدنيين - خلال احتلالهم لبلادنا عند نهاية القرن الثامن عشر - في مدننا وريفنا أثر في آراء المصريين كافة، لجيل أو لجيلين، عن الفرنسيين، لا بل عن الفرنجة أو الأوروبيين كافة.
وقد كان هؤلاء الفرنسيون أول الغربيين الذين اتصلنا بهم في العصور الحديثة، وقصة غزوهم مصر - إذا نظرنا إليها من الناحية الضيقة المحدودة - لا تعدو أن تكون فصلا من فصول المنازعات والمنافسات التي شبت في عصر الثورة، وبخاصة المنافسة بين إنجلترا وفرنسا، ولكن إذا نظرنا إلى الأمر من ناحية أكثر عمقا وأبعد مدى، رأينا أن الحملة الفرنسية كانت نتيجة لثلاث ثورات أوروبية: الثورة العلمية، والثورة الصناعية، والثورة الفرنسية. فالثورة العلمية بعثت نظرا جديدا في عالم الطبيعة والمجتمع الإنساني، والثورة الاقتصادية بعثت دوافع جديدة لوضع موارد الأرض كلها تحت تصرف الرجل الأوروبي، والثورة الفرنسية بعثت إدراكا جديدا لمبادئ التنظيم القومي. كانت هذه الأشياء العوامل التي فتحت عهدا جديدا في تاريخ التوسع الغربي، فكان لا بد للأوروبيين من أن يملكوا أوطان الجماعات الإسلامية والآسيوية، أو أن يسيطروا عليها، أو أن يوجهوها؛ ليبعثوها من جديد فتولي وجهها نحو الغرب وتسير في فلكه، وتصبح بذلك شيئا نافعا للغرب.
ومعنى نفعها للغرب عند الغرب، أنها عندئذ تنفع نفسها أيضا، وتنفع العالم بأسره. بيد أن اندماج تلك الشعوب في الغرب اندماجا كاملا لم يكن مستحبا لسببين؛ إذ إنه يمكن أن يعتبر مناقضا للمواثيق التي تعهد بها القوم أن يحترموا عقائد المصريين الدينية وعاداتهم، وثانيا: أنه لم يكن هناك سبيل إلى تحقيقه، وحتى لو كان ذلك ميسرا لما كان في جانب مصلحة الحكام الأوروبيين أو المحكومين.
Página desconocida