Renovación del pensamiento árabe
تجديد الفكر العربي
Géneros
ففي العصر الذي ذهبت فيه العصبيات أخطر مداها، نجد من تراثنا ما يعطينا دستور المعادلة بين مختلف الأقوام والثقافات: «... فلكل أمة فضائل ورذائل، ولكل قوم محاسن ومساوئ، ولكل طائفة من الناس في صناعتها وحلها وعقدها كمال وتقصير، وهذا يقضي بأن الخيرات والفضائل والشرور والنقائص مفاضة على جميع الخلق مفضوضة بين كلهم» (الإمتاع والمؤانسة، ج1، ص73). وفي العصر الذي اشتدت فيه عنصرية اللون والجنس والدين، وازداد البطش واتسع الظلم، نجد في تراثنا الفكري ما يضع بين أيدينا وقفة مثلى، فيها التسامح وفيها العدل والاعتدال، وفيها المساواة وفيها تدرج القيم من الأعلى إلى الأدنى، خطة للسلوك السوي، ولو نسجنا من هذه الخيوط نسجا ثقافيا يتناول قضايا عصرنا، كان لنا بذلك ما يصح أن نوصف بسببه بأننا أمة الاعتدال في الفكر والعمل، أمة تجمع بين العقل والدين، بين الدنيا والآخرة، بين الفرد والجماعة، أمة لو سار حاضرها على نهج ماضيها جمعت بين ثقافة الروح وحضارة العيش، في هذا العصر الذي كادت الثقافة والحضارة أن تفترقا إلى غير تلاق، فإما جماعة تتقلب في السيارات والثلاجات والناطحات ولكن بغير أعماق، وإما جماعة ركنت إلى طمأنينة الأعماق ثم كستها بأكواخ الطين وهلاهل الثياب وشظف الرغيف . •••
والسؤال نطرحه من جديد: ما سبيلنا إلى ثقافة عربية معاصرة؟ لقد قدمت من جوانب الإجابة جانبا واحدا، وهو ضرورة الخروج من دنيا اللغة إلى دنيا الأشياء، ثم استدركت بقولي إننا قد خطونا خطوة طيبة في هذا السبيل بما غيرناه من تصورنا للأدب فيما نحاوله اليوم من قصة ومسرحية وقصيدة، لكننا ما نزال في دنيا الفكر متخلفين، إلى الدرجة التي أستأذن القارئ في أن أقول عنها إنها الدرجة الدنيا التي ليس لنا فيها فكر يوصف بأنه فكر عربي معاصر، مع أن تراثنا - كما قدمت - يمدنا بالخامة الولود التي يمكن أن نتخذ منها محورا لموقف عربي أصيل إزاء القضايا الإنسانية الكبرى المطروحة على الألسنة والأقلام، ومع ذلك ترانا أحد رجلين، فإما ناقل لفكر غربي وإما ناشر لفكر عربي قديم، فلا النقل في الحالة الأولى ولا النشر في الحالة الثانية يصنع مفكرا عربيا معاصرا؛ لأننا في الحالة الأولى سنفقد عنصر «العربي» وفي الحالة الثانية سنفقد عنصر «المعاصرة»، والمطلوب هو أن «نستوحي» لنخلق الجديد، سواء عبرنا المكان لننقل عن الغرب، أو عبرنا الزمان لننشر عن العرب الأقدمين.
فإذا أوحت إلينا الثقافتان بخلق ثقافي جديد، فيه النظرة العربية وفيه الوقفة العصرية، كان من أهم ما يميز هذا النتاج الجديد - فيما أرجح - خروجنا إلى عالم الوقائع والأحداث، بالمعايير نفسها التي كنا ننسجها لفظا ثم نكتفي منها بذلك، فننظر إلى ذلك العالم الخارجي النظرة التي تلتمس فيه القوانين المطردة التي تنظمه، والتي على أساسها يمكن التخطيط لمسارات المستقبل تخطيطا يحقق الأهداف المأمولة، بدل أن ننظر إلى ذلك العالم النظرة التي تجعله ضاربا في تيه من المصادفات، لا ندري معه بماذا يجيء الغد فيفجؤنا حين يجيء.
واختصارا، إن وقفة الفنان العربي التي وقفها وهو ينشئ فنه الهندسي في النوافذ والشرفات، وعلى جدران المنازل، ومنابر المساجد ومآذنها، هذه الوقفة الرياضية الدقيقة المحكمة التي عبرت عن روح الحياد المعقول عند العرب الأولين والتي كانت هي نفسها الوقفة التي هندس بها الشاعر تفعيلاته وقوافيه، وزخرف بها كاتب المقامة سجعه ونغماته، هذه الوقفة التي تضع المفرد الجزئي المتناهي المحدود، في مكان من تركيب يشمله، بحيث يجيء التركيب كله موحيا بالمجرد الكلي اللامتناهي واللامحدود، هذه الوقفة التي وقفها المتصوف العربي حين رأى في فردية ذاته ومجسد خبرته حقيقة الكون في تجردها وشمولها، وفي الفرد الواحد الإنسانية بأسرها، هذه الوقفة التي نراها منبثة في تراثنا من عقيدة وأدب وفن وفكر، هي التي ندعو إلى أن تكون وقفتنا التي ننظر منها إلى قضايا الإنسان في عصرنا الراهن، فتنتج لنا ما يجوز بحق أن يسمى بالثقافة العربية المعاصرة ...
الفصل الثامن
فلسفة عربية مقترحة
(أ) ثنائية السماء والأرض
أحسبني على حق حين أزعم أن كلمة «فلسفة» هي من أكثر الكلمات دورانا على الألسن، ومن أقلها تحديدا عند جمهور المثقفين، هم يحبون استعمالها، ولكنهم يكرهون الوقوف عندها، كأنما هم يحبون استخدامها جرسا ولفظا، ويكرهون تمحيصها مضمونا ومعنى، فما أكثر ما تسمع في أحاديثهم عبارات مثل: فلسفتي في الحياة، فلسفة التاريخ، فلسفة اللغة، فلسفة السياسة، وغير ذلك، أما أن تسألهم أن يحددوا معناها المقصود، بحيث يفرقون في هذه العبارات التي أسلفناها بين الحياة وفلسفتها، والتاريخ وفلسفته، واللغة وفلسفتها، والسياسة وفلسفتها، وهكذا، فعندئذ يضيقون بك ذرعا، وينقلبون على اللفظة ذاتها، فيستخدمونها هذه المرة استخداما يحمل معنى الزراية؛ إذ يقولون لك عندئذ «هذه فلسفة»، يريدون بذلك أنك بدأت تخاطبهم بما ليس له عندهم معنى مفهوم.
فإذا شئنا أن نحدثكم عن طريق مقترح نحو فلسفة عربية، أفلا يكون جديرا بنا - بادئ ذي بدء - أن نلقي شعاعا من الضوء على معنى الفلسفة على إطلاقها، قبل أن نتصورها عربية أو غير عربية؟ هل تفهم معنى لقولنا «الخيول العربية» قبل أن تتصور «الخيول» على إطلاقها كيف تكون؟ وهل تدرك معنى لقولنا «اللغة العربية» قبل أن تدرك معنى «اللغة» في خصائصها العامة المشتركة؟ فكذلك لا أحسب أن قولنا «فلسفة عربية» سيحمل إلى أذهاننا معنى محددا، إلا إذا ارتسمت في تلك الأذهان صورة للفلسفة على إطلاقها : ما مقوماتها الأساسية التي بغيرها لا تكون؟
ولعل أوضح وسيلة لبيان ذلك، هي أن نفرق بين مراحل ثلاث، أو قل بين مستويات ثلاثة للإدراك: ففي المستوى الأول ترانا نعيش في صلة مباشرة مع الأشياء من حولنا، وفي تواصل مباشر بعضنا مع بعض، فأنا إذ أرى الأشياء بعيني وألمسها بيدي، وإذ أنظر إلى صديقي فأراه راضيا أو غاضبا، فعندئذ أكون في مستوى الإدراك الأول، وعلى هذا المستوى تجري شئون الحياة اليومية من بيع وشراء، ومن صناعة الصانع لما يصنعه إذ هو يعالج المادة التي يشكلها، ومن زراعة الزارع لأرضه حين يبذر الحب ويروي الزرع ويحصد الحصاد. فهذه وأمثالها كلها أشياء تتم بالصلة المباشرة بين الإنسان من جهة، وما عداه - أو من عداه - من جهة أخرى. وواضح أن ما يتصل به الإنسان في هذه الحالة، هو دائما أشياء بعينها، أو أشخاص بأعينهم، أو مواقف معينة هي كلها مفردات جزئية مما يشغل مكانا محددا، ويقع في لحظة زمنية معلومة، لكن الإنسان لا يقف عند هذا المستوى الذي تشغله مفردات من أشياء وأشخاص ومواقف، لها مكانها ولها زمانها، إلا ريثما يفرغ من شئون حياته اليومية الجارية، وبعدئذ يحدث أن يتخصص من بين الناس نفر يحاولون الوصول إلى قوانين عامة تضبط تلك المفردات، وهؤلاء هم العلماء، كل عالم يختار لنفسه ميدانا يتفرغ للبحث فيه، عن القوانين التي تحكم ظواهره، فإذا نزل علينا المطر ذات يوم، وعشناه ومارسناه، كنا ما نزال في المستوى الذي ندرك فيه الوقائع والحادثات إدراكا مباشرا، أما إذا تفرغ منا واحد لبحث هذه الظاهرة، لعله يجد لنا قوانينها الطبيعية، كان ذلك الواحد عالما في ميدان معلوم من ميادين التخصص، وتراه عندئذ ينتقل من المستوى الأول إلى المستوى الثاني - من حيث تخصيص القول أو تعميمه - فقد كان المتحدث العادي في الحالة الأولى، إنما يتحدث عن حالة معينة خاصة من حالات نزول المطر، أما المتحدث على المستوى العلمي، فيقدم لك قوانين عامة تنطبق على كل حالات المطر، أينما حدثت وفي أي وقت حدثت، وقل ذلك عن شتى نواحي الطبيعة التي نشاهدها، أو نواحي الحياة الإنسانية التي نحياها.
Página desconocida