40

Experimentos filosóficos

تجارب فلسفية

Géneros

وأخيرا فقد تشتت أبناء الجيل الأول من مدرسة فرانكفورت مع بداية الثمانينيات، وبقيت أفكارهم الثورية بغير أثر علمي ملموس، وانفضت عنهم حركة الطلاب المتمردين، وأحكمت الدولة الرأسمالية الليبرالية قبضتها البوليسية والبيروقراطية على زمام الأمور لتثبيت الأوضاع القائمة، وراحت تطارد اليسار الجديد كله - وعلى رأسه رواد المدرسة وتلاميذهم - وتتهمهم بإشعال نيران الفوضى والإرهاب، وتدمير التراث المسيحي للغرب! ولكن المدرسة ظلت حية في الجيل التالي، الذي ما يزال ممثلوه ممسكين بالخيوط التي نسجها الرواد، عاكفين على مواصلة تراثها النقدي الثوري وبلورة نظريتها النقدية، متمسكين بالأمل في واقع إنساني جديد، يسوده الحرية والعقل والاستنارة، والتفاهم والتضامن بين البشر، ويختفي منه القمع والقهر والظلم وتزييف الوعي. وإذا كان المصير الذي لقيه رواد المدرسة شبيها إلى حد كبير بمصير الحركة التعبيرية في الفن والأدب،

20

فإن استمرار جهود الجيل الحاضر من المنظرين النقديين (وعلى رأسهم يورجن هابرماس وأوسكار نيجت)، وتزايد الاهتمام بهم في دوائر البحث الفلسفي والاجتماعي، وترجمة أعمالهم إلى معظم اللغات الحية، يقوي كذلك من أمل كاتب هذه السطور في أن يساعد هذا التمهيد المتواضع على دراستهم وتعلم التفكير النقدي (العلمي والثوري) منهم. لعل ذلك أن يعجل بتغيير واقعنا الراكد الجامد، وينقذنا من اغترابه عنا واغترابنا عنه.

هوامش

العقل على عرش العالم

مدخل إلى حياة ماكس شيلر وفلسفته

ولد ماكس فرديناند شيلر في الثاني والعشرين من شهر أغسطس سنة 1874م في مدينة ميونيج، لأب بروتستانتي من ملاك الأراضي هو جوتليب شيلر (1831-1900م). تحول إلى الديانة اليهودية لكي يتزوج من الأم صوفيا فيرنز، التي ولدت سنة 1844م، وعاشت في ضيعة بالقرب من مدينة بايرويت قبل أن تنتقل للحياة مع زوجها في مدينة كوبرج - ولاية فرانكن العليا - ثم تستقر مع أسرتها في مدينة ميونيخ.

وجد الصغير ماكس نفسه منذ البداية في جو عائلي مشحون بالتوتر والصراع والقلق؛ فالأم التي تنحدر من أصل يهودي امرأة نرجسية متسلطة بجانب نزعتها المتزمتة، وإسرافها إلى حد البذخ في حياتها العادية. لقد سعدت بالانتقال إلى ميونيخ لتعيش بالقرب من شقيقها الثري الأعزب الذي يفترض أن يرثه ابنها؛ ولذلك أرغمته أن يكون صورة من خاله، وقهرته على مجاراته في تصوراته وعاداته وطقوسه الدينية، في الوقت الذي كان فيه الأب يتحمل في صمت واستسلام، والابن يتألم من معاملة أمه الباردة لشقيقته هيرمن (انتحرت فيما بعد)، التي كان هو وأبوه يحبانها كل الحب. وخضع الصغير لقهر الأم - التي تركت في نفسه من الاضطراب والتمزق ما لم يمحه الزمن أبدا - فاضطر لتعلم طقوس العبادة، والمواظبة على حضور دروس الديانة اليهودية؛ الأمر الذي دفعه بعد ذلك للتحرر من كل القيود التي تفرض عليه، وتحكيم شعوره وعاطفته في كل ما يؤمن به عن اقتناع باطن، لا سيما في شئون العقيدة التي طالما شهدت تحولاته المفاجئة.

لم تترك ظروف الأسرة المتصدعة للطفل الصغير أي فرصة للإحساس بأنه «في بيته»، كما لم تسمح له بأي وسيلة للخروج من هذا البيت والانفصال عن عائلته، وتضاعف شعوره منذ الطفولة بالتناقضات والصراعات التي عششت كالظلمات في جذوره كأنها ميراث عائلي لا فكاك منه. وإذا كان كل من اتصل به أو تعامل معه بعد ذلك قد لفحته أنفاس طفولته وعبير براءته وطيبته المطلقة، فقد لازمه الشعور بأن هذه «الطفولة» هي مكمن الأخطار التي تهدد وجوده؛ ولذلك ظل شديد الحرص على أن يقرن النزعة الطفلية البريئة بالعقل من ناحية، والطيبة والخير والإحسان من ناحية أخرى، وكأنهما جناحا طائر لا غنى لأحدهما عن الآخر. وهكذا دأب طوال حياته على احتضان الجوانب الخيرة من ذلك الصراع المستمر، سواء في أعماق روحه أو في الآخرين أو في التاريخ البشري العام. ومرت الأيام ودارت به رحى الدرس والدراسة والتدريس، فأصبح فيلسوف الحب والتعاطف الذي لم يكن همه أن يتوسع في الأفكار الموروثة عن الحب عند أفلاطون أو القديس أوغسطين أو باسكال وغيرهم، بل أن يضيء هذا الجانب الطفولي الخير المستقر في أعماقه بأنوار العقل. ولعل هذا هو السر الكامن وراء طفراته وتحولاته القلقة المفاجئة؛ إذ يحكى أنه استعان في صباه المبكر ببعض زملاء الدراسة الكاثوليكيين لكي يتعرف عن قرب على العقيدة والكنيسة الكاثوليكية، اللتين أصبح بعد ذلك من كبار الدعاة المروجين لهما، قبل أن ينفصل عنهما انفصالا باتا في أوائل العشرينيات من القرن الماضي، ويتجه بكليته وتحت تأثير حبه وإجلاله لاسبينوزا إلى رؤية شمولية أقرب ما تكون إلى مذهب وحدة الوجود.

لم تجر حياته في المدرسة الثانوية على ما يشتهي الأب والأهل المقربون منه؛ فقد تعثر كثيرا في معظم المواد الدراسية حتى وصف بالكسل والبلادة . وكان أن أدخله أهله معهدا خاصا شهد مديره ومعلمه في نفس الوقت بأنه حول إليه من الصف السادس الثانوي بعد حصوله في أكثر المواد على أسوأ العلامات، وأن كل ما كان يدور في ذلك المعهد لم يكن يهز وترا واحدا في قلبه. ولكنه بالرغم من اضطرابه الشديد كان واضح الموهبة، وتجلت هذه الموهبة في عشقه للأدب وسعة اطلاعه فيه، كما ظهرت في ذلك العمر المبكر في اتجاهه للفلسفة والفلاسفة، وبالأخص نيتشه، الذي شجعه أحد أخواله على قراءته، واستمر تأثيره عليه حتى بعض أعماله المتأخرة التي يصعب تصورها بدون تعمقه في دراسة فيلسوف إرادة القوة ومناقشته لآرائه. وحصل شيلر سنة 1894م على شهادة الثانوية من مدرسة لودفيج في ميونيخ وهو يبلغ من العمر تسعة عشر عاما. ويشهد أحد زملاء دراسته في المعهد الخاص الذي سبق ذكره، على حضور بديهته وقدرته على إفحام الخصوم، بحيث كان دائما سيد الموقف. لم يكن الصبي يضع اعتبارا لأي شيء أو أي شخص مهما علا شأنه؛ لأن الشيء الوحيد الذي كان يهمه أمره هو الجهر بالحقيقة كما يراها من وجهة نظره. ويستطرد زميل الدراسة، فيقول إنه كان في ذلك الوقت مقتنعا بأفكار الحزب الديمقراطي الاشتراكي، ثم تحمس فجأة للماركسية. وسوف نعرف بعد ذلك ما لم يعرفه زميله أو ما لم يسمع به، وهو تحوله بكل كيانه إلى الكاثوليكية، ثم تحوله المباغت عنها. وبدأت الدراسة الجادة في خريف سنة 1894م، سجل نفسه في البداية لدراسة الفلسفة وعلم النفس، وفي الفصل الدراسي التالي قيد نفسه في كلية الطب، وشد الرحال إلى برلين وهدفه دراسة الطب، ولكنه لم يستمع إلا إلى المحاضرات الفلسفية التي كان يلقيها آنذاك فيلسوف الحياة فيلهلم دلتاي (1833-1911م)، وفيلسوف الاجتماع والمعرفة والتاريخ والحضارة جورج زيميل (1858-1918م). وبعد مرور عام آخر واصل دراسته في جامعة «يينا»، وأنهاها بالحصول على الدكتوراه الأولى سنة 1897م عن رسالة تحت إشراف الأستاذ الذي أحبه وأجله، وتعلم منه التزامه ومسئوليته الجادة عن إحياء الحياة الروحية للبشر، وهو رودلف أويكن، وكانت تحت عنوان «مساهمات لتحديد العلاقات القائمة بين المبادئ المنطقية والمبادئ الأخلاقية».

Página desconocida