كانت نتيجته تكوين مصر، يصفها المؤرخ الروماني «ناسيتوس» فيما يلي بقوله:
هي ولاية من العسير الوصول إليها، تنتج الغلال، مشتتة الفكر والخواطر، وسريعة الاستجابة لدواعي الفتن تحت تأثير الخرافات والفوضى، تجهل القانون، ولا تعرف خطط القضاء والحكم!
وتكلم «بوليبيوس»، مؤرخ روماني آخر، عن شعب الإسكندرية فوصفه بالشعب الهجين.
ووصف «دون كريزوستوم» المتبحر في علوم البيان والجدل والسفسطة، الإسكندرية بأنها مدينة قد جنت بالطرب وسباق الخيل، لا تشتغل بأي شيء جدير بعظمتها ومكانتها.
وإنه لأمر يسترعي النظر أنه مهما كد القارئ في البحث عن تأثير مصر والمصريين في أدباء الإسكندرية اليونانيين لم يجد شيئا يعتد به، لا في منثورهم، ولا في منظومهم على حد سواء.
هذا وإن كانت قد نشأت في ريف البلاد جاليات مختلطة من المصريين والإغريق، متأثرة فعلا بالحضارة الإغريقية، فإن هذه الجاليات كانت من ضعة القدر والمكانة، بحيث لم تستطع أن تنتج أو تثمر تلقيح الحضارة المصرية بالحضارة الهيلينية. وقد تأثر اليهود - أيضا - بالحضارة الإغريقية تأثرا اقتضى أن تترجم كتبهم الدينية إلى اليونانية؛ لكي يستطيعوا فهمها والانتفاع بها، ولكن اليهود - كعادتهم - شغلتهم أنفسهم عن أي شيء آخر، حقا كان العصر كله عصر استغلال وأثرة وعداوات للشعوب، ولم يبد أي فريق ممن برزوا على مسرح التاريخ خلاله أحسن ما عنده.
وجاءت الثورة من الطبقات الدنيا، فاضطر البطالمة - وهم يرزحون تحت ضغط الإعياء الاقتصادي، ووقف تدفق المهاجرين الإغريق، وفي سبيل مواصلة حروبهم مع الأسرات المقدونية المالكة الأخرى - إلى استخدام رعاياهم المصريين جنودا، ولذا شرعوا في التخفيف من وطأة حكمهم وأنظمتهم، وأضاف مقدم الرومان عمرا جديدا إلى ذلك الطراز البغيض من الحضارة الهيلينية، ولكن الثورة التي بقيت تعمل في الأعماق، تمكنت في النهاية من أن تقضي على ذلك الصرح الشامخ الذي شيده قياصرة روما، وكانت هذه هي مهمة المسيحية، وما حققته من عمل مجيد.
أما عن تحرر مصر من الكابوس الهيليني الروماني، فهذا ما سأتناوله في حديثي المقبل. وسنرى عندئذ أن الحضارة الهيلينية لم تعمل في تكوين مصر عملا نافعا خيرا، إلا عن طريق ذلك العنصر الإغريقي الكامن في المسيحية.
مصر والمسيحية
يدخل في تكوين مصر عنصر مسيحي هام كل الأهمية، وليس مرد ذلك إلى أن المسيحية عقيدة فريق من أبنائها فحسب؛ بل لأن المسيحية في عالم مسيحي، هي التي كونت النظرة الروحية لأبنائها كافة.
Página desconocida