Renovación del pensamiento árabe
تجديد الفكر العربي
Géneros
لكن الثقافة لم تكن هكذا - فيما أظن - إلا في عهود الضعف والعقم، وأما في عصور القوة والخلق الحضاري فهي وجهة النظر، تضاف إلى ما يعمله العاملون تأسيسا على علم، وإلا فهل تتصور - مثلا في التاريخ المصري القديم كله - أحدا كانت حرفته «الثقافة»؟ كان الواحد من مثقفيهم ينحت التماثيل أو يرسم الصور على المعابد أو يقيم البناء، أو يصوغ الذهب والنحاس، اللهم إلا إذا جعلنا «المثقف» عندهم مرادفا للكاهن، ولو قيل ذلك لكفاني حجة بضرورة أن نتخلص - وبأسرع وقت مستطاع - من جماعة الكهان في حياتنا، أعني جماعة «المثقفين» الذين يروجون لبضاعتهم، وما بضاعتهم إلا كلام في كلام.
عصر التحول عصرنا، ولا تحول لنا إلا إذا أقلعنا بالسفائن من شط ليس فيه، أو لا يكاد يكون فيه، إلا ذرابة اللسان وصناعة الكلام، لنقصد إلى شط آخر، تقوم فيه، لا أقول مهارة الأيدي، فمهارة الأيدي ذهب زمانها أو أوشك، بل تقوم فيه الأجهزة الآلية القادرة بكل ما تقتضيه من علم وكفاءة عند الإنسان الواقف خلفها.
وتسألني: وماذا نحن صانعون بآدابنا وفنوننا ومعارفنا التقليدية كلها، والتي كانت تحتكر عندنا اسم «الثقافة»؟ فأجيبك بأنها مادة للتسلية في ساعات الفراغ، ولم أعد أقول - كما قلت مرارا مقلدا هيوم وجاريا مجراه - لم أعد أقول إنها خليقة بأن يقذف بها في النار. وحسبي هذا القدر من الاعتدال، ابتغاء الوصل بين جديد وقديم. (ج) نقلة من اللفظ إلى معناه
فكرة تؤرقني كلما أصبحت أو أمسيت، وأحسبها مؤرقة لكثيرين غيري، ممن يعنيهم أن تكون لنا - في عصرنا هذا بكل خصائصه - ثقافة عربية لا تخطئها عين ولا أذن، أم هل يكون هذا السعي وراء تفرد متميز، سعيا وراء أوهام وأشباح، في عصر من خصائصه أن تقال الكلمة هنا، فتدور حول الأرض في مثل اللمحة بالبصر؟
ما هي الصفة أو الصفات الرئيسية، التي عنها تتفرغ صفات، إذا ما وقعت عليها عين الرائي في صورة أو تمثال، أو استمعت إليها أذن في قصيدة أو قصة، قال الرائي من فوره - أو السامع - هذا فن عربي وهذا أدب عربي، أنشئ في النصف الثاني من القرن العشرين؟ أم ترى ليس لسؤال كهذا من جواب؟
أما أن الثقافة الإقليمية قد كانت لها الخصائص المميزة في العصور السابقة، فذلك ما لست أظنه موضع خلاف، فقد كان معلوما ومتفقا عليه أن الفرنسيين - مثلا - يتميزون في فكرهم بالوضوح الرياضي، الذي يضع لنفسه المقدمات اليقينية ليستنبط منها نتائج يقينية كذلك، كما استن لهم إمامهم ديكارت، وأنهم من أجل هذه الرغبة في كمال الدقة - أو دقة الكمال - بذلوا عناية ملحوظة في الصقل الشكلي كلما أنتجوا أدبا وفنا، حتى لو جاء هذا الشكل المصقول على حساب المضمون نفسه، فالمسرحية عند راسين أو كورني، هي - كالنسق الفلسفي عند ديكارت - بناء محكم، متصلة حلقاته في غير زائدة هنا أو ناقصة هناك، بل إن العارفين بالحياة الفرنسية فيما مضى ليقولون كذلك، إن نظم الحكم وأساليب الإدارة كانت عندهم بهذه الدقة نفسها - أو قل بهذه الآلية نفسها - التي عرفوا بها في مجالات الفكر والأدب والفن، فلم يكن ثمة فارق - من حيث الجوهر - بين النسق الديكارتي والمسرحية الكلاسية وبيروقراطية الإدارة في دواوين الحكم.
وكان معلوما ومتفقا عليه أن الإنجليز - وهذا مثل آخر - يتميزون في فكرهم بالتقريبية أو الاحتمالية التي تتناسب مع إدراكات الحواس، وهي الإدراكات التي يعولون عليها، فلم تكن المسألة عندهم مسألة إتقان في الشكل نضمن به يقين المقدمات والنتائج، مهما بعد هذا الشكل عن لحم الحياة ودمها، بل المسألة عندهم كانت أولا وأخيرا، إدراكا حسيا للحقائق يكفي أن يشترك فيه الناس ليكون معتمدا ومقبولا. ولا غرابة أن تشيع بين الإنجليز، في حياتهم اليومية وفي حياتهم العلمية على حد سواء، عبارة
Common Sense
التي تترجم حرفيا «حس مشترك»، أي اشتراك الناس في إدراك معين بالحواس، وما دام هذا موقفهم من الفكر، فقد كان حتما كذلك أن يكون هو نفسه موقفهم من الفن أو الأدب، فالمسرحية عند شكسبير لا تلتمس كمالها عن طريق البناء المحكم بقدر ما تلتمسه في فوران التيار وجيشانه، فلا بأس من زائدة هنا أو ناقصة هناك، ما دام العرق ينبض بالحياة من أول سطر في المسرحية إلى آخر سطر، وهل تلتزم الحياة أحكاما في بناء كائناتها؟ هل تتحرج الحياة من أن تمتد فروع الشجرة طويلة هنا قصيرة هناك، غنية بأوراقها في الجانب الأيمن، فقيرة بها في الجانب الأيسر؟ لكن الشجرة مع هذه الحرية كلها في طريقة نمائها، هي الشجرة الحياة في وحدتها وكيانها.
وكان معلوما ومتفقا عليه أن الأمريكيين - وهذا مثل ثالث - قد بنوا فكرهم على قاعدة المنفعة، فالفكرة تقاس بنفعها، فهي صواب إذا نفعت وهي خطأ إذا لم تنفع، ولا يكفي عندهم أن يقاس صواب الفكرة بسلامة استدلالها، من فكرة غيرها، وإلا دارت الطاحونة على خلاء، وأمحلت الأرض وسكنت العجلات وجاعت البطون. وإنك لتجد لهذا المبدأ انعكاسات شتى في السياسة والتربية والأدب والفن، فليس للسياسة عندهم غايات في ذاتها تدوم دوام الأبد، بل إن وقفاتها لتدور مع المنفعة المرجوة وجودا وعدما، وليس للتربية مواد يتحتم درسها في المعاهد مهما تكن الظروف، بل التربية إعداد للفرد يعينه على النجاح في المصانع والأسواق، والأدب عندهم مليء بأمثلة تدل على أن مدار القيمة هو على النجاح، وعلى أن هذا النجاح يقاس بمقدار الكسب ومنه سدت أمامه موارد الكسب اضطربت نفسه إلى حد الموت في كثير من الأحيان. •••
Página desconocida