إن المنطق القديم يحتاج إلى تغيير شامل. والواقع أن الشعور بالحاجة إلى تعديله شعور موغل في القدم، وهو من ناحية الشكل والمضمون التي يظهر بها في المراجع الدراسية قد حظي - إن جاز هذا القول - بالاحتقار. وإذا كان الناس لا يكفون عن التمسك به، فما ذلك إلا لإحساسهم بأن المنطق بوجه عام شيء لا غنى عنه، وتعودهم على الاعتقاد بأهميته المرتكزة على تراث طويل، لا عن اقتناع بأن ذلك المضمون المألوف، والانشغال بتلك الأشكال الفارغة، لهما قيمة أو نفع حقيقي.
25
ثم يستطرد قائلا عن منهجه الجدلي: «وإذا كنت لا أنكر أن المنهج الذي اتبعته في هذا النسق المنطقي - أو بالأحرى الذي يتبعه هذا النسق نفسه - يحتاج إلى المزيد من الاستكمال، وأنه يقبل إدخال تفصيلات جزئية عليه، فإنني أعلم في الوقت نفسه أنه هو المنهج الحقيقي الوحيد. ويتجلى هذا بوضوح إذا عرفنا أنه ليس شيئا مختلفا عن موضوعه ومضمونه؛ لأن المضمون في ذاته، أي الجدل (الديالكتيك) الذي ينطوي عليه في ذاته، هو الذي يدفعه على الحركة المستمرة. ومن الواضح أنه لا يمكن أن يتصف أي عرض بصفة العلم ما لم يتبع مسار هذا المنهج ويتفق مع إيقاعه البسيط؛ لأنه هو مسار الموضوع ذاته.»
26
ولو رجعنا بالذاكرة إلى كانط لوجدناه يصور الجدل في صورة «فن مظهري» يخلع على جميع معارفنا شكلا ذهنيا، حتى إذا تحققنا من مضمونه وجدناه أجوف شديد الفقر، وتأكد لنا أن ذلك المنطق العام (أي الجدل)، الذي لا يخرج عن كونه قانونا للحكم، قد أصبح أشبه بآلة (أورجانون) تستخدم، أو بالأحرى يساء استخدامها ، لإنتاج مزاعم تخدعنا بمظهرها الموضوعي.
27
هذه الصورة لا يمكن بطبيعة الحال أن تقارن، من قريب أو من بعيد، بصورته الحقيقية والعلمية عند هيجل، ومع ذلك فإن هيجل يعترف بفضل كانط، ويقره على قوله بأن التفكير الجدلي جزء لا يتجزأ من تكوين العقل، وإن خالفه بالطبع في إدانته لمعرفته «المظهرية» أو الوهمية: «لقد وضع كانط الجدل في مكان رفيع، وهذا من أجل أفضاله؛ فقد نزع منه مظهر التعسف الذي ألصقه به التصور العادي، وعرضه في صورة فعل ضروري من أفعال العقل.»
28
وهكذا تحول المظهر الضروري، وتحولت المعرفة الوهمية العقيمة، إلى لحظة موضوعية ومنهجية من لحظات التفكير، بل إن هذه اللحظة المعبرة عن الحركة الذاتية للتفكير تصبح في نظره هي «النواة» المنهجية والموضوعية للفلسفة نفسها. وما أكثر نصوص هيجل التي تؤكد أن الفلسفة ليست هي حركة الفكر المدرك فحسب، وإنما هي - قبل كل شيء - حركة الفكر الذي يدرك ذاته، وبه تبدأ الفلسفة بدايتها الحقيقية؛ فالفلسفة تبدأ حيث يدرك العام بوصفه الوجود الشامل، أو حيث ينظر إلى الوجود بطريقة عامة يظهر معها التفكير في التفكير.
29
Página desconocida