47

Experimentos filosóficos

تجارب فلسفية

Géneros

ولعله أن يكون قد استشعر ما أحس به شاعرنا العربي القديم عندما قال بيته المشهور:

وتحسب أنك جرم صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

والواقع أن فكرة الإنسان ككون صغير فكرة قديمة ومأثورة في الفكر اليوناني القديم وفي أواخر العصر الوسيط.

ونرجع إلى تصور شيلر للشخص والشخصانية، فنقول إنه يميز بين الوظائف والأفعال، فمن الوظائف على سبيل المثال وظائف حسية كالشم والبصر والسمع، وإذا بقي الموضوع المدرك من خلال هذه الوظائف موحدا وغير متفرق أو منقسم، فلا يمكن تفسير وحدة الموضوعات التي يدركها آلات الإنسان أو يعرفها من خلال الوظائف الحسية وحدها؛ إذ يتم في نفس الوقت شيء آخر يجعل الموضوع المعروف موحدا، وهذا الشيء يسميه شيلر بالنشاط الفعلي والقصدي، الذي يتجلى في أفعال محددة كالإحساس والتصور والحكم. ويترتب على ذلك تمييز الفيلسوف بين الأنا أو الوعي الذاتي من جهة، والشخص الإنساني من جهة أخرى؛ فالأنا تتعلق بالوظائف والبيئة المحيطة، أما الشخص فتتعلق به الأفعال والعالم ككل. وقد حرص شيلر على تخليص مفهومه عن الشخص من مفاهيم علم النفس، وتنقيته من أي تفسير أو وصف أو ملاحظة تقوم بها النزعة النفسية. ولو لم يفعل ذلك لما كان من حقه الانتساب إلى فلسفة الظاهرات، التي شنت حربا ضارية على النزعة النفسية في المعرفة والمنطق؛ ذلك لأنه يبحث أساسا عن مبدأ يمكن أن يفسر كل ما يجريه الإنسان أو يلاحظه نفسيا، وهو مبدأ لا يمكن أن يكون نفسيا لأنه مبدأ فلسفي متعال، وهذا المبدأ هو الذي نطلق عليه اسم الشخص. ويشرح شيلر هذا كله بعبارات أوضح، فيقول إن جميع الوظائف هي في المقام الأول وظائف الأنا، ولا تنتمي أبدا إلى مجال الشخص . أضف إلى هذا أن الوظائف نفسية، بينما الأفعال غير نفسية. الوظائف تفترض بالضرورة وجود جسد وبيئة محيطة تتعلق بهما «ظواهرهما»، أما مع الشخص والفعل فلا يفترض وجود جسد، كما أن الشخص ينتمي إلى عالم لا إلى بيئة محيطة به، والأفعال تصدر عن الشخص وتحقق في الزمان، بينما الوظائف وقائع تتم في المجال المتعالي أو الظاهري للزمن. والخلاصة أن المقصود بالشخص في مقابل الأنا

15

أنه، أي الشخص، «يتصف بالكلية أو الشمول المكتفي بذاته». ويستطرد الفيلسوف فيقول إن «الأنا» يتعلق بها بالضرورة «أنت»، وليس الحال كذلك مع الشخص؛ فالشخص مطلق، بينما الأنا المتعلقة بالأنت شيء نسبي. ولما كانت القصدية الفعالة والأفعال القصدية - التي تنشأ معها موضوعات المعرفة والشعور - لا توجد إلا بوجود الشخص الإنساني، فينتج عن ذلك ضرورة ألا يكون هذا الشخص موضوعا، وألا يعامل معاملة الموضوع؛ فالشخص هو ذلك الذي يربط الأفعال المختلفة في وحدة واحدة؛ ومن ثم يقدر على تفسير الوحدة أو الهوية. وهكذا يكون من الطبيعي أن نتوقع إمكان الوجود الشخصي كلما ظهرت أمامنا وحدة «للعالم أو للإنسان»؛ فوجود الشخص هو الذي تتأسس عليه جميع الأفعال الماهوية المختلفة. وينبهنا شيلر إلى ضرورة تمييز الشخصي من الفرد وعدم الخلط بينهما؛ فالوجود الشخصي غير مقصور على الوجود الإنساني، كما أن الوجود الشخصي داخل هذا الوجود الإنساني لا يعني الوجود الفردي أو الجزئي فحسب، وإنما ينصرف دائما وفي نفس الوقت إلى وجود وحدة اجتماعية أو جماعة مؤلفة من أشخاص. وكثيرا ما يتكلم شيلر عن الشخص المفرد وعن الشخص المجموع أو الجماعي، وهو يوضح ذلك بأن الأفعال الفردية، كالوعي بالذات أو احترام الذات أو حب الذات، تكملها الأفعال التي تتصف بالجماعية، وتنبع من الحياة المشتركة والشعور والوعي المشترك. بهذا يمكن النظر إلى المجتمعات المختلفة وإلى تاريخها باعتبارها «وحدات»، يختلف بعضها عن بعض باختلاف عالم القيم المرتبط بوجود الأشخاص الذين حققوه أو جسدوه في هذا المجتمع أو ذاك، وفي هذه الحقيقة أو تلك من تاريخه. وهكذا يمثل المجتمع المعين «كونا جزئيا» من نظام أو عاما للقيم، كما يصبح التاريخ هو الحركة التي يستكمل فيها شمول نظام القيم أو بنيته الكلية. وهذه الأفكار نفسها ستكون هي الأساس الذي سيبني عليه شيلر فلسفته المتأخرة في نظرية المجتمع وفي الميتافيزيقا. ونسأل في النهاية: أين وكيف يمكن التعرف على وجود الشخص إذا كان من المستحيل أن يكون موضوعيا أو يتحول إلى موضوع؟

إن الأسلوب الوحيد والمطلق لوجوده هو تحقيقه لأفعاله؛ فالشخص هو الوحدة الحية أو الوحدة المباشرة للتجربة الحية، وليس على الإطلاق شيئا يصطنعه الفكر وراء أو خارج ما نجربه تجربة مباشرة. ويترتب على هذا ألا يكون الشخص - كما تقول لغة كانط - فكرة تنظيمية، ولا وعيا متعاليا نسلم بوجوده لكي نعيد بناء سياق تبريري «معقول»؛ ذلك لأن الشخص يحيل إلى التجربة، كما أن التجربة تحيل إلى الشخص، وما دام الشخص غير موضوعي ولا يمكن أن يكون موضوعا، فإنه لا يتحقق إلا من خلال تجربة جماعية مشتركة وأفعال محققة للقيم، يقوم بها أشخاص مع الجماعة ومن أجلها. ولو تذكرنا الآن ما سبق قوله عن تراتب القيم لوجدنا أن القيم العليا وحدها في ذلك التراتب هي القيم الشخصية بحق، وأن هذه الطبيعة أو الماهية الشخصية مرتبطة أوثق ارتباط بأفعال المشاركة التي يحددها الحب، وهذه الأفعال هي التي تبث في ذلك التراتب كله حركة ديناميكية نشطة، تهدف لبلوغ المستويات الشخصية التي تستطيع وحدها تحقيق القيم العليا، بل إن الحب والإنسان جميعا ليتحولان إلى حركة تتفتح فيها أسمى القيم الشخصية، وتفسير ذلك ببساطة أن الإنسان ليس «شيئا»، وإنما هو اتجاه.

عرفنا مما سبق كيف يؤكد شيلر أن الفينومينولوجيا أو فلسفة الظاهرات، هي في صميمها موقف عقلي يتخذه الإنسان من العالم، وتتحقق من خلاله رؤية «ماهيات» جميع الموجودات رؤية مباشرة حية وعميقة إلى أبعد حد ممكن. وقد أوضح ذلك بتمييزه لهذه الرؤية عن الرؤية الطبيعية للعالم، وهي التي تعبر عن موقف العقل الطبيعي العام، أو العقل والحس السليم الذي يسلم بواقعية الأشياء وحقيقتها كما تتبدى للنظرة الطبيعية العامة، وتميزه لها كذلك عن الرؤية العلمية في العلوم الوضعية المختلفة، التي تنطلق من الأسئلة والمشكلات التي ترصدها الملاحظة، وتتذرع بالمنهج العلمي المألوف في الإجابة على تلك الأسئلة، عن طريق التجربة وفرض الفروض واختبار صحتها واستخلاص النتائج الضرورية، وعامة الصدف التي يعبر عنها في معظم الأحوال تعبيرا رياضيا؛ فشروق الشمس وغروبها كما تظهر للرؤية الطبيعية تحولها الرؤية العلمية إلى صيغ رياضية معبرة عن هذا المسار الفلكي. وقد طبق شيلر رؤيته الظاهرية

16

Página desconocida