الجزء الأول
1 - منزلق العبارات
2 - الحاضرة
3 - دولارات
4 - القضبان
5 - المدحلة البخارية
الجزء الثاني
1 - سيدة عظيمة على حصان أبيض
2 - جاك ذو السيقان الطويلة الذي أتى من البرزخ
3 - ضجة سريعة
4 - سيارة الإطفاء
5 - الذهاب إلى معرض الحيوانات
6 - خمس مسائل قانونية
7 - الأفعوانية
8 - نهر واحد أخير للأردن
الجزء الثالث
1 - المدينة المبتهجة الساكنة مطمئنة
2 - تذكرة سينما بنيكل واحد
3 - الأبواب الدوارة
4 - ناطحة السحاب
5 - عبء نينوى
الجزء الأول
1 - منزلق العبارات
2 - الحاضرة
3 - دولارات
4 - القضبان
5 - المدحلة البخارية
الجزء الثاني
1 - سيدة عظيمة على حصان أبيض
2 - جاك ذو السيقان الطويلة الذي أتى من البرزخ
3 - ضجة سريعة
4 - سيارة الإطفاء
5 - الذهاب إلى معرض الحيوانات
6 - خمس مسائل قانونية
7 - الأفعوانية
8 - نهر واحد أخير للأردن
الجزء الثالث
1 - المدينة المبتهجة الساكنة مطمئنة
2 - تذكرة سينما بنيكل واحد
3 - الأبواب الدوارة
4 - ناطحة السحاب
5 - عبء نينوى
تحويلة مانهاتن
تحويلة مانهاتن
تأليف
جون دوس باسوس
ترجمة
ياسمين العربي
مراجعة
هاني فتحي سليمان
الجزء الأول
الفصل الأول
منزلق العبارات
تدور ثلاثة نوارس فوق الصناديق المكسورة، وقشر البرتقال، ورءوس الملفوف الفاسدة التي تتمايل بين الجدران الخشبية المتشققة، والأمواج الخضراء المتزبدة أسفل المقدمة المستديرة للعبارة، التي يدفعها المد فتضرب المياه المندفعة وترتشفها بنهم، منزلقة ومستقرة ببطء في المنزلق. تدور الرافعات اليدوية مصلصلة سلاسلها. تطوى البوابات لأعلى، وتسرع الأقدام في الخطى خروجا عبر الفرجة، ويندفع الرجال والنساء عبر النفق الخشبي الكريه الرائحة لرصيف العبارات، متدافعين ومتلاصقين كتفاحات تعبأ في قمع عصارة فواكه.
تمسك ممرضة بسلة بطول ذراعها كما لو كانت نونية سرير، وتفتح الباب على غرفة ساخنة وجافة وكبيرة ذات جدران مطلية بطلاء مائي يميل لونه إلى اللون الأخضر، حيث يتعكر الهواء بروائح الكحول واليودوفورم المعلق مع حامض آخر خافت الرائحة، والتي تنطلق قوية من سلال أخرى على طول الحائط. عندما وضعت سلتها، ألقت عليها نظرة خاطفة زامة شفتيها. كانت الطفلة الحديثة الولادة تتلوى وسط القطن الطبي، واهنة القوى كأنشوطة من ديدان الأرض.
كان ثمة رجل هرم على متن العبارة يعزف على آلة الكمان. كان له وجه كوجه قرد مجعد في إحدى زواياه، وكان يضبط إيقاع عزفه بتحريك إصبع يظهر من حذائه المشقوق المصنوع من الجلد اللامع. جلس بود كوربينينج على السور يشاهده، وظهره إلى النهر. جعل النسيم شعره يتحرك حول الحافة الرفيعة لقبعته، وجفف العرق على صدغيه. كانت قدماه متقرحتين، وكان منهكا حد الشحوب، ولكن عندما خرجت العبارة من المنزلق، راكلة موجات النهر الملتفة والمتلاطمة، شعر بشيء دافئ ووخز ينطلق فجأة في جميع عروقه. سأل شابا يرتدي قبعة قشية وربطة عنق مخططة باللونين الأزرق والأبيض كان يقف بجانبه: «أخبرني يا صديقي، كم تبعد المدينة من مكان رسو هذه العبارة؟»
انتقلت نظرة الشاب لأعلى من حذاء بود الذي أثخنه السير على الطريق إلى معصمه الأحمر الذي خرج من كم معطفه الرثة، مارا بحلقه الأشبه بحلق ديك رومي هزيل، ومنسلا بغطرسة لأعلى إلى عينيه المتوقدتين أسفل قبعته المكسورة الحافة. «يعتمد هذا على المكان الذي تريد أن تذهب إليه.» «كيف أصل إلى برودواي؟ ... أريد أن أصل إلى مركز كل شيء.» «سر شرقا مسافة مربع سكني، وانعطف إلى شارع برودواي، وستجد مركز كل شيء إذا مشيت لمسافة كبيرة بما يكفي.» «شكرا لك يا سيدي. سأفعل ذلك.»
كان عازف الكمان يمر بين الحشد حاملا قبعته، والريح تجعد خصلات الشعر الرمادي على رأسه الأصلع الأجرد. وجد بود أن وجه الرجل يميل لأعلى نحوه بعينيه المنسحقتين كدبوسين سوداوين ينظران إلى وجهه. قال بصوت أجش: «ليس معي شيء»، واستدار ناظرا لرحابة النهر في لمعته كأنصال السكاكين. انغلقت الجدران الخشبية للمنزلق، متصدعة عندما ترنحت العبارة تجاهها؛ فصدرت قعقعة السلاسل، ودفع بود إلى الأمام بين الحشد عبر مبنى محطة العبارات. سار بين عربتي فحم، وخرج إلى شارع فسيح يملؤه الغبار باتجاه عربات الترام الصفراء. انتابت ركبتيه رجفة. دس يديه عميقا في جيبيه. «مأكولات»، هكذا كان مكتوبا على لافته عربة طعام في منتصف المربع السكني. ارتمى بقوة على كرسي دوار بلا ظهر أو ذراعين، ونظر طويلا في قائمة الأسعار. «بيض مقلي وكوب من القهوة.»
سأل الرجل ذو الشعر الأحمر في الجهة الأخرى من المنضدة، والذي كان يمسح ساعديه البدينين المبقعين بالنمش بمئزره: «أتريده مطهوا على جانبين؟» قام بود كوربينينج جافلا. «ماذا؟» «البيض؟ هل تريده مطهوا على جانبين أم جانب واحد؟» «أوه، بالتأكيد، على جانبين.» ارتمى بود إلى المنضدة مرة أخرى ورأسه بين يديه.
قال الرجل وهو يكسر البيض فوق الشحم المتناثر في المقلاة: «تبدو متعبا للغاية يا رجل.» «جئت من شمال البلاد. ومشيت 15 ميلا هذا الصباح.»
أصدر الرجل صوت صفير من بين أنيابه. «أتيت إلى المدينة الكبيرة للبحث عن عمل، أليس كذلك؟»
أومأ بود موافقا. وضع الرجل البيض وهو لا يزال ساخنا ويتخلله بعض اللون البني على الطبق ودفعه في اتجاه بود مع بعض الخبز والزبد على حافته. «سأقدم لك نصيحة صغيرة يا صاحبي، ولن تكلفك شيئا. اذهب واحلق ذقنك، وقص شعرك، وانفض قليلا عن بذلتك بذور القش تلك قبل أن تبدأ في البحث عن عمل. ستزيد فرصتك بذلك في الحصول على شيء. فالمظهر هو ما يهم في هذه المدينة.»
قال بود هادرا، وفمه مملوء بالطعام: «يمكنني العمل بكفاءة. أنا عامل جيد.»
قال الرجل ذو الشعر الأحمر قبل أن يعود إلى موقده: «صدقني، هذا هو كل شيء.» •••
كان إد تاتشر يرتجف عندما صعد الدرجات الرخامية لمدخل المستشفى الفسيح. علقت رائحة الدواء في حلقه. وكانت امرأة ذات وجه متيبس تنظر إليه من فوق سطح مكتبها. فحاول التحكم في صوته. «هل يمكنك أن تخبريني كيف حال السيدة تاتشر؟» «أجل، يمكنك الصعود.» «ولكن من فضلك يا آنسة، هل كل شيء على ما يرام؟» «ستجد الممرضة في الطابق لديها جميع المعلومات حول الحالة. الدرج إلى اليسار، الطابق الثالث، جناح الولادة.»
كان إد تاتشر يحمل مجموعة من الزهور ملفوفة في ورق هدايا أخضر. كان يشعر بأن الدرج الواسع يتمايل أسفل خطواته المتعثرة، وتصطدم أطراف قدميه بالقضبان النحاسية التي تثبت الحصيرة المصنوعة من الألياف. قطع إغلاق الباب صرخة مخنوقة. أوقف إحدى الممرضات. «أريد أن أرى السيدة تاتشر من فضلك.» «تفضل إذا كنت تعرف مكانها.» «لكنهم نقلوها.» «عليك أن تسأل عند المكتب في نهاية الردهة.»
عض على شفتيه الباردتين. وفي نهاية الردهة، نظرت إليه مبتسمة امرأة زهراء الوجه. «كل شيء على ما يرام. أنت أب سعيد لطفلة مفعمة بالحيوية.»
قال متلعثما بعينين طارفتين: «إنها أول مولود لنا، وسوزي بالغة الرقة.» «أوه، أجل، أتفهم ذلك، كنت قلقا بطبيعة الحال ... يمكنك الدخول والتحدث إليها عندما تستيقظ. ولدت الطفلة منذ ساعتين. احرص على ألا تتعبها.»
كان إد تاتشر رجلا صغير الجسم ذا خصلتين من الشعر الأشقر في شاربه وعينين رماديتين باهتتين. أمسك بيد الممرضة وصافحها كاشفا بابتسامة عن جميع أسنانه الصفراء غير المستوية. «كما تعلمين إنها مولودنا الأول.»
قالت الممرضة: «تهاني.»
اصطفت الأسرة أسفل مصباح الغاز الصفراوي، وانبعثت رائحة المرض الكريهة من الملاءات التي يتلوى فوقها المرضى بلا هوادة، وثمة وجوه سمينة، وهزيلة، وصفراء، وبيضاء، وها هي. كان شعر سوزي الأصفر في لفافة فضفاضة حول وجهها الأبيض الصغير، الذي بدا ذابلا ومنكمشا. فك لفافة الورود ووضعها على منضدة السرير الجانبية. كان النظر من النافذة كالنظر إلى الأسفل في الماء. كانت الأشجار في الساحة متشابكة كبيوت العنكبوت الزرقاء. كانت مصابيح المربعات السكنية المميزة يتقدم نورها في الجادة باللون الأرجواني الضارب إلى القرميدي ذي لمعة خضراء، وكانت أبراج المداخن وخزانات المياه تشق بحدة سماء متوردة كاللحم. رفع الجفنان الزرقاوان عن عينيها. «أهذا أنت يا إد؟ ... عجبا يا إد، إنها ورود جاك. يا لإسرافك.» «لم أستطع مقاومتها يا عزيزتي. فأنا أعلم أنك تحبينها.»
كانت إحدى الممرضات تمشي بالقرب من طرف السرير. «ألا يمكنك أن تسمحي لنا برؤية الطفلة يا آنسة؟»
أومأت الممرضة. كانت امرأة باهتة الوجه ذات فك هزيل وشفتين مطبقتين.
همست سوزي قائلة: «إنني أكرهها. فهي تثير عصبيتي كما تفعل النساء؛ إنها لا تعدو كونها خادمة عجوزا خسيسة.» «لا تهتمي لأمرها يا عزيزتي؛ فما هو سوى يوم أو يومين ...» أغلقت سوزي عينيها. «أما زلت تريد أن تسميها إلين؟»
ذهبت الممرضة وعادت بسلة ووضعتها على السرير بجوار سوزي.
قال إد: «أوه، أليست رائعة! انظري، إنها تتنفس ... وقد رطبوا جسمها بالزيت.» ساعد بذراعيه زوجته في رفع نفسها على السرير؛ فانفكت اللفافة الصفراء فوق شعرها، وسقطت على يده وذراعه. «كيف يمكنك تمييز الأطفال أيتها الممرضة؟»
قالت الممرضة، وهي تمد فمها في ابتسامة: «أحيانا لا يمكننا ذلك.» كانت سوزي تنظر بارتياب إلى ذلك الوجه الأرجواني الدقيق القسمات. «هل أنت متأكدة من أن هذه طفلتي.» «بالطبع.» «ولكنكم لم تضعوا أي بطاقة تعريف لها.» «سأضع لها بطاقة في الحال.» «لكن طفلتي كانت سمراء.» أسندت سوزي ظهرها على الوسادة، لاهثة لالتقاط أنفاسها. «إن لديها قليلا من الزغب الفاتح الجميل في لون شعرك تماما.»
مدت سوزي ذراعيها أمام رأسها، وصرخت قائلة: «إنها ليست طفلتي. ليست طفلتي. خذيها بعيدا ... تلك المرأة سرقت طفلتي.» «عزيزتي، أرجوك! عزيزتي، أرجوك!» وحاول تدثيرها بالأغطية.
قالت الممرضة بهدوء وهي ترفع السلة: «إن حالتها سيئة للغاية. سأضطر إلى إعطائها مهدئا.»
جلست سوزي متصلبة في السرير. صاحت ودخلت في نوبات هستيرية، مطلقة صراخا مستمرا ذا أنين خائر القوى: «خذيها بعيدا.»
صاح إد تاتشر مشبكا يديه: «يا إلهي!» «يستحسن أن تغادر الليلة يا سيد تاتشر ... ستهدأ، بمجرد رحيلك ... سأضع الورود في الماء.»
في الطابق الأخير، تعرف على رجل ممتلئ الجسم كان يمشي ببطء فاركا يديه عندما مر به. التقت عيونهما.
سأل الرجل البدين: «هل كل شيء على ما يرام يا سيدي؟»
قال تاتشر بوهن: «أوه أجل، أظن ذلك.»
التفت إليه الرجل البدين، وقد فاضت البهجة عبر صوته الثخين. «هنئني، هنئني؛ لقد أنجبت زوجتي ولدا.»
صافح تاتشر يده الصغيرة البدينة. وقال على استحياء: «أما أنا فزوجتي أنجبت بنتا.» «إنها خامس سنة، وفي كل مرة تنجب بنتا، والآن ها هو، ولد.»
قال إد تاتشر، وهما يخرجان إلى الرصيف: «أجل، إنها لحظة عظيمة.» «هلا تسمح لي أن أدعوك لاحتساء مشروب تهنئة معي؟» «بالطبع، يسعدني ذلك.»
كانت الأجزاء العلوية للأبواب ذات الشبكات تتأرجح في الحانة عند ناصية الجادة الثالثة. ماسحين نعليهما تأدبا، دخلا إلى الغرفة الخلفية.
قال الرجل الألماني عندما جلسا إلى طاولة بنية ذات ندبات: «أوه، إن الحياة العائلية مليئة بالهموم .» «أهي كذلك يا سيدي؛ فهذه هي المرة الأولى التي أحظى فيها بمولود.» «هل ستشرب الجعة؟» «لا بأس، أي شيء يناسبني.» «زجاجتا جعة كالمباتشر لضيفينا المرهقين.» أصدرت الزجاجتان فرقعة عند فتحهما، وارتفعت الرغوة البنية الداكنة في الكأسين. قال الألماني، رافعا كأسه: «من أجل نجاحنا ... في صحتك.» فرك الرغوة من فوق شاربه، وضرب الطاولة بقبضته الوردية. «هل سيكون من غير المناسب يا سيد ...؟» «اسمي تاتشر.» «هل سيكون من غير المناسب يا سيد تاتشر أن أسألك عن مهنتك؟» «محاسب. آمل أن أصبح محاسبا معتمدا في القريب العاجل.» «أنا عامل طباعة، واسمي زوكر، ماركوس أنطونيوس زوكر.» «سررت بمعرفتك يا سيد زوكر.»
تصافحا عبر الطاولة بين الزجاجتين.
قال السيد زوكر: «يجني المحاسب المعتمد الكثير من المال.» «بالفعل علي أن أجني الكثير من المال لطفلتي الصغيرة.»
تابع السيد زوكر قائلا بصوت عميق: «إن الأطفال يلتهمون المال.»
قال تاتشر، حاسبا كم من المال معه في جيبه: «لم لا تسمح لي أن أعزمك على زجاجة أخرى؟» لن يروق لسوزي المسكينة أن أشرب في حانة كهذه. ولكن هذه المرة فقط، وسأتعلم، سأتعلم الأبوة.
قال السيد زوكر: «كلما استزدنا، كان ذلك أكثر مرحا ... لكن الأطفال يلتهمون المال ... إنهم لا يفعلون شيئا سوى تناول الطعام وارتداء الملابس. بمجرد أن أقف على قدمي في عملي ... أوه! الآن مع رهانات الديون وصعوبة اقتراض المال، ومع ارتفاع الأجور وهؤلاء الاشتراكيين الكسالى من نقابات العمال وقاذفي القنابل ...» «هذا هو الحال يا سيد زوكر.» أزال السيد زوكر الرغوة من فوق شاربه بإبهامه وسبابته. «إننا لا نأتي بطفل ذكر إلى العالم كل يوم يا سيد تاتشر.» «أو بطفلة يا سيد زوكر.»
مسح الساقي قطرات الشراب من فوق الطاولة عندما جلب الزجاجتين الأخريين، ووقف بجوارهما مستمعا والخرقة تتدلى من يديه الحمراوين. «وآمل من كل قلبي أن يشرب ابني نبيذ الشامبانيا عندما يحتفل بميلاد ابنه. أوه، هكذا تسير الأمور في هذه المدينة الكبيرة.» «أود أن تصبح ابنتي بيتوتية هادئة، ليست كهؤلاء النساء هذه الأيام حيث الكشكشات، والزركشات، ومشدات الخصر الضيقة. وسأكون قد تقاعدت في ذلك الوقت واشتريت منزلا صغيرا على نهر هدسون، وسأعتني بحديقة المنزل في المساء ... أعرف رجالا في مركز المدينة تقاعدوا بمعاش 3000 دولار أمريكي في العام. السر في الادخار.»
قال الساقي: «أنا لا أجيد الادخار. فقد ادخرت لمدة 10 سنوات وأفلس مصرف الادخار ولم يترك لي شيئا سوى دفتر حساب مسجل به مأساتي. احصل على نصيحة من داخل المجال واغتنم الفرصة، هذا هو النظام الوحيد الناجح.»
قاطعه تاتشر، قائلا: «ما هذه سوى مقامرة.»
قال الساقي، وهو يرجع إلى منضدة الحانة مؤرجحا الزجاجتين الفارغتين: «بالفعل يا سيدي، إنها لعبة قمار.»
قال السيد زوكر ناظرا للأسفل إلى جعته بعين متأملة ومتلألئة: «لعبة قمار. لم يبعد عن حقيقة الأمر. الرجل الطموح يجب أن يغتنم الفرص. فالطموح أتى بي إلى هنا من فرانكفورت في عمر الثانية عشرة، والآن وقد أصبح لدي ابن كي أعمل من أجله ... أوه، يجب أن أسميه فيلهلم على اسم القيصر العظيم.» «سيكون اسم ابنتي الصغيرة إلين على اسم والدتي.» اغرورقت عينا إد تاتشر بالدموع.
نهض السيد زوكر. «حسنا، وداعا يا سيد تاتشر. سعدت بمعرفتك. يجب أن أذهب إلى المنزل لبناتي الصغيرات.»
صافح تاتشر يد الرجل البدينة مجددا، وتبادرت إلى ذهنه أفكار حميمية ولطيفة عن الأمومة والأبوة، وكعكات عيد الميلاد، وأعياد الكريسماس، التي تخيلها وهو ينظر إلى ضباب الرغوة البنية الداكنة، بينما يتمايل السيد زوكر خارجا عبر البابين المتأرجحين. بعد برهة، مدد ذراعيه. بالتأكيد لن يروق لسوزي المسكينة أن آتي إلى هنا ... كل شيء من أجلها ومن أجل ابنتنا.
صاح الساقي ذاهبا وراءه عندما وصل إلى الباب: «يا أنت، أين المال؟» «ألم يدفع الرجل الآخر؟» «لم يدفع.» «ولكنه عزمني ...»
ضحك الساقي وهو يغطي المال بيده الحمراء. «أظن أن هذا الممتلئ يؤمن بالادخار.» •••
مشى في شارع ألين رجل صغير البنية متقوس الساقين وملتح ويرتدي قبعة دربية، وصعد إلى النفق المخطط بأشعة الشمس، والمعلقة عليه ألحفة باللون الأزرق السماوي، ولون السلمون المدخن، ولون الخردل الأصفر، ويمتلئ بالأثاث المستعمل بلون كعك الزنجبيل . مشى ويداه الباردتان قابضتان على أطراف سترته المشقوقة الذيل، متلمسا طريقه بين صناديق التعبئة والأطفال الراكضين. ظل يعض شفتيه ويشبك يديه ويحلهما. مشى دون أن يسمع هتافات الأطفال أو الضجة المدمرة للقطارات السريعة من فوقه، ودون أن يشم الرائحة الكريهة للمباني المكدسة.
توقف أمام صيدلية مطلية باللون الأصفر عند ناصية شارع القنال، وحدق بذهول في وجه على بطاقة إعلانات خضراء. كان وجها شهيرا لرجل عالي الجبين وحليق الذقن له حاجبان مقوسان وشارب كثيف مشذب بعناية، وجها لرجل لديه أموال في المصارف، ويعلو بشكل يناسبه ياقة ذات طرفين أنيقين ورابطة عنق داكنة وكبيرة. أسفل الوجه بكتابة ككتابات الدفاتر، كان هناك إمضاء باسم كينج كامب جيليت. ورفرف فوق رأسه الشعار «وداعا للسن وداعا للشحذ». دفع الرجل الملتحي الصغير البنية بقبعته الدربية بعيدا عن جبينه المتعرق، ونظر طويلا لعيني كينج كامب جيليت المتلألئتين بالدولارات. ثم ضم قبضتي يديه، وفرد كتفيه ودخل إلى الصيدلية.
كانت زوجته وبناته بالخارج. سخن إبريقا من المياه على موقد الغاز. ثم باستخدام المقص الذي وجده فوق رف الموقد، قص الخصلات الطويلة للحيته البنية. ثم بدأ في حلاقتها بعناية شديدة بالشفرة الآمنة الجديدة التي تلمع لمعان النيكل. وقف مهتزا ممررا أصابعه على وجنتيه البيضاوين الناعمتين أمام المرآة الملونة. كان يرجل شاربه عندما سمع صوتا خلفه. استدار نحوهن بوجه ناعم كوجه كينج كامب جيليت، وجه بابتسامة وقور. كادت عيون الفتاتين الصغيرتين تخرج من رأسيهما. صاحت الفتاة الكبرى: «أمي ... إنه أبي.» سقطت زوجته كسلة غسيل فوق الكرسي الهزاز، وألقت بمئزرها من فوق رأسها.
وصاحت متأرجحة ذهابا وإيابا: «يا إلهي! يا إلهي!» «ما الأمر؟ ألا يعجبك؟» مشى جيئة وذهابا والشفرة الآمنة تلمع في يده، متحسسا ذقنه الناعم بين الحين والآخر.
الفصل الثاني
الحاضرة
في الماضي كانت بابل ونينوى، وقد بنيت كل منهما بالطوب. وكانت أثينا، ذات أعمدة من الرخام والذهب. وروما التي شيدت على أقواس فسيحة من الحطام. وفي القسطنطينية، توهجت المآذن كشموع ضخمة حول القرن الذهبي ... ولكن الفولاذ، والزجاج، والبلاط، والأسمنت، ستكون مواد ناطحات السحاب. ستظل براقة تلك الأبنية ذات الملايين من النوافذ المتراصة على الجزيرة الضيقة، في هرم فوق آخر كرأس سحابة بيضاء فوق عاصفة رعدية.
عندما أغلق باب الغرفة خلفه، شعر إد تاتشر بالوحدة الشديدة؛ حيث سيطرت عليه حالة من التململ الشديد. فقط لو كانت سوزي هنا، لكان أخبرها عن المال الكثير الذي كان سيجنيه، وكيف أنه سيودع 10 دولارات في مصرف الادخار كل أسبوع من أجل إلين الصغيرة؛ هذا المبلغ سيتضاعف إلى 520 دولارا في السنة ... وفي غضون 10 سنوات من دون الفائدة سيتضاعف إلى ما يزيد على 5000 دولار. ينبغي أن أحسب الفائدة المركبة على 5000 و20 دولارا بنسبة 4٪. مشى بحماس في أرجاء الغرفة الضيقة. أصدر موقد الغاز صريرا هادئا كالقطط. وقعت عيناه على العنوان الرئيسي في صحيفة ملقاة على الأرض بجوار دلو الفحم حيث أسقطها في أثناء ركضه كي يلحق بسيارة أجرة ليأخذ سوزي إلى المستشفى.
مورتون يوقع على بيان مدينة نيويورك الكبرى مصدقا
على القانون الذي سيجعل نيويورك أكبر ثاني حاضرة في العالم
طوى الصحيفة وهو يستنشق نفسا عميق ووضعها على الطاولة. أكبر ثاني حاضرة في العالم ... وكان أبي يريدني أن أقف في متجره التافه القديم في أونيورا. ربما كنت سأفعل ذلك لولا وجود سوزي ... أيها السادة المحترمون، بما أنكم قد منحتموني الليلة هذا الشرف الفريد بعرضكم علي الشراكة المبدئية في شركتكم، أود أن أقدم لكم فتاتي الصغيرة، زوجتي. أدين لها بكل شيء.
عندما انحنى أمام الموقد لتحيتهم، لامس ذيل معطفه قطعة من الصيني وأوقعها من فوق البوفيه بجوار خزانة الكتب. وقف ليلتقطها مصدرا صوت طقطقة خفيفا بملامسة لسانه لأسنانه. كسر رأس الدمية البورسلين الهولندية الزرقاء من جسمها. «والمسكينة سوزي مغرمة بدمياتها. يجدر بي الذهاب للفراش.»
رفع النافذة ومد جسمه خارجها. مر قطار سريع مدو في نهاية الشارع. لسعت نفثة من دخان الفحم فتحتي أنفه. تدلى من النافذة لفترة طويلة ناظرا للشارع يمنة ويسرة. ثاني أكبر حاضرة في العالم وسط المنازل المبنية من الطوب، وضوء المصابيح المكدر، وأصوات مجموعة من الصبية يمزحون ويتشاجرون فوق درج منزل في الجهة المقابلة، والخطوات الثابتة المعتادة لرجل شرطة، شعر بمسيرة كمسيرات الجنود، كباخرة دولابية تعبر نهر هدسون أسفل طريق باليساديس، كموكب انتخابي، عبر الشوارع الطويلة وفي اتجاه شيء طويل، وأبيض، ومهيب، ومليء بصفوف الأعمدة. إنها الحاضرة.
امتلأ الشارع فجأة بأشخاص يركضون. أعلن شخص يلهث عن اندلاع حريق. «أين؟»
انزوت مجموعة الصبية في المنعطف في الجهة المقابلة للطريق. رجع تاتشر أدراجه إلى الغرفة. كانت حرارتها خانقة. كان جسده يرتعد بالكامل لدرجة لا يمكنه معها البقاء في الخارج. ينبغي أن أذهب إلى الفراش. سمعت من الشارع أصوات الحوافر القوية وجرس سيارة الإطفاء الهستيري. فليلق نظرة. ركض نازلا الدرج وقبعته في يده. «في أي اتجاه؟» «في المربع السكني التالي.» «إنه مبنى سكني.»
كان مبنى سكنيا من ستة طوابق وذا نوافذ ضيقة. كان الخطاف والسلم قد رفعا للتو. وكان الدخان البني يتدفق سريعا من النوافذ السفلية متبوعا ببعض الشرارة هنا وهناك. كان ثلاثة من رجال الشرطة يؤرجحون هراواتهم وهم يدفعون بالحشد للخلف بعيدا عن سلالم المنازل وقضبانها في الجهة المقابلة. في المساحة الفارغة في منتصف الشارع، لمعت سيارة الإطفاء والعربة الحمراء ذات الخرطوم بلون نحاسي براق. شاهد الناس الموقف في صمت محدقين في النوافذ العليا حيث تحركت الظلال وومض ضوء من حين لآخر. بدأ عمود رفيع من اللهب يضطرم فوق المنزل كشمعة رومانية.
همس رجل في أذن تاتشر، قائلا: «المنور.» ملأت عصفة ريح الشارع بالدخان وبرائحة كرائحة الخرق المحترقة. شعر تاتشر على حين غفلة بالإعياء. عندما انقشع الدخان، رأى أناسا معلقين في حشود راكلين، معلقين من أياديهم من حافة إحدى النوافذ. وكان رجال الإطفاء على الجانب الآخر يساعدون النساء على نزول أحد السلالم. توهج اللهب في منتصف المنزل توهجا أكثر سطوعا. وسقط شيء أسود من إحدى النوافذ ممددا على الرصيف صارخا. كان رجال الشرطة يدفعون الحشد للخلف إلى أطراف المربع السكني. وتوالى وصول سيارات إطفاء جديدة.
قال رجل: «لديهم خمسة أجهزة إنذار حرائق بالداخل. ما رأيك في ذلك؟ كل شخص منهم في الطابقين العلويين كان محبوسا. إنه حريق متعمد. أشعله شخص لعين مهووس بالحرائق.»
جلس شاب مكوما على حافة الرصيف بجوار مصباح الغاز. وجد تاتشر نفسه واقفا بجواره مدفوعا بالحشد من خلفه. «إنه إيطالي.» «زوجته في ذلك المبنى.» «لا تسمح له الشرطة بالدخول.» «زوجته حامل. لا يمكنه التحدث بالإنجليزية ليسأل رجال الشرطة عنها.»
كان الرجل ذو الحمالات الزرقاء مقيدا بحبل من الخلف. كان يحرك ظهره في اضطراب، ويطلق من حين لآخر وابلا من الأنين بكلمات لا يفهمها أحد.
كان تاتشر يشق طريقه خروجا من بين الحشد. كان ثمة رجل عند الناصية ينظر في صندوق إنذار الحريق. وعندما لامسه تاتشر وهو يمر بجواره، شم رائحة زيت الفحم الحجري منبعثة من ملابس الرجل. نظر الرجل لأعلى إلى وجهه مبتسما. كان ذا وجنتين سمينتين متدليتين وعينين جاحظتين وامضتين. بردت يدا تاتشر وقدماه فجأة. إنه المهووس بإشعال الحرائق. تقول الصحف إن أمثاله يتجولون حول الحادث هكذا لمشاهدته. مشى مسرعا إلى المنزل، وصعد الدرج، وأغلق باب الغرفة وراءه. كانت الغرفة هادئة وفارغة. كان قد نسي أن سوزي لن تكون هناك في انتظاره. بدأ في خلع ملابسه. ولم يكن ليستطيع أن ينسى رائحة زيت الفحم الحجري على ملابس الرجل. •••
حرك السيد بيري أوراق الأرقطيون بعصاه. وكان وكيل العقارات يستجديه بصوت منغم: «لا أخفي عليك يا سيد بيري، إنها فرصة لا تفوت. تعرف المقولة القديمة يا سيدي ... لا تطرق الفرصة باب المرء في شبابه سوى مرة واحدة. يمكنني في غضون ستة أشهر أن أضمن لك أن قيمة هذه الأرض ستتضاعف تقريبا. وحيث إننا الآن جزء من نيويورك، ثاني أكبر مدينة في العالم، فلا تنس يا سيدي أنه ... سيأتي الوقت، وأنا على يقين تام بأني سأشهده وإياك، حيث يمتد جسر وراء آخر فوق النهر الشرقي جاعلين لونج آيلاند ومانهاتن أرضا واحدة، وحيث يصبح حي كوينز قلب الحاضرة الكبيرة ومركزها النابض بالحياة كشارع أستور بليس اليوم.» «أعلم ذلك، ولكنني أبحث عن شيء آمن تماما. بالإضافة إلى أنني أريد أن أبني. لم تكن زوجتي بصحة جيدة في هذه الأيام القليلة الماضية ...» «ولكن ما الذي عساه أن يكون أكثر أمانا من العرض الذي أقدمه لك؟ هل تدرك يا سيد بيري أنني حتى إن كنت سأتكبد خسارة شخصية جسيمة، فسأتيح لك فرصة الاستثمار قبل أي أحد في أكبر العقارات المضمونة تماما في العصر الحديث. إنني لا أقدم لك الأمان فحسب، بل السهولة، والراحة، والرفاهية. إن موجة كبيرة تسحبنا يا سيد بيري سواء بإرادتنا أم لا، موجة كبيرة من التوسع والتقدم. سيحدث شيء عظيم الشأن في السنوات القليلة القادمة. جميع هذه المخترعات الميكانيكية - الهواتف، والكهرباء، والجسور الفولاذية، والعربات التي تسير بلا جياد - جميعها تقود إلى شيء ما. والأمر يرجع إلينا إذا كنا سندخل إلى هذا التقدم، ونكون في صدارته ... يا إلهي! لا أستطيع أن أصف لك ما الذي سيعنيه هذا ...» ثم بعدما أخذ السيد بيري يلكز بعصاه بين العشب الجاف وأوراق الأرقطيون، أزال شيئا بها. انحنى والتقط جمجمة مثلثة ذات قرنين على شكل قصبة حلزونية. قال: «يا إلهي! لا بد أنها كانت لخروف جيد.» •••
شعر بود بالنعاس من أثر رائحة الرغوة، وعطر ما بعد الحلاقة، والشعر المحروق الذي يثقل جو متجر الحلاقة، فجلس وأومأ برأسه، ويداه الكبيرتان الحمراوان متدليتان بين ركبتيه. ظل صوت المقص يقرع طبلتي أذنيه مذكرا إياه بقرع قدميه على الطريق الذي مشاه جائعا من ناياك. «التالي!» «ماذا؟ ... حسنا، أريد فقط أن أحلق ذقني وأن أقص شعري.»
تحركت يدا الحلاق القصيرتان السمينتان عبر شعره، وأز المقص كدبور خلف أذنيه. ظلت عيناه تغمضان، ففتحهما بسرعة مقاوما النوم. كان بإمكانه أن يرى خلف الملاءة المخططة المبعثر عليها الشعر المرمل ذاك الرأس المتأرجح الأشبه برأس المطرقة للفتى الملون الذي كان يلمع حذاءه.
دندن رجل ذو صوت عميق من فوق الكرسي بجواره: «أجل يا سيدي، إنه الوقت الذي يرشح فيه الحزب الديمقراطي رجلا قويا ...» «هل تريد أن تحلق عنقك كذلك؟» قرب الحلاق وجهه المستدير الدهني البشرة في وجهه.
أومأ بود. «أتريد أن تغسل شعرك بالشامبو ؟» «لا.»
عندما أرجع الحلاق الكرسي ليحلق له، أراد أن يرفع عنقه كسلحفاة طين انقلبت على ظهرها. انتشرت الرغوة على وجهه فأصابته بالنعاس، مخدرة أنفه ومالئة أذنيه. فأصبح مغمورا في الرغوة فيما يشبه سريرا من الريش، رغوة زرقاء، وسوداء، يشقها لمعان الشفرة القصي، كلمعان مجرفة لحرث الأرض عبر سحب من الرغوة السوداء الضاربة إلى الزرقة. أما الرجل الهرم خلفه، الذي كان موجودا في أحد حقول البطاطس، فقد التصقت الرغوة البيضاء على وجهه المليء بالدماء. امتلأ جوربه بالدماء التي كانت تقطر من تلك البثور على عقبيه. شبك يديه ببعضهما باردتين وصلبتين كيدي رجل ميت أسفل غطاء. دعني أقم ... وفتح عينيه. كانت أنامل سمينة تدلك ذقنه. حدق لأعلى في السقف حيث كانت أربع ذبابات تشكل رقم ثمانية حول جرس أحمر مصنوع من الورق الكريبي. كان لسانه كجلد جاف في فمه. عدل الحلاق الكرسي مرة أخرى. نظر بود حوله بعينين طارفتين. «نصف دولار، ونيكل لتلميع الحذاء.» «يعترف بقتل أمه المقعدة ...»
يسمع صوته متثاقلا وسط طنين أذنيه، وهو يقول: «أتمانع أن أجلس هنا دقيقة لقراءة تلك الصحيفة؟» «تفضل.» «يحمي أصدقاء باركر ...»
تتلوى الطباعة السوداء أمام عينيه. الروس ... «يلقي الرعاع الحجارة» ... (إرسال خاص إلى «هيرالد») ترينتون، نيوجيرسي. •••
ناثان سيبتس، صبي في الرابعة عشرة من عمره، ينهار اليوم بعد أسبوعين من الإصرار على إنكار إدانته، ويعترف للشرطة بأنه كان مسئولا عن موت أمه المسنة القعيدة هانا سيبتس، بعد مشاجرة في منزلهما بطريق جيكوبز كريد، على بعد ستة أميال شمال هذه المدينة. كان محتجزا في هذه الليلة في انتظار إجراء هيئة المحلفين الكبرى. «دعم بورت آرثر في مواجهة العدو ... تفقد السيدة ريكس رماد زوجها».
في يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من مايو وفي حوالي الساعة الثامنة والنصف، رجعت إلى المنزل بعد أن نمت في المدحلة البخارية طوال الليل، وصعدت إلى غرفتي لأحظى بمزيد من النوم. كنت قد غفوت لتوي عندما صعدت أمي لغرفتي وطلبت مني النهوض مهددة بأنني إن لم أنهض فسترمي بي في الأسفل. أمسكت أمي بي بقوة لتلقيني في الأسفل. ألقيت بها أولا وسقطت في القاع. نزلت الدرج فوجدت أن رأسها كان ملتويا على أحد جانبيه. ثم رأيت أنها قد ماتت، فعدلت عنقها وغطيتها بملاءة. •••
طوى بود الجريدة بعناية، ووضعها على الكرسي وغادر محل الحلاقة. كان الهواء بالخارج تفوح منه رائحة الحشود، زاخرا بالضوضاء وضوء الشمس. لم يكن إلا كإبرة في كومة من القش ... تمتم عاليا: «وأنا في الخامسة والعشرين من عمري.» يفكر في الصبي البالغ الرابعة عشرة من العمر ... ويسير بخطى أسرع على طول الأرصفة الصاخبة حيث تلقي الشمس بأشعتها عبر السكة الحديدية المرتفعة، مخططة الشارع الأزرق بشرائط صفراء مشتعلة ودافئة. ليس سوى إبرة في كومة من القش. •••
جلس إد تاتشر متحدبا فوق مفاتيح البيانو مدندنا بلحن «موسكيتو باريد». تدفق ضوء الشمس لفترة ما بعد ظهيرة يوم الأحد مغبرا عبر ستائر النافذة الدانتيل الثقيلة، وتلوى على الورود الحمراء للسجادة، ونشر خيوطه في أرجاء الردهة غير المرتبة. جلست سوزي تاتشر مسترخية بجوار النافذة تشاهده بعينين زرقاوين بدرجة تبدوان معها فاقعتين على وجهها الشاحب. بينهما، تخطو إلين الصغيرة بأناة راقصة وسط ورود الحقل المشمس على السجادة. أمسكت بيديها الصغيرتين فستانها الوردي المكشكش، وقالت بين الحين والآخر بصوتها الصغير وفي نبرة إصرار: «انظري إلي يا أمي.»
قال تاتشر، وهو لا يزال يعزف: «انظري للطفلة. إنها راقصة باليه صغيرة مثالية.»
ثمة صحائف من جريدة يوم الأحد ملقاة حيث سقطت من الطاولة، بدأت إلين في الرقص عليها، ممزقة إياها أسفل قدميها الصغيرتين الرشيقتين.
أنت سوزي من فوق كرسيها المخملي الوردي، قائلة: «لا تفعلي ذلك يا عزيزتي إلين.» «ولكني يا أمي يمكنني أن فعل ذلك وأنا أرقص.» «قلت لك لا تفعلي ذلك.» انتقل إد تاتشر إلى عزف لحن «باركارول». كانت إلين ترقص على اللحن، مؤرجحة يديها معه، وممزقة الجريدة بقدميها الرشيقتين. «أرجوك يا إد احمل الطفلة؛ إنها تمزق الجريدة.»
أنزل أصابعه في نغمة متراخية. «يجب ألا تفعلي ذلك يا عزيزتي. فأنا لم أنته من قراءتها بعد.»
واصلت إلين ما تفعله. فانقض عليها تاتشر من فوق كرسي البيانو وأوقفها وهي تتلوى وتضحك فوق ركبته. «يجب أن تنتبهي دائما يا إلين عندما تتحدث أمك إليك، ويجب ألا تكوني مخربة يا عزيزتي. إن صناعة تلك الجريدة تكلف الكثير من المال، ويعمل فيها أشخاص كثيرون، وقد خرجت لشرائها ولم أنته من قراءتها بعد. إيلي تتفهم الموقف، أليست كذلك؟ نحن نريد بناء في هذا العالم وليس هدما.» ثم واصل عزف «الباركارول» وواصلت إلين الرقص، وكانت تخطو برقة بين الورود على الحقل المشمس المرسوم على السجادة. •••
جلس ستة رجال إلى الطاولة في المكان المخصص لتناول الطعام، وأخذوا يأكلون بسرعة وقبعاتهم على أقفيتهم.
صاح الشاب الجالس في طرف الطاولة، والذي كان يحمل صحيفة في يد وكوبا من القهوة في اليد الأخرى: «جيميني كريكيت! أيمكنك التغلب عليه؟»
قال رجل ذو وجه طويل وخلال أسنان على جانب فمه مدمدما: «أتغلب على ماذا؟» «يظهر ثعبان كبير في الجادة الخامسة ... صرخت السيدات وركضن في جميع الاتجاهات هذا الصباح في الساعة الحادية عشرة والنصف عندما زحف ثعبان كبير خارجا من صدع في بناء ذي جدار يدعم المستودع في الجادة الخامسة وشارع 42 وبدأ يعبر الرصيف ...» «يا لها من قصة مبالغ فيها ...»
قال رجل هرم: «ذلك شيء تافه. عندما كنت صبيا، كنا نذهب لاصطياد طيور الشنقب في بروكلين فلاتز ...»
همهم الشاب وهو يطوي جريدته ويهرع للخارج إلى شارع هدسون، الذي كان مليئا برجال وفتيات يسيرون بهمة في الصباح ذي المسحة القرمزية، قائلا: «يا إلهي! إنها التاسعة إلا الربع.» أحدث احتكاك حدوات أحصنة الجر ذات الحوافر المشعرة وسحق عجلات عربات البيع جلبة صامة للآذان وملأت الجو بغبار كثيف. كانت تنتظره عند باب إم سوليفان آند كو، مستودع ومخزن، فتاة ترتدي قلنسوة مزركشة بالورود، وقد علقت ربطة عنق فراشية خزامية اللون أسفل ذقنها المائل الرشيق. شعر الشاب بفوران يكتسحه من داخله، كزجاجة مياه غازية فتحت لتوها. «مرحبا إيميلي! ... لقد حصلت على ترقية.» «تكاد تتأخر بعض الشيء، أتعلم ذلك؟» «ولكن بحق، لقد حصلت على زيادة دولارين.»
أمالت ذقنها أولا على جانب ثم على الآخر. «لا أهتم.» «تعلمين ما عليك قوله إذا حصلت على ترقية.» نظرت مقهقهة في عينيه. «وما هذه سوى البداية ...» «ولكن بم تفيد 15 دولارا في الأسبوع؟» «عجبا، إنها 60 دولارا في الشهر، وأنا أتدرب على العمل في الاستيراد.» «أيها الأحمق، ستتأخر.» استدارت فجأة وركضت صاعدة الدرج المليء بالقمامة المبعثرة، وأصدرت تنورتها الجرسية الشكل ذات الثنيات صوت حفيف وهي تتحرك من جانب إلى آخر. «يا إلهي! إنني أكرهها. إنني أكرهها.» سالت دموع حارة في عينيه، ومشى بسرعة في شارع هدسون إلى مكتب وينكيل آند جوليك، مستوردون من غرب الهند.
كان سطح القارب بجوار الرافعة الأمامية دافئا ومبللا بالماء المالح. كانوا ممددين جنبا إلى جنب في قماش الدنيم المشحم يتحدثون خاملين في همس، وآذانهم تملؤها رغوة المياه المندفعة من شق المقدمة المستديرة للعبارة بقوة عبر الأمواج الرمادية المخضرة العالية لتيار الخليج.
بمزيج من الفرنسية والإنجليزية: «يمكنني أن أقول لك يا سيدي الهرم إن نيويورك تصيبني بالجنون ... في اللحظة التي نرسو فيها سأذهب إلى اليابسة وسأظل عليها. لقد سئمت حياة الكلاب هذه.» كان خادم المركب ذا شعر أشقر ووجه بيضوي سمني متورد، وسقط عقب سيجارة منطفئة من بين شفتيه عندما تحدث. قال بالفرنسية: «تبا!» بحث عنه حيث تدحرج على سطح القارب. لقد أفلت من يده وقفز في مصارف المياه.
قال الصبي الآخر الذي كان مستلقيا على بطنه راكلا زوجا من الأقدام المتسخة لأعلى في ضوء الشمس الخافت: «دعه. فلدي الكثير. سيرجعك القنصل إلى المركب.» «لن يمسك بي.» «وماذا عن خدمتك العسكرية؟» «فلتذهب مع المركب إلى الجحيم. ولتذهب معهما فرنسا كذلك.» «أتريد أن تصبح مواطنا أمريكيا؟» «لم لا؟ فللمرء الحق في اختيار بلده.»
مسح الآخر أنفه بقبضة يده مفكرا ثم زفر بصافرة طويلة. قال: «إنك لرجل حكيم يا إميل.» «ولكن يا كونغو، لم لا تأتي أنت أيضا؟ بالطبع لا تريد أن تمسح النفايات في مطبخ سفينة نتنة طوال حياتك.»
تقلب كونغو وجلس متربعا، وهو يحك رأسه الذي كان مليئا بالشعر الأسود المجعد . «أتعلم تكلفة قضاء ليلة مع امرأة في نيويورك؟» «لا أعلم، أظن أنها باهظة ... لن أذهب إلى اليابسة لإثارة الفوضى، بل سأحصل على وظيفة جيدة وأعمل. ألا تفكر في شيء سوى النساء؟»
قال كونغو وهو يستلقي على سطح السفينة مرة أخرى، دافنا وجهه الأسود الملطخ بالسخام بين ذراعيه المطويتين: «ما الفائدة؟ لم لا؟» «أريد أن أذهب إلى مكان آخر في العالم، ذلك ما أعنيه. فأوروبا قد فسدت وتعفنت. ولكن في أمريكا يمكن للمرء أن يتقدم. محل الميلاد لا يهم، التعليم لا يهم. الجميع يتقدم.» «ولكن لو كانت هناك امرأة شابة جذابة ولطيفة معنا الآن حيث سطح السفينة الدافئ، ألن ترغب في مداعبتها؟» «بعدما نصبح أغنياء، سنحظى بالكثير، الكثير من كل شيء.» «وهل ليس لديهم أي خدمة عسكرية؟» «لم عساهم أن تكون لديهم؟ إن المال هو ما يسعون وراءه. فهم لا يرغبون في قتال الناس، وإنما في التجارة معهم.»
لم يرد كونغو.
استلقى خادم المركب على ظهره ناظرا إلى السحب. لقد تدفقت من الغرب في صروح متراكمة ضخمة يسطع ضوء الشمس من بينها، مشرقة وبيضاء كرقائق القصدير. كان يمشي عبر شوارع ذات مبان بيضاء وطويلة وفوق بعضها، متبخترا في سترة مشقوقة الذيل وياقة بيضاء طويلة، ثم صعد فوق درج من القصدير، عريض، وممسوح ونظيف، عبر بوابات زرقاء، دلف إلى داخل قاعات من الرخام المخطط حيث صوت حفيف وخشخشة نقود من أوراق، وفضة، وذهب على طاولات قصديرية طويلة.
بالفرنسية: «تبا لقد حان الوقت.» وصل إلى آذانهما خافتا صوت ضربات الجرس المزدوجة في عش المراقبة. «ولكن لا تنس يا كونغو أنه في الليلة الأولى التي وصلنا فيها اليابسة ...» ثم طقطق بشفتيه. «لقد رحلنا.» «كنت نائما. وحلمت بفتاة شقراء شابة. كنت سأحظى بها لولا أن أيقظتني.» نهض خادم السفينة على قدميه ناعرا، ووقف لبرهة ناظرا جهة الغرب حيث تنتهي الأمواج في خط متعرج حاد أمام سماء صلبة ومباغتة كالنيكل. ثم دفع بوجه كونغو لأسفل أمام سطح السفينة وركض إلى مؤخرتها، خافقة قدماه في قبقابه الخشبي وهو يمضي. •••
بالخارج، كان أحد أيام السبت الحارة من شهر يونيو يجرجر أشلاءه في شارع 110. استلقت سوزي تاتشر مضطربة في السرير، ويداها مبسوطتان في زرقة ونحول فوق غطاء السرير أمامها. تراءت إليها أصوات عبر جدار الغرفة الرفيع. كانت فتاة شابة تصيح بصوت به خنف: «قلت لك يا أمي لن أعود إليه.»
ثم أدركت صوتا رصينا لامرأة يهودية عجوز تجادل قائلة: «ولكن الحياة الزوجية يا روزي ليست كلها متعة ومرحا. يجب على الزوجة أن تطيع زوجها وأن تعمل على راحته.» «لن أفعل ذلك. لا يمكنني التحمل. لن أعود لذلك الحيوان القذر.»
اعتدلت سوزي في سريرها، ولكنها لم تستطع سماع ما قالته المرأة العجوز بعد ذلك.
صرخت الفتاة فجأة: «ولكنني لم أعد يهودية. هذه ليست روسيا، إنها نيويورك الودود. وللفتيات حقوق هنا.» ثم صفع باب وساد الصمت.
تقلبت سوزي تاتشر في السرير تئن مضطربة. أولئك الأشخاص البغيضون لا يمنحونني لحظة هدوء. أتت من الأسفل صلصلة صندوق موسيقى بموسيقى أوبريت «الأرملة الطروب». يا إلهي! لم لم يرجع إد إلى المنزل؟ إنه لمن القسوة أن يتركوا امرأة مريضة وحدها هكذا. يا لها من أنانية! لوت فمها لأعلى وأجهشت بالبكاء. ثم استلقت هادئة مرة أخرى، محدقة في السقف تشاهد الذباب وهو يطن طنينه المستفز حول مصباح الإنارة الكهربائية. أحدثت عربة في الشارع صوت جلبة. كان بإمكانها سماع أصوات صياح الأطفال. ومر فتى يصيح بصدور طبعة ثانية لإحدى الصحف. ماذا لو نشب حريق؟ كذلك الحريق المروع في مسرح شيكاغو. أوه، سيصيبني الجنون! تقلبت في السرير، وأظافرها المدببة تغرز في راحتي يديها. سأتناول قرصا آخر. ربما أستطيع أن أحظى ببعض النوم. رفعت نفسها مستندة إلى مرفقها وتناولت القرص الأخير من علبة معدنية صغيرة. كانت جرعة الماء التي تبلع بها القرص تسكن حلقها. أغلقت عينيها واستلقت في هدوء.
نهضت مجفلة. كانت إلين تقفز في أنحاء الغرفة، وكانت قبعتها الخضراء تسقط من مؤخرة رأسها، وكانت تجعدات شعرها النحاسية اللون تندفع في جموح. «أوه يا أمي، أريد أن أكون فتى .» «اهدئي يا عزيزتي. فأمك تشعر بالتعب بعض الشيء.» «أريد أن أكون فتى.» «عجبا يا إد، ماذا فعلت للفتاة؟ إنها منزعجة للغاية.» «إننا لسنا سوى متحمسين سوزي. فقد كنا نشاهد المسرحية الأروع على الإطلاق. لقد أحببناها كثيرا، إنها شديدة الشاعرية وكل تلك الأشياء البديعة. وقد كانت مود آدامز رائعة. أحبت إيلي كل دقيقة فيها.» «يبدو من السخف، كما سبق وقلت، أن تأخذ طفلة صغيرة ...» «أوه يا أبي، أريد أن أكون فتى.» «إنني أحب فتاتي الصغيرة كما هي. يجب أن نذهب مرة أخرى يا سوزي ونصطحبك معنا.» «أنت تعلم جيدا يا إد أنني لن أكون على ما يرام.» اعتدلت جافلة في جلستها، وشعرها يتدلى أصفر باهتا ومستقيما أسفل ظهرها. «أوه، ليتني أموت ... ليتني أموت ولا أكون عبئا عليكما أكثر من ذلك ... أنتما تكرهاني. إن لم تكونا تكرهاني لم تركتماني وحدي هكذا؟» أصيبت بغصة ووضعت وجهها بين راحتيها. شبكت بين أصابعها، وقالت: «أوه، ليتني أموت.» «أرجوك يا سوزي، من السيئ أن تقولي ذلك.» وضع ذراعه حولها وجلس على السرير بجوارها.
بكت بهدوء وأسقطت رأسها فوق كتفه. وقفت إلين محدقة فيهما بعينيها الرماديتين المستديرتين. ثم استأنفت القفز هنا وهناك، مغنية لنفسها: «إيلي ستصبح فتى، إيلي ستصبح فتى.» •••
بخطوات بطيئة وطويلة، وعرجة بسيطة في قدميه المتقرحتين، مشى بود في شارع برودواي، مارا بأراض فارغة حيث كانت العلب المعدنية تومض وسط العشب وشجيرات السماق والرجيد، وبين صفوف لوحات الإعلانات ولافتات سجائر بول دورهام، ومارا بأكواخ وعشش سكنية مهجورة، وبأودية عميقة ضيقة متراكمة بكومات من القمامة المحمولة على العجلات حيث تلقي عربات القمامة بالرماد والآجر، وبكتل من الصخور الرمادية حيث حفارات البخار الطارقة والقاضمة بلا انقطاع، وبأنقاب تشق طريقها بصعوبة عبرها عربات مليئة بالصخور والطمي على ممرات من ألواح إلى الشارع، حتى وجد نفسه يمشي على أرصفة جديدة بمحاذاة صف من المنازل ذات شقق مبنية بالطوب الأصفر، ونظر إلى نوافذ متاجر البقالة، حيث المغاسل الصينية، والمطاعم السريعة، ومتاجر الزهور والخضراوات، والخياطون، ومتاجر الأطعمة المستوردة والجاهزة. بمروره أسفل سقالة أمام مبنى جديد، التقت عيناه بعيني رجل هرم كان يجلس على حافة الرصيف يعتني بمصابيح زيتية. وقف بود بجواره، رافعا بنطاله، وتنحنح ثم قال: «ألا أخبرتني يا سيدي أين يجد المرء مكانا جيدا ليبحث فيه عن عمل؟» «لا يوجد مكان جيد للبحث عن عمل أيها الشاب ... هناك أعمال لا بأس بها ... سأتم عامي الخامس والستين بعد شهر وأربعة أيام، وقد كنت أعمل منذ أن كنت في الخامسة حسب تقديري، ولم أجد عملا جيدا بعد.» «يمكنني العمل في أي شيء.» «هل لديك بطاقة نقابة؟» «ليس لدي شيء.»
قال الرجل الهرم: «لا يمكنك الحصول على عمل في البناء دون أن يكون معك بطاقة نقابة.» حك شعيرات ذقنه الرمادية بظهر يده ومال فوق المصابيح مرة أخرى. وقف بود محدقا في غابة من عوارض المباني الجديدة يفوح منها الغبار حتى لمح عيني رجل يرتدي قبعة دربية عبر نافذة مأوى لحارس. مسح نعله في اضطراب ودخل. لو كان بإمكاني أن أمضي قدما إلى مركز كل شيء ...
عند الناصية التالية، كان ثمة حشد مجتمع حول سيارة بيضاء عالية. تدفقت سحب من البخار من طرفها الخلفي. وكان هناك رجل شرطة يرفع عاليا فتى صغيرا من إبطيه. خرج من السيارة رجل أحمر الوجه ذو شارب أبيض كثيف يمشي غاضبا. «قلت لك أيها الضابط إنه رمى حجرا ... يجب أن تتوقف مثل هذه الأشياء. لأن معاونة ضابط للأشرار والمشاغبين ...»
كانت هناك امرأة ذات شعر مرفوع في ربطة ضيقة أعلى رأسها، وكانت تهز قبضتها أمام الرجل في السيارة، وتصرخ قائلة: «كاد يدهسني أيها الضابط، كاد يدهسني.»
شق بود طريقه بجوار شاب يرتدي مئزر جزار وقبعة بيسبول بالمقلوب. «ما الأمر؟» «تبا، لا أعلم ... أظنه شجارا من تلك المشاجرات التي يحدثها راكبو السيارات. ألا تقرأ الصحف؟ لا لوم عليهم، ألا توافقني؟ بأي حق تنطلق تلك السيارات اللعينة في أرجاء المدينة مكتسحة النساء والأطفال؟» «يا للهول، أيفعلون ذلك؟» «بالطبع يفعلون ذلك.» «اسمع ... امم ... أيمكنك يا سيدي أن تخبرني بمكان جيد أبحث فيه عن عمل؟» أرجع صبي الجزار رأسه للوراء وضحك. «يا إلهي، لقد ظننت أنك ستطلب صدقة ... أظنك لست من نيويورك ... سأخبرك بما عليك فعله. ستستمر في السير في برودواي حتى تصل إلى دار البلدية ...» «هل مركز كل شيء هناك؟» «بالطبع ... ثم ستصعد الدرج وتسأل عن الحاكم ... لقد سمعت أن هناك بعض المقاعد الشاغرة في مجلس البلدية ...»
دمدم بود، وهو يمشي مسرعا: «اللعنة، بالطبع لديهم مقاعد فارغة.» ••• «تدحرجي يا عزيزتي ... تدحرجي يا أحجار النرد اللعينة.» «أنت تعرف لغتها يا سلاتس.» «هيا، فليأت الرقم سبعة!» ألقى سلاتس بالنرد من يده مطقطقا، وإبهامه في محاذاة أصابعه المتعرقة. «مرحى.» «أشهد لك بأنك لاعب محترف يا سلاتس.»
وضع كل منهم بيده المتسخة نيكلا على كومة النقود التي تتوسط دائرة من ركبهم المرقعة الملتصقة كل منها في الأخرى من الأمام. كان الفتيان الخمسة يجلسون على أعقابهم أسفل مصباح في شارع ساوث ستريت. «هيا يا فتياتي، إننا ننتظر ... تدحرجي أيتها الأحجار الصغيرة الملعونة، تبا، هيا، تدحرجي.» «توقفوا يا رجال! هذا بيج ليونارد وعصابته يتوجهون ناحية المربع السكني.» «سأبرحه ضربا ل ...»
كان أربعة منهم يمشون بتراخ بمحاذاة الرصيف، وينتشرون تدريجيا دون أن يلتفتوا خلفهم. أما الفتى الأصغر ذو الوجه الصغير الذقن كالمنقار، فقد ظل في الخلف في هدوء مجمعا العملات المعدنية. ثم ركض بمحاذاة الجدار وتلاشى في الممر المظلم بين منزلين. بسط جسمه خلف مدخنة وانتظر. اقتحمت الأصوات المختلطة للعصابة الممر، ثم واصلوا السير في الشارع. كان الفتى يعد النيكلات في يده. عشرة. «يا إلهي، إنها 50 سنتا ... سأخبرهم أن بيج ليونارد قد رفع العجين.» لم يكن لجيوبه بطانة؛ فلف النيكلات في أحد أطراف قميصه. •••
امتزج قدح من نبيذ الراين وكأس من الشامبانيا في كل مكان بمحاذاة الطاولة البيضوية البيضاء البراقة. وفي ثمانية أطباق بيضاء لامعة، قدمت ثماني قطع من كانابي الكافيار فيما يشبه حلقات من الخرز الأسود على أوراق الخس، وأحاطت بها تقسيمات من الليمون المنثور مع شرائح رفيعة من البصل وبياض البيض. قال النادل الهرم بمزيج من الفرنسية والإنجليزية وهو يجعد جبهته المتعرجة: «بكثير من العناية، ولا تنس.» كان رجلا قصيرا متمايلا في مشيته وله بعض شعيرات سوداء لصقها بإحكام على رأسه المقبب. «حسنا.» أومأ إميل برأسه بجدية. كانت ياقته ضيقة عليه للغاية. وكان يرج زجاجة أخيرة من الشامبانيا في دلو الثلج المحاط بالنيكل على طاولة التقديم.
بمزيج من الفرنسية والإيطالية والإنجليزية: «بكثير من العناية، اللعنة ... هذا الرجل يلقي بالمال كقصاصات ورق، انظر ... إنه يعطي بقشيشا، انظر. إنه رجل فاحش الثراء. إنه لا يهتم كم أنفق من المال.» ربت إميل على ثنية مفرش المائدة لتسويته. بمزيج من الفرنسية والإنجليزية: «لا تفعل ذلك ... يداك متسختان، قد تترك أثرا.»
متكئين في البداية على قدم واحدة، ثم على الأخرى، وقفوا منتظرين والمناشف أسفل آباطهم. من المطعم بالأسفل وسط روائح الطعام المطهو بالزبد، وصلصلة السكاكين والشوك والأطباق، أتى الصوت الخفيض بموسيقى رقصة فالس.
عندما رأى إميل رئيس النادل ينحني خارج الباب، ضغط شفتاه في ابتسامة مطيعة. كانت هناك امرأة شقراء مسنة ترتدي عباءة أوبرا سلمونية اللون تهفهف على ذراع رجل مستدير الوجه كان يحمل قبعته العالية أمامه كمصد، وفتاة صغيرة مجعدة الشعر ترتدي رداء أزرق تظهر أسنانها وتضحك، وامرأة سمينة ترتدي تاجا وشريطا مخمليا أسود حول عنقها وذات أنف منقاري ووجه بلون السيجار ... صدور قمصان زائفة، وأياد تسوي ربطات عنق بيضاء، وومضات بريق سوداء أعلى قبعات وأحذية جلدية لامعة، وثمة رجل خبيث بأسنان ذهبية ظل يلوح بذراعيه متلفظا بتحيات بصوت كصوت بقرة، وقد وضع قطعة من الألماس بحجم عملة نيكل في صدر قميصه الزائف. كانت الفتاة الصهباء في غرفة المعاطف تجمع الأردية. دفع النادل الهرم إميل. قال عاوجا فمه وهو ينحني: «إنه الزعيم الكبير.» بسط إميل جسمه على الجدار وهم يدخلون الغرفة ويخرجون منها مصدرين جلبة. وجد أنفه نفحة من نبات الباتشولي، عندما التقط أنفاسه باغتته بحرارة وصلت إلى جذور شعره.
صاح الرجل المزين بالألماس: «ولكن أين فيفي ووترز؟» «قالت إنها ستتأخر نصف ساعة. أظن أن الرجال لن يدعوها تمر من باب المسرح .» «حسنا، لا يمكننا انتظارها حتى وإن كان هذا عيد ميلادها؛ فأنا لم أنتظر أحدا في حياتي.» وقف لبرهة مقلبا عينه الشاردة في النساء حول الطاولة، ثم أخرج سواري كميه قليلا من سترته ذات الذيل، وجلس بغتة. نسف الكافيار في غمضة عين. نعق بصوت أجش: «وماذا عن كأس نبيذ الراين العريضة أيها النادل؟» حبس إميل أنفاسه وامتص وجنتيه إلى الداخل أثناء لمه للأطباق، وقال بالفرنسية: «حالا يا سيدي ...» تكون الصقيع على الأقداح عندما صب النادل الهرم النبيذ في الكأس العريضة من إبريق زجاجي مزخرف يطفو فيه النعناع، والثلج، وقشر الليمون، وشرائح رفيعة طويلة من الخيار. «أها، هذا سيفي بالغرض.» رفع الرجل المرصع ثيابه بالألماس كأسه إلى شفتيه، وشرب منها ثم أنزلها وهو يلقي نظرة جانبية على السيدة بجواره. كانت تربت بالزبد على لقيمات من الخبز وتلقي بها في فمها، مغمغمة أثناء ذلك: «لا يمكنني أن آكل سوى أصغر الوجبات الخفيفة، أصغر الوجبات الخفيفة فحسب.» «ذلك لا يمنعك من تناول الشراب يا ماري، أليس كذلك؟»
أطلقت ضحكة مقهقهة وضربت على كتفه بمروحتها المطوية. «يا إلهي، يا لك من مخادع!»
هسهس النادل الهرم بمزيج من الإيطالية والفرنسية في أذن إميل: «اللعنة، فلتضئ لي.»
عندما أضاء المصابيح أسفل صحني التسخين والضيافة المعدنيين على طاولة التقديم، بدأت رائحة الشيري الساخن، والقشدة، والكركند تفوح في الغرفة. كان الهواء ساخنا، ومليئا بالطنين، والعطر، والدخان. بعد أن عاون إميل في تقديم الكركند على طريقة نيوبرج وأعاد ملء الكئوس، اتكأ على الحائط، ومرر يده فوق شعره الرطب. انزلق نظره تجاه كتفين لحميين لامرأة أمامه، ثم نزل على ظهرها الأملس حيث ظهر مشبك فضي صغير غير مقفول أسفل زركشة الدانتيل. لف الرجل الأصلع الرأس الجالس بجوارها ساقه حول ساقها. كانت شابة، في عمر إميل، وظلت تنظر لأعلى في وجه الرجل بشفتين مفتوحتين ورطبتين. جعل هذا إميل يشعر بالدوار، ولكنه لم يستطع التوقف عن النظر.
قال الرجل ذو الألماسة مصدرا صريرا عبر فمه الممتلئ بالكركند: «ولكن ما الذي حدث لفيفي الجميلة ؟» وتابع: «أظن أنها حققت نجاحا مرة أخرى هذا المساء مما جعل سهرتنا المتواضعة لا تروق لها.» «إن الأمر من شأنه أن يجعل أي فتاة مترفعة.»
قال الرجل ذو الألماسة ضاحكا: «حسنا، ستتفاجأ مفاجأة عمرها الصغير إن توقعت أننا سننتظرها. ها، ها، ها. أنا لم أنتظر أحدا في حياتي، ولن أنتظر أحدا الآن.»
دفع الرجل ذو الوجه المستدير بطبقه على الطاولة وكان يلعب بالسوار في معصم السيدة الجالسة بجواره. «أنت الليلة يا أولجا تماما في جاذبية فتيات لوحات جيبسون.»
قالت رافعة قدحها أمام الضوء: «ها أنا أجلس جلسة فتاة تستعد أن ترسم الآن.» «أعلى يد جيبسون؟» «لا، بل على يد رسام حقيقي.» «أقسم أنني سأشتري تلك اللوحة.» «ربما لن تتسنى لك الفرصة.»
أومأت له برأسها ذي الشعر الأشقر المصفف بتسريحة بومبادور. «إنك لمشاكسة صغيرة وماكرة يا أولجا.»
ضحكت مبقية شفتيها محكمتين فوق أسنانها الطويلة.
كان رجل يميل في اتجاه الرجل ذي الألماسة، ناقرا بإصبع قصير وبدين على الطاولة. «كلا يا سيدي، كمقترح عقاري، فإن شارع 23 قد انهار ... وقد اعترف الجميع بذلك ... ولكن ما أريد أن أحدثك عنه في سرية بعض الوقت يا سيد جودالمينج، هو هذا ... كيف تجنى جميع الأموال الطائلة في نيويورك؟ عائلات أستور، وفاندربيلت، وفيش ... في مجال العقارات بالطبع. إن الفرصة أصبحت مواتية أمامنا الآن لتحقيق ربح كبير ... نكاد نصل ... فلنشتر في شارع 40 ...»
رفع الرجل ذو الألماسة حاجبا وهز رأسه. «لقضاء ليلة في أحضان الجمال، أوه ضع الهموم جانبا ... أو شيء من هذا القبيل ... اللعنة أيها النادل، لم تأخرت الشامبانيا؟» نهض وسعل في يده، ثم بدأ في الغناء بصوته الناعق:
أوه لو كان الأطلسي محيطا من الشامبانيا
أمواجا براقة من الشامبانيا.
صفق الجميع. كان النادل الهرم قد قسم لتوه كعكة ألاسكا، بوجه متورد كالبنجر، وكان ينزع فلينة شامبانيا جامدة. عندما فرقعت الفلينة، أطلقت السيدة ذات التاج صرخة. شربوا نخب الرجل ذي الألماسة.
نخب كونه رجلا جيدا وبهيجا ...
مال الرجل ذو الأنف المنقاري وسأل الفتاة الجالسة بجانبه: «ماذا تطلقون على هذا الطبق؟» كان شعرها الأسود مفروقا من المنتصف، وكانت ترتدي فستانا أخضر باهتا بكمين منتفخين. غمز ببطء ثم حدق بشدة في عينيها السوداوين. «هذا أفخم طعام وضعته يوما في فمي ... أتعلمين أيتها الشابة، إنني لا آتي كثيرا إلى هذه المدينة ... (ابتلع صبابة كأسه). وعندما آتي إلى هنا، فإنني أشعر عادة بالاشمئزاز بعض الشيء عندما أغادر ...» تفحصت نظرته البراقة والمحمومة من أثر الشامبانيا معالم عنقها وكتفيها، وتجولت للأسفل إلى ذراعها العاري. «ولكني أظن بعض الشيء هذه المرة ...»
قاطعته بوجه متورد: «لا بد أن في هذا آفاقا لحياة عظيمة.» «كانت حياة عظيمة في الأيام الخوالي، كانت حياة صعبة ولكنها كانت حياة الرجال ... أنا سعيد أنني جنيت ثروتي في تلك الأيام ... فما كنت لأحصل على الحظ نفسه الآن.»
نظرت إليه. «يا لك من متواضع في تسميته حظا!»
كان إميل يقف خارج باب الغرفة الخاصة. لم يعد هناك ما يقدم. مرت به الفتاة الصهباء من غرفة المعاطف وفي ذراعها معطف كبير متهدب بقبعة. ابتسم محاولا جذب انتباهها. فتنشقت ورفعت أنفها في الهواء. لن تنظر إلي لأنني نادل. سأريهم عندما أجني بعض المال.
أتى النادل الهرم هامسا في أذنه: «اطلب من تشارلي زجاجتي مويت وشاندون أخريين، من الزجاجات ذات المذاق الأمريكي.»
كان الرجل ذو الوجه المستدير واقفا. «السيدات والسادة ...»
ارتفع صوت مزمر: «الصمت في حظيرة الخنازير ...»
قالت أولجا بصوت شديد الهدوء: «الخنزير الكبير يريد أن يتحدث.» «السيدات والسادة، نظرا للغياب المؤسف لنجمتنا نجمة مدينة بيثيلهم والممثلة المتفرغة ...»
قالت السيدة ذات التاج: «لا تسب يا جيلي.» «السيدات والسادة، لست معتادا على ...» «أنت ثمل يا جيلي.» «... أيا كان اتجاه المد ... أعني سواء أسارت الرياح في اتجاهنا أم في عكسه ...»
جذب شخص الرجل ذا الوجه المستدير من ذيل معطفه، فجلس بغتة على الكرسي.
قالت السيدة ذات التاج متوجهة إلى رجل طويل الوجه بلون التبغ كان يجلس في نهاية الطاولة: «إنه لأمر مروع ... إنه لأمر مروع أيها الكولونيل، تلك الهيئة المزرية التي يصبح عليها جيلي عندما يسكر ...»
كان الكولونيل يفك بإتقان لفافة القصدير من على حبة سيجار. قال متثاقلا: «يا للهول، أما تقولينه صحيح؟» كان وجهه جامدا فوق شاربه الرمادي الكث. «ثمة حكاية غاية في الرعب عن أتكنس الهرم المسكين، إليوت أتكنس الذي اعتاد أن يكون مع مانسفيلد ...»
قال الكولونيل ببرود شديد وهو يفصل نهاية السيجار بمطواة صغيرة ذات قبضة من اللؤلؤ: «أحقا؟» «قل لي يا تشيستر، هل علمت أن مابي إيفانز كانت تحقق نجاحا؟» «بأمانة يا أولجا لا أعلم كيف تفعل ذلك. فليس لها شخصية مميزة ...» «حسنا، لقد ألقى حديثا، ثملا كلورد كما تعلم، في إحدى الليالي عندما كانوا في جولة في كانساس ...» «إنها لا تستطيع الغناء ...» «لم يبل الرجل المسكين بلاء جيدا قط تحت الأضواء الساطعة ...» «إنها لا تتمتع بأقل مقومات الشخصية ...» «وقد ألقى خطابا كخطابات بوب إينجيرسول نوعا ما ...» «الرجل الهرم المسكين ... آه، لقد عرفته جيدا بالخارج في شيكاغو في الأيام الخوالي ...» «أحقا؟» أمسك الكولونيل بعناية بعود ثقاب مشتعل ووجهه نحو طرف سيجاره ... «وقد كان هناك وميض برق مروع وكرة نار دخلت من إحدى النوافذ وخرجت من الأخرى.» «هل ... قتل؟» زفر الكولونيل نفخة من دخان أزرق في اتجاه السقف.
صاحت أولجا صارخة: «ماذا، هل قلت إن بوب إينجيرسول قد صعقه البرق؟» «نال ما يستحقه ذلك الملحد المقيت.» «لا، ليس بالضبط، لكن الأمر أرعبه لدرجة أدرك معها الأشياء المهمة في الحياة، وهو الآن يتردد على الكنيسة الميثودية.» «من الطريف عدد الممثلين الذين أصبحوا قساوسة.»
قال الرجل ذو الألماسة مصدرا صريرا: «لا يمكن الحصول على جمهور بأي طريقة أخرى.»
حام النادلان خارج الباب يستمعان للجلبة بالداخل. قال النادل الهرم هامسا بمزيج من الفرنسية والإيطالية: «كومة من الخنازير اللعينة ... اللعنة!» هز إميل كتفيه. «تلك الفتاة السمراء تنظر إليك طوال الليل ...» ثم اقترب بوجهه من إميل وغمز. «بالطبع، ربما تحصل على شيء جيد.» «لا أريد أيا منهن ولا أيا من أمراضهن القذرة.»
صفع النادل الهرم فخذه. «لا يوجد شباب في هذه الأيام ... عندما كنت شابا اغتنمت الكثير من الفرص .»
قال إميل مطبقا على أسنانه: «إنهن لا ينظرن إليك أصلا. فما نحن سوى بذلات متحركة.» «تمهل قليلا، ستتعلم في النهاية.»
انفتح الباب. انحنوا احتراما في اتجاه الرجل ذي الألماسة. رسم شخص ساقي امرأة على مقدمة قميصه. فتوردت وجنتاه توردا واضحا. وتدلى الجفن السفلي لإحدى عينيه، مما أكسب وجهه الأشبه بوجه حيوان ابن عرس نظرة غريبة مائلة جانبا. «ما هذا بحق الجحيم، ما هذا بحق الجحيم يا ماركو؟» هكذا غمغم. «ليس لدينا شيء نشربه ... أحضر لنا قدرا مملوءا من الشامبانيا.»
انحنى النادل الهرم وقال بالفرنسية: «على الفور يا سيدي ...» ثم بمزيج من الإنجليزية والفرنسية: «أخبر أوجست يا إميل، في الحال وليكن الشراب مثلجا جيدا.»
عندما نزل إميل إلى الدهليز، سمع غناء.
أوه لو كان الأطلسي محيطا من الشامبانيا
أمواج براقة من ...
كان ذو الوجه المستدير وذو الأنف المنقاري عائدين من دورة المياه يترنحان مشبكين اليدين وسط النخيل في الردهة. «هذان الأحمقان اللعينان يصيبانني بالغثيان.» «أجل يا سيدي هذا ليس عشاء الشامبانيا الذي اعتدنا حضوره في فريسكو في الأيام الخوالي.» «آه كانت تلك أياما رائعة.»
ثبت ذو الوجه المستدير نفسه إلى الجدار، وقال: «بالمناسبة، هل رأيت أيها الصديق القديم هوليوك ذلك المقال الصغير المنمق للغاية حول تجارة المطاط الذي نشرته في الجريدة الصباحية ... سيجعل ذلك المستثمرين يقرضون ... كفئران صغيرة.» «ما الذي تعرفه عن المطاط؟ ... إنه ليس جيدا.» «انتظر وسترى أيها الصديق القديم هوليوك، أو ستخسر فرصة عمرك ... سواء أكنت سكران أم مستفيقا، يمكنني أن أشم رائحة النقود ... في الهواء.» «لماذا لا تحصل على أي فرصة إذن؟» تحول الوجه الأحمر للرجل ذي الأنف المنقاري إلى اللون الأرجواني؛ إذ انحنى إلى الأمام مطلقا صيحات عالية من الضحك.
قال الرجل الآخر بجدية: «لأنني دائما ما أطلع أصدقائي على حيلي. أنت أيها الفتى، أين هي هنا غرفة الطعام الخاصة؟»
بالفرنسية: «من هنا يا سيدي.»
مر بهما فستان أحمر ملتف ذو ثنيات كثنيات الأكورديون، ويعلوه وجه بيضوي صغير تحيط به تجعدات شعر مستوية بنية، وتبرز أسنان لؤلئية في ضحكة من فم فاغر.
صاح الجميع: «فيفي ووترز. عجبا يا عزيزتي الصغيرة فيفي، تعالي إلى ذراعي.»
رفعوها على كرسي حيث أخذت تهز قدميها هزات سريعة، والشامبانيا تقطر من كأسها المائلة. «كريسماس مجيد.» «عام جديد سعيد.» «ليعد عليكم هذا اليوم ...»
كان شاب وسيم قد تبعها للداخل يتمايل بصعوبة حول الطاولة ويغني:
أوه ذهبنا إلى معرض الحيوانات
وكانت الطيور والوحوش هناك
والرباح الكبير
على ضوء القمر
كان يمشط شعره الكستنائي.
صاحت فيفي ووترز وبعثرت الشعر الرمادي للرجل ذي الألماسة: «هوبلا.» قفزت نازلة من فوق الكرسي بركلة قدم، وتبخترت في أنحاء الغرفة، بركلات عالية بتنورتها المنفوشة لأعلى حول ركبتيها. «أوه لالا، إنها الفرنسية ذات الركلات العالية!» «ترقبوا باليه أصحاب القامة القصيرة.»
كانت ترتدي في ساقيها الرشيقتين جوربين حريريين أسودين لامعين على نعلين متوردين أحمرين يومضان في وجوه الرجال.
صاحت المرأة ذات التاج: «إنها مجنونة.»
هوبلا. كان هوليوك يترنح في المدخل وقبعته العالية مائلة على رأس أنفه المتورد. أطلقت صيحة وركلتها.
صاح الجميع: «إنه هدف.» «بحق المسيح، لقد ركلتني في عيني.»
حدقت فيه لثانية بعينين مستديرتين ثم أجهشت بالبكاء فوق مقدمة القميص العريضة للرجل ذي الألماسة. نشجت قائلة: «لن أدع نفسي أهان هكذا.» «افرك العين الأخرى.» «فليحضر أحد ضمادة.» «اللعنة، كادت تخلع عينه.» «فلتستدع سيارة أجرة أيها النادل.» «أين يمكن العثور على طبيب؟» «سيكلفك ذلك كثيرا يا صديقي القديم.»
ضغط على عينه بمنديل مليء بالدموع والدم أحضره إليه ذو الأنف المنقاري متعثرا. احتشد الرجال والنساء عند الباب ووراءه، وكان آخرهم الشاب الأشقر، الذي أخذ يتمايل ويغني:
والرباح الكبير على ضوء القمر
كان يمشط شعره الكستنائي.
كانت فيفي ووترز تنشج ورأسها على الطاولة.
قال الكولونيل الذي كان لا يزال جالسا حيث هو طوال السهرة: «لا تبكي يا فيفي. إليك شيئا أتوقع أنه سيجعلك تشعرين بحال أفضل.» دفع بكأس من الشامبانيا نحوها على الطاولة.
شهقت وبدأت في شربها برشفات صغيرة. «مرحبا يا روجر، كيف حال الفتى؟» «الفتى بأفضل حال، شكرا لك ... ولكنه يشعر بالضجر، ألا ترين ؟ سهرة مع مثل هؤلاء الأوغاد ...» «أنا جائعة.» «لا يبدو أن هناك أي شيء متبق لتناوله.» «لم أكن أعلم أنك ستحضر، وإلا كنت قد أتيت باكرا، صدقا.» «أحقا كنت ستفعلين؟ ... حسنا، هذا لطيف جدا.»
سقط الرماد من سيجار الكولونيل، فنهض واقفا. «حسنا يا فيفي، سأستدعي سيارة أجرة وسنذهب بها في جولة في المتنزه ...»
تجرعت الشامبانيا وأومأت مبتهجة. «يا إلهي، إنها الساعة الرابعة ...» «معك أغطية مناسبة، أليس كذلك؟»
أومأت مرة أخرى. «رائع يا فيفي ... أرى أنك في هيئة جيدة.» كان وجه الكولونيل الذي يشبه في لونه لون السيجار تنفك قسماته مبتسما. «حسنا، هيا هلمي.»
نظرت حولها مذهولة. «ألا أصطحب معي أحدا؟» «لا داعي إطلاقا!»
وجدا مصادفة في الردهة الشاب الأشقر، الذي كان يتقيأ في هدوء في دلو الحريق أسفل نخلة اصطناعية.
قالت مجعدة أنفها لأعلى: «أوه، فلنتركه.»
قال الكولونيل: «لا داعي إطلاقا!»
أحضر إميل معطفيهما. إذ كانت الفتاة الصهباء قد ذهبت إلى المنزل. «اسمع يا ولد.» لوح الكولونيل بعصاه. «اطلب لي عربة أجرة رجاء ... وتأكد من أن الحصان مناسب ومن أن السائق غير ثمل.»
بالفرنسية: «على الفور يا سيدي.»
كانت السماء خلف الأسقف والمداخن زرقاء كالياقوت. استنشق الكولونيل ثلاث أو أربع رشفات من الهواء المعبأ برائحة الفجر، ورمى سيجاره في المزراب. «أقترح تناول شيء للإفطار في كليرمونت. لم أجد شيئا مناسبا لتناوله طوال الليل. تلك الشامبانيا الحلوة بفظاعة، يا للقرف!»
قهقهت فيفي. بعد أن تفحص الكولونيل ثنات الحصان وربت على رأسه، ركبا العربة. لف الكولونيل ذراعه بعناية حول فيفي وانطلقا في طريقهما. وقف إميل لبرهة عند باب المطعم يفرد تجاعيد ورقة بقيمة خمسة دولارات. كان متعبا وكان مشطا قدميه يؤلمانه.
عندما خرج إميل من الباب الخلفي للمطعم، وجد كونغو في انتظاره جالسا على عتبة الباب. كانت لبشرة كونغو مظهر أخضر بارد أعلى ياقة معطفه المهترئة المطوية لأعلى.
قال إميل لماركو: «هذا صديقي. أتينا على المركب نفسه.» «أليس لديك زجاجة من النبيذ تحت معطفك؟ يا إلهي، لقد رأيت بعض الدجاج الجيد يخرج به من هذا المكان.» «ولكن ما الأمر؟» «فقدت وظيفتي، هذا كل ما في الأمر ... لم أعد أريد أن أتعامل مع ذلك الرجل. تعال واشرب القهوة.»
طلبوا القهوة وكعك الدونات في عربة طعام على قطعة أرض فارغة.
سأل ماركو بمزيج من الفرنسية والإنجليزية: «حسنا، هل تحب هذا البلد الكريه؟» «لم لا؟ أنا أحب أي مكان. فكل الأماكن سواء؛ في فرنسا تكسب القليل ولكنك تعيش حياة جيدة، وهنا تكسب الكثير ولكنك تعيش حياة سيئة.»
بالإيطالية: «هذا البلد حاله مقلوب رأسا على عقب.» «أظن أنني سأعود إلى البحر مجددا ...»
قال الرجل ذو الوجه الشبيه بثمرة القرنبيط، والذي رمى بأقداح القهوة الثلاثة على المنضدة: «لماذا لا تتعلمون الإنجليزية بحق الجحيم؟»
أجاب ماركو: «إذا تحدثنا الإنجليزية، فلربما لا يعجبك ما نقوله.» «لماذا طردوك من العمل؟»
بالفرنسية: «تبا! لا أعرف. تجادلت مع البعير الهرم الذي يدير المكان ... كان يعيش بجوار الإسطبلات، وبالإضافة إلى غسيل العربات كان يجعلني أنظف أرضيات منزله ... وزوجته لها وجه كهذا.» زم كونغو شفتيه وحاول أن يبدو كالأحول.
ضحك ماركو. قال بالإيطالية: «اللعنة!» «كيف كنت تتحدث معهما؟»
بمزيج من الإنجليزية والفرنسية: «كانا يشيران إلى الأشياء، وكنت أومئ برأسي وأقول حسنا. كنت أذهب إلى هناك في الساعة الثامنة وأعمل حتى الساعة السادسة، وكانا يكلفانني كل يوم بأشياء كريهة أكثر ... ليلة أمس طلبا مني تنظيف المرحاض في الحمام. هززت رأسي ... ذلك عمل المرأة ... غضبت غضبا شديدا وبدأت تصرخ. كنت بدأت في تعلم الإنجليزية ... وقلت لها اذهبي إلى الجحيم ... ثم جاء الرجل الهرم وطاردني في الشارع بسوط العربة وقال إنه لن يدفع لي أجري الأسبوعي ... وبينما كنا نتجادل طلب رجلا من رجال الشرطة، وعندما حاولت أن أشرح للشرطي أن الرجل الهرم مدين لي بعشرة دولارات نظير الأسبوع، قال ارحل أيها الإيطالي الحقير، وضربني على رأسي بهراوته ... اللعنة إذن ...»
احمر وجه ماركو. «أقال لك أيها الإيطالي الحقير؟»
أومأ كونغو برأسه موافقا وفمه ممتلئ بكعك الدونات.
تمتم ماركو بالإنجليزية: «ما هو سوى أيرلندي حقير. لقد سئمت هذه المدينة العفنة ...»
بمزيج من الإنجليزية والإيطالية: «هذا هو الحال نفسه في جميع أنحاء العالم، الشرطة تضربنا، والأغنياء يسرقون أجورنا المعدومة، والخطأ خطأ من؟ ... اللعنة! خطؤك، وخطئي، وخطأ إميل ...» «إننا لم نصنع العالم ... بل هم من صنعوه أو ربما الإله هو من صنعه.» «الإله في صفهم، مثله مثل الشرطة ... عندما يحين الوقت سنقتل الإله ... أنا من أنصار الفوضى.»
همهم كونغو بالفرنسية: «اللعنة على البرجوازيين.» «هل أنت واحد منا؟»
هز كونغو كتفيه. «لست كاثوليكيا أو بروتستانتيا؛ أنا مفلس وبلا عمل. انظر إلى ذلك.» أشار كونغو بإصبع متسخ إلى شق طويل في ركبة بنطاله. «تلك هي الفوضى ... اللعنة، سأذهب إلى السنغال وأصبح زنجيا.»
ضحك إميل وقال: «أنت تبدو زنجيا بالفعل.» «لذلك يسمونني كونغو.»
تابع إميل قائلا: «ولكن ذلك كله سخف. فالناس جميعهم سواء. كل ما في الأمر أن هناك بعض الناس قد تقدموا وآخرين لم يتقدموا ... لذلك أتيت إلى نيويورك.»
بمزيج من الإيطالية والإنجليزية: «تبا، لقد ظننت ذلك أيضا منذ 25 سنة ... عندما تصبح هرما مثلي ستعرف جيدا. ألا تشعر أحيانا بالعار هنا؟ هنا» ... طرق ببراجم أصابعه على مقدمة قميصه ... «أشعر بحرارة وكما لو كان هناك غصة هنا ... ثم أقول لنفسي تشجع فيومنا آت، يوم تسيل الدماء.»
قال إميل: «أنا أيضا أعد نفسي. ولكني أقول لنفسي عندما يكون لديك بعض المال أيها الفتى.» «اسمع، قبل أن أغادر تورينو عندما ذهبت آخر مرة لرؤية أمي، حضرت اجتماعا للرفاق ... نهض رجل من كابوا للتحدث ... كان رجلا وسيما للغاية، وطويلا وشديد النحافة ... قال إنه لن تعود هناك سلطة عندما لا يحيا أحد بعد الثورة على عمل الآخرين ... الشرطة، والحكومات، والجيوش، والرؤساء، والملوك ... كل ذلك يمثل السلطة. السلطة ليست شيئا حقيقيا؛ إنها وهم. إن العامل هو الذي يخترع كل ذلك لأنه يؤمن به. اليوم الذي نتوقف فيه عن الإيمان بالمال والملكية سيكون ما ولى كحلم عندما نستيقظ. لن نصبح بحاجة إلى القنابل أو المتاريس ... الدين، والسياسة، والديمقراطية؛ كل ذلك للإبقاء علينا في حالة الغفلة ... يجب أن يجوب الجميع أرجاء البلاد منادين في الناس: استيقظوا!»
قال كونغو: «عندما تنزل إلى الشارع سأكون معك.» «هل تعرف ذلك الرجل الذي أتحدث عنه؟ ... ذلك الرجل، إريكو مالاتيستا، هو أعظم رجل في إيطاليا بعد جاريبالدي ... قضى حياته كلها في السجن والمنفى، في مصر، وفي إنجلترا، وفي أمريكا الجنوبية، وفي كل مكان ... إن كان بإمكاني أن أصبح رجلا مثله، لا يهمني ما يفعلونه؛ يمكنهم أن يعدموني، أن يطلقوا النار علي ... لا يهمني ... أنا سعيد للغاية.»
قال إميل ببطء: «ولكن لا بد أن رجلا كهذا مجنون. لا بد أنه مجنون.»
تجرع ماركو آخر رشفة من قهوته. «مهلا. أنت صغير للغاية. ستفهم ... واحد تلو الآخر يجعلوننا نفهم ... وتذكر ما قلته ... ربما سأكون مسنا، ربما سأكون قد مت، لكنه سيأتي اليوم الذي يستيقظ فيه العمال من العبودية ... ستقيمون الإضرابات في الشارع وستهرب الشرطة، وستذهب إلى المصرف حيث يسكب المال على الأرض ولن تنحني لتلتقطه، لا شيء أفضل من ذلك ... إننا نعد أنفسنا في جميع أنحاء العالم. هناك رفاق حتى في الصين ... كانت ضاحيتك الصغيرة في فرنسا هي البداية ... فشلت الاشتراكية. حان الوقت للفوضويين أن يوجهوا الضربة التالية ... وإن فشلنا فسيكون هناك آخرون ...»
تثاءب كونغو، وقال: «أشعر بالنعاس الشديد.»
بالخارج، كان الفجر بلون الليمون يغمر الشوارع الفارغة، حيث كان يقطر من الأفاريز، ومن قضبان سلالم الطوارئ، ومن حواف صناديق القمامة، كاسرا كتل الظل بين الأبنية. كانت مصابيح الشوارع مطفأة. عند الناصية، نظروا إلى شارع برودواي الذي كان ضيقا ومسفوعا كما لو أن نارا قد طالته.
قال ماركو، وصوته متحشرج في حلقه: «لا أرى الفجر مطلقا لدرجة أنني لا أقول لنفسي ربما ... ربما اليوم.» تنحنح وقرع قاعدة عمود إنارة، ثم غادرهما بخطوته المتمايلة، مستنشقا دفقات قوية من الهواء البارد. «أصحيح يا كونغو أنك تريد العودة للعمل في البحر؟» «لم لا؟ أود أن أرى العالم قليلا ...» «سأفتقدك ... وسيكون علي البحث عن غرفة أخرى.» «ستجد صديقا آخر لتشاركه غرفتك.» «ولكن إذا فعلت ذلك فستظل بحارا طوال حياتك.» «وماذا يهم؟ عندما تصبح غنيا وتتزوج سآتي لزيارتك.»
كانا يسيران في الجادة السادسة. دوى صوت قطار سريع فوق رأسيهما مخلفا صلصلة طنين لتتلاشى وسط عوارض السكة الحديدية بعد مروره. «لم لا تبحث عن عمل آخر وتبقى لبعض الوقت؟»
أخرج كونغو سيجارتين منحنيتين من جيب صدر معطفه، وأعطى واحدة لإميل، وأخرج عود ثقاب لإشعال سيجارته، وترك الدخان يخرج بطيئا من أنفه. «لقد سئمت الوضع هنا كما أخبرتك ...» وضع يده أفقيا على تفاحة عنقه، قائلا: «إلى هنا ... ربما سأعود للوطن وأزور فتيات بوردو الصغيرات ... فعلى الأقل لا يرتدي جميعهن البلين ... سأنضم باعتباري متطوعا في البحرية وأرتدي قبعة ذات كرة مزركشة حمراء ... الفتيات يعجبن بذلك. تلك هي الحياة الوحيدة التي أراها ... السكر وإحداث الفوضى يوم دفع الرواتب ورؤية الشرق البعيد.» «وتموت مصابا بالزهري في أحد المستشفيات في سن الثلاثين ...» «وماذا يهم؟ ... إن جسمك يجدد نفسه كل سبع سنوات.»
كانت رائحة الدرج في منزلهما ذي الغرف المفروشة للإيجار كرائحة الملفوف والجعة الفاسدة. صعدا متعثرين ومتثائبين. «إن الانتظار لأمر شاق وكريه ... إنه يجعل أخمصي قدميك يؤلمانك ... انظر، سيكون يوما جيدا؛ يمكنني أن أرى الشمس على حاوية الماء في الجهة المقابلة.»
خلع كونغو حذاءه وجوربه وبنطاله وتكور في السرير كالقط.
تمتم إميل وهو يمدد نفسه على الحافة الخارجية للسرير: «تلك الستائر القذرة تدخل الضوء كله.» تقلب مضطربا فوق الملاءة المجعدة. وكانت أنفاس كونغو الواصلة إليه منخفضة ومنتظمة. فكر إميل، فقط لو كنت كذلك، لا يقلقني شيء ... ولكن ليس هكذا تتقدم في العالم. يا إلهي، هذا غباء ... إن ماركو مختل، ذلك الأحمق الهرم.
ورقد على ظهره ناظرا لأعلى إلى البقع الصدئة على السقف، يرتجف في كل مرة يهز فيها قطار مار الغرفة. بحق الإله المقدس، يجب أن أدخر المال. عندما تقلب، اهتزت ألواح السرير وتذكر صوت ماركو الأجش الهامس: لا أرى الفجر مطلقا لدرجة أنني لا أقول لنفسي ربما. •••
قال سمسار المنازل: «لو تأذن لي بلحظة يا سيد أولفسن. بينما كنت أنت والسيدة تفكران في الشقة ...» وقفا جانبا متلاصقين في الغرفة الفارغة ، ينظران من النافذة إلى شارع هدسون الذي يغلب عليه لون الأردواز والسفن الحربية الراسية ومركب شراعي ينحرف عكس التيار.
التفتت إليه فجأة بعينين براقتين، وقالت: «أوه يا بيللي، فقط فكر في الأمر.»
وضع ذراعه على كتفيها وسحبها تجاهه ببطء. «يمكنك تقريبا استنشاق رائحة البحر.» «فكر قليلا يا بيللي في أننا سنعيش هنا، في طريق ريفير سايد درايف. سيكون علي قضاء يوم في المنزل ... السيدة وليام سي أولفسن، 218 طريق ريفير سايد درايف ... ترى هل سيكون من الصواب وضع العنوان على بطاقات زيارتنا.» أخذت بيده وقادته عبر الغرف الفارغة النظيفة التي لم يعش فيها أحد من قبل. كان رجلا كبير الحجم بطيء الحركة ذا عينين زرقاوين شاحبتين وغائرتين في رأس طفولي أبيض. «هذا يكلف الكثير من المال يا بيرثا.» «يمكننا تحمله الآن، بالطبع يمكننا ذلك. يجب أن نعيش بما يتناسب ودخلنا ... منصبك يتطلب ذلك ... وفكر في كم السعادة التي سنكون فيها.»
رجع سمسار المنازل إلى الردهة فاركا يديه. «حسنا، حسنا ... آه، أرى أننا قد توصلنا إلى قرار مبشر بالخير ... أنت حكيم للغاية أيضا؛ فليس هناك موقع أجمل في مدينة نيويورك، وفي غضون بضعة شهور لن تتمكن من الحصول على أي شيء في هذا الطريق بأي مقابل.» «أجل سنأخذه من أول الشهر.» «جيد جدا ... لن تندم على قرارك يا سيد أولفسن.» «سأرسل لك شيكا بالمبلغ في الصباح.» «وقتما يناسبك ... وما عنوانك الحالي من فضلك؟ ...» أخرج سمسار المنازل دفترا وبلل عقب قلم رصاص بلسانه. «يفضل أن تكتب فندق أستور.» تقدمت أمام زوجها. «أمتعتنا مخزنة حاليا.»
احمر وجه السيد أولفسن. «و... و... نريد اسمين لشخصين يمكن الرجوع إليهما في مدينة نيويورك من فضلك.» «إنني أعمل لدى كيتنج وبرادلي، مهندسين صحيين، 43 بارك أفنيو ...»
أضافت السيدة أولفسن قائلة: «لقد ترقى لتوه إلى منصب مساعد المدير العام.»
عندما خرجا إلى الطريق وسارا وسط المدينة في عكس اتجاه ريح شديدة، صاحت قائلة: «أنا سعيدة جدا يا حبيبي ... ستصبح حياتنا حقا تستحق العيش الآن.» «ولكن لماذا أخبرته أننا نقيم في فندق أستور؟» «لم أستطع أن أخبره أننا نقيم في حي ذا برونكس، كيف لي أن أخبره بذلك؟ كان سيظن أننا يهود ولن يؤجر لنا الشقة.» «ولكنك تعلمين أنني لا أحب ذلك.» «حسنا، يمكننا ببساطة الانتقال إلى فندق أستور لما تبقى من الأسبوع إذا كنت تريد أن تشعر بالصدق الشديد ... لم أقم في حياتي في فندق كبير في وسط المدينة.» «أوه يا بيرثا، إنها مسألة مبدأ ... إنني لا أحبك أن تكوني كذلك.»
التفتت ونظرت إليه بفتحتي أنف مرتعشتين. «أنت رخو للغاية يا بيللي ... كنت أتمنى أن يكون زوجي متمتعا بالرجولة.»
سحبها من ذراعها. وقال بخشونة ووجه منصرف عنها: «لنسر هنا.»
سارا في تقاطع طرق بين الأبنية. وعند إحدى النواصي، كان النصف الواهن لبيت ريفي ذي ألواح مضادة للمطر لا يزال قائما. كان هناك نصف غرفة على جدارها ورق حائط مرسوم عليه زهور زرقاء، متآكل بفعل آثار دخان مدفأة، تحولت إلى بقع بنية، وخزانة محطمة داخل الجدار، وهيكل سرير حديدي منحن. •••
كانت الأطباق تنزلق بلا نهاية عبر أصابع بود السمينة. وتفوح حوله روائح القمامة ورغوة الصابون. يمسح الأطباق بدورتين بالممسحة الصغيرة، ثم يغمرها بالمياه، ثم يشطفها، ثم يكومها في الرف كي يجففها الفتى اليهودي الطويل الأنف. كانت ركبتاه مبللتين من سكب المياه، وكان الشحم يزحف إلى ساعديه، ويتشنج مرفقاه. «تبا، هذا عمل لا يليق برجل أبيض.»
قال الفتى اليهودي وسط صلصلة الأطباق ودبيب واضطراب الموقد حيث كان ثلاثة طهاة متعرقين يقلون البيض ولحم الخنزير وشرائح الهامبورجر ويحمرون البطاطس ومفروم اللحم المحفوظ: «لا يهمني شيء ما دمت أجد طعامي.»
قال بود ممررا لسانه حول فمه لإزاحة قطعة من اللحم المملح هرسها بلسانه في سقف فمه: «بالطبع آكل جيدا.» يمسح الأطباق بدورتين بالممسحة الصغيرة، ثم يغمرها بالمياه، ثم يشطفها، ثم يكومها في الرف كي يجففها الصبي اليهودي الطويل الأنف. سادت لحظة هدوء. أعطى الفتى اليهودي بود سيجارة. وقفا متكئين على الحوض. «لا توجد طريقة لجني الأموال من غسيل الأطباق.» تمايلت السيجارة بين شفتي الفتى اليهودي البدينة وهو يتكلم.
قال بود: «هذه ليست وظيفة مناسبة لرجل أبيض على الإطلاق. من الأفضل الانتظار؛ فهناك البقشيش.»
دخل رجل يرتدي قبعة دربية عبر الباب المتأرجح من المطعم السريع. كان رجلا كبير الفك وذا عينين كعيني خنزير، وكان يلتصق خارجا من منتصف فمه باستقامة سيجار طويلا. لمحه بود وشعر بوميض بارد يلوي أحشاءه.
همس: «من ذلك؟» «لا أعلم ... أظنه زبونا.» «ألا يبدو لك أنه أشبه بأحد المحققين؟» «كيف لي أن أعرف بحق السماء؟ لم أدخل السجن من قبل.» احمر وجه الفتى اليهودي ومد فكه.
وضع مساعد النادل كومة جديدة من الأطباق المتسخة. يمسح الأطباق بدورتين بالممسحة الصغيرة، ثم يغمرها بالمياه، ثم يشطفها، ثم يكومها في الرف. عندما مر الرجل ذو القبعة الدربية البنية راجعا عبر المطبخ، ثبت بود نظره على يديه السمينتين الحمراوين. حتى وإن كان محققا، فماذا بحق الجحيم ... عندما أنهى بود تنظيف دفعة الأطباق، مشى إلى الباب ماسحا يديه، وأخذ معطفه وقبعته من فوق الشماعة وانسل خارجا من الباب الجانبي مارا بصفائح القمامة وخرج إلى الشارع. من الحماقة إضاعة ساعتين مدفوعتي الأجر. في نافذة محل نظارات، كانت الساعة الثانية وخمسا وعشرين دقيقة. مشى في شارع برودواي، مارا بميدان لينكولن، عبر دوار كولومبوس، ووصل إلى وسط المدينة نحو مركز كل شيء حيث المزيد من الازدحام. •••
استلقت وركبتاها منحنيتان إلى ذقنها، وشدت ثياب نومها بقوة أسفل أصابع قدميها. «تمددي واخلدي إلى النوم يا عزيزتي ... عدي أمك أنك ستنامين.» «ألن يأتي أبي ويقبلني قبلة ما قبل النوم؟» «سيفعل عندما يرجع إلى المنزل؛ فقد رجع إلى المكتب وأنا ذاهبة إلى السيدة سبين جارن للعب الورق.» «متى سيرجع أبي إلى المنزل؟» «قلت لك يا إيلي اخلدي إلى النوم ... سأترك المصباح مضاء.» «لا يا أمي، إنه يصنع ظلالا ... متى سيعود أبي إلى المنزل؟» «عندما يكون مستعدا.» كانت تخفض ضوء مصباح الغاز. تجمعت الظلال من الأركان مكونة أجنحة واندفعت معا. «طابت ليلتك يا إلين.» ضاق شريط الضوء القادم من الباب خلف الأم، ضاق ببطء ليصبح خيطا أعلى القمة وبمحاذاتها. أصدر مقبض الباب نقير غلقه، وتلاشى وقع الخطوات في الردهة، ثم صفع باب المنزل. دقت الساعة في مكان ما في الغرفة التي سادها الصمت، أما خارج الشقة، خارج المنزل، فكانت العجلات ووقع حوافر الخيول المتبخترة، أصواتا متعاقبة في دوي متصاعد. كان الظلام دامسا فيما عدا خيطي الضوء اللذين شكلا حرف
L
مقلوبا في زاوية الباب.
أرادت إيلي أن تبسط قدميها، ولكنها كانت خائفة. ولم تجرؤ على صرف عينيها عن الحرف المقلوب في زاوية الباب. إذا أغمضت عينيها، فسيذهب عنها الضوء. بجوار السرير، من ستائر النافذة، ومن الخزانة، ومن أسفل الطاولة اندفع الظل مصرصرا نحوها. أمسكت بإحكام بكاحليها، ودفعت بذقنها بين ركبتيها. ظهرت الوسادة منتفخة في الظل، حيث كانت الظلال المتقلبة تزحف إلى سريرها. إذا أغمضت عينيها، فسيذهب عنها الضوء.
كان الزئير الغامض المتواصل في الخارج يذوب عبر الجدران جاعلا الظلال المتعانقة ترتجف. أخذ لسانها ينقر في أسنانها كدقات الساعة. تصلب ذراعاها وساقاها، كما تيبس عنقها، وكانت على وشك الصراخ. صراخ يعلو دوي الضوضاء الجنونية بالخارج، صراخ يجعل أباها يسمعها ويعود إلى المنزل. التقطت أنفاسها وانكمشت مرة أخرى. ليت أبي يعود. تداخلت الظلال المدوية وتراقصت، وترنحت تدور وتدور. ثم كانت تبكي، وكانت عيناها مليئتين بالدموع الدافئة المطمئنة، التي كانت تسيل فوق وجنتيها وإلى داخل أذنيها. تقلبت وأخذت تبكي ووجهها مدفون في الوسادة. •••
اختلجت مصابيح الغاز لبعض الوقت في الشوارع الأرجوانية من أثر البرودة، ثم اختفى ضوءها تحت أثر الفجر المتقد. يسير جاس ماك نيل، والنوم لا يزال يداعب عينيه، بجوار عربته مؤرجحا سلة من الأسلاك ممتلئة بزجاجات الحليب، ويتوقف عند الأبواب جامعا الزجاجات الفارغة، ويصعد السلالم الباردة مستعيدا كيف يميز بين درجات الحليب المختلفة وأنصاف اللترات من القشدة والحليب الرائب، بينما تصبح السماء خلف الأفاريز، والخزانات، وقمم الأسقف، والمداخن وردية وصفراء. يتلألأ الصقيع على عتبات الأبواب وحواف الأرصفة. ويترنح الحصان ذو الرأس المتدلى قافزا من باب إلى آخر. هناك، يظهر أول آثار أقدام داكنة على الرصيف المفروش بالصقيع . تقرقع عربة جعة ثقيلة في الشارع.
صاح جاس ماك نيل في شرطي يلوح بذراعيه عند ناصية الجادة الثامنة، قائلا: «مرحبا يا مويكي، تشعر ببعض البرودة، أليس كذلك؟» «مرحبا جاس. ألا يزال البقر ينتج الحليب؟»
كان ضوء النهار قد انتشر عندما ضرب أخيرا باللجام الردف الهزيل لفرسه الخصي ورجع إلى منتجات الألبان، حيث تثب الزجاجات الفارغة وتهتز في العربة وراءه. في الجادة التاسعة، ينطلق قطار بالأعلى مصلصلا في وسط المدينة خلف محرك أخضر صغير تنبعث منه بقع من الدخان بيضاء وكثيفة كالصوف القطني، وتذوب في الهواء الغر بين المنازل المتجمدة ذات النوافذ السوداء. التقطت الأشعة الأولى للشمس النقش المذهب «نبيذ وكحوليات دانييل ماك جيليكودي» عند ناصية الجادة العاشرة. لسان جاس ماك نيل جاف وللفجر مذاق مالح في فمه. من شأن صفيحة من الجعة أن تجعله يشعر بتحسن في صباح بارد كهذا. لف اللجام حول السوط وقفز فوق العجلة. شعر بوخز في قدميه المخدرتين عندما اصطدمتا بالرصيف. دق برجليه لاستعادة تدفق الدم إلى أخمصي قدميه، واندفع عبر البابين المتأرجحين. «اللعنة علي إن لم يكن هذا هو بائع الحليب، جالبا لنا نصف لتر من القشدة لقهوتنا.» بصق جاس في وعاء البصق الملمع لتوه بجوار الحانة. «أيها الفتى، إنني عطشان ...»
قال الساقي مزمجرا بوجه أشبه بشريحة لحم مربعة: «لقد شربت الكثير من الحليب مرة أخرى يا جاس، أنا متأكد من ذلك.»
تفوح من الحانة رائحة منظف المناضد والنشارة الطازجة. عبر نافذة مفتوحة، داعب شعاع متورد لضوء الشمس ردف امرأة عارية تتكئ في هدوء كبيضة مسلوقة فوق فرشة من السبانخ في صورة ذات إطار مذهب خلف منضدة الحانة. «حسنا يا جاس، فيم ترغب في صباح بارد وجميل كهذا؟» «أظن أن الجعة ستكون اختيارا جيدا يا ماك.»
تصاعدت الرغوة في الكأس، مهتزة لأعلى، وتساقطت. مسح الساقي أعلى الكأس بملعقة خشبية، مما جعل الرغوة تسكن لبرهة، ثم وضع الكأس مرة أخرى أسفل صنبور يصدر صريرا ضعيفا. يضع جاس عقبه بارتياح على السياج النحاسي. «حسنا، كيف حال العمل ؟»
تجرع جاس كأس الجعة وأشار بيد مبسوطة للأمام إلى عنقه قبل أن يمسح بها فمه. «بلغ الأمر الحلقوم ... سأخبرك بما سأفعل، سأذهب إلى الغرب، وسآخذ أرضا فارغة في داكوتا الشمالية أو في أي مكان آخر وسأزرع القمح ... أتقن جيدا العمل في المزارع ... أما العيش هنا في المدينة، فلا جدوى منه.» «ما رأي نيللي في ذلك؟» «لن يروق الأمر لها في البداية؛ فهي تفضل وسائل الراحة في المنزل وكل ما اعتادت عليه، غير أنني أظن أنها سيعجبها الوضع عندما نذهب إلى هناك كذلك. فهذه ليس حياة مناسبة لها أو لي أيضا.» «معك حق. فهذه المدينة في طريقها إلى الدمار ... سأبيع أنا والفتيات ما لنا هنا في يوم من الأيام عما قريب حسب ظني. إن استطعنا أن نشتري مطعما لائقا في الحي السكني أو نزلا على الطريق، فهذا ما سيناسبنا. أضع عيني على عقار صغير خارج طريق برونكسفيل، على مسافة يسهل الوصول إليها بالسيارة.» متأملا يرفع قبضته الشبيهة بالمطرقة إلى ذقنه. «لقد سئمت من طرد هؤلاء السكارى الملاعين كل ليلة. اللعنة، أتركت الحلبة لأستمر في القتال؟ آخرها ليلة أمس؛ إذ بدأ رجلان الشجار، وكان علي أن أتشاجر مع كل منهما كي يغادرا المكان ... لقد سئمت من الشجار مع كل سكير في الجادة العاشرة ... أترغب في مشروب آخر على حساب المكان؟» «يا إلهي، أخشى أن تشم نيللي رائحة الكحول مني.» «أوه، لا تبال لذلك مطلقا. لا بد أن نيللي قد اعتادت على شربك بعض الخمر. فزوجها الهرم يحبه كثيرا.» «ولكني صدقا يا ماك لم أسكر ولو مرة منذ زفافنا.» «لا ألومهم. فنيللي فتاة جميلة حقا. وتلك التجعيدات الصغيرة في شعرها تسلب الرجال عقولهم.»
أرسل كأس الجعة الثانية إحساسا بالتورد اللاذع والرغوي إلى أنامل جاس. فصفع فخذه ضاحكا. «إنها كقشرة البيضة، هذه هي طبيعتها يا جاس، وهي سيدة شديدة الرقي كذلك.» «حسنا، أعتقد أنني سأرجع إليها.» «يا لك من شيطان صغير محظوظ أن تعود إلى المنزل لتنام في سريرك مع زوجتك، بينما نستهل جميعا الذهاب للعمل!»
ازدادت حمرة وجه جاس المتورد. وخدرت أذناه. «أحيانا تكون لا تزال في الفراش ... وداعا يا ماك.» خرج داقا بقدميه في الشارع مجددا.
ازداد الصباح وحشة. إذ استقرت السحب الكئيبة فوق المدينة. صاح جاس وهو يهز رأس الفرس الخصي: «انهض يا ذا الجلد والعظام المسنة.» الجادة الحادية عشرة ممتلئة بالغبار الجليدي، وقعقعة سحق العجلات، واحتكاك الحوافر على الأرض المرصوفة بالحصى. وفي مسارات السكة الحديدية، تسمع جلجلة جرس قاطرة ودبيب تفريغ عربات البضائع. جاس في الفراش مع زوجته يتحدث إليها برفق. اسمعي يا نيللي، لا تمانعين من أن ننتقل إلى الغرب، أليس كذلك؟ لقد أرسلت طلبا للحصول على أرض مزرعة فارغة في ولاية داكوتا الشمالية، إنها أرض ذات تربة سوداء حيث يمكننا جني كومة من المال بزراعة القمح؛ فبعض الرجال أصبحوا أغنياء بعد خمس غلات جيدة ... وهي حياة صحية أكثر للأطفال على أي حال ... «مرحبا يا مويكي!» لا يزال مويكي الهرم المسكين في نوبة عمله. إن العمل شرطيا فيه تعرض للبرودة. أفضل أن أكون مزارعا للقمح وأن يكون لدي بيت مزرعة كبير، وحظائر، وخنازير، وخيل، وبقر، ودجاج ... وتطعم نيللي الدجاج عند باب المطبخ بشعرها الجميل المجعد ...
صاح رجل مناديا جاس من فوق حافة الرصيف: «مرحبا، يا إلهي ... انتبه للعربات!»
ينفرج فم صائحا أسفل قبعة ذات حافة، ويلوح علم أخضر. «يا إلهي، إنني فوق قضبان السكك الحديدية.» حول رأس الحصان بقوة. اصطدمت العربة خلفه متصدعة. العربات، والحصان الخصي، والعلم الأخضر، والمنازل الحمراء تدور وتتلاشى في الظلام.
الفصل الثالث
دولارات
على طول السياج كانت هناك وجوه، وفي فتحات الإضاءة كانت هناك وجوه. باتجاه الريح، أتت رائحة كريهة من الباخرة الصغيرة الحجم البدينة المربوطة في المرساة، والمائلة قليلا على أحد جانبيها ويتدلى من صاريها الأمامي علم العزل الأصفر.
قال الرجل الهرم الذي كان ساندا على مجدافه: «مستعد أن أدفع مليون دولار لأعرف سبب مجيئهم.»
قال الشاب الذي كان يجلس في المؤخرة: «فقط من أجل هذا البلد يا أبي. أليست أرض الفرص؟»
قال الرجل الهرم: «لا أعرف سوى شيء واحد. عندما كنت صبيا، كان الهمج الأيرلنديون يأتون في الربيع مع أول أسراب سمك الشاد ... الآن لا يوجد شاد، وهؤلاء الناس، الرب يعلم من أين أتوا.» «إنها أرض الفرص.»
جلس شاب ذو وجه بيضوي، وعينين قاسيتين، وأنف نحيف مجعد على كرسي دوار، واضعا قدميه على مكتبه الجديد المصنوع من خشب الماهوجني. كانت بشرته شاحبة، وكانت شفتاه متجهمتين قليلا. تلوى على الكرسي الدوار وهو يشاهد الخدوش الصغيرة التي كان يحدثها حذاؤه على القشرة الخشبية. اللعنة، لا أهتم. ثم نهض فجأة مصدرا صيحة الدوران، وطرق على ركبته بقبضته المقفولة. صاح قائلا: «النتائج. جلست لمدة ثلاثة أشهر أحك مؤخرتي على الكرسي الدوار ... ما الفائدة من اجتياز كلية الحقوق والتسجيل في النقابة إن لم يستطع المرء العثور على أحد يطبق عليه ما تعلمه؟ عبس ناظرا للنقش الذهبي عبر الباب ذي النافذة الزجاجية.»
نيودلاب جرويج
محام
نيودلاب، إنه اسم من ويلز. نهض واقفا. أقرأ تلك اللافتة اللعينة معكوسة كل يوم منذ ثلاثة أشهر. سأصاب بالجنون. سأخرج وأتناول الغداء.
فرد صدريته وأزال عن حذائه بعض ذرات الغبار بمنديل، ثم قبض وجهه بتعبير عن الإنهاك الشديد، وهرع خارجا من المكتب، مهرولا على الدرج وخرج إلى شارع ميدن لين. أمام مطعم اللحوم، رأى عنوانا في طبعة خاصة لإحدى الصحف باللون الوردي: «إزاحة اليابانيين من موكدين». أخذ بالصحيفة وطواها أسفل ذراعه أثناء مروره عبر الباب المتأرجح. جلس إلى إحدى الطاولات وقرأ بعناية قائمة الطعام. يجب ألا أبذر في الإنفاق حاليا. «يمكنك أيها النادل أن تجلب لي لحما مسلوقا على طريقة نيو إنجلاند، وشريحة من فطيرة التفاح، وقهوة.» كتب النادل ذو الأنف الطويل الطلب في قصاصة الورق التي معه، ناظرا إليها جانبا بعبوس ينم عن اهتمام ... ذلك هو غداء محام لا عمل له. تنحنح بالدوين وفرد الصحيفة ... لا بد أن هذا سينشط السندات الروسية بعض الشيء. زيارة المحاربين القدامى للرئيس ... «حادث آخر في مسارات الجادة الحادية عشرة». أصيب بائع الحليب إصابة بالغة. مرحى، يمكنني أن أرفع قضية تعويض صغيرة بارعة من هذا الحادث.
أصيب أوجاستس ماك نيل، 253 غرب، شارع 4، الذي يعمل على عربة حليب لصالح شركة إكسلسيور ديري، إصابة بالغة في وقت مبكر من صباح اليوم عندما ارتد قطار شحن على قضبان سكة حديد نيويورك سنترال ...
يجب أن يقاضي السكة الحديدية. بالتأكيد يجب أن أجد هذا الرجل وأجعله يقاضي السكة الحديدية ... لم يستعد وعيه بعد ... ربما قد مات. في تلك الحالة يمكن لزوجته أن تقاضيهم وتطلب تعويضا أكبر ... سأذهب إلى المستشفى بعد ظهيرة اليوم ... وأتقدم على أي من هؤلاء المخادعين. تناول قضمة من الخبز تناول العازم على الأمر ومضغها بحيوية. بالطبع لا، سأذهب إلى المنزل وأرى ما إذا كان لديه زوجة أو أم أو أحد من هذا القبيل، وأقول لها: معذرة يا سيدة ماك نيل إن كنت أقتحم عليك ابتلاءك العميق، ولكنني أجري تحقيقا في هذه اللحظة ... أجل، أنا موكل من أصحاب مصالح مرموقين ... ارتشف ما تبقى من قهوته ودفع الحساب.
ركب الترام من برودواي مرددا 253 غرب، شارع 4، مرارا وتكرارا. ثم سار غربا بمحاذاة شارع 4، متجنبا واشنطن سكوير. نشرت الأشجار أفرعها الأرجوانية الهشة في سماء بلون الحمام؛ فتوهجت المنازل الكبيرة النوافذ في الجهة المقابلة مزدهرة بلون وردي براق وغير مبالية. إنه المكان المثالي لإقامة محام له باع كبير في الممارسة التقليدية للمهنة. حسنا، سنرى. عبر الجادة السادسة واتبع الشارع إلى طريق ويست سايد القذر، حيث فاحت رائحة الإسطبلات وامتلأت الأرصفة بقطع النفايات والأطفال الزاحفة. لا يمكنه تخيل العيش هنا وسط الأيرلنديين والأجانب الوضعاء، حثالة الكون. عند المنزل رقم 253، كانت هناك عدة أجراس غير معلمة. وكانت هناك امرأة بأكمام مطوية ذات نقشة مربعة على ذراعين على شكل النقانق تخرج ممسحة رمادية من النافذة. «أيمكنك أن تخبريني ما إذا كان أوجاستس ماك نيل يعيش هنا؟» «إنه يرقد في المستشفى. إنني على يقين من هذا.» «حسنا. وهل له أي أقارب يعيشون هنا؟» «وما الذي تريده منهم؟» «إنه أمر يتعلق بالعمل بعض الشيء.» «اصعد إلى الطابق العلوي، وستجد زوجته هناك، ولكنها على الأرجح لن تستطيع مقابلتك ... المسكينة قلقة للغاية على زوجها، وقد تزوجا من 18 شهرا فقط.»
كانت على الدرج علامات من آثار أقدام موحلة، وكانت منثورة عليه هنا وهناك الفضلات التي تتساقط من صناديق القمامة. بالأعلى، وجد بابا دهن حديثا باللون الأخضر الداكن، وطرقه.
أتى صوت فتاة جعله يشعر برعشة بسيطة: «من هناك؟» لا بد أنها شابة. «هل السيدة ماك نيل هنا؟»
أتى صوت الفتاة الطروب مرة أخرى: «نعم. ما الأمر؟» «إنه أمر يتعلق بالعمل بخصوص حادثة السيد ماك نيل.» «هل الأمر يتعلق بالحادثة؟» انفتح الباب بهزات حذرة بسيطة. كان لها أنف وذقن حادين وأبيضين بياض اللؤلؤ، وكومة من شعر مجعد بني ضارب إلى الحمرة انسدل في تجعدات بسيطة مستوية حول جبهتها العالية الصغيرة. حدقت فيه بعينيها الرماديتين والحادتين. «هل لي أن أتحدث إليك لدقيقة بشأن حادثة السيد ماك نيل؟ هناك أمور قانونية معينة متعلقة بالحادثة أشعر أنه من واجبي أن أعلمك بها ... بالمناسبة، أتمنى أن يكون في حال أفضل.» «أوه، أجل لقد استعاد وعيه.» «هل يمكنني الدخول؟ فالأمر يطول شرحه.» «أظن أنه يمكنك.» انبسطت شفتاها المتجهمتان في ابتسامة مائلة. «لا أظن أنك ستأكلني.» «لا، صدقا لن أفعل.» أصدر ضحكة مضطربة من حلقه.
قادته إلى غرفة الجلوس المعتمة. «لن أرفع الستائر كي لا ترى الفوضى التي تعلو كل شيء.» «اسمحي لي أن أعرفك بنفسي يا سيدة ماك نيل ... جورج بالدوين، مكتبي في 88 شارع ميدن لين ... كما ترين فأنا متخصص في مثل هذه القضايا ... اختصارا للأمر ... كان زوجك مجهدا، وكاد موظفو سكة حديد نيويورك سنترال المذنبون، أو الذين يحتمل فيهم الإهمال الإجرامي، أن يودوا بحياته. هذه حادثة كافية لرفع قضية ضد السكة الحديدية. لدي ما يدفعني للاعتقاد بأن شركة إكسلسيور ديري ستطالب بالتعويض عن الخسائر المتكبدة: الحصان، والعربة، وغيرها ...» «أتعني أنك تظن أن جاس سيحصل على تعويض لنفسه على الأرجح؟» «بالضبط.» «كم يمكنه أن يجني في رأيك؟» «حسنا، يعتمد ذلك على مدى سوء إصابته، وعلى موقف المحكمة، وربما على مهارة المحامي ... أظن أن 10 آلاف دولار ستكون مبلغا معتدلا.» «وهل لا تطلب مالا لنفسك؟» «نادرا ما تدفع أتعاب المحامي حتى تصل القضية إلى نتيجة ناجحة.» «وأنت محام، أصدقا؟ تبدو صغيرا بعض الشيء على أن تكون محاميا.»
ومضت عيناها الرماديتان في عينيه. وضحك كلاهما. شعر بفورة دافئة غير مبررة تسري في جسده. «أنا محام بالرغم من ذلك. وأنا متخصص في مثل هذا النوع من القضايا. وقد حصلت لتوي يوم الثلاثاء الماضي على ستة آلاف دولار لعميل ركله حصان في سباق تناوب الأحصنة أثناء ركضه في الحلقة ... في تلك اللحظة تماما كما قد تعلمين هناك هوجة كبيرة تطالب بسحب جميع التراخيص على مسارات الجادة الحادية عشرة ... أظن أن هذا وقت مناسب للغاية.» «أخبرني، هل تتكلم دائما هكذا أم أن هذه فقط طريقتك في العمل؟»
أرجع رأسه إلى الوراء وضحك. «جاس المسكين الهرم، دائما ما كنت أقول إنه محظوظ.»
زحف خافتا إلى الغرفة عويل طفل عبر الجدار الفاصل. «ما هذا؟» «إنها الطفلة ... البائسة الصغيرة لا تفعل شيئا سوى الصراخ.» «ألديكم أطفال إذن يا سيدة ماك نيل؟» أثلجت الفكرة صدره بطريقة ما. «واحدة فقط ... ماذا تتوقع؟» «هل زوجك في مستشفى الطوارئ؟» «أجل، أعتقد أنهم سيسمحون لك برؤيته ما دام الأمر يتعلق بالعمل. إنه يئن أنينا مروعا.» «فقط لو تمكنت من العثور على بعض الشهود الجيدين.» «لقد رأى مايك دوهينى كل شيء ... إنه يعمل في الشرطة. وهو صديق مقرب لجاس.» «وربي لقد أصبح لدينا قضية بكل ما تحمله الكلمة من معنى ... وستسوى دون اللجوء إلى المحاكم ... سأنطلق إلى المستشفى.»
جاء وابل جديد من البكاء من الغرفة الأخرى.
همست، مقطبة جبينها: «أوه، تلك الطفلة المزعجة. يمكننا استغلال المال جيدا يا سيد بالدوين ...» «حسنا، يجب أن أذهب.» التقط قبعته. «وبالطبع سأبذل أقصى ما في وسعي في هذه القضية. هل يمكنني أن أمر عليك وأخبرك بالتقدم المحرز في القضية من وقت لآخر؟» «أتمنى أن تفعل ذلك.»
عندما تصافحا عند الباب، لم يبد أنه يريد ترك يدها. فتورد وجهها .
وقالت بصلابة مصطنعة: «حسنا، وداعا وشكرا جزيلا على زيارتك.»
ترنح بالدوين متخبطا وهو ينزل الدرج. تدفقت الدماء في رأسه. أجمل فتاة رأيتها في حياتي. شرعت الثلوج في التساقط بالخارج. وكانت ندفات الثلج كمداعبات مختلسة باردة على وجنتيه الساخنتين. •••
كانت السماء فوق سنترال بارك مرقطة بسحب ذات ذيول مدببة صغيرة كحقل من الدجاج الأبيض. «اسمعي يا أليس، لنسلك هذا المسار الصغير.» «ولكن يا إلين لقد قال لي أبي أن أذهب من المدرسة مباشرة إلى المنزل.» «جبانة!» «ولكن يا إلين، هؤلاء الخاطفون المروعون ...» «قلت لك لا تدعيني إلين بعد الآن.» «حسنا يا إلين، إلين خادمة زنبق أستالوت.»
كانت إلين ترتدي فستانها الجديد ذا النقشة المربعة على طراز الفوج الملكي الاسكتلندي. وكانت أليس ترتدي نظارة وكانت ساقاها نحيفتين كدبابيس الشعر. «جبانة!» «هناك رجال مرعبون يجلسون على ذلك المقعد. هيا يا إلين الجميلة، لنذهب إلى المنزل.» «أنا لا أخاف منهم. يمكنني أن أطير كبيتر بان إن أردت.» «ولماذا لا تفعلين ذلك؟» «لا أريد الآن.»
بدأت أليس تتذمر. «أوه يا إلين، أظن أنك خبيثة ... هيا إلى المنزل يا إلين.» «لا، سأذهب للتنزه في سنترال بارك.»
نزلت إلين الدرج. وقفت أليس لدقيقة على الدرجة العليا ضابطة توازنها على قدم واحدة أولا ثم على الأخرى.
صاحت إلين: «جبانة، جبانة، جبانة!»
فرت أليس منتحبة. «سأخبر أمك.»
سارت إلين في المسار الأسفلتي وسط الجنبات راكلة أصابع قدميها في الهواء.
في ثوبها ذي النقشة المربعة على طراز الفوج الملكي الاسكتلندي الذي أحضرته لها والدتها من محل هيرن، سارت إلين في المسار الأسفلتي راكلة أصابع قدميها في الهواء. كانت تضع دبوس زينة ذا شوك فضي على كتف الفستان الجديد ذي النقشة المربعة على طراز الفوج الملكي الاسكتلندي الذي أحضرته لها والدتها من محل هيرن. إلين عروس لاميرمور ستتزوج. «المخطوبة». أنشد مزمار القربة الاسكتلندي وسط محصول الشيلم. كان للرجل الجالس على المقعد رقعة فوق عينه. رقعة سوداء على طراز الفوج الملكي الاسكتلندي. رقعة سوداء على طراز الفوج الملكي الاسكتلندي. الخاطف من الفوج الملكي الاسكتلندي، وسط الشجيرات ذات الحفيف يبقي الخاطفون على زي الفوج الملكي الاسكتلندي. لا تركل أصابع قدمي إلين في الهواء. إلين مذعورة من الخاطف من الفوج الملكي الاسكتلندي، إنه رجل ضخم ذو رائحة كريهة من الفوج الملكي الاسكتلندي ويضع رقعة فوق عينه. تخاف أن تركض. حكت قدميها الثقيلتين على الأسفلت وهي تحاول الركض مسرعة. تخاف أن تلتفت. الخاطف من الفوج الملكي الاسكتلندي خلفها مباشرة. عندما أصل إلى عمود الإنارة، سأركض إلى المربية التي تحمل الطفل، وعندما أصل إلى المربية التي تحمل الطفل، سأركض إلى الشجرة الكبيرة، وعندما أصل إلى الشجرة الكبيرة ... آه، أنا متعبة للغاية ... سأنفذ إلى داخل شارع سنترال بارك ويست ثم مباشرة إلى المنزل. كانت خائفة أن تلتفت. ركضت وهي تشعر بوخزة في جانبها. ركضت حتى أصبح مذاق فمها كعملة البنس المعدنية.
سألتها جلوريا درايتون، التي كانت تنط الحبل خارج منزل عائلة نوريلاند: «لم تجرين يا إيلي؟»
قالت إلين لاهثة: «لأنني أريد ذلك.» •••
صبغ ضوء الغسق النبيذي اللون ستائر الموسلين متسللا إلى العتمة الزرقاء للغرفة. جلسا إلى كلا جانبي الطاولة. ومن إناء النرجس الذي كان لا يزال ملفوفا بمنديل ورقي، لمعت زهور نجمية الشكل بوميض فوسفوري خافت، باعثة رائحة ترابية رطبة تداخلت مع عطر لاذع غير فواح. «لطف منك أن أحضرت لي هذه يا سيد بالدوين. سآخذها لجاس في المستشفى غدا.» «أرجوك لا تدعيني بهذا الاسم.» «ولكني لا أحب الاسم جورج.» «لا يهمني ذلك؛ فأنا أحب اسمك يا نيللي.»
وقف ينظر إليها، وقد التفت أثقال معطرة حول ذراعيه. وتدلت يداه كقفازين فارغين. كانت عيناها سوداوين، وقد اتسعتا، وامتدت شفتاها تجاهه في الناحية الأخرى من الزهور. انتزعت يديها لأعلى لتغطي وجهها. وكانت ذراعه حول كتفيها النحيلتين الصغيرتين. «ولكن صدقا يا جورج، يجب أن نكون حذرين. يجب ألا تأتي هنا كثيرا. فلا أريد أن يشرع جميع الشمطاوات في المنزل في الحديث عنا.» «لا تقلقي من ذلك ... يجب ألا نقلق من أي شيء.» «لقد كنت أتصرف كالمجنونة في هذا الأسبوع الأخير ... يجب أن أكف عن ذلك.» «أتظنين أنني كنت أتصرف على نحو طبيعي؟ أقسم لك يا نيللي أنني لم أفعل شيئا كهذا من قبل. فأنا لست من هذا النوع من الرجال.»
أظهرت أسنانها المتساوية ضاحكة. «أوه، لا يمكن معرفة حقيقة الرجل.» «ولكن إن لم يكن ثمة شيء رائع وفريد بيننا، أتظنين أنني كنت سألاحقك بهذه الطريقة؟ لم أشعر بالحب تجاه أحد غيرك يا نيللي.» «هذه مزحة جيدة.» «ولكنها الحقيقة ... لم أستمتع بشيء كهذا من قبل. فقد عملت بجهد جهيد لاجتياز كلية الحقوق، وغير ذلك من الأمور لدرجة أنني لم يكن لدي وقت للتعرف إلى الفتيات.» «إذن أنت تعوض عن وقتك الضائع.» «أوه يا نيللي، لا تقولي ذلك.» «ولكن صدقا يا جورج، يجب أن أقطع هذه العلاقة. ماذا سنفعل عندما يخرج جاس من المستشفى؟ وأنا أهمل في رعاية الطفلة وفي كل شيء.» «اللعنة، لا أهتم بما سيحدث ... أوه يا نيللي.» أدار وجهها تجاهه. التصقا متأرجحين، وقد تشابك فماهما بشوق متقد. «انتبه، كاد المصباح أن يسقط علينا.» «يا إلهي، أنت رائعة يا نيللي.» تهاوى رأسها على صدره، وكان بإمكانه أن يشعر بسخونة شعرها الهابط في جميع أنحاء جسده. كان الظلام دامسا. والتفت ثعابين من ضوء من مصباح الشارع مخضرة حولهما. نظرت عيناها لأعلى إلى عينيه السوداوين في هيبة وذعر.
همس بصوت مرتجف خافت: «لنذهب يا نيللي إلى الغرفة الأخرى.» «الطفلة هناك بالداخل.»
تباعدا بأياد باردة يتبادلان النظرات. «تعال وساعدني. سأحرك المهد بالداخل هنا ... انتبه ألا توقظها وإلا فستنفجر في الصراخ.» خرج صوتها بطقطقة مبحوحة.
كانت الطفلة نائمة، ووجهها الطري الصغير منكمشا على نفسه بشدة، وقبضتاها الورديتان الدقيقتان مطبقتين على الغطاء.
قال بضحكة مكتومة مصطنعة: «تبدو سعيدة.» «ألا يمكنك أن تبقى هادئا ... اخلع حذاءك ... فكفى الناس سماع قرع حذاء رجالي بالأعلى هنا ... ما كنت لأفعل هذا يا جورج، ولكني لا أستطيع التحمل ...»
تلمس طريقه إليها في الظلام. جثم فوقها بطيش لاهثة أنفاسه لهثا جنونيا عميقا، وهو يقول: «يا حبيبتي ...» ••• «إنك تتلاعب بنا يا صاحب القدم المسطحة ...» «كلا، صدقا، أقسم بقبر أمي أنها الحقيقة ... خط عرض 37 في 12 غربا ... اذهبوا هناك وانظروا ... رسونا على تلك الجزيرة بقارب الضابط الثاني، وعندما غرق قارب إليوت بي سيمكينز كان هناك أربعة من الذكور و47 من الإناث بما في ذلك النساء والأطفال. ألم أكن أنا من أخبر الصحفي بكل شيء عن الحادث، وقد ظهر الخبر في جميع صحف يوم الأحد؟» «ولكن يا صاحب القدم المسطحة، كيف أخرجوك من هناك؟» «أقول لكم حملوني على نقالة، وإلا فأنا كاذب أحول. ويمكنكم أن تنعتوني بالوغد إن لم أكن قد غرقت، إذ نزلت للأسفل منحنيا كقارب إليوت بي القديم.»
رجعت الرءوس للوراء على الأعناق السميكة مطلقة وابلات من الضحك، وكانت الكئوس يدق بها على الطاولة المستديرة ذات العلامات الدائرية، وكانت الأفخاذ ترن بالصفعات، والمرافق تخز في الضلوع. «وكم كان من الرجال في القارب؟» «ستة بمن فيهم السيد دوركينز الضابط الثاني.» «سبعة وأربعة يساوي أحد عشر ... يا للهول ... أربعة وثلاثة على أحد عشر من النساء للفرد ... لقد كانت جزيرة رائعة.» «متى تغادر العبارة التالية؟» «يفضل أن نتناول شرابا آخر لذلك ... أنت يا شارلي، فلتملأ الكئوس.»
سحب إميل كونغو من مرفقه. بمزيج من الإنجليزية والفرنسية: «تعال للخارج لحظة، لدي شيء لأخبرك به.» كانت عينا كونغو دامعتين، وقد تبع إميل مترنحا إلى منضدة الحانة الخارجية. بالفرنسية: «أوه أيها الصغير الغامض.» «اسمع، علي أن أذهب للقاء صديقة.» «أوه، هذا ما يقلقك، أليس كذلك؟ لطالما كنت أقول إنك رجل حكيم يا إميل.»
بمزيج من الإنجليزية والفرنسية: «انظر، هذا عنواني في ورقة في حال نسيته: 945 ويست 22. يمكنك المجيء والنوم هناك إن لم تكن ثملا للغاية، ولا تجلب أي أصدقاء، أو نساء، أو أي شيء. أنا على وفاق مع صاحبة المنزل، ولا أريد أن أفسد علاقتي بها ... أتفهمني؟»
بمزيج من الإنجليزية والفرنسية: «ولكني أريدك أن تأتي إلى حفل رائع ... فلتحتفل قليلا، بحق السماء! ...» «علي أن أعمل في الصباح.» «ولكني معي راتب ثمانية أشهر في جيبي ...» «على كل حال، ائتني غدا في حوالي الساعة السادسة. سأنتظرك.»
سدد كونغو بصقة من اللعاب في المبصقة بركن الحانة، ورجع عابسا إلى الغرفة الداخلية، قائلا بالفرنسية: «إنك تزعجني، كما تعلم، بأخلاقك.» «اجلس يا عزيزي كونغو، سيغني بارني أغنية «الوغد ملك إنجلترا».»
قفز إميل في عربة ترام وتوجه إلى الحي السكني. في شارع 18، ترجل وسار غربا إلى الجادة الثامنة. وبعد بابين من الناصية، كان هناك متجر صغير. فوق إحدى نافذتيه، كان مكتوبا بالفرنسية «حلوى»، وفوق الأخرى «أطعمة مستوردة وجاهزة». وفي وسط الباب الزجاجي، كتب بأحرف المينا البيضاء «إميل ريجو، أطايب المائدة الرفيعة المستوى». دخل إميل. وصلصل الجرس على الباب. كانت امرأة سوداء وبدينة ذات شعر أسود فوق فمها تنعس خلف طاولة البيع. خلع إميل قبعته. بالفرنسية: «مساء الخير مدام ريجو.» نظرت جافلة لأعلى، ثم أظهرت ابتسامتها العميقة غمازتين.
قالت بنبرة بوردولية مدوية بمزيج من الفرنسية والإنجليزية: «حسنا، هكذا تنسى أصدقاءك. قلت لنفسي هذا الأسبوع إن السيد لوستيك ينسى أصدقاءه.» «لم يعد لدي وقت نهائيا.» «الكثير من العمل والكثير من المال، أليس كذلك؟» عندما ضحكت، اهتز كتفاها وثدياها الكبيران أسفل صدريتها الزرقاء الضيقة.
غمز إميل بإحدى عينيه. «كان يمكن أن يصبح الأمر أسوأ ... ولكني سئمت الانتظار ... إنه عمل مرهق للغاية، ولا أحد ينتبه لنادل.» «إنك رجل طموح يا سيد لوستيك.»
بالفرنسية: «ماذا تريد؟» تورد وجهه، وقال بخجل: «اسمي إميل.»
أدارت السيدة ريجو عينيها نحو السقف. «كان ذلك اسم زوجي المتوفى. لقد اعتدت ذلك الاسم.» تنهدت بعمق. «وكيف حال العمل؟»
بمزيج من الفرنسية والإنجليزية: «ليس بالجيد ولا بالسيئ ... لقد زاد سعر لحم الهام مجددا.» «إن عصابة شيكاغو من تفعل ذلك ... إنها ذات نفوذ في مجال لحوم الخنزير؛ فهذه هي طريقة جني الأموال.»
لاحظ إميل أن عيني السيدة ريجو السوداوين الجاحظتين تتفحصان عينيه. «لقد استمتعت بغنائك كثيرا في المرة الماضية ... وفكرت فيه كثيرا ... تحسن الموسيقى مزاج المرء، أليس كذلك؟» تمددت غمازات السيدة ريجو أكثر فأكثر عندما ابتسمت. «لم يكن زوجي المسكين يستمتع بالغناء ... ذلك آلمني كثيرا.» «ألا يمكنك أن تغني لي شيئا هذا المساء؟» «هل تريد مني ذلك يا إميل؟ ... ولكن ليس هناك أحد ليقوم على خدمة الزبائن.» «سأهرع إليهم عندما نسمع الجرس، إن كنت تسمحين لي بذلك.»
بمزيج من الإنجليزية والفرنسية: «جيد جدا ... لقد تعلمت أغنية أمريكية جديدة ... إنها أغنية جميلة.»
أغلقت السيدة ريجو الصندوق بمفتاح من حزمة المفاتيح التي تعلقها في نطاقها، ومرت عبر الباب الزجاجي في آخر المتجر. تبعها إميل وقبعته في يده. «أعطني قبعتك يا إميل؟» «أوه، لا تشغلي بالك.»
كانت الغرفة بالخلف عبارة عن بهو صغير ذي ورق حائط أصفر ومزهر، وستائر قديمة للباب باللون الوردي الضارب إلى لون السلمون، وأسفل حامل الغاز الذي تتدلى منه حزمة من الكريستالات، كان هناك بيانو وفوقه صور فوتوغرافية. أصدر كرسي البيانو صريرا عندما جلست عليه السيدة ريجو. مررت أصابعها فوق المفاتيح. جلس إميل بعناية فوق كرسي ذي حافة حادة بجوار البيانو ووضع قبعته فوق ركبتيه، ودفع بوجهه للأمام مائلا في اتجاه وجهها كي تتمكن أثناء عزفها من رؤيته بطرف عينها. شرعت مدام ريجو في الغناء:
ما هي إلا طائر في قفص من ذهب
مظهر تسر برؤيته
قد تظن أنها سعيدة
وخالية من الهم
ولكنها ليست كذلك برغم ما يبدو عليها ...
صلصل الجرس على باب المتجر عاليا.
صاح إميل بالفرنسية مهرعا إليه: «تفضل.»
قالت فتاة صغيرة ذات ضفيرتين: «نصف رطل من شرائح نقانق البالوني.» مرر إميل السكين عبر راحة يده وقطع النقانق بعناية. مشى على أطراف أصابعه إلى البهو ووضع المال على حافة البيانو. كانت مدام ريجو لا تزال تغني:
تجد الأمر مؤسفا عندما تفكر في حياتها الضائعة
إذ لا يمكنها الزواج ممن هو في مثل عمرها
لقد بيع الجمال
مقابل ذهب رجل هرم
إنها طائر في قفص من ذهب.
وقف بود على ناصية شارعي برودواي ويست وفرانكلين يأكل الفول السوداني من كيس في يده. كان وقت الظهيرة وقد ذهب جميع ماله. وكانت السكة الحديدية المرتفعة ترعد فوق رأسه. تمايلت ذرات الغبار أمام عينيه في ضوء الشمس ذي الخطوط العارضة. احتار في الطريق الذي يسلكه، فتهجى أسماء الشوارع للمرة الثالثة. مرت عربة سوداء لامعة يجرها حصانان لامعا الأرداف، وانعطفت بحدة في الناصية أمامه كاشطة الأرض المرصوفة بالحصى بعجلاتها الحمراء اللامعة التي توقفت فجأة. كانت هناك حقيبة جلدية صفراء على المقعد بجوار السائق. وداخل المقصورة، تحدث رجل يرتدي قبعة دربية بنية بصوت عال إلى امرأة ترتدي فرو ريش رماديا حول عنقها وتضع ريش نعام رماديا في قبعتها. انتزع الرجل مسدسا لأعلى إلى فمه. رجع الحصانان للخلف وغاصا في وسط حشد مندفع. اخترقهم رجال الشرطة. وأخرجوا الرجل على حجر حافة الرصيف وهو يتقيأ دما، ورأسه متدل ومرتخ فوق صدريته ذات النقشة المربعة. وقفت المرأة طويلة وبيضاء بجواره تلف فرو الريش في يديها، وكان ريش النعام الرمادي في قبعتها يتألق في ضوء الشمس المخطط أسفل السكة الحديدية المرتفعة. «كانت زوجته تصطحبه إلى أوروبا ... سيبحر قارب «داتشلاند» في الثانية عشرة. ودعته للأبد. كان على متن «داتشلاند» في الثانية عشرة. لقد ودعني للأبد.»
وخز شرطي بود في معدته بمرفقه، قائلا: «اجلس بعيدا عن الطريق يا عزيزي.» ارتجفت ركبتاه. ذهب إلى حافة الحشد وسار بعيدا مرتجفا. وقد قشر في حركة تلقائية حبة من الفول السوداني ووضعها في فمه. يفضل أن أترك البقية للمساء. لف فم الكيس وأسقطه في جيبه. •••
أسفل المصباح القوسي ذي الرذاذ الوردي والبنفسجي أخضر الحواف، مر الرجل الذي يرتدي بذلة بنقشة مربعة بفتاتين. كانت الفتاة الأقرب له ذات وجه بيضوي وشفتين ممتلئتين، وكانت عيناها حادتين كطعنات سكين. سار بضع خطوات، ثم استدار وتبعهما متلمسا ربطة عنقه الجديدة المصنوعة من الساتان. حرص على تثبيت دبوس الألماس على شكل حدوة حصان في مكانه. مر بهما مجددا. كانت قد أدارت وجهها. ربما كانت ... كلا، لا يمكنه القول. من حسن حظه أنه كان معه 50 دولارا. جلس على المقعد وتركهما تمران عليه. لن يرتكب خطأ ويعرض نفسه لإلقاء القبض عليه. لم تلحظاه. تبعهما في الطريق وخارجه إلى سنترال بارك. كان قلبه يخفق. سأعطي مليون دولار ل ... معذرة ، ألست الآنسة أندرسون؟ أسرعت الفتاتان الخطوات. وقد غابتا عن ناظريه وسط الحشد العابر لدوار كولومبوس. أسرع في برودواي مارا بمربع سكني تلو الآخر. بحث عن تلك الممتلئة الشفتين، ذات العينين الحادتين كطعنات السكين. حملق في وجوه الفتيات يمنة ويسرة. أين عساها أن تكون قد ذهبت؟ أسرع الخطى في برودواي. •••
كانت إلين تجلس بجوار والدها على مقعد في باتري بارك. كانت تنظر إلى حذائها البني ذي الأزرار. لامس شعاع من ضوء الشمس حافة الحذاء وكل زر من أزراره الصغيرة المستديرة عندما هزت قدميها من أسفل ظل فستانها.
كان إد تاتشر يقول: «فكري كيف سيكون الذهاب للخارج على إحدى هذه العبارات. تخيلي عبور المحيط الأطلسي العظيم في سبعة أيام.» «ولكن يا أبي، ما الذي يفعله الناس طوال ذلك الوقت في البحر؟» «لا أعلم ... أظنهم يسيرون في أنحاء المركب ويلعبون لعبة الورق ويقرءون وما إلى ذلك. ثم يرقصون.» «يرقصون في المركب! أظن أنه سيكون رقصا بشعا على رءوس أصابع أقدامهم.» قهقهت إلين. «يفعلون ذلك في العبارات الحديثة الكبيرة.» «لماذا لا نذهب يا أبي؟» «ربما سنذهب يوما ما عندما أدخر المال.» «أوه يا أبي، فلتسرع وتدخر الكثير من المال. والدة ووالد أليس فون يذهبان إلى جبال وايت كل صيف، ولكنهما سيذهبان في الصيف القادم إلى الخارج.»
نظر إد تاتشر عبر الخليج الذي امتد في أفق أزرق رقراق إلى داخل السديم البني في اتجاه المضيق. وقف تمثال الحرية ضبابيا كالسائر أثناء نومه وسط الدخان الملتف لزوارق القطر، وصواري المراكب الشراعية، والكتل المتثاقلة الفجة لعبارات الطوب وصنادل الرمال. أشرقت الشمس الساطعة في كل مكان بضوئها الأبيض على شراع أو على هيكل علوي لباخرة. وتنقلت العبارات الحمراء جيئة وذهابا. «لماذا نحن لسنا أغنياء يا أبي؟» «هناك الكثير من الناس أكثر فقرا منا يا إيلي ... لن تحبي أباك أكثر من ذلك لو كان غنيا، أليس كذلك؟» «أوه، نعم، كنت سأحبك أكثر يا أبي.»
ضحك تاتشر. «حسنا، قد يتحقق ذلك في يوم من الأيام ... ما رأيك في شركة إدوارد سي تاتشر آند كو، محاسبون معتمدون؟»
قفزت إلين واقفة، وقالت: «أوه، انظر إلى ذلك القارب الكبير ... ذلك هو القارب الذي أريد أن أسافر فيه.»
نعق بجوارهما صوت بلكنة كوكنية: «ذلك قارب «هارابيك».»
قال تاتشر: «أوه، هل هذا صحيح؟»
بحماس أوضح رجل مهترئ الحال مزعج الصوت كان يجلس على مقعد بجوارهما: «بالفعل يا سيدي، أجمل سفينة في البحر يا سيدي.» سحبت لأسفل قبعة ذات حافة مكسورة من الجلد اللامع فوق وجه شاحب صغير خرجت منه رائحة ضعيفة من شراب الويسكي. «نعم يا سيدي، إنه «هارابيك» يا سيدي.» «يبدو أنه قارب كبير وجيد بالتأكيد.» «إنه أحد أكبر القوارب يا سيدي. لقد أبحرت على متنه أكثر من مرة، وعلى متن «ماجيستيك» و«تيوتونيك» أيضا يا سيدي، كلاهما قوارب جيدة، رغم أنني أصاب بدوار البحر بعض الشيء كما قد ترى. لقد عينت مضيفا في شركتي هينمان ووايت ستار لاين البحريتين طوال الثلاثين عاما الماضية، والآن أنزلوني من على متن سفنهم في عمري هذا.» «أوه، كلنا يعاني سوء الحظ أحيانا.» «وبعضنا يعاني منه طوال الوقت يا سيدي ... كان بإمكاني أن أكون رجلا سعيدا يا سيدي لو كان باستطاعتي الرجوع إلى بلدي القديم. هذا ليس مكانا لرجل هرم، إنه للشباب والأقوياء، هذا كل ما هنالك.» مد يده الملتوية من أثر النقرس عبر الخليج وأشار إلى التمثال. «انظر إليها، إنها تنظر صوب إنجلترا.»
همست إلين مرتجفة في أذن والدها: «هيا لنذهب يا أبي. هذا الرجل لا يعجبني.» «حسنا، سنذهب ونلقي نظرة على أسود البحر ... يوما سعيدا.» «ألا يمكنك أن تعطيني ثمن كوب من القهوة يا سيدي؟ فأنا معدم للغاية.» وضع تاتشر دايم في يده المتسخة المكورة كمقبض الباب. «ولكن يا أبي، لقد قالت أمي لا تدع الناس أبدا يتحدثون معك في الشارع، وأن تنادي على الشرطة إذا فعلوا ذلك، وأن تجري بأقصى سرعة من أولئك الخاطفين المرعبين.» «لا خطر علي من الخطف يا إيلي. ذلك فقط للفتيات الصغيرات.» «هل سأستطيع أن أتحدث مع الناس في الشارع هكذا عندما أكبر ؟» «لا يا عزيزتي، لن تستطيعي فعل ذلك.» «هل كنت سأستطيع لو كنت ولدا؟» «أظن ذلك.»
توقفا أمام حوض الأسماك لدقيقة للنظر أسفل الخليج. كانت العبارة ذات زورق القطر المنبعث منها دخان أبيض أمام كلا قوسيها محاذية لهما وتعلو فوق العبارات والقوارب. دارت النوارس وصاحت. وألقت الشمس بنورها السمني على الأسطح العليا للقوارب وعلى الأقماع الصفراء الكبيرة ذات الأغطية السوداء. من الصاري الأمامي، رفرف شريط من الأعلام الصغيرة متبخترا أمام السماء الأردوازية. «وهناك الكثير من الأشخاص الآتين من الخارج على ذلك القارب، أليس كذلك يا أبي؟» «انظري، يمكنك أن تري ... أسطح القوارب سوداء من كثرة الناس.» •••
مشى بود كوربينينج عبر شارع 53 من إيست ريفر، ليجد نفسه واقفا بجوار كومة من الفحم على الرصيف. على الجهة الأخرى من كومة الفحم، كانت هناك امرأة بشعر أشيب ترتدي قميصا نسائيا مكشكشا من الدانتيل وتضع مشبكا ورديا كبيرا ذا نقش بارز على انحناء صدرها المرتفع، وكانت تنظر إلى ذقنه غير المحلوق وإلى معصميه اللذين تدليا عاريين من أسفل كمي معطفه الباليين. ثم سمع نفسه يتحدث، قائلا: «ألا تظنين أنه بإمكاني أن أحمل لك هذه الشحنة من الفحم على ظهري يا سيدتي؟» حول بود ثقله من إحدى قدميه إلى الأخرى.
قالت المرأة بصوت أجش: «هذا تماما ما يمكنك فعله. فقد تركه رجل الفحم البائس هذا الصباح وقال إنه سيعود لإدخاله. أظنه سكيرا كبقيتهم. ترى، هل يمكنني الوثوق بك في المنزل.»
قال بود متلعثما: «أنا من شمال البلاد يا سيدتي.» «من أي منطقة؟» «من كوبرستاون.» «هممم ... أنا من بافلو. إن هذه بالتأكيد مدينة لكل من ينتمي إلى أي مكان آخر ... حسنا، ربما تكون متورطا في إحدى السرقات، ولكن ما باليد حيلة فأنا أريد وضع ذلك الفحم بالداخل ... ادخل أيها الرجل، سأعطيك مجرفة وسلة وإذا لم توقع أيا من الفحم في المدخل أو على أرضية المطبخ؛ لأن عاملة التنظيف غادرت لتوها ... بالطبع لا بد أن يأتي الفحم عندما تكون الأرضية نظيفة ... فسأعطيك دولارا.»
عندما أحضر الدفعة الأولى، كانت تجول في أنحاء المطبخ. جعلته معدته الجوفاء المتشققة جوعا يتأرجح دائخا، ولكنه كان سعيدا بالعمل بدلا من جر قدميه بلا نهاية على الأرصفة وعبر الشوارع متحاشيا العربات والترام.
سألته عندما رجع لاهثا بالسلة الفارغة: «كيف لم تحصل على عمل منتظم أيها الرجل؟» «أظن لأنني لم أستوعب طرق المدينة بعد. فقد ولدت ونشأت في مزرعة.» «ولماذا أردت أن تأتي إلى هذه المدينة المروعة؟» «لم أتمكن من البقاء في المزرعة أكثر من ذلك.» «من المفزع ما سيئول إليه هذا البلد إذا ترك جميع الشباب اليافعون الأقوياء المزارع وأتوا إلى المدن.» «ظننت أنه بإمكاني أن أحصل على عمل في الميناء يا سيدتي، ولكنهم يتخلصون من الرجال على أرصفة الميناء. ربما يمكنني أن أعمل بحارا، ولكن لا أحد يريد عديمي الخبرة ... لم أتناول شيئا منذ يومين.» «كم هذا فظيع ... لم لم تذهب أيها الرجل المسكين إلى أحد مقار الإرساليات المسيحية أو شيء من هذا القبيل؟»
عندما أدخل بود الدفعة الأخيرة، وجد طبقا من اليخنة الباردة في ركن طاولة المطبخ، ونصف رغيف من الخبز الفاسد، وكوبا من الحليب الذي كان حامضا بعض الشيء. أكل على عجل وبالكاد كان يمضغ الطعام، ووضع آخر قطعة من الخبز الفاسد في جيبه. «حسنا، هل استمتعت بغدائك البسيط؟» «شكرا يا سيدتي.» أومأ وفمه ممتلئ بالطعام. «إذن، يمكنك الذهاب الآن وشكرا جزيلا لك.» وضعت ربع دولار في يده. نظر بود بعينين طارفتين للربع دولار في راحة يده. «ولكنك يا سيدتي قلت إنك ستعطينني دولارا.» «لم أقل مطلقا شيئا كهذا. غير معقول ... سأحضر زوجي إذا لم تخرج من هنا فورا. في الواقع، أنا أفكر في إبلاغ الشرطة لأن ...»
وضع بود الربع دولار في جيبه دون أن ينبس ببنت شفة وجر قدميه خارجا.
سمع نخير المرأة وهو يغلق الباب خلفه، قائلة: «يا له من جحود!»
كانت التقلصات تزداد حدة في معدته. توجه شرقا مرة أخرى، وسار على طول المربعات السكنية إلى النهر وقبضتاه ضاغطتان بشدة أسفل أضلعه. توقع أن يتقيأ في أي لحظة . لن يفيدني في شيء أن أتقيأ. عندما وصل إلى نهاية الشارع، استلقى على منحدر نفايات رمادي بجوار الرصيف. تسربت رائحة جنجلات ثخينة كالعصيدة وحلوة من مصنع الجعة خلفه المدوي صوته. اشتعل ضوء غروب الشمس في نوافذ المصانع على جانب لونج آيلند، وومض في فتحات إضاءة زوارق القطر، واستلقى في مساحة شاسعة ملونة باللونين الأصفر والبرتقالي المتجعدين فوق المياه المتسارعة الخضراء المائلة إلى اللون البني المتوهج فوق الأشرعة المنحنية لمركب شراعي كان يكتسح المد ببطء داخلا إلى مضيق هيل جيت. خفت حدة الألم بداخله. اشتعل شيء وتوهج عبر جسده كتسرب ضوء غروب الشمس. جلس. شكرا للرب، لن أتقيأ. •••
الطقس رطب وقارس البرودة على متن السفينة ساعة الفجر. عندما تضع يدك على سور السفينة تجده مبللا. كانت رائحة مياه الميناء البنية كرائحة أحواض الغسيل، وكانت تحفحف بلطف ضاربة جوانب الباخرة. يفتح البحارة مخبأ السفينة. تسمع صلصلة سلاسل وجلبة من رافعة محرك البخار حيث يجلس رجل طويل يرتدي رداء عمل سروالي أزرق عند ذراع تحريك، وسط غيمة من الغبار تحيط بوجهه كما لو كان يحيطه بمنشفة مبللة. «هل نحن حقا في الرابع من يوليو يا أمي؟»
أمسكت يد الأم بيده جيدا وسحبته نزولا على الدرج إلى قاعة الطعام. كان المضيفون يكدسون الأمتعة عند أرضية الدرج. «هل نحن حقا في الرابع من يوليو يا أمي؟» «نعم يا عزيزي، للأسف إنه كذلك ... أيام الإجازات هي وقت سيئ للوصول فيه. لا أزال أظن أنهم سيكونون جميعا بالأسفل للقائنا.»
كانت ترتدي رداءها الصوفي الأزرق، وغطاء رأس بنيا طويلا ومجرجرا، والحيوان البني الصغير ذا العينين الحمراوين والأسنان التي هي أسنان حقيقية حول عنقها. تفوح منه رائحة كرات العثة، وتفوح أيضا رائحة خزانات الملابس المنثور بها المناديل الورقية. الجو حار في قاعة الطعام، حيث تصدر المحركات هديرا هادئا خلف حاجز السفينة. يومئ رأسه فوق كوب الحليب الساخن الملون بالكاد بالقهوة. تسمع جلجلة ثلاثة أجراس. يطقطق رأسه لأعلى مجفلا. تطنطن الأطباق وتسكب القهوة مع اهتزاز السفينة. ثم صوت ارتطام وصلصلة سلاسل المرساة ثم هدوء تدريجي. نهضت الأم لتنظر عبر فتحة الإضاءة. «حسنا، سيكون يوما جيدا في النهاية. أظن أن الشمس ستتوهج عبر الضباب ... فكر في الأمر يا عزيزي، سنصل إلى الوطن أخيرا. هنا ولدت يا عزيزي.» «وهذا هو الرابع من يوليو.» «أسوأ حظ ... حسنا يا جيمي، يجب أن تعدني أن تبقى على ممشى السفينة وأن تكون حذرا. فلم تنته أمك من حزم أمتعتها. عدني أنك لن تفعل شيئا سيئا.» «أعدك بذلك.»
مد أصابع قدميه على العتبة النحاسية لباب غرفة التدخين وتمدد على سطح السفينة، ثم استيقظ فاركا ركبته العارية تماما في الوقت الذي يمكنه فيه بالضبط رؤية الشمس تخترق السحب القاتمة وترشرش دفقا أحمر من السطوع على صفحة الماء الأسمنتية اللون. كان لبيللي نمش على أذنيه كهؤلاء الذين يدعمون روزفلت وليس باركر كأمهم، وكان يلوح بعلم حريري في حجم منديل للرجال في زوارق القطر الصفراء والبيضاء.
سأل عن الشمس كما لو كان يملكها، قائلا: «هل رأيت الشمس تشرق؟»
يقول جيمس وهو يبتعد بعد أن ألقى نظرة متراخية على العلم الحريري: «بالتأكيد رأيتها من فتحة الإضاءة.» ثمة أرض قريبة على الجهة الأخرى، أقرب لضفة خضراء ذات أشجار ومنازل بيضاء شاسعة ذات أسطح رمادية.
يسأل الرجل الذي يرتدي التويد وذو الشارب المتدلي: «حسنا يا صغيري، ما شعورك بالرجوع إلى الوطن؟» «هل نيويورك من هنا؟» أشار جيمي فوق الماء الراكد الذي يحد بضوء الشمس. «نعم بالتأكيد يا صغيري، خلف ضفة الضباب هناك تقع مانهاتن.» «رجاء يا سيدي، ما ذلك؟» «تلك هي نيويورك ... كما تعلم فنيويورك تقع على جزيرة مانهاتن.» «هل هي فعلا على جزيرة؟» «حسنا، ما رأيك في ولد لا يعلم أن مدينته تقع على جزيرة؟»
تلمع أسنان الرجل ذي التويد الذهبي عندما يضحك بملء فمه. يتمشى جيمي في أنحاء السفينة، راكلا عقبيه وتعتمل المشاعر في داخله، تقع نيويورك على جزيرة.
تقول السيدة من الجنوب: «تبدو سعيدا بالذهاب إلى الوطن أيها الولد الصغير.» «أوه، أنا كذلك بالفعل، بوسعي النزول وتقبيل الأرض .» «حسنا، ذلك شعور وطني جميل ... أنا سعيدة لسماعك تقول ذلك.»
يثور جيمي ويجول. ويردد في رأسه كالمواء: سأقبل الأرض، سأقبل الأرض. ويدور على سطح السفينة. «ذلك القارب ذو العلم الأصفر هو قارب العزل.» يتحدث رجل بدين يرتدي خواتم في أصابعه - وهو يهودي - إلى الرجل ذي التويد. «حسنا، يستأنف القارب السير ... كان ذلك سريعا، أليس كذلك؟» «سنصل بحلول وقت الإفطار، إفطار أمريكي، إفطار منزلي جيد قديم.»
ظهرت الأم على سطح السفينة يرفرف غطاء رأسها البني. «ها هو معطفك يا جيمي، عليك أن تحمله.» «هل يمكنني أن أخرج ذلك العلم يا أمي؟» «أي علم؟» «علم أمريكا الحريري.» «لا يا عزيزي، نضعه جانبا.» «أرجوك، أريد هذا العلم لأننا في الرابع من يوليو وهكذا.» «لا تعو يا جيمي. عندما تقول أمك لا فهذا يعني لا.»
تلسعه الدموع؛ فيتجرع غصة في حلقه وينظر لأعلى إليها. «جيمي، لقد وضعناه جانبا في حزام الشالات وأنا متعبة جدا من جلبة تلك الحقائب اللعينة.» «لكن بيللي جون يمسك واحدا.» «انظر يا عزيزي، هناك أشياء تفوتك ... ها هو هناك تمثال الحرية.» تقف امرأة خضراء طويلة ترتدي معطفا على جزيرة رافعة يدها. «ما ذلك الذي في يدها؟» «تلك شعلة يا عزيزي ... فالحرية تنور العالم ... وهناك جزيرة جوفرنرز على الجهة الأخرى. هناك حيث الأشجار ... وانظر، ذلك هو جسر بروكلين ... إنه منظر جميل. وانظر إلى جميع أحواض السفن ... تلك هي باتري بارك ... والصواري والسفن ... وها هي قمة كنيسة ترينيتي ومبنى بوليتزر.» ... يصفر خوار القارب البخاري، والعبارات حمراء ومؤكسدة كالبط الذي يزبد الماء الأبيض، وتدفع قافلة كاملة من السيارات على صندل يدفعه زورق قطر داخله، ما يخرج عنه نفثات بخار كالقطن متساوية الحجم جميعها. يدا جيمي باردتان ويئز من داخله. «يجب ألا تتحمس أكثر من اللازم يا عزيزي. انزل وانظر إذا ما كانت أمك قد تركت أي شيء في مقصورتنا الخاصة.»
شريط من الماء تعلوه الشظايا، وصناديق البقالة، وقشر البرتقال، وأوراق الملفوف يضيق أكثر فأكثر بين القارب والحوض. تلمع فرقة للآلات النحاسية في ضوء الشمس، حيث قبعاتهم البيضاء ووجوههم الحمراء المتعرقة، عازفين أغنية «يانكي دودل». «هذا للسفير، ذلك الرجل الطويل الذي لا يغادر مقصورته مطلقا.» انزل المعبر المائل، وانتبه ألا تزل. «ذهب يانكي دودل إلى المدينة» ... وجه أسود لامع، وعينان مكحلتان براقتان، وأسنان مصقولة بيضاء. «أجل سيدتي، أجل سيدتي» ... «يغرز ريشة في قبعته، ويسميها طرازا ماكارونيا» ... «نتمتع بحرية التنقل في الميناء.» يظهر ضابط يرتدي زيا أزرق رأسا أصلع منحنيا لأسفل ... «تومتي بوم بوم بوم بوم ... كعك وسكاكر» ... «ها هي الخالة إيميلي والجميع ... كم لطيف أنك أتيت يا عزيزتي!» «أنا هنا منذ الساعة السادسة يا عزيزتي!» «يا إلهي، كم كبر!»
الفساتين الخفيفة، ولمعة دبابيس الزينة، والوجوه التي حشرت في وجه جيمي، ورائحة الورود وسيجار زوج الخالة. «يا له من رجل صغير بحق! تعال يا سيدي، دعني أنظر إليك.» «وداعا إذن يا سيدة هيرف. إن جئت يوما في طريقنا ... جيمي، لم أرك تقبل الأرض أيها الشاب.» «أوه، إنه مرح جدا، ناضج للغاية ... يا له من طفل ناضج!»
سيارة الأجرة رائحتها عفنة، وتنطلق مدمدمة ومترنحة في جادة واسعة يحوم فيها الغبار، عبر شوارع من الطوب كريهة الرائحة ومليئة بالأطفال المتسخين الصارخين، وفي أثناء كل ذلك يصدر صندوق السيارة صريرا. «أمي حبيبتي، لا تظنين أنها ستنقلب، أليس كذلك؟»
تضحك مميلة رأسها إلى أحد جوانبه، وتقول: «لا يا عزيزي.» وجنتاها ورديتان وعيناها تتلألآن تحت غطاء رأسها البني. «أوه يا أمي.» يقف ويقبلها على ذقنها. «يا لهم من أناس كثيرين يا أمي!» «ذلك لأننا في الرابع من يوليو.» «ماذا يفعل ذلك الرجل؟» «لقد كان يشرب يا عزيزي للأسف.»
من منصة صغيرة ملفوفة بالأعلام، يلقي خطابا رجل ذو شارب أبيض وحمالات حمراء صغيرة فوق قميصه الذي لا يرتدي أي شيء فوقه. «إنه خطيب الرابع من يوليو ... إنه يقرأ إعلان الاستقلال.» «لم؟» «لأننا في الرابع من يوليو.»
بووم! ... تلك مفرقعة مدفعية. «ربما أخاف ذلك الولد اللعين الحصان ... الرابع من يوليو يا عزيزي هو اليوم الذي وقع فيه إعلان الاستقلال في عام 1776 في أثناء حرب الاستقلال. لقد قتل جدي الأكبر هارلاند في تلك الحرب.»
يصلصل فوق الرءوس قطار صغير مرح ذو محرك أخضر. «تلك هي السكة الحديدية المرتفعة ... وانظر هذا هو شارع 23 ... ومبنى فلاتيرون.»
انعطفت سيارة الأجرة بحدة إلى ميدان يغمره ضوء الشمس، وتفوح منه رائحة الأسفلت والحشود، وتوقفت أمام باب طويل حيث يركض للأمام رجال ملونون بأزرار نحاسية. «وها نحن عند فندق الجادة الخامسة.»
يباع الآيس كريم في متجر العم جيف، وهو ذو مذاق خوخي حلو وبارد في سقف الفم. من العجيب أنك بعد مغادرة السفينة لا يزال بإمكانك الشعور بحركتها. تذوب قطع الغسق الزرقاء في شوارع شمال المدينة المربعة. تفيض الصواريخ براقة في الغسق الأزرق، وتتساقط الكرات الملونة، وألعاب بنجال النارية، ويضيف زوج الخالة جيف دولاب نار على الشجرة خارج باب المنزل ويوقده بسيجاره. أما الشموع الرومانية، فعليك حملها. «انتبه وأدر وجهك أيها الصبي.» ارتطام ساخن ودمدمة في يديك، وكرات على شكل بيض تتصاعد، حمراء، وصفراء، وخضراء، ورائحة البارود والأوراق الموقعة. في الشارع المضطرم الجياش يجلجل جرس، يجلجل أقرب، ويجلجل أسرع. تضرب حوافر الخيول المجلودة الأرض فتقدح شرارات، وتمر سيارة إطفاء مدوية، مستديرة عند الناصية حمراء، ومصدرة دخانا، ونحاسية. «لا بد أن الحريق في برودواي.» تمر بعدها الشاحنة ذات الخطاف والسلم وخيول رئيس الإطفاء السريعة الخطوات. يليها طنطنة سيارة إسعاف. «نال شخص جزاءه.»
الصندوق فارغ، يدخل تحت أظافرك مسحوق رملي ونشارة، وعندما تتحسسه تجده فارغا، كلا بل ما زالت تمر بعض سيارات الإطفاء الخشبية الصغيرة. سيارات إطفاء حقيقية. «يجب تحريكها يا زوج الخالة جيف. أوه، إنها الأفضل يا زوج الخالة جيف.» وضعوا بها المفرقعات وانطلقوا بأزيز سريعا على أسفلت الشارع الأملس، مدفوعين بأذناب مشتعلة ذات ريش براقة، تاركة دخانا خلف بعض سيارات الإطفاء الحقيقية.
اندس في السرير في غرفة طويلة ومقبضة، بعينين ساخنتين وساقين يؤلمان. قالت الأم عندما دسته في السرير، منحنية فوقه بفستان حريري لامع ذي كمين متدليين: «إنها آلام النمو يا عزيزي.» «ما هذه الرقعة السوداء الصغيرة على وجهك يا أمي ؟»
ضحكت وأصدرت قلادتها طنينا خفيفا، قائلة: «تلك لتجعلني أبدو أجمل.»
استلقى هناك محاطا بخزانات ملابس طويلة. أتى من الخارج صوت العجلات والزعيق، وصوت فرقة موسيقية من بعيد من حين لآخر. آلمته ساقاه كما لو كانتا ستسقطان عنه، وعندما أغلق عينيه كان يسرع عبر ظلمة تتسع تدريجيا على سيارة إطفاء حمراء تقذف بالنيران والشرار والكرات الملونة من ذيلها المؤزز. •••
اخترقت شمس يوليو الفتحات في الستائر البالية على نوافذ المكتب. جلس جاس ماك نيل في مقعد موريس وعكازاه بين ركبتيه. كان وجهه أبيض ومنتفخا من جراء الشهور التي قضاها في المستشفى. كانت نيللي ترتدي قبعة قشية عليها زهور خشخاش حمراء، وكانت تؤرجح نفسها جيئة وذهابا على الكرسي المتحرك عند المكتب. «الأفضل أن تأتي وتجلسي بجواري يا نيللي. فذلك المحامي قد لا يعجبه أن يجدك تجلسين إلى مكتبه.»
جعدت أنفها لأعلى ونهضت واقفة. «أؤكد لك يا جاس أنك خائف حد الموت.» «كنت ستخافين أنت أيضا لو كنت قد خضت ما خضته مع طبيب السكة الحديدية الذي أخذ يطعن في ويحدق في كما لو كنت سجينا، والطبيب اليهودي الذي أحضره المحامي وقال لي إنني أصبحت معاقا تماما. يا إلهي، أنا متعب للغاية. ولكني أظن أنه كان يكذب.» «افعل ما قلته لك يا جاس. أبق فمك مغلقا واترك الرجال الآخرين يتحدثون.» «بالتأكيد لن أنبس ببنت شفة.»
وقفت نيللي خلف كرسيه وبدأت تدلك شعره المجعد للخلف بعيدا عن جبهته. «سيكون من الرائع العودة للمنزل يا نيللي، حيث أطباقك الشهية وما شابه.» وضع ذراعه حول خصرها وجذبها إليه. «ربما لن يتعين علي أن أطهو أو أن أقوم بأي من تلك الأعمال فيما بعد.» «أظن أنني لا يعجبني الأمر ... يا إلهي، لا أدري كيف سنعيش إن لم نحصل على ذلك المال.» «أوه، سيساعدنا أبي كما كان يفعل.» «أرجو من الرب ألا أظل مريضا طوال حياتي.»
دخل جورج بالدوين صافعا الباب الزجاجي خلفه. وقف ناظرا إلى الرجل وزوجته لبرهة ويداه في جيبيه. ثم قال بابتسامة هادئة: «حسنا ، لقد أنجز الأمر يا سادة. بمجرد توقيع التنازل عن أي دعاوى أخرى، سيسلمني محامي السكة الحديدية شيكا بقيمة 12500 دولار أمريكي. ذلك هو ما اتفقنا عليه أخيرا.»
قال جاس لاهثا: «12 ألف دولار أمريكي. 12500. انتظر قليلا ... أمسك بعكازي حتى أخرج وأدهس مرة أخرى ... انتظر حتى أخبر ماك جلليكادي بالأمر. سيلقي الهرم بنفسه أمام قطار» ... تماسك جاس، وأردف: «حسنا يا سيد بالدوين إنك رجل عظيم ... أليس كذلك يا نيللي؟» «هو كذلك بالتأكيد.»
حاول بالدوين أن يمنع نفسه من النظر في عينيها مباشرة. كانت تسري في جسده دفقات من الاهتياج، مما أصاب ساقيه بالوهن والارتجاف.
قال جاس: «سأخبرك بما سنفعله. أقترح أن نأخذ جميعا عربة أجرة بحصان إلى ماك جلليكادي الهرم، وأن نتناول شرابا في الحانة الخاصة ... على حسابي. إنني بحاجة لبعض الشراب ليبهجني. هيا يا نيللي.»
قال بالدوين: «ليتني أستطيع، ولكني للأسف لا يمكنني ذلك. فأنا مشغول للغاية هذه الأيام. ولكن أعطني توقيعك فحسب قبل أن تذهب، وسأحضر لك الشيك غدا ... وقع هنا ... وهنا.»
استند ماك نيل فوق المكتب وكان ينحني فوق الأوراق. شعر بالدوين أن نيللي كانت تحاول أن تعطيه إشارة. أبقى نظره منخفضا. بعد أن غادرا، لاحظ محفظتها، محفظة صغيرة من الجلد بها زهرة بانسي مصهورة على ظهرها، على ركن المكتب. سمع نقرا على الباب الزجاجي. ففتح.
قالت بتلهف وصوت منخفض: «لم لم تنظر إلي؟» «كيف يمكنني ذلك وهو هنا؟» أعطاها المحفظة.
وضعت ذراعيها حول عنقه ولثمت فمه بشدة. «ماذا سنفعل؟ هل آتي بعد ظهيرة اليوم؟ سيسكر جاس حتى يمرض مجددا الآن وقد خرج من المستشفى.» «لا يا نيللي لا أستطيع ... إنه العمل ... العمل ... إنني مشغول في كل دقيقة.» «أوه أجل أنت كذلك ... حسنا، فلتفعل ما شئت.» صفقت الباب.
جلس بالدوين إلى المكتب وهو يعض أنامله دون أن يرى كومة الأوراق التي كان يحدق إليها. نهض واقفا وقال بصوت عال: «يجب أن أنهي الأمر.» مشى جيئة وذهابا في أرجاء المكتب الضيق ناظرا إلى أرفف كتب القانون والرزنامة التي تحوي صورة فتاة من لوحات جيبسون فوق الهاتف ومربع ضوء الشمس المليء بالغبار بجوار النافذة. نظر إلى ساعة يده. إنه وقت الغداء. مرر راحة يده على جبهته وتوجه إلى الهاتف. «ريكتور 1237 ... هل السيد ساندبورن هنا؟ ... ما رأيك يا فيل أن آتي وأصطحبك لتناول الغداء؟ هل تريد الذهاب الآن؟ ... بالتأكيد ... لقد سويتها يا فيل، حصلت لبائع الحليب على تعويضه. أنا في غاية السعادة. وبناء عليه سأرتب لك غداء لائقا ... وداعا حتى نلتقي ...»
ترك الهاتف مبتسما، وأخذ قبعته من فوق شماعتها، ووضعها بعناية على رأسه أمام المرآة الصغيرة فوق الشماعة، وأسرع نازلا الدرج.
في آخر مجموعة من درجات السلم، قابل السيد إيميري صاحب شركة إيميري آند إيميري الكائن مكتبها في الدور الأول. «حسنا يا سيد بالدوين، كيف الحال؟» كان السيد إيميري صاحب شركة إيميري آند إيميري رجلا ذا وجه مسطح، وشعر وحاجبين أشيبين، وفك مثلث الشكل. «جيد جدا يا سيدي، جيد جدا.» «سمعت أنك تؤدي أداء عظيما ... أمر ذو صلة بسكة حديد نيويورك سنترال.» «أوه، سويتها أنا وسيمسبري بعيدا عن أروقة المحاكم.»
قال السيد إيميري صاحب شركة إيميري آند إيميري: «هممم.»
عندما كانا على وشك أن يتفارقا في الشارع، قال السيد إيميري فجأة: «أتود تناول العشاء معي ومع زوجتي في وقت ما؟» «بالطبع ... سأكون مسرورا.» «أود معرفة شيء من الرفاق الأصغر سنا في المهنة التي تفهم فيها ... حسنا، سأعلمك ... في مساء أحد أيام الأسبوع القادم. ستكون فرصة لنتبادل أطراف الحديث.»
صافح بالدوين يده ذات العروق الزرقاء وأسورة كم منشاة لامعة، ورحل في شارع مايدن لين مسرعا بخطى رشيقة عبر حشد الظهيرة. في شارع بيرل ستريت، صعد درجا أسود مرتفعا تفوح منه رائحة القهوة المحمصة، وقرع بابا ذا زجاج مصنفر.
صاح صوت جهوري: «ادخل.» تقدم لمقابلته رجل أسمر يبدو نحيفا في قميصه الذي لا يرتدي أي شيء فوقه. «مرحبا يا جورج، ظننتك لن تأتي أبدا. إنني أتضور جوعا.» «سأرتب لك يا فيل أفضل غداء تأكله في حياتك.» «حسنا، أنتظر ذلك.»
ارتدى فيل ساندبورن معطفه، وأفرغ الرماد من غليونه على ركن طاولة الرسم، وصاح في مكتب داخلي مظلم: «سأذهب لتناول الطعام يا سيد سبيكير.»
رد صوت كالماعز مرتجف من المكتب الداخلي: «حسنا، اذهب.»
سأل بالدوين وهما يخرجان من الباب: «كيف حال الرجل الهرم؟» «سبيكير الهرم؟ متوعك في آخر رمقه ... ولكنه على ذلك الحال لسنوات، تلك الروح المسكينة العجوز. صدقا يا جورج سأشعر بهوان عظيم إذا حدث أي شيء للهرم المسكين سبيكير ... إنه الرجل الأمين الوحيد في مدينة نيويورك، وهو رجل ذو رأس حكيم أيضا.»
قال بالدوين: «إنه لم يفعل به شيئا كبيرا قط.» «ربما سيفعل ... ربما سيفعل ... يجب أن ترى خططه للمباني الفولاذية بالكامل. لديه فكرة لبناء ناطحات سحاب المستقبل بالفولاذ والزجاج. وقد كنا نجرب مؤخرا البلاط الزجاجي ... يا إلهي، ستبهرك بعض خططه ... إن له مقولة عظيمة عن أحد الأباطرة الرومان الذي قدم إلى روما وقد كانت مبنية من الحجارة وتركها وقد بنيت من الرخام. ويقول إنه وجد نيويورك مبنية من الحجارة، وإنه سيتركها وقد بنيت من الفولاذ ... الفولاذ والزجاج. لا بد أن أريك مشروعه لإعادة بناء المدينة. إنه كالحلم.»
جلسا على مقعد موسد في ركن المطعم الذي كانت تفوح فيه رائحة شرائح اللحم والشواء. مدد ساندبورن ساقيه أسفل الطاولة.
قال: «يا للروعة، هذه رفاهية.»
قال بالدوين من خلف قائمة الطعام: «دعنا نشرب كوكتيلا يا فيل. اسمع مني يا فيل، إن السنوات الخمس الأوائل هي الأصعب.» «لا حاجة للقلق يا جورج؛ فأنت من النوع المنافس ... أما أنا فهرم بليد.» «لا أعلم لماذا، يمكنك دائما الحصول على وظيفة كمصمم.» «أعتقد أن ذلك مستقبل جيد، أن أقضي حياتي في ركن طاولة الرسم وبطني مندس بها ... عجبا يا رجل!» «حسنا، قد تصبح شركة سبيكير وساندبورن مشهورة يوما ما.» «سيتنقل الناس بآلات طائرة في ذلك الوقت وسنكون أنا وأنت مستلقين في قبورنا.» «فلنشرب نخب الحظ على أي حال.» «نخب صحتك يا جورج.»
تجرعا المارتيني وشرعا في تناول المحار. «أتساءل أصحيح أن المحار يتحول إلى جلد في المعدة عندما نشرب معه الكحول .» «لا علم لي ... بالمناسبة يا فيل، كيف حالك مع كاتبة الآلة الكاتبة الشابة التي كنت تواعدها؟» «لقد أنفقت الكثير في الطعام والشراب والمسارح على تلك الفتاة الصغيرة ... إنها ترهقني ... صدقا تفعل ذلك. إنك رجل حصيف يا جورج لبقائك بعيدا عن النساء.»
قال بالدوين ببطء وبصق نواة زيتونة في قبضته المغلقة: «ربما.» •••
كان أول ما سمعاه الصافرة المرتجفة التي أتت من العربة الصغيرة عند الرصيف أمام مدخل العبارة. انفصل صبي صغير عن مجموعة من المهاجرين اصطفت في مبنى محطة العبارات وانطلق إلى العربة الصغيرة.
صاح وهو عائد يركض: «بالتأكيد إنها كمحرك بخاري ومليئة بالفول السوداني.» «ابق هنا يا بادريك.»
أردف تيم هالوران الذي قد أتى لملاقاتهما: «وها هي محطة القطارات السريعة، ساوث فيري. شمالا في هذا الاتجاه متنزها باتري وبولينج جرين، وشارع وول ستريت، والمنطقة المالية ... تقدم يا بادريك، عمك تيموثي سيصطحبك إلى خط الجادة التاسعة.»
لم يتبق سوى ثلاثة أشخاص عند منزل العبارات: امرأة عجوز ذات منديل أزرق على رأسها، وامرأة شابة تضع شالا باللون الأحمر الأرجواني، وكانتا تجلسان على كلا طرفي صندوق كبير محزوم بالحبال ومرصع بمسامير نحاسية، ورجل هرم بشعر ذقن قصير وضارب إلى الاخضرار ووجه ذي خطوط والتواءات كجذر شجرة بلوط ميتة. كانت السيدة العجوز تتأوه بعينين دامعتين، وتقول بالإيطالية: «أين نحن ذاهبون يا سيدتنا العذراء، يا سيدتنا العذراء؟» كانت المرأة الشابة تفتح خطابا ناظرة بعينين طارفتين إلى الكتابة المزخرفة. انتقلت فجأة للرجل الهرم، تعطيه الخطاب وتقول بالإيطالية: «لا أستطيع القراءة.» أخذ يعتصر يديه، مطوحا رأسه، قائلا مرارا وتكرارا شيئا لم تتمكن من فهمه. هزت كتفيها وابتسمت ورجعت إلى الصندوق. كان هناك رجل صقلي ذو سوالف شعر طويلة يتحدث إلى المرأة العجوز. أمسك بالصندوق من حبله وسحبه جانبا إلى عربة نابضية ذات حصان أبيض وقف في الجهة الأخرى من الشارع. تبعت المرأتان الصندوق. مد الصقلي يده للمرأة الشابة. وكانت المرأة العجوز لا تزال تغمغم وتتأوه رافعة نفسها بألم على ظهر العربة. عندما انحنى الصقلي ليقرأ الخطاب، دفع الشابة بكتفه . فتيبست مكانها. قال: «حسنا.» ثم عندما هز اللجام على ظهر الحصان، التفت تجاه المرأة العجوز وصاح قائلا بمزيج من الإيطالية والإنجليزية: «الساعة الخامسة ... حسنا.»
الفصل الرابع
القضبان
أخذ زئير القطار يهدأ مع تباطؤ حركته، أحدثت المصدات صخبا في كل أركانه. أرخى الرجل قضبان الاقتران. كان متيبسا لدرجة أنه لم يكن يستطيع الحركة. كان الظلام حالكا. زحف خارجا ببطء، رافعا نفسه على ركبتيه، ثم على قدميه حتى مال لاهثا على عربة بضائع. لم يكن هذا جسده؛ إذ كانت عضلاته كالخشب المحطم، وعظامه كقضبان ملتوية. سطع مصباح في عينيه على حين غرة. «أنت، اخرج من هنا بسرعة. فمحققو الشركة يطوفون بالساحات.» «أخبرني يا رجل، هل هذه نيويورك؟» «أنت محق. ما عليك سوى أن تتبع مصباحي، يمكنك الخروج بمحاذاة الساحل.»
كادت قدماه تزلان عبر الطرق اللامعة الطويلة على شكل حرف
v
وخطوط المسارات المتصالبة، تعثر وسقط فوق حزمة من قضبان الإشارات. في النهاية، كان يجلس على حافة رصيف ورأسه بين يديه. أصدرت المياه بارتطامها بالكومات صوتا مهدئا كصوت لعق الكلاب. أخرج جريدة من جيبه وفتح لفافة بها كتلة من الخبز وشريحة من اللحم ذي الغضاريف. أكلهما جافين، وأخذ يمضغ ويمضغ قبل أن يتمكن من الشعور بأي نداوة في فمه. ثم نهض متعثرا، مزيلا الفتات من فوق ركبتيه، ونظر حوله. جنوبا خلف المسارات، كانت السماء الضبابية مخضلة بوميض برتقالي.
قال عاليا بصوت ناعق: «الطريق الأبيض المرح. الطريق الأبيض المرح.»
عبر النافذة المخططة بمياه الأمطار، كان جيمي هيرف يشاهد حركة المظلات صعودا وهبوطا في حركة المرور الحائمة ببطء والمتدفقة في برودواي. سمع نقر على الباب، فقال جيمي: «ادخل»، وعاد إلى النافذة عندما رأى أن النادل لم يكن هو بات. أضاء النادل الأنوار. رأى جيمي انعكاسه في لوح زجاج النافذة، وقد كان رجلا نحيلا ذا شعر شائك، ويحمل عاليا في إحدى يديه صينية العشاء التي كانت الأغطية الفضية عليها منسقة كالقباب. تقدم النادل لاهثا إلى داخل الغرفة جاذبا خلفه بيده التي لا تحمل شيئا مسندا قابلا للطي . نزع المسند، ووضع عليه الصينية وبسط مفرشا فوق الطاولة المستديرة. فاحت منه رائحة كرائحة مخزن طعام مشحم. انتظر جيمي حتى ذهب ليستدير. ثم سار حول الطاولة قالبا الأغطية الفضية؛ حيث وجد حساء تعوم فيه أشياء خضراء صغيرة، ولحم حمل مشويا، وبطاطس مهروسة، ولفتا مهروسا، وسبانخ، ولكنه لم يجد حلوى. «يا أمي.» ناح الصوت ضعيفا عبر الباب القابل للطي: «نعم يا عزيزي.» «العشاء جاهز يا أمي العزيزة.» «ابدأ أنت يا ولدي الحبيب، سألحق بك في الحال ...» «ولكني لا أريد أن أبدأ من دونك يا أمي.»
سار حول الطاولة معدلا أوضاع السكاكين والشوكات. وضع منشفة فوق ذراعه. كان النادل الرئيسي في مطعم دلمونيكو يرتب الطاولة لجراوستارك وملك بوهيميا الأعمى والأمير هنري الملاح و... «من تريدين أن تكوني يا أمي، الملكة ماري ملكة اسكتلندا أم ليدي جين جراي؟» «ولكن كلتيهما قطع رأسها يا عزيزي ... وأنا لا أريد أن يقطع رأسي.» ارتدت الأم فستان الشاي السلموني اللون. عندما فتحت الباب القابل للطي، فاحت من غرفة النوم رائحة ضعيفة من الكولونيا والأدوية، تجرجرت خلف كميها الطويلين المهدبين بالدانتيل. كانت قد وضعت الكثير من البودرة بعض الشيء على وجهها، ولكن شعرها، ذلك الشعر البني البهيج، كان مصففا تصفيفا جميلا. جلسا متقابلين، ووضعت صحنا من الحساء أمامه، رافعة إياه بين يدين طويلتين تظهر منهما العروق الزرقاء.
تناول الحساء الذي كان خفيفا ولم يكن ساخنا بما يكفي. «أوه، لقد نسيت الكروتون يا عزيزي.» «أمي ... أمي، لم لا تتناولين حساءك؟» «لا يروق لي تناوله هذا المساء. لم أستطع التفكير فيما أطلب الليلة؛ فرأسي يؤلمني. لا عليك.» «هل كنت تفضلين أن تكوني كليوباترا؟ لقد كان لديها شهية رائعة وأكلت كل شيء كان يوضع أمامها كفتاة صغيرة مطيعة.»
قالت بصوت مرتجف: «حتى اللآلئ ... وضعت لؤلؤة في كأس من الخل وشربتها ...» مدت يدها إليه عبر الطاولة؛ فربت على يدها كالرجال وابتسم. «أنا وأنت فحسب يا ولدي جيمي ... حبيبي، ستحب دائما أمك، أليس كذلك؟» «ما الأمر يا أمي العزيزة؟» «أوه لا شيء، أشعر بشيء غريب هذا المساء ... أوه، أنا متعبة جدا من عدم شعوري من قبل أنني بصحة جيدة حقا.» «ولكن بعد أن أجريت عمليتك ...» «أوه أجل، بعد أن أجريت عمليتي ... هناك يا عزيزي ورقة من الزبد الطازج على حافة النافذة في الحمام ... سأضع القليل منه فوق هذا اللفت إذا جلبتها لي ... للأسف علي أن أقدم شكوى بشأن الطعام مجددا. لحم الحمل هذا ليس حقا كما ينبغي أن يكون؛ آمل ألا يمرضنا.»
ركض جيمي عبر الباب القابل للطي وغرفة أمه إلى الممر القصير الذي تفوح منه رائحة كرات العثة وقطع الأقمشة الحريرية المنثورة فوق كرسي، ثم تأرجح الأنبوب المطاطي الأحمر لرشاش المياه وضربه في وجهه عندما فتح باب الحمام، وقد جعلت رائحة الأدوية ضلوعه تنقبض بألم. رفع النافذة الموجودة في طرف حوض الاستحمام. كانت الحافة خشنة وكانت لطخ من السخام كالريش تغطي الصحن المقلوب ليغطي الزبد. وقف برهة محدقا لأسفل في المنور، ومتنفسا عبر فمه لمنع نفسه من استنشاق غاز الفحم المتصاعد من الأفران. كانت أسفله خادمة ترتدي قلنسوة بيضاء متكئة خارج النافذة وتتحدث مع أحد مشغلي الأفران الذي وقف ناظرا لأعلى إليها وذراعاه العاريتان المتسختان معقودتان فوق صدره. مد جيمي أذنيه كي يسمع ما كانا يقولانه: أن تكون متسخا وتحمل الفحم طوال اليوم والشحم في شعرك ممتدا إلى إبطيك. «جيميي!» «آت يا أمي.» أنزل النافذة بقوة بوجنتين متوردتين ورجع إلى غرفة الجلوس ببطء حتى يتلاشى التورد عن وجهه. «أتسرح مجددا يا جيمي. يا عزيزي الحالم الصغير.»
وضع الزبد بجوار صحن أمه وجلس. «أسرع وكل لحم الحمل بينما لا يزال ساخنا. لم لا تجرب بعضا من صلصة الخردل الفرنسية عليه؟ ستجعل مذاقه أفضل.»
أحرقت صلصة الخردل لسانه، وأدمعت عينيه.
سألته الأم ضاحكة: «أهي حارة جدا؟ يجب أن تتعلم أن تحب الأشياء الحارة ... كان دوما يحب الأشياء الحارة.» «من يا أمي؟» «شخص أحببته كثيرا.»
لاذا بالصمت. كان بإمكانه أن يسمع صوت مضغه. وسمعت بعض أصوات صلصلة سيارات الأجرة والترام التي كانت تتلوى على نحو متكسر عبر النوافذ المغلقة. أخذت أنابيب البخار تطرق وتهسهس. بالأسفل في المنور، كان رجل الفرن المشحم حتى إبطيه يلفظ بكلمات من فمه المتمايل مخاطبا بالأعلى الخادمة ذات القلنسوة المتيبسة، وقد كانت كلمات بذيئة. صلصة الخردل بلون ... «فيم تفكر؟» «لم أكن أفكر في أي شيء.» «يجب ألا نخفي أي أسرار عن بعضنا يا عزيزي. تذكر أنك مصدر الراحة الوحيد لأمك في هذا العالم.» «أتساءل عن شعوري لو كنت فقمة، فقمة ميناء صغيرة.» «أظن أنك ستشعر بالبرد الشديد.» «ولكنك لن تشعري بذلك ... فإناث الفقمات تحميها طبقة من الشحم وبذلك تكون دائما دافئة حتى لو جلست على جبل جليدي. ولكن سيكون من الممتع للغاية العوم في أنحاء البحر حيثما تريدين. إنها تسافر لآلاف الأميال دون توقف.» «ولكني سافرت لآلاف الأميال دون توقف، وكذلك فعلت أنت أيضا.» «متى؟» «عندما ذهبنا خارج البلاد ورجعنا.» كانت تضحك عليه بعينين لامعتين. «أوه، ولكن هذا كان في قارب.» «وعندما اعتدنا الذهاب في جولات بحرية على مركب ماري ستيوارت الشراعية.» «أوه، أخبريني عن ذلك يا أمي.»
سمع طرق على الباب. «ادخل.» مد النادل ذو الشعر الشائك رأسه عبر الباب. «هل يمكنني التنظيف يا سيدتي؟» «نعم، وأحضر لي بعضا من سلطة الفواكه وتأكد من أن الفاكهة طازجة ... فالطعام سيئ هذا المساء.»
كان النادل يكوم الأطباق فوق الصينية لاهثا. قال: «آسف يا سيدتي.» «لا بأس، أعلم أنها ليست غلطتك أيها النادل ... ماذا ستأخذ يا جيمي؟» «هل يمكنني أن آخذ مرينج جلاسيه يا أمي؟» «لا بأس إذا كنت ستحسن التصرف.»
أطلق جيمي صيحة: «مرحى.» «يجب ألا تصرخ هكذا على الطاولة يا عزيزي.» «ولكن لا يعنينا شيء عندما نكون نحن الاثنين وحدنا ... مرحى إنه المرينج جلاسيه.» «إن الرجل المحترم يا جيمس يتصرف بالطريقة نفسها دائما سواء أكان وحده في المنزل أم في براري أفريقيا.» «مرحى، أتمنى لو كنا في براري أفريقيا.» «سيكون ذلك مروعا يا عزيزي.» «سأصرخ هكذا وأفزع جميع الأسود والنمور ... نعم سأفعل ذلك.»
رجع النادل بصحنين على الصينية. «معذرة يا سيدتي ولكن المرينج جلاسيه قد نفد كله ... أحضرت للرجل الصغير آيس كريم بالشوكولاتة بدلا منه.» «أوه يا أمي.» «لا عليك يا عزيزي ... فقد كانت حلوى دسمة على أي حال ... تناول ذلك وسأسمح لك بالخروج بعد العشاء وشراء بعض الحلوى.» «رائع.» «ولكن لا تأكل الآيس كريم على عجل وإلا أصبت بمغص.» «لقد فرغت من طعامي.» «التهمته أيها الشقي الصغير ... ارتد حذاءك المطاطي يا عزيزي.» «ولكنها لا تمطر على الإطلاق.» «افعل ما تريده أمك يا عزيزي ... رجاء ألا تتأخر. أثق أنك سترجع في الحال. أنا لست بحال جيدة بعض الشيء الليلة، وأقلق عندما تكون في الشارع. فهناك مخاطر مروعة ...»
جلس لارتداء حذائه المطاطي. وبينما كان يطبق عليه بإحكام تحت عقبيه، أتت إليه بدولار. وضعت ذراعها بكمها الحريري الطويل حول كتفه. «أوه يا عزيزي.»
كانت تبكي. «يجب ألا تبكي يا أمي.» ضمها ضما شديدا، وكان بإمكانه أن يشعر في ذراعيه بضلوع المشد الذي كانت ترتديه حول خصرها. «سأرجع خلال دقيقة، خلال دقيقة واحدة فقط.»
على الدرج حيث يثبت القضيب النحاسي السجادة القرمزية الباهتة على كل درجة، خلع جيمي حذاءه المطاطي وحشره في جيبي معطف المطر الذي كان يرتديه. عندما لامس رأسه الهواء، أسرع عبر شرك النظرات المتطفلة للفراشين الجالسين على المقعد بجوار المكتب. سأله الفراش الأصغر الأشقر: «أذاهب للتمشية؟» أومأ جيمي بطريقة حكيمة، وتسلل أمام أزرار البواب اللامعة إلى برودواي الذي يملؤه الشغب، وخطى الأقدام، والوجوه التي تغطيها أقنعة الظل عندما ينبثقون من لطخات الضوء الآتية من المتاجر والمصابيح القوسية. مشى سريعا إلى الشمال مارا بفندق آنسونيا. كان يتسكع على عتبة الباب رجل ذو حاجبين أسودين وسيجار في فمه، ربما كان خاطفا. ولكن الأشخاص اللطفاء يقيمون في آنسونيا فهو كالفندق الذي نقيم فيه. ثم مر بمكتب برقيات، ومتاجر أطعمة جافة، ومصبغة، ومغسلة، والتي كانت مغسلة صينية تنبعث منها رائحة بخار غامض ومحترق. أسرع في المشي، فالصينيون خاطفون مروعون. إنهم قطاع طرق. مر به رجل معه صفيحة من فرش الكيروسين، كم من الفرش المليئة بالشحم يلامس كتفه، وتفوح منه رائحة العرق والكيروسين؛ ربما هو أحد المهووسين بإشعال الحرائق. أصابته فكرة المهووس بإشعال الحرائق بالقشعريرة. النيران. النيران.
عند متجر هويلر تنبعث رائحة حلوى تضفي ارتياحا ممزوجة برائحة النيكل والرخام الممسوح جيدا خارج الباب، وتتصاعد بدفء رائحة طهو الشوكولاتة من الشبكات أسفل النوافذ. وجوه سوداء وبرتقالية من ورق الكريب للهالوين. كاد يدخل ولكنه تذكر متجر ميرور على بعد مربعين سكنيين، حيث المحركات البخارية والسيارات الفضية التي يعطونها الأطفال مع الفكة. سأسرع، على حذاء الدحرجة يستغرق الأمر وقتا أقل؛ حيث يمكن الهروب من قطاع الطرق، والسفاحين، ورجال السطو المسلح، على حذاء الدحرجة يمكن إطلاق النار من فوق الكتف بسلاح آلي طويل، بينج ... يسقط واحد منهم! إنه أسوءهم، بينج ... هناك آخر؛ حذاء الدحرجة هو حذاء دحرجة سحري، مرحى ... يمكنه صعود الجدران القرميدية للمنازل، فوق الأسقف، والمداخن المقنطرة، وأعلى مبنى فلاتيرون، والانطلاق عبر كابلات جسر بروكلين.
إنه متجر ميرور للحلوى، هذه المرة دخل دون تردد. وقف عند طاولة البيع لوهلة قبل أن يأتيه أحد لتلبية طلبه. قال طالبا بسرعة: «رطل من الحلوى بستين سنتا، رطل بمزيج من قشدة الشوكولاتة لو سمحت.» إنها سيدة شقراء، حولاء بعض الشيء، وتنظر إليه بحقد دون أن تجيبه. «أرجوك أنا في عجلة من أمري إذا سمحت.»
انفجرت فيه قائلة: «حسنا، كل في دوره.» فيقف ناظرا إليها بعينين طارفتين ووجنتين متوقدتين. ثم تدفع إليه بصندوق ملفوف وفوقه شيك قائلة: «ادفع عند المكتب.» لن أبكي. السيدة عند المكتب ضئيلة الحجم وذات شعر أشيب. تأخذ منه الدولار عبر باب صغير كالأبواب التي تعبر منها الحيوانات الصغيرة في بيت الثدييات الصغيرة. تصدر آلة تسجيل النقود رنينا ذا بهجة، كما لو كانت سعيدة بحصولها على المال. ربع دولار، ودايم، ونيكل، وكأس صغيرة، هل ذلك 40 سنتا؟ ولكن فقط كأس صغيرة وليس محركا بخاريا أو سيارة. التقطت المال وترك الكأس الصغيرة وأسرع بالصندوق أسفل ذراعه. ستقول أمي إنني تأخرت كثيرا. مشى إلى المنزل ناظرا أمامه مباشرة، وقد أوجعته خسة السيدة الشقراء.
قال الفراش الأشقر: «ها ... كنت بالخارج لشراء الحلوى.» همس جيمي وهو يمر: «سأعطيك بعضا منها إذا صعدت فيما بعد.» رنت القضبان النحاسية عندما ركل أحدها صاعدا الدرج. خارج الباب ذي لون الشوكولاتة الذي كتب عليه رقم 503 بأحرف مطلية بالأبيض، تذكر حذاءه المطاطي. وضع الحلوى على الأرض وارتداه فوق حذائه المبلل. لحسن الحظ أن أمه لم تكن تنتظره فاتحة الباب. ربما رأته قادما من النافذة. «أمي.» لم تكن في غرفة الجلوس. ارتعب. لقد خرجت، لقد رحلت بعيدا. «أمي!»
أتى صوتها ضعيفا من غرفة النوم: «تعال هنا يا عزيزي.»
خلع قبعته ومعطفه وأسرع إلى الغرفة. «ما الأمر يا أمي؟» «لا شيء يا حبيبي ... أشعر بصداع هذا كل ما في الأمر، صداع فظيع ... ضع بعض الكولونيا على منديل وضعه على رأسي بإحكام، وأرجوك لا تدخله في عيني يا عزيزي كما فعلت في المرة السابقة.»
استلقت على السرير في غطاء محشو سماوي اللون. كان وجهها شاحبا ومائلا إلى اللون الأرجواني. كان فستان الشاي الحريري ذو لون السلمون معلقا بارتخاء فوق كرسي، بينما كان المخصر ملقى على الأرض في تشابك من شرائط وردية. وضع جيمي المنديل المبلل بعناية فوق جبهتها. فاحت الكولونيا برائحة قوية، مخدرة فتحتي أنفه عندما مال عليها.
جاء صوتها ضعيفا: «ذلك جيد جدا. اتصل بالخالة إيميلي، ريفيرسايد 2466، واسألها عما إذا كانت تستطيع أن تمر بنا هذا المساء. أريد التحدث إليها ... أوه، رأسي ينفجر.»
توجه إلى الهاتف بقلب يدق بشدة ودموع تغشى عينيه. جاء صوت الخالة إيميلي سريعا على غير المتوقع.
صاح: «أمي مريضة بعض الشيء يا خالة إيميلي ... تريدك أن تزورينا ... إنها آتية على الفور يا أمي العزيزة، أليس ذلك جيدا؟ ستأتي في الحال.» مشى على أطراف أصابعه عائدا إلى غرفة أمه، والتقط المخصر وفستان الشاي وعلقهما في الخزانة.
جاء صوتها الهزيل: «يا عزيزي، اخلع الدبابيس عن شعري، إنها تؤلم رأسي ... أوه يا ولدي الحبيب، أشعر كما لو أن رأسي سينفجر ...» مرر يده برفق خلال شعرها البني الذي كان أنعم من فستان الشاي الحريري وانتزع دبابيس الشعر. «كلا لا تفعل ذلك، إنك تؤلمني.» «لم أقصد يا أمي.»
أسرعت الخالة إيميلي، نحيلة ملقية بمعطف مطر أزرق فوق فستان سهرة ترتديه، ودخلت الغرفة، زامة فمها النحيل من الشفقة. رأت أختها مستلقية تتلوى في ألم على السرير، والصبي الأبيض الوجه النحيل يرتدي بنطالا قصيرا ويقف بجانبها ويداه مملوءتان بدبابيس الشعر.
سألتها بهدوء: «ما الأمر يا ليل؟»
جاء صوت ليلي هيرف بهسهسة لاهثة: «شيء مروع أصابني يا عزيزتي.»
قالت الخالة إيميلي بصوت أجش: «جيمس، يجب أن تذهب مسرعا إلى السرير ... أمك تحتاج لهدوء تام.»
قال: «ليلة سعيدة يا أمي العزيزة.»
ربتت الخالة إيميلي على ظهره. «لا تقلق يا جيمس، سأتدبر كل شيء.» توجهت إلى الهاتف وشرعت في الاتصال برقم بصوت خفيض ودقيق.
كان صندوق الحلوى على طاولة البهو، وشعر جيمي بالذنب عندما وضعه أسفل ذراعه. عندما مر بخزانة الكتب، استل عددا من أعداد الموسوعة الأمريكية ودسه أسفل ذراعه الأخرى. لم تلحظه خالته عندما خرج من الباب. انفتحت بوابة الزنزانة. وكان يقف بالخارج حصان عربي وخادمان أمينان ينتظران للإسراع به عبر الحدود التي تحول بينه وبين حريته. كانت غرفته على بعد ثلاثة أبواب بالأسفل. وكانت مثقلة بظلام مكتل صامت. أضيء المصباح بسلاسة مضيئا مقصورة المركب الشراعي ماري ستيوارت. حسنا أيها القبطان، فلترفع المرساة وتحدد وجهتك إلى جزر أنتيل ويندوارد، ولا تزعجني حتى الفجر؛ فلدي أوراق مهمة علي مطالعتها. انتزع ملابسه وركع بجوار السرير مرتديا ملابس النوم. عندما أستلقي وأستعد للنوم، أدعو الرب أن يحفظ روحي إذا كنت سأموت قبل أن أستيقظ، أدعو الرب أن يأخذ روحي.
ثم فتح صندوق الحلوى ورتب الوسائد معا في طرف السرير أسفل الضوء. اخترقت أسنانه الشوكولاتة لتصل إلى حشو رخو حلو المذاق. لنر ...
الحرف
A ، أول حروف العلة، وأول حرف في جميع الأبجديات الكتابية باستثناء الأمهرية أو الحبشية؛ حيث هو الحرف الثالث عشر، والرونية حيث هو الحرف العاشر ...
يا إلهي، تلك حلوى قطنية.
AA ، Aachen (مدينة آخن) (انظر
Aix-la-Chapelle
إكس لا شابل)
Aardvark (خنزير الأرض) ...
يا للهول، شكله مضحك ... (خنزير أرض رأس الرجاء الصالح)، حيوان أخمصي السير من طائفة الثدييات، رتبة عديمات الأسنان، مقتصر على أفريقيا.
Abd (عبد)،
Abd-el-halim (عبد الحليم)، أمير مصري، ابن محمد علي وامرأة من الرقيق الأبيض ...
اشتعلت وجنتاه خجلا وهو يقرأ:
ملكة الرقيق الأبيض.
Abdomen (البطن) (لاتينية من أصل غير محدد) ... الجزء الأسفل من الجسم المتضمن فيما بين مستوى الحجاب الحاجز والحوض ...
Abelard (أبيلار) ... لم تدم العلاقة بين الأستاذ والتلميذة طويلا. ملأ قلبيهما شعور أكثر حميمية من الإجلال، وكانت الفرص اللامحدودة لجماعهما التي وفرها لهما الكاهن المخول في عهد أبيلار (كان في ذلك الوقت في الأربعين من عمره تقريبا)، ومع كونه شخصية عامة، مهلكة لسلام كل منهما. كان وضع إلواز على وشك الكشف عن علاقتهما الحميمة ... ترك فولبير نفسه حينئذ لتغمره النزعة الانتقامية الوحشية ... اقتحم غرفة أبيلار ومعه عصابة من الأشرار وأشبع انتقامه بأن أوقع به إخصاء منكرا.
Abelites (الأبيليون) ... يستهجنون الجماع الجنسي معتبرين إياه خدمة للشيطان.
Abimelech I (أبيمالك الأول)، ابن جدعون من محظية شكيمية، والذي نصب نفسه ملكا بعد أن قتل جميع أبناء أبيه عدا يوثام، وقد قتل أثناء محاصرته لبرج تاباص ...
Abortion (إجهاض) ...
لا، كانت يداه متجمدتين وشعر ببعض الإعياء من ازدراده للكثير من الشوكولاتة.
Abracadabra (أبراكادبرا).
Abydos (أبيدوس) ...
نهض ليشرب كوبا من المياه قبل قراءة جزء
Abyssinia (الحبشة) حيث نقوش الجبال الصحراوية وحريق المجدل على يد البريطانيين.
آلمته عيناه. شعر بالتصلب والنعاس. نظر في ساعة يده طراز إينجيرسول. إنها تشير إلى الحادية عشرة. تملكه الرعب فجأة. لو ماتت أمي ...؟ دس بوجهه في الوسادة. انحنت تجاهه في فستان الحفلة الذي كانت ترتديه المزين بالدانتيل الهش، والذي كان له ذيل يصدر حفيفا لجرجرة كشكشات الساتان، ودلكت وجنته برفق بيدها التي تفوح منها رائحة عطر ناعم. خنقته نوبة من البكاء. انطرح على الفراش دافعا وجهه بقوة في الوسادة المكومة. لم يستطع لوقت طويل التوقف عن البكاء.
استيقظ ليجد الضوء متوقدا على نحو مشوش، والغرفة مكتومة وساخنة. كان الكتاب على الأرض، وكانت الحلوى قد سحقت أسفله بعد أن تسربت ببطء من صندوقها. توقفت ساعة يده على الساعة الواحدة و45 دقيقة. فتح النافذة، ووضع الشوكولاتة في درج المكتب، وكان على وشك أن يطفئ المصباح ولكنه تذكر شيئا. مرتعشا ارتدى برنس الحمام وشبشبا ونزل على أطراف أصابعه إلى الردهة المظلمة. استرق السمع من خارج الباب. كان ثمة أشخاص يتحدثون بصوت خفيض. طرق الباب برفق وأدار المقبض. سحبت يد الباب فاتحة إياه وكان جيمي ينظر بعينين طارفتين في وجه رجل طويل حليق اللحية تماما ويرتدي نظارة ذهبية. كان الباب القابل للطي مغلقا، وكانت تقف أمامه ممرضة متيبسة.
قالت الخالة إيميلي في همس منهك: «عزيزي جيمس، ارجع إلى سريرك ولا تقلق. أمك مريضة جدا وتحتاج إلى هدوء تام، ولكن لم يعد هناك خطر.»
قال الطبيب وهو ينفث في نظارته: «ليس في الوقت الحاضر على الأقل يا سيدة ميريفال.»
جاء صوت الممرضة خفيضا ومخرخرا ومطمئنا: «الصغير المسكين، لقد جلس قلقا طوال الليل ولم يزعجنا مرة.»
قالت الخالة إيميلي: «سأرجع وأدثرك في السرير. فعزيزي جيمس يحب ذلك دائما.» «هل يمكنني أن أرى أمي، مجرد نظرة خاطفة كي أعلم أنها بخير.» نظر جيمي لأعلى خجلا في الوجه الكبير ذي النظارة.
أومأ الطبيب. «حسنا يجب أن أذهب ... سأمر عليكم بحلول الرابعة أو الخامسة كي أطمئن على الحال ... طابت ليليتك يا سيدة ميريفال. طابت ليلتك يا آنسة بيلينجز. طابت ليلتك يا بني ...» «من هنا ...» وضعت الممرضة المدربة يدها على كتف جيمي. انسل من أسفل يدها وسار خلفها.
كان هناك مصباح مضاء في ركن غرفة الأم، تظلله منشفة معلقة حوله. جاء من ناحية السرير صوت تنفس خشن لم يميزه. كان وجهها المجعد متجها نحوه بجفنين مغلقين بنفسجيي اللون وفم متجعد في جهة واحدة. حدقت إليه لنصف دقيقة. همس للممرضة: «حسنا، سأرجع إلى سريري الآن.» تدفقت دماؤه على نحو مصيب بالصمم. سار دون أن ينظر إلى خالته أو إلى الممرضة بتيبس إلى الباب الخارجي. قالت خالته شيئا. ركض في الممر إلى غرفته، وصفع الباب وأغلقه بالمزلاج. وقف متيبسا وشاعرا بالبرودة في منتصف الغرفة وقبضتاه مغلقتان. صاح عاليا : «أنا أكرههم. أنا أكرههم.» ثم أطفأ النور متجرعا نشجة جافة وانسل إلى السرير بين الملاءات الباردة برودة مرجفة. •••
كان إميل يقول بصوت غنائي: «مع هذا الحجم من الأعمال التي لديك يا سيدتي، أظن أنك تحتاجين لشخص كي يساعدك في المتجر.»
تنهدت مدام ريجو قائلة وهي جالسة على كرسيها المرتفع الذي لا ظهر له بجوار مكتب الدفع: «أعلم ذلك ... إنني أنهك نفسي في العمل، أعلم ذلك.» كان إميل صامتا لوقت طويل ومحدقا إلى المقطع العرضي للحم خنزير موضوع على البلاطة الرخامية بجوار مرفقه. ثم قال في خجل: «امرأة مثلك، امرأة جميلة مثلك، يا مدام ريجو لا تخلو حياتها من الأصدقاء.» «آه ذلك ... لقد شاهدت الكثير في حياتي ... لم تعد لدي ثقة ... الرجال مجموعة من البهائم، والنساء، أوه، لا أنسجم مع النساء بعض الشيء!»
أجفل إميل قائلا: «التاريخ والأدب ...»
صلصل الجرس أعلى الباب. اندفع رجل وامرأة إلى داخل المتجر؟ كانت المرأة ذات شعر أشقر وترتدي قبعة تشبه حوضا من الزهور.
كانت تقول: «لا تكن مسرفا يا بيللي.» «ولكن يا نورا يجب أن نأكل شيئا ... وسأكون على ما يرام بحلول يوم السبت.» «لن يصبح شيء على ما يرام حتى تتوقف عن رهانات سباقات الخيل.» «آه هلا تركتني وشأني ... لنأخذ بعض نقانق الكبد ... يا إلهي، صدر الديك الرومي البارد ذلك يبدو جيدا ...»
هدلت الفتاة ذات الشعر الأشقر: «بيجي ويجي.» «هلا تركتني وشأني، أنا على ما يرام.»
بمزيج من الإنجليزية والفرنسية، تحدثت مدام ريجو كالعرافة دون أن تتحرك من فوق كرسيها المرتفع الذي لا ظهر له بجوار مكتب الدفع: «أجل يا سيدي صدر الديك الرومي جيد جدا ... لدينا دجاج عجوز أيضا، لا يزال ساخنا ... ابحث لي يا صديقي إميل عن دجاجة من ذلك الدجاج الصغير في المطبخ.» كان الرجل يهوي وجهه بقبعة قشية سميكة الإطار ذات شريط بنقشة مربعة.
قالت مدام ريجو: «الطقس دافئ الليلة.» «بالتأكيد ... كان علينا الذهاب إلى الجزيرة يا نورا بدلا من التسكع في هذه المدينة.» «أنت تعلم جيدا يا بيللي السبب في أننا لم نتمكن من الذهاب.» «لا ترشي الملح على الجرح. ألم أخبرك أن كل شيء سيكون على ما يرام بحلول يوم السبت.»
واصل إميل عندما خرج العميلان ومعهما الدجاجة تاركين لمدام ريجو نصف دولار فضي حبسته في درج الخزينة: «التاريخ والأدب يعلماننا أن هناك صداقات، وأن هناك حبا في بعض الأحيان يستحق الثقة ...»
هدرت مدام ريجو ضاحكة في سرها: «التاريخ والأدب!» «إنهما ذوا نفع كبير لنا.» «ولكن ألم تشعري يوما بالوحدة في مدينة كبيرة كهذه ...؟ كل شيء شديد الصعوبة. النساء ينظرن إلى ما في جيب المرء وليس إلى قلبه ... لا يمكنني تحمل الأمر أكثر من ذلك.»
اهتز كتفا مدام ريجو العريضان ونهداها الكبيران ضاحكة. وأصدر مخصرها صريرا عندما رفعت نفسها عن كرسيها المرتفع الذي لا ظهر له وهي لا تزال ضاحكة. «إنك يا إميل شاب وسيم ورزين وسيكون لك شأن في هذا العالم ... ولكني لن أخضع لسلطة رجل مرة أخرى ... لقد عانيت كثيرا ... ولو حتى أعطيتني 5000 دولار.» «إنك امرأة شديدة القسوة.»
ضحكت مدام ريجو مجددا. «هيا الآن، يمكنك مساعدتي في إغلاق المتجر.» •••
جاء يوم الأحد مثقلا وسط المدينة بالصمت والطقس المشمس. جلس بالدوين إلى مكتبه في قميصه الذي لا يرتدي أي شيء فوقه يقرأ كتاب قانون مجلدا بجلد عجل. وكان بين الحين والآخر يدون ملاحظة في دفتر مذكرات بخط يد عادي منبسط. رن الهاتف عاليا وسط السكون والحر. أنهى الفقرة التي كان يقرؤها ومشى بخطوات سريعة للرد على الهاتف. «نعم أنا هنا وحدي، تعالي إذا أردت.» وضع السماعة. تمتم مطبقا على أسنانه: «اللعنة.»
دخلت نيللي دون أن تطرق الباب، لتجده يمشي جيئة وذهابا أمام النافذة.
قال دون أن يرفع ناظره، بينما وقفت في مكانها محدقة إليه: «مرحبا يا نيللي.» «اسمع يا جورج، هذا لا يمكن أن يستمر.» «لم؟» «لقد سئمت التظاهر الدائم والخيانة.» «لم يكتشف أحد أي شيء، أليس كذلك؟» «أوه، بالطبع بلى.»
اقتربت منه وعدلت ربطة عنقه. قبلها برفق على فمها. كانت ترتدي فستانا مزركشا من الموسلين ذا ياقة بنفسجية محمرة وتحمل مظلة زرقاء في يدها. «كيف الحال يا جورج؟» «رائع. أتعلمين أنكما جلبتما لي الحظ؟ لقد حصلت على بعض القضايا الجيدة التي أعمل عليها الآن وكونت علاقات قيمة للغاية.» «أما أنا فلم أكن محظوظة. لم أجرؤ على الذهاب للاعتراف بعد. سيظن القس أنني كفرت.» «كيف حال جاس؟» «أوه، منهمك في خططه ... قد تظن أنه قد كسب المال؛ فقد تملكه الغرور بالأمر.» «اسمعي يا نيللي، ما رأيك أن تتركي جاس وتأتي للعيش معي؟ يمكنك الحصول على الطلاق ويمكننا أن نتزوج ... سيكون كل شيء على ما يرام هكذا.» «مستحيل ... أنت لا تعني ما تقول على أي حال.» «لكن الأمر كان يستحق يا نيللي، صدقا لقد كان كذلك.» وضع ذراعيه حولها وقبل شفتيها المغلقتين. دفعته بعيدا. «لن آتي هنا مجددا على أي حال ... أوه، لقد كنت سعيدة للغاية وأنا أصعد الدرج وأفكر في رؤيتك ... لقد أخذت أتعابك وانتهى جميع ما بيننا من عمل.»
لاحظ أن التجاعيد الصغيرة حول جبهتها قد فردت. وعلقت خصلة شعر فوق إحدى عينيها. «يجب ألا نفترق بهذه القسوة يا نيللي.» «هلا أخبرتني لم؟» «لأننا تحاببنا.» «لن أبكي.» ربتت على أنفها بمنديل صغير ملفوف. «سأكرهك يا جورج ... وداعا.» طقطق الباب بقوة خلفها.
جلس بالدوين إلى المكتب ومضغ نهاية قلم رصاص. ظلت رائحة خافتة لشعرها في فتحتي أنفه. كان حلقه يابسا ومتكتلا. سعل. فسقط القلم من فمه. مسح عنه لعابه بمنديل وعدل من جلسته على كرسيه. أصبحت الفقرات المكتظة لكتاب القانون واضحة بعد أن كانت ضبابية. نزع الورقة التي كتبها عن دفتر المذكرات وشبكها أعلى كومة من المستندات. وشرع كاتبا في الصفحة الجديدة: قرار المحكمة العليا لولاية نيويورك ... اعتدل فجأة على كرسيه، وأخذ يعضعض نهاية القلم مرة أخرى. سمعت من الخارج الصافرة الخانقة اللامتناهية لعربة الفول السوداني. قال عاليا: «أوه حسنا، هذا كل شيء.» واصل الكتابة بخط يد عادي منبسط. قضية باترسون ضد ولاية نيويورك ... حكم المحكمة ... •••
جلس بود إلى النافذة في نقابة البحارة يقرأ جريدة ببطء وعناية . وكان بجواره رجلان بوجنات كاللحم النيئ في توردها كانت قد حلقت لتوها، منحشرين في ياقتين بيضاوين وبذلتين جاهزتين من الصوف، كانا يلعبان الشطرنج متثاقلين. دخن أحدهما غليونا أصدر القليل من صوت قوقأة عندما كان يسحب الدخان منه. تساقط المطر بالخارج بلا توقف على ميدان متلألئ فسيح. •••
فليحي بانزاي، هكذا صاح الرجل الأشيب الصغير البنية من الفصيلة الرابعة للمهندسين العسكريين عندما تقدموا لإصلاح الجسر فوق نهر يالو ... المراسل الخاص لصحيفة «ذا نيويورك هيرالد» ... •••
قال الرجل ذو الغليون: «مات الشاه.» «تبا لهذا كله، لنذهب لتناول الشراب. فلا يصح أن نجلس هنا في هذه الليلة دون أن نسكر.» «لقد وعدت المرأة العجوز ...» «دعك من هذا الهراء يا جيس، أعرف نوعية وعودك.» لملمت يد قرمزية كبيرة يكسوها بكثافة الشعر الأصفر قطع الشطرنج في صندوقها. «أخبر المرأة العجوز أنه كان عليك أن تأخذ رشفة بسبب حرارة الجو.» «تلك ليست كذبة أيضا.»
شاهد بود ظليهما متحدبا في المطر وهما يمران أمام النافذة. «ما اسمك؟»
التفت بود بحدة من النافذة وقد أفزعه صوت صار حاد في أذنه. كان ينظر إلى العينين اللتين في لون شعلة زرقاء لرجل أصفر البشرة صغير البنية كان له وجه كوجه العلجوم بفم كبير، وعينين جاحظتين، وشعر أسود سميك شديد القصر.
مد بود شفته السفلى في إصرار. «اسمي سميث، ما الأمر؟»
مد الرجل الضئيل البنية يده المربعة المتصلب جلد راحتها. «سررت بمعرفتك. أنا ماتي.»
أخذ بود يده مصافحا رغما عنه. فاعتصرت يده حتى جفل. سأل: «ماتي ماذا؟» «ماتي فحسب ... ماتي اللابلاندي ... تعال وتناول شرابا.»
قال بود: «إنني مفلس. ليس معي سنت واحد.»
وضع ماتي كلتا يديه في جيبي بذلته الفضفاضة ذات النقشة المربعة، وضرب بود في صدره بقبضتين من الدولارات، قائلا «الحساب علي. إن معي الكثير من المال، فلتأخذ بعضا منه ...» «أوه، احتفظ بمالك ... ولكني سأتناول شرابا معك.»
عندما وصلا إلى الحانة على ناصية شارع بيرل ستريت، كانت المياه تغمر مرفقي بود وركبتيه، وكان قطر من المطر البارد ينهمر على عنقه. عندما جلسا إلى منضدة الشراب، وضع عليها ماتي اللابلاندي ورقة بخمسة دولارات. «إنني أدفع للجميع؛ لكنني سعيد جدا الليلة.»
كان بود يتناول الغداء المجاني. أوضح عندما عاد إلى منضدة الشراب ليأخذ شرابه، قائلا: «لم أتناول شيئا منذ وقت طويل.» حرق الويسكي حلقه أثناء نزوله فيه، فجفف ملابسه المبتلة وجعله يشعر بالإحساس الذي كان يشعر به عندما كان طفلا وكان يخرج للعبة البيسبول بعد ظهيرة يوم السبت.
صاح صافعا ظهر الرجل الضئيل البنية العريض: «أعطني كفك أيها اللابلاندي. فأنا وأنت أصبحنا أصدقاء من الآن فصاعدا.» «حسنا يا عديم الخبرة بالبحر، سنبحر معا في الغد. ما رأيك؟» «بالتأكيد.» «فلنذهب الآن لشارع باوري ونشاهد النساء. سأدفع الحساب.»
صاح رجل سكران طويل ذو شارب أسود متدل كان يترنح في المنتصف عندما كانا يتمايلان مع البابين المتأرجحين: «لن تأتي امرأة من باوري معك أيها الياباني.»
قال اللابلاندي مغادرا: «لن يأتين، أليس كذلك؟» سدد إحدى قبضتيه الشبيهتين بالمطرقة أسفل فك الرجل في ضربة مباغتة. انزلقت قدما الرجل وارتفع بميل بين البابين المتأرجحين اللذين أغلقا عليه. فسمعت صيحة من داخل الحانة.
صاح بود صافعا الرجل على ظهره مرة أخرى: «تبا أيها اللابلاندي، تبا.»
مشبكين ذراعيهما، سارا مائلين في شارع بيرل ستريت تحت المطر الهاطل. اتسعت القضبان متلألئة أمامهما في نواصي الشوارع التي غمرتها المياه. كان الضوء الأصفر للمرايا والقضبان النحاسية والإطارات المذهبة حول صور النساء العاريات الوردية تدور وتنسكب في كئوس الويسكي التي تتجرعها بحماس رءوس سوداء مائلة، فتنز متوهجة عبر الدماء، وتفرقع بفقاقيع من الآذان والأعين، وتقطر مغمغمة من أطراف الأصابع. المنازل مرتفعة وعليها قتامة الأمطار على كلا الجانبين، وتتمايل مصابيح الشوارع كفوانيس محمولة في أحد المواكب، حتى وجد بود نفسه في غرفة خلفية مليئة بالوجوه المحتشدة ووجد امرأة على حجره. نهض ماتي اللابلاندي وذراعاه حول عنقي فتاتين، وانتزع قميصه ليظهر على صدره وشم باللونين الأحمر والأخضر لرجل وامرأة عاريين، وكانا متعانقين وملتفين بشدة كحية بحر، وعندما استنشق مالئا صدره بالهواء ولوى جلده بأصابعه، تلوى الرجل والمرأة في الوشم وضحكت جميع الوجوه المحتشدة. •••
رفع فينياس بي بلاكهيد نافذة المكتب الواسعة. ووقف ينظر إلى الميناء من الأردواز والميكا وسط الصخب غير المنتظم للمرور، والأصوات، وجعجعة المباني التي ترتفع من شوارع وسط المدينة المنتفخة والمتموجة كالدخان في الرياح العاتية المندفعة على نهر هدسون من الشمال الغربي.
نادى في توجس وريبة: «يا شميت، أحضر لي منظاري.» «انظر ...» وكان يركز المنظار على باخرة بيضاء سميكة من المنتصف وذات مدخنة صفراء مسخمة كانت بجوار جزيرة جوفرنرز. «أليست تلك باخرة أنوندا الآتية الآن؟»
كان شميت رجلا بدينا تقلص حجمه. فتدلى الجلد في تجاعيد مضنية رخوة على وجهه. نظر نظرة عبر المنظار. «إنها هي بالتأكيد.» أنزل النافذة؛ فانحسر الصخب متضائلا إلى صوت أجوف كصوت صدفة بحر. «يا للهول، لقد أسرعوا في الأمر ... سيرسون في غضون نصف ساعة ... اذهب على الفور وأحضر المحقق موليجان. لقد قبض ثمنه ... لا تدع عينيك تغفلان عنه. ماتانزاس الهرم بالخارج في حالة غضب يحاول الحصول على حكم قضائي ضدنا. إذا لم ترسل كل ملعقة من المنجنيز بحلول الغد ليلا، فسأخفض عمولتك بمقدار النصف ... أتفهم؟»
اهتز لغدا شميت المتدليان عندما ضحك. «لا يوجد خطر يا سيدي ... لا بد أنك أصبحت تعرفني جيدا الآن.» «بالطبع أصبحت أعرفك ... إنك رجل طيب يا شميت. لقد كنت أمزح فحسب.»
كان فينياس بي بلاكهيد رجلا نحيفا ذا شعر فضي ووجه أحمر كوجه الصقر، أرجع نفسه في كرسي ذي مسندين من خشب الماهوجني إلى مكتبه ورن جرسا كهربائيا. قال بصوت هادر لساعي المكتب الأشقر الشعر: «حسنا يا تشارلي، أدخلهما.» نهض متيبسا من مكتبه ومد يده مصافحا. «كيف حالك يا سيد ستورو ... كيف حالك يا سيد جولد ... خذا راحتكما ... حسنا ... اسمعا الآن، فيما يخص هذا الإضراب. إن موقف مصالح السكة الحديدية والمواني التي أمثلها يتميز بشكل فريد بالصراحة والأمانة، تعلمان ذلك ... لدي ثقة، بل يمكنني القول إن لدي الثقة الكاملة في أنه بمقدورنا تسوية هذا الأمر تسوية على نحو سلمي ومقبول ... بالطبع يجب أن تجدا معي حلا وسطا ... يعنى ، كما أعلم، بالمصالح نفسها في صميم قلوبنا، مصالح هذه المدينة الرائعة، مصالح هذا الميناء البحري الرائع ...» أرجع السيد جولد قبعته إلى مؤخرة رأسه وتنحنح بصوت نباح عال. «أيها السيدان، أمامنا أحد طريقين ...» •••
في أشعة الشمس الساقطة على حافة النافذة، استقرت ذبابة تحك جناحيها بقائمتيها الخلفيتين. نظفت نفسها بالكامل، لاوية وباسطة قائمتيها الأماميتين كشخص يغسل يديه، وفاركة أعلى رأسها ذي الفصوص بعناية لتفرش شعرها. حامت يد جيمي فوق الذبابة وصفعتها. أصدرت الذبابة أزيزا واخزا في راحة يده. تحسسها بإصبعين، وأمسك بها ببطء عاصرا إياها لتصبح هلاما رماديا مهروسا بين سبابته وإبهامه. مسحها عن يده أسفل حافة النافذة. انتابه شعور بالسخونة والإعياء. يا لها من ذبابة عجوز مسكينة، وقد نظفت نفسها جيدا كذلك! وقف طويلا ينظر بالأسفل إلى المنور عبر اللوح الذي تعلوه الأتربة حيث تكسب الشمس الأتربة بصيصا من اللمعان. ومن حين لآخر، يعبر رجل بقميص لا يرتدي أي شيء فوقه، الفناء بالأسفل حاملا صينية من الأطباق. تسمع الصياحات الصادعة بالأوامر وتأتي صلصلة غسيل الصحون خافتة من المطبخ.
حدق إلى بصيص لمعان الأتربة على لوح النافذة. أصابت أمي سكتة دماغية وسأرجع الأسبوع القادم إلى المدرسة. «قل لي يا هيرفي، هل تعلمت الملاكمة بعد؟» «هيرفي وكيد سيخوضان مباريات لبطولة وزن الذبابة قبل الانتقال إلى الوزن الخفيف.» «ولكني لا أريد.» «كيد يريد ... ها هو يأتي. كونوا دائرة هناك أيها الحمقى.» «لا أريد، أرجوك.» «اللعنة، يجب أن تذهب، سنضربكما أنتما الاثنان إذا لم تخوضا المباراة.» «حسنا يا فريدي، تلك غرامة عليك بقيمة نيكل لأنك سببت.» «اللعنة لقد نسيت.» «ها أنت ذا مرة أخرى ... ألصقه في الألواح.» «هيا يا هيرفي، أنا أراهن عليك.» «أجل، الكمه.»
يتضخم وجه كيد الأبيض المدمر أمامه كالبالون، وتضرب قبضته جيمي في فمه، حيث يندفع مذاق الدم المالح من شفته المقطوعة. يسدد جيمي ضرباته مسقطا الفتى على الحلبة، واخزا بطنه بركبته. سحبوه وألقوا به على الجدار مرة أخرى. «هيا يا كيد.» «هيا يا هيرفي.»
يشعر برائحة الدم في أنفه ورئتيه، وأنفاسه تحشرج. تندفع قدم وتوقع به. «يكفي هذا، خسر هيرفي.» «مخنث ... مخنث.» «ولكن اللعنة يا فريدي، لقد طرح كيد أرضا.» «اخرس، لا تحدث مثل هذه الجلبة ... سيصعد هوبي الهرم.» «مجرد جولة صغيرة ودية، ألم تكن كذلك يا هيرفي؟»
يصرخ جيمي وقد أعمته الدموع، ملوحا بكلتا ذراعيه: «اخرجوا من غرفتي، جميعكم، جميعكم.» «طفل باك ... طفل باك.»
يصفع الباب خلفه، ويدفع المكتب خلف الباب، ويزحف مرتجفا إلى السرير. يستدير على وجهه ويستلقي متلويا في خزي، عاضا الوسادة.
حدق جيمي في بصيص لمعان الأتربة على لوح النافذة.
عزيزي،
كانت أمك المسكينة مستاءة للغاية عندما وضعتك في نهاية المطاف في القطار ورجعت إلى غرفتها الفارغة في الفندق. عزيزي، إنني في غاية الوحدة من دونك. هل تعلم ما فعلت؟ لقد أخرجت كل جنودك الدمى، تلك التي اعتادت أن تكون في أسر بورت آرثر، ورتبتها جميعا في كتائب على رف المكتبة. أليس ذلك مضحكا؟ لا تقلق يا عزيزي، سيحل الكريسماس قريبا وسألتقي بولدي مرة أخرى ...
بوجه مجعد على الوسادة: أصابت أمي سكتة دماغية وسأرجع الأسبوع القادم إلى المدرسة. ينمو جلد ذو حبيبات داكنة رخوا أسفل عينيها، ويزحف الشيب إلى شعرها البني. لا تضحك الأم مطلقا. إنها السكتة الدماغية.
رجع فجأة إلى الغرفة، وألقى بنفسه على السرير وفي يده كتاب رفيع بغلاف من الجلد. رعد الموج عاليا على الحاجز المرجاني. لم يكن يريد أن يقرأ. كان جاك يسبح سريعا عبر المياه الزرقاء الهادئة للبحيرة الشاطئية، ووقف في ضوء الشمس على الشاطئ الأصفر يهز عنه القطرات المالحة، واتسعت فتحتا أنفه لرائحة تحميص فاكهة الخبز بجوار نار مخيمه المعزول. زعقت وقهقهت الطيور ذات الريش الزاهي من فوق القمم السرخسية الطويلة لنخيل جوز الهند. كانت الأجواء في الغرفة ساخنة إلى حد يبعث على النعاس. أخذت جيمي سنة من النوم. فاشتم رائحة ليمون بالفراولة ورائحة أناناس على سطح السفينة، وكانت أمه هناك في بذلة بيضاء ومعها رجل أسمر يرتدي زورقية، وتموج ضوء الشمس على الأشرعة الطويلة البيضاء بياض الحليب . تعلو الضحكة الرقيقة للأم فتصبح صحية. تسير ذبابة في حجم عبارة تجاههم عبر الماء، وتمد مخالب مفلولة كمخالب سرطان البحر. يصيح الرجل الأسمر في أذنه: «اقفز، اقفز، يمكنك اجتياز الأمر بقفزتين.» يئن جيمي: «ولكن أرجوك لا أريد ... لا أريد.» يضربه الرجل الأسمر، اقفز، اقفز، اقفز ... «أجل دقيقة واحدة. من؟»
كانت الخالة إيميلي عند الباب. «لم توصد بابك يا جيمي ... لا أسمح مطلقا لجيمس أن يوصد بابه.» «أفضله كذلك يا خالة إيميلي.» «كيف لصبي أن ينام في هذا الوقت من فترة ما بعد الظهيرة؟» «لقد كنت أقرأ رواية «جزيرة المرجان» وغلبني النعاس.» كانت وجنتا جيمي تتوردان. «حسنا. هيا أسرع. لقد قالت الآنسة بيلينجز ألا تتوقف عند غرفة أمك. إنها نائمة.»
كانا في المصعد الضيق الذي تفوح منه رائحة زيت الخروع، حيث ابتسم الصبي الملون لجيمي ابتسامة عريضة. «ماذا قال الطبيب يا خالة إيميلي؟» «كل شيء يسير كما كان متوقعا قدر الإمكان ... ولكن يجب ألا تقلق حيال ذلك. يجب أن تحظى هذا المساء بوقت ممتع مع أبناء خالتك الصغار ... إنك لا ترى أطفالا في عمرك بما يكفي يا جيمي.»
كانا يسيران في اتجاه النهر مائلين في رياح رملية تدور في الشارع مكتسحة الحديد أسفل سماء داكنة ذات تموجات فضية. «أظنك ستسعد بالعودة إلى المدرسة يا جيمس.» «أجل يا خالة إيميلي.» «إن اليوم المدرسي هو أسعد وقت يقضيه الصبي في حياته. ينبغي أن تحرص على أن تراسل أمك مرة في الأسبوع على الأقل يا جيمي ... أنت كل ما لديها الآن ... سنعلمك أنا والآنسة بيلينجز بأحوالها باستمرار.» «أجل يا خالة إيميلي.» «وأريدك يا جيمس أن تعرف ابني جيمس أكثر. إنه في مثل عمرك، ربما يكون متقدما عنك بعض الشيء فحسب وما إلى ذلك من الأمور، ولا بد أن تكونا صديقين مقربين ... ليت ليلي أرسلتك إلى هوتشكيس أيضا.» «أجل يا خالة إيميلي.»
كانت هناك أعمدة من الرخام الوردي في البهو السفلي للمبنى الذي تسكن فيه الخالة إيميلي، وكان عامل المصعد يرتدي بذلة بلون الشوكولاتة ذات أزرار نحاسية، وكان المصعد نفسه مربعا ومزينا بالمرايا. توقفت الخالة إيميلي أمام باب أحمر واسع من خشب الماهوجني في الطابق السابع وتحسست محفظتها بحثا عن مفتاحها. في نهاية الردهة، كانت هناك نافذة من الزجاج الرصاصي والتي يمكنك من خلالها أن ترى نهر هدسون، والقوارب البخارية، وأشجارا طويلة من الدخان المتصاعد أمام الأشعة الصفراء لغروب الشمس من على بعد ياردات على طول النهر. عندما فتحت الخالة إيميلي الباب، سمعا صوت البيانو. «تلك مايسي تتمرن.» في الغرفة التي كانت تحوي البيانو، كانت السجادة سميكة وعتيقة الطراز، وكان ورق الحائط أصفر اللون وبه ورود ذات لمعة فضية بين المشغولات الخشبية الكريمية اللون والإطارات الذهبية للوحات الزيتية لغابات، وأشخاص في جندول، وكاردينال بدين يحتسي شرابا. أرجعت مايسي ضفيرتيها من فوق كتفيها ونزلت من فوق كرسي البيانو. كان لها وجه كريمي اللون مستدير وأنف أفطس بعض الشيء. واصل بندول الإيقاع دقاته.
قالت بعد أن مالت بفمها للأعلى على فم أمها كي تقبلها: «مرحبا يا جيمس. يؤسفني بشدة أن خالتي ليلي المسكينة مريضة جدا.»
قالت الخالة إيميلي: «ألن تقبل ابنة خالتك يا جيمس؟»
عرج جيمي إلى مايسي ودفع بوجهه تجاه وجهها.
قالت مايسي: «تلك قبلة مضحكة.» «حسنا، يمكنكما أيها الطفلان أن تبقيا معا حتى موعد العشاء.» أسرعت الخالة إيميلي عبر الستائر المخملية الزرقاء إلى الغرفة المجاورة. «لا يمكننا الاستمرار في مناداتك باسم جيمس.» بعد أن أوقفت مايسي بندول الإيقاع، وقفت تحدق بعينين بنيتين جديتين في ابن خالتها. «لا يمكن أن يكون لدينا اثنان اسمهما جيمس، أليس كذلك؟» «أمي تناديني جيمي.» «جيمي اسم شائع بعض الشيء، ولكنني أظن أننا سنستخدمه حتى نتمكن من التفكير في اسم أفضل ... كم جاكا يمكنك التقاطه؟» «ما الجاك؟» «يا إلهي، ألا تعرف أحجار الجاك؟ انتظر حتى يرجع جيمس، سيضحك كثيرا!» «أعرف زهور جاك. كانت أمي تفضله على أي نوع آخر.»
قالت مايسي مرتمية على مقعد موريس: «لا أحب من الزهور سوى زهرة أمريكان بيوتي.» وقف جيمي على إحدى ساقيه راكلا كعبه بأصابع القدم الأخرى. «أين جيمس؟» «سيعود إلى المنزل قريبا ... إنه في درس الفروسية.»
أصبح ضوء الشفق بينهما صمتا قاتلا. أتت من ساحات القطارات صرخة صفارة القاطرات وصلصلة الوصلات من عربات الشحن المحولة. ركض جيمي إلى النافذة.
سأل: «أخبريني يا مايسي، أتحبين المحركات؟» «أظنها بشعة. يقول أبي إننا سنعزل بسبب الضوضاء والدخان.»
تمكن جيمي خلال العتمة من رؤية الكتلة الملساء المشطوفة الطرف لقاطرة كبيرة. انطلق دخان من المدخنة في لفائف برونزية وليلكية ضخمة. وعلى مسار القطار تحول الضوء الأحمر إلى الأخضر. بدأ الجرس يرن ببطء، بتكاسل. مدفوعا بالبخار وبشخير عال، تحرك القطار مصلصلا، وتسارع، ثم تسلسل داخل الغسق متأرجحا بضوء خلفي أحمر.
قال جيمي: «يا للهول، ليتني كنت أعيش هنا. إن لدي 272 صورة لقاطرات، سأريها لك في وقت ما إن أردت. إنني أجمعها.» «يا له من شيء طريف أن تجمعها ... اسمع يا جيمي، أنزل الستارة وسأضيء النور.»
عندما ضغطت مايسي على المفتاح، رأيا جيمس ميريفال عند الباب. كان له شعر لامع كالسلك ووجه ذو نمش وأنف أفطس كأنف مايسي. وكان يرتدي بنطال فروسية إلى الركبة ورباطي ساقين من الجلد الأسود وكان يحرك عصا مقشرة.
قال: «مرحبا يا جيمي. أهلا بك في مدينتنا.»
صاحت مايسي: «أتصدق يا جيمس، جيمي لا يعرف أحجار الجاك.»
ظهرت الخالة إيميلي عبر الستائر المخملية الزرقاء. كانت ترتدي قميصا نسائيا أخضر ذا رقبة عالية من الحرير ومزينا بالدانتيل. ارتفع شعرها الأبيض بانحناء ناعم من جبهتها. قالت: «حان وقت غسيل الأيدي يا أطفال، سيكون العشاء جاهزا خلال خمس دقائق ... خذ ابن خالتك يا جيمس إلى غرفتك وأسرعا واخلع ملابس الفروسية تلك.»
كان الجميع قد جلسوا بالفعل عندما تبع جيمي ابن خالته إلى غرفة الطعام. رنت السكاكين والشوكات على نحو رصين في ضوء ست شمعات أحدثت ظلالا حمراء وفضية. عند طرف الطاولة جلست الخالة إيميلي، وجلس بجوارها رجل أحمر العنق مستوي القفا، وفي الطرف الآخر كان زوج خالته جيف، الذي كان يضع دبوسا لؤلئيا في ربطة عنقه ذات النقشة المربعة، يملأ كرسيا عريضا ذا مسندين. حامت الخادمة الملونة حول أهداب الضوء، ممررة المقرمشات المحمصة. تناول جيمي حساءه متيبسا خشية أن يصدر صوتا. كان زوج الخالة جيف يتحدث بصوت مدو بين ملعقة وأخرى من الحساء. «كلا لقد أخبرتك يا ويلكينسون، لم تعد نيويورك كما كانت عندما انتقلنا أنا وإيميلي إلى هنا تقريبا في زمان يشبه زمان رسو فلك نوح ... لقد اجتاح المدينة اليهود الحثالة والأيرلنديون الرعاع، هذا ما يعيبها ... في غضون 10 سنوات لن يتمكن الشخص المسيحي من كسب رزقه ... أؤكد لك أن الكاثوليك واليهود سيطردوننا من بلدنا، ذلك ما سوف يفعلونه.»
قالت الخالة إيميلي مقاطعة وهي تضحك: «إنها القدس الجديدة.» «إنه ليس بالأمر المضحك؛ فعندما يعمل المرء بجد طوال حياته كي يبني تجارة، فلن يروق له أن يطرده حفنة من الأجانب اللعناء، أليس كذلك يا ويلكينسون؟» «إنك منفعل للغاية يا جيف. قد يصيبك ذلك بالتخمة ...» «سأبقى هادئا يا أمي.»
عبس السيد ويلكينسون متثاقلا، وقال: «إن مشكلة الناس في هذا البلد يا سيد ميريفال هي هذه ... الناس في هذا البلد متسامحون للغاية. ليس هناك بلد آخر في العالم يسمح بذلك ... بعد كل ما فعلناه لبناء هذا البلد نسمح لحفنة من الأجانب، رعاع أوروبا، نسل الجيتوهات البولندية، بأن يأتوا ويحكموه بدلا منا.» «حقيقة الأمر هي أن الرجل النزيه لا يلطخ يده بالسياسة، ولا تستهويه المناصب العامة.» «هذا صحيح؛ فالرجل الجاد اليوم يريد المزيد من المال، المزيد من المال أكثر مما يمكنه أن يجنيه من العمل بأمانة في الحياة العامة ... بطبيعة الحال يتجه أفضل الرجال إلى قنوات أخرى.»
أجفل زوج الخالة جيف قائلا: «وأضف إلى ذلك جهل هؤلاء اليهود الحثالة الحقراء والأيرلنديين العشوائيين الذين سمحنا لهم بالانتخاب قبل حتى أن يتحدثوا الإنجليزية ...»
وضعت الخادمة أمام الخالة إيميلي طبقا به كومة عالية من الدجاج المقلي المحاط بفطائر الذرة. أحجم عن الكلام أثناء تقديم الطعام للجميع. قالت الخالة إيميلي: «لقد نسيت أن أخبرك يا جيف، يتعين علينا الذهاب إلى سكيرديل يوم الأحد.» «أوه يا أمي، إنني أكره الخروج يوم الأحد .» «إنه كالطفل المطيع عندما يتعلق الأمر بالمكوث في المنزل.» «ولكن يوم الأحد هو اليوم الوحيد الذي أقضيه في المنزل.» «حسنا، هذا ما جرى: كنت أحتسي الشاي مع فتيات هارلاند في صالة ميلارد، ولك أن تخمن من كانت تجلس في الطاولة بجوارنا، إنها السيدة بوركهارت ...» «هل هي السيدة جون بي بوركهارت؟ أليس أحد نائبي رئيس بنك ناشونال سيتي؟» «جون رجل لطيف وله مستقبل واعد في وسط المدينة.» «حسنا، كما كنت أقول يا عزيزي، فقد قالت السيدة بوركهارت إنه علينا الذهاب وقضاء يوم الأحد معهم ولم أستطع أن أرفض.»
تابع السيد ويلكينسون: «كان أبي الطبيب الخاص بالهرم يوهانس بوركهارت. كان الرجل الهرم سيئ الطبع، وقد كون ثروته من تجارة الفراء قبل وقت بعيد في زمن الكولونيل أستور. كان مصابا بالنقرس وكان يسب سبابا بشعا ... أتذكر رؤيته ذات مرة، حيث كان رجلا أحمر الوجه ذا شعر أبيض طويل وقلنسوة حريرية فوق رقعته الصلعاء. كان لديه ببغاء يدعى توبياس، وكان الناس السائرون في الشارع لا يستطيعون مطلقا معرفة ما إذا كان ما يسمعونه من سباب قادما من توبياس أم من القاضي بوركهارت.»
قالت الخالة إيميلي: «آه حسنا، لقد تغيرت الأحوال.»
جلس جيمي في كرسيه شاعرا بوخز في ساقيه. أصابت أمي سكتة دماغية وسأرجع الأسبوع القادم إلى المدرسة. الجمعة، السبت، الأحد، الإثنين ... يرجع هو وسكيني من عند البركة حيث كانا يلعبان بالعلاجيم الواثبة، وكانا يرتديان بذلتيهما الزرقاوين لأنهما كانا في فترة بعد ظهيرة يوم الأحد. كانت الشجيرات الدخانية مزهرة خلف الحظيرة. كان الكثير من الصبية يضايقون هاريس الصغير؛ إذ كانوا ينادونه إيكي لأنهم كانوا يعتقدون أنه يهودي. علا صوته في أنين غنائي: «كفى يا رفاق، كفى. إنني أرتدي أفضل بذلة لدي يا رفاق.»
بأصوات استهزاء زامرة: «أوه السيد سولومون ليفي يرتدي أفضل الثياب اليديشية من متاجر التخفيضات. هل اشتريتها من المتاجر التي تبيع كل شيء بخمسة أو 10 سنتات.» «أراهن أنه حصل عليها في تخفيض ناري.» «إذا كان قد حصل عليها في تخفيض ناري فإن علينا أن نطفئه بالمياه.» «لنفتح المياه على سولومون ليفي.» «أوه، كفى يا رفاق.» «اخرس، لا تصرخ عاليا هكذا.»
همس سكيني: «هم يمزحون فحسب، لن يؤذوه.»
حمل إيكي مرفسا وزاعقا إلى البركة، ووجهه الأبيض الذي بللته الدموع للأسفل. قال سكيني: «إنه ليس يهوديا على الإطلاق. ولكني سأخبركم من اليهودي، إنه ذلك البدين كبير البطن سوانسون.» «كيف عرفت؟» «أخبرني رفيق غرفته.» «يا إلهي، ولكنهم سيرمونه.»
ركضوا في جميع الاتجاهات. كان هاريس الصغير بشعره المليء بالوحل يزحف إلى الضفة، والمياه تنساب من كمي معطفه.
كانت هناك صلصة شوكولاتة ساخنة مع الآيس كريم. «كان رجل أيرلندي واسكتلندي يسيران في الشارع، وقال أيرلندي للاسكتلندي: هيا بنا نتناول مشروبا يا ساندي ...» كانت رنات جرس الباب الأمامي المتواصلة تشتت انتباههم عن قصة زوج الخالة جيف. عادت الخادمة الملونة مضطربة إلى غرفة الطعام وبدأت تهمس في أذن الخالة إيميلي. «... وقال الاسكتلندي: يا مايك ... ما الأمر؟» «إنه السيد جو يا سيدي.» «تبا.»
قالت الخالة إيميلي مسرعة: «حسنا، ربما يكون على ما يرام.» «إنه مخمور بعض الشيء يا سيدتي.» «لم سمحت له بالدخول بحق الشيطان يا سارة؟» «لم أسمح له، لقد دخل من نفسه.»
دفع زوج الخالة جيف بطبقه بعيدا وأنزل منديله صافعا إياه على الطاولة. «أوه، اللعنة ... سأذهب وأتحدث إليه.»
كانت الخالة إيميلي قد شرعت في الحديث قائلة: «حاول أن تصرفه ...» ولكنها توقفت وفمها نصف مفتوح. كان ثمة رأس عالق عبر الستائر التي تدلت في المدخل الواسع المؤدي إلى غرفة المعيشة. كان للرأس وجه كوجه طائر بأنف متدل نحيف وتعلوه كتلة من الشعر الأسود المنسدل كالهنود. غمزت إحدى عينيه الحمراوين المدمع بهدوء. «مرحبا بالجميع! ... كيف حال كل شيء؟ أتمانعون تدخلي؟» امتد صوته أجش عندما تبع جسمه النحيل الطويل رأسه في الظهور عبر الستائر. عدل فم الخالة إيميلي من نفسه بابتسامة باردة. «عجبا يا إيميلي، يجب ... أن ... معذرة؛ فقد ظننت أن قضاء أمسية ... أعني ... مع العائلة ... قد ... قد ... تكون ... مجدية. كما تعلمون، ذلك التأثير المنقي للمنزل.» وقف يهز رأسه خلف كرسي زوج الخالة جيف. «حسنا أيها الهرم جيفرسون، كيف حال السوق؟» وضع يده على كتف زوج الخالة جيف. «أوه حسنا. أتريد أن تجلس؟» «لقد سمعت ... أنني إذا كنت سآخذ نصيحة من محنك هرم ... أعني ... سمسارا متقاعدا ... سمسار كل يوم ... ها ها ... ولكني سمعت أن شركة إنتربورو رابيد ترانزيت تستحق شراء حصة صغيرة فيها ... لا تنظري إلي باحتقار يا إيميلي. سأغادر على الفور ... مرحبا، كيف حالك يا سيد ويلكينسون ... الأطفال يبدون في حالة جيدة. يا إلهي أهذا ابن ليلي هيرف الصغير ... ألا تتذكر ... يا جيمي ... قريبك جو هارلاند؟ لا أحد يتذكر جو هارلاند ... إلا أنت يا إيميلي وتتمنين لو نسيته ... ها ها ... كيف حال أمك يا جيمي؟»
انتزع جيمي الكلمات من حلق ضيق: «أفضل حالا بعض الشيء، شكرا لك.» «حسنا، عندما تعود إلى المنزل أبلغها محبتي ... ستفهم. لطالما كنت أنا وليلي صديقين مقربين حتى وأنا مصدر العار للعائلة ... إنهم لا يحبونني، إنهم يريدونني أن أرحل ... اسمع مني أيها الصبي، ليلي هي الأفضل من بين الجميع. أليست كذلك يا إيميلي، أليست هي الأفضل بيننا؟»
تنحنحت الخالة إيميلي. «إنها كذلك بالطبع، الأجمل، والأكثر ذكاء، والأكثر واقعية ... إن أمك يا جيمي إمبراطورة ... لطالما كانت أفضل من كل هذا. يا إلهي، أود أن أشرب نخب صحتها.»
أخرجت الخالة إيميلي الكلمات مطقطقة كالآلة الكاتبة: «يجب أن تعتدل في كلامك قليلا يا جو.»
مال فوق الطاولة، مارا بأنفاسه المعبأة برذاذ من الويسكي على وجه جيمي: «أوه، جميعكم تظنون أنني سكران ... تذكر ذلك يا جيمي ... هذه الأمور لا تكون دائما خطأ المرء ... الظروف ... إنها ... الظروف.» قلب كأسا ومشى مترنحا. «إذا أصرت إيميلي أن تنظر إلي باحتقار فسأغادر ... ولكن تذكر أن تبلغ ليلي هيرف محبة جو هارلاند حتى لو ذهبت إلى سبيل الهلاك.» ترنح خارجا عبر الستائر مرة أخرى. «أعلم أنه سيقلب الزهرية السيفرية يا جيف ... احرص على ألا يصيبه مكروه وأحضر له سيارة أجرة.» انفجر جيمس ومايسي في قهقهة عالية من خلف منديليهما. كان وجه زوج الخالة جيف أرجوانيا . «سأكون ملعونا إن وضعته في سيارة أجرة. إنه ليس قريبي ... إنه يجب أن يسجن. وفي المرة التالية التي ترينه فيها يمكنك أن تخبريه بذلك نيابة عني يا إيميلي، إذا جاء هنا في أي وقت وهو في تلك الحالة الكريهة مرة أخرى، فسألقي به خارج المنزل.» «جيفرسون يا عزيزي، لا طائل من الغضب ... لم يقع ضرر. لقد رحل.» «لم يقع ضرر! فكري في طفلينا. افترضي أن غريبا كان هنا وليس ويلكينسون. ماذا كان سيظن في بيتنا؟»
قال السيد ويلكينسون بصوت ناعق: «لا تقلقا من ذلك؛ فالحوادث تقع في بيوت أكثر العائلات المنضبطة.»
قالت الخالة إيميلي: «المسكين جو يصبح مجرد صبي لطيف عندما يكون في حالته الطبيعية. ولا تنس أنه في فترة من الفترات قبل بضع سنوات كان هارلاند كما لو أنه يحمل سوق التعامل خارج البورصة في قبضة يده. أطلقت عليه الصحف اسم ملك سوق التعامل خارج البورصة، ألا تتذكر؟» «كان ذلك قبل علاقته بلوتي سميثرس ...»
قالت الخالة إيميلي بصوت أشبه بسقسقة العصافير: «حسنا، ماذا عن الذهاب يا أطفال للغرفة الأخرى بينما نحتسي نحن القهوة.» «أجل، لقد كان يجب أن يذهبا قبل وقت طويل.»
سألت مايسي: «هل تعرف كيف تلعب لعبة 500 يا جيمي؟» «لا، لا أعرف.» «ما رأيك في ذلك يا جيمس، إنه لا يعرف كيف يلعب لعبة الجاك ولا يعرف كيف يلعب لعبة 500.»
قال جيمس بتعال: «حسنا، كلتاهما من ألعاب الفتيات. ما كنت لألعبهما أنا أيضا لولاك.» «أوه، أهو كذلك يا سيد متذاك؟» «هيا بنا نلعب لعبة الإمساك بالحيوانات.» «ولكننا ليس لدينا عدد لاعبين كاف لها. ولا تكون اللعبة ممتعة من دون مجموعة كبيرة.» «وفي آخر مرة لعبناها ضحكت عاليا لدرجة أن أمي أوقفتنا عن اللعب.» «أوقفتنا أمي عن اللعب لأنك ركلت بيللي شمتز الصغير في عظمة كوعه وأبكيته.»
قاطعهما جيمي: «ما رأيكما أن ننزل ونشاهد القطارات؟»
قالت مايسي متجهمة: «ليس مسموحا لنا أن ننزل للطابق السفلي بعد حلول الظلام.» «اسمعا، لنلعب البورصة ... لدي مليون دولار في صورة سندات أريد بيعها، ويمكن لمايسي أن تكون مضاربة على الصعود ويمكن لجيمي أن يكون مضاربا على الهبوط.» «حسنا، ماذا نفعل؟» «سنركض في الأنحاء، ونصيح في الغالب ... أنا أبيع على المكشوف.» «حسنا أيها السيد السمسار، سأشتريها كلها مقابل خمسة سنتات لكل سهم.» «لا، لا يمكنك أن تقول ذلك ... قل 96 ونصف أو شيء من هذا القبيل.»
صرخت مايسي ملوحة بدفتر مسودة طاولة الكتابة: «سأعطيك مقابلها خمسة ملايين.»
صاح جيمي: «ولكن أيتها الحمقاء، إنها لا تساوي إلا مليونا واحدا.»
وقفت مايسي متسمرة في مكانها. «ماذا قلت يا جيمي؟» شعر جيمي بالخجل يسري في جسده؛ فنظر إلى حذائه القصير الغليظ. «قلت أيتها الحمقاء.» «ألم تحضر من قبل دروس مدرسة الأحد؟ ألا تعلم أن الإله قال في الإنجيل إنك إذا دعوت أحدا بالأحمق فسوف تكون معرضا للذهاب إلى الجحيم؟»
لم يجرؤ جيمي على رفع ناظريه.
قالت مايسي وهي تشب لأعلى: «حسنا، لن أستمر في اللعب.» وجد جيمي نفسه دون أن يدري بالخارج في الردهة. أخذ قبعته وركض خارجا من الباب ونزل الطوابق الستة على الدرج ذي الحجارة البيضاء، مارا بالأزرار النحاسية والبذلة بلون الشوكولاتة التي يرتديها عامل المصعد، وخرج عبر الردهة ذات الأعمدة الرخامية الوردية اللون إلى شارع 72. كان الظلام دامسا والرياح عاصفة، وامتلأ الشارع بالظلال المتثاقلة المتقدمة وخطى الأقدام المتلاحقة. في النهاية، كان يصعد الدرج القرمزي المألوف للفندق. هرع أمام باب أمه. سيسألونه عما أرجعه إلى المنزل بهذه السرعة. اندفع إلى غرفته، وأغلق المزلاج، وأحكم غلق الباب، ووقف مستندا عليه يلهث. ••• «حسنا، هل تزوجتما بعد؟» كان ذلك أول ما سأل عنه كونغو عندما فتح إميل له الباب. كان إميل يرتدي قميصه الداخلي. كانت الغرفة التي على شكل صندوق أحذية خانقة، وكانت تضيئها وتدفئها شعلة غاز بغطاء معدني فوقها. «من أين أتيت في هذا الوقت؟» «بنزرت ووتروندهايم ... فأنا بحارة بارع.» «تلك مهنة عفنة أن تذهب إلى البحر ... لقد ادخرت 200 دولار أمريكي. إنني أعمل في مطعم دلمونيكو.»
جلسا متجاورين على السرير غير المرتب. أخرج كونغو صندوقا مزينا بالآلهة المصرية القديمة ذهبي الحواف. صفع فخذه قائلا: «أجرة أربعة أشهر.» «أرأيت ماي سويتزير؟» هز إميل رأسه. «يجب أن أعثر على تلك اللقيطة ... في تلك المواني الاسكندنافية اللعينة يصلن في مراكب، نساء شقراوات بدينات في قوارب الإمداد ...»
لاذا بالصمت. أصدر الغاز همهمة. أخرج كونغو أنفاسه في صافرة. بمزيج من الفرنسية والإنجليزية: «مرحى ... هذا أنيق، مطعم دلمونيكو ... لم لم تتزوجها؟» «إنها تحب أن أتسكع حولها ... يمكنني أن أدير المتجر أفضل منها.» «أنت ضعيف للغاية؛ يجب أن تستخدم الغلظة مع النساء للحصول على أي شيء منهن ... اجعلها تغار.» «لقد أفقدتني صوابي.» «أتريد أن ترى بعض البطاقات البريدية؟» سحب كونغو من جيبه حزمة ملفوفة في جريدة. بمزيج من الإنجليزية والفرنسية: «انظر، هذه نابولي، الجميع هناك يريدون أن يأتوا إلى نيويورك ... تلك فتاة راقصة عربية. يا إلهي، إن لهن سرات زلقة ...»
صرخ إميل فجأة مسقطا البطاقات على السرير: «حسنا، أعرف ماذا سأفعل. سأجعلها تغار ...» «من؟» «إيرنيستين ... مدام ريجو ...» «أجل، فلتتجول ذهابا وإيابا في الجادة الثامنة مع فتاة بضع مرات، وأراهنك أنها ستقع في غرامك بكل جوارحها.»
رن المنبه على الكرسي بجوار السرير. قفز إميل لإيقافه وشرع في رش وجهه بالماء في حوض الغسيل.
بمزيج من الفرنسية والإنجليزية: «تبا، يجب أن أذهب إلى العمل.» «سأذهب إلى حي هيلز كيتشن وأرى ما إذا كنت سأقابل ماي.»
قال إميل، الذي وقف أمام المرآة المتصدعة عابس الوجه يثبت الأزرار الأمامية لقميص مغسول جيدا: «لا تكن أحمق وتنفق جميع مالك.» •••
قال الرجل مرارا وتكرارا، مقربا وجهه من وجه إد تاتشر وقارعا المكتب بيده البدينة: «صدقني، إنه أمر مضمون.» «ربما هو كذلك يا فيلر، ولكني رأيت الكثير يفشلون، صدقا لا يمكنني تخيل المخاطرة بالأمر.» «لقد رهنت يا رجل طقم الشاي الفضي الذي هو ملك زوجتي، وخاتمي الألماسي، والكوب الخاص بطفلي ... إنه أمر مضمون وأكيد ... لم أكن لأدخلك فيه إن لم نكن صديقين مقربين وأدين لك بالمال وغيره ... ستربح 25 في المائة على مالك بحلول ظهيرة الغد ... ثم إذا أردت التوقف يمكنك المخاطرة بذلك، ولكن إذا بعت ثلاثة أرباع حصتك وواصلت في الأمر لمدة اليومين أو ثلاثة الأيام المتبقية، فستكون على أرض صلبة ... كصخرة جبل طارق.» «أعلم يا فيلر، الأمر يبدو جيدا بالتأكيد ...» «ويحك يا رجل، أتريد أن تظل تعمل في هذا المكتب اللعين طوال حياتك؟ فكر في ابنتك الصغيرة.» «هذا ما أفعله بالفعل، وتلك هي المشكلة.» «ولكن يا إد، لقد بدأ جيبونز وسواندايك في الشراء بالفعل مقابل ثلاثة سنتات عندما أغلق السوق هذا المساء ... كان كلاين حكيما، وأول ما سأفعله في الصباح هو أنني سأكون هناك في انتظار أن أحتفل. سيجن جنون السوق على هذا الأمر ...» «ما لم يغير أصحاب الأعمال القذرة آراءهم. أعلم هذا الأمر من جميع جوانبه يا فيلر ... يبدو عرضا ممتازا ... ولكني فحصت دفاتر الكثير من المفلسين.»
نهض فيلر وألقى بسيجاره في وعاء البصق. «حسنا، افعل ما يروق لك، تبا ... أظن أنك تحب السفر من هاكنساك والعمل مدة 12 ساعة في اليوم ...» «إنني أومن بشق طريقي بجهد، هذا كل ما في الأمر.» «ما فائدة بضعة آلاف مدخرة عندما تكون هرما ولا يمكنك الحصول على أي متعة؟ سأخوض الأمر دون تردد يا رجل.»
تمتم تاتشر والآخر يخرج صافعا باب المكتب: «تقدم يا فيلر ... معك حق.»
كان المكتب الكبير بسلاسل طاولاته الصفراء والآلات الكاتبة المغطاة؛ معتما باستثناء خيمة الضوء التي كان يجلس فيها تاتشر إلى طاولة تعلوها كومات من الملاحظات. كانت النوافذ الثلاث في النهاية بلا ستائر. تمكن من خلالها من رؤية كومة المباني الشاهقة التي تتدرج عليها الأضواء وجزء ضئيل على شكل لوح من السماء الداكنة كالحبر. كان ينسخ مذكرة على ورقة طويلة من ورق المحامين.
شركة فان تان للاستيراد والتصدير (بيان الأصول والخصوم يصل حتى 29 فبراير بما يشمل ذلك اليوم) ... فروع نيويورك، وشانغهاي، وهونج كونج، ومستعمرات المضيق ...
الرصيد المرحل
345789,84 دولارا أمريكيا
العقارات
500087,12 دولارا أمريكيا
الربح والخسارة
399765,90 دولارا أمريكيا
زعق تاتشر بصوت هادر: «حفنة من المحتالين اللعناء. ليس ثمة بند في الأمر برمته غير مزيف. لا أصدق أن لديهم أي فروع في هونج كونج أو في أي مكان ...»
مال للخلف في كرسيه وحدق من النافذة. كان الظلام يحل على المباني. لم يتمكن من أن يرى سوى نجمة واحدة في رقعة السماء. ينبغي أن أخرج وآكل شيئا؛ فمن المؤذي للهضم التناول غير المنتظم للطعام الذي أقوم به. أظن أنني تشجعت لنصيحة فيلر الحماسية. ما رأيك يا إلين في زهور أمريكان بيوتي هذه؟ إن طول سيقانها يبلغ ثماني أقدام، وأريدك أن تلقي نظرة على مسار الرحلة إلى الخارج الذي خططته لك لاستكمال تعليمك. أجل سيكون من المؤسف أن نترك شقتنا الجديدة الجميلة التي تطل على متنزه سنترال بارك ... ووسط المدينة، حيث معهد المحاسبة الائتمانية، وإدوارد سي تاتشير، الرئيس ... كانت بقع من البخار تنجرف لأعلى عبر رقعة السماء، مخبئة النجمة. تشجع، تشجع ... جميعهم محتالون ومقامرون على أي حال ... تشجع واخرج ويداك مملوءتان، وجيوبك ممتلئة، وحسابك البنكي ممتلئ، وخزائن ممتلئة بالمال. ليتني أجرؤ على المخاطرة. من الحمق أن تضيع وقتك في الغضب حول الأمر. ارجع إلى فان تان للاستيراد. احتشد البخار المتورد توردا خافتا مع الضوء المنعكس من الشوارع حثيثا لأعلى عبر بقعة السماء، ملتفا ومشتتا.
السلع المتداولة في المستودعات الجمركية الأمريكية ... 325666 دولارا أمريكيا.
تشجع، واحصل على 325 ألفا، و666 دولارا. إن الدولار يرتفع كالبخار، ملتويا ومشتتا في السماء. مال المليونير تاتشر من نافذة الغرفة المضاءة التي تفوح منها رائحة الباتشولي لينظر إلى المدينة الناتئة بسواد ناطحات السحاب والتي تخيم عليها كالدخان الضحكات، والأصوات، والطنين، والأضواء، وخلفه عزفت فرق الأوركسترا بين شجيرات الأزالية المزهرة، برقيات خاصة تطقطق وتطقطق بالدولارات القادمة من سنغافورة، وفالبارايسو، وموكدن، وهونج كونج، وشيكاغو. انحنت عليه سوزي في ثوب من زهور الأوركيد، وتنفست في أذنه.
نهض إد تاتشر على قدميه بقبضتين مغلقتين، وهو يئن قائلا لنفسه أيها المسكين الأحمق ما الجدوى الآن وقد ذهبت. من الأفضل أن أذهب لتناول الطعام وإلا فستوبخني إلين.
الفصل الخامس
المدحلة البخارية
يسوي الغسق بلطف الشوارع المتعرجة. ويضغط الظلام بإحكام المدينة الأسفلتية التي تفوح بالأدخنة ، ويجوس خلال الحليات الشبكية للنوافذ، واللافتات الكتابية، والمداخن، وخزانات المياه، ومنافذ التهوية، وسلالم الطوارئ، وزخارف الأسقف، وأنماط البناء، والتمويجات، والعيون، والأيدي، وربطات العنق، محولا كل ذلك إلى شقفات زرقاء، إلى كتل سوداء ضخمة. تحت وقع الضغط المتزايد لدحرجة المدحلة، تومض النوافذ بالضوء. ويعتصر الليل المصابيح القوسية لتشع ضوءا صافيا كصفاء الحليب، ويدك كتلها الكئيبة حتى تقطر بالأحمر، والأصفر، والأخضر، في شوارع تطن بوقع الأقدام. كل ما على الأسفلت ينضح بالضوء. فينبثق الضوء من الكلمات فوق الأسقف، ويخفق متخبطا بين إطارات العربات، ويلطخ الأفق الضخم المتماوج.
كانت ثمة مدحلة بخارية تقعقع ذهابا وإيابا فوق سطح الطريق المقطرن لتوه عند بوابة المقبرة. فاحت منها رائحة شحم محترق، وبخار، وطلاء ساخن. مشى جيمي هيرف الهوينى بمحاذاة حافة الطريق؛ حيث شعر بالحجارة حادة أسفل قدميه عبر نعل حذائه المتآكل. مر بعمال داكني الأعناق، وواصل المشي على الطريق الجديد حيث اخترقت فتحتي أنفه نفحة من رائحة الثوم والعرق المنبعثة منهم. توقف بعد 100 ياردة فوق طريق الضاحية الرمادي، الذي يبدو وكأنه مربوط بإحكام من كلا جانبيه بأعمدة البرق وأسلاكه، وفوق المنازل الرمادية الشبيهة بالصناديق الورقية والرقع المتعرجة بشواهد القبور، كانت السماء بلون بيض طير أبو الحناء. شعر كما لو أن ديدان ربيع صغيرة تتلوى في عروقه. خلع ربطة عنقه السوداء ووضعها في جيبه. ودق لحن بجنون في رأسه:
لقد سئمت أزهار البنفسج
خذها جميعها بعيدا.
ثمة توهج للشمس، وآخر للقمر، وآخر للنجوم، ولكل نجم توهج يختلف عن الآخر. كذلك الأمر في بعث الموتى ... واصل السير مسرعا وهو يطرطش في برك مليئة بانعكاسات السماء، محاولا أن ينفض عن أذنيه الكلمات المطنطنة المنصبة صبا فيهما، وأن يتخلص من ملمس نسيج الكريب الأسود، وأن ينسى رائحة الزنابق.
لقد سئمت أزهار البنفسج
خذها جميعها بعيدا.
أسرع الخطى. ارتفع الطريق بتل. وكان ثمة غدير ماء براق في المجرى، ينساب عبر رقع العشب والهندباء. قلت البيوت، وعلى جوانب الحظائر كلمات مكشوطة: «مجمع خضراوات ليديا بنكهام، جعة بدويايزر، دجاج أحمر، كلاب نابحة ...»، وقد أصيبت أمي بسكتة دماغية ودفنت. لم يستطع أن يتذكر شكلها، لقد ماتت وانتهى الأمر. من عمود السياج، سمع الصافرة الرقراقة لعصفور دوري مغرد. طار أمامه العصفور الصغير الشاحب وجثم فوق أحد أسلاك البرق وغنى، وطار أمامه إلى حافة مرجل مهجور وغنى، وطار أمامه وغنى. كانت السماء تستحيل إلى لون أزرق أكثر دكنة، ممتلئة بسحب كعرق اللؤلؤ المتقشر. شعر لمرة أخيرة بهفهفة الحرير بجواره، وبيد في كم متحرك مزركش بالدانتيل تحيط برفق بيده. شعر بنفسه كطفل مستلق في مهده وقدماه مسحوبتان لأعلى وباردتان تحت وطأة الخوف من الظلال الرابضة المتشعبة، وتسرع الظلال لتذوب في الأركان بينما تنحني هي فوقه بالتجعدات حول جبهتها، وبكميها الحريريين المنفوخين، وبرقعة سوداء صغيرة في جانب فمها الذي قبل فمه. أسرع الخطى. تدفق الدم ساخنا، وفي تتابع مستمر داخل عروقه. كانت السحب المتقشرة تذوب متحولة إلى رغوة وردية اللون. سمع وقع أقدامه على حصى الرصيف المتآكل. ومض ضوء الشمس في تقاطع طرق على براعم شجيرات الزان المدببة الدبقة. كانت هناك في الجهة المقابلة لافتة مكتوب عليها «يونكيرس». تأرجحت في منتصف الطريق علبة طماطم منبعجة. ركلها بقوة أمامه وواصل السير. ثمة توهج للشمس، وآخر للقمر، وآخر للنجوم ... واصل السير. ••• «مرحبا يا إميل!» أومأ إميل دون أن يلتفت برأسه. ركضت الفتاة خلفه وأمسكت بكم معطفه. «أتلك هي الطريقة التي تعامل بها أصدقاءك القدامى؟ الآن وقد رافقت ملكة بقالة ...»
انتزع إميل يده. «أنا في عجلة من أمري فحسب.» «ما رأيك إن ذهبت وأخبرتها كيف تآمرت أنا وأنت لنقف أمام النافذة في الجادة الثامنة نتعانق ونتبادل القبلات كي نجعلها تقع في حبك؟» «تلك كانت فكرة كونغو.» «حسنا، ألم تنجح؟» «بالطبع.» «إذن، ألا تدين لي بشيء؟» «إنك فتاة لطيفة للغاية يا ماي. ليلة إجازتي في الأسبوع القادم يوم الأربعاء ... سآتي وآخذك لمشاهدة أحد العروض ... كيف حال العمل؟» «أسوأ من الجحيم ... أحاول أن أعمل راقصة في نادي كامبس ... فهناك يمكن الالتقاء برجال معهم الأموال ... كفاني من هؤلاء الصبية البحارة والقساة من العاملين في الشاطئ ... إنني أسعى لأن أكون محترمة.» «هل عرفت يا ماي أخبارا عن كونغو؟» «وصلتني بطاقة بريدية من مكان لعين لم أتمكن من قراءة اسمه ... أليس من المضحك أن تكتب طلبا للمال بينما كل ما يصلك من رد هو بطاقة بريدية ... إنه ذلك الفتى الوحيد الذي يحصل علي في أي ليلة يريد ... أتعلم ذلك يا صاحب ساقي الضفدع؟» «وداعا يا ماي.» دفع فجأة القلنسوة القشية المشذبة بزهور أذن الفأر إلى الوراء على رأسها وقبلها.
أنت دافعة تجعيدة شعر صفراء للخلف أسفل قبعتها، قائلة: «كف عن هذا يا صاحب ساقي الضفدع ... الجادة الثامنة ليست مكانا يصلح أن تقبل فيه فتاة. كان بإمكاني أن أبلغ عنك الشرطة، وقد فكرت في الأمر بالفعل.»
غادر إميل.
مرت به سيارة إطفاء، وعربة ذات خرطوم، وشاحنة ذات خطاف وسلم، مهشمات للشارع بدو مجلجل. يتصاعد الدخان من على بعد ثلاثة مربعات سكنية، ويهب لهيب من حين لآخر من سقف أحد المنازل. كان هناك حشد عالق أمام صفوف رجال الشرطة. خلف الظهور وسلاسل القبعات، لمح إميل رجال الإطفاء على سقف المنزل المجاور، وكان ثلاثة منهم يرشون في صمت تيارات من المياه غامرين بها النوافذ العلوية. لا بد أن الحريق أمام البقالة مباشرة. كان يشق طريقه عبر الحشد فوق الرصيف عندما انفرج الطريق وسطهم فجأة. كان هناك رجلان من الشرطة يسحبان زنجيا طقطقت ذراعاه للأمام والخلف ككابلات مكسورة. أتى شرطي ثالث من الخلف يصفع الزنجي أولا على أحد جانبيه في رأسه، ثم على الجانب الآخر في بطنه. «إن من أشعل الحريق زنجي.» «لقد ألقوا القبض على المهووس بإشعال الحرائق.» «إنه من أشعل النار.» «يا إلهي، إنه زنجي حقير الشكل.»
انضم الحشد غالقين الفرجة بينهم. كان إميل واقفا بجوار مدام ريجو أمام باب متجرها.
بالفرنسية: «يجعلني هذا أرتعب يا حبيبي ... إنني أخاف بشدة من الحريق.»
كان إميل يقف خلفها قليلا. تسلل بإحدى ذراعيه ببطء حول خصرها وربت على ذراعها بيده الأخرى، قائلا: «كل شيء على ما يرام. انظري، لم يعد هناك حريق، لم يعد هناك سوى الدخان ... ولكنك تتمتعين بتأمين، أليس كذلك؟» «أوه، أجل، مقابل 15 ألفا.» اعتصر يدها ثم سحب ذراعيه. بالفرنسية: «تعالي يا صغيرتي لندخل.»
بمجرد دخولهما إلى المتجر، أمسك بكلتا يديها السمينتين. «متى سنتزوج يا إيرنيستين؟» «الشهر القادم.» «لا يمكنني الانتظار كل ذلك الوقت، هذا مستحيل ... لم لا نتزوج الأربعاء القادم. ومن ثم يمكنني مساعدتك في جرد المخزون ... أعتقد أننا قد نستطيع بيع هذا المكان والذهاب شمالا لجني المزيد من المال.»
ربتت على وجنته. قالت بالفرنسية بابتسامة داخلية جوفاء هزت كتفيها وثدييها الكبيرين: «إنك طموح بعض الشيء.» •••
كان عليهما أن يستقلا وسيلة نقل أخرى في محطة تحويل مانهاتن. كان إبهام قفاز إلين الجديد قد انشق وظلت تفركه بسبابتها. كان جون يرتدي معطف مطر ذا حزام وقبعة من اللباد رمادية بمسحة وردية. عندما استدار إليها وابتسم، لم تستطع منع نفسها من إبعاد ناظريها عنه والتحديق في الأمطار التي دامت طويلا تتساقط متلألئة فوق المسارات. «ها نحن يا عزيزتي إلين. أوه يا ابنة الأمير، ترين أننا سنأخذ القطار الذي يأتي من محطة بنسلفانيا ... من المضحك هذا الانتظار في براري نيوجيرسي بهذه الطريقة.» ركبا في الحافلة الردهية. أصدر جون صوت قوقأة خفيفا في فمه عندما أحدثت قطرات المطر أشكالا أشبه بعملات الدايم المعدنية الداكنة على قبعته الباهتة. «حسنا، نحن في طريقنا يا فتاتي الصغيرة ... ها أنت جميلة يا حبيبتي، ها أنت جميلة، عيناك كعيني يمامتين.»
كانت حلة إلين المفصلة حديثا ضيقة عند المرفقين. أرادت أن تشعر بالمرح الشديد وأن تستمع لهمسه المخرخر في أذنيها، ولكن شيئا جعل وجهها يلزم عبوسا محكما؛ فلم يسعها سوى النظر بعيدا إلى المستنقعات البنية، وملايين النوافذ السوداء في المصانع، وشوارع المدينة الموحلة، والقارب البخاري الصدئ في إحدى القنوات، والحظائر، ولافتات سجائر بول دورهام، وتماثيل علكة سبيرمنت مستديرة الوجوه، التي تتوازى جميعها وتتقاطع مع التجعدات البراقة التي تحدثها الأمطار على النافذة. استقامت الخطوط المتلألئة على النافذة عندما توقف القطار وأخذت في الانحراف أكثر فأكثر مع ازدياد سرعته. دوى صوت العجلات في أذنها ، مرددا محطة تحويل مانهاتن. محطة تحويل مانهاتن. على كل حال، كانت المسافة لا تزال بعيدة على أتلانتيك سيتي. عندما نصل إلى أتلانتيك سيتي ... «أوه، وكان المطر 40 يوما» ... سوف أشعر بالمرح ... «وكان المطر أربعين ليلة» ... لا بد أنني سأشعر بالمرح. «إلين تاتشر أوجليثورب، ذلك اسم جميل للغاية، أليس كذلك يا عزيزتي؟ أوه أسندوني بأقراص الزبيب، أنعشوني بالتفاح فإني مريضة حبا ...»
كانت الأجواء تبعث على الارتياح في حافلة ردهية فارغة على الكرسي الأخضر المخملي، حيث مال جون تجاهها يردد كلاما بلا معنى بينما تمر المستنقعات البنية مسرعة خلف النافذة المخططة بمياه الأمطار وتفوح رائحة كما لو كان محار قد تسلسل إلى العربة. نظرت إلى وجهه وضحكت. اعترت وجهه حمرة إلى منابت شعره الأشقر المحمر. وضع يده في قفازه الأصفر فوق يدها في قفازها الأبيض. «أنت زوجتي الآن يا إلين.» «أنت زوجي الآن يا جون.» ضحكا متبادلين النظرات وهما يستمتعان بالأجواء المريحة للحافلة الردهية الفارغة.
أنذرت اللافتة «أتلانتيك سيتي» التي ظهرت بالأحرف البيضاء تعلوها قطرات الأمطار بانتهاء الرحلة.
نزلت الأمطار كالسوط على الممر المتأنق، وضربت النافذة بهبات كمياه ملقاة من دلو. بعيدا عن المطر، سمعت دوي الأمواج المتقطع بمحاذاة الشاطئ بين أرصفة الميناء المضاءة. استلقت على ظهرها محدقة إلى السقف. بجوارها على السرير الكبير، رقد جون نائما يتنفس بهدوء كطفل وقد ثنى وسادة أسفل رأسه. كانت تتجمد من البرودة. تسللت من السرير بعناية شديدة كي لا توقظه، ونهضت ناظرة من النافذة على أضواء الممر المكونة لحرف
V
طويل. رفعت النافذة. صفعتها الأمطار في وجهها ووخزت جلدها وخزا قاسيا، مبللة ثوب نومها. دفعت بجبهتها أمام الإطار. أوه، أريد أن أموت. أريد أن أموت. كانت كل البرودة التي تمكنت من جسدها تطبق على معدتها. أوه، سأصاب بالإعياء. ذهبت إلى الحمام وأغلقت الباب. شعرت بتحسن عندما تقيأت. ثم صعدت إلى السرير مجددا حريصة على ألا تلمس جون. لو كانت لمسته، لماتت. استلقت على ظهرها ويداها ضاغطتان على جانبيها وقد ضمت قدميها. أصدرت العربة الردهية الفارغة صوت قعقعة مريحا في رأسها أخلدها إلى النوم.
أيقظتها حشرجة الريح على إطارات النافذة. كان جون بعيدا، في الطرف الآخر من السرير الكبير. ومع اندفاع الريح والمطر في النافذة، بدت الغرفة والسرير الكبير وكل شيء كما لو كان يتحرك، يركض إلى الأمام كسفينة هوائية فوق البحر. «أوه، وكان المطر 40 يوما» ... عبر فرجة في العتمة الباردة، قطر اللحن القصير دافئا كالدم ... «وكان المطر 40 ليلة». بحذر مررت يدها في شعر زوجها. جعد وجهه وهو نائم وأن قائلا في صوت صبي صغير جعلها تقهقه: «لا تفعلي.» استلقت مقهقهة في الطرف الآخر البعيد للسرير، قهقهت بشدة كما اعتادت مع الفتيات في المدرسة. ضرب المطر النافذة، وعلا صوت الأغنية حتى غدت كما لو أن فرقة نحاسية تعزفها في أذنيها:
أوه، وكان المطر 40 يوما
وكان المطر 40 ليلة
ولم يتوقف حتى الكريسماس
والرجل الوحيد الذي نجا من الفيضان
كان جاك ذا الأرجل الطويلة الذي أتى من البرزخ.
جلس جيمي هيرف أمام زوج الخالة جيف. وأمام كل منهما طبق أزرق به ريشة لحم، وبطاطس مطهوة في الفرن، وكومة صغيرة من البازلاء، وحفنة من البقدونس.
يقول زوج الخالة جيف: «حسنا، انظر حولك يا جيمي.» يملأ غرفة الطعام التي تكسوها ألواح خشب الجوز ضوء ساطع قادم من الطابق العلوي، ويلمع ملتويا فوق السكاكين والشوكات الفضية، والأسنان الذهبية، وسلاسل الساعات، ودبابيس الأوشحة، وتبتلعه ظلمة الجوخ والتويد، ويلمع في دوائر فوق الألواح المصقولة، والرءوس الصلعاء، وأغطية الأطباق. سأل زوج الخالة جيف وهو يدس إبهاميه في جيبي صدريته الزغباء الأديمية اللون: «حسنا، ما رأيك في المكان؟»
قال جيمي: «إنه ناد جميل بالطبع.» «أكثر الرجال ثراء ونجاحا في البلد يتناولون غداءهم هنا. انظر إلى الطاولة المستديرة في الركن. تلك طاولة جاوسنهايمرز. على اليسار مباشرة.» ... يميل زوج الخالة جيف إلى الأمام خافضا صوته: «الرجل صاحب الفك القوي هو جيه وايلدر لابورت.» يقطع جيمي ريشة اللحم أمامه دون أن يجيب. «حسنا يا جيمي، ربما تعلم السبب الذي جعلني آتي بك إلى هنا ... أريد التحدث إليك. الآن وقد ... توفيت والدتك، أصبحت أنا وإيميلي الوصيين عليك في نظر القانون والمنفذين لوصية ليلي المسكينة ... أريد أن أشرح لك كيف تسير الأمور.» وضع جيمي سكينه وشوكته وجلس يحدق إلى زوج خالته، متشبثا بذراعي كرسيه بيدين باردتين، ومتابعا حركة اللغد الأزرق الثقيل أعلى الدبوس الياقوتي في ربطة العنق الساتان العريضة. «أنت الآن في السادسة عشرة من عمرك، أليس كذلك يا جيمي؟» «بلى يا سيدي.» «حسنا، إليك ما في الأمر ... عندما تسوى أملاك والدتك بالكامل، ستجد نفسك تمتلك 5500 دولار أمريكي تقريبا. لحسن الحظ أنك ولد ذكي وستصبح جاهزا لدخول الكلية مبكرا. الآن، إذا أدير هذا المبلغ جيدا، فسيكفي لتلتحق بكلية في كولومبيا؛ حيث إنك تصر على الذهاب إلى كولومبيا ... أنا عن نفسي، وأثق أن خالتك إيميلي تفكر بالطريقة نفسها، أفضل أن تذهب إلى ييل أو برينستون ... أنت فتى ذو حظ كبير في تقديري. وأنا في مثل عمرك كنت أعمل في كنس أحد المكاتب في فريدريكسبورج وأتحصل على 15 دولارا أمريكيا في الشهر. حسنا، ما أردت قوله هو ... لم ألحظ أنك شعرت بالمسئولية الكافية فيما يتعلق بالأمور المالية ... أعني ... بالحماس الكافي لكسب العيش، بالنجاح في عالم الرجال. انظر حولك ... لقد وصل هؤلاء الرجال إلى ما هم عليه الآن بالتدبير والحماس. ذلك أيضا ما أوصلني إلى ما أنا عليه، وجعلني في وضع يسمح لي بتوفير منزل مريح لك، وبتوفير تلك الأجواء المتحضرة التي أقدمها لك ... أدرك أن نشأتك كانت غريبة بعض الشيء؛ فليلي المسكينة لم تكن لديها الأفكار نفسها تماما التي تسنت أن تكون لدينا حول العديد من الأمور، ولكن فترة تكوين حياتك الحقيقية قد بدأت. حان الوقت الآن أن تنشط وتضع الأسس لحياتك المهنية المستقبلية ... ما أنصح به هو أن تقتدي بجيمس وتشق طريقك لأعلى بالعمل في الشركة ... من الآن فصاعدا كلاكما ابني ... سيتطلب ذلك عملا شاقا ولكنه سيؤدي في النهاية إلى انفراجة كبيرة. ولا تنس هذا: إذا نجح المرء في نيويورك، فقد نجح حقا!» يجلس جيمي مراقبا فم زوج خالته الواسع الذي يتحدث بجدية وهو يصوغ الكلمات، دون أن يشعر بمذاق ريشة لحم الضأن الغض في فمه. «حسنا، ماذا تنوي أن تفعل؟» مال زوج الخالة جيف تجاهه عبر الطاولة بعينين رماديتين بارزتين.
يختنق جيمي من قطعة خبز، فيتورد وجهه، ليتمتم في النهاية بوهن: «كما تقول يا زوج خالتي جيف.» «أيعني ذلك أنك ستعمل هذا الصيف لمدة شهر في مكتبي؟ وستجرب شعور كسب العيش، باعتبارك رجلا في عالم الرجال، وتتعرف على كيفية إدارة الأعمال؟» أومأ جيمي برأسه. يصدح زوج الخالة جيف منحنيا إلى الخلف في كرسيه فيرى الضوء عبر تموج شعره ذي لون الفولاذ الرمادي: «حسنا، أظن أنك توصلت إلى قرار معقول للغاية. بالمناسبة، ماذا ستأخذ للتحلية؟ ... بعد سنوات من الآن يا جيمي، عندما تصبح رجلا ناجحا ولديك عملك الخاص ستتذكر حديثنا هذا. إنها بداية حياتك المهنية.»
تبتسم موظفة الاستقبال المسئولة عن القبعات أسفل كومة شعرها الأشقر المتموج المرفوعة في تكبر وهي تعطي جيمي قبعته التي تبدو مدهوسة وقذرة ومهلهلة وسط القبعات الكبيرة البطانة من القبعات الدربية، وقبعات الفيدورا، وقبعات بنما المعلقة فوق الشماعة. تقلبت معدته مع هبوط المصعد. خرج إلى الردهة الرخامية المحتشدة. ولوهلة لا يعلم فيها إلى أين يذهب، يقف مستندا إلى الجدار ويداه في جيبيه يشاهد الناس وهم يشقون طريقهم عبر الأبواب الدوارة بلا انقطاع، والفتيات ذوات الوجنات الناعمة وهي تمضغ العلكة، والفتيات ذوات الغرر والوجوه البارزة العظام، والفتية ذوي الوجوه الشاحبة في مثل عمره، والقساة من الشباب بقبعاتهم المائلة على جوانب وجوههم، والمراسيل بوجوههم المتصببة عرقا، والنظرات المتقاطعة، والأوراك السائرة، والألغاد الحمراء الماضغة للسيجار، والوجوه المقعرة الشاحبة، والأجسام البدينة للرجال والنساء، وأبدان كبار السن ذوي الكروش، الجميع يندفعون، ويتزاحمون، ويدلفون، معبئين في صفين لا نهائيين عبر الأبواب الدوارة للخارج إلى برودواي. ينضم جيمي لأحد الصفوف داخلا وخارجا من الأبواب الدوارة، في الظهيرة والليل والصباح، تسحق الأبواب الدوارة سنوات عمره كلحم النقانق. فجأة ودون سابق إنذار تتيبس عضلاته. فليذهب زوج الخالة جيف ومكتبه برمتهما إلى الجحيم. تصدح الكلمات عاليا بداخله، فينظر إلى جانب ثم إلى الآخر ليرى إذا ما كان أحد قد سمعه وهو يتلفظ بها.
فليذهبوا جميعا إلى الجحيم. يفرد ظهره ويرجع كتفيه في حزم ويشق طريقه إلى الأبواب الدوارة. داس بعقبه على قدم أحد الأشخاص. «تبا، فلتنظر على ماذا تخطو.» يخرج إلى الشارع. تهب رياح هادرة على برودواي قاذفة بالحصى في فمه وعينيه. يسير في اتجاه متنزه باتري والرياح في ظهره. في فناء كنيسة ترينيتي، يتناول الكتاب المختزلون وسعاة المكاتب الشطائر بين المقابر. يتجمع الغرباء خارج صفوف السفينة البخارية، من النرويجيين ذوي الشعر الأشقر الأشعث، والسويديين العريضي الوجوه، والبولنديين، ورجال متثاقلين ببشرة داكنة تفوح منهم رائحة الثوم من بلدان البحر الأبيض المتوسط، وصقليين ضخام البنية، وثلاثة صينيين، ومجموعة من بحارة الهند وجنوب شرق آسيا. في المثلث الصغير أمام مصلحة الجمارك، استدار جيم هيرف وحدق طويلا إلى الشق العميق لبرودواي، وهو يقف في وجه الرياح مباشرة. فليذهب زوج الخالة جيف ومكتبه برمتهما إلى الجحيم. •••
جلس بود على حافة تحته ومدد ذراعيه وتثاءب. من كل مكان، وعبر رائحة العرق والأنفاس الكريهة، والملابس الرطبة يتصاعد صوت الشخير، صوت رجال مضطربين في نومهم، وصوت صرير زنبركات التخوت. وبعيدا عبر الضباب، اتقد ضوء كهربائي منعزل. أغمض بود عينيه وترك رأسه يسقط على كتفه. يا إلهي، أريد أن أنام. أيها المسيح، أريد أن أنام. ضم ركبتيه أمام يديه المشبكتين لمنعهما من الارتجاف. يا أبانا الذي في السماء، أريد أن أنام.
سمع همسا هادئا من التخت المجاور: «ما الأمر يا رفيقي، ألا تستطيع أن تنام؟» «تبا، نعم.» «وأنا كذلك.»
نظر بود إلى الرأس الكبير ذي الشعر المجعد المعلق على الشماعة المواجه له.
واصل الصوت بهدوء: «هذا مكان كريه مليء بالحشرات لعين.» «سأخبر الجميع ... ومقابل 40 سنتا! يمكنهم الاحتفاظ بفندق بلازا خاصتهم و...» «هل لك فترة طويلة في المدينة؟» «سأكون قد أتممت 10 سنوات بحلول أغسطس.» «يا للهول!»
جاء صوت متحشرج من صف التخوت: «كفا عن المزاح أيها الشابان، أين تظنان أنفسكما، في نزهة يهودية؟»
أخفض بود صوته، قائلا: «هذا مضحك ، لقد كنت أتوق طيلة أعوام للمجيء إلى هذه المدينة ... لقد ولدت ونشأت في مزرعة بشمال البلاد.» «لم لا ترجع؟» «لا يمكنني الرجوع.» كان بود يشعر بالبرد، وأراد أن يتوقف عن الارتجاف. سحب البطانية لأعلى إلى ذقنه واستدار مواجها الرجل الذي كان يتحدث. «أقول لنفسي في كل ربيع إنني سأسافر مرة أخرى، وسأذهب إلى الخارج وأستقر بين الحشائش والعشب والأبقار التي ترجع إلى المنزل في وقت حلبها، ولكني لا أفعل، بل أنتظر فحسب.» «ماذا فعلت في كل هذا الوقت في المدينة؟» «لا أدري ... اعتدت الجلوس في يونيون سكوير معظم الوقت، ثم أصبحت أجلس في ميدان ماديسون. ذهبت كذلك إلى هوبوكين، وجيرسي، وفلاتبوش، والآن أنا متشرد في بويري.» «يا إلهي، أقسم أنني سأغادر هذا المكان غدا. إنني فزع هنا. فهناك الكثير من رجال الشرطة والمحققين في هذه المدينة.» «يمكنك العيش من الصدقات ... ولكن خذها نصيحة مني يا بني وارجع إلى المزرعة وإلى أهلك عندما تجد فرصة جيدة لذلك.»
قفز بود من التخت وجذب كتف الرجل بقوة. «تعال هنا في الضوء، أريد أن أريك شيئا.» تردد صوت بود على نحو غريب في أذنيه. مشى بخطوات كبيرة بمحاذاة صف التخوت ذي الشخير. نهض المتشرد، الذي كان رجلا يعرج له شعر ولحية مجعدان بيضهما الطقس، وعينان كما لو كانتا قد دقتا بمطرقة في رأسه، من أسفل البطانية في كامل ثيابه وتبعه. أسفل الضوء، فك بود أزرار لباسه الداخلي الطويل المكون من قطعة واحدة وسحبه من ذراعيه وكتفيه الهزيلين ذوي العضلات المليئة بالعقد. «انظر إلى ظهري.»
همس الرجل ممررا يده المتسخة ذات الأظافر الصفراء فوق كتلة من الندوب البيضاء والحمراء المحفورة عميقا. «لم أر شيئا كهذا من قبل.» «هذا ما فعله بي الرجل الهرم. كان يجلدني لمدة 12 سنة عندما يخطر بباله أن يفعل ذلك. اعتاد تعريتي وضربي بسلسلة خفيفة على ظهري. قالوا إنه أبي لكنني أعلم أنه ليس كذلك. هربت عندما كنت في الثالثة عشرة من عمري. كان ذلك عندما أمسك بي وبدأ يجلدني. وأنا الآن في الخامسة والعشرين.»
رجعا دون أن ينبسا بحرف إلى تختيهما واستلقيا.
استلقى بود محدقا في السقف وجاذبا البطانية إلى عينيه. عندما نظر لأسفل ناحية الباب في نهاية الغرفة، رأى رجلا يجلس هناك يرتدي قبعة دربية ويضع سيجارا في فمه. سحق شفته السفلى بين أسنانه حتى لا يصرخ. عندما أعاد النظر كان الرجل قد رحل. همس: «اسمع، أما تزال مستيقظا؟»
أصدر المتشرد صوت نخير. «كنت سأخبرك. لقد دهست رأسه بمعول، دهسته كما تركل يقطينة فاسدة. قلت له أن يتركني وشأني ولكنه لم يستجب ... كان رجلا متدينا قاسيا وأرادني أن أخاف منه. كنا نحصد السماق من المرعى القديم لنزرع البطاطس ... تركته ممددا على الأرض حتى الليل ورأسه مدهوس كيقطينة عطنة. وقد أخفاه عن الطريق بعض الشجيرات بمحاذاة السياج. ثم دفنته ورجعت إلى المنزل وأعددت لنفسي قدحا من القهوة. لم يكن يسمح لي قط بتناول القهوة. قبل شروق الشمس، استيقظت وسرت في الشارع. وكنت أقول لنفسي إنه في مدينة كبيرة، سيكون أمر العثور علي كإيجاد إبرة في كومة من القش. كنت أعلم بالمكان الذي كان يحتفظ فيه الرجل الهرم بماله؛ فقد كان في لفة في حجم رأسك، ولكني خفت أن آخذ أكثر من 10 دولارات أمريكية ... ألا تزال مستيقظا؟»
أصدر المتشرد صوت نخير. «كنت في طفولتي أرافق ابنة الرجل الهرم من عائلة ساكيت. اعتدت أنا وهي اصطحاب بعضنا في مخزن ثلج الرجل الهرم في غابات ساكيت، واعتدنا الحديث عن الكيفية التي نذهب بها إلى نيويورك ونصبح أثرياء، والآن أنا هنا ولا يمكنني الحصول على عمل أو التخلص من خوفي. هناك محققون يتبعونني في كل مكان، رجال يرتدون قبعات دربية ويضعون شارات أسفل معاطفهم. أردت ليلة أمس أن أصطحب مومسا، فرأت الخوف في عيني ورفضت الذهاب معي ... كان بإمكانها أن تراه في عيني.» كان يجلس على حافة التخت، مائلا، ومتحدثا في وجه الرجل الآخر بهمس مهسهس. أمسكه المشرد فجأة من معصميه. «اسمع يا فتى، سيصيبك الجنون إن ظللت هكذا ... هل حصلت على أي نقود؟» أومأ بود. «من الأفضل أن تعطيها لي كي أحتفظ لك بها. إنني رجل خبير وسأخرجك من هنا. ارتد ملابسك، وسر في المربع السكني إلى مطعم رخيص وكل جيدا. كم معك؟» «باقي فكة دولار.» «أعطني ربع دولار واشتر كل ما يمكنك الحصول عليه من طعام بالباقي.» ارتدى بود بنطاله وأعطى الرجل ربع الدولار. «ثم ارجع إلى هنا ونم جيدا، وسنذهب أنا وأنت غدا شمال البلاد ونأخذ لفافة الأموال تلك. أقلت إنها في حجم رأسك؟ ثم سنذهب إلى حيث لا يمكن لأحد الإمساك بنا. سنقتسمها النصف بالنصف. هل توافق؟»
صافح بود يده بهزة متخشبة، ثم سار متثاقلا وأربطة حذائه ترفرف حول قدميه إلى الباب ونزل الدرج الملطخ بالبصاق.
توقف القطار، وكانت ثمة رياح باردة تحمل رائحة الأخشاب والعشب تعكر الشوارع المغسولة بتموجات من الوحل. في المطعم السريع بساحة تشاتام، جلس ثلاثة رجال ناعسين وقبعاتهم فوق أعينهم. كان الرجل خلف الركن يقرأ ورقة وردية خاصة برياضة ما. انتظر بود طلبه طويلا. شعر بالهدوء، وبصفاء البال، وبالسعادة. عندما أتى الطعام، تناول خليط اللحم بالذرة المحمر الوجه، واستمتع بترو بكل قضمة، داهسا قطع البطاطس الهشة بلسانه على أسنانه بين رشفات من القهوة الكثيرة السكر. بعدما مسح الطبق بكسرة خبز، أخذ خلال أسنان وخرج.
سار مسلكا أسنانه عبر المدخل المظلم القذر إلى جسر بروكلين. كان هناك رجل يرتدي قبعة دربية ويدخن سيجارا في منتصف النفق الواسع. مر به بود سائرا في تباه راسخ. لا يعنيني؛ فليتبعني. كان ممر المشاة المقوس فارغا إلا من شرطي وقف متثائبا وناظرا لأعلى إلى السماء. كان الأمر أشبه بالسير وسط النجوم. بالأسفل على كلا الاتجاهين، استدقت الشوارع فأصبحت كالصفوف المرقطة بالأنوار بين المباني المربعة السوداء النوافذ. تلألأ النهر بالأسفل كمجرة درب التبانة بالأعلى. بهدوء ورقة، تسللت حزمة ضوء زورق قطر عبر الظلمة الرطبة. أصدرت سيارة صوت أزيز عبر الجسر مصلصلة العوارض وجاعلة خيوط العناكب فوق الكابلات تطن كآلة بانجو تهتز.
عندما وصل إلى موضع تشابك عوارض السكة الحديدية المرتفع لجانب جسر بروكلين ، رجع للخلف بمحاذاة الممر الجنوبي. لا يهمني أين سأذهب؛ فلا يمكنني الذهاب إلى أي مكان الآن. بدأ جانب من ضوء الليلة الزرقاء يتوهج خلفه كما يبدأ الحديد في التوهج بالمصهر. خلف المداخن السوداء وصفوف الأسقف، كانت تلمع الخطوط العريضة الوردية الخافتة لمباني وسط المدينة. كانت الظلمة جلها تزداد تلألؤا ودفئا. جميعهم محققون يطاردونني، جميعهم، الرجال في القبعات الدربية، والمشردون في شارع بويري، والنساء العجائز في المطابخ، وأصحاب الحانات، وقائدو عربات الترام، وضخام البنية، والمومسات، والبحارة، وعمال تحميل السفن، والرجال في وكالات التوظيف ... ظن أنني سأخبره بمكان لفافة الرجل الهرم، ذلك الوغد المقمل ... لقد خدعته. لقد خدعت جميع المحققين الملاعين. كان النهر هادئا، أملس بصفحة مياه أشبه بالفولاذ الأزرق. لا يهمني أين سأذهب؛ فلا يمكنني الذهاب إلى أي مكان الآن. كانت الظلال بين أرصفة الميناء والمباني غبارية كزهرة الغسيل الزرقاء. هدبت الصواري النهر؛ فتصاعد الدخان في الضوء أرجوانيا، وبنيا كالشوكولاتة، وورديا كاللحم. لا يمكنني الذهاب إلى أي مكان الآن.
في حلة ذات ذيل بسلسلة ساعة ذهبية وخاتم منقوش أحمر، ركب العربة ذاهبا إلى زفافه بجوار ماريا ساكيت، استقل العربة إلى دار البلدية يجرها أربعة خيول بيضاء ليعينه الحاكم عضو مجلس محلي، وأصبح الضوء خلفه أكثر سطوعا، ركب العربة مرتديا الساتان والحرير إلى زفافه، ركب كدمية وردية محشوة في عربة بيضاء وماريا ساكيت بجواره، ومرا عبر صفوف من رجال يلوحون بالسيجار، وينحنون، ويخلعون قبعاتهم الدربية، ركب بود عضو المجلس المحلي عربة مليئة بالألماس بجوار عروسه صاحبة المليون دولار ... يجلس بود على قضيب الجسر. سطعت الشمس خلف بروكلين. وتوهجت نوافذ مانهاتن. يهز نفسه للأمام، وينزلق، ويتدلى من إحدى يديه والشمس في عينيه. علقت الصرخة في حلقه وهو يسقط.
جلس ماكافوي قبطان زورق القطر «برودنس» في مقصورة القيادة واضعا إحدى يديه على عجلة القيادة. وفي اليد الأخرى حمل قطعة من البسكويت كان قد غطسها لتوه في كوب من القهوة وضعه فوق الرف بجوار صندوق البوصلة. كان رجلا حسن الهيئة كثيف شعر الحاجبين والشارب الأسود المثبت الطرفين. كاد يضع قطعة البسكويت المغطسة في القهوة في فمه عندما سقط شيء أسود وارتطم بالماء بطرطشة مكتومة على بعد بضع ياردات من مقدمة الزورق. في اللحظة ذاتها، صاح رجل مخرجا جسمه من باب غرفة المحرك: «قفز رجل لتوه من فوق الجسر.»
قال القبطان ماكافوي مسقطا قطعة البسكويت ومديرا عجلة القيادة: «اللعنة.» ضرب جزر قوي القارب كما لو كان قشة. صلصلت ثلاثة أجراس في غرفة المحرك. ركض زنجي أماما إلى مقدمة الزورق بعقافة قوارب.
صاح القبطان ماكافوي: «فلتساعدنا هنا يا ريد.»
بعد صراع، وضعوا شيئا واهنا أسود وطويلا على سطح الزورق. رن جرس واحد. ثم رن جرسان، وأدار القبطان ماكافوي وهو عابس ومجهد أنف الزورق في اتجاه التيار مرة أخرى.
سأل بصوت أجش: «هل به حياة يا ريد؟» كان وجه الزنجي أخضر، وكانت أسنانه تصطك.
قال الرجل ذو الشعر الأحمر ببطء: «لا يا سيدي. من الواضح أن عنقه قد كسر.»
أطبق القبطان ماكافوي شفتيه على جزء لا يستهان به من شاربه. وقال ممتعضا: «اللعنة على ذلك. يا له من حادث يقع للمرء في يوم زفافه!»
الجزء الثاني
الفصل الأول
سيدة عظيمة على حصان أبيض
يصدع الصباح بجلبته مع عبور أول قطار سريع لشارع ألين. تسمع الصلصلة المتزامنة مع ضوء النهار عبر النوافذ، وتهتز منازل الطوب القديمة، فيتناثر الضوء على عوارض هيكل القطار السريع كقصاصات ورق براقة.
تترك القطط صفائح القمامة، ويرجع البق إلى الجدران، تاركا أطراف الأبدان المتصببة عرقا، تاركا أعناق الأطفال الصغار الغضة والقذرة في سباتها. يتقلب الرجال والنساء أسفل البطانيات وأغطية الأسرة فوق المراتب في أركان الغرف، وتندلع حشود من الأطفال شارعة في الصراخ والركل.
على ناصية شارع ريفرتون، يفرش الرجل الهرم ذو اللحية الشبيهة بالقنب الذي لا يعلم أحد أين ينام؛ أوعية المخلل. أحواض من الخيار، والفلفل الحلو، وقشور البطيخ، ومخللات الخردل التي تنثر النباتات المعترشة الملتفة والمحالق الباردة برائحة الفلفل الرطب التي تتنامى كحديقة ذات مستنقعات مع روائح الأسرة المسكية والصخب النتن للشارع المعبد بالحصى المستيقظ أهله لتوهم.
يجلس الرجل الهرم ذو اللحية الشبيهة بالقنب الذي لا يعلم أحد أين ينام؛ في وسط الأحواض كيونان النبي أسفل يقطينته.
صعد جيمي هيرف أربعة طوابق تصرصر أدراجها، وقرع بابا أبيض ملطخا بآثار الأصابع أعلى المقبض حيث يظهر الاسم «ساندرلاند» بأحرف إنجليزية قديمة على بطاقة مثبتة بعناية في مكانها بدبابيس نحاسية. انتظر طويلا بجوار زجاجة حليب، وزجاجتي قشدة، وعدد يوم الأحد من صحيفة «نيويورك تايمز». كان ثمة حفيف خلف الباب وصرير خطوة قدم، ثم لم يسمع شيء. دفع زرا أبيض في عضادة الباب. «وقال إنني مغرم بك للغاية يا مارجي، وقالت ادخل من المطر، أنت مبتل تماما ...» أتت أصوات من ناحية الدرج: قدم رجل مرتد حذاء ذا أزرار، وقدمت فتاة ترتدي صندلا، وذات ساقين ورديين ناعمتين كنعومة الحرير، الفتاة ترتدي فستانا منفوشا وقبعة خادمة ربيعية، والشاب يرتدي صدرية ذات حواف بيضاء وربطة عنق بألوان الأخضر والأزرق والأرجواني. «ولكنك لست من هذا النوع من الفتيات.» «كيف لك أن تعرف أي نوع من الفتيات أنا؟»
تبعهما صوتهما متلاشيا نزولا على الدرج.
رن جيمي هيرف الجرس مرة أخرى.
أتى صوت أنثوي ذو لثغة عبر فتحة في الباب: «من بالباب؟» «أريد أن أرى الآنسة برين من فضلك.»
لمح كيمونو أزرق يصل إلى ذقن وجه منتفخ. «أوه، لا أعلم ما إذا كانت قد وصلت بعد.» «قالت إنها ستأتي.»
قالت ضاحكة من وراء الباب: «حسنا، هلا انتظرت قليلا حتى يمكنني الابتعاد. ثم يمكنك الدخول. عذرا ولكن السيدة ساندرلاند كانت تظنك محصل الإيجار. إنهم يأتون أحيانا يوم الأحد لا لشيء إلا لتضليلنا.» انفرجت الفتحة في الباب بابتسامة خجلة منها. «هل أدخل الحليب؟» «أوه، أجل واجلس في الردهة وسأستدعي روث.» كانت الردهة شديدة العتمة، وتفوح منها رائحة النوم ومعجون الأسنان وكريم التدليك، وكان هناك غطاء في أحد الأركان لا يزال يحمل آثار الجسم الذي كان يغطيه فوق ملاءته المجعدة. قبعات قشية، وأغطية سهرة حريرية، ومعطفان رجاليان معلقان في تشابك وتزاحم على قرون شماعة القبعات. أزال جيمي قميصا داخليا نسائيا من فوق كرسي هزاز وجلس. تسربت أصوات نساء، وحفيف ارتداء ملابس خافت، وضوضاء صحف يوم الأحد عبر الجدران الداخلية لمختلف الغرف.
انفتح باب الحمام؛ فشق دفق من ضوء النار المنعكس من مرآة الردهة المعتمة نصفين، وخرج منها رأس ذو شعر كسلك من النحاس وعينين زرقاوين داكنتين في وجه بيضوي أبيض مشقق. ثم تحول الشعر إلى اللون البني في الردهة فوق ظهر نحيل ترتدي صاحبته قميصا داخليا نسائيا بلون اليوسفي، ويظهر عقباها الورديان المسترخيان من شبشب حمامها مع كل خطوة تخطوها.
كانت روث تنادي عليه من وراء بابها: «مرحى يا جيمي ... ولكن يجب ألا تنظر إلي أو إلى غرفتي.» برز رأس عليه لفائف لتجعيد الشعر كرأس سلحفاء يخرج من صدفتها. «مرحبا يا روث.» «يمكنك الدخول إذا وعدتني بألا تسترق النظر ... فأنا غير مهندمة وغرفتي في حالة فوضى ... لا ينقصني سوى أن أصفف شعري. وبعد ذلك سأكون جاهزة.» كانت الغرفة الرمادية الصغيرة مكدسة بالملابس وصور ممثلي المسرح. جلس جيمي وظهره إلى الباب، حيث نغز أذنه شيء حريري تدلى من الشماعة. «حسنا، كيف حال الصحفي الشاب؟» «أغطي هيلز كيتشن، إنه حي ضخم. هل حصلت على وظيفة بعد يا روث؟» «هممم ... ربما يتبلور الكثير من الأمور خلال الأسبوع. ولكن شيئا لن يحدث. أوه يا جيمي، أنا على وشك أن أصاب باليأس.» هزت شعرها لتتخلص من مجعدات الشعر، ومشطت التموجات البنية الخافتة الجديدة. كان لها وجه جافل وباهت، وفم كبير، وجفنان سفليان أزرقان. «علمت هذا الصباح أنه علي أن أستيقظ وأرتب حالي، ولكني لم أستطع. من المحبط للغاية أن تستيقظ دون أن يكون لديك عمل ... أحيانا أظن أنني سآوي إلى الفراش ولن أفعل شيئا سوى أن أظل مستلقية حتى نهاية العالم.» «مسكينة أيتها العجوز روث.»
رمته بإسفنجة بودرة التجميل التي غطت ربطة عنقه وتلابيب بذلته الصوفية الزرقاء بالبودرة. «لا تنعتني بالمسكينة العجوز أيها الجرذ الضئيل.» «يا له من شيء لطيف تفعلينه بعد كل ما عانيته كي أبدو محترما ... اللعنة عليك يا روث ! ولم تزل رائحة مزيل البقع عني بعد.»
ألقت روث برأسها للخلف بضحكة صارخة. «أوه، أنت فكاهي للغاية يا جيمي. جرب استخدام مكنسة الثياب.»
بوجه متورد أخفض ذقنه نافخا المسحوق عن ربطة عنقه. «من تلك الفتاة ذات الهيئة المضحكة التي فتحت لي باب الردهة؟»
همست مقهقهة: «صه، يمكنها سماع كل شيء عبر الجدران الداخلية ... إنها كاسي. كاساندرا ويلكنز ... كانت تعمل في فرقة رقص مورجان. ولكن ينبغي ألا نسخر منها، إنها لطيفة جدا. إنني معجبة بها للغاية.» أطلقت صيحة ضاحكة. «أنت مجنون يا جيمي.» نهضت ولكمته في عضلة ذراعه. «أنت دائما تجعلني أتصرف كما لو كنت مجنونة.» «بل هذا من صنع القدر بك ... اسمعي، أنا جائع جدا. لقد جئت إلى هنا سيرا على قدمي.» «كم الساعة الآن؟» «لقد تجاوزت الواحدة.» «أوه يا جيمي، ليس لدي إدراك بالوقت ... أتعجبك هذه القبعة؟ ... أوه، نسيت أن أخبرك. لقد ذهبت لرؤية آل هاريسون بالأمس. كان الأمر مريعا حقا ... لو لم أكن قد وصلت إلى الهاتف في الوقت المناسب وهددت بالاتصال بالشرطة ...» «انظري إلى تلك المرأة الطريفة المنظر في الجهة المقابلة. إن وجهها يشبه تماما وجه اللاما.» «بسببها، أضطر إلى إغلاق ستائري طوال الوقت ...» «لم؟» «أوه، أنت صغير جدا على معرفة هذه الأمور. ستصدم يا جيمي.» كانت روث تميل إلى المرآة ممررة أحمر الشفاه فوق شفتيها. «كثير من الأشياء يدهشني، ولا أرى أن الأمر يهم كثيرا ... ولكن هيا، دعينا نخرج من هنا. الشمس مشرقة بالخارج، والناس يخرجون من الكنيسة ويذهبون إلى منازلهم لالتهام الطعام وقراءة صحف يوم الأحد وسط شجر المطاط ...» «أوه يا جيمي، إنك تحدث ضجة ... دقيقة واحدة. انتبه، إنك تجعد أفضل ثوب عندي.»
كانت فتاة ذات شعر أسود قصير وكنزة صفراء تزيل ملاءات السرير وتطويها في الردهة. لم يستطع جيمي لوهلة تمييز الوجه الذي رآه عبر الفتحة في الباب بسبب البودرة الكهرمانية اللون وأحمر الشفاه. «مرحبا يا كاسي، هذا ... معذرة يا آنسة ويلكنز، هذا هو السيد هيرف. أخبريه بالسيدة التي نراها عبر المنور، تعرفين سابو الناسك.»
لثغت كاساندرا ويلكنز في الحديث وعبست. «أليست مريعة يا سيد هيرف ... إنها تقول أكثر الأشياء المريعة.» «إنها تفعل ذلك لمضايقة الناس فحسب.» «أوه يا سيد هيرف، إنني سعيدة للغاية لأني رأيتك أخيرا، لا تفعل روث شيئا سوى الحديث عنك ... أوه، أخشى أن يكون طيشا مني أن قلت ذلك ... إنني حمقاء للغاية.»
انفتح الباب في نهاية الردهة، ووجد جيمي نفسه ينظر إلى الوجه الأبيض لرجل معقوف الأنف يرتفع شعره الأحمر في تلتين غير متساويتين على كلا جانبي جزء رأسه ذي الفرق المستقيم. كان يرتدي برنس حمام أخضر من الساتان ونعلا مغربيا أحمر اللون.
قال متشدقا بلكنة أوكسفوردية دقيقة: «كيف الحال يا كاساندرا؟ ما الأخبار اليوم؟» «لا شيء سوى برقية من السيدة فيتزسيمونز جرين. تريدني أن أذهب لرؤيتها في سكيرديل غدا للحديث عن مسرح جرين ... معذرة، هذا السيد هيرف يا سيد أوجليثورب.» رفع الرجل الأصهب أحد حاجبيه وخفض الآخر ووضع يده مرتخية في يد جيمي. «هيرف، هيرف ... دعني أفكر، لست من عائلة هيرف في جورجيا، أليس كذلك؟ هناك عائلة قديمة باسم هيرف في أتلانتا ...» «كلا، لا أظن ذلك.» «خسارة. كنت أنا وجوسايا هيرف في يوم من الأيام رفيقين مقربين. وهو اليوم رئيس أول بنك وطني ويقود مواطني مدينة سكرانتون في ولاية بنسلفانيا، وأنا ... مجرد محتال.» عندما هز كتفيه سقط عنهما برنس الحمام كاشفا عن صدر أجرد أملس وناعم. «أنا والسيد أوجليثورب سنغني نشيد الإنشاد. سيقرؤه وأمثله أنا بالرقص. يجب أن تأتي يوما ما وترانا ونحن نتدرب.» «سرتك كأس مدورة لا يعوزها شراب ممزوج، بطنك صبرة حنطة مسيجة بالسوسن ...» «أوه، لا تشرع في الغناء الآن.» أطلقت ضحكة مكتومة وضمت ساقيها.
جاء صوت فتاة عميق وهادئ من داخل الغرفة: «أغلق الباب يا جوجو.» «أوه، عزيزتي المسكينة إلين، إنها تريد أن تنام ... سعيد للغاية بمعرفتك يا سيد هيرف.» «جوجو!» «نعم يا عزيزتي ...»
عبر النعاس الثقيل الذي شنج جيمي، أصابه صوت الفتاة بشعور واخز. وقف مقيدا في الردهة الكالحة السواد بجوار كاسي دون أن يتلفظ بكلمة. تتسلل رائحة القهوة والخبز المحمص من مكان ما. ثم أتت روث. «حسنا يا جيمس، أنا جاهزة ... ترى أنسيت شيئا؟» «لا يهمني إذا ما كنت قد نسيت شيئا أم لا، إنني أتضور جوعا.» أمسك جيمي بكتفيها ودفعها برفق ناحية الباب. «إنها الساعة الثانية.» «حسنا وداعا عزيزتي كاسي، سأتصل بك في حوالي الساعة السادسة.» «حسنا يا روثي ... سعيدة للغاية بمعرفتك يا سيد هيرف.» انغلق الباب وسط لثغة كاسي المصحوبة بضحكة مكتومة. «يا إلهي، هذا المكان يجعلني أستشيط غضبا.» «حسنا يا جيمي، لا تتذمر لأنك تريد الطعام.» «ولكن أخبريني يا روث، من يكون السيد أوجليثورب؟ إنه يفوق كل ما رأيته في حياتي.» «أوه، هل خرج المغرم من عرينه؟» قالت روث ذلك مطلقة صيحة ضاحكة. خرجا إلى ضوء الشمس المعكر. «هل أخبرك أنه من الفرع الرئيسي لعائلة أوجليثورب في جورجيا؟» «هل تلك الفتاة الجميلة ذات الشعر النحاسي اللون زوجته؟» «إن شعر إلين أوجليثورب ضارب إلى الحمرة. وهي ليست بهذا الجمال كذلك ... إنها مجرد طفلة وقد أصبحت متكبرة للغاية بالفعل. كل ذلك لأنها حققت بعض النجاح في عرض «أزهار الخوخ» (بيتش بلوسومز). كما تعلم، شيء من تلك النثرات المبهرة التي تثير الجلبة. تمثيلها لا بأس به.» «من المؤسف أنها تزوجت شخصا كهذا.» «لقد فعل أوجلي كل ما يمكن تخيله من أجلها. ولولاه لكانت لا تزال في الجوقة ...» «إنهما كالجميلة والوحش.» «من الأفضل أن تنتبه إذا رمقك بعينيه يا جيمي.» «لم؟» «إنه غريب الأطوار يا جيمي، غريب الأطوار.»
اخترق قطار سكة حديدية مرتفعة القضبان ضوء الشمس فوقهما. كان بإمكانه أن يرى فم روث وهو ينبس بالكلمات.
صاح بصوت يعلو صوت القعقعة المتضائلة: «اسمعي. دعينا نذهب لتناول إفطار متأخر في نادي كامبس ثم نتنزه في طريق باليساديس.» «هل جننت يا جيمي، عن أي إفطار متأخر تتحدث؟» «ستتناولين أنت الإفطار، وسأتناول أنا الغداء.» «سيكون ذلك مضحكا للغاية.» شبكت ذراعها في ذراعه تضحك في صراخ. وأخذت حقيبتها ذات الشبكة الفضية تضرب في مرفقه وهما يسيران. «وماذا عن كاسي ، كاساندرا الغامضة؟» «ينبغي ألا تضحك عليها، إنها رائعة ... لولا اقتناؤها للكلب البودل الأبيض الصغير الكريه ذلك. إنها تحتفظ به في غرفتها ولا يتمرن مطلقا ورائحته بشعة. إنها تسكن تلك الغرفة الصغيرة بجوار غرفتي ... لديها حاليا رفيق دائم ...» قهقهت روث. «إنه أسوأ من الكلب البودل. إنهما مخطوبان، ويأخذ منها جميع مالها. لا تخبر أحدا بالله عليك.» «أنا لا أعرف أحدا لأخبره.» «ثم هناك السيدة ساندرلاند ...» «أوه أجل، لقد لمحتها وهي ذاهبة إلى الحمام، سيدة عجوز ترتدي روبا مبطنا وغطاء رأس للنوم وردي اللون.»
أجفلت روث، قائلة: «لقد صدمتني يا جيمي ... إنها لا تنفك عن إضاعة طقم أسنانها»، خفض مرور قطار سريع صوت بقية كلامها. انغلق باب المطعم خلفهما حاجبا دوي العجلات فوق القضبان.
كانت ثمة أوركسترا تعزف أغنية «عندما يحل وقت إزهار شجر التفاح في نورماندي.» كان المكان مليئا بأشعة الشمس المائلة التي يتموج فيها الدخان، والأكاليل الورقية، ولافتات بالعبارات «يصلنا الكركند يوميا»، و«تناول البطلينوس الآن»، و«جرب بلح البحر اللذيذ المطهو على البخار بالطريقة الفرنسية» (توصي به وزارة الزراعة). جلسا أسفل لافتة مكتوب عليها بحروف حمراء «حفلات شرائح اللحم البقري في الطابق العلوي» ووخزته روث مغازلة بأصابع الخبز. «هل تظن يا جيمي أنه سيكون من الدناءة أن أتناول الأسقلوب في الإفطار؟ ولكن أولا يجب أن أشرب القهوة ...» «سآخذ شريحة لحم صغيرة وبصلا.» «ليس إن كنت تنوي قضاء فترة ما بعد الظهيرة معي يا سيد هيرف.» «أوه حسنا. سأضع البصل عند قدميك يا روث.» «هذا لا يعني أنني سأسمح لك بتقبيلي.» «ماذا ... في باليساديس؟» قهقهت روث مطلقة صيحة ضاحكة. تورد وجه جيمي قرمزيا. «يقول إنه لم يسألك عن طلبك يا سيدتي.» •••
تسلل ضوء الشمس إلى وجهها عبر الفتحات الصغيرة في حافة قبعتها القشية. كانت تسير بخطى رشيقة بالغة القصر قيدتها تنورتها الضيقة، وقد وخزها ضوء الشمس مخترقا الحرير الصيني الرقيق كيد تضرب على ظهرها. في القيظ الشديد اجتازت الشوارع، والمتاجر، والناس في ملابس يوم الأحد، والقبعات القشية، والمظلات، وعربات الترام ، وسيارات الأجرة وانعطفت وهاجة حولها كاشطة إياها بوميض لاسع وحاد كما لو كانت تسير عبر أكوام من القشارات المعدنية. كانت تتلمس طريقها دوما عبر كتلة متشابكة من الضوضاء الحادة المصرصرة للأسنان كحواف المناشير.
رأت في ميدان لينكولن فتاة تسير الهوينى عبر الزحام ممتطية حصانا أبيض، تدلى شعرها الكستنائي في تموجات زائفة متساوية فوق الصهوة الطباشيرية للحصان وفوق الحلس ذي الحافة المذهبة حيث الأحرف الخضراء القرمزية الأطراف للعلامة التجارية «داندرين». كانت ترتدي قبعة دوللي فاردن خضراء بها ريشة قرمزية، وفي إحدى يديها قفاز أبيض ترنح في غير اكتراث فوق اللجام، وفي اليد الأخرى تمايل سوط خيل قصير ذو مقبض ذهبي.
شاهدتها إلين وهي تمر، ثم تبعت بقعة خضراء عبر تقاطع طرق إلى المتنزه. فاحت رائحة عشب سفعته الشمس ووطئته أقدام صبية يلعبون البيسبول. كانت جميع المقاعد التي تنعم بالظل ممتلئة. عندما عبرت طريق السيارات المنعطف، غاص الكعب الحاد لحذائها الفرنسي في الأسفلت. كان ثمة بحاران ممددان على الشاطئ في ضوء الشمس، طقطق أحدهما بشفتيه عندما مرت، كان بإمكانها أن تشعر بأعينهما الجشعة كالبحر تلتصق دبقة في عنقها، وفخذيها، وكاحليها. حاولت منع وركيها من التأرجح طوال سيرها. كانت الأوراق ذابلة فوق الشجيرات على طول الطريق. جنوبا وشرقا، سيجت الأبنية المواجهة لأشعة الشمس المتنزه، أما في الغرب فكانت بنفسجية مظللة. كان كل شيء مثيرا للحكة، ومتصببا بالعرق، ومغبرا، ومكبلا برجال الشرطة وملابس يوم الأحد. لم تستقل القطار السريع؟ كانت تنظر في العينين السوداوين لشاب يرتدي قبعة قشية وكان يدفع سيارة ستوتز خفيفة حمراء إلى الحافة. تلألأت عيناه في عينيها، وهز رأسه للخلف مبتسما ابتسامة مقلوبة، زاما شفتيه بحيث بدتا وكأنهما تمران على وجنتها. سحب ذراع الفرامل وفتح الباب باليد الأخرى. انتزعت ناظريها بعيدا وواصلت السير بذقن مرفوع. تمايلت حمامتان بعنقين باللون الأخضر المعدني وقوائم مرجانية مبتعدتين عن طريقها. كان ثمة رجل هرم يلاطف سنجابا مرشدا إياه إلى بعض الفول السوداني في حقيبة ورقية.
كسا اللون الأخضر بالكامل «سيدة الكتيبة المفقودة» على حصان أبيض ... أخضر، أخضر، داندرين ... كليدي جوديفا بشعرها الذي يغطيها في شموخ.
اعترض طريقها التمثال الذهبي للجنرال شيرمان. توقفت لوهلة تنظر إلى فندق بلازا الذي ومض بياضا كعرق اللؤلؤ ... أجل، هذه هي شقة إلين أوجليثورب ... صعدت إحدى حافلات ميدان واشنطن. مرت أمامها الجادة الخامسة لعصر يوم الأحد صدئة، ومغبرة، ومحمومة. كان هناك رجل عارض في الجانب المظلل يرتدي قبعة عالية ومعطفا من الصوف. كانت المظلات، والفساتين الصيفية، والقبعات القشية زاهية في ضوء الشمس الذي ومض في الميادين فوق النوافذ العلوية للمنازل، وتمدد في شظايا براقة فوق الطلاء السميك لسيارات ليموزين وسيارات الأجرة. فاحت رائحة الجازولين، والأسفلت، والنعناع السنبلي، وبودرة التلك، والعطر من الأزواج الذين يتمايلون أقرب فأقرب معا على مقاعد الحافلة. وكانت تظهر من نوافذ المتاجر التي تمر بها الحافلة بين الحين والآخر خلف ألواح الزجاج؛ اللوحات والستائر باللون الأحمر الداكن، والكراسي الأثرية الملمعة. إنه فندق سانت ريجيس. ثم مطعم شيريز. كان الرجل الجالس بجوارها يرتدي طماق كاحل وقفازا ليموني اللون، ربما كان يعمل مشرف مبيعات في متجر. عندما مروا بكاتدرائية القديس باتريك، التقط أنفها نفحة من بخور عبر الأبواب الطويلة التي تنفتح على العتمة. ثم مطعم دلمونيكو. وأمامها، كانت ذراع شاب تتسلل حول الظهر النحيف الذي عليه قماش الفلانيلة الرمادي للفتاة بجواره. «يا إلهي، يا لحظ جو المسكين العاثر، لقد اضطر أن يتزوجها! إنه لم يتعد التاسعة عشرة من عمره.» «أظن أنك تعتقد أن في هذا حظا سيئا.» «لم أقصدنا بكلامي يا ميرتل.» «بل أراهن على أنك قصدتنا. وعلى أي حال، هل رأيت الفتاة من قبل؟» «أراهن على أنه ليس له.» «ماذا؟» «أعني الطفل.» «يا لفظاعة كلامك يا بيللي!»
إنه شارع 42. تحالف الاتحاد. نعق صوت متحذلق خلف أذنها: «لقد كان التجمع مسليا للغاية ... مسليا للغاية ... كان الجميع هنا. كانت الخطب سارة على غير المعتاد؛ فقد ذكرتني بالأيام الخوالي.» فندق والدورف. «أليست هذه الأعلام رائعة يا بيللي ... ذلك العلم المرح مرفوع لأن السفير السيامي يقيم هناك. قرأت عنه في الجريدة هذا الصباح .»
عندما يحين موعد فراقنا أنا وأنت يا حبيبي، سأطبع قبلة فائقة الوصف أخيرة فوق شفتيك وأرحل ... القلب، يبدأ، الذي هو ... النعيم، هذا، وحشة ... عندما ... عندما أنا وأنت يا حبيبي ...
شارع 8. نزلت من الحافلة ودخلت قبو فندق بريفورت. جلس جورج منتظرا وظهره إلى الباب يفتح ويغلق قفل حقيبته. «أخيرا يا إلين، لقد استغرقت وقتا طويلا لتحضري ... ليس هناك كثير من الناس وقد انتظرتك ثلاثة أرباع ساعة.» «عليك ألا توبخني يا جورج؛ فقد كنت أقضي أفضل أوقات حياتي. لم أحظ بوقت جيد كهذا منذ سنوات. لقد قضيت اليوم بأكمله مع نفسي، وقد سرت طوال الطريق من شارع 105 إلى شارع 59 عبر المتنزه. لقد كان مليئا بأكثر الأشخاص مرحا.» «لا بد أنك متعبة.» ظل وجهه الضامر حيث ومضت عيناه وسط شبكة من التجاعيد الرفيعة، وأخذ يتقدم نحوها بإلحاح كمقدمة سفينة بخارية. «أعتقد أنك قضيت اليوم بأكمله في المكتب يا جورج.» «أجل؛ فقد كنت أدرس بعض القضايا. لا يمكنني الاعتماد على أحد في إنجاز الأعمال بدقة حتى الأعمال الروتينية؛ لذلك علي أن أؤديها بنفسي.» «أتعلم أنني توقعت منك أن تقول ذلك؟» «ماذا؟» «أعني حول انتظارك ثلاثة أرباع ساعة.» «أوه، تعرفين دائما الكثير يا إلين ... أتريدين بعض المعجنات مع الشاي؟» «أوه، ولكني لا أعرف شيئا عن أي شيء، تلك هي المشكلة ... أظن أنني سآخذ ليمونا من فضلك.»
صلصلت الأكواب بينهما، وعبر دخان السجائر الأزرق، اهتزت الوجوه، والقبعات، واللحى، متكررة ومخضرة في المرايا.
دندن صوت امرأة من الطاولة المجاورة: «ولكن يا عزيزي، إنها دائما العقدة القديمة ذاتها. قد يصح الأمر مع الرجال ولكنه لا يمت للنساء بصلة» ... تبعه نغمات رجل منمقة بصوت أجش: «لقد زادت نسويتك حتى شكلت حاجزا منيعا.» «وماذا إذن إن كنت محبة لذاتي؟ الرب يعلم أنني عانيت من أجل ذلك.» «إنها النار التي تطهر يا تشارلي ...» كان جورج يتحدث، محاولا لفت انتباهها: «كيف حال جوجو الشهير؟» «أوه، دعنا لا نتحدث عنه.» «كلما قل كلامنا عنه كان ذلك أفضل، أليس كذلك ؟» «اسمع يا جورج، لا أريدك أن تسخر من جوجو؛ في جميع الأحوال هو زوجي حتى نفترق بالطلاق ... كلا، لا أريدك أن تضحك. على أي حال فأنت غر وبسيط لدرجة لا يمكنك معها فهمه. فجوجو رجل شديد التعقيد فضلا عن كونه شخصا مأساويا.» «بالله عليك دعينا لا نتحدث عن الأزواج والزوجات. المهم يا عزيزتي إلين هو أنني وأنت نجلس هنا معا دون أن يزعجنا أحد ... اسمعي، متى سنتقابل مرة أخرى، أعني نتقابل حقا ...» «لن نتعمق في أمرنا هذا، أليس كذلك يا جورج؟» ضحكت ضحكة هادئة وفمها في كأسها. «أوه، ولكني لدي الكثير لأقوله لك. أريد أن أسألك عن أشياء كثيرة للغاية.»
نظرت إليه ضاحكة ومعدلة من وضع قطعة صغيرة من تارت الكرز كانت قد تناولت منها قضمة واحدة بين سبابتها الوردية المربعة الطرف وإبهامها. «أهكذا تفعل عندما يكون لديك مذنب تعيس في منصة الشهود؟ كنت أظن الأمر أقرب إلى الآتي: أين كنت في ليلة الحادي والثلاثين من فبراير؟» «ولكني جاد للغاية، ذلك ما لا يمكنك فهمه، أو ما لا تريدين فهمه.»
وقف شاب بجوار الطاولة، مترنحا بعض الشيء، ينظر للأسفل إليهما. «مرحبا يا ستان، من أين أتيت عليك اللعنة؟» نظر بالدوين لأعلى إليه دون أن يبتسم. «اسمع يا سيد بالدوين، أعلم أن الأمر من الفظاظة بمكان، ولكن هل لي أن أجلس إلى طاولتك قليلا؟ فهناك شخص يبحث عني ولا يمكنني مقابلته. يا إلهي، تلك المرآة! ولكنهم لن يبحثوا عني أبدا إن رأوك.» «هذا يا سيدة أوجليثورب هو ستانوود إيميري، ابن الشريك الأساسي في شركتنا.» «أوه، من الرائع للغاية مقابلتك يا سيدة أوجليثورب. لقد رأيتك ليلة أمس، ولكنك لم تريني.» «هل حضرت العرض؟» «كدت أقفز فوق أقدام الحضور، لقد كنت رائعة للغاية.»
كانت له بشرة بنية متوردة، وعينان مهمومتان تقتربان نوعا ما من جسر أنفه الحاد رخو التكوين، وفم كبير لا يسكن أبدا، وشعر بني مموج يقف مستقيما لأعلى. نظرت إلين من أحدهما إلى الآخر مقهقهة في سرها. كان ثلاثتهم متيبسين في كراسيهم.
قالت: «لقد رأيت سيدة داندرين اليوم بعد الظهيرة. لقد أبهرتني كثيرا. فهكذا بالضبط أتخيل سيدة عظيمة على حصان أبيض.» «بخواتم في أصابع يديها وأجراس في أصابع قدميها، وسيصدر عنها الأذى أينما حلت.» ردد ستان ذلك سريعا بصوت منخفض للغاية يكاد يكون غير مسموع.
قالت إلين ضاحكة: «وستصدر عنها الموسيقى أينما حلت، أليست كذلك؟» «أقول دائما الأذى.»
سأل بالدوين بصوت جاف لا ينم عن ود: «حسنا، كيف حال الكلية؟»
قال ستان متورد الوجه: «أظنها لا تزال على وضعها. أود لو أحرقوها قبل أن أعود إليها.» نهض واقفا. «اعذرني يا سيد بالدوين ... فقد كان اقتحامي شديد الوقاحة.» عندما استدار مائلا نحو إلين، اشتمت رائحة أنفاسه المعبأة برذاذ الويسكي. «أرجوك أن تعذريني يا سيدة أوجليثورب.»
وجدت نفسها تمد يدها؛ فاعتصرتها بشدة يد جافة ونحيلة. خرج بخطى متأرجحة مصطدما بنادل أثناء مروره.
انفجر بالدوين في الحديث قائلا: «لا يمكنني استيعاب ذلك الجرو اللعين. إن قلب الهرم المسكين إيميري يعتصر عليه ألما. إنه شديد الذكاء ويتمتع بشخصية جيدة وكل تلك الأمور، غير أن كل ما يفعله هو السكر والتسبب في المشكلات ... أظن أن كل ما يحتاجه هو أن يذهب إلى العمل وأن يتحلى ببعض القيم. إن امتلاك الكثير من المال هو مشكلة غالبية صبية الكليات هؤلاء ... أوه، ولكن يا إلين حمدا للرب أننا أصبحنا وحدنا مجددا. لقد كنت أعمل بلا انقطاع طوال حياتي حتى منذ أن كان عمري 14 عاما. وقد حان الوقت الذي أريد فيه أن أضع جانبا كل ذلك قليلا. أريد أن أعيش وأن أسافر وأن أفكر وأن أكون سعيدا. لا يمكننا تحمل إيقاع وسط المدينة كما اعتدت تحمله. أريد أن أتعلم كيف ألعب، وكيف أخفف عن نفسي التوتر ... وهنا يأتي دورك.» «ولكني لن أعرض نفسي للخطر من أجل أحد.» ضحكت ورمش جفناها. «دعينا نذهب خارج البلاد إلى مكان ما هذا المساء. لقد كنت أختنق طوال اليوم في المكتب. إنني أكره يوم الأحد على أي حال.» «ولكن لدي بروفة.» «يمكنك التظاهر بالمرض. سأطلب سيارة عبر الهاتف.» «يا إلهي، هذا جوجو ... مرحبا جوجو»، ولوحت بقفازها من فوق رأسها.
تقدم جون أوجليثورب، وقد وضع على وجهه بودرة التجميل وفمه ترتسم عليه ابتسامة حذرة أعلى ياقته الواقفة، بين الطاولات المزدحمة، مادا يده المضغوطة بإحكام داخل قفازه الأديمي اللون ذي الخطوط السوداء. «كيف حالك يا عزيزتي، إن هذا حقا لمن دواعي اندهاشي وسروري.» «يعرف كل منكما الآخر، أليس كذلك؟ هذا هو السيد بالدوين.»
بمزيج من الإنجليزية والفرنسية: «أستميحك عذرا إن كنت قد تطفلت عليكما ... أعني ... على محادثتكما الخاصة.» «لا شيء من هذا القبيل، اجلس وسنتناول شرابا معا جميعا ... كنت أتوق لتوي لرؤيتك حقا يا جوجو ... بالمناسبة، إن لم يكن لديك أي شيء آخر تفعله هذا المساء، فيمكنك التسلل إلى المسرح لبعض الوقت. أريد أن أعرف رأيك في قراءتي للدور ...» «بالطبع يا عزيزتي، فلا يمكن لشيء أن يسعدني أكثر من ذلك.»
بجسد متوتر بالكامل أرجع جورج بالدوين ظهره ويده قابضة على ظهر كرسيه. قطع كلماته بحدة كما تقطع المعادن: «أيها النادل ... ثلاث كئوس من السكوتش على الفور لو سمحت.»
أراح أوجليثورب ذقنه على الكرة الفضية في قمة عصاه. واستهل الحديث قائلا: «إنها الثقة يا سيد بالدوين، الثقة بين الزوج وزوجته شيء جميل حقا. إنها لا تتأثر بالمكان والزمان. إذا ذهب أحدنا إلى الصين لألف سنة، فلن يغير ذلك في عاطفتنا قيد أنملة.» «كما ترى يا جورج، مشكلة جوجو هي أنه قرأ كثيرا من أعمال شكسبير في شبابه ... ولكن علي أن أذهب وإلا فسيصرخ ميتون في موبخا مرة أخرى ... تحدثا عن العبودية الصناعية. حدثه يا جوجو عن العدالة.»
نهض بالدوين. توردت وجنتاه بعض الشيء. وقال وأسنانه مطبقة: «أتسمحين لي أن أرافقك إلى المسرح؟» «لا أسمح مطلقا بأن يرافقني أحد إلى أي مكان ... وأنت يا جوجو، عليك أن تظل واعيا دون سكر كي تراني وأنا أمثل.»
في الجادة الخامسة، كانت السحب الوردية والبيضاء متراصة بعضها فوق بعض في ريح خفاقة جلبت الانتعاش بعد الحديث المتخم وخنقة دخان التبغ وشراب الكوكتيل . لوحت في سعادة لسائق سيارة الأجرة مودعة وابتسمت له. ثم وجدت أن عينين قلقتين تنظران إلى عينيها بجدية من وجه بني مرفوع الحاجبين. «انتظرت لأراك تخرجين. هل يمكنني أنا أرافقك لمكان ما؟ إن سيارتي الفورد عند الناصية ... أرجوك.» «ولكني ذاهبة إلى المسرح فحسب. لدي بروفة.» «حسنا، دعيني أصطحبك إلى هناك.»
شرعت في ارتداء قفازها بتمعن. «حسنا، ولكنه عبء ثقيل عليك.» «لا بأس. يمينا من هنا ... كانت وقاحة كبيرة مني أن أقطع طريقك بتلك الطريقة، أليس كذلك؟ ولكن تلك قصة أخرى ... على أي حال فقد قابلتك. اسم سيارتي الفورد هو دينجو، ولكن تلك قصة أخرى أيضا ...» «بصرف النظر عن أي شيء، فمن اللطيف مقابلة شاب لديه مشاعر إنسانية. ليس هناك شباب لديهم مشاعر إنسانية في نيويورك.»
أصبح وجهه قرمزيا عندما مال لتشغيل السيارة. «أوه، إنني صغير السن للغاية.»
نفث المحرك، وبدأ العمل مصدرا زئيرا. قام من مكانه وأغلق صمام الوقود بيده الطويلة. «سيقبض علينا على الأرجح؛ فخافض الصوت في السيارة مفكوك وقد يتعطل.»
مرا في شارع 54 على فتاة تسير الهوينى عبر الزحام ممتطية حصانا أبيض، كان شعرها الكستنائي يتدلى في تموجات زائفة متساوية فوق الصهوة الطباشيرية للحصان وفوق الحلس ذي الحافة المذهبة حيث الأحرف الخضراء القرمزية الأطراف للعلامة التجارية «داندرين».
غنى ستان وهو يضغط على بوق السيارة: «خواتم في أصابع يديها وأجراس في أصابع قدميها، وستعالج قشرة الشعر أينما ظهرت.»
الفصل الثاني
جاك ذو السيقان الطويلة الذي أتى من البرزخ
وقت الظهيرة في يونيون سكوير. تصفيات. نريد أن ننتهي من بيع كل ما لدينا. مضطرون للبيع بالخسارة. يجثو الصبية الصغار على الأسفلت المغبر يلمعون الأحذية ذات النعل المسطح، والأحذية ذات الكعوب العالية، والأحذية ذات الأزرار، والأحذية الكلاسيكية. تشرق الشمس كالهندباء على أطراف كل زوج من الأحذية لمع لتوه. من هنا يا فتى، يا سيد، يا آنسة، يا سيدتي، خلف المتجر تشكيلتنا الجديدة من التويد الراقي بأعلى جودة وأقل سعر ... يا سادة، يا آنسات، يا سيدات، أسعار مخفضة ... مضطرون للبيع بالخسارة. نريد أن ننتهي من بيع كل ما لدينا.
تسلل ضوء الظهيرة خافتا في مطعم للتشوب سوي الصيني. وسمعت الموسيقى الهندوستانية المكتومة. يتناول بيض الفو يونج، وتتناول هي الشاو مين. يرقصان وفماهما ممتلئان، حيث تلتصق كنزتها الزرقاء الضيقة ببذلته السوداء الملساء، وتجعدات شعرها المعالجة بالأكسجين فوق شعره الأسود الأملس.
في شارع 14 يعلو نشيد معركة الجمهورية، المجد المجد ها هو الجيش قادم، وتمشي الفتيات بخطوات كبيرة، المجد المجد، تلمع الآلات في أيدي عظام الأبدان، في زيهم الأزرق، إنها فرقة جيش الخلاص.
بأعلى جودة وأقل الأسعار. نريد أن ننتهي من بيع كل ما لدينا. مضطرون للبيع بالخسارة.
من ليفربول، الباخرة البريطانية رالي، القبطان كتلويل، 933 حزمة، 881 صندوقا، 10 سلات، 8 رزم من المنسوجات: 57 صندوقا، 89 حزمة، 18 سلة من الخيوط القطنية: سقطت 156 حزمة من اللبات: 4 حزم من الأسبستوس: 100 جراب من البكرات ... •••
توقف جو هارلاند عن الكتابة على الآلة الكاتبة ونظر لأعلى إلى السقف. كانت أطراف أصابعه محتقنة. وفاحت في المكتب رائحة كريهة من الصمغ وقوائم الشحن والرجال في قمصانهم التي لا يرتدون شيئا فوقها. عبر النافذة المفتوحة، كان بإمكانه أن يرى جزءا من الجدار القاتم لأحد المناور ورجلا بقناع عيون أخضر يحدق في الفراغ من النافذة. وضع ساعي المكتب أشقر الشعر رسالة قصيرة على ركن مكتبه: سيقابلك السيد بولوك في الساعة الخامسة و10 دقائق. تملكت حلقه غصة صلبة؛ سيرفدني. شرعت أصابعه في الكتابة مجددا:
من جلاسكو، الباخرة الهولاندية دلفت، القبطان ترومب، 200 حزمة، 123 صندوقا، 14 برميلا صغيرا ...
تجول جو هارلاند في متنزه باتري حتى وجد مكانا فارغا في أحد المقاعد، ثم ترك نفسه ليرتمي عليه. كانت الشمس تغرق في بخار زعفراني مائج خلف نيوجيرسي. حسنا، لقد انتهى الأمر. جلس طويلا يحدق في غروب الشمس كما لو كان يحدق في صورة بغرفة انتظار طبيب أسنان. تنبعث جدائل كبيرة من الدخان من زورق قطر مار ملتفة لأعلى سوداء وقرمزية أمام الزورق. جلس محدقا إلى غروب الشمس، منتظرا. تلك 18 دولارا و50 سنتا كانت معي من قبل، ناقص 6 دولارات لإيجار الغرفة، ودولار و84 سنتا لغسيل الملابس، و4 دولارات و50 سنتا أدين بها لتشارلي، المجموع 7 دولارات و84 سنتا، 11 دولارا و84 سنتا، 12 دولارا و34 سنتا من 18 دولارا و50 سنتا، يتبقى 6 دولارات و16 سنتا، ويجب علي العثور على وظيفة جديدة في غضون 3 أيام إن امتنعت فيها عن الشراب. يا إلهي، ليت حظي يتغير؛ لقد كان لي حظ وافر في الأيام الخوالي. كانت ركبتاه ترتجفان، وكان ثمة شعور بحرقة مثيرة للغثيان في أعماق معدته.
يا لها من فوضى عارمة ألحقتها بحياتك يا جوزيف هارلاند! تبلغ من العمر الخامسة والأربعين وليس لديك أصدقاء أو معك سنت ننعم به على نفسك.
كان شراع القارب أحادي الصاري مثلثا وقرمزيا عندما أبحر في اتجاه الرياح على بعد بضع أقدام من الممشى الأسمنتي. انحنى شاب وشابة معا عندما مرت ذراع المحرك الخفيف متأرجحة. كانت الشمس قد أكسبتهما لونا برونزيا، وكان لهما شعر أصفر بيضه الطقس. عض جو هارلاند شفتيه ليمسك نفسه عن البكاء عندما ابتعد القارب أحادي الصاري إلى داخل ظلمة الخليج التي تنعم بمسحة من الشفق. يا إلهي، إني بحاجة لشراب.
يقول مرارا وتكرارا: «أليست جريمة؟ أليست جريمة؟» حتى أجفل الرجل الجالس إلى يساره. أدار جو هارلاند رأسه، وقد كان للرجل وجه أجعد أحمر وشعر فضي. أمسك بالجريدة المفتوحة على صفحة الدراما والمشدودة بين راحتيه المتسختين. «ترتدي هؤلاء الممثلات الشابات جميعا ملابس مكشوفة بهذا الشكل ... عجبا، فليتركونا في حالنا.» «ألا تحب مشاهدة صورهن في الجرائد؟» «أقول عجبا ليتركونا في حالنا ... إذا لم يكن لديك عمل أو مال، فما الفائدة منهن؟» «حسنا، الكثيرون يحبون مشاهدة صورهن في الجرائد. أنا عن نفسي كنت أفعل ذلك في الأيام الخوالي.»
زعق بوحشية: «كان لدينا عمل في الأيام الخوالي ... أليس لديك عمل الآن؟» هز جو هارلاند رأسه. «حسنا، ماذا سيحدث بحق الجحيم؟ عليهن أن يتركوك وحدك، أليس كذلك؟ لن تكون هناك وظائف حتى يحل الشتاء ويبدأ جرف الثلوج.» «ماذا ستفعل حتى ذلك الوقت؟»
لم يجب الرجل الهرم. انحنى مرة أخرى فوق الجريدة محدقا ومتمتما. «جميعهن يرتدين ملابس مكشوفة ، إنها جريمة، صدقني.»
نهض جو هارلاند وغادر.
اقترب الليل، وكانت ركبتاه متيبستين من الجلوس ساكنا لوقت طويل. وهو يسير ضجرا، شعر بكرشه يشنجه حزامه المحكم. يا جواد الحرب الهرم المسكين، إنك بحاجة لبعض الشراب للتفكير في الأمور. خرجت نفحات من رائحة الجعة عبر بابين متأرجحين. بالداخل، كان وجه الساقي كتفاحة خمرية فوق رف من خشب الماهوجني من أرفف أركان الحانة. «أعطني جرعة من الجاودار.» لسع الويسكي حلقه ساخنا وعبقا. هذا الشيء يشعرني بكياني. دون أن يتناول الشراب المعتدل اللاحق، اتجه مباشرة إلى الغداء المجاني وتناول شطيرة من لحم الهام وزيتونة. «دعني أتناول جرعة أخرى من الجاودار يا تشارلي. فهذا الشيء يشعرني بنفسي. لقد توقفت عن تناوله كثيرا، وهذا ما جعلني أشعر أنني لست على ما يرام. لا يمكنك تخيل ما كنت عليه بالنظر إلي الآن يا رفيقي، ولكنهم كانوا يطلقون علي ساحر وول ستريت، وما هي إلا إحدى صور السيطرة العجيبة للحظ على أمور البشر ... أجل يا سيدي بكل سرور. حسنا، لنشرب من أجل الصحة والعمر المديد وليذهب الجالب للنحس إلى الجحيم ... إنه يصنع منك رجلا ... حسنا، أعتقد أنه لا يوجد أحد منكم أيها السادة هنا لم يقدم على المخاطرة في وقت أو آخر، وكم منكم لم يرجع عليه ذلك بمزيد من الحزن والحكمة! هذا مثال آخر على السيطرة العجيبة للحظ على أمور البشر. لكن هذه لم تكن الحال معي؛ فلعشر سنوات يا سادة لعبت في سوق البورصة، لعشر سنوات لم تترك فيها يدي شريط جهاز أسعار البورصة ليلا أو نهارا، ولعشر سنوات لم أخسر سوى ثلاث مرات حتى آخر وقت. سأخبركم بسر أيها السادة. سأخبركم بسر مهم للغاية ... أعط أصدقائي الجيدين جدا هؤلاء جرعة أخرى من الشراب يا تشارلي، تحية مني، واسكب جرعة لنفسك ... يا إلهي، إنه يدغدغ الحلق في المكان المناسب ... أيها السادة، هذا مثال آخر على السيطرة العجيبة للحظ على أمور البشر. إن سر حظي يا سادة ... وهو صحيح أؤكد لكم؛ إذ يمكنكم التأكد منه بأنفسكم من مقالات الصحف، والمجلات، والخطب، والمحاضرات التي قدمت في تلك الأيام، وحتى من رجل، اتضح مؤخرا أنه وغد قذر، كتب عني قصة بوليسية أسماها سر النجاح، والتي يمكنكم أن تجدوها في مكتبة نيويورك العامة إن كنتم مهتمين بالبحث في الأمر ... كان سر نجاحي ... وعندما تسمعون إليه ستضحكون فيما بينكم وتقولون إن جو هارلاند قد ثمل، جو هارلاند أحمق هرم ... أجل ستفعلون ... لعشر سنوات أؤكد لكم أنني كنت أتاجر بالهامش، وأشتري بالكامل، وغطيت أسهما لم أكن لأسمع عنها، وكنت أربح في كل مرة. لقد تكومت لدي الأموال. كنت أمتلك أربعة بنوك في راحة يدي. بدأت أعرف طريقي إلى الحلوى والكوتابركا، ولكني كنت سابق عهدي في ذلك ... غير أنكم تائقون لمعرفة سري، تظنون أنه كان بإمكانكم الاستفادة منه ... حسنا، لم يكن بإمكانكم ذلك ... لقد كانت رابطة عنق حريرية زرقاء مغزولة صنعتها أمي لي عندما كنت طفلا صغيرا ... لا تضحكوا، اللعنة عليكم ... كلا، لا أبتدع شيئا. فما هذا إلا مثال آخر على السيطرة العجيبة للحظ. في اليوم الذي ساهمت فيه مع رجل آخر لتوزيع ألف دولار على سكة حديد لويزفيل وناشفيل بالهامش، كنت أرتدي ربطة العنق تلك. وقد ارتفع السهم بمقدار 25 نقطة في 25 دقيقة. كانت تلك هي البداية. ثم بدأت ألاحظ تدريجيا أن الأوقات التي لم أكن أرتدي فيها ربطة العنق تلك كانت هي الأوقات التي خسرت فيها المال. تقدمت كثيرا في العمر وأصبحت رثة الهيئة، فحاولت حملها في جيبي. ولكنها لم تفعل أي شيء. فكان علي ارتداؤها، هل تستوعبون الأمر؟ ... البقية هي الحكاية القديمة الأزلية يا سادة ... كانت هناك فتاة، تبا لها، وقد أحببتها. أردت أن أريها أنه ليس ثمة شيء في العالم لن أفعله من أجلها فأعطيتها إياها. وتظاهرت أن الأمر كان مزحة وأخذت الأمر بمرح، هأ، هأ، هأ. قالت عجبا إنها ليست جيدة، إنها بالية تماما، وألقت بها في النار ... ما هذا إلا مثال آخر ... ألن تقدم لي شرابا آخر يا صديقي؟ وجدت نفسي خالي الوفاض على حين غفلة بعد ظهيرة هذا اليوم ... أشكرك يا سيدي ... آه، ذلك الشراب يحرق الحلق مجددا.» •••
في عربة المترو المكتظة، كان ساعي البريد ملاصقا ظهره ظهر امرأة شقراء طويلة تفوح منها رائحة حدائق الأبنية المقدسة التي تحوي تمثالا للعذراء مريم. المرافق، والأمتعة، والأكتاف، والأرداف تتمايل مقتربة بعضها من بعض مع كل ترنح للقطار السريع المصرصر. كانت قبعة شركة ويسترن يونيون المتعرقة التي كان يرتديها قد تلقت لكمة أمالتها فوق رأسه. إذا كانت معي امرأة مثل تلك، امرأة مثلها تستحق أن يسرق المرء القطار من أجلها، تنطفئ الأنوار، ويتعطل القطار. كان بإمكاني أن أحظى بها لو كانت لدي الجرأة والمال. عندما تباطأ القطار سقطت عليه، أغلق عينيه، ولم يتنفس، وكانت أنفه مدفونة في عنقها. توقف القطار. حمله سيل من البشر إلى خارج الباب.
مصابا بالدوار ترنح في الهواء وكتل الضوء الوامضة. كان شارع برودواي بالأعلى يعج بالمارة. إذ تسكع البحارة في ثنائيات وثلاثيات عند ناصية شارع 96. تناول لحم الهام وشطيرة من نقانق الكبد في متجر بقالة. كان للمرأة خلف طاولة البيع شعر سمني اللون مثل الفتاة التي كانت في المترو، غير أنها كانت تفوقها وزنا وتكبرها سنا. دخل المصعد وهو لا يزال يمضغ كسرة الشطيرة الأخيرة وصعد إلى الحديقة اليابانية. جلس يتفكر قليلا والنافذة تومض أمام عينيه. يا إلهي، سيعجبون من رؤية ساعي بريد هنا يرتدي هذه الثياب. من الأفضل أن أفر من هنا. سأذهب لتسليم البرقيات.
أحكم شد حزامه وهو ينزل الدرج. ثم مشى متراخيا في برودواي إلى شارع 105 وشرقا نحو جادة كولومبوس، مراقبا الأبواب، وسلالم الطوارئ، والنوافذ، والأفاريز أثناء سيره. هذا هو المكان المناسب. فالأنوار الوحيدة المضاءة في الطابق الثاني. رن جرس باب الطابق الثاني. طقطق مزلاج الباب. فصعد الدرج راكضا. أخرجت رأسها امرأة ذات شعر خفيف ووجه حمره الانحناء فوق الموقد. «برقية لسانتيونو.» «لا يوجد أحد هنا بهذا الاسم.» «معذرة يا سيدتي، لا بد أنني رننت الجرس الخطأ.»
أوصد الباب في أنفه. انشد وجهه المتراخي الشاحب بغتة. ركض رشيقا على أطراف أصابعه صاعدا الدرج إلى البسطة العليا، ثم صعد السلم الصغير إلى الباب المسحور. صرصر المزلاج عندما سحبه للخلف. فحبس أنفاسه. وبمجرد أن وصل إلى السطح الذي تتراكم عليه بقايا الرماد، أغلق الباب المسحور برفق. علت المداخن في صفوف نافرة في كل مكان حوله، سوداء أمام وهج الأضواء القادمة من الشارع. تقدم رابضا بحذر إلى حافة المنزل الخلفية، وتسلق المزراب نزولا إلى سلم الطوارئ. عندما هبط خدش قدميه أصيص زهور. كل شيء مظلم. زحف عبر النافذة إلى غرفة مكتومة تفوح منها رائحة نسائية، فسل يده أسفل وسادة سرير غير مرتب، وبجانب منضدة سكب بعضا من بودرة الوجه، وبارتجافات دقيقة فتح الدرج، حيث وجد ساعة يد، ودبوسا غرس في إصبعه، ودبوس زينة، وشيئا تجعد في الزاوية الخلفية، لقد كان أوراقا نقدية، لفافة من الأوراق النقدية. اهرب، ليست لديك فرص الليلة. نزل سلم الطوارئ إلى الباب التالي. ليس ثمة ضوء. نافذة أخرى مفتوحة. هذا أمر في غاية السهولة. الغرفة نفسها، ولكنها هذه المرة تفوح منها رائحة الكلاب والحشرات، مع نفحة من رائحة مخدر. رأى صورته نحيلة مضطربة في زجاج المنضدة، فوضع يده في وعاء من الدهان البارد، ومسحه في بنطاله. تبا. انطلقت صيحة من شيء ناعم وأزغب أسفل قدمه. وقف يرتجف في وسط الغرفة الضيقة. كان الكلب الصغير ينبح عاليا في أحد الأركان.
أضاءت الغرفة فجأة. وقفت فتاة عند فتحة الباب تصوب مسدسا نحوه. وكان ثمة رجل خلفها. «ماذا تفعلين؟ يا إلهي، إنه ساع من ويسترن يونيون ...» شكل الضوء تشابكا نحاسي اللون حول شعرها، وحدد جسمها تحت الكيمونو الحريري الأحمر. ظهر الشاب خلفها بالغ النحافة وبني اللون في قمصيه المفتوح الأزرار. «ما الذي تفعله في هذه الغرفة؟» «أرجوك يا سيدتي، إن الجوع هو ما دفعني إلى ذلك، إنه الجوع وأمي العجوز المسكينة تتضور جوعا.» «أليس هذا عجيبا يا ستان؟ إنه لص.» لوحت بالمسدس. «اخرج إلى الردهة.» «أجل يا سيدتي، سأفعل كل ما تأمرين به، ولكن لا تسلميني للشرطة. تذكري أمي العجوز التي سيعتصر الحزن قلبها .» «حسنا، ولكن إذا كنت قد أخذت شيئا فلا بد أن تعيده.» «صدقا، لم تسنح لي الفرصة.»
ارتمى ستان على كرسي يضحك بلا توقف. «يا لك من حمقاء يا إيلي ... لم أتخيل منك ذلك.» «حسنا، ألم أمثل هذا المشهد طوال الصيف الماضي؟ ... سلم مسدسك.» «لا يا سيدتي، أنا لا أحمل مسدسا.» «حسنا، أنا لا أصدقك ولكني أظن أنني سأتركك ترحل.» «فليباركك الرب يا سيدتي.» «ولكن لا بد أنك تتكسب من عملك كساعي بريد.» «لقد رفدوني الأسبوع الماضي يا سيدتي، وما دفعني إلى ذلك سوى الجوع.»
نهض ستان. «لنعطه دولارا ونطرده من هنا.»
عندما خرج من الباب أعطته الدولار.
قال بصوت مختنق: «يا إلهي، إنك بيضاء.» أمسك بيدها مقبلا إياها وبورقة النقود، وبينما كان منحنيا على يدها يقبلها اختلس النظر إلى جسدها من أسفل ذراعها عبر الكم الحريري الأحمر المتدلي. عندما نزل الدرج، ولا يزال مرتجفا، نظر للخلف ورأى الرجل والفتاة واقفين متجاورين يحوط كل منهما الآخر بذراعه ويراقبانه. كانت عيناه ممتلئتين بالدموع. ودس الدولار في جيبه.
إذا استمررت أيها الفتى في رقتك مع النساء فستجد نفسك في هذا الفندق الصيفي الصغير أعلى النهر ... ولكنك كنت رقيقا للغاية. مشى مصفرا بصوت منخفض إلى القطار السريع وأخذ قطارا إلى شمال المدينة. وكان بين الحين والآخر يضع يده فوق جيبه الخلفي ليتحسس لفافة النقود. ركض صاعدا إلى الطابق الثالث لمبنى سكني تفوح منه رائحة السمك المقلي وغاز الفحم، ورن ثلاثا جرس الباب الزجاجي الملطخ. انتظر قليلا وطرق الباب برفق.
جاء خافتا صوت امرأة يئن: «أهذا أنت يا مويكي؟» «لا، أنا نيكي شاتز.»
فتحت الباب امرأة حادة الوجه وذات شعر مخضب بالحناء. كانت ترتدي معطفا من الفرو فوق ملابس داخلية من الدانتيل المكشكش. «كيف الحال يا فتى؟» «بحق المسيح، لقد أمسكت بي سيدة جميلة للغاية أثناء قيامي بعملية صغيرة، وماذا تظنينها قد فعلت؟» تبع السيدة، متحدثا بحماس، إلى غرفة طعام متآكلة الجدران. وكانت على الطاولة كئوس متسخة وزجاجة من ويسكي جرين ريفير. «لقد أعطتني دولارا ونصحتني أن أكون فتى جيدا.» «أفعلت هذا بحق الجحيم؟» «هذه ساعة يد.» «إنها ماركة إنجرسول، أنا لا أعد هذه ساعة يد.» «حسنا، ركزي ضوء مصباحك على هذه.» أخرج لفافة النقود. «أليست هذه لفافة خس؟ ... ورب السماء إنها آلاف.» «دعني أر.» انتزعت النقود من يده، وجحظت عيناها. «أنت أيها الفتى المجنون.» ألقت باللفافة على الأرض وشبكت يديها تهزهما في إيماءة يهودية. «يا للهول، إنها أموال المسرح. إنها أموال المسرح أيها المغفل الساذج، اللعنة عليك ...» •••
جلسا متجاورين مقهقهين على حافة السرير. وعبر الرائحة المكتومة للغرفة المليئة بالقطع الحريرية الصغيرة للملابس الساقطة من فوق الكراسي، جاءت انتعاشة خافتة من باقة زهور صفراء موضوعة على المنضدة. التف ذراع كل منهما حول كتف الآخر؛ فانحنى نحوها ليقبل فمها. قال لاهثا: «يا له من لص!» «ستان ...» «إيلي.»
تمكنت من إطلاق همسة عبر حلقها المسدود: «أظن أنه قد يكون جوجو. فذلك تصرف يشبهه تماما أن يأتي مختلس النظر متسللا.» «لا أستوعب يا إيلي كيف يمكنك العيش معه من بين جميع الناس. أنت جميلة للغاية. لا يمكنني أن أتخيلك في كل هذا.» «لم يكن الأمر بهذه الصعوبة قبل أن أقابلك ... وصدقا فإن جوجو لا بأس به. كل ما هنالك أنه شخص غريب الأطوار وتعيس للغاية.» «ولكنك تنتمين إلى عالم آخر يا صغيرتي المسكينة ... يجب أن تعيشي في الطابق العلوي بمبنى وول وورث في شقة من الزجاج المزخرف وأزهار الكرز.» «ستان، إن ظهرك بني بالكامل.» «ذلك من أثر السباحة.» «أمبكرا هكذا؟» «أظن أن معظمه متبق من الصيف الماضي.» «أنت شاب محظوظ تماما. لم أتعلم السباحة جيدا قط.» «سأعلمك ... اسمعي، يوم الأحد في الصباح الباكر سننطلق بدينجو في سيارتي ونذهب إلى لونج بيتش. بعيدا حيث لا يوجد أحد على الإطلاق ... حتى إنه لن يكون عليك أن ترتدي لباس السباحة.» «يعجبني كم أنت نحيف وصلب يا ستان ... إن جوجو أبيض ورخو حتى يكاد يشبه النساء.» «أرجوك لا تتحدثي عنه الآن.»
نهض ستان مباعدا بين ساقيه ومزررا قميصه. «اسمعي يا إيلي، لنخرج من هنا ونحتس شرابا ... كم أكره أن أقابل أحدا بالصدفة وأضطر أن ألفق له الأكاذيب ... أراهن أنني سأضربه في رأسه بكرسي.» «لدينا متسع من الوقت. لا أحد يأتي إلى المنزل هنا قبل الساعة الثانية عشرة ... فما أنا عن نفسي هنا إلا لأنني مصابة بصداع شديد.» «هل يروق لك صداعك الشديد يا إيلي؟» «أنا مولعة به يا ستان.» «أظن أن ذلك اللص من ويسترن يونيون قد علم ذلك ... يا إلهي ... سرقة، وخيانة زوجية، وهروب عبر سلالم الطوارئ، والتسلل كالقطط عبر المزاريب. يا للهول، يا لها من حياة رائعة!»
أمسكت إلين بقوة بيده أثناء نزولهما الدرج معا. وأمام صناديق البريد في المدخل الأجرد، انتزعها على حين غرة من كتفيها وأرجع رأسها للوراء وقبلها. انطلقا لاهثين في الشارع نحو برودواي. كانت يده أسفل ذراعها، فضغطت عليها بشدة فوق ضلوعها بمرفقها. من بعيد، كما لو كانت تشاهد حوض سمك عبر زجاج سميك، نظرت إلى الوجوه، والفواكه في نوافذ المتاجر، وصفائح الخضراوات، جرار الزيتون، والكنيفوفيات عند بائع الورد، والصحف، واللافتات الكهربائية المارة بجوارها. عندما عبرا تقاطع الطرق، لفحت وجهها نفحة هواء قادمة من النهر. رمقات أعين مباغتة ولامعة كالكهرمان الأسود أسفل قبعات قشية، وتحركات الأذقان، والشفاه النحيفة، والشفاه العابسة، والشفاه الحادة الحواف، وظلال الجوع أسفل عظام الوجنات، ووجوه الفتيات والشباب التي تخفق أمامها بأنوف مدسوسة في وجوههم كالعث، يطاردها كل ذلك وهي تسير بخطى متساوية مع خطى ستان في جو الليل الأصفر الواخز.
جلسا إلى طاولة في مكان ما. عزفت أوركسترا ألحانا. «كلا يا ستان، لا يمكنني أن أشرب أي شيء ... اشرب أنت.» «ولكن يا إيلي أليس لديك شعور رائع كما لدي؟» «بل أروع ... ولكن كل ما هنالك أنني لا يمكنني تحمل الشعور بما هو أكثر من ذلك ... لا يمكنني أن أركز ذهني على كأس فترة طويلة لأحتسيه.» جفلت من لمعان عينيه.
كان ستان سكران ومنتشيا. ظل يردد: «أود لو تنبت الأرض جسدك فاكهة تؤكل.» كانت إلين طوال الوقت تلوي بشوكتها بعض فتات الريربيت الويلزي البارد المتجلد. شعرت أنها بدأت تسقط مترنحة كأفعوانية في هوات مرتعدة من التعاسة. وفي بقعة مربعة في وسط الأرضية، كان هناك أربعة أزواج يرقصون التانجو. نهضت واقفة. «ستان سأذهب إلى المنزل. يجب أن أستيقظ مبكرا وأتدرب طوال اليوم. اتصل بي في الثانية عشرة في المسرح.»
أومأ وسكب لنفسه جرعة أخرى من الشراب. وقفت خلف كرسيه لثانية تنظر لأسفل إلى رأسه الطويل ذي الشعر الأشعث الكثيف. كان ينطق بأبيات لنفسه بصوت خفيض. «رأيت أفروديت ذات البياض العنيد، فاحشة الجمال، رأيت الشعر المنسدل والقدمين العاريتين، يا للهول ... تضوي كنار المغيب فوق مياه الغرب. رأيت القدمين المستعصيتين ... تبا للأبيات السافونية الرائعة.»
بمجرد وصولها شارع برودواي مرة أخرى، شعرت بالبهجة الشديدة. وقفت في منتصف الشارع تنتظر العربة المتوجهة إلى شمال المدينة. مرت بها مسرعة بالصدفة سيارة أجرة. من اتجاه البحر محمولا على الريح الدافئة أتى الأنين الطويل لصافرة السفينة البخارية. شعرت بداخلها وكأن أقزاما يبنون أبراجا لامعة هشة طويلة. انقضت العربة تطن فوق القضبان، ثم توقفت. عندما صعدت إليها، تذكرت منتشية رائحة جسد ستان وهو يتعرق بين ذراعيها. تركت نفسها لتتهاوى على المقعد، قاضمة شفتيها حتى لا تطلق صريخا. يا إلهي يا لفظاعة أن يكون المرء مغرما! كان هناك أمامها رجلان بوجهين صغيري الذقن كوجوه السمك الأزرق يتحدثان جذلين، ويضربان ركبيهما البدينة. «أقول لك يا جيم إن إيرين كاسيل هي من تأسرني ... فرؤيتها وهي ترقص رقصة وان ستيب تجعلني أسمع ملائكة تهمهم.» «كلا، إنها شديدة النحافة.» «ولكنها حققت أكبر نجاح على الإطلاق في برودواي.»
نزلت إلين من العربة ومشت نحو الشرق بمحاذاة الأرصفة الخاوية الخربة لشارع 105. تسربت زخمة أغطية الأسرة من المربعات السكنية للمنازل ذات النوافذ الضيقة. وعلى طول المزاريب فاحت رائحة صناديق القمامة كريهة حامضة. وفي ظل عتبة أحد الأبواب تثبت بإحكام رجل وفتاة يتمايل كل منهما في ذراع الآخر. تمنى كل منهما للآخر ليلة سعيدة. فابتسمت إلين فرحة. أكبر نجاح في برودواي. كان وقع الكلمات عليها كمصعد يرفعها فاقدة الوعي، لأعلى إلى ارتفاع مهيب حيث تطقطق اللافتات الكهربائية بالأضواء القرمزية، والذهبية، والخضراء، وحيث حدائق الأسقف البراقة التي تنبعث منها رائحة زهور الأوركيد، والخفقان البطيء لرقصات التانجو وهي ترتدي فستانا ذهبيا مخضرا ويرقص معها ستان، بينما يهب إيقاع تصفيق الملايين كعاصفة ثلجية تجتاحهما. أكبر نجاح في برودواي.
كانت تصعد الدرج الأبيض مرتقية. وأمام الباب المكتوب عليه ساندرلاند، شعرت بنفور مثير للغثيان يخنقها فجأة. فوقفت طويلا وقلبها يدق مؤرجحة المفتاح أمام قفل الباب. ثم برعشة دفعت المفتاح في القفل وفتحت الباب. ••• «إنه غريب الأطوار يا جيمي، غريب.» جلس هيرف وروث برين يقهقهون أمام أطباق المعجنات في الركن الداخلي لمطعم ذي سقف منخفض يعج بالضوضاء. «يبدو أن جميع الممثلين من ذوي الأداء المتكلف حول العالم يتناولون الطعام هنا.» «جميع الممثلين من ذوي الأداء المتكلف حول العالم يقيمون في مبنى السيدة ساندرلاند.» «ما آخر الأخبار من البلقان؟» «البلقان، اسم يليق بالمبنى ...»
من وراء قبعة روث القشية السوداء وزهور الخشخاش الحمراء حول قمتها، نظر جيمي إلى الطاولات المكدسة حيث تبدو الوجوه كما لو كانت تتحلل إلى لطخات خضراء رمادية. شق نادلان ذوا وجهين شاحبين كوجهي صقرين طريقهما عبر ثرثرة الحديث المتذبذبة بين الحضور. كانت روث تنظر إليه بعينين ضاحكتين متسعتين بينما كانت تقضم عودا من الكرفس.
كانت تهمهم قائلة: «مرحى، أشعر بالسكر الشديد. إن الشراب يشق طريقه مباشرة إلى رأسي ... أليس هذا فظيعا؟» «حسنا، ما هذا الحدث المروع الذي وقع في شارع 105؟» «أوه، لقد فاتك ذلك. لقد كانت مسخرة ... خرج الجميع إلى الردهة، السيدة ساندرلاند بشعرها في لفائف تجعيد الشعر، وكاسي باكية، وتوني هانتر واقفا عند بابه بثياب نومه الوردية ...» «من هو؟» «مجرد ممثل يافع ... ولكن يا جيمي يجب أن أخبرك بأمر توني هانتر. إنه شاذ غريب الأطوار يا جيمي، شاذ غريب الأطوار.»
شعر جيمي بتورد وجهه، فمال فوق صحنه. وقال بتصنع: «أوه، أهذه مشكلته؟» «لقد صدمت يا جيمي، اعترف أنك صدمت.» «لا لم أصدم، تكلمي، أكملي نميمتك.» «أوه يا جيمي، يا لك من مرح ... حسنا، كانت كاسي تبكي وكان الكلب الصغير ينبح، وكانت الآنسة كوستيلو المختفية عن الأنظار تصرخ طلبا للشرطة، وتفقد الوعي بين ذراعي رجل غير معروف يرتدي بذلة رسمية. وكان جوجو يلوح بمسدس، مسدس صغير من النيكل، ربما كان مسدس مياه على ما أظن ... والوحيدة التي بدت في صوابها كانت إلين أوجليثورب ... كما تعلم مثل تلك الصورة ذات الشعر البني ذي المسحة البرتقالية التي أبهرت ذهنك الصغير.» «صدقا يا روث لم ينبهر ذهني الصغير بذلك.» «حسنا، في النهاية تعب المغرم من لعب دوره الكبير، وصاح بنبرات رنانة بأن قال انزع مني السلاح وإلا قتلت هذه المرأة. وأمسك توني هانتر بالمسدس وأخذه إلى غرفته. ثم انحنت إلين أوجليثورب قليلا كما لو كانت تحيي الجماهير، وتمنت ليلة سعيدة للجميع، وغاصت في غرفتها في رباطة جأش وسكينة ... أيمكنك تخيل الأمر؟» خفضت روث فجأة من صوتها، قائلة: «ولكن كل شخص في المطعم يستمع إلينا ... وحقيقة أظن أن الأمر كريه للغاية. ولكن الأسوأ لم يأت بعد. بعدما قرع المغرم الباب مرتين ولم يجبه أحد، اقترب من توني وأدار عينيه كفوربس روبرتسون في دور هاملت، ووضع ذراعه حوله، وقال يا توني هل يمكن لرجل محطم أن يتوق لملاذ في غرفتك الليلة ... صدقا لقد ذهلت للغاية.» «هل أوجليثورب مثله كذلك؟»
أومأت روث عدة مرات. «فلماذا إذن تزوجته؟» «عجبا، بوسع تلك الفتاة أن تتزوج من عربة ترام لو ظنت أن بإمكانها الحصول على أي شيء منها.» «صدقا يا روث أظن أنك أسأت تقييم الأمر برمته.» «أنت بريء للغاية على تلك الحياة يا جيمي. ولكن دعني أنهي سرد الحكاية المأساوية ... بعد أن اختفى هذان الاثنان وأغلقا الباب خلفهما أقيم الحفل الأكثر فظاعة مما يمكنك تخيله على الإطلاق في الردهة. بالطبع عانت كاسي من نوبات هيستيرية طوال الوقت ليزيد ذلك الموقف إثارة. عندما رجعت إليها حيث كنت أحضر لها بعضا من روح النشادر الحلو من الحمام، وجدت الحفل مقاما. كانت مهزلة. أرادت الآنسة كوستيلو طرد الزوجين أوجليثورب في الفجر، وقالت إنها سترحل إن لم يرحلا، وظلت السيدة ساندرلاند تئن قائلة إنه خلال سنوات خبرتها الثلاثين في المسرح لم تر قط مشهدا كهذا، والرجل الذي كان يرتدي البذلة الرسمية، والذي كان بنجامين أردن ... تعلم أنه لعب دور إحدى الشخصيات في عرض «زهر العسل جيم» (هانيساكل جيم) ... قال إنه يظن أن أشخاصا كتوني هانتر يجب أن يكونوا في السجن. عندما ذهبت إلى الفراش كان الشجار لا يزال مستمرا. أوتتعجب أنني نمت متأخرا بعد كل ذلك وجعلتك تنتظر، يا عزيزي المسكين، لمدة ساعة في صيدلية تايمز؟» •••
وقف جو هارلاند في غرفة نومه المقتطعة من الردهة ويداه في جيبيه يحدق في لوحة «الأيل في الخليج» المعلقة بانحناء في منتصف الجدار الزنجاري الذي أحاط بالسرير الحديدي المتقلقل. وتحركت أصابعه الباردة كالمخالب بلا هوادة في عمق جيبي بنطاله. كان يتحدث جهارا بصوت هادئ خفيض: «أوه، كما تعلم فالأمر برمته مجرد حظ، ولكن تلك هي المرة الأخيرة التي أحاول فيها سؤال آل ميريفال. كان بإمكان إيميلي أن تعطيني المال لولا ذلك البخيل الهرم اللعين. إذ تتمتع إيميلي بلين القلب. غير أن أحدا منهما لا يبدو أنه يدرك أن هذه الأمور لا تكون دائما بسبب خطأ ارتكبه المرء. فالأمر كله يعتمد على الحظ، ويعلم الرب أنهم كانوا يأكلون من عمل يدي في الأيام الخوالي.» كان صوته المتصاعد يصر في أذنيه. زم شفتيه معا. إنك في طريقك إلى الجنون أيها الهرم. سار ذهابا وإيابا في المساحة الضيقة بين السرير والجدار. ثلاث خطوات. ثلاث خطوات. ذهب إلى حوض الغسيل وشرب من الإبريق. كان مذاق المياه كالخشب العفن ودلاء النفايات. بصق الرشفة الأخيرة. أحتاج إلى شريحة طرية من لحم الخاصرة وليس إلى المياه. سحق قبضتيه المطبقتين معا. يجب أن أفعل شيئا. يجب أن أفعل شيئا.
ارتدى معطفه كي يخفي المزق في مقعدة بنطاله. وخز الكمان الرثان معصميه. أصدرت السلالم المظلمة صريرا. كان شديد الضعف حتى إنه أمسك بالدرابزين خوفا من أن يسقط. انبثقت السيدة العجوز من الباب منقضة عليه في الردهة السفلية. كان الجرذ قد تلوى جانبا فوق رأسها كما لو كان يحاول الهرب أسفل تسريحة البومبادور الرمادية. «متى ستدفع لي أجرة الأسابيع الثلاثة يا سيد هارلاند؟» «إنني لتوي في طريقي لصرف شيك الآن يا سيدة بودكوفيتش. لقد كنت كريمة للغاية في هذا الأمر الصغير ... وربما يهمك أن تعرفي أنني قد تلقيت وعدا، كلا بل تأكيدا بخصوص منصب جيد جدا بداية من يوم الإثنين.» «لقد انتظرت ثلاثة أسابيع ... لن أنتظر أكثر من ذلك.» «ولكن يا سيدتي العزيزة أنا أؤكد لك بشرفي باعتباري رجلا نبيلا ...»
بدأت السيدة بودكوفيتش تهز كتفيها. ارتفع صوتها رفيعا ومنوحا كصوت عربة فول سوداني. «ادفع لي تلك الدولارات الخمسة عشر وإلا فسأؤجر الغرفة لشخص آخر.» «سأدفع لك مساء اليوم.» «في أي ساعة؟» «في السادسة.» «حسنا. رجاء أعطني المفتاح.» «ولكني لا يمكنني فعل ذلك. افترضي أنني جئت متأخرا.» «لذلك أريد المفتاح. لقد سئمت الانتظار.» «حسنا، فلتأخذي المفتاح ... آمل أن تستوعبي أنه بعد هذا السلوك المهين سيكون من المستحيل علي أن أظل أسفل سقفك.»
ضحكت السيدة بودكوفيتش بصوت أجش. «حسنا، عندما تدفع لي الدولارات الخمسة عشر يمكنك أن تأخذ حقيبتك.» وضع المفتاحين المحكمين الربط معا بسلسلة في يدها البيضاء وأغلق الباب بشدة وخرج مسرعا إلى الشارع.
عند ناصية الجادة الثالثة توقف ووقف مرتعشا في أشعة الشمس الحارة لفترة ما بعد الظهيرة، والعرق يتصبب خلف أذنيه. كان في حالة من الضعف الشديد لم يقو معها على لعن حاله. سمع دويا متواصلا عندما مر قطار مرتفع. ومرت الشاحنات فارمة الطريق بمحاذاة الجادة، ترفع غبارا تتصاعد منه رائحة الجازولين وروث الخيل المدوس. المتاجر ومطاعم الوجبات السريعة معبأة برائحة الهواء المكتوم. بدأ في السير ببطء شمالا في اتجاه شارع 14. أوقفه عند إحدى النواصي رجل كثير التجاعيد تفوح منه رائحة السيجار كما لو أن ثمة يدا هبطت على كتفه. وقف برهة ينظر في المتجر الصغير مشاهدا الأصابع النحيفة الملطخة لعامل لف السيجار وهي تعدل أوراق التبغ الهشة خارج السيجار. تذكر رائحة سيجار روميو وجولييت أرجويس موراليس فأخذ نفسا عميقا . القطع الماهر لورق القصدير، والنزع الدقيق للشريط، والمطواة العاجية الصغيرة التي تقطع الطرف بعناية كما لو كانت تقطع قطعة من اللحم، ورائحة أعواد الثقاب الشمعية، والاستنشاق الطويل للدخان العميق المتمايل اللاذع الذكي الرائحة. والآن يا سيدي فيما يخص هذا الأمر الصغير المتعلق بمسألة رابطة شمال المحيط الهادي الجديدة ... دس قبضتيه في الجيبين الرطبين لمعطف المطر الذي كان يرتديه. أتأخذ مفتاحي تلك الحيزبون العجوز؟ سأريها، تبا لذلك. ربما يكون جو هارلاند مفلسا ومشردا، ولكنه لا يزال محتفظا بكبريائه.
سار غربا بمحاذاة شارع 14 ودون أن يتوقف للتفكير أو أن يفقد أعصابه دخل إلى متجر صغير للأدوات المكتبية في قبو أحد الأبنية، وخطا عبره بخطوات كبيرة متعثرة إلى ظهر المبنى، ووقف يتأرجح عند عتبة باب مكتب صغير حيث كان يجلس عند منضدة ذات غطاء دوار رجل بدين أصلع ذو عينين زرقاوين.
قال هارلاند ناعقا: «مرحبا يا فلسيوس.»
نهض الرجل البدين مبغوتا. «يا إلهي، أليس هذا السيد هارلاند؟» «جو هارلاند بنفسه يا فلسيوس ... ولكن في حال سيئة بعض الشيء.» ماتت ضحكة مكتومة في حلقه. «حسنا سأكون ... اجلس يا سيد هارلاند.» «شكرا يا فلسيوس ... إنني مفلس ومشرد يا فلسيوس.» «لا بد أنها قد فاتت خمس سنوات منذ رأيتك آخر مرة يا سيد هارلاند.» «لقد كانت بالنسبة إلي خمس سنوات بغيضة ... أعتقد أن الأمر كله يعتمد على الحظ. لن يتبدل حظي على هذه الأرض مرة أخرى. أتتذكر عندما كنت أعود من البورصة بعد أن أقضي يومي في المضاربة، وكنت أحدث جلبة في أنحاء المكتب؟ وقد أعطيت العاملين بالمكتب مكافأة جيدة للغاية في الكريسماس ذلك العام.» «لقد كانت كذلك بالفعل يا سيد هارلاند.» «لا بد أنها حياة مملة أن تصبح صاحب متجر بعد أن كنت تضارب في وول ستريت.» «إنها أقرب لذائقتي يا سيد هارلاند؛ فليس ثمة من مدير علي هنا.» «وكيف حال زوجتك وأبنائك؟» «بخير، بخير؛ ولدي الأكبر تخرج لتوه في المدرسة الثانوية.» «أذلك الذي أسميته على اسمي؟»
أومأ فلسيوس. كانت أصابعه البدينة كالنقانق تنقر في غير هوادة حافة المنضدة. «أتذكر أنني عزمت أن أفعل شيئا لهذا الولد في يوم ما. يا له من عالم غريب!» أطلق هارلاند ضحكة واهنة. شعر بعتمة مرتجفة تتسلل لأعلى خلف رأسه. أمسك ركبته بإحكام بكلتا يديه وشد عضلات ذراعيه. «أترى يا فلسيوس، هذه هي الحال ... وجدت نفسي الآن في موقف شديد الإحراج ماليا ... وأنت تعلم كيف تكون تلك الأمور.» كان فلسيوس يحدق مباشرة أمامه في المنضدة. وكانت قطرات العرق تنهمر من رأسه الأصلع كالخرز. «نمر جميعا بفترات من الحظ السيئ، أليس كذلك؟ أريد قرضا صغيرا للغاية لبضعة أيام، بعض دولارات ليس إلا، لنقل 25 حتى أتدبر بعض الأمور ...» «لا يمكنني القيام بذلك يا سيد هارلاند.» نهض فلسيوس. «معذرة ولكن المبادئ لا تتجزأ ... لم أقترض أو أقرض سنتا واحدا في حياتي. أثق أنك تستوعب ذلك ...» «حسنا، لا تقل شيئا أكثر من ذلك.» نهض هارلاند خانعا. تمتم ناظرا لأسفل إلى حذائه المتصدع: «أعطني ربع دولار ... لم أعد شابا كما كنت، ولم أتناول شيئا منذ يومين.» مد يده ليثبت نفسه بالمنضدة.
رجع فلسيوس للخلف إلى الجدار كما لو كان يتجنب صفعة. مد يده بقطعة بخمسين سنتا على أصابع سميكة مرتجفة. أخذها هارلاند، واستدار دون أن ينبس وشق طريقه بصعوبة في المتجر. سحب فلسيوس من جيبه منديلا بنفسجي الحواف، ومسح جبهته ثم رجع إلى خطاباته مرة أخرى.
لقد أقدمنا على لفت الانتباه في المجال إلى أربعة منتجات فاخرة جديدة من منتجات مولين التي شعرنا بعظيم الثقة في توصية عملائنا بها، بوصفها تشكل مبادرة جديدة وفريدة تماما في فن صناعة الورق ... •••
خرجا من دار السينما تطرف أعينهما في بقع الوهج الكهربائي البراق. شاهدته كاسي وهو ينهض مباعدا بين قدميه، وبعينين منهمكتين يشعل سيجارا. كان ماكافوي رجلا مكتنزا ذا عنق لحيم، وكان يرتدي معطفا بزر واحد، وصدرية ذات نقشة مربعة، ووضع دبوسا على شكل رأس كلب في ربطة عنقه المقصبة.
كان يهدر قائلا: «كان ذلك عرضا سيئا أو إنني لا أفهم شيئا.» «ولكني أحببت أفلام السفر يا موريس؛ فعندما رقص هؤلاء الفلاحون السويسريون شعرت أنني هناك.» «الطقس حار جدا هنا ... أرغب في شراب.»
أنت قائلة: «لقد وعدتني يا موريس.» «أوه، كل ما كنت أقصده هو ماء الصودا، لا تغضبي.» «أوه، ذلك سيكون رائعا. أحب الصودا.» «ثم سنذهب للتنزه في سنترال بارك.»
تركت رموشها تهبط فوق عينيها، وهمست دون النظر إليه: «حسنا يا موريس.» وضعت يدها بارتجاف بعض الشيء في ذراعه. «فقط لو لم أكن مفلسا تماما.» «لا يهمني يا موريس.» «بل يهمني أنا.»
دخلا إلى إحدى الصيدليات في دوار كولومبوس. كانت الفتيات في الفساتين الصيفية الخضراء، والبنفسجية، والوردية، والشباب في القبعات القشية ينتظرون في ثلاثة صفوف أمام ماكينة الصودا. وقفت في الخلف وشاهدته بإعجاب وهو يشق طريقه عبرهم. كان هناك رجل يميل فوق طاولة خلفها متحدثا إلى فتاة، وكانت حافتا قبعتيهما تخفيان وجهيهما. «قلت له أن يكف عن ذلك الهراء ثم استقلت.» «تعني أنك رفدت.» «لا، صدقا لقد استقلت قبل أن تتسنى له الفرصة ... إنه كريه، أتعلمين؟ لم أستطع تحمل كذبه أكثر من ذلك. عندما كنت أسير خارجا من المكتب نادى علي ... دعني أقل لك شيئا أيها الشاب. لن تحقق شيئا حتى تتعلم من هو الزعيم في هذه المدينة، حتى تتعلم أنه ليس أنت.»
كان موريس يمد لها يده بصودا آيس كريم الفانيليا. «تغوصين في أحلام اليقظة مجددا يا كاسي؛ أي أحد سيظن أنك مدمنة كوكايين.» باسمة وبعينين وامضتين، أخذت الصودا، وكان هو يشرب الكوكا كولا. قالت: «شكرا.» لعقت بشفتين مضمومتين قليلا من الآيس كريم. «أوه يا موريس، إنه لذيذ.»
غاص المسار بين البقع المستديرة للمصابيح القوسية في الظلام. عبر الأضواء المائلة والظلال الواكزة أتت رائحة أوراق الشجر المغبرة، والعشب المدوس بالأقدام، ومن حين لآخر نفحة من رائحة منعشة من التربة الرطبة أسفل الجنبات.
هتفت كاسي: «أوه، أحب الأجواء في المتنزه.» كتمت تجشؤا. «أتعلم يا موريس، كان ينبغي ألا أتناول ذلك الآيس كريم. إنه يصيبني دائما بالغازات.»
لم ينبس موريس. وضع ذراعه حولها وقربها بشدة منه حتى يحك فخذه فخذها أثناء سيرهما. «إذن لقد مات بيربونت مورجان ... ليته ترك لي بضعة ملايين.» «أوه يا موريس، ألن يكون هذا رائعا؟ أين سنعيش؟ في سنترال بارك ساوث.» وقفا ينظران للخلف على وميض اللافتات الكهربائية الذي أتى من دوار كولومبوس. إلى اليسار كان بإمكانهما رؤية الأضواء المسدلة عليها الستائر في نوافذ المباني السكنية ذات الواجهات البيضاء. نظر خلسة يمينا ويسارا ثم أهداها قبلة. عوجت فمها وأبعدته من أسفل فمه.
همست لاهثة: «لا ... قد يرانا أحد.» كان شيء كالمولد يطن ويطن بالداخل. «لقد احتفظت بالأمر يا موريس لأخبرك به. أظن أن جولدوايزر سيعطيني دورا مميزا في العرض التالي. إنه مدير المسرح للشركة الجوالة الثانية وله نفوذ كبير لدى الشركة. لقد رآني وأنا أرقص بالأمس.» «وماذا قال؟» «قال إنه سيرتب لي لقاء مع الرئيس الكبير يوم الإثنين ... أوه ولكن يا موريس ليس هذا الشيء الذي أريد فعله؛ إنه مبتذل وبشع ... أريد أن أقدم أشياء جميلة. أشعر بأن لدي شيئا بداخلي، شيئا لا أعرف له اسما يخفق بداخلي، طائرا جميل الريش في قفص حديدي فظيع.» «هذه هي مشكلتك، لن تتقدمي أبدا؛ فأنت آنفة للغاية.» نظرت لأعلى إليه بعينين تفيضان بالدمع تلألأتا في الضوء الأبيض المغبر للمصباح القوسي. «أوه، لا تبكي أرجوك. لم أقصد شيئا.» «أنا لست آنفة معك يا موريس، أليس كذلك؟» تنشقت ومسحت عينيها. «أنت كذلك بعض الشيء، وذلك ما يؤلمني. فأنا أحب أن تدللني فتاتي الصغيرة وأن تغازلني قليلا. الحياة يا كاسي ليست كلها متعة ومرحا.» عندما كانا يسيران متقاربين بشدة شعرا بصخر أسفل أقدامهما. كانا فوق تلة صغيرة من الجرانيت برزت منها الجنبات من جميع النواحي. ومضت في وجهيهما الأضواء الآتية من المباني المطوقة في نهاية المتنزه. تباعد كل منهما ممسكا بيد الآخر. «انظري إلى تلك الفتاة الصهباء بالأعلى في شارع 105 ... أراهن أنها لن تكون آنفة عندما تكون مع شاب وحدهما.» «إنها امرأة مروعة، إنها لا تبالي بسمعتها ... أوه، أظن أنك بشع.» أجهشت بالبكاء مجددا.
سحبها نحوه بقوة، مقربا إياها منه بصلابة بيديه المبسوطتين على ظهرها. شعرت بساقيها ترتجفان وخارت قواها. كانت تتساقط عبر مهاو متداخلة الألوان من الضعف. لم يتركها فمه تلتقط أنفاسها.
همس منتزعا نفسه بعيدا عنها: «انتبهي.» سارا متعثرين في المسار عبر الجنبات. «لا أظنه كذلك.» «ما هو يا موريس؟» «شرطي. يا إلهي، تبا لا يوجد مكان نذهب إليه. ألا يمكننا أن نذهب إلى غرفتك؟» «ولكنهم سيروننا جميعا يا موريس.» «ومن يبالي؟ فالجميع يفعل هذا في ذلك المنزل.» «أوه، أكرهك عندما تتحدث بهذه الطريقة ... فالحب الحقيقي شيء نقي تماما وجميل ... أنت لا تحبني يا موريس.» «كفي عن انتقادي، ألا يمكنك فعل ذلك يا كاسي لدقيقة ...؟ اللعنة، إنه الجحيم أن يكون المرء مفلسا.»
جلسا على مقعد في الضوء. كانت السيارات خلفهما تنزلق بسير مهسهس منتظم في مجريين بمحاذاة الطريق. وضعت يدها على ركبته وغطاها بيده البدينة القصيرة والكبيرة. «أشعر يا موريس أننا سنكون سعداء للغاية من الآن، أشعر بذلك. ستجد وظيفة جيدة، أثق في ذلك.» «ليست لدي ثقة كبيرة في الأمر ... لم أعد صغير السن كما كنت يا كاسي. ليس لدي أي وقت لأضيعه.» «عجبا، بل أنت في عنفوان الشباب، أنت لم تتعد الخامسة والثلاثين يا موريس ... وأنا أظن أن شيئا رائعا سيحدث. سأحصل على فرصة للرقص.» «ينبغي أن تكسبي أكثر مما تكسبه تلك الصهباء.» «إلين أوجليثورب ... إنها لا تكسب الكثير. ولكني أختلف عنها. فأنا لا يعنيني المال؛ بل أريد أن أعيش من أجل الرقص.» «أنا أريد المال. بمجرد حصولك على المال يمكنك أن تفعلي ما تشائين.» «ولكن يا موريس ألا تعتقد أنه بإمكانك فعل أي شيء بمجرد أن لديك الإرادة الكافية له؟ أنا أومن بذلك.» أحاط خصرها بذراعه الفارغة. رويدا رويدا تركت رأسها يسقط على كتفه. همست بشفتين جافتين: «أوه، لا أبالي.» انزلقت خلفهما سيارات الليموزين، والسيارات الخفيفة، والسيارات ذات البابين، وسيارات الصالون؛ بمحاذاة الطريق مع وميض أنوار أفعواني يركض في مجريين متواصلين متدفقين. •••
انبعث من الصوف البني رائحة كرات العثة عندما طوته. انحنت لتضعه في الصندوق ؛ فحفت طبقة من المناديل الورقية بالأسفل عندما ساوت التجاعيد بيدها. كان ضوء الشمس البنفسجي الأول خارج النافذة يزيد مصباح الضوء الكهربائي احمرارا كعين مؤرقة. اعتدلت إلين فجأة ووقفت متيبسة وذراعاها في جانبيها، وتورد وجهها. قالت: «الوضع متدن للغاية حقا.» فردت منشفة فوق الفساتين وكومت فرشا، ومرآة يد، وشباشب، وقمصانا، وصناديق المساحيق في غير نظام فوقها. ثم أغلقت بقوة غطاء الصندوق، وأحكمت غلقه ثم وضعت المفاتيح في محفظتها المسطحة من جلد التمساح. وقفت تنظر مذهولة في أنحاء الغرفة وهي تمص ظفرا مكسورا. كان ضوء الشمس الأصفر يغمر بانحراف قدور المداخن والأفاريز في المنازل بالجهة المقابلة للشارع. وجدت نفسها تحدق في الحروف البيضاء «إيه. تي. أوه.» في طرف صندوقها. قالت مجددا: «كل شيء متدن للغاية على نحو مثير للاشمئزاز.» ثم أمسكت بمبرد أظافر من فوق المنضدة وكشطت الحرف أوه، وهمست مطقطقة أصابعها: «مرحى.» وبعد أن ارتدت قبعة سوداء صغيرة على شكل دلو وغطاء وجه؛ كي لا يرى الناس أنها كانت تبكي، جمعت الكثير من الكتب: «مواجهة الشباب»، و«هكذا تكلم زرادشت»، و«الحمار الذهبي»، و«محادثات تخيلية»، و«أفروديت»، و«أغاني بيليتس»، و«كتاب أكسفورد للقصائد الفرنسية» في شال حريري وربطتها معا.
كان ثمة نقر خفيف على الباب. همست: «من الطارق؟»
جاء صوت باك: «إنه أنا فحسب.»
فتحت إلين الباب. «يا إلهي يا كاسي، ما الأمر؟» احتضنت كاسي إلين بشدة. «أوه يا كاسي، إنك تدبقين غطاء وجهي ... ما الأمر بحق السماء؟» «لقد كنت مستيقظة طوال الليل أفكر في التعاسة التي لا بد وأنك تعيشين فيها.» «ولكني يا كاسي لم أشعر من قبل في حياتي بالسعادة مثلما أشعر الآن.» «أليس الرجال مروعين؟» «نعم ... إنهم ألطف كثيرا من النساء على أي حال.» «يجب أن أخبرك بشيء يا إلين. أعلم أنه لا يعنيك من أمري شيء، ولكني سأخبرك على الرغم من ذلك.» «بالطبع أهتم لأمرك يا كاسي ... لا تكوني سخيفة. ولكني مشغولة للغاية الآن ... لم لا ترجعين لفراشك وتخبريني فيما بعد؟» «يجب أن أخبرك الآن .» جلست إلين فوق صندوقها صاغرة. «لقد أنهيت علاقتي بموريس يا إلين ... أليس هذا مروعا ؟» مسحت كاسي عينيها في كم روبها الخزامي اللون وجلست بجوار إلين فوق الصندوق.
قالت إلين برفق: «اسمعي يا عزيزتي. أقترح أن تنتظري لثانية، سأطلب سيارة أجرة عبر الهاتف. أريد الفرار قبل أن يصل جوجو. فقد سئمت المشاجرات.» كانت رائحة الصالة خانقة من أثر النوم ودهان التدليك. تحدثت إلين بصوت خفيض للغاية في سماعة الهاتف. جاء صوت الرجل الأجش في المرأب هادرا وسارا في أذنيها. «بالتأكيد على الفور يا آنسة.» رجعت على أطراف أصابعها واثبة إلى الغرفة وأغلقت الباب. «ظننت أنه أحبني، صدقا يا إلين. أوه، إن الرجال مروعون للغاية. كان موريس غاضبا لأنني لم أرغب في أن أعيش معه. يبدو الأمر لي خبيثا. بوسعي أن أضيء أصابعي كالشموع من أجله، وهو يعلم ذلك. ألم أفعل ذلك بالفعل طوال عامين؟ قال إنه لا يمكنه الاستمرار في علاقتنا إن لم أكن له حقا، تعلمين ما كان يقصد، وقلت إن حبنا كان من الجمال بمكان ليستمر سنوات وسنوات. يمكنني أن أظل أحبه طوال حياتي دون حتى أن أقبله. ألا تظنين أن الحب يجب أن يكون نقيا؟ ثم سخر من رقصي، وقال إنني كنت محظية شاليف وإنني فقط أتسلى به، وتشاجرنا شجارا مروعا ونعتني بألفاظ بشعة ورحل قائلا إنه لن يرجع أبدا.» «لا تحملي هما لذلك يا كاسي، سيرجع بالتأكيد.» «كلا، ولكنك مادية للغاية يا إلين. أعني أن علاقتنا قد تحطمت روحيا للأبد. ألا ترين أن ثمة شيئا روحانيا مقدسا كان بيننا وأنه قد تحطم.» أجهشت في البكاء مجددا وانضغط وجهها في كتف إلين. «ولكني يا كاسي لا أرى ما المتعة التي تحصلين عليها من كل ذلك؟» «أوه، أنت لا تفهمين. إنك حديثة السن للغاية. كنت مثلك في البداية باستثناء أنني لم أكن متزوجة ولم أكن أتجول مع الرجال. ولكني الآن أرغب في الجمال الروحاني. أريد الوصول إليه من خلال ممارستي للرقص ومن خلال حياتي، أسعى للجمال في كل مكان وظننت أن موريس أراده كذلك.» «ولكن موريس أراده بالتأكيد.» «أوه يا إلين إنك مدهشة ، وأنا أحبك كثيرا.»
نهضت إلين واقفة. «سأسرع بالنزول حتى لا يرن سائق سيارة الأجرة الجرس.» «ولكنك لا يمكنك الذهاب هكذا.» «سترين.» رفعت إلين صرة الكتب بيد واحدة، وحملت في الأخرى حقيبة مستحضرات التجميل من الجلد الأسود. «اسمعي يا كاسي، هل يمكنك أن تتلطفي وتريه الصندوق عندما يصعد لأخذه ... وهناك شيء آخر، عندما يتصل ستان إيميري أخبريه أن يتصل بي في فندق بريفورت أو لافاييت. حمدا للرب أنني لم أجر إيداعا ماليا الأسبوع الماضي ... وإن وجدت يا كاسي أي نثريات لي في المكان فلتحتفظي بها ... وداعا.» رفعت غطاء وجهها وقبلت كاسي سريعا على وجنتيها. «أوه، كيف لك أن تكوني بتلك الشجاعة حتى تذهبي وحدك هكذا؟ ... ستسمحين لي أنا وروث أن نأتي لزيارتك، أليس كذلك؟ إننا مولعتان بك للغاية. أوه يا إلين، ستحظين بحياة مهنية رائعة، أعلم ذلك.» «وعديني ألا تخبري جوجو بمكاني ... سيعرف عما قريب على أي حال ... سأتصل به خلال أسبوع.»
وجدت سائق سيارة الأجرة في الردهة ينظر إلى الأسماء فوق أجراس الأبواب. صعد كي يأخذ الصندوق. استقرت مسرورة في المقعد الأديمي اللون المغبر لسيارة التاكسي، آخذة أنفاسا عميقة من هواء الصباح المحمل بنفحات النهر. ابتسم لها سائق سيارة الأجرة ابتسامة عريضة عندما ترك الصندوق ينزلق من على ظهره فوق لوحة التحكم. «ثقيل للغاية يا آنسة.» «من المؤسف أن عليك حمل كل ذلك وحدك.» «أوه، يمكنني أن أحمل أثقل من ذلك.» «أريد أن أذهب إلى فندق بريفورت، الجادة الخامسة في شارع 8 تقريبا.»
عندما انحنى الرجل لرفع ذراع التدوير، دفع بقبعته خلف رأسه تاركا شعره المجعد الضارب إلى الحمرة ينسدل فوق عينيه. قال وهو يقفز فوق مقعده في السيارة المهتزة: «حسنا، سآخذك إلى أي مكان ترغبين.» عندما انعطفا إلى شارع برودواي المشمس والفارغ تماما، بدأ شعور من السعادة يتوقد ويتصاعد كالصواريخ داخلها. هب الهواء منعشا، مثيرا للحماسة في وجهها. تحدث إليها سائق سيارة الأجرة عبر النافذة المفتوحة خلفه. «ظننت أنك كنت تلحقين بقطار للرحيل إلى مكان ما يا آنسة.» «حسنا، أنا راحلة بالفعل إلى مكان ما.» «سيكون يوما جيدا للرحيل إلى مكان ما.» «إنني راحلة عن زوجي.» انطلقت الكلمات من فمها قبل أن تتمكن من إيقافها. «هل طردك؟»
قالت ضاحكة: «كلا، لا يمكنني أن أقول إنه فعل ذلك.» «طردتني زوجتي قبل ثلاثة أسابيع.» «كيف ذلك؟» «أغلقت الباب عندما عدت إلى المنزل في إحدى الليالي ولم تدعني أدخل. وقد غيرت القفل عندما كنت بالخارج للعمل.» «إنه شيء غريب.» «تقول إنني أسكر كثيرا. لن أرجع إليها ولن أعولها بعد الآن ... يمكنها أن تسجنني إن أرادت. أنا محق. سأحصل على شقة في الجادة الثانية والعشرين مع شخص آخر، وسنحضر بيانو ونعيش في هدوء دون أن نشغل بالا بالنساء.» «الزواج ليس بالأمر الجيد، أليس كذلك؟» «معك حق. ما يسبق الزواج جيد للغاية، ولكن الزواج نفسه يشبه الاستيقاظ بعد ليلة سكر.»
كانت الجادة الخامسة بيضاء وفارغة وقد اجتاحتها رياح هفافة. كانت الأشجار في ميدان ماديسون تتلألأ على نحو غير متوقع كسراخس في غرفة معتمة. حمل أمتعتها في فندق بريفورت بواب ليلي فرنسي ناعس. وفي الغرفة البيضاء الجدران ذات السقف المنخفض، نعس ضوء الشمس فوق كرسي قرمزي باهت بذراعين. ركضت إلين في أنحاء الغرفة كطفل صغير راكلة عقبيها ومصفقة بيديها. ورتبت بشفتين زامتين ورأس مائل مساحيقها التجميلية فوق المنضدة. ثم علقت ثياب نومها فوق كرسي وخلعت ملابسها، فلمحت نفسها في المرآة تقف عارية تنظر إلى نفسها ويداها فوق ثدييها الصغيرين المشدودين كتفاحتين.
ارتدت ثياب نومها وتوجهت ناحية الهاتف. «رجاء أرسلوا لي إناء من الشوكولاتة والأرغفة إلى غرفة 108 ... في أقرب وقت ممكن إذا سمحتم.» ثم خلدت إلى الفراش. استلقت تضحك وساقاها ممددتان ومتباعدتان في أغطية الفراش الناعمة الباردة.
كانت دبابيس الشعر تخزها في رأسها. فاعتدلت جالسة وخلعتها وهزت لفائف شعرها الثقيلة مسدلة إياها حول كتفيها. سحبت ركبتيها لأعلى إلى ذقنها وجلست تفكر. كان بإمكانها أن تسمع قعقعة شاحنة من حين لآخر آتية من الشارع . وشرع صوت دوي في الانبعاث من المطابخ أسفل غرفتها. من كل مكان حولها أتت قعقعة متزايدة تنبئ ببداية مروعة. شعرت بالجوع والوحدة. كان السرير كقارب هجرت فوقه وحيدة، وحيدة دائما، طافية فوق محيط ممتد. انتابت رجفة عمودها الفقري. فسحبت ركبتيها لأعلى أقرب إلى ذقنها.
الفصل الثالث
ضجة سريعة
رحلت الشمس إلى نيوجيرسي، أصبحت الشمس خلف مدينة هوبوكين.
تسدل الأغطية فوق الآلات الكاتبة، وتطوى المناضد ذات الأغطية اللفافة، وتصعد المصاعد فارغة، وتهبط مكدسة. الناس في حركتهم كالجزر في حي وسط المدينة، وكالفيضان في حي فلاتبوش، ومنطقة وودلاون، وشارع ديكمان، وخليج شيبسهيد، وجادة نيو لوتس، وحي كنارسي.
صحف وردية، وصحف خضراء، وصحف رمادية، «تقارير السوق الكاملة، النهائيات في مدينة هافر دي جريس». تتلوى الصحف بين الوجوه المتعبة التي أضناها العمل في المتاجر والمكاتب، وأطراف الأصابع المحتقنة، وأمشاط الأقدام المتألمة، رجال غلاظ يندسون في قطار المترو السريع. «فريق سيناتورز 8، فريق جاينتس 2، استعادة الديفا لآلئها، سرقة 800 ألف دولار أمريكي».
تنحسر الحشود في شارع وول ستريت كالجزر، وتهب كالمد في حي ذا برونكس.
غابت الشمس في نيوجيرسي.
صاح فيل ساندبورن وقرع بقبضته فوق المكتب: «يا إلهي، لا أظن ذلك ... إن أخلاق المرء ليست من شأن أحد. إن عمله هو ما يهم.» «أحقا؟» «حسنا، أظن أن ستانفورد وايت قد فعل لمدينة نيويورك أكثر مما فعله أي رجل آخر من الأحياء. لم يكن أحد يعلم بشيء يسمى العمارة قبل مجيئه ... ولذلك أطلق ثاو عليه الرصاص بدم بارد ثم هرب بفعلته ... وربي لو كان أهل هذه المدينة تجري الدماء في عروقهم لكانوا ...» «إنك تتحمس للغاية يا فيل للاشيء.» أخرج الرجل الآخر سيجاره من فمه وأرجع ظهره في كرسيه الدوار وتثاءب. «يا إلهي، أريد إجازة. يا ربي، سيكون من الجيد الذهاب مجددا إلى غابات مين القديمة.»
همهم فيل: «وماذا عن المحامين اليهود والقضاة الأيرلنديين ...» «أوه، كفى أيها الرجل الهرم.» «أنت نموذج جيد للمواطن الحريص على المصلحة العامة يا هارتلي.»
ضحك هارتلي وفرك راحة يده فوق رأسه الأصلع. «أوه، ذلك الأمر لا بأس به في الشتاء، ولكني لا أتحمله في الصيف ... يا إلهي، كل أملي هو إجازة لثلاثة أسابيع بأي حال. ما الذي يعنيني إن قتل جميع المعماريين في نيويورك ما دام ذلك لا يرفع من سعر الانتقال إلى مدينة نيو روتشيل ... لنذهب لتناول الطعام.» أثناء نزولهم في المصعد واصل فيل حديثه. «الرجل الوحيد الآخر الذي عرفته يوما وكان حقا معماريا حتى النخاع هو الهرم سبيكير، ذلك الرجل الذي عملت لديه أول ما أتيت إلى شمال البلاد، لقد كان كذلك دنماركيا صالحا. المسكين مات بالسرطان قبل عامين. لقد كان معماريا بحق. لدي في المنزل مجموعة من الخطط والمواصفات لما أسماه مبنى مشتركا ... بارتفاع 75 طابقا تتدرج للخلف في شرفات بما يشبه الحديقة في كل طابق، وفنادق، ومسارح، وحمامات تركية، وبرك سباحة، ومتاجر تجزئة، ومحطة تدفئة، ومساحة تثليج، وسوق كلها في المبنى نفسه.» «هل كان يتعاطى الكوكايين؟» «كلا، بالطبع لا.»
كانا يسيران شرقا بمحاذاة شارع 34، حيث القليل من الناس في منتصف اليوم الخانق. اندفع فيل ساندبورن فجأة قائلا: «يا إلهي! الفتيات في هذه البلدة يزددن جمالا كل يوم. أنت تحب هذه الأزياء الجديدة، أليس كذلك؟» «بالطبع. كل ما أتمناه هو أن أصبح أصغر عمرا كل عام وليس أكبر.» «أجل فكل ما يمكننا فعله نحن العجائز أن نشاهدهن مارات أمامنا.» «ذلك لحسن حظنا وإلا لاحقتنا زوجاتنا بكلاب الدموم ... يا إلهي، عندما أفكر في كل ما كان بإمكانه أن يحدث!»
عندما كانا يعبران الجادة الخامسة، وقعت عينا فيل على فتاة في سيارة أجرة. من أسفل حافة سوداء لقبعة صغيرة ذات شريط أحمر أصابت عينان رماديتان عينيه بشعاع أسود مخضر. ابتلع أنفاسه. تضاءل دوي حركة المرور من بعيد. كان ينبغي ألا تبعد ناظريها. خطوتان ويفتح الباب ويجلس بجوارها، بجوار رشاقتها جاثما كطائر فوق المقعد. قاد السائق بأقصى سرعة. كانت شفتاها مضمومتين ناحيته، وعيناها تبرقان كطيور رمادية ترفرف بعد أن أمسك بها. «أنت، انتبه ...» انهال عليه من الخلف دوي اصطدام حديد. دارت الجادة الخامسة أمام عينيه في دوامات حمراء وزرقاء وأرجوانية. يا إلهي! «لا بأس، اتركني. سأنهض وحدي في غضون دقيقة.» «تحرك إلى هناك. ارجع هناك.» سمع أصوات دق، ورأى أعمدة زرقاء من رجال الشرطة. كل من ظهره وساقاه ملطخ بدماء دافئة. تنبض الجادة الخامسة بصرخات ألم عالية. يصلصل جرس صغير مقتربا. وهم يرفعونه إلى سيارة الإسعاف، تزعق الجادة الخامسة بنزعات وصرخات مختنقة. رفع عنقه ليراها، بوهن، كسلحفاء انقلبت على ظهرها، ألم تخطف عيناي عينيها كشرك فولاذي يقضم فريسة؟ يجد نفسه يئن. ربما ظلت لترى إن كنت قد مت. يخفت صوت صلصلة الجرس، يصبح أخف أكثر فأكثر في ظلمة الليل. •••
واصل صوت صلصلة جهاز الإنذار عبر الشارع بلا توقف. وقسم نوم جيمي إلى حلقات محكمة كحبات في سلسلة. أيقظه قرع على الباب. اعتدل في السرير مترنحا ووجد ستان إيميري، وقد كان وجهه رماديا يعلوه الغبار، ويداه في جيبي معطفه الجلدي الأحمر، ويقف عند مؤخرة السرير. كان يضحك مترنحا للأمام وللخلف على مقدمتي قدميه. «يا إلهي، كم الساعة الآن؟» اعتدل جيمي في السرير فاركا عينيه بأصابعه. تثاءب ونظر حوله بامتعاض مرير إلى ورق الحائط حيث اللون الأخضر الداكن لزجاجات مياه بولند ووتر، وإلى الظل الأخضر المتفرق الذي يدخل قطرات طويلة من أشعة الشمس، وإلى المدفأة الرخامية التي سدها طبق معدني مصقول ومزين برسومات ورود محرشفة، وإلى روب الحمام الأزرق البالي فوق مؤخرة السرير، وإلى أعقاب السجائر المدهوسة في منفضة السجائر ذات الزجاج البنفسجي.
كان وجه ستان أحمر وبنيا، وكان يضحك أسفل قناع الغبار الطباشيري. كان يقول: «الحادية عشرة والنصف.» «دعنا نر، تلك ست ساعات ونصف. أظن هذا يفي بالغرض. ولكن ما الذي تفعله هنا بحق الجحيم يا ستان؟» «أليس لديك رشفة صغيرة من الشراب في أي مكان يا هيرف؟ أنا ودينجو نشعر بالعطش الشديد. لقد قطعنا كل ذلك الطريق الطويل من بوسطن، ولم نتوقف سوى مرة واحدة للتزود بالوقود والماء. ولم أنم منذ يومين. فقد أردت أن أرى ما إذا كنت سأصمد طوال الأسبوع.» «يا إلهي، أتمنى لو أن بإمكاني أن أصمد الأسبوع كله في الفراش.» «ما أنت بحاجة إليه هو وظيفة في إحدى الصحف كي تظل مشغولا يا هيرف.»
لف جيمي نفسه بحيث أصبح يجلس على حافة السرير: «ما الذي سيحدث لك يا ستان؟ ... هل ستستيقظ صباح يوم من الأيام لتجد نفسك فوق بلاطة رخامية في المشرحة؟»
انبعثت من الحمام رائحة معجون أسنان أشخاص آخرين ومطهر الكلوريد. كانت ممسحة الحمام رطبة، وطواها جيمي إلى مربع صغير قبل أن يخلع نعليه بحذر. رجت المياه الباردة الدماء في عروقه. غطس فيها رأسه وقفز ووقف يهتز كالكلب والمياه تنساب إلى عينيه وأذنيه. ثم ارتدى روب الحمام ورغى وجهه.
تدفق أيها النهر
تدفق إلى البحر
همهم نشازا وهو يقشط ذقنه بالشفرة الآمنة. يؤسفني يا سيد دروفير أنني سأترك العمل بعد الأسبوع المقبل. أجل، سأسافر إلى الخارج؛ إذ سأعمل مراسلا أجنبيا لصالح وكالة «أسوشيتد برس» في المكسيك، لصالح وكالة «يونايتد برس» في أريحا على الأرجح، مراسل في هاليفاكس لصالح «مادتيرتل جازيت». «حل الكريسماس في الحرملك والخصيان في كل مكان.» ... من ضفاف نهر السين
إلى ضفاف ساسكاتشوان.
غمر وجهه بغسول الليسترين، وحزم أدوات عنايته الشخصية في منشفته المبللة، ورجع راكضا فرحا صاعدا الدرج ذا السجادة الخضراء الذي تفوح منه رائحة الملفوف وإلى الردهة المؤدية إلى غرفة نومه. مر في منتصف الطريق على مالكة المنزل البدينة التي كانت ترتدي غطاء رأس للمنزل، والتي أوقفت مكنسة سجادها لترمق ساقيه العاريتين النحيفتين أسفل روب الحمام الأزرق بنظرة باردة. «صباح الخير يا سيدة ماجينيس.» «سيكون الطقس شديد الحرارة اليوم يا سيد هيرف.» «أظن ذلك.»
كان ستان مستلقيا في الفراش يقرأ رواية «ثورة الملائكة». «تبا، أود لو كنت أعرف بعض اللغات مثلك يا هيرف.» «أوه، لم أعد أجيد الفرنسية. لقد نسيتها أسرع مما تعلمتها.» «بالمناسبة، لقد أقلت من الكلية.» «كيف ذلك؟» «أخبرني العميد أنه يظن أنه من المستحسن ألا أحضر العام القادم ... شعر أن ثمة مجالات من شأن نشاطاتي أن تكون أكثر همة وفعالية فيها. تعرف مثل هذا الهراء.» «يا له من أمر مؤسف لعين!» «كلا، إنه ليس كذلك، لقد ضحكت حتى كدت ألفظ أنفاسي. سألته لماذا لم يطردني من قبل إن كان قد شعر بذلك. سيستشيط أبي غضبا ... ولكن لدي من المال ما يسمح لي بعدم الرجوع إلى المنزل لمدة أسبوع. لا أهتم البتة على أي حال. صدقا أليس لديك أي شراب؟» «عجبا يا ستان، كيف لعبد فقير الأجر مثلي أن يشتري مخزونا من الخمر بثلاثين دولارا أمريكيا كل أسبوع؟» «هذه غرفة حقيرة للغاية ... كان ينبغي أن تولد رأسماليا مثلي.» «الغرفة ليست بهذا السوء ... ما يجن جنوني هو ذلك الإنذار المذعور في الجهة الأخرى من الشارع الذي يرن طوال الليل.» «ذلك إنذار سرقات، أليس كذلك؟» «لا يمكن أن تكون هناك أي سرقات لأن المكان فارغ. لا بد أن الأسلاك تتداخل أو شيء من هذا القبيل. لا أعلم متى يوقف ولكنه أفقدني رشدي حقا عندما أويت إلى الفراش هذا الصباح.» «حسنا يا جيمز هيرف، أتريد أن تقول لي إنك تعود إلى المنزل غير سكران كل ليلة؟» «يجب أن يكون المرء أصم كي لا يسمع ذلك الشيء اللعين، سكران كان أو غير سكران.» «حسنا، بصفتي حامل سندات ذا جيب منتفخ، أريدك أن تخرج وتتناول الغداء. هل تدرك أنك كنت تتسكع في الحمام لمدة ساعة كاملة؟»
نزلا الدرج الذي فاحت منه رائحة صابون الحلاقة، ثم رائحة ملمع النحاس، ثم اللحم المقدد، ثم شياط الشعر، ثم القمامة وغاز الفحم. «إنك محظوظ للغاية يا هيرف إذ لم تذهب إلى كلية قط.» «ألم أتخرج في كولومبيا أيها الرجل المهم، ذلك أكبر مما يمكنك فعله؟»
انقض ضوء الشمس لاسعا وجه جيمي عندما فتح الباب. «ذلك لا يحسب.»
صاح جيمي: «يا إلهي، أحب الشمس، وددت لو كانت كولومبيا الحقيقية ...» «هل تعني كولومبيا التي في نشيد «تحيا كولومبيا»؟» «لا، بل أعني مدينة بوجوتا ونهر أورينوكو وكل هذه الأشياء.» «أعرف رفيقا جيدا ذهب إلى بوجوتا. اضطر للشرب بغزارة كي لا يموت بداء الفيل.» «أنا مستعد للمخاطرة بالإصابة بداء فيل، والطاعون الدملي، والحمى المبقعة للخروج من هذه الحفرة.» «إنها مدينة العربدة ، والتسكع، والمرح ...» «تبا للعربدة، كما نقول في شارع 133 ... هل تدرك أنني عشت طوال حياتي في هذه المدينة اللعينة باستثناء أربع سنوات في طفولتي، وأنني ولدت هنا وعلى الأرجح سأموت هنا؟ ... أفكر في أن ألتحق بالبحرية وأن أرى العالم.» «ما رأيك في السيارة دينجو في طبقة طلائها الجديدة؟» «رائعة للغاية، تبدو كمرسيدس بامتياز تحت الغبار.» «أردت أن أدهنها باللون الأحمر كسيارات الإطفاء، غير أن عامل المرأب أقنعني في النهاية بطلائها بالأزرق كسيارات الشرطة ... هل تمانع أن نذهب إلى موكين وأن نحتسي كوكتيل أفسنتين؟» «أفسنتين على الإفطار ... يا إلهي!»
سارا بالسيارة بمحاذاة شارع 23 الذي يلمع بألواح من الضوء المنعكس من النوافذ، وبأشكال عربات التوصيل المستطيلة، ومعدات النيكل التي تتخذ شكل العدد ثمانية. «كيف حال روث يا جيمي؟» «إنها على ما يرام. ولكنها لم تحصل على عمل بعد.» «انظر، هناك سيارة دايملر.»
هدر جيمي بصوت خافت. عندما انعطفا إلى الجادة السادسة أوقفهما شرطي.
وصاح: «قاطع التيار في سيارتك.» «أنا في طريقي إلى المرأب لإصلاحه. وخافض الصوت مفكوك.» «من الأفضل أن تفعل ذلك ... ستحصل على مخالفة في المرة القادمة.»
قال جيمي: «مرحى، لقد نفذت بجلدك يا ستان ... في كل شيء. لا يمكنني مطلقا أن أهرب من شيء حتى وأنا أكبر منك بثلاث سنوات.» «إنها موهبة.»
انتشرت في المطعم رائحة مبهجة من مزيج البطاطس المقلية مع الكوكتيلات والسيجار مع الكوكتيلات. كان المكان حارا ومليئا بالمحادثات والوجوه المتعرقة. «ولكن يا ستان لا تدر عينيك في إيماءة رومانسية عندما تسأل عن روث وعني ... فما نحن سوى صديقين مقربين.» «صدقا لم أعن أي شيء، ولكني آسف لما تقول على الرغم من ذلك. أظن أنه أمر فظيع.» «روث لا تهتم بأي شيء سوى تمثيلها. إنها مهووسة للغاية بالنجاح، وتمتنع عن أي شيء آخر.» «لماذا بحق السماء يريد الجميع تحقيق النجاح؟ أرغب في مقابلة شخص يريد أن يفشل. ذلك هو الشيء السامي الوحيد.» «لا ضير في الأمر إن كان لك دخل مريح.» «ذلك كله هراء ... يا إلهي، هذا كوكتيل رائع . أظن أنك يا هيرفي الشخص العاقل الوحيد في هذه المدينة. فليس لديك أي طموح.» «كيف لك أن تعرف أنه ليس لدي طموح؟» «ولكن ما الذي ستفعله بالنجاح عندما تحققه؟ لا يمكنك أن تأكله أو تشربه. أفهم بالطبع أن الأشخاص الذين لا يملكون المال الكافي لإطعام أنفسهم وما إلى ذلك عليهم أن يسعوا ويحصلوا على المال. ولكن النجاح ...» «مشكلتي أنني لا أستطيع أن أقرر ما أريده أكثر؛ لذلك فأنا أدور حول نفسي في حركة بائسة ومثبطة على نحو مربك.» «أوه، ولكن الرب قد اتخذ القرار عنك. أنت تعرف ذلك طوال الوقت، ولكنك لا تعترف لنفسك بذلك.» «أظن أن أكثر ما أريده هو أن أخرج من هذه المدينة، وأفضل أولا أن أضع قنبلة أسفل مبنى التايمز.» «حسنا، لم لا تفعل ذلك؟ ما هي إلا خطوات متتابعة.» «ولكن عليك أن تعرف في أي اتجاه تسير.» «هذا آخر ما يهم.» «ثم يلزمني المال.» «عجبا، المال هو أسهل شيء يمكنك الحصول عليه في العالم.» «ذلك للابن الأكبر لإيميري وإيميري.» «ويحك يا هيرف، ليس من العدل أن تذكر ظلم والدي في وجهي. تعلم أنني أكره هذا الأمر مثلك تماما.» «لا ألومك يا ستان؛ أنت ابن محظوظ لعين، هذا كل ما في الأمر. بالطبع أنا محظوظ أيضا، محظوظ بشدة أكثر من غالبية الناس. فقد دعمتني الأموال التي تركتها أمي حتى أصبحت في الثانية والعشرين من عمري، ولا يزال معي بعض المئات ادخرتها للأيام العصيبة، وسيحصل لي زوج خالتي، عليه اللعنة، على وظائف جديدة عندما أطرد من عملي.» «با، با، الخروف الأسود.» «أظن أنني أخاف حقا من أقاربي ... يجب أن ترى ابن خالتي جيمس ميريفال. لقد فعل كل ما كان يملى عليه أن يفعله طوال حياته وازدهر حاله كشجرة غار خضراء ... إنه نموذج الحصور الحكيم.» «آه، أظن أنك أحد هؤلاء الحصورين الحمقى.» «لقد لعب الشراب برأسك يا ستان، وبدأت تتحدث كالزنوج.» «با، با.» أنزل ستان منديل المائدة ورجع إلى الخلف يضحك وقد بح حلقه.
ازداد الوخز السقيم لرائحة الأفسنتين المنبعثة من كأس جيمي بغزارة كشجيرة ورد في خدعة سحرية. ارتشفه مجعدا أنفه. قال: «بصفتي أميل إلى النزعة الأخلاقية، أعترض. مرحى، إنه مذهل.» «ما أريده هو الويسكي والصودا لإعداد تلك الكوكتيلات.» «سأشاهدك. أنا رجل عامل. يجب أن أكون قادرا على التمييز بين الأخبار المناسبة وغير المناسبة ... يا إلهي، لا أريد الشروع في الكلام عن ذلك الأمر. الأمر برمته في غاية السخافة ... سأقول إن هذا الكوكتيل يدهشك حقا.» «لست بحاجة للتفكير في فعل أي شيء آخر بعد ظهيرة هذا اليوم غير الشراب. هناك شخص أريد أن أعرفك به.» «وأنا سأعتدل في جلستي وأكتب مقالا.» «ما هذا؟» «أوه، شيء تافه يسمى اعترافات صحفي شاب.» «اسمع، هل اليوم هو الخميس؟» «نعم.» «إذن أعلم أين ستكون.»
قال جيمي متجهما: «سأغادر كل ذلك في أسرع وقت وأذهب إلى المكسيك وأصنع ثروة ... إنني أخسر أفضل سنوات حياتي متعفنا في نيويورك.» «كيف ستصنع ثروتك؟» «البترول، الذهب، قطع الطرق، أي شيء إلا العمل في الصحافة.» «با، با، الخروف الأسود، با، با.» «توقف عن هذا الغناء.» «هيا نخرج من هنا ونأخذ دينجو لتثبيت خافض صوتها.»
نهض جيمي منتظرا عند باب المرأب الذي ينبعث منه الدخان الكثيف. تتلوى أشعة شمس بعد الظهيرة المعبأة بذرات الغبار كديدان لامعة وحارة فوق وجهه ويديه. ومضت الحجارة البنية، والطوب الأحمر، والأسفلت بأحرف اللافتات الحمراء والخضراء، ودارت قصاصات الورق في المزراب في غشاوة بطيئة حوله. كان اثنان من منظفي السيارات يتحدثان خلفه: «أجل، كنت أكسب جيدا حتى ذهبت وراء تلك المرأة الحقيرة.» «إنها بالفعل جميلة يا تشارلي. يجب أن أقلق ... لم يحدث تغيير بعد الأسبوع الأول.»
أتى ستان خلفه وسحبه إلى الشارع من كتفيه. «لن تصلح السيارة قبل الساعة الخامسة. دعنا نأخذ سيارة أجرة ... فندق لافاييت» هكذا صاح في السائق وصفع جيمي على ركبته. «حسنا يا هيرف، أيها الرجل الهرم، أتعلم ما قاله حاكم كارولاينا الشمالية لحاكم كارولاينا الجنوبية؟» «لا .» «الوقت طويل بين جرعات الشراب.»
كان ستان ينعق بصوت منخفض وهما يندفعان إلى المقهى : «با، با.» ثم صاح ضاحكا: «إيلي هنا الخراف السوداء.» تجمد وجهه متيبسا فجأة. كان يجلس إلى الطاولة أمام إلين زوجها، رافعا أحد حاجبيه عاليا للغاية والآخر يكاد يلتحم مع رموشه. وضع إبريق شاي بصفاقة بينهما.
قالت بهدوء: «مرحبا يا ستان، اجلس.» ثم واصلت الابتسام لوجه أوجليثورب. «أليس هذا رائعا يا جوجو؟»
قال ستان بصوت أجش: «هذا السيد هيرف يا إيلي.» «أوه، أنا سعيدة للغاية بمقابلتك. سمعت عنك كثيرا في منزل السيدة ساندرلاند.»
لاذوا بالصمت. كان أوجليثورب ينقر على الطاولة بملعقته. وقال بنبرة مصطنعة مفاجئة: «عجبا، كيف حالك يا سيد هيرف؟ ألا تتذكر كيف تقابلنا؟» «بالمناسبة، كيف هي الأحوال في المنزل يا جوجو؟» «ممتازة تماما، شكرا لك. كاساندرا تركها عشيقها ووقعت أكثر فضيحة مروعة لذلك الكائن المسمى كوستيلو. يبدو أنها رجعت إلى المنزل في تلك الليلة ثملة تماما، يا عزيزتي، وحاولت أن تصطحب سائق سيارة الأجرة معها إلى غرفتها، وظل الولد المسكين يعترض قائلا إن كل ما يريده هو أجرته ... كان الأمر مروعا.»
نهض ستان واقفا على قدميه بحزم وغادر.
لاذ الثلاثة بالصمت في جلستهم. حاول جيمي تجنب التحرك بعصبية في كرسيه. كان على وشك النهوض، غير أن شيئا ناعما ومخمليا في عينيها قد منعه.
سألت: «هل حصلت روث على عمل؟» «كلا.» «إنه الحظ الأكثر سوءا.» «أوه، إنه أمر مؤسف لعين. أعلم أنها تجيد التمثيل. المشكلة أنها تتمتع بالكثير من حس الدعابة الذي يعيق استفادتها من المديرين والناس.» «أوه، المسرح لعبة قذرة كريهة، أليس كذلك يا جوجو؟» «إنه الأكثر قذارة يا عزيزتي.»
لم يكن بوسع جيمي أن يحيل ناظريه عنها؛ عن يديها المربعتين الصغيرتين، وعنقها المسبوك ببريق ذهبي بين لفات شعرها النحاسي الكبيرة، وفستانها الأزرق الزاهي.
نهض أوجليثورب قائلا: «حسنا يا عزيزتي ...» «سأمكث هنا بعض الوقت يا جوجو.»
كان جيمي يحدق إلى المثلثات النحيلة للجلد اللامع الذي برز من طماق كاحل أوجليثورب الوردي اللون. محال أن يحوي هذا الطماق قدمي إنسان. نهض فجأة. «حسنا يا سيد هيرف، أيمكنك أن تجلس معي لخمس عشرة دقيقة؟ سأرحل من هنا في السادسة ونسيت أن أحضر معي كتابا ولا يمكنني السير في هذا الحذاء.»
تورد وجه جيمي وعاود الجلوس، وقال متلعثما: «يا إلهي، بالطبع يسعدني ذلك ... أقترح أن نشرب شيئا.» «سأنتهي من تناول الشاي، ولكن لم لا تطلب شراب الجن الفوار؟ أحب أن أشاهد الناس وهم يشربون شراب الجن الفوار. فهذا يشعرني بأنني في منطقة استوائية أجلس في بستان عناب منتظرة أن يأخذنا قارب نهري في جولة بأحد الأنهار التي تحفها روح الميلودراما الساخرة حيث شجر الحمى في كل مكان.» «أريد شراب الجن الفوار من فضلك أيها النادل.» •••
انهار جو هارلاند في كرسيه حتى استقر رأسه فوق ذراعيه. وبين يديه المتيبستين الملطختين، تبعت عيناه في اضطراب الخطوط في الطاولة ذات السطح الرخامي. ساد الصمت المطعم وسط الكآبة المتناثرة من مصباحين معلقين فوق طاولة البيع حيث تبقت بعض المعجنات أسفل الغطاء الزجاجي الجرسي الشكل، وجلس رجل بمعطف أبيض فوق كرسي طويل بلا ذراعين. من حين لآخر كانت عيناه في وجهه اللين الشاحب تحدق بحركة سريعة ويهمهم ناظرا حوله. وإلى الطاولة الأخيرة فوق أكتاف الناعسين المحدبة، تجعدت الوجوه كصحف قديمة إذ توسدت الأذرع. نهض جو هارلاند معتدلا وتثاءب. كانت امرأة مكومة في معطف مطر ذات وجه أحمر وعروق زرقاء أرجوانية كقطعة لحم فاسدة؛ تطلب كوبا من القهوة عند طاولة البيع. حملت الكوب بحذر بين يديها وأحضرته إلى الطاولة وجلست أمامه. أسقط جو هارلاند رأسه فوق ذراعيه مجددا. «مرحبا، هل لي بخدمة صغيرة؟» صخب صوت المرأة في أذني هارلاند كصوت احتكاك إصبع طباشير بسبورة.
زمجر الرجل خلف طاولة البيع: «حسنا، ماذا تريدين؟» أجهشت المرأة بالبكاء. «يسألني ماذا أريد ... لم أعتد الحديث إلى الهمج.» «حسنا، إذا كان هناك أي شيء تريدينه فتعالي لتأخذيه بنفسك ... أتريدين خدمة في هذا الوقت من الليل؟!»
كان بإمكان هارلاند أن يشم رائحة أنفاسها المعبأة بالويسكي أثناء بكائها. رفع رأسه وحدق إليها. لوت فمها الرخو مبتسمة وأمالت رأسها نحوه. «لم أعتد أيها السيد أن أعامل بقسوة. لو كان زوجي على قيد الحياة لم يكن ليسمح بذلك. من يظن نفسه كي يقرر أي وقت من الليل يجب ألا تخدم المرأة فيه، ذلك الفسل الحقير.» أرجعت رأسها وضحكت حتى سقطت قبعتها للخلف. «ذلك هو حاله، فسل حقير، يقضي ليلته في إهانة امرأة.»
سقطت حول وجهها بعض جدائل الشعر الرمادية المتبقية على أطرافها آثار الحناء. اتجه الرجل ذو المعطف الأبيض مباشرة إلى الطاولة. «اسمعي أيتها الأم ماكري، سألقي بك إلى الخارج إن تسببت في مزيد من الجلبة ... ماذا تريدين؟»
بكت وألقت بمؤخرة عينيها بنظرة جانبية على هارلاند، وقالت: «كعك دونات بنيكل.»
دفع جو هارلاند بوجهه إلى تجويف ذراعه مجددا وحاول أن يخلد إلى النوم. سمع الطبق يوضع وتبعه صوت قضمها للطعام دون أسنان وصوت ارتشاف من حين لآخر عندما تشرب القهوة. دخل زبون آخر وكان يتحدث عند طاولة البيع بصوت هادر منخفض. «أيها السيد، أيها السيد، أليس من الكريه أن أطلب شرابا؟» أعاد رفع رأسه ووجد عينيها الزرقاوين الغائمتين كالحليب المخفف بالماء تنظران إليه. «ماذا ستفعل الآن يا عزيزي؟» «العلم عند الرب.» «وحق السيدة العذراء وجميع القديسين سيكون من اللطيف أن أحظى بفراش وثوب جميل من الدانتيل وبرجل لطيف مثلك يا عزيزي ... أيها السيد.» «أذلك كل ما تريدينه؟» «أوه أيها السيد، لو كان زوجي المسكين حيا لما كان قد سمح لهم بمعاملتي هكذا. لقد فقدت زوجي على متن قارب جينرال سلوكوم البخاري، ويبدو لي الأمر كما لو كان بالأمس.» «يا له من محظوظ!» «لكنه مات بخطيئته دون أن يحضر موته قسيس يا عزيزي. إنه لأمر فظيع أن يموت المرء بخطيئته ...» «يا إلهي، أريد أن أنام.»
واصل صوتها في صخب رتيب خافت أثار أعصابه. «لم يكن القديسون في صفي منذ أن فقدت زوجي على متن جينرال سلوكوم. لم أكن امرأة مخلصة.» أجهشت بالبكاء مجددا. «السيدة العذراء والقديسون والشهداء ضدي، الجميع ضدي ... أوه، ليت أحدا يعاملني بلطف.» «أريد أن أنام ... ألا تخرسين؟»
انحنت وتحسست الأرض بحثا عن قبعتها. وجلست باكية تفرك عينيها بأصابعها المتورمة الملطخة بالحمرة. «أوه أيها السيد، ألا تريد أن تعاملني بلطف؟»
نهض جو هارلاند لاهثا. «اللعنة، ألا يمكنك أن تخرسي؟» انطلق صوته في عواء. «أليس هناك مكان يستطيع المرء أن يحظى فيه ببعض السكينة؟ ليس ثمة مكان يمكن الحصول فيه على أي هدوء.» سحب قبعته فوق عينيه، ودفع بيديه في جيبيه وعرج خارجا من المطعم. فوق ساحة تشاتام كانت السماء تومض بلون بنفسجي مشرئب بالحمرة عبر تعريشات مسارات القطار المرتفع. كانت الأضواء كصفين من مقابض النحاس اللامعة في حي بويري الفارغ.
مر شرطي مؤرجحا هراوته. شعر جو هارلاند بعيني الشرطي تنظران إليه. حاول أن يسير بسرعة وخفة كما لو كان ذاهبا إلى العمل. ••• «حسنا يا آنسة أوجليثورب، ما رأيك؟» «ما رأيي في ماذا؟» «أوه، كما تعلمين ... أن تحدثي ضجة سريعة.» «حسنا، لا أدري على الإطلاق يا سيد جولدوايزر.» «النساء يعلمن كل شيء ولكنهن لا يفصحن.»
جلست إلين برداء حريري باللون الأخضر النيلي على كرسي بذراعين، مبطن بالزنبرك في طرف غرفة طويلة تجلجل بالحديث وببريق الثريات والمجوهرات، الذي يتخلله نقاط من السواد اللامع المتحرك لملابس السهرة والألوان المفضضة لفساتين النساء. يمتد انحناء أنف هاري جولدوايزر على طول انحناء جبهته الصلعاء، وتبظو عجيزته الكبيرة فوق حواف مقعد ذهبي مثلث بلا ذراعين، وتقيس عيناه البنيتان الصغيرتان قسمات وجهها كهوائي وهو يتحدث إليها. تنبعث من امرأة على مقربة رائحة خشب الصندل. وتمر امرأة برتقالية الشفتين طباشيرية الوجه ترتدي عمامة برتقالية متحدثة إلى رجل ذي لحية مدببة. وتضع امرأة ذات أنف كمنقار الصقر وشعر قرمزي يديها فوق كتفي رجل من الخلف. «مرحبا، كيف حالك يا آنسة كروكشانك؟ من المدهش، أليس كذلك، أن يتواجد جميع من تعرفين دائما في المكان نفسه وفي الوقت نفسه.» تجلس إلين في الكرسي ذي الذراعين مستمعة في خمول، وبرودة بودرة التجميل فوق وجهها وذراعيها، وسماكة أحمر الشفاه فوق شفتيها، وجسدها قد خرج لتوه من الحمام عطرا كزهرة بنفسج تحت فستانها الحريري، وتحت ملابسها الداخلية الحريرية؛ فجلست تستمع حالمة وناعسة. يتشابك حولها وخز مباغت من أصوات الرجال. تجلس بيضاء لا مبالية بعيدة المنال كالمنارة. تزحف أيادي الرجال كالبق فوق الزجاج غير القابل للكسر. تتخبط نظرات الرجال وتضطرب على سطحه واهنة كالعث. ولكن في جوف معتم عميق في الداخل شيء يصلصل كصلصلة جرس سيارة إطفاء. •••
وقف جورج بالدوين بجوار طاولة الإفطار ومعه نسخة من صحيفة «نيويورك تايمز» مطوية في يده. كان يقول: «حسنا يا سيسلي، يجب أن نتعقل بشأن هذه الأمور.»
قالت بصوت مهتز أزكم: «ألا ترى أنني أحاول أن أتعقل؟» وقف ينظر إليها دون أن يجلس، طاويا طرف الصحيفة بين سبابته وإبهامه. كانت السيدة بالدوين امرأة طويلة ولديها كتلة من الشعر الكستنائي المتجعد بعناية والمتجمع فوق رأسها. جلست أمام طقم القهوة الفضي تحرك وعاء السكر بأصابعها البيضاء، كبياض الفطر، ذات الأظافر الوردية الشديدة الحدة. «لا يمكنني تحمل الأمر أكثر من ذلك على الإطلاق يا جورج.» ضمت شفتيها المرتجفتين معا بشدة. «ولكنك تبالغين يا عزيزتي ...» «كيف أبالغ؟ ... هذا يعني أن حياتنا أصبحت حزمة من الأكاذيب.» «ولكن كلا منا يا سيسلي مغرم بالآخر.» «لقد تزوجتني لمكانتي الاجتماعية، تعلم ذلك ... لقد كنت حمقاء لدرجة أوقعتني في حبك. حسنا، انتهى الأمر.» «هذا ليس صحيحا. لقد أحببتك حقا. ألا تتذكرين كم كان الأمر مروعا عندما لم يكن باستطاعتك أن تبادليني الحب حقا؟» «كم أنت قاس بذكرك ذلك ... أوه، كم هو مروع!»
دخلت الخادمة من غرفة المؤن ومعها اللحم المقدد والبيض فوق صينية. جلسا في صمت ينظر كل منهما للآخر. خرجت الخادمة سريعا من الغرفة وأغلقت الباب. أنزلت السيدة بالدوين جبهتها فوق حافة الطاولة وأجهشت في البكاء. جلس بالدوين محدقا في عناوين الصحيفة. «اغتيال الأرشيدوق سيسفر عن عواقب وخيمة». «حشد الجيش النمساوي». ذهب إليها ووضع يده على شعرها ذي التجاعيد الهشة.
قال: «أيتها المسكينة سيسلي.» «لا تلمسني.»
ركضت خارجة من الغرفة واضعة منديلها فوق وجهها. وجلس ووضع لنفسه اللحم المقدد والبيض والتوست وبدأ في تناول الطعام؛ فكان مذاق كل شيء كالورق. توقف عن الأكل لتدوين ملاحظة في دفتر مذكرات يحتفظ به في جيب صدره بجوار منديله. الاطلاع على قضية كولينز ضد أربوثنوت، محكمة استئناف نيويورك.
نما إلى مسامعه صوت خطوة في الردهة بالخارج، ثم صوت نقر ترباس. كان المصعد قد نزل لتوه. فركض نازلا أربعة طوابق. ووقعت عيناه عليها فوق حافة الرصيف عبر الزجاج وأبواب الحديد المطاوع للدهليز بالأسفل، حيث كانت تقف منتصبة ومتيبسة ترتدي قفازها. هرع خارجا وأخذها من يدها في الوقت نفسه الذي أتت فيه سيارة الأجرة. تصبب العرق كحبات الخرز فوق جبهته ووخزه أسفل ياقته. رأى نفسه واقفا هناك وفي يده منديل المائدة في مظهر باعث على السخرية، والبواب الملون يبتسم ابتسامة عريضة قائلا: «صباح الخير يا سيد بالدوين، يبدو أنه سيكون يوما جميلا.» قبض على يدها بإحكام، وقال بصوت منخفض مطبقا على أسنانه: «ثمة شيء أريد أن أخبرك به يا سيسلي. هلا انتظرت دقيقة وسنذهب إلى وسط المدينة معا؟ ...» وقال لسائق سيارة الأجرة: «انتظر خمس دقائق أرجوك. سنعود على الفور.» سار راجعا معها إلى المصعد وهو يعتصر معصمها بشدة. عندما وقفا في ردهة شقتهما، نظرت إليه فجأة مباشرة في وجهه بعينين متوقدتين جافتين.
قال برفق: «تعالي هنا يا سيسلي.» أغلق باب غرفة النوم وأوصده. «حسنا، لنتحدث عن هذا الأمر سريعا وبهدوء. اجلسي يا عزيزتي.» وضع كرسيا خلفها. جلست فجأة متيبسة كدمية ماريونيت. «حسنا، اسمعي يا سيسلي، لا يحق لك أن تتحدثي عن أصدقائي بالطريقة التي تحدثت بها. السيدة أوجليثورب صديقتي. نحتسي أحيانا الشاي معا في مكان عام تماما، وهذا كل ما في الأمر. كنت سأدعوها لزيارتنا ولكني خشيت ألا تحسني التصرف معها ... ينبغي ألا تخضعي هكذا لغيرتك الجنونية. لقد تركت لك كامل الحرية وأثق فيك تمام الثقة. وأظن أن من حقي أن أتوقع الثقة نفسها منك ... ارجعي فتاتي الصغيرة العاقلة يا سيسلي. أنت تستمعين لما يختلقه من الصورة الكاملة حفنة من العجائز الشمطاوات مكرا منهن ليجعلوك تشعرين بالتعاسة.» «إنها ليست الوحيدة.» «أقر لك بصراحة يا سيسلي أنه في وقت مبكر من زواجنا ... حدث أن ... ولكن ذلك قد انتهى قبل سنوات ... وخطأ من كان هذا؟ ... أوه يا سيسلي، إن امرأة مثلك لا يمكنها أن تفهم الحاجات الجسدية الملحة لرجل مثلي.» «ألم أفعل كل ما في وسعي؟» «يا عزيزتي، هذه الأشياء ليست خطأ أحد ... أنا لا ألومك ... إن كنت قد أحببتني حقا إذن ...» «هل ترى أن هناك سببا آخر لمكوثي هنا سواك؟ أوه، يا لك من قاس!» جلست بعينين ليس فيهما دموع محدقة في قدميها في شبشبها الرمادي المصنوع من جلد الأيل، وتلوي وتفرد بين أصابعها الحبل الرطب الذي صنعته من منديلها. «اسمعي يا سيسلي، من شأن الطلاق أن يضر كثيرا بوضعي في وسط المدينة في الوقت الراهن، ولكن إن كنت حقا لا تريدين أن تواصلي العيش معي، فسأرى ما يمكنني فعله ... ولكن في كل الأحوال يجب أن تزيدي من ثقتك في. تعلمين إنني لمولع بك. وأرجوك ألا تتحدثي مع أحد في الأمر دون الرجوع إلي. أنت لا تريدين أن تنالنا فضيحة وأن تظهر أسماؤنا في عناوين الصحف، أليس كذلك؟» «حسنا ... اتركني وحدي ... أنا لا أهتم بشيء.» «حسنا ... لقد تأخرت كثيرا. سأذهب إلى وسط المدينة بسيارة الأجرة تلك. ألا تريدين أن تأتي للتسوق أو أي شيء؟»
هزت رأسها. قبلها فوق جبينها، وأخذ قبعته القشية وعصاه من الردهة، وهرع خارجا.
قالت ممتعضة قبل أن تنهض: «أوه، إنني أكثر امرأة تعيسة.» آلمها رأسها كما لو كان محفوفا بسلك ساخن. ذهبت إلى النافذة ومالت منها في ضوء الشمس. كانت السماء الزرقاء المتوهجة عبر بارك أفنيو تبدو مطوقة بقضبان الدعامات الحمراء للمباني الجديدة. خشخشت مثبتات الدعامات التي تعمل بالبخار بلا توقف، ومن حين لآخر كانت رافعة محرك البخار تصفر، وكانت هناك صلصلة سلاسل ودعامة مركبة حديثا تحلق بالعرض في الهواء. وكان الرجال في بذلات العمل الزرقاء يتحركون في كل مكان حول السقالة. في الخلف وإلى الشمال الغربي، ارتفعت قمة لامعة من السحب مزدهرة باقتضاب كثمرة قرنبيط. أوه، يا ليتها تمطر! عندما فكرت في الأمر، سمعت هدير رعد منخفضا أعلى صخب البناء وحركة المرور. أوه، يا ليتها تمطر!
كانت إلين قد علقت لتوها ستارة من قماش منقوش بالزهور في النافذة كي تخفي بنمطه الملطخ بأزهار حمراء وأرجوانية مظهر الأفنية الخلفية المهجورة والجوانب القرميدية لمنازل وسط المدينة. في منتصف الغرفة الفارغة كانت هناك أريكة سرير تثقلها فناجين شاي، وطبق تسخين وضيافة نحاسي، ودورق قهوة، وتناثر على الأرضية الصفراء ذات الخشب الصلب قصاصات من القماش المنقوش بالزهور، ومشابك الستائر، والكتب، والفساتين، ومفارش السرير التي تعاقبت من صندوق في الركن، وانبعثت من ممسحة جديدة عند المدفأة رائحة زيت الأرز. كانت إلين تميل إلى الجدار مرتدية كيمونو بلون النرجس الأصفر، وكانت تنظر سعيدة في أنحاء الغرفة الكبيرة التي تشبه في شكلها صندوق أحذية عندما أفزعها صوت بوق سيارة. دفعت خصلة شعر عن جبهتها وضغطت على زر الترباس. كان ثمة نقر خفيف على الباب. وكانت هناك امرأة واقفة في ظلام الردهة. «عجبا يا كاسي، لم أستطع التعرف عليك. ادخلي ... ما الأمر؟» «أمتأكدة أنني لا أتطفل عليك؟» «بالطبع لا.» مالت إلين لتعطيها قبلة صغيرة خفيفة. كانت كاساندرا ويلكنز شديدة الشحوب، وكان ثمة ارتعاش قلق حول جفنيها. «يمكنك أن تعطيني نصيحة. أعلق ستائري لتوي ... انظري، هل تظنين أن الأرجواني يتماشى مع الجدار الرمادي؟ يبدو لي غريبا بعض الشيء.» «أظن أنه جميل. يا لها من غرفة جميلة! كم ستكونين سعيدة هنا!» «ضعي طبق التسخين والضيافة هذا على الأرضية واجلسي. سأعد بعض الشاي. هناك حمام ومطبخ صغير في التجويف هناك.» «هل أنت متأكدة من أنني لن أتسبب في أي متاعب لك؟» «بالطبع لا ... ولكن يا كاسي ما خطبك؟» «أوه، كل شيء ... أتيت كي أخبرك ولكني لا أستطيع. لا يمكنني أن أخبر أحدا على الإطلاق.» «أنا في غاية الحماس لهذه الشقة. تخيلي يا كاسي، هذا أول مكان أملكه على الإطلاق في حياتي. يريد أبي أن أعيش معه في مدينة باسيك، ولكني شعرت أنه لا يمكنني ذلك.» «وماذا عن السيد أوجليثورب ...؟ أوه، تلك وقاحة مني ... سامحيني يا إلين. أكاد أجن. لا أعرف ما الذي أقوله.» «أوه، جوجو عزيز علي. إنه حتى سيسمح لي بتطليقه إن أردت ... هل تطلقينه لو كنت مكاني؟» دون أن تنتظر إجابة اختفت بين الباب القابل للطي. ظلت كاسي محدبة جسمها فوق حافة الأريكة.
رجعت إلين بإبريق شاي أزرق في إحدى يديها ووعاء من المياه المتبخرة في الأخرى. «هل تريدين ليمونا أم قشدة؟ يوجد بعض السكر فوق المدفأة. هذه الأكواب نظيفة فقد غسلتها للتو. ألا تظنين أنها جميلة؟ أوه، لا يمكنك أن تتخيلي الروعة والألفة التي تشعرين بها عندما يكون لديك مكان لك وحدك. أكره العيش في فندق. صدقا، هذا المكان يجعلني أشعر بألفة شديدة ... بالطبع الشيء السخيف هو أنني على الأرجح سأضطر إلى التخلي عنه أو تأجيره بمجرد أن أنتهي من إعداده إعدادا أنيقا. سأذهب مع العرض في جولة في غضون ثلاثة أسابيع. أريد أن أخرج من هذا العرض ولكن هاري جولدوايزر لن يسمح لي.» كانت كاسي تأخذ رشفات صغيرة من الشاي بملعقتها. أجهشت بالبكاء بصوت منخفض. «يا إلهي، ابتهجي يا كاسي، ما الأمر؟» «أوه، أنت محظوظة في كل شيء يا إلين وأنا بائسة للغاية.» «عجبا، لطالما ظننت أنني ملكة الحظ السيئ، ولكن ما الأمر؟»
وضعت كاسي فنجانها ودفعت بيديها المطبقتين إلى عنقها. قالت بصوت مختنق: «إنه فقط ... أظن أنني سأرزق بمولود.» أنزلت رأسها فوق ركبتيها وبكت. «هل أنت متأكدة؟ الجميع لديهم مخاوف دائما من هذا الأمر.» «أردت أن يظل حبنا نقيا وجميلا دائما، ولكنه قال إنه لن يراني مطلقا مرة أخرى إذا لم ... وأنا أكرهه.» كانت تلفظ بالكلام كلمة كلمة بين تشنجاتها المتقطعة. «لم لا تتزوجان؟» «لا أستطيع. لن أفعل ذلك. سيفسد هذا علي حياتي المهنية.» «متى عرفت بالحمل؟» «أوه، لا بد أن ذلك كان قبل 10 أيام من غير ريب. أعلم أنه ... لا أريد أي شيء سوى احترافي للرقص.» توقفت عن البكاء واستأنفت أخذ بعض رشفات الشاي.
مشت إلين جيئة وذهابا أمام المدفأة. «اسمعي يا كاسي، لا داعي للانزعاج من الأمر، أليس كذلك؟ أعرف امرأة ستساعدك ... رجاء اجمعي شتات نفسك.» «أوه، لا يمكنني، لا يمكنني.» ... انزلق صحن الفنجان من فوق ركبتيها وانكسر إلى نصفين على الأرض. «أخبريني يا إلين، هل تعرضت لهذا الأمر من قبل؟ ... أوه، أنا في غاية الأسف. سأشتري لك صحنا آخر يا إلين.» نهضت بترنح ووضعت الفنجان والملعقة فوق المدفأة. «أوه، بالطبع تعرضت لذلك. عانيت وقتا عصيبا في بداية زواجنا ...» «أوه يا إلين، أليس كل ذلك بشعا؟ كان من شأن الحياة أن تكون غاية في الجمال والحرية والطبيعية دون ذلك ... يمكنني الشعور بالرعب يزحف إلي، يقتلني.»
قالت إلين بخشونة: «الأمور هكذا على الأرجح.»
بكت كاسي مجددا. «الرجال شديدو القسوة والأنانية.» «تناولي فنجانا آخر من الشاي يا كاسي.» «أوه، لا أستطيع. يا إلهي، أشعر بدوار مميت ... أوه، أشعر أنني سأتقيأ.» «الحمام عبر الباب القابل للطي مباشرة ثم إلى اليسار.»
جابت إلين أنحاء الغرفة مطبقة على أسنانها. أكره النساء. أكره النساء.
بعد وهلة، رجعت كاسي إلى الغرفة ووجهها أبيض مخضر تربت على جبهتها بمنشفة الوجه.
قالت إلين وهي تفرغ مكانا فوق الأريكة: «هنا، استلقي هنا أيتها المسكينة. ستشعرين الآن بكثير من التحسن.» «أوه، هلا سامحتني لتسببي في كل هذه الجلبة؟» «استلقي لدقيقة فحسب وانسي كل شيء.» «أوه، فقط لو كان بإمكاني أن أستريح.»
كانت يدا إلين باردتين. ذهبت إلى النافذة ونظرت إلى الخارج. كان هناك صبي صغير يرتدي بذلة راعي بقر ويجري في الفناء ملوحا بطرف حبل غسيل. تعثر وسقط. رأت إلين وجهه وقد تجعد باكيا عندما نهض مجددا. وفي الفناء الأبعد كانت هناك امرأة قصيرة وبدينة سوداء الشعر تعلق بعض الملابس. كانت عصافير الدوري تزقزق وتتشاجر فوق السياج. «هل تسمحين لي باستخدام بعض من بودرة التجميل يا عزيزتي إلين؟ لقد فقدت حقيبة التجميل الخاصة بي.»
رجعت إلى الغرفة. «أظن ... أجل هناك بعض منها فوق المدفأة ... أتشعرين بتحسن الآن يا كاسي؟»
قالت كاسي بصوت مرتجف: «أوه أجل. وهل لديك أحمر شفاه؟» «أنا آسفة للغاية ... لم أستخدم قط مستحضرات التجميل في الشارع. ولكني سأضطر إلى استخدامها قريبا جدا إذا واصلت التمثيل.» دخلت إلى تجويف في الجدار كي تخلع الكيمونو، وارتدت فستانا أخضر اللون، ولفت شعرها لأعلى، ودفعت بقبعة سوداء صغيرة فوقه. «هيا لنخرج يا كاسي. أريد أن أتناول شيئا في الساعة السادسة ... فأنا أكره أن أتناول عشائي قبل العرض بخمس دقائق.» «أوه، أنا مرعوبة للغاية ... عديني أنك لن تتركيني وحدي.» «أوه، لن تفعل شيئا اليوم ... ستفحصك فحسب وربما تعطيك شيئا لتتناوليه ... لنر، هل أخذت مفاتيحي؟» «سنضطر إلى أن نأخذ سيارة أجرة. ويا إلهي، ليس معي سوى ستة دولارات.» «سأطلب من أبي أن يعطيني 100 دولار لشراء أثاث. سيفي هذا بالغرض.» «إنك أكثر مخلوق ملائكي في العالم يا إلين ... تستحقين كل لحظة في نجاحك.»
عند ناصية الجادة السادسة ركبا سيارة أجرة.
كانت أسنان كاسي تقعقع. «أرجوك، دعينا نذهب في وقت آخر. إنني مرعوبة للغاية أن أذهب الآن.» «يا صغيرتي العزيزة، إنه الشيء الوحيد الذي يمكننا فعله.» •••
سحب جو هارلاند، مدخنا غليونه، البوابات العريضة الشاسعة المهتزة وأغلقها. كانت بقعة أخيرة لضوء الشمس بلون العقيق تخفت فوق جدار منزل مرتفع في الجهة الأخرى من أعمال الحفر. ووقفت أذرع الرافعات الزرقاء داكنة أمامها. نفد دخان غليون هارلاند، فوقف ينفخ فيه وظهره إلى البوابة ينظر على صفوف عجلات اليد الفارغة، وكومات المعاول والمجارف، والسقيفة الصغيرة لرافعة محرك البخار والمثاقب البخارية التي جثمت فوق صخرة مشقوقة ككوخ جبلي. بدا له المشهد باعثا على السكينة بالرغم من صوت صخب حركة المرور القادم من الشارع والمتسرب عبر السياج. دخل إلى السقيفة الصغيرة بجوار البوابة حيث كان الهاتف، وجلس على الكرسي، هاويا عليه، ثم عبأ غليونه وأشعله وفتح الصحيفة فوق ركبتيه. «تعليق خطة المقاولين استجابة لإضراب البنائين». تثاءب وأرجع رأسه للوراء. كان الضوء أزرق وخافتا لدرجة لا يستطيع معها القراءة. جلس طويلا محدقا إلى طرف حذائه المربع ذي الندوب. كان ذهنه فارغا خالي البال كالمخمور. رأى نفسه فجأة يرتدي بذلة رسمية وقبعة عالية ويضع زهرة أوركيد في فتحة سترته. نظر ساحر وول ستريت إلى الوجه الأحمر ذي التجاعيد والشعر الأشيب أسفل القبعة الرثة واليدين الكبيرتين بأصابعهما المتورمة الملطخة، وتلاشى بضحكة مكبوتة. لاحت بذهنه ذكرى خافتة لرائحة سيجار كورونا-كورونا عندما أدخل يده في جيب المعطف القصير بحثا عن صفيحة تبغ برنس ألبريت ليعيد تعبئة غليونه. قال عاليا: «ما الذي يهم، أريد أن أعرف؟» عندما أشعل عود ثقاب، أصبح الليل فجأة بلون الحبر حوله بالكامل. نفخ في عود الثقاب وأطفأه. كان غليونه كبركان أحمر صغير هادئ يصدر قرقرة مكتومة في كل مرة يسحب منه الدخان. دخن ببطء شديد مستنشقا بعمق. كانت البنايات المرتفعة من حوله في كل مكان مطوقة بهالة من بريق متورد من الشوارع واللافتات المضاءة كهربائيا. وعندما نظر مباشرة لأعلى عبر الحجب الوامضة للضوء المنعكس، كان بمقدوره أن يرى السماء السوداء الضاربة إلى الزرقة والنجوم. كان التبغ حلو المذاق. وكان سعيدا للغاية.
تقاطع طرف سيجار وامض مع باب الكوخ. أمسك هارلاند بمصباحه وخرج. رفع المصباح في وجه شاب أشقر غليظ الأنف والشفتين يضع سيجارا في جانب فمه. «كيف دخلت هنا؟» «كان الباب الجانبي مفتوحا.» «أكان كذلك حقا بحق الجحيم؟ عمن تبحث؟» «هل أنت الحارس الليلي هنا؟» أومأ هارلاند. «سررت بمعرفتك ... خذ سيجارا. أريد أن أتمشى معك قليلا فحسب، أترى؟ ... أنا منظم في النقابة المحلية 47، أترى؟ أرني بطاقة عضويتك.» «لست عضوا في النقابة.» «حسنا، ستكون، ألست ... نحن رجال مهنة البناء يجب أن نتكاتف معا. إننا نحاول تنظيم كل من حراس الليل إلى المفتشين في مجموعات لبناء جبهة صلبة في وجه موقف التعليق الحالي هنا.»
أشعل هارلاند سيجاره. «اسمع يا أخي، أنت تضيع وقتك معي. سيحتاجون دائما حارسا ليليا، سواء في وجود إضراب أم لا ... أنا رجل كبير السن ولم يعد لدي الطاقة الكافية للنزاع. هذه هي أول وظيفة محترمة أحصل عليها منذ خمس سنوات، ومستحيل أن أتركها ... مثل تلك الأمور للشباب أمثالك. لست معكم في هذا الأمر. أنت تضيع وقتك لا ريب إذا كنت تتجول محاولا تنظيم حراس الليل.» «يمكنني القول إن طريقة حديثك لا تنم عن أنك قديم في هذا العمل.» «حسنا، ربما لست كذلك.»
خلع الشاب قبعته وحك رأسه فوق جبهته ولأعلى عبر شعره الكثيف المقصوص. «يا للهول، إن النقاش في العمل يجعلك متحيرا ... ولكنها ليلة طويلة، أليس ذلك؟»
قال هارلاند: «أوه، إنها ليلة لا بأس بها.» «اسمع، اسمي أوه كيفي، جو أوه كيفي ... حسنا، أراهن أنه بإمكانك أن تخبرني بكثير من الأشياء.» مد يده. «اسمي جو أيضا ... هارلاند ... كان هذا الاسم قبل 20 عاما يعني الكثير لدى الناس.» «20 عاما من الآن ...» «اسمع، تبدو غريبا على أن تكون مندوبا متجولا ... خذ نصيحة من رجل هرم قبل أن أخرجك من قطعة الأرض، واترك هذا العمل ... إنه عمل لا يناسب شابا مثلك يريد أن يشق طريقه في الحياة.» «الزمن يتغير كما تعلم ... ثمة رجال كبار يدعمون الإضراب هنا، أترى؟ كنت أناقش الوضع مع النائب ماك نيل بعد الظهيرة اليوم في مكتبه.» «ولكني أخبرك بلا مواربة أنه إذا كان ثمة شيء واحد سيفسدك في هذه المدينة فهو أمر العمال هذا ... ستتذكر يوما ما أن رجلا هرما مخمورا أخبرك بذلك، وسيكون الوقت قد فات.» «أوه، هذا من أثر الشراب، أليس كذلك؟ ذلك شيء لا أخشاه. فأنا لا أمس الشراب، باستثناء الجعة كي أكون اجتماعيا مع الناس.» «اسمع يا أخي، سيجري مفتش الشركة جولته قريبا. ومن الأفضل أن تغادر المكان.» «لست خائفا من أي مفتش شركة لعين ... حسنا، إلى اللقاء، سآتي لرؤيتك مرة أخرى يوما ما.» «أغلق ذلك الباب خلفك.»
صب جو هارلاند بعضا من الماء من وعاء معدني، واستقر في كرسيه، ومد ذراعيه وتثاءب. إنها الحادية عشرة. كانوا يخرجون لتوهم من المسارح، الرجال بملابس السهرة، والفتيات بالفساتين ذات الياقات المنخفضة، وكان الرجال عائدين إلى المنزل إلى زوجاتهم وعشيقاتهم، كانت المدينة ذاهبة إلى النوم. علت أصوات أبواق سيارات الأجرة وتعالى الضجيج خارج السياج، وتلألأت السماء بمسحوق ذهبي من أثر اللافتات الكهربائية. أسقط عقب السيجار وسحقه بعقبه فوق الأرضية. ارتجف ونهض، ثم خطا ببطء حول حافة أرض المباني مؤرجحا مصباحه.
باللون الأصفر الباهت صبغ الضوء القادم من الشارع لافتة كبيرة كانت صورة لناطحة سحاب بيضاء بنوافذ سوداء أمام السماء الزرقاء والسحب البيضاء. «سيجال وهاينز» سيشيدون في هذا الموقع «مبنى مكتبيا من 24 طابقا» حديثا ومواكبا للعصر، يفتح للإشغال في يناير 1915 ولا تزال هناك مساحات متاحة للإيجار، للاستعلام ... •••
جلس جيمي هيرف يقرأ على أريكة خضراء أسفل مصباح أضاء ركنا في غرفته الواسعة الفارغة. وصل إلى الجزء الذي مات فيه أوليفيه في رواية «جون كريستوفر» وقرأه بغصة في الحلق. زحف في ذاكرته صوت دوار نهر الراين، ناحتا بلا هوادة أرض حديقة المنزل الذي ولد فيه جون كريستوفر. كانت أوروبا في مخيلته حديقة خضراء زاخرة بالموسيقى والأعلام الحمراء ومسيرات الحشود. من حين لآخر كان يسمع صوت قارب بخاري يصفر من جهة البحر ويستقر في الغرفة في سكون ونعومة كالثلج. أتت من الشارع قعقعة سيارات الأجرة وصوت عواء الترام.
سمع طرقا على الباب. نهض جيمي، وكانت عيناه مغبشتين وساخنتين من أثر القراءة. «مرحبا يا ستان، من أين أتيت بحق الجحيم؟» «إنني في حالة سكر شديدة يا هيرف.» «ليس بالشيء الجديد.» «كنت فقط أريد أن أعطيك تقرير الطقس.» «حسنا، ربما يمكنك أن تخبرني عن السبب وراء أن أحدا في هذا البلد لا يفعل شيئا على الإطلاق. فلا أحد يؤلف الموسيقى أو يشرع في ثورة أو يقع في الحب. كل ما يفعله الجميع هو السكر وحكي الروايات البذيئة. أظن أنه أمر مقزز ...» «يا أنت ... تحدث عن نفسك. سأتوقف عن الشرب ... فلا فائدة من الشرب، وقد أصبح الشراب رتيبا ... أخبرني، ألديك حوض استحمام؟» «بالطبع هناك حوض استحمام. شقة من هذه في ظنك، شقتي؟» «حسنا، لمن هي يا هيرف؟» «إنها لليستير. أنا أعتني بها فحسب أثناء وجوده بالخارج، ذلك الكلب المحظوظ.» شرع ستان في خلع ملابسه تاركا إياها تسقط في كومة حول قدميه. «مرحى، أريد أن أذهب للسباحة ... لماذا بحق الجحيم يعيش الناس في المدن؟» «لماذا أستمر في إطالة وجودي التعس في هذه المدينة المجنونة المصابة بالصرع؟ ... ذلك ما أريد معرفته.»
قال ستان بصوت ذي خوار وهو يقف فوق كومة ملابسه، ببشرة بنية وعضلات مستديرة مشدودة، متأرجحا بعض الشيء من أثر السكر: «فلتدل الضابط الروماني هوراشيوس على الحمام أيها العبد.» «إنه مباشرة عبر هذا الباب.» سحب جيمي منشفة من صندوق القارب البخاري في ركن الغرفة، ورماه وراءه ورجع إلى القراءة.
اندفع ستان عائدا إلى الغرفة، والماء يقطر من جسمه، متحدثا وهو ملفوف بالمنشفة. «أتدري، لقد نسيت أن أخلع قبعتي. وانظر يا هيرف، هناك شيء أريدك أن تفعله من أجلي. هل تمانع؟» «بالطبع لا. ما الأمر؟» «هل تسمح لي باستخدام غرفتك الخلفية الليلة، هذه الغرفة؟» «بالطبع يمكنك ذلك.» «أعني بصحبة أحد.» «افعل ما تريد. يمكنك أن تحضر جوقة وينتر جاردن بأكملها هنا ولن يراهم أحد. وهناك مخرج طوارئ أسفل السلم الخلفي يصل إلى الزقاق. سأذهب لأنام وأغلق الباب كي تتمكن من استخدام هذه الغرفة والحمام لك وحدك.» «أعلم أن الأمر يثقل عليك ولكن زوجها عنيف الطبع وعلينا أن نكون شديدي الحذر.» «لا تحمل هم الصباح. سأتسلل خارجا في الصباح الباكر ويمكنك أن تحظى بالمكان لنفسك.» «حسنا، سأرحل، إلى اللقاء.»
أخذ جيمي كتابه ودخل إلى حمامه وخلع ملابسه. نظر في ساعة يده فوجدها الثانية عشرة والربع. كان الليل ومدا. عندما أشعل الضوء جلس لوقت طويل على حافة السرير. أصابته الأصوات البعيدة لصافرات الإنذار القادمة من النهر بقشعريرة. وسمع من الشارع وقع أقدام، وأصوات رجال ونساء، وضحكات خفيضة مفعمة بالحيوية لأشخاص يذهبون إلى منازلهم أزواجا. كانت تدوي في الفونوغراف أغنية «وردة بالية» (سكوند هاند روز). استلقى على ظهره فوق غطاء السرير. ودخل الهواء عبر النافذة محملا بحموضة القمامة، ورائحة الجازولين المحترق، والمرور، والأرصفة المغبرة، والأجواء الخانقة للحشود في الغرف التي في حجم بيوت الحمام، حيث تتلوى أجساد الرجال والنساء وحيدة يعذبها الليل وبداية الصيف. استلقى ومقلتاه الملفوحتان بحرارة الجو تحدقان في السقف، وقد توهج جسده بحرارة راجفة مقلقلة كقطعة معدنية ملتهبة.
أيقظه صوت امرأة تهمس متلهفة، وكان ثمة شخص يدفع الباب فاتحا إياه. «لا أريد أن أراه. لا أريد أن أراه. أرجوك يا جيمي أن تذهب وتتحدث إليه. لا أريد أن أراه.» دخلت إلين أوجليثورب الغرفة وهي ملفوفة في ملاءة.
قام جيمي من فوق السرير متعثرا. «ما الأمر بحق السماء؟» «ألا توجد خزانة ملابس أو شيء من هذا القبيل هنا ... لن أتحدث إلى جوجو وهو في تلك الحالة.»
فرد جيمي ثياب نومه. «هناك خزانة عند مقدمة السرير.» «بالطبع ... حسنا يا جيمي لتكن لطيفا، تحدث معه وأخبره أن يرحل.»
سار جيمي مرتبكا إلى الغرفة الخارجية. سمع صوتا يصرخ من النافذة: «ساقطة، ساقطة.» كانت الأنوار مضاءة. كان ستان، وهو ملفوف كالهندي في بطانية رمادية ذات خطوط وردية، يجثم في وسط أريكتين قربتا لتصبحا سريرا واسعا. كان يحدق بغير انفعال في جون أوجليثورب الذي اتكأ عبر الجزء العلوي من النافذة يصرخ ويلوح بذراعيه ويزمجر كما لو كان في عرض «بانتش آند جودي». كان شعره متشابكا فوق عينيه، ولوح بإحدى يديه بعصا، وبالأخرى بقبعة ذات مسحة من لون القهوة بالقشدة. بمزيج من الإنجليزية واللاتينية: «أيتها الساقطة، تعالي هنا ... هي حالة تلبس ... حالة تلبس. لم يقدني إلهامي من فراغ لصعود سلم طوارئ شقة ليستير جونز.» توقف وحدق لدقيقة في جيمي بعينين مخمورتين واسعتين. «حسنا، ها هو الصحفي الشاب، بل صحفي الجرائد الصفراء، يبدو كالحمل الوديع، أليس كذلك؟ هل تعرف رأيي فيك؟ هل تريد أن تعرف رأيي فيك؟ أوه، لقد سمعت عنك من روث وكل هذه الأمور. أعلم أنك تظن نفسك أحد الخارقين وأنك بعيد عن كل ذلك ... ما رأيك في عملك كمومس مأجور للصحف العامة؟ ما رأيك في رخصة ممارسة الدعارة التي منحوها لك؟ الشيك النحاسي الذي يعطى سرا للصحفيين، تلك هي طبيعة عملك ... تحسب أن هذا كالعمل في التمثيل، في الفن، لا أعرف تلك الأمور. لقد سمعت رأيك في الممثلين وكل ذلك من روث.» «يا إلهي، يا سيد أوجليثورب، أجزم أنك مخطئ.» «لقد قرأت ولذت بالصمت. فأنا ممن يشاهدون في صمت. أعلم أن كل جملة ، وكل كلمة، وكل علامة ترقيم تافهة تظهر في الصحف العامة يطلع عليها، وتراجع، وتحذف وفقا لمصالح المعلنين وأصحاب السندات. إن معين الحياة الوطنية يسمم من منبعه.»
صاح ستان فجأة من فوق السرير: «أجل، أخبرهم.» نهض مصفقا بيديه. «أفضل أن أكون عامل مسرح، أقل عمال المسارح شأنا. أفضل أن أكون تلك الخادمة العجوز الواهنة القوى التي تمسح أرضية المسرح ... على أن أجلس جلسة مخملية في مكتب محرر أكبر جريدة يومية في المدينة. التمثيل مهنة شريفة، محترمة، وديعة، نبيلة.» انتهت الخطبة بغتة.
قال جيمي مربعا ذراعيه: «حسنا، لا أعلم ماذا تتوقع مني أن أفعل حيال هذا؟»
واصل أوجليثورب حديثه بصوت كصوت عواء حاد.
قال جيمي: «من الأفضل أن تذهب إلى المنزل.» «سأذهب، سأذهب حيث لا يوجد ساقطون ... حيث لا يوجد ساقطون رجالا كانوا أو نساء ... سأذهب في الليل الطويل.» «أتحسب أن بإمكانه العودة إلى المنزل سالما يا ستان؟»
كان ستان قد جلس على حافة السرير يهتز ضاحكا. هز كتفيه. «سيظل دمي في عنقك يا إلين للأبد ... للأبد، أتسمعينني؟ ... سأذهب في الليل حيث لا يجلس الناس ضاحكين وهازئين. أتظنين أنني لا أراك؟ ... إن حدث الأسوأ فلن يكون خطئي.»
صاح ستان: «ليلة سعيدة.» سقط في نوبة الضحك الأخيرة من فوق حافة السرير وتدحرج على الأرض. ذهب جيمي إلى النافذة ونظر أسفل سلم الطوارئ إلى الزقاق. لقد رحل أوجليثورب. كانت السماء تمطر بغزارة. وتصاعدت رائحة الطوب الرطب من جدران المنازل. «يا للهول، ألم يكن هذا أكثر الأشياء جنونا؟» رجع إلى غرفته دون النظر إلى ستان. مرت به إلين عند الباب بخفة كالحرير.
استهلت حديثها، قائلة: «إنني في غاية الأسف يا جيمي ...»
أغلق الباب بقوة في وجهها وأوصده. قال مطبقا على أسنانه: «الحمقى اللعناء يتصرفون كالمجانين. ما ظنك في هذا بحق الجحيم؟»
كانت يداه باردتين ومرتعشتين. سحب عليه بطانية. استلقى يستمع إلى إيقاع المطر المطرد ورشات المجاري المهسهسة. وكانت نفحة من ريح تهب من حين لآخر برذاذ بارد خافت في وجهه. ولا تزال تتسلل إلى الغرفة الرائحة الفجة لخشب الأرز السريع العطب من شعرها الكثيف الملفوف، وذكرى نعومة جسدها حيث جثمت ملفوفة ومختبئة في ملاءة السرير. •••
جلس إد تاتشر إلى نافذته الناتئة وسط صحف يوم الأحد. كان شعره أشيب وثمة طيات عميقة في وجنتيه. وكانت الأزرار العليا لبنطاله من حرير البنجي الصيني مفكوكة من أجل راحة كرشه الصغير الذي ظهر فجأة. جلس إلى النافذة المفتوحة ينظر إلى الخارج على الأسفلت اللافح عند نهاية التدفق اللانهائي من السيارات التي أصدرت زئيرا في كل اتجاه، مارة بصفوف المتاجر من الطوب الأصفر والمحطات من الطوب الأحمر أسفل الأفاريز التي تومض فوقها بلمعة خافتة في الشمس بأحرف ذهبية على خلفية سوداء: «باسيك.» انبعثت من الشقق القريبة قعقعة أنين آلات الفونوغراف التي يسمعها يوم الأحد، وكانت تصدع بأغنية «إنه دب» (اتس أبير). وكذلك سداسية من أوبرا «لوسيا دي لاميرمور»، ومختارات من المسرحية الموسيقية «فتاة الكويكرز» (ذا كويكر جيرل). كان قد وضع على ركبتيه صحيفة «نيويورك تايمز» مفتوحة على قسم المسرح. نظر للخارج بعينين مغبشتين إلى الهواء الحار الخافق شاعرا بضيق في ضلوعه وألم يقطع الأنفاس. كان قد قرأ لتوه فقرة في نسخة مشينة من صحيفة «تاون توبيكس». •••
كثرت الأقاويل على الألسنة الخبيثة حول الحقيقة التي لا يمكن إنكارها، وهي رؤية سيارة ستانوود إيميري تقف كل ليلة خارج مسرح نيكربوكر ولا تبرح مكانها حسبما يقولون قبل أن تستقل ممثلة شابة فاتنة تقترب سريعا في مسيرتها الفنية من مستوى النجومية. هذا الشاب نفسه، الذي يرأس والده إحدى شركات المحاماة الأكثر مرموقية في المدينة، والذي ترك لتوه هارفارد بسبب ظروف مؤسفة بعض الشيء، لطالما أثار ذهول الأهالي لوقت طويل بأفاعيله التي نثق في أنها لا تتعدى كونها نتيجة حماس روح صبيانية. واللبيب بالإشارة يفهم.
رن جرس الباب ثلاثا. أسقط إد تاتشر الصحيفة وأسرع مرتجفا إلى الباب. «لقد تأخرت كثيرا يا إيلي. خشيت ألا تأتي.» «ألا آتي دائما عندما أقول إني آتية يا أبي؟» «بالطبع تفعلين ذلك يا عزيزتي.» «كيف حالك؟ وكيف هي الأحوال في العمل؟» «السيد ألبيرت في إجازته ... أظن أنني سآخذ إجازتي عندما يعود. ليتك تأتين معي إلى سبرينج ليك لبضعة أيام. هذا سينعشك.» «ولكن لا أستطيع يا أبي.» ... خلعت قبعتها وأسقطتها على الأريكة العريضة. «انظر، لقد أحضرت لك بعض الورود يا أبي.» «ذكرتني؛ إنها ورود حمراء كالتي كانت أمك تحبها. أعترف أنها كانت لفتة غاية في الجمال منك ... ولكني لا أحب أن أذهب وحدي في الإجازة.» «أوه، ستقابل الكثير من الأصدقاء يا أبي، أنا واثقة من ذلك.» «لم لا تأتين لأسبوع واحد فقط؟» «أولا ينبغي أن أبحث عن عمل ... سينطلق العرض في جولته ولست معهم حتى الآن. هاري جولدوايزر غاضب بشدة بسبب هذا الأمر.» رجع تاتشر للجلوس إلى النافذة الناتئة وبدأ يكدس صحف يوم الأحد فوق كرسي. «يا إلهي، يا أبي، ماذا تفعل بحق السماء بتلك النسخة من صحيفة «تاون توبيكس»؟» «أوه، لا شيء. لم أقرأها قط؛ فما أحضرتها إلا لأرى شكلها.» تورد وجهه وضغط شفتيه عندما دفع بها وسط صحيفة «نيويورك تايمز». «ما هي سوى صحيفة تمارس الابتزاز.» كانت إلين تتجول في أنحاء الغرفة. وقد وضعت الورود في زهرية. وكانت تنتشر منها برودة لاسعة عبر الهواء المثقل بالغبار. «هناك شيء أريد أن أخبرك به يا أبي ... سنتطلق أنا وجوجو.» جلس إد تاتشر واضعا يديه فوق ركبتيه وأطبق شفتيه ولم ينبس. كان وجهه رماديا وداكنا، يكاد يقترب من لون بذلته الحريرية المزركشة. «ليس ثمة ما يقلق. قررنا ببساطة أنه لا يمكننا التوافق معا. الأمر برمته سيسير بهدوء وبأكثر الأساليب المتفق عليها ... جورج بالدوين صديقي سيتولى إدارة الأمر بالكامل.» «هو وشركة إيميري آند إيميري؟» «أجل.» «همم.»
لاذا بالصمت. مالت إلين كي تستنشق الورود. فرأت دودة قياسية خضراء صغيرة بعرض ورقة برونزية اللون. «صراحة، إنني مولعة بشدة بجوجو، ولكن العيش معه يفقدني صوابي ... أدين له بالكثير، أعلم ذلك.» «ليتك لم تريه يوما.»
تنحنح تاتشر وأشاح بوجهه عنها كي ينظر من النافذة إلى شريطين لا متناهيين من السيارات التي مرت بمحاذاة الطريق أمام المحطة. انبعث منها الغبار وعلا، وبدا اللمعان الزاوي للزجاج كالمينا والنيكل. وأصدرت الإطارات حفيفا فوق الحصى المزيت. ألقت إلين بنفسها فوق الأريكة العريضة، وتركت عينيها تشردان وسط الورود الحمراء الباهتة على السجادة.
رن جرس الباب. «سأذهب يا أبي ... كيف حالك يا سيدة كالفيتير؟»
دخلت إلى الغرفة نافخة سيدة عريضة حمراء الوجه ترتدي فستانا من الشيفون الأسود والأبيض. «أوه، عذرا على مقاطعتي، هذه زيارة سريعة لبرهة فحسب ... كيف حالك يا سيد تاتشر؟ ... تعلمين يا عزيزتي أن أباك المسكين كان حقا في حالة سيئة للغاية.» «هذا كلام فارغ؛ فكل ما كان لدي هو ألم خفيف في الظهر.» «تلك آلام أسفل الظهر يا عزيزي.» «عجبا يا أبي، كان ينبغي أن تخبرني.» «كانت الخطبة اليوم ملهمة للغاية يا سيد تاتشر ... كان السيد لورتون في أفضل حالاته.» «أظن أن علي أن أخرج وأذهب إلى الكنيسة من حين لآخر، ولكن كما ترين أفضل المكوث في المنزل يوم الأحد.» «بالطبع يا سيد تاتشر؛ فهذا هو اليوم الوحيد الذي لديك. كان زوجي مثلك تماما ... ولكني أظن أن الأمر يختلف مع السيد لورتون عن أغلب رجال الدين. فلديه نظرة عقلانية معاصرة للأشياء. الأمر حقا أشبه بحضور محاضرة مشوقة للغاية أكثر منه بحضور عظة في كنيسة ... تفهم ما أعنيه.» «سأخبرك بما سأفعل يا سيدة كالفيتير، إذا لم يكن الطقس شديد الحرارة يوم الأحد القادم فسأذهب ... أظن أنني اعتدت كثيرا على نمط حياتي.» «أوه، بعض التغيير مفيد لنا جميعا ... ليس لديك أدنى فكرة يا سيدة أوجليثورب كم نتابع مسيرتك الفنية عن كثب، في صحف يوم الأحد وكل ذلك ... أظن أن الأمر في غاية الروعة ... كما كنت أقول للسيد تاتشر بالأمس إنه لا بد في الأمر من شخصية قوية والعيش بعمق وفقا للمبادئ المسيحية للتمكن من الصمود أمام إغراءات حياة المسرح في هذه الأيام. من الملهم رؤية فتاة شابة وزوجة شديدة اللطف والنقاء وسط كل ذلك.»
ظلت إلين تنظر إلى الأرض كي لا تلمح عيناها عيني أبيها. كان ينقر بإصبعين فوق ذراع كرسي موريس الذي كان يجلس عليه. تهلل وجه السيدة كالفيتير الجالسة في منتصف الأريكة العريضة. نهضت واقفة. «حسنا، يجب أن أذهب. لدينا فتاة ساذجة في المطبخ، وأنا واثقة أن العشاء قد فسد بالكامل ... ألن تمر علينا بعد ظهيرة اليوم ...؟ بشكل ودي تماما. لقد أعددت بعض الكعك وسنخرج بعضا من مزر الزنجبيل في حال زارنا أحد.»
قال تاتشر وهو ينهض متيبسا: «أثق أنه سيسعدنا ذلك يا سيدة كالفيتير.» تمايلت السيدة كالفيتير في فستانها المنفوش خارجة من الباب. «أقترح يا إيلي أن نذهب لنأكل شيئا ... إنها سيدة طيبة القلب ولطيفة للغاية. دائما ما تحضر لي أوعية من المربى والمرملاد. إنها تعيش في الأعلى مع عائلة أختها. وهي أرملة رجل رحالة.»
قالت إلين بضحكة خافتة في حلقها: «يا لها من عبارة قالتها عن إغراءات حياة المسرح! هيا وإلا فسيزدحم المكان. فتجنب العجلة هو شعاري.»
قال تاتشر بصوت طقطقة متذمر: «دعينا لا نتلكأ.»
فتحت إلين مظلتها عندما خرجا من الباب المحاط من الجانبين بالأجراس وصناديق البريد. ضرب وجهيهما نفحة من حرارة معبأة بالأتربة. مرا بمتجر للأدوات المكتبية، واللافتة الحمراء بالحرفين إيه وبي لشركة الشاي الكبرى في المحيط الأطلسي والمحيط الهادي، والصيدلية على الناصية التي اندفعت منها تلك البرودة الآسنة لمجمدات ماء الصودا والآيس كريم أسفل الظلة الخضراء، وعبرا الشارع حيث غاصت قدماه في الأسفلت اللزج، وتوقفا عند كافيتريا ساجامور. شاهدا الساعة الثانية عشرة بالضبط عبر النافذة التي كان مكتوبا حول واجهتها بالأحرف الإنجليزية القديمة «وقت تناول الطعام». كان أسفلها سرخس أصهب كبير وبطاقة تعلن أن سعر الدجاج في العشاء دولار و25 سنتا. ظلت إلين عند فتحة الباب تنظر لأعلى إلى الشارع المضطرب بالحركة. «انظر يا أبي، ستهب على الأرجح عاصفة رعدية.» حلق السحاب المتراكم في خطوط ارتفاع ثلجية مذهلة في السماء الأردوازية. «أليست تلك سحابة جميلة؟ ألن يكون من الجميل أيضا لو هبت عاصفة رعدية صاخبة؟»
نظر إد تاتشر لأعلى، وهز رأسه ودخل عبر الباب الشبكي المتأرجح. تبعته إلين. استنشقا بالداخل رائحة الطلاء والنادلات. جلسا إلى طاولة بجوار الباب أسفل مروحة كهربائية مطنطنة. «كيف حالك يا سيد تاتشر؟ كيف كان حالك طوال الأسبوع يا سيدي؟ كيف حالك يا آنسة؟» اقتربت منهما بلطف نادلة ذات وجه نحيل وشعر معالج بالأكسجين. «ماذا تفضل اليوم يا سيدي؛ فرخ البط المشوي على طريقة لونج آيلند أم ديكا مغذى بالحليب ومشويا على طريقة فيلادلفيا؟»
الفصل الرابع
سيارة الإطفاء
تحتشد الحافلات بعد ظهيرة تلك الأيام في صف كالفيلة في استعراضات السيرك. من حي مورننجسايد هايتس إلى ميدان واشنطن، ومن محطة بنسلفانيا إلى مقبرة جرانت. يترنح زيرة النساء والمتحررات متعانقين في وسط المدينة وشمالها، يتعانقون في انسجام مرح مترنح بعد انسجام مرح آخر، حتى يروا قمر اليوم الجديد يقهقه فوق بلدة ويهاكين، ويشعروا بريح يوم الأحد الخاملة العاصفة تهب مغبرة في وجوههم، مغبرة بالشفق المنتشي.
يسيرون في ممشى متنزه سنترال بارك.
تقول إلين أمام تمثال بيرنز: «يبدو وكأن لديه دملا فوق عنقه.»
همس هاري جولدوايزر متنهدا من حلقه السمين: «آه، ولكنه كان شاعرا عظيما.»
كانت تسير مرتدية قبعتها العريضة وفستانها الفضفاض ذا اللون الباهت، والذي كانت الرياح تثنيه بين الحين والآخر على ساقيها وذراعيها، وتعبر به كالحرير مهفهفا وسط فقاعات الشفق الوردية والأرجوانية والفستقية التي ترتفع من العشب والأشجار والبرك، بارزة أمام المنازل الطويلة ذات اللون الرمادي الحاد كأسنان الموتى حول الطرف الجنوبي للمتنزه، الذي اختفى في القمة النيلية اللون. عندما يتحدث، مكونا جملا من بين شفتيه المستديرتين السميكتين، متفحصا وجهها باستمرار بعينيه البنيتين، تشعر بكلماته تضغط على جسدها، وتلكزها في التجاويف التي يلتصق بها فستانها؛ فلا تكاد تستطيع التنفس خوفا من الاستماع إليه. «سيصبح عرض «فتاة الزينية» (زينيا جيرل) مذهلا حقا يا إلين، صدقيني، وذلك الدور مكتوب لك خصوصا. سيسعدني حقا العمل معك مرة أخرى ... أنت مختلفة للغاية، ذلك ما يميزك. فجميع هؤلاء الفتيات هنا في نيويورك متشابهات تماما، إنهن مملات. بالطبع يمكنك الغناء أيضا إن أردت ... لقد جن جنوني منذ أن قابلتك، وها قد فات علينا ستة أشهر جيدة الآن. أجلس لأتناول الطعام ولا يكون للطعام أي مذاق ... لا يمكنك أن تتخيلي كيف يشعر الرجل بالوحدة عندما يكون عليه أن يكبت مشاعره بداخله عاما بعد عام. عندما كنت شابا كنت مختلفا عن ذلك، ولكن ماذا كنت لأفعل؟ لقد كان علي أن أكسب المال وأشق طريقي في الحياة. وهكذا واصلت على هذا الحال عاما بعد آخر. وللمرة الأولى أشعر بالسعادة؛ لأنني مضيت قدما في طريقي وكسبت الكثير من المال؛ لأنني الآن يمكنني أن أقدمه لك. أتفهمين ما أعنيه؟ ... كل تلك الأشياء المثالية والجميلة قد دفنت داخلي عندما كنت أشق طريقي في عالم الرجال كان ذلك بمثابة زرع البذرة وأنت الآن زهرتها.»
يلامس ظهر كفه ظهر كفها من حين لآخر أثناء سيرهما؛ فتحكم قبضتها بتجهم ساحبة إياها بعيدا عن بدانة يده الساخنة واللحوحة.
ممشى المتنزه مليء بالأزواج والعائلات في انتظار أن تبدأ الموسيقى. وكانت رائحته هي رائحة الأطفال وواقيات الملابس وبودرة التلك. مر بهم بائع بالون يجر خلفه البالون الأحمر والأصفر والوردي كعنقود عنب ضخم مقلوب. «أوه، اشتر لي بالونا.» انطلقت الكلمات من فمها قبل أن تتمكن من إيقافها. «أنت، أعطني واحدة من كل لون ... وماذا عن واحدة من تلك الذهبية؟ كلا، احتفظ بالباقي.»
وضعت إلين خيوط البالون في الأيادي الملطخة بالتراب لثلاث فتيات صغيرات بوجوه كوجوه القرود بقلنسوات حمراء. ألقى المصباح القوسي بهالة بنفسجية على كل بالون. «أوه، تحبين الأطفال يا إلين، أليس كذلك؟ أنا أحب النساء اللاتي يحببن الأطفال.»
تجلس إلين لا مبالية إلى طاولة في شرفة مطعم كازينو. تلتف حولها خانقة نفحة ساخنة من رائحة الطعام وإيقاع فرقة تعزف أغنية «إنه جامع خردة» (راجبيكر)؛ فتدهن بين الحين والآخر قطعة من الخبز الملفوف وتضعها في فمها. تشعر بالعجز التام، بأنها قد أمسك بها كالذبابة في جمله المنسالة اللزجة. «ليس ثمة شخص آخر في نيويورك يمكنه أن يجعلني أسير كل هذه المسافة، صدقيني ... لقد سرت كثيرا في الأيام الخوالي، هل تفهمين ما أعني، كنت أبيع الصحف عندما كنت طفلا، وأعمل كصبي مهمات في متجر ألعاب شوارتز ... كنت أسير على قدمي طوال اليوم باستثناء الفترة التي قضيتها في المدرسة الليلية. ظننت أني سأصبح محاميا، جميعنا شباب حي إيست سايد ظننا أننا سنصبح محامين. ثم عملت حاجبا في صيف إحدى السنوات في حي إيرفينج بلاس، وأصابتني عدوى المسرح ... لم تكن فكرة سيئة، ولكنها محفوفة بالمخاطر. أما الآن فلم أعد أهتم؛ فكل ما أريده هو أن أعوض خسائري. هذه هي مشكلتي. أنا في الخامسة والثلاثين ولم أعد أهتم بشيء. قبل 10 سنوات كنت لا أزال كاتبا صغيرا في مكتب إرلانجر، والآن هناك الكثيرون ممن كنت ألمع أحذيتهم في الأيام الخوالي يسرهم حقا أن يحصلوا على فرصة لمسح أرضية شقتي في شارع ويست 48 ... يمكنني أن أصحبك الليلة إلى أي مكان في نيويورك، لا يهمني مدى الغلاء أو الرقي الذي عليه المكان ... وكنا نظن ونحن أطفال في الأيام الخوالي أننا سنعيش في النعيم إذا كان معنا خمس قطع نقدية لنصطحب بعض الفتيات إلى شاطئ كوني آيلاند ... أراهن أن كل ذلك كان مختلفا عما عشته يا إلين ... ولكن ما أريده هو أن أستعيد ذلك الشعور، أتفهمينني؟ ... أين سنذهب؟» «لم لا نذهب إذن إلى كوني آيلاند؟ فأنا لم أذهب إليه من قبل.» «إنه مليء للغاية بالمشاكسين ... ولكن لا يزال بإمكاننا أن نأخذ جولة بالسيارة. هيا. سأطلب سيارة عبر الهاتف.»
تجلس إلين ناظرة لأسفل إلى فنجان قهوتها. تضع قطعة كبيرة من السكر في ملعقتها، وتغطسها في القهوة، وتلقي بها في فمها حيث تجرشها ببطء، وهي تحك حبيباتها بلسانها في سقف فمها. تعزف الأوركسترا لحن رقصة تانجو. •••
تشق أشعة الشمس المتدفقة إلى المكتب أسفل الستائر المنسدلة طبقة مائلة لامعة كالقماش المموج عبر دخان السيجار.
كان جورج بالدوين يقول منتزعا الكلمات من فمه: «بسلاسة تامة. يجب أن نفعل ذلك بسلاسة تامة يا جاس.» كان جاس ماك نيل بوجهه الأحمر ورقبته الأشبه برقبة ثور وسلسلة ساعته الثقيلة المعلقة في صدريته يجلس على الكرسي ذي الذراعين وهو يحرك رأسه في صمت، جاذبا إليه سيجاره. «بالوضع الحالي ، ليس ثمة محكمة ستدعم مثل هذا الإنذار القضائي ... الإنذار القضائي الذي يبدو لي ممارسة محضة لسياسة القاضي كونر الحزبية، غير أن هناك بعض العناصر ...» «كما قلت ... اسمع يا جورج، سأترك لك أمر إلقاء اللوم هذا برمته. لقد زججت بي عبر فوضى موانئ نيويورك الشرقية، وفي ظني أنه بإمكانك أن تزج بي في ذلك الأمر أيضا.» «ولكن موقفك في هذا الأمر برمته يا جاس كان بالكامل داخل الحدود الشرعية. ولو لم يكن الحال كذلك لما استطعت بالتأكيد أخذ القضية، ولا حتى لصالح صديق قديم مثلك.» «أنت تعرفني يا جورج ... فأنا لم أخلف وعدي مع أحد قط، ولا أتوقع أن يخلف أحد وعده معي.» نهض جاس متثاقلا وبدأ يعرج حول المكتب متكئا على عكازه ذي المقبض الذهبي. «كونر وغد ... لن تصدق ولكنه كان رجلا محترما قبل أن يذهب شمالا إلى مدينة ألباني.» «سيكون موقفي هو الدفاع بأن تصرفك في هذا الأمر برمته قد أسيء فهمه عمدا. إن كونر يستغل منصبه على مقعد القضاء لخدمة مصلحة سياسية ما.» «أسأل الرب أن تستطيع النيل منه. يا إلهي، لقد ظننته واحدا منا؛ فقد كان كذلك بالفعل قبل أن يذهب شمالا ويختلط بجميع جمهوريي الشمال الحقراء. ألباني هي مصدر دمار الكثير من الرجال الصالحين.»
نهض بالدوين من خلف الطاولة المسطحة من خشب الماهوجني التي كان يجلس إليها بين حزم طويلة من ورق الفولسكاب ووضع يده فوق كتف جاس. «لا تقلق مطلقا ...» «كنت سأشعر بأن كل شيء على ما يرام لولا تلك السندات بين المناطق الإدارية.» «أي سندات؟ من رأى أي سندات؟ ... لندخل هذا الشاب هنا ... جو ... وهناك شيء آخر يا جاس، أرجوك ألا تتحدث في الأمر ... إذا أتى أي صحفيين أو أي أحد لرؤيتك، فأخبرهم برحلتك إلى برمودا ... يمكننا الحصول على الدعاية الكافية عندما نحتاج إليها. ولكننا في الوقت الحالي نريد أن نبعد الصحافة عن الأمر وإلا فسيتعقبك جميع المصلحين.» «ولكن أليسوا أصدقاءك؟ يمكنك تدبير الأمر معه.» «أنا محام ولست سياسيا يا جاس ... لا أتدخل في تلك الأمور بتاتا. إنها لا تعنيني.»
ضغط بالدوين على جرس الباب بيد مبسوطة. دخلت الغرفة شابة ذات بشرة عاجية وعينين غائرتين ثقيلتين وشعر فاحم السواد. «كيف حالك يا سيد ماك نيل؟» «يا إلهي تبدين بحالة جيدة يا آنسة ليفيتسكي.» «أخبريهم يا إميلي أن يدخلوا ذلك الشاب الذي ينتظر السيد ماك نيل.»
دخل جو أوكيف يجر قدميه بعض الشيء، وقبعته القشية في يده. «كيف حالك سيدي؟» «اسمع يا جو، ماذا يقول مكارثي؟» «ستعلن جمعية المقاولين والبناءين إغلاقا من يوم الإثنين.» «وكيف حال النقابة؟» «لدينا خزينة كاملة. سنقاتل.»
جلس بالدوين على حافة المكتب. «أتمنى لو كنت أعرف موقف حاكم المدينة ميتشل من كل هذا.»
قال جاس وهو يعض بوحشية عقب سيجاره: «مجموعة الإصلاح تلك تنحت في الصخر كعادتها.» «متى سيعلن هذا القرار على العامة؟» «يوم السبت.» «حسنا ابق على اتصال معنا.» «حسنا أيها السادة. رجاء لا تتصلوا بي عبر الهاتف. لا يبدو ذلك صائبا على الإطلاق. فكما ترون هذا ليس مكتبي.» «قد يكون التنصت مستمرا أيضا. هؤلاء الرجال لا يوقفهم شيء. حسنا، أراك لاحقا يا جوي.»
أومأ جو برأسه وخرج. استدار بالدوين عابسا إلى جاس. «لا أعلم ماذا سأفعل معك يا جاس إن لم تبتعد عن كل هذه المسائل العمالية. حري بشاب ولد في بيئة سياسية مثلك أن يكون أكثر حكمة. لا يمكنك الفرار من الأمر.» «لكننا تمكنا من تجميع المدينة اللعينة بأكملها.» «أعرف الكثيرين في المدينة لم يتحدوا. لكن حمدا للرب أن هذا ليس من شأني. أمر السندات هذا لا بأس به، ولكن إذا تورطت في هذه الأعمال الإضرابية فلن أستطيع تولي قضيتك. فلن تدعمها الشركة.» هكذا همس بحدة. ثم قال بصوت عال بنبرته المعتادة: «حسنا، كيف حال الزوجة يا جاس؟»
في الخارج بالردهة الرخامية اللامعة، كان جو أوكيف يصفر بلحن أغنية «روزي أوجرادي الحلوة» (سويت روزي أوجرادي) منتظرا المصعد. تخيل رجلا لديه سكرتير مذهل كهذا . توقف عن التصفير وترك أنفاسه تخرج صامتة عبر شفتين مزمومتين. ألقى التحية في المصعد على رجل أحول العينين يرتدي بذلة ذات نقشة مربعة. «مرحبا يا باك.» «هل قمت بعطلتك بعد؟»
وقف جو مباعدا بين قدميه ويداه في جيبيه. وهز رأسه. «سأذهب يوم السبت.» «أظن أنني سأقضي بضعة أيام في أتلانتك سيتي.» «كيف يمكنك ذلك؟» «أوه، ذلك الولد ذكي.»
عندما خرج أوكيف من المبنى، كان عليه أن يشق طريقه خلال الناس المتزاحمين في البوابة. كانت السماء الأردوازية الغارقة بين المباني المرتفعة تلطخ الأرصفة بما يشبه القطع المعدنية من فئة الخمسين سنتا. وكان الرجال يركضون بحثا عن مخبأ بقبعاتهم القشية أسفل معاطفهم. وقد صنعت فتاتان غطاءين من الجرائد فوق قلنسوتيهما الصيفيتين. لمح زرقة أعينهما وبريق شفاهما وأسنانهما وهو يمر. مشى سريعا إلى الناصية واستقل راكضا سيارة متجهة إلى الشمال. اجتاح المطر الشارع في زخات صلبة تتلألأ وتحفحف وتضرب الصحف فتسوي سطحها، وتثب كحلمات فضية بمحاذاة الأسفلت، وتخطط النوافذ، وتلمع طلاء الترام وسيارات الأجرة. في شارع 14 لم تكن هناك أمطار، ولكن الهواء كان خانقا.
قال رجل هرم بجانبه: «طقس عجيب.» هدر أوكيف. «عندما كنت صبيا رأيت السماء في يوم من الأيام تمطر في جانب واحد من الشارع، وكان هناك منزل يضربه البرق وعلى جانبنا لم تسقط قطرة على الرغم من أن الرجل الهرم أراد ذلك بشدة لبعض نباتات الطماطم التي كان قد بدأ لتوه في زراعتها.»
أثناء عبور أوكيف شارع 23 رأى برج حديقة ميدان ماديسون. فقفز من السيارة. وأنزل ياقة معطفه مرة أخرى وهو يشرع في عبور الميدان. وفي طرف مقعد أسفل شجرة كان جو هارلاند ناعسا. ارتمى أوكيف في المقعد المجاور له. «مرحبا جو. خذ سيجارا.» «مرحبا جو. سعيد برؤيتك يا صديقي. أشكرك. لم أدخن أحد هذه الأشياء منذ وقت طويل ... ما الذي تنوي فعله؟ أليس هذا الأمر بعيدا عنك؟» «شعرت بالكآبة نوعا ما لذلك ظننت أن أشتري لنفسي تذكرة لمباراة يوم السبت.» «ما الأمر؟» «لا أعرف بحق الجحيم ... لا يبدو أن الأمور تسير على ما يرام. لقد تعمقت كثيرا في هذه اللعبة السياسية ولا يبدو أن لها مستقبلا. يا إلهي، أتمنى لو كنت قد حظيت بتعليم مثلك.» «لقد أفادني ذلك كثيرا.» «لن أقول ذلك ... لو كنت يوما قد تمكنت من السير في المسار الذي كنت فيه، أراهنك أنني ما كنت لأخسر.» «لا يمكنك الجزم بالأمر يا جو؛ فالمرء قد تدركه أشياء عجيبة.» «هناك نساء وما إلى ذلك من الأمور.» «كلا، أنا لا أقصد ذلك ... فالمرء قد يشعر بالضجر نوعا ما.» «ولكن بحق الجحيم لا أرى كيف يمكن لرجل لديه ما يكفي من المال أن يشعر بالضجر.» «إذن ربما كان الخمر، لا أعرف.»
جلسا صامتين لدقيقة. كانت سماء ما بعد الظهر قد وردها الغروب. وكان دخان السيجار أزرق ومتجعدا حول رأسيهما. «انظر إلى السيدة المنتفخة ... انظر إلى طريقة مشيها. أليست جذابة؟ هكذا أحبهن، متأنقات بالكامل ومبهرجات وشفاههن مطلية ... يكلف الأمر الكثير من المال للتسكع مع سيدات مثلهن.» «إنهن لا يختلفن عن أي شخص آخر يا جو.» «ماذا تقول بحق الجحيم؟» «قل لي يا جو، أليس معك دولار زائد؟» «ربما معي.» «معدتي ليست على ما يرام بعض الشيء ... أود أن أتناول شيئا لجعلها تستقر، وأنا مفلس حتى أتقاضى راتبي يوم السبت ... أعني ... تفهمني ... أواثق من أنك لا تمانع؟ أعطني عنوانك وسيكون أول شيء أفعله صباح الإثنين هو أن أرده لك.» «بحق الجحيم لا تلق بالا بالأمر، سأراك في مكان ما.» «شكرا يا جو. وأرجوك ألا تشتري المزيد من أسهم بيتر بلو ماينز بالهامش دون أن تسألني عنها. قد أكون متأخرا ولكن لا يزال بمقدوري أن أكتشف التلاعب بعينين مغمضتين.» «حسنا، سأسترجع مالي.» «يستلزم الأمر حظا وافرا.» «يا إلهي، من العجيب أن أقرض دولارا لرجل كان يملك نصف شارع وول ستريت.» «أوه، لم أكن أملك ذلك القدر الذي قالوا إنني أملكه.» «هذا مكان عجيب ...» «أين؟» «أوه، لا أعرف، أظن كل مكان ... حسنا، إلى اللقاء يا جو، أظن أنني سأذهب وأشتري تلك التذكرة ... يا إلهي ، ستكون مباراة رائعة.»
رأى جو هارلاند خطوة الشاب المترنحة القصيرة وهو يغادر الطريق بقبعته القشية على جانب رأسه. ثم توقف وسار شرقا على طول شارع 23. كانت الأرصفة وجدران المنزل لا تزال تنبعث منها الحرارة رغم غروب الشمس. توقف خارج حانة جانبية وتفحص بعناية مجموعة من المعاطف المحشوة التي أصبحت رمادية من أثر الغبار، والتي شغلت منتصف النافذة. وعبر البابين المتأرجحين، تسربت إلى الشارع أصوات هادئة وبرودة تحمل رائحة الشعير. تورد وجهه فجأة وعض شفته العليا، وبعد نظرة خاطفة على الشارع ذهابا وإيابا دخل عبر البابين المتأرجحين وعرج على منضدة الشراب النحاسية المتلألئة بالزجاجات. •••
بعد هطول الأمطار في الخارج، كانت رائحة الجص الخلفية واخزة في أنوفهم. علقت إلين معطف المطر المبلل على ظهر الباب ووضعت مظلتها في ركن غرفة الملابس حيث بدأت تنتشر منها بركة صغيرة. كانت تقول بصوت خفيض لستان الذي تبعها مترنحا: «وكل ما تمكنت من التفكير فيه كان أغنية عجيبة غناها لي شخص ما عندما كنت طفلة صغيرة: والرجل الوحيد الذي نجا من الفيضان كان جاك ذا الأرجل الطويلة الذي أتى من البرزخ.» «يا إلهي، لا أفهم لماذا ينجب الناس الأطفال. إنه اعتراف بالهزيمة. فالإنجاب هو قبول كائن حي غير مكتمل. الإنجاب هو اعتراف بالهزيمة.» «أرجوك يا ستان لا تصرخ، ستصدم عمال المسرح ... ما كان يجب أن أتركك تأتي. تعرف كيف يثرثر الناس في المسرح.» «سأكون هادئا تماما كفأر صغير ... فقط دعيني أنتظر حتى تأتي ميلي لإلباسك. فرؤيتك وأنت ترتدين ثيابك هي سعادتي الوحيدة المتبقية ... أعترف أنني كائن حي غير مكتمل.» «لن تكون كائنا من أي نوع إذا لم تستفق من السكر.» «سأشرب ... سأشرب حتى أجرح نفسي فيتدفق الويسكي من عروقي. ما فائدة الدم في وجود الويسكي؟» «أوه يا ستان.» «الشيء الوحيد الذي يمكن أن يفعله كائن حي غير مكتمل هو الشرب ... أنت كائن مكتمل جميل لا يحتاج إلى الشرب ... سأستلقي وأنعم بالنوم كالأطفال.» «لا يا ستان أرجوك. إذا غفلت هنا فلن أسامحك أبدا.»
سمعت نقرتان ناعمتان على الباب. «ادخلي يا ميلي.» كانت ميلي امرأة صغيرة البنية ذات وجه متجعد وعينين سوداوين. وقد منحتها نفحة من الدم الزنجي شفتين أرجوانيتين سميكتين، ما أعطى شحوبا لبشرتها الشديدة البياض.
قالت محدثة ضجة أثناء دخولها: «إنها الثامنة و15 دقيقة يا عزيزتي.» ثم ألقت نظرة سريعة على ستان والتفتت إلى إلين ببعض العبوس الساخر. «عليك أن تذهب بعيدا يا ستان ... سأقابلك لاحقا في مبنى بو آرتس السكني أو في أي مكان تريده.» «أريد أن أنام.»
كانت إلين تجلس أمام مرآة طاولة زينتها تمسح الدهان البارد من فوق وجهها بتربيت سريع مستخدمة منشفة صغيرة. انبعثت في أنحاء الغرفة من علبة مستحضرات التجميل الخاصة بها رائحة أصباغ التمثيل وزبدة الكاكاو الذائبة والشاحمة.
همست لميلي وهي تخلع فستانها: «لا أعرف ماذا أفعل معه الليلة. أوه، أتمنى لو يتوقف عن الشرب.» «لو كنت مكانك لوضعته تحت الدش وفتحت الماء البارد فوقه يا عزيزتي.» «كيف هو الوضع في الصالة الليلة يا ميلي؟» «فارغة بعض الشيء يا آنسة إلين.» «أعتقد أن ذلك بسبب الطقس السيئ ... لن أتمكن من الأداء جيدا.» «لن أدعه يوترك يا عزيزتي. الرجال لا يستحقون ذلك.» «أريد أن أنام.» كان ستان متأرجحا وعابسا في وسط الغرفة. «سأضعه في الحمام يا آنسة إلين؛ لن يلاحظه أحد هناك.» «وهو كذلك، لندعه ينام في حوض الاستحمام.» «إيلي سيذهب للنوم في حوض الاستحمام.»
دفعته المرأتان إلى الحمام. عرج هزيلا على الحوض، واستلقى هناك نائما ورجلاه في الهواء ورأسه فوق الصنابير. كانت ميلي تصدر بلسانها قليلا من أصوات القوقأة السريعة.
همست إلين برفق: «إنه كطفل نائم عندما يكون في هذه الحالة.» دست بممسحة الحمام تحت رأسه وأزاحت شعره المليء بالعرق من فوق جبهته. كان يتنفس بصعوبة. مالت وقبلت جفنيه برقة شديدة. «عليك أن تسرعي يا آنسة إلين ... الستار يرفع.» «فلتلق نظرة سريعة، هل مظهري جيد؟» «جميلة كلوحة فنية ... حماك الرب يا عزيزتي.»
ركضت إلين على الدرج واستدارت إلى أجنحة المسرح، ووقفت هناك، لاهثة مرتعبة كما لو كانت فلتت لتوها من حادث دهس سيارة، وأخذت من صاحب المسرح قائمة الأغاني التي كان عليها أداؤها، وانتظرت حتى أتى دورها وسارت إلى الأضواء. «كيف تبلين جيدا هكذا يا إلين؟» كان هاري جولدوايزر يقول ذلك وهو يهز رأس ربلة ساقه من فوق الكرسي خلفها. كان بمقدورها رؤيته في المرآة وهي تزيل مستحضرات التجميل من فوق وجهها. وكان يقف بجانبه رجل طويل القامة ذو عينين رماديتين وحاجبين أشيبين. «أتتذكرين عندما خضعت أول مرة لتجارب الأداء وقلت للسيد فاليك، لن يمكنها النجاح يا سول، أليس كذلك يا سول؟» «بالطبع فعلت ذلك يا هاري.» «اعتقدت أنه لا يمكن لفتاة صغيرة وجميلة أن تجلب، كما تعلمين ... تجلب الشغف والرعب بداخلي، هل تفهمين ما أعني؟ ... كنت أنا وسول في القاعدة نشاهد ذلك المشهد في الفصل الأخير.»
قال فاليك مصدرا أنينا: «رائع، رائع. أخبرينا كيف تفعلين ذلك يا إلين.»
أزيلت مستحضرات التجميل لتظهر سوداء ووردية على قطعة القماش. تحركت ميلي برصانة في الخلفية معلقة الفساتين. «هل تعرف من الذي دربني على ذلك المشهد؟ إنه جون أوجليثورب. إن لديه أفكارا مدهشة عن التمثيل.» «أجل، من المخزي أنه كسول للغاية ... كان بإمكانه أن يصبح ممثلا ذا شأن كبير.»
هزت إلين شعرها لأسفل ولوته في استدارة بكلتا يديها، قائلة: «إنه ليس كسولا بالضبط ...» رأت هاري جولدوايزر يلكز السيد فاليك. «جميل أليس كذلك؟» «كيف سار عرض «الوردة الحمراء» (ريد روز)؟» «أوه لا تسأليني يا إلين. عرض حصريا أمام الأدلاء الأسبوع الماضي، هل تعين ذلك؟ لا أفهم لماذا لم يعجبهم، إنه مشوق ... ولماي ميريل طلة جميلة. أوه، لقد ذهب مجال العروض بأكمله إلى الجحيم.»
وضعت إلين الدبوس البرونزي في لفافة شعرها النحاسية. رفعت ذقنها لأعلى. «أود أن أجرب شيئا كهذا.» «ولكن كل في أوانه يا عزيزتي الشابة؛ فلقد وضعناك للتو في أول الطريق كممثلة عاطفية.» «إنني أكره ذلك؛ فكل شيء مزيف. في بعض الأحيان أريد أن أنزل إلى الجمهور في المكان المخصص لجلوسهم لأخبرهم قائلة اذهبوا إلى منازلكم أيها الحمقى. هذا عرض رديء وبه الكثير من التمثيل الزائف وينبغي أن تعرفوا ذلك. بوسع المرء أن يكون صادقا في العروض الموسيقية.» «ألم أخبرك أنها مجنونة يا سول؟ ألم أخبرك أنها مجنونة؟» «سأستخدم بعضا من هذا الخطاب الصغير في الدعاية الأسبوع المقبل ... يمكنني إدخاله بشكل جيد.» «لا يمكنك تركها تفسد العرض.» «كلا، ولكن يمكنني استخدامه في ذلك العمود حول تطلعات المشاهير ... كما تعلم، هذا الرجل هو رئيس شركة زوزودونت لمعطرات الفم، وكان يفضل أن يكون رجل إطفاء، وثمة رجل آخر كان يفضل أن يكون حارسا في حديقة الحيوانات ... يا لها من أشياء تروق للبشر.» «يمكنك أن تخبرهم يا سيد فاليك بأنني أعتقد أن مكان المرأة في المنزل ... من أجل ضعاف العقول.»
ضحك هاري جولدفايزر وظهرت الأسنان الذهبية في جانبي فمه: «هأ هأ هأ. لكنني أعلم أنه يمكنك الرقص والغناء مع الأفضل منهم يا إلين.» «ألم أكن في الجوقة لمدة عامين قبل أن أتزوج من أوجليثورب؟»
قال السيد فاليك وهو ينظر بطرف عينه من أسفل رموشه الرمادية: «لا بد أنك قد بدأت في المهد.» «حسنا، ينبغي أن أطلب منكما أيها السيدان الخروج من هنا لدقيقة كي أبدل ملابسي. إنني أتصبب عرقا كل ليلة بعد ذلك المشهد الأخير.» «علينا أن نغادر على أي حال ... هل تفهمين ما أعني؟ ... أتمانعين أن أستخدم حمامك لبعض الوقت؟»
وقفت ميلي أمام باب الحمام. كانت عينا إلين خاليتين من أي تعابير. «يؤسفني أنه لا يمكنك يا هاري، إنه في حالة فوضى.» «سأذهب إلى غرفة تشارلي ... وسأخبر طومسون أن يجلب سباكا ليفحص الحمام ... حسنا، تصبحين على خير يا صغيرتي. وداعا.»
قال السيد فاليك مصرصرا: «تصبحين على خير يا سيدة أوجليثورب، وإذا لم تستطيعي أن تكوني بخير فلتكوني حذرة.» أغلقت ميلي الباب خلفهما.
صاحت إلين ومدت ذراعيها: «هيه، يا لها من راحة!» «لا أخفيك سرا لقد كنت خائفة يا عزيزتي ... لا تدعي أبدا أي شخص هكذا يأتي إلى المسرح معك. لقد رأيت العديد من الممثلين الكبار دمرتهم أشياء من هذا القبيل. أقول لك ذلك لأنني مغرمة بك يا آنسة إلين، وأنا عجوز وأعرف مجال العروض جيدا.» «أنت كذلك بالطبع يا ميلي، ومعك كل الحق أيضا ... لنر ما إذا كنا سنستطيع إيقاظه.» «يا إلهي يا ميلي، انظري إلى ذلك.»
كان ستان مستلقيا كما تركاه في حوض الاستحمام تغطيه المياه. وكان ذيل معطفه وإحدى يديه يطفوان فوق الماء. «انهض من هنا يا ستان أيها الأحمق ... قد يلقى حتفه. أيها الأحمق، أيها الأحمق.» أمسكت به إلين من شعره وهزت رأسه من جانب إلى آخر.
أن بصوت طفل نعسان: «أوه هذا مؤلم.» «انهض من هنا يا ستان ... إنك مغمور بالمياه.»
أرجع رأسه وفتح عينيه بغتة. «يا إلهي، إنني مغمور بالمياه بالفعل.» رفع نفسه بيديه على جانبي الحوض ووقف متمايلا، والماء المصفر بسبب ملابسه وحذائه يقطر منهما، وكان يشهق بضحكته العالية. استندت إلين إلى باب الحمام تضحك وعيناها ممتلئتان بالدموع. «لا يمكنك أن تغضبي منه يا ميلي، هذا ما يجعله مثيرا للسخط. أوه ماذا سنفعل؟»
قالت ميلي: «من حسن حظه أنه لم يغرق ... أعطني أوراقك ومحفظتك يا سيدي. سأحاول تجفيفها بمنشفة.» «ولكنك لا يمكنك أن تمر أمام البواب هكذا ... حتى لو عصرنا ملابسك ... عليك أن تخلع جميع ملابسك يا ستان وأن ترتدي أحد فساتيني. ثم يمكنك أن ترتدي معطف المطر الخاص بي ويمكننا أن نسرع إلى داخل سيارة أجرة وتأخذها إلى المنزل ... ما رأيك يا ميلي؟»
كانت ميلي تدحرج عينيها وتهز رأسها وهي تعصر معطف ستان. وفي حوض الغسيل كومت بقاياه المبللة من محفظة، ودفتر، وأقلام رصاص، ومطواة، ولفافتين من أفلام التصوير، وقنينة.
قال ستان: «أريد أن أستحم على أي حال.» «أوه أراهنك على ذلك. حسنا؛ فأنت مستفيق على الأقل.» «مستفيق كبطريق.» «حسنا، عليك أن ترتدي ملابسي هذا كل شيء ...» «لا يمكنني أن أرتدي ملابس الفتيات.» «عليك أن تفعل ذلك ... فليس معك حتى معطف مطر لتغطي به تلك الفوضى. إذا لم تفعل فسأحبسك في الحمام وأتركك.» «حسنا إيلي ... أنا في غاية الأسف حقا.»
كانت ميلي تلف الملابس في الجريدة بعد أن عصرتها في حوض الاستحمام. نظر ستان إلى نفسه في المرآة. «يا إلهي إن مظهري مناف للحشمة في هذا الفستان ... كما الممثل الكوميدي إيش كابيبيل!» «لم أر شيئا قط أكثر فظاعة ... كلا، تبدو في غاية الجمال، ربما صعب بعض الشيء ... الآن أرجوك أبق وجهك نحوي عندما تمر بالهرم بارني.» «حذائي رطب للغاية.» «ما باليد حيلة ... حمدا للرب أنه كان معي هذا المعطف هنا يا ميلي، يا لك من ملاك لترتبي كل هذه الفوضى!» «ليلة سعيدة يا عزيزتي، وتذكري ما قلته ... أقول لك هذا كل ...» «تحرك بخطوات بطيئة يا ستان، وإذا قابلت أحدا، فسر في طريقك مباشرة واقفز في سيارة أجرة ... يمكنك تجنب أي شيء إذا انطلقت بسرعة كافية.» كانت يدا إلين ترتجفان عندما نزلا الدرج. ووضعت إحداهما أسفل مرفق ستان وبدأت تتحدث بصوت ثرثرة منخفض ... «كما تعلم يا عزيزي، زارني أبي ليشاهد العرض قبل ليلتين أو ثلاث ليال، واندهش حتى كادت الصدمة تودي بحياته. قال إنه يعتقد أن الفتاة بعرضها لمشاعرها هكذا أمام العديد من الأشخاص تذل نفسها ... أليس هذا مؤلما؟ ... كان لا يزال معجبا بالتقارير التي كتبت عني في صحيفتي «هيرالد» و«وورلد» يوم الأحد ... ليلة سعيدة يا بارني، بل ليلة فظيعة ... يا إلهي ... ها هي سيارة أجرة، اصعد. إلى أين أنت ذاهب؟» من ظلام سيارة الأجرة، ومن وجهه الطويل المدسوس في القلنسوة الزرقاء، كانت عيناه سوداوين شديدتي البريق لدرجة أخافتها كما لو كانتا قد ظهرتا فجأة من حفرة عميقة في الظلام. «حسنا، سنذهب إلى منزلي. فهل يضر الشاة سلخها بعد ذبحها؟ ... رجاء أيها السائق اذهب إلى شارع البنك.» انطلقت سيارة الأجرة. كانوا يتأرجحون عبر المستويات المتقاطعة بالضوء الأحمر، والضوء الأخضر، والضوء الأصفر والمخرزة بحروف كلمة برودواي. مال ستان فجأة نحوها وأعطى فمها قبلة عنيفة خاطفة. «عليك أن تتوقف عن الشرب يا ستان. الأمر يتجاوز الحد.» «وما المانع من تجاوز الأمور الحد؟ أنت تتجاوزين الحد ولا أشتكي.» «ولكنك يا حبيبي سوف تقتل نفسك.» «وماذا إذن؟» «أوه، أنا لا أفهمك يا ستان.» «وأنا لا أفهمك يا إيلي، لكني أحبك جدا ... أحبك حبا جما.» كانت ثمة رعشة متقطعة في صوته الخفيض باغتتها بسعادة.
دفعت إلين الأجرة. سمعت صافرة إنذار زاعقة خلفت حالة من الكآبة في الشارع، مرت سيارة إطفاء حمراء براقة، ثم تبعها خطاف وسلم بجرس مصلصل. «دعينا نذهب إلى النيران يا إيلي.» «وأنت بتلك الملابس ... لن نفعل شيئا هكذا.»
تبعها صامتا إلى المنزل وصعد الدرج. كانت غرفتها الطويلة باردة ومنعشة الرائحة. «أنت لست غاضبة مني يا إيلي، أليس كذلك؟» «بالطبع لست غاضبة أيها الطفل الأحمق.»
حلت صرة ملابسه المبللة وأخذتها إلى داخل مطبخ صغير لتجف بجانب موقد الغاز. استدعاها صوت الفونوجراف الصادع بأغنية «إنه شيطان في مسقط رأسه» (هيز أديفيل إن هيز أون هوم تاون). كان ستان قد خلع الفستان. وكان يراقص كرسيا، وروبها الأزرق المبطن يتطاير من فوق ساقيه النحيفتين المشعرتين. «أوه يا ستان، يا عزيزي الأحمق.»
أنزل الكرسي وتوجه نحوها بسمرته على نحو رجولي، واتكأ بالروب السخيف. وصل الفونوغراف إلى نهاية اللحن، وراحت الأسطوانة تدور مصرصرة.
الفصل الخامس
الذهاب إلى معرض الحيوانات
ضوء أحمر، وجرس.
كان حشد بطول أربعة صفوف من السيارات ينتظر عند تقاطع السكة الحديدية، والمصدات تظهر في ضوء المصابيح الخلفية، وحواجز الطين تنتشر في المكان، والمحركات تخرخر ساخنة، والعوادم يفوح دخانها، وسيارات من بابل وجامايكا، وسيارات من مونتوك، وبورت جيفرسون، باتشوج، وسيارات ليموزين من مدينة لونج بيتش وحي فار روكاواي، وسيارات خفيفة من منطقة جريت نيك ... سيارات مليئة بالأزهار النجمية وملابس السباحة الرطبة، وأعناق لفحتها الشمس، وأفواه دبقة من أثر تناول المشروبات الغازية والنقانق ... سيارات مغبرة بحبوب لقاح اليعقوبيات وقضيب الذهب.
ضوء أخضر. تتسابق المحركات وتنعق التروس على السرعة الأولى. تتباعد السيارات، وتتدفق في شريط طويل على طول الطريق الأسمنتي الشبحي، وسط الكتل الخرسانية للمصانع ذات النوافذ السوداء، وسط الألوان الزاهية للافتات ذات الألواح نحو الوهج فوق المدينة التي تقف مدهشة في سماء الليل كوهج خيمة كبيرة مضاءة، ككتلة طويلة صفراء لخيمة في أحد العروض.
سراييفو ، علقت الكلمة في حلقها عندما حاولت نطقها ...
كان جورج بالدوين يئن قائلا: «إنه لأمر فظيع أن أفكر في ذلك. فالشارع سيئول إلى الخراب ... سيغلقون البورصة، ما باليد حيلة.» «ولم أذهب إلى أوروبا من قبل أيضا ... فلا بد أن الحرب شيء استثنائي.» إلين في فستانها المخملي الأزرق وعباءة أديمية اللون فوقه استندت إلى وسائد سيارة الأجرة التي كانت تطن بخفة أسفلهما. «أفكر دائما في التاريخ على أنه مطبوعات حجرية في كتاب مدرسي، حيث يدلي الجنرالات بتصريحاتهم، وتركض بعض الشخصيات الضئيلة الحجم في الحقول باسطة أذرعها، ونسخ لتوقيعات.» مخاريط ضوء تقطع مخاريط ضوء على طول جانب الطريق الحار الطنان، وتنشر المصابيح الأمامية أنوارها فوق الأشجار، والمنازل، واللوحات الإعلانية، وأعمدة البرق بضربات فرش عريضة من الكلس. استدارت سيارة الأجرة نصف دورة وتوقفت أمام نزل على الطريق ينضح بالضوء الوردي وموسيقى الراجتايم من كل شق من شقوقه.
قال سائق التاكسي لبالدوين عندما دفع له الأجرة: «ثمة حشد كبير الليلة.»
سألت إلين: «لم يا ترى؟» «أظن أن جريمة القتل في حي كنارسي لها دخل في الأمر.» «ماذا حدث؟» «أمر فظيع. لقد رأيتها.» «أرأيت جريمة القتل؟» «لم أره يفعلها. ولكني رأيت جثثا ملقاة ومتيبسة قبل أن يأخذوها إلى المشرحة. اعتدنا في طفولتنا أن نسمي الرجل سانتا كلوز لأن له لحية بيضاء ... عرفته منذ أن كنت فتى صغيرا.» كانت السيارات بالخلف تصدر أصوات أبواقها مزمجرة وجاشة. «من الأفضل أن أتحرك ... ليلة سعيدة يا سيدتي.»
كان المدخل الأحمر تفوح منه رائحة الكركند، والمحار المطهو على البخار، وشراب الكوكتيل. «عجبا، مرحبا يا جاس ... دعيني يا إلين أقدم لك السيد والسيدة ماك نيل ... هذه هي الآنسة أوجليثورب.» صافحت إلين اليد الكبيرة لرجل أحمر العنق أفطس الأنف، ويد زوجته الصغيرة الدقيقة في قفازها. «سأراك يا جاس قبل أن نذهب ...»
كانت إلين تتابع الحلة ذات الذيل لرئيس الندل على طول حافة حلبة الرقص. جلسا إلى طاولة بجوار الجدار. كانت تعزف موسيقى أغنية «الكل يفعل هذا». همهم بالدوين باللحن وهو يميل فوقها لبرهة معدلا المعطف على ظهر كرسيها.
شرع في الحديث وهو جالس قبالتها: «إنك أجمل إنسانة يا إلين ... يبدو الأمر مروعا للغاية. لا أرى كيف يكون ذلك ممكنا.» «ماذا؟» «هذه الحرب. لا أستطيع أن أفكر في أي شيء آخر.» «أنا أستطيع ...» أبقت عينيها على القائمة. «هل لاحظت هذين الشخصين اللذين عرفتهما بك؟» «نعم. هل هما آل ماك نيل الذين يرد اسمهم في الصحف طوال الوقت؟ هناك بعض الجدل حول إضراب البنائين ومسألة سندات بين المناطق الإدارية.» «الأمر برمته يتعلق بالسياسة. أراهن أنه سعيد بالحرب، يا لجاس الهرم المسكين! سأفعل شيئا واحدا، وسيجعل هذا الجدل يختفي من الصفحات الأولى للصحف ... سأخبرك عنه في دقيقة ... لا أظن أنك تحبين المحار المطهو على البخار، أليس كذلك؟ إنه جيد جدا هنا.» «إنني أعشق المحار المطهو على البخار يا جورج.» «إذن سنتناول عشاء فاخرا على الطراز القديم لشاطئ لونج آيلاند. ما رأيك في ذلك؟» وهي تضع قفازاتها بعيدا على حافة الطاولة لامست يدها زهرية من ورود حمراء باهتة وصفراء. رفرف وابل من بتلات باهتة فوق يدها، وقفازها، والطاولة. فهزتها عن يديها. «واجعله يأخذ هذه الورود الرديئة بعيدا يا جورج ... أنا أكره الزهور الباهتة.»
ينحل البخار من الوعاء المطلي للمحار في الوهج الوردي للمصباح. راقب بالدوين أصابعها، وردية ورشيقة، وهي تجذب المحار من رقابها الطويلة لتخرجها من صدفاتها، وتغمسها في الزبد الذائب، وتلقي بها في فمها فتقطر فيه عصارتها. كانت منغمسة في تناول المحار. تنهد بالدوين. «إلين ... أنا رجل تعيس للغاية ... لرؤيتي لزوجة جاس ماك نيل. إنها المرة الأولى التي أراها فيها منذ سنوات. فلتتأملي الأمر؛ فلقد كنت مجنونا بحبها والآن لا أستطيع أن أتذكر اسمها الأول ... إنه أمر مضحك، أليس كذلك؟ كانت الأمور بطيئة للغاية منذ شرعت في العمل وحدي. لقد كان أمرا متسرعا؛ فقد كنت لتوي قد تخرجت قبل سنتين في كلية الحقوق ولم يكن معي المال للشروع في عمل. كنت أهيج في تلك الأيام. وكنت قد قررت أنه إذا لم أحصل على قضية في ذلك اليوم، فسأتخلص من كل شيء وأعود للعمل موظفا في مكتب للمحاماة. خرجت للتنزه كي أصفي رأسي ، ورأيت عربة بضائع تفرغ حمولتها في عربة حليب بالجادة الحادية عشرة. كانت فوضى مروعة، وعندما أوقفنا الرجل قلت لنفسي سأحصل له على التعويض المناسب أو أعلن إفلاسي في المحاولة. ربحت قضيته وجعلني هذا ألفت انتباه مختلف الأشخاص في وسط المدينة، وجعله هذا يبدأ مسيرته المهنية، وجعلني أيضا أبدأ مسيرتي.» «إذن كان يقود عربة حليب، أليس كذلك؟ أعتقد أن بائعي الحليب هم ألطف البشر في العالم. ولكن رجلي هو الألطف.» «لن تكرري هذا أمام أحد يا إلين ... إنني أثق فيك ثقة كاملة.» «هذا لطف منك يا جورج. أليس من المدهش كم تتشبه الفتيات كل يوم أكثر فأكثر بالسيدة كاسيل؟ فقط انظر حولك في هذه الغرفة.» «لقد كانت كالوردة البرية يا إلين، نابضة بالحيوية ومتوردة ومفعمة بالروح الأيرلندية، وهي الآن كامرأة صغيرة بدينة وقصيرة ويغلب عليها الطابع العملي.» «وأنت لا تزال تحتفظ بمظهرك اللائق كما كنت دوما. هكذا تسير الأمور.» «أتعجب ... أنت لا تعرفين كم كان كل شيء فارغا وأجوف قبل أن أقابلك. كل ما يمكنني أنا وسيسلي فعله هو أن نجعل حياة كل منا بائسة.» «أين هي الآن؟» «إنها في بلدة بار هاربور ... لقد حالفني الحظ وكل أنواع النجاح عندما كنت لا أزال شابا ... لم أبلغ الأربعين بعد.» «ولكني أظن أن الأمر لا بد وأنه رائع. لا بد أنك تستمتع بالعمل في المحاماة وإلا فلم تكن لتحقق فيه مثل هذا النجاح.» «أوه، النجاح ... النجاح ... ماذا يعني ذلك؟» «إنني أرغب في القليل منه.» «ولكنك تحققينه يا فتاتي العزيزة.» «أوه ليس هذا ما أعنيه.» «ولكن الأمر لم يعد ممتعا كما كان. فكل ما أفعله هو الجلوس في المكتب وترك الشباب يقومون بالعمل. مستقبلي مخطط له بالفعل. أظن أنه بإمكاني أن أتسم بالوقار والأبهة وأنغمس في بعض الرذائل الخاصة ... ولكني أفضل من أن أفعل ذلك.» «لماذا لا تمارس العمل بالسياسة؟» «ما الذي يجعلني أذهب إلى واشنطن للصيد في الماء العكر بينما أنا في الموقع الذي تصدر فيه الأوامر؟ المريع في أن تتركي نيويورك تتعفن بداخلك هو أنه لا يوجد مكان آخر. إنها قمة العالم. كل ما يمكننا فعله هو الدوران كما لو كنا في قفص سنجاب.»
كانت إلين تشاهد الناس في ملابسهم الصيفية الخفيفة يرقصون فوق المربع المشمع من الأرضية في المنتصف، ولمحت وجه توني هانتر البيضوي الأبيض المتورد يجلس إلى طاولة في الجانب البعيد من الغرفة. لم يكن أوجليثورب معه. جلس هيرف صديق ستان وظهره لها. شاهدته يضحك، وكان رأسه الأسود الطويل المجعد متأرجحا بعض الشيء بميل على رقبة هزيلة. لم تكن تعرف الرجلين الآخرين. «إلى من تنظرين؟» «ما هم سوى بعض أصدقاء جوجو ... أتعجب كيف وجدوا طريقهم إلى هنا. المكان لا يتناسب وذوقهم.»
قال بالدوين بابتسامة ساخرة: «الأمر دائما يسير هكذا عندما أحاول الابتعاد عن شيء ما.» «أرى أنك فعلت بالضبط ما كنت تريده طوال حياتك.» «أوه يا إلين، فقط لو تركتني أفعل ما أريده الآن. أريدك أن تدعيني أسعدك. يا لك من فتاة صغيرة وشجاعة تشقين طريقك بمفردك تماما بطريقتك! أقسم أنك مفعمة بالحب والغموض والبريق ...» تلعثم، وأخذ جرعة كبيرة من النبيذ، وواصل حديثه بوجه متورد. «أشعر وكأنني تلميذ في المدرسة ... أبدو أحمق. إلين، سأفعل أي شيء في العالم من أجلك.» «حسنا، كل ما سأطلبه منك هو أن تصرف هذا الكركند بعيدا. أظنه ليس جيدا جدا.» «اللعنة ... ربما هو ليس كذلك ... أيها النادل ... كنت أثرثر كثيرا لدرجة أنني لم أكن أعلم أنني كنت أتناوله.» «يمكنك أن تجلب لي بعض الدجاج الممتاز بدلا منه.» «بالتأكيد يا صغيرتي المسكينة لا بد أنك تتضورين جوعا.» «... وكوزا من الذرة ... أعي الآن كيف أصبحت محاميا جيدا يا جورج. فأي هيئة محلفين كانت ستجهش في البكاء قبل وقت طويل عند سماعها مثل هذا الاستعطاف الجياش.» «وماذا عنك أنت يا إلين؟» «أرجوك يا جورج لا تسألني.» •••
على الطاولة حيث جلس جيمي هيرف كانوا يشربون الويسكي ومشروبا غازيا. وكان ثمة رجل ذو بشرة صفراء بشعر فاتح وأنف رفيع يقف منحنيا بين عيون زرقاء طفولية ويتحدث في رتابة وسرية: «صدقا ، لقد أرغمتهم على سماع الحق. إنهم في قسم الشرطة مجانين، مجانين تماما ليتعاملوا مع الأمر على أنه حالة اغتصاب وانتحار. هذا الرجل الهرم وابنته الجميلة البريئة قد قتلا، قتلة بشعة. وهل تعرف من ...؟» أشار بإصبع ممتلئ عليه آثار رماد سجائر إلى توني هانتر.
قال مسقطا رموشه الطويلة على عينيه: «لا تستجوبني بالإكراه فأنا لا أعرف أي شيء عن الأمر.» «إنها عصابة اليد السوداء.»
قال جيمي هيرف ضاحكا: «أخبرهم يا بولوك.» أنزل بولوك قبضته على الطاولة بقوة جلجلت الأطباق والأكواب. «إن حي كنارسي مليء بأعضاء عصابة اليد السوداء، وبالفوضويين، والخاطفين، والمواطنين غير المرغوب فيهم. إنها مسئوليتنا أن نتصدى لهم ونصون شرف هذا الرجل الهرم المسكين وابنته الحبيبة. سندافع عن شرف ذلك الرجل الهرم المسكين ذي وجه قرد، ما اسمه؟»
قال جيمي «ماكينتوش. واعتاد الناس هنا أن يلقبوه بسانتا كلوز. بالطبع يقر الجميع أنه مجنون منذ سنوات.» «نحن لا نقر بشيء سوى عظمة المواطنة الأمريكية ... لكن بحق الجحيم ما الفائدة من تصدر هذه الحرب اللعينة الصفحة الأولى بأكملها في الصحف؟ كنت سأنشر خبرها بملء الصفحة ولكنهم أعطوني فقط نصف عمود. أليست هذه هي الحياة؟» «ربما يمكنك افتعال قصة عن كونه الوريث المفقود للعرش النمساوي وأنه قد قتل لأسباب سياسية.» «ليست بالفكرة السيئة يا جيمي.»
قال توني هانتر: «ولكنه شيء فظيع.» «تعتقد أننا حفنة من المتوحشين القساة، أليس كذلك يا توني؟» «كلا، ولكني لا أرى المتعة التي يحصل عليها الناس من القراءة في هذا الموضوع.»
قال جيمي: «أوه، إنه جزء من عملنا اليومي المعتاد. ما يقشعر له بدني هو حشد الجيوش، وقد قصفت العاصمة بلجراد، وغزيت بلجيكا ... وكل تلك الأشياء. لا يمكنني تخيل الأمر ... لقد قتلوا جوريس.» «من هو؟» «اشتراكي فرنسي.» «هؤلاء الفرنسيون الملعونون منحطون للغاية؛ كل ما يمكنهم فعله هو القتال في المبارزات وتبادل زوجاتهم. أراهن أن الألمان سيدخلون باريس في غضون أسبوعين.»
قال فرامينجهام، وكان رجلا متكلفا طويل القامة ذا شارب أشقر هش يجلس بجانب هانتر: «لا يمكن أن يدوم ذلك طويلا.» «حسنا، أود الحصول على مهمة باعتباري مراسل حرب.» «قل لي يا جيمي، هل تعرف هذا الرجل الفرنسي الذي يعمل ساقيا هنا؟» «أتقصد كونغو جيك؟ بالتأكيد أعرفه.» «هل هو رجل طيب؟» «إنه ممتاز.» «دعونا نخرج ونتحدث معه. قد يعطينا بعض المعلومات حول جريمة القتل هذه التي حدثت هنا. يا إلهي، ليتني أربطها بالنزاع العالمي.»
شرع فرامينجهام في الحديث، قائلا: «لدي ثقة كبيرة في أن البريطانيين سيصلحون الأمر بطريقة ما.» تبع جيمي بولوك نحو منضدة الشراب.
وهو يعبر الغرفة، لمح إلين. كان شعرها شديد الاحمرار من وهج المصباح بجانبها. وكان بالدوين يميل نحوها عبر الطاولة بشفتين رطبتين وعينين لامعتين. شعر جيمي بشيء متلألئ ينبثق في صدره كزنبرك منطلق. أدار رأسه بعيدا فجأة خوفا من أن تراه.
استدار بولوك ودفعه في ضلوعه. «أخبرني يا جيمي من هذان الرجلان اللذان خرجا معك بحق الجحيم؟» «إنهما صديقان لروث. لا أعرفهما جيدا. أظن أن فرامينجهام مصمم ديكور.»
عند منضدة الشراب أسفل صورة لوسيتينيا وقف رجل أسود يرتدي معطفا أبيض وله صدر منتفخ كصدر غوريلا. كان صدره يهتز ويتأرجح بين يديه المشعرتين بغزارة. وقف نادل أمام منضدة الشراب حاملا صينية من كئوس الكوكتيل. فار الكوكتيل داخل الكئوس برغوة بيضاء مخضرة.
قال جيمي: «مرحبا يا كونغو.»
بالفرنسية: «آه، مساء الخير يا سيد هيرف، كيف حالك؟» «جيد جدا ... اسمع يا كونغو، أريدك أن تقابل صديقا لي. هذا هو جرانت بولوك «الأمريكي».» «تشرفت. أنت والسيد هيرف لكما عندي شراب على حساب الحانة يا سيدي.»
رفع النادل صينية الكئوس المصلصلة إلى ارتفاع الأكتاف وحملها على صفحة يده. «أظن أن شراب الجن الفوار سوف يمحو أثر كل ذلك الويسكي ولكني أريد كأسا منه ... اشرب شيئا، ألن تفعل يا كونغو؟» وضع بولوك إحدى قدميه على القضيب النحاسي وأخذ رشفة من الشراب. قال على مهل: «كنت أتساءل عما إذا كانت هناك أي معلومات تتداول في الأرجاء حول جريمة القتل هذه التي وقعت في الشارع.» «لكل نظريته حول الأمر ...»
لمح جيمي غمزة فاترة من إحدى عيني كونغو السوداوين العميقتين. سأل كي يمنع نفسه من الضحك: «هل تعيش هنا؟» «أسمع في منتصف الليل صوت سيارة تمر بسرعة كبيرة وقد شغل قاطع تيارها. أظن أنها ربما قد صدمت شيئا لأنها توقفت سريعا جدا ورجعت أسرع، بأسرع ما يمكن.» «هل سمعت صوت إطلاق رصاص؟»
هز كونغو رأسه على نحو يبعث على الشعور بالغموض. «إنني أسمع أصواتا، أصواتا غاضبة جدا.»
قال بولوك وهو يتجرع آخر القطرات في شرابه: «يا إلهي، سأبحث في هذا. دعنا نعد إلى الفتيات.» •••
كانت إلين تنظر إلى وجه النادل المتجعد كحبة جوز بعينيه الشبيهتين بعيني سمكة وهو يسكب القهوة. كان بالدوين يميل للخلف في كرسيه محدقا إليها عبر رموشه. وكان يتحدث بصوت رتيب منخفض: «ألا ترين أنني سيجن جنوني إن لم أحظ بك. لم أرغب في شيء قط من العالم سواك.» «جورج، لا أريد أن أكون ملكا لأحد ... ألا يمكنك أن تفهم أن المرأة تريد بعض الحرية؟ فلتحظ بروح رياضية حيال الأمر. سأضطر إلى الذهاب إلى المنزل إذا كنت ستتحدث هكذا.» «لماذا تركتني معلقا إذن؟ أنا لست من هذا النوع من الرجال الذي يمكنك أن تلعبي به باعتبارك امرأة متسلطة. أنت تعرفين ذلك جيدا.»
نظرت إليه مباشرة بعينين رماديتين واسعتين، وقد أضفى الضوء لمعانا ذهبيا على النقاط البنية الصغيرة في حدقتيها. «ليس من السهل أبدا على المرء ألا يكون بمقدوره تكوين الأصدقاء.» نظرت لأسفل إلى أصابعها على حافة الطاولة. كانت عيناه على البريق النحاسي على طول رموشها. قطع فجأة الصمت الذي كان يضيق بينهما. «على أي حال دعنا نرقص.» «لقد طفت العالم ثلاث مرات
في رحلاتي.»
همهم كونغو جيك وخافق الشراب اللامع يترجرج بين يديه المشعرتين. كانت الحانة الضيقة المغطاة بالورق الأخضر تعج بها وتكتنفها أصوات الفوران والفحيح الدوامي للشراب، والصلصلة الحادة للثلج والكئوس، ولحن موسيقي عارض من الغرفة الأخرى. وقف جيمي هيرف وحده في الركن يحتسي كأسا من الجن الفوار. وبجواره كان جاس ماك نيل يصفع بولوك على ظهره ويزأر في أذنه: «عجبا ، إن لم يغلقوا البورصة ... يا إلهي ... ثمة فرصة قبل الإفلاس ... حسنا، أستحلفك لا تنس. وقت الذعر هو الوقت المناسب لكسب المال للرجل الحصيف.» «كانت هناك بعض الإخفاقات الكبيرة بالفعل، ولم تكن هذه سوى النفحة الأولى ...» «لا تطرق الفرصة باب الشباب سوى مرة واحدة ... استمع لما أقول، عندما يلحق فشل كبير بإحدى شركات السمسرة، فبوسع الرجال الصادقين أن يهنئوا أنفسهم ... لكنك لن تكتب كل ما أقوله لك في الصحف، أليس كذلك؟ ثمة رجل صالح ... معظمكم تراوغون وتتقولون على الناس. لا يمكنني الوثوق في أحد منكم. ولكني سأخبرك بشيء، تعليق العمل أمر رائع بالنسبة إلى المقاولين. فلم تعد هناك أعمال بناء للمنازل في ظل الحرب على أي حال.» «لن يستمر الأمر لأكثر من أسبوعين، ولا أرى له علاقة بنا على أي حال.» «ولكن الأحوال ستتأثر في جميع أنحاء العالم ... الأحوال ... مرحبا يا جوي، ماذا تريد بحق الجحيم؟» «أود أن أتحدث معك على انفراد لمدة دقيقة يا سيدي. فثمة بعض الأخبار المهمة ...»
فرغت الحانة شيئا فشيئا. وكان جيمي هيرف لا يزال واقفا في الطرف مستندا إلى الجدار. «أنت لا تسكر أبدا يا سيد هيرف.» جلس كونغو جيك خلف منضدة الشراب كي يتناول فنجانا من القهوة. «أفضل مشاهدة الآخرين وهم يسكرون.» «جيد جدا. فلا فائدة من إنفاق الكثير من المال والإصابة بألم في الرأس في اليوم التالي.» «ليست هذه طريقة حديث ساق في حانة.» «إنني أقول ما أعتقد فيه.» «اسمع، لقد كنت دوما أريد أن أسألك ... أتمانع من إخباري؟ ... لماذا أسموك كونغو جيك؟»
ضحك كونغو عميقا من قلبه. «لا أعلم ... عندما كنت صغيرا جدا وذهبت إلى البحر أول مرة نادوني بكونغو لأن لدي شعرا مجعدا وبشرة داكنة كالزنوج. ثم عندما عملت في أمريكا، على متن سفينة أمريكية وكل ذلك، سألني رجل قائلا كيف حالك يا كونغو؟ وقلت له إن اسمي جيك ... لذا أسموني كونغو جيك.» «يا لها من كنية ... ظننت أنك كنت في رحلة بحرية.» «إنها حياة صعبة ... أقر يا سيد هيرف أن حظي سيئ. عندما أتذكر الماضي فأول ما يخطر ببالي هو أيام كنت أعمل في أحد الصنادل ... في قناة ... كان هناك رجل كبير يضربني كل يوم ولم يكن أبي. ثم هربت وعملت في المراكب الشراعية داخل وخارج مدينة بوردو، أترى؟» «كنت هناك في طفولتي على ما أظن ...» «بالتأكيد ... تفهم هذه الأشياء يا سيد هيرف. لكن رجلا مثلك، بتعليمك الجيد وكل ذلك، لا يعرف ما حقيقة الحياة. عندما كنت في السابعة عشرة جئت إلى نيويورك ... ليس بالأمر الجيد. لم أفكر في شيء سوى أن أحظى بالمرح. ثم ركبت البحر مرة أخرى وذهبت بعيدا في كل مكان. تعلمت في شنغهاي تحدث اللغة الأمريكية والعمل في الحانات. ثم عدت إلى مدينة فريسكو وتزوجت. والآن أريد أن أكون أمريكيا. ولكن سوء الحظ يلاحقني مرة أخرى، أترى؟ قبل أن أتزوج تلك الفتاة، عشت أنا وهي معا لمدة عام كالشهد، ولكننا لم نكن بأفضل حال عندما تزوجنا. فهي تسخر مني وتدعوني فرينشي لأنني لا أجيد تحدث اللغة الأمريكية، ولم تعد تخرج من المنزل فطردتها. إن حياة الرجل منا لعجيبة.» «لقد طفت العالم ثلاث مرات
في رحلاتي ...»
شرع في الغناء بصوته الباريتوني الهادر.
كانت ثمة يد على ذراع جيمي. فالتفت. «عجبا يا إيلي، ما الأمر؟» «إن معي رجلا مجنونا، ينبغي أن تساعدني في الهرب منه.»
بمزيج من الإنجليزية والفرنسية: «انظري هذا هو كونغو جيك ... لا بد أنك تعرفينه يا إيلي، إنه رجل جيد ... هذه فنانة رائعة جدا يا كونغو.» «ألا ترغب السيدة في كأس صغيرة من الأنيزيت؟» «تناولي بعض الشراب معنا ... إنه مريح للغاية في هذا الوقت هنا وقد رحل الجميع.» «لا شكرا، أنا ذاهبة إلى المنزل.» «لكن الأمسية قد بدأت لتوها.» «حسنا، عليك أن تتحمل عواقب الرجل المجنون الذي معي ... اسمع يا هيرف، هل رأيت ستان اليوم؟» «لا، لم أره.» «إنه لم يصل في الوقت الذي توقعته فيه.» «أتمنى أن تمنعيه من الإفراط في الشرب يا إيلي. أنا قلق عليه.» «لست وصية عليه.» «أعلم، ولكنك تعلمين ما أعنيه .» «ما رأي صديقنا هنا في كل هذا الحديث الدائر حول الحرب؟» «لن أذهب؛ فالأجير لا بلد له. سأصبح مواطنا أمريكيا ... لقد عملت في البحرية من قبل ولكن ...» صفع ساعده المنحني المهتز بيد واحدة، وقرقعت ضحكة عميقة في حلقه ... ثم بمزيج من الإنجليزية والفرنسية: «23. أنا مناصر للفوضوية كما تعلم يا سيدي.» «ولكن إذن لا يمكنك أن تكون مواطنا أمريكيا.»
هز كونغو كتفيه.
همست إلين في أذن جيمي: «أوه أنا أحبه، إنه رائع.» «أتعرف سبب خوضهم لهذه الحرب هنا ... كي لا يقوم أولئك الأجراء في كل مكان بثورة كبيرة ... إنهم مشغولون للغاية بالقتال. لذلك فإن جيوم، وفيفياني، وإمبراطور النمسا، وكروب، وروتشيلد، ومورجان؛ ينادون جميعا بخوض الحرب ... أتعرف ما أول شيء فعلوه؟ لقد أطلقوا النار على جوريس؛ لأنه اشتراكي. الاشتراكيون خونة للاشتراكية الدولية، ولكن على الرغم من ذلك ...» «ولكن كيف يمكنهم دفع الناس للقتال وهم لا يرغبون فيه؟» «الناس في أوروبا عبيد لآلاف السنين. ليس كما هو الوضع هنا ... ولكنني رأيت الحرب. إنها عجيبة للغاية. عملت في إحدى الحانات في قرية بورت آرثر، ولم أكن سوى طفل صغير في ذلك الحين. كان أمرا شديد العجب.» «حقا! أتمنى أن أحصل على وظيفة مراسلة حرب.» «قد أعمل ممرضة في الصليب الأحمر.» «العمل مراسلة جيد جدا ... حيث تسكرين دائما في حانة أمريكية بعيدة كل البعد عن ساحة المعركة.»
ضحكا. «ولكن ألسنا بالأحرى بعيدين عن ساحة المعركة يا هيرف؟» «حسنا، فلنرقص. يجب أن تسامحيني إن كان رقصي سيئا للغاية.» «سأركلك إذا أخطأت في شيء.»
كان ذراعه متيبسا كالجص عندما أحاطها ليرقص معها. تكسرت جدران عالية من الرماد وطقطقت بداخله. كان يحلق كمنطاد على إثر رائحة شعرها. «قف على أصابع قدميك وامش تزامنا مع الموسيقى ... تحرك في خطوط مستقيمة، هذا هو السر في الأمر.» جرح صوتها مشاعره بشدة وكأنه قطع جسده بمنشار معدني حاد مرن وصغير. مرافق مهتزة، ووجوه محتشدة، وعيون كعيون دمية جولي ووج السوداء في كتب الأطفال، رجال بدينون مع نساء نحيفات، ونساء نحيفات مع رجال بدينين يدورون مكتظين حولهما. كان كالجص الذي يفتته شيء يخشخش مؤلما في صدره، وكانت هي بين ذراعيه كآلة معقدة بسن منشار فولاذي ذي وميض أبيض، وأزرق، ونحاسي. عندما توقفا اصطدم به صدرها، وجانب جسدها، وفخذها. فامتلأ جسده فجأة بالدماء المتدفقة مع العرق كحصان جامح. دفع نسيم عبر باب مفتوح دخان التبغ والهواء الوردي المتخثر في المطعم. «أريد يا هيرف أن أذهب لأرى الكوخ الذي وقعت فيه جريمة القتل، أرجوك خذني إلى هناك.» «وكأنني لم أر ما يكفي من إشارة الحظر في مكان ارتكاب الجريمة.»
تقدم جورج بالدوين في القاعة أمامهما. كان شاحبا كالطباشير، وكانت ربطة عنقه السوداء مائلة، وكانت فتحتا أنفه الرفيع منبسطتين وتبرز عليهما عروق حمراء صغيرة. «مرحبا يا جورج.»
نعق صوته لاذعا كبوق سيارة. «لقد كنت أبحث عنك يا إلين. ينبغي أن أتحدث معك ... ربما تعتقدين أنني أمزح. ولكني لا أمزح مطلقا.» «معذرة لدقيقة يا هيرف ... والآن ما الأمر يا جورج؟ عد إلى الطاولة.» «لم أكن أنا أمزح أيضا يا جورج ... أتمانع أن تطلب لي سيارة أجرة يا هيرف؟»
أمسك بالدوين معصمها بقوة. «لقد كنت تتلاعبين بي طويلا، هل تسمعينني؟ يوما ما سيأخذ رجل مسدسا ويطلق النار عليك. تعتقدين أنه بإمكانك التلاعب بي كما تتلاعبين بكل الحمقى البكائين الآخرين ... لست سوى عاهرة.» «لقد قلت لك يا هيرف أن تذهب وتحضر لي سيارة أجرة.»
عض جيمي شفته وخرج من الباب الأمامي. «ماذا ستفعلين يا إلين؟» «لن يرهبني يا جورج.»
ومض شيء من النيكل في يد بالدوين. تقدم جاس ماك نيل وقبض على معصمه بيد حمراء كبيرة. «أعطني ذلك يا جورج ... أرجوك اجمع شتات نفسك يا رجل.» دس المسدس في جيبه. ترنح بالدوين إلى الحائط أمامه. كان إصبع الزناد في يده اليمنى ينزف.
قال هيرف وهو ينظر من وجه لآخر من الوجوه البيضاء المضطربة: «ها هي سيارة أجرة.»
كان ماك نيل يصرخ بصوت من يتحدث من فوق منصة صغيرة مصنوعة من صندوق للصابون: «حسنا، خذ الفتاة إلى المنزل ... ليس بها شيء، نوبة عصبية فحسب، أترى؟ لا داعي للقلق.» كان رئيس الندل وفتاة المعاطف يتبادلان النظرات بقلق. خفض ماك نيل صوته حتى أصبح كخرخرة مطمئنة: «لم يحدث شيء ... الرجل متوتر قليلا ... إرهاق كما تفهمون.» «لقد نسيت فحسب.»
عندما كانوا يستقلون سيارة الأجرة، قالت إلين فجأة بصوت طفل صغير: «لقد نسيت أننا كنا ذاهبين لرؤية الكوخ الذي وقعت فيه جريمة القتل ... لنجعله ينتظر. أرغب في التنزه في الهواء الطلق لدقيقة.» كانت هناك رائحة مستنقعات ملحية وكانت الليلة رخامية بالغيوم وضوء القمر. وبدا صوت الضفادع في خنادق المياه وكأنها أجراس زلاجات جليدية.
سألت: «هل هو بعيد؟» «لا، إنه عند الناصية مباشرة.»
طقطقت أقدامهما على الحصى ثم طحنت برفق في حارة الطريق المجروشة. أعماهما مصباح أمامي، فتوقفا من أجل السماح للسيارة بالمرور؛ ملئ أنفاهما بالعادم، الذي تلاشى في رائحة المستنقعات الملحية مرة أخرى.
كان منزلا رماديا شاحبا ذا شرفة صغيرة تطل على الطريق وتغطيها شبكة مكسورة. ظللته شجرة سنط كبيرة من الخلف. وكان ثمة رجل شرطة يمشي جيئة وذهابا أمامه وهو يصفر لنفسه برفق. ظهرت لدقيقة كسرات بلون كلون العفن من ضوء القمر من خلف الغيوم، لتشكل ما يشبه ورق القصدير من بعض الزجاج المكسور في إحدى النوافذ المفتوحة، وتنتقي أوراق السنط المستديرة الصغيرة، وتتدحرج كعملة دايم في صدع بالغيوم.
لم يقل أي منهما شيئا. رجعا إلى النزل على الطريق. «اصدقني القول يا هيرف، ألم تر ستان؟» «لا، ليس لدي فكرة أين عساه أن يكون مختبئا.» «إذا رأيته فأخبره أنني أريده أن يتصل بي على الفور ... هيرف، ماذا كان اسم أولئك النساء اللواتي اتبعن الجيوش في الثورة الفرنسية؟» «دعيني أتذكر. هل كان كانتونيريه؟» «شيء من هذا القبيل ... أود أن أفعل ذلك.»
أصدر قطار كهربائي صفيره بعيدا إلى يمينهما، واهتز مقتربا ثم تلاشى في مسيرة عوائه.
كانت موسيقى التانجو تنبعث من النزل على الطريق كما لو كانت تقطر منه وتذيب طلاءه الوردي ككتلة من الآيس كريم. كان جيمي يتبعها راكبا سيارة الأجرة. «كلا، أريد أن أكون وحدي يا هيرف.» «ولكني أرغب بشدة أن أصطحبك إلى المنزل ... لا تعجبني فكرة أن أتركك تذهبين وحدك.» «من فضلك، أطلب منك ذلك بصفتنا صديقين.»
لم يتصافحا. رفست سيارة الأجرة الغبار والجازولين المحترق في وجهه. وقف على الدرج غير راغب في العودة إلى ضوضاء ودخان. •••
كانت نيللي ماك نيل تجلس وحدها إلى الطاولة. كان أمامها الكرسي مدفوعا إلى الوراء وقد جلس عليه زوجها ووضع منديله على ظهره. كانت تحدق أمامها مباشرة؛ حيث مرت الراقصات كالظلال أمام عينيها. في الطرف الآخر من الغرفة رأت جورج بالدوين، شاحبا ونحيلا، يمشي ببطء إلى طاولته كرجل مريض. وقف بجانب الطاولة يفحص شيكه بعناية، ثم دفعه ووقف ينظر في أنحاء الغرفة مشتت الانتباه. كان سينظر إليها. أحضر النادل الباقي على طبق وانحنى. اجتاحت نظرة بالدوين السوداء وجوه الراقصات، ثم أدار ظهره وخرج. تذكرت المذاق المسكر للزنابق الصينية التي لا تطاق، فشعرت بعينيها ممتلئتين بالدموع. أخرجت مفكرتها من حقيبتها الشبكية الفضية وتصفحتها على عجل، واضعة رءوس أسهم بقلم رصاص فضي. نظرت لأعلى بعد برهة، وكان جلد وجهها المتعب مجعدا من أثر الغضب، وأشارت إلى النادل. «هل يمكنك من فضلك أن تخبر السيد ماك نيل أن السيدة ماك نيل تريد التحدث إليه؟ إنه في الحانة.»
كان بولوك يصيح في الوجوه والكئوس المتراصة فيما يشبه إطار الزينة على طول منضدة الشراب: «سراييفو، سراييفو، هذا هو المكان الذي أشعل فتيل النزاع.»
قال جو أوه كيفي سرا دون أن يوجه كلامه لشخص بعينه: «اسمع، أخبرني رجل يعمل في مكتب تلغراف أنه كانت هناك معركة بحرية كبيرة قبالة ساحل سانت جون، وأن جيوش جزيرة نيوفندلاند والبريطانيين قد أغرقوا الأسطول الألماني المكون من 40 بارجة.» «يا للهول، ذلك من شأنه أن يوقف الحرب على الفور.» «لكنهم لم يعلنوا نشوب الحرب بعد.» «كيف علمت بذلك؟ البرقيات مكتظة لدرجة لا يمكن معها الحصول على أي أخبار عن طريقها.» «ألم تر وقوع أربعة إخفاقات أخرى في وول ستريت؟» «لا تقل لي إن بورصة القمح في شيكاغو قد جن جنونها.» «ينبغي أن يغلقوا جميع البورصات حتى ينقشع هذا الهم.» «حسنا، ربما عندما يغلب الألمان بشكل حاسم ستمنح إنجلترا أيرلندا حريتها.» «لكنها ... لن تفتح سوق الأسهم غدا.» «إذا كان لدى المرء رأس المال الذي يغطي الأمر ويمكنه أن يحافظ على رباطة جأشه، فسيكون إذن قد حان وقت الربح.»
قال جيمي: «حسنا أيها الرجل الهرم بولوك، سأذهب إلى المنزل. فهذه ليلة راحتي ويجب أن أحصل عليها.»
غمز بولوك بإحدى عينيه ولوح بيد مهتزة من أثر السكر. كانت الأصوات في أذني جيمي كزئير لين نابض، تقترب وتبتعد، تقترب وتبتعد. يموت ميتة الكلاب، هكذا قال وهو يسير. أنفق جميع أمواله إلا ربع دولار. أطلق عليه الرصاص وقت شروق الشمس. إنه إعلان الحرب. بدأت الأعمال العدائية. وتركوه وحده في مجده. معارك لايبزيج، وويلدرنس، وووترلو، حيث وقف المزارعون المحاصرون وأطلقوا الرصاص الذي سمع دويه في كل مكان ... لا يمكنني أن أستقل سيارة أجرة، وأريد أن أمشي على أي حال. الإنذار النهائي. يغني العساكر في القطارات الذاهبة بهم إلى الخراب والورود فوق آذانهم. والعار على الإتروري المزيف الذي يتخلف في منزله عندما ...
بينما كان يسير في طريق الحصى إلى الشارع، تأبطت ذراعه ذراع أخرى. «هل تمانع إذا أتيت معك؟ لا أريد البقاء هنا.» «بالتأكيد تعال يا توني أنا ذاهب للتمشية.»
سار هيرف بخطوة طويلة، ناظرا أمامه مباشرة. أظلمت الغيوم السماء، في حين بقي البياض الحليبي لضوء القمر. إلى اليمين واليسار كانت هناك بالخارج الأقماع البنفسجية الرمادية للمصابيح القوسية التي تظهر بين الحين والآخر سوداء يتخللها بعض الأضواء، وفي الأمام وهج الشوارع المرتفعة في منحدرات ضبابية صفراء ومتوردة.
قال توني هانتر لاهثا بعد بضع دقائق: «أنت لا تحبني، أليس كذلك؟»
أبطأ هيرف من وتيرته. «عجبا، أنا لا أعرفك جيدا. تبدو لي شخصا لطيفا للغاية ...» «لا تكذب؛ فليس ثمة سبب يجعلك تحبني ... أعتقد أنني سأقتل نفسي الليلة.» «بحق السماء! لا تفعل ذلك ... ما الأمر؟» «ليس لديك الحق في أن تقول لي ألا أقتل نفسي. أنت لا تعرف شيئا عني. لو كنت امرأة لما كنت غير مبال إلى هذه الدرجة.» «ما الذي يؤرقك؟» «أصاب بالجنون، هذا ما في الأمر، كل شيء مروع للغاية. عندما قابلتك أول مرة مع روث ذات مساء اعتقدت أننا سنصبح صديقين يا هيرف. لقد بدوت متعاطفا ومتفهما للغاية ... ظننتك مثلي، ولكنك الآن أصبحت قاسيا للغاية.» «أظن السبب هو مشكلاتي مع صحيفة «نيويورك تايمز» ... سأطرد قريبا، لا تشغل بالك.» «لقد سئمت من كوني فقيرا؛ أريد أن أحقق نجاحا.» «حسنا، ما زلت صغيرا بعد؛ لا بد أنك أصغر مني.» لم يجبه توني.
كانا يسيران في جادة واسعة بين صفين من المنازل الخشبية المسودة. مرت عربة ترام طويلة وصفراء مهسهسة ومصرصرة. «يا إلهي، لا بد أننا في حي فلاتبوش.» «ظننتك مثلي يا هيرف، لكنني لا أراك الآن مطلقا سوى مع بعض النساء.» «ماذا تعني؟» «لم أخبر أحدا في العالم قط ... أستحلفك ألا تخبر أحدا ... عندما كنت طفلا، كنت شبقا بفظاعة، عندما كنت في العاشرة، أو الحادية عشرة، أو الثالثة عشرة من عمري تقريبا.» كان يبكي. عندما مرا أسفل أحد المصابيح القوسية، التقط جيمي ترقرق الدموع على وجنتيه. «ما كنت لأخبرك بهذا إن لم أكن مخمورا.» «لكن أشياء من هذا القبيل حدثت للجميع تقريبا في طفولتهم ... لا داعي للقلق بشأن ذلك.» «لكنني على هذا النحو الآن، وهذا هو المروع للغاية. لا أستطيع أن أحب النساء. لقد حاولت وحاولت ... كما ترى فقد ألقي القبض علي. كنت أشعر بالخجل الشديد ولم أذهب إلى المدرسة لأسابيع. بكت والدتي كثيرا. إنني أشعر بالخجل الشديد. وأنا خائف للغاية من أن يكتشف الناس الأمر. أنا أجاهد دائما من أجل إبقاء الأمر سرا، من أجل إخفاء مشاعري.» «ولكن الأمر برمته قد لا يتعدى كونه مجرد فكرة. قد تتمكن من تجاوزها. فلتذهب إلى محلل نفسي.» «لا أستطيع التحدث إلى أحد. فقط الليلة لأنني مخمور. لقد حاولت البحث عن الأمر في الموسوعة ... إنه ليس في القاموس حتى.» توقف واستند إلى عمود إنارة ووجهه بين يديه. «إنه ليس في القاموس حتى.»
ربت جيمي هيرف على ظهره. «ابتهج أرجوك. هناك الكثير من الناس في مثل حالتك. العالم مليء بهم.» «أنا أكرههم جميعا ... ليس أمثال هؤلاء من أقع في حبهم. أنا أكره نفسي. وأفترض أنك ستكرهني بعد هذه الليلة.» «ما هذا الهراء؟ إن الأمر ليس من شأني.» «الآن تعرف لما أريد أن أقتل نفسي ... أوه، هذا ليس عدلا يا هيرف، هذا ليس عدلا ... لم يحالفني الحظ في حياتي. بدأت في كسب رزقي بمجرد أن أنهيت المدرسة الثانوية. فقد اعتدت العمل خادما في الفنادق الصيفية. عاشت والدتي في ليكوود وكنت أرسل لها كل ما أكسبه. لقد عملت بجد للوصول إلى ما أنا عليه الآن. لو كان قد عرف أمري، لو كان قد ذاعت ثمة فضيحة وعرف كل شيء، لكنت قد تدمرت.» «لكن الجميع يقول ذلك عن الممثلين الشباب ولا يشغل أي منهم باله بما يقولون.» «عندما أفشل في الحصول على أحد الأدوار، أظن أن هذا هو السبب. إنني أكره وأحتقر كل هذه النوعية من الرجال ... لا أريد أن أعمل عملا آخر. أريد أن أمثل. أوه هذا جحيم ... هذا جحيم.» «لكنك تتدرب الآن على أحد الأدوار، أليس كذلك؟» «إنه عرض أحمق لن يتجاوز ستامفورد مطلقا. إذن عندما تسمع أنني قد قمت بالأمر فلن تتفاجأ.» «قمت بماذا؟» «قتلت نفسي.»
سارا دون أن ينبسا بكلمة. بدأت السماء تمطر. وفي الشارع خلف المنازل المنخفضة على شكل علب الأحذية ذات اللون الأسود المخضر كان ثمة برق مختلج كعثات متوردة. هبت رائحة رطبة مغبرة من الأسفلت الذي ضربته القطرات الكبيرة المنهمرة. «لا بد أن تكون هناك محطة مترو أنفاق قريبة ... أليس هذا ضوءا أزرق هنا؟ لنسرع وإلا فسنبتل.» «أوه بحق الجحيم يا توني لا يهمني إن تبللت أم لا.» خلع جيمي قبعته اللبادية وأرجحها بيد واحدة. كانت قطرات المطر باردة على جبهته، ورائحة المطر، والأسطح، والطين، والأسفلت أخذت من فمه المذاق اللاذع للويسكي والسجائر.
صرخ فجأة: «يا إلهي، هذا مروع.» «ماذا؟» «كل هذه الجلبة حول الجنس . لم أكن أدرك الأمر قبل هذه الليلة، كل هذا الكم من العذاب. يا إلهي، لا بد أنك قد مررت بأوقات عصيبة ... كلنا مررنا بأوقات عصيبة. في حالتك الأمر مجرد حظ، حظ سيئ شيطاني. كان مارتن يقول: كل شيء سيكون أفضل بكثير إذا دق الجرس فجأة وأخبر الجميع الجميع بصراحة بما فعلوه في حياتهم، كيف عاشوا، وكيف أحبوا. إن إخفاء الأمور هو ما يجعلها تفسد. بربي إنه لأمر مروع. وكأن الحياة لم تكن صعبة بما فيه الكفاية من دون ذلك.» «حسنا، سأذهب إلى محطة مترو الأنفاق هذه.» «سيكون عليك انتظار القطار لساعات.» «لا أتحمل، فأنا متعب ولا أريد أن أتبلل.» «حسنا ليلة سعيدة.» «ليلة سعيدة يا هيرف.»
هبت نوبة هائجة طويلة من قصف رعدي. وبدأت السماء تمطر بغزارة. ضغط جيمي قبعته على رأسه وسحب ياقة معطفه لأعلى. أراد أن يركض على طول الطريق صارخا ولاعنا بأعلى صوته. ومض البرق على طول الصفوف المحدقة للنوافذ الفارغة. اضطرب المطر على طول الأرصفة، أمام نوافذ المتاجر، وعلى البلاطات الحجرية البنية. كانت ركبتاه مبتلتين، وتتدفق قطرات بطيئة فوق ظهره، وكانت ثمة شلالات باردة تقطر من كميه على معصميه، كان يشعر بالحكة والوخز في كامل جسده. واصل السير عبر بروكلين. تستحوذ على عقله صورة كل سرير في جميع غرف النوم التي في حجم بيوت الحمام، حيث النائمون المتشابكون والملتوون والمختنقون كجذور النباتات المستحوذة على أصصها. وتستحوذ على عقله أصوات الأقدام المصرصرة فوق سلالم النزل، والأيدي المتلمسة طريقها عند مقابض الأبواب. تستحوذ على عقله صورة الأصداغ الطارقة والأبدان الوحيدة المتيبسة في أسرتها.
لقد طفت العالم ثلاث مرات
لتحي الدماء، لتحي الدماء ...
أنا يا سيدي مناصر للفوضوية ... «ودارت سفينتنا الشجاعة ثلاث مرات، ودارت ثلاث مرات» ... اللعنة بين ذلك والمال ... «وغرقت في قاع البحر» ... إننا ندور في حلقة مفرغة من أجل تحقيق العدالة.
لقد طفت العالم ثلاث مرات
في رحلاتي.
إعلان حرب ... قعقعة طبول ... يسير الحرس الملكي البريطاني بثيابه الحمراء خلف العصا اللامعة لقائد فرقة الطبول بقبعته الشبيهة بأكمام كفوف من الفرو الطويل الشعر، ويدور المقبض الفضي وامضا في غضب، غضب، غضب ... في وجه الثورة العالمية. بدأت الأعمال العدائية في استعراض طويل عبر الشوارع الفارغة التي غمرها المطر. اقرأ الطبعة الثانية، طبعة ثانية، طبعة ثانية. سانتا كلوز يطلق النار على ابنته، حاول مهاجمتها. «يقتل نفسه رميا بالرصاص» ... يضع البندقية أسفل ذقنه ويضغط على الزناد بإصبع قدمه الكبير. تنظر النجوم للأسفل إلى مدينة فريديريكتاون. يا عمال العالم اتحدوا. فلتحي الدماء، فلتحي الدماء.
قال جيمي هيرف عاليا: «يا إلهي، إنني مبتل.» امتدت الشوارع على مستوى نظره فارغة تحت المطر بين صفوف النوافذ الفارغة والمرصعة هنا وهناك بمقابض بنفسجية من أثر المصابيح القوسية. واصل السير شاعرا باليأس.
الفصل السادس
خمس مسائل قانونية
يسيرون اثنين اثنين على عجل. «ممنوع منعا باتا الوقوف في السيارات». سلسلة الصعود تتشابك، ممسكة في التروس؛ فتصعد السيارات المستوى المائل منتفضة من داخل الأضواء الطنانة، من داخل رائحة الحشود والذرة المطبوخة على البخار والفول السوداني، تتصاعد خفاقة مقززة في ليلة طويلة من ليالي سبتمبر المليئة سماؤها بالشهب.
البحر، ورائحة المستنقعات، وأضواء إحدى عبارات شركة أيرون ستيمبوت مغادرة الرصيف. وعبر الأفق الأزرق الداكن ذي المسحة البنفسجية، ومضت منارة. ثم يموج البحر. يضطرب البحر، وترتفع الأضواء. شعرها في فمه، ويده في ضلوعها، وفخذاهما منسحقان معا.
انتزعت ريح سقوطهما صرخاتهما، فانتفضا وقد علت أنفاسهما عبر هيكل الجسر المتشابك. يموج البحر. ويضطرب. وأضواء جياشة في الأفق ما بين الظلمة والبحر. ثم يموج البحر. «حافظوا على مقاعدكم للرحلة التالية.» «ادخل يا جو، سأرى إن كانت السيدة العجوز ستجلب لنا بعض الطعام.» «هذا لطف بالغ منك ... أنا ... أنا لست ... أنا ... لا أرتدي زيا مناسبا للقاء سيدة كما ترى.» «أوه لن تهتم. فما هي سوى أمي، اجلس، سأحضرها.»
جلس هارلاند على كرسي بجانب الباب في المطبخ المظلم ووضع يديه على ركبتيه. جلس يحدق إلى يديه، وكانتا حمراوين محببتين بالغبار وترتجفان ، وكان لسانه كمبشرة جوزة الطيب من أثر الويسكي الرخيص الذي كان يشربه الأسبوع الماضي، وشعر في كامل جسده بالخدر والبلل والنتانة. حدق إلى يديه.
عاد جو أوكيف إلى المطبخ. «إنها مستلقية. تقول إن هناك بعض الحساء خلف الموقد ... تفضل. هذا سيمنحك القوة ... ينبغي أن تذهب حيث كنت ليلة أمس يا جو. فقد خرجت إلى حانة سي سايد هنا كي أحمل رسالة إلى رئيس الطهاة عن شخص يخبره بأنهم سيغلقون السوق ... لقد كان أبشع شيء رأيته في حياتك. هذا الرجل الذي هو محام معروف في وسط المدينة كان بالخارج في القاعة يصيح عاليا من أعماقه معترضا على شيء ما. يا إلهي، لقد بدا صعبا. ثم أخرج مسدسا وكاد يطلق النار عليها أو شيء ملعون من هذا القبيل عندما أتى رئيس الطهاة وهدأ من روعه وهو يعرج على عصاه كما يفعل، وأخذ المسدس بعيدا عنه ووضعه في جيبه قبل أن يرى أحد بوضوح ما حدث ... هذا الرجل بالدوين هو صديقه، أتصدق ذلك؟ لقد كان أبشع شيء رأيته في حياتك. ثم انهار تماما مثل ...»
قال جو هارلاند: «اسمع مني يا فتى، سيصيبهم هذا جميعا عاجلا أم آجلا ...» «فلتتناول طعامك جيدا. لم تأكل ما يكفي.» «لا أستطيع أن آكل جيدا.» «بل تستطيع بالتأكيد ... أخبرني يا جو ماذا عن الحرب؟» «أعتقد أنهم سيخوضونها هذه المرة ... لقد عرفت أنها آتية منذ حادثة أكادير.» «يا إلهي، أحب أن أرى أحدا يهزم إنجلترا بعد أن رفضت منح أيرلندا حكمها الذاتي.» «ينبغي علينا مساعدتهم ... على أي حال لا أرى كيف يمكن أن يستمر هذا طويلا. فلن يسمح بذلك من يتحكمون في التمويل الدولي. في نهاية المطاف، المصرفيون هم من يتحكمون في الأموال.» «لن نذهب لمساعدة إنجلترا، لا يا سيدي، لن نفعل ذلك بعد ما فعلوه في أيرلندا، وفي الثورة، وفي الحرب الأهلية ...» «سيقضي عليك تماما هذا التاريخ الذي تقرؤه في المكتبة العامة كل ليلة يا جوي ... فلتتابع أسعار الأسهم وابق منتبها ومستعدا ولا تدعهم يخدعونك بكل هذه الصحف التي تتحدث حول الإضرابات، والثورات، والاشتراكية ... أود أن أراك تحقق نجاحا يا جوي ... حسنا، أظن أنه من الأفضل أن أذهب.» «فلتمكث قليلا، سنفتح زجاجة من الشراب.» سمعا صوت أقدام ثقيلة متعثرة في الممر خارج المطبخ. «من هناك؟» «أهذا أنت يا جو؟» دخل الغرفة مترنحا فتى كبير الحجم أشقر الشعر بكتفين ضخمين ووجه أحمر مربع وعنق ثخين. «من في ظنك يكون هذا بحق الجحيم؟ ... إنه أخي الصغير مايك.» «حسنا ما الأمر؟» وقف مايك متمايلا وذقنه على صدره. انتفخت كتفاه لتصل إلى السقف المنخفض للمطبخ. «أليس كالحوت في ضخامته؟ ولكن بحق المسيح ألم أقل لك ألا تأتي إلى المنزل وأنت مخمور؟ ... إن بإمكانه أن يهدم علينا المنزل.» «ينبغي أن أعود إلى المنزل وقتا ما أليس كذلك؟ منذ أن عملت في الحزب يا جو وأنت تضايقني أكثر مما يفعل الرجل الهرم. أنا سعيد أنني لن أمكث في هذه البلدة الملعونة طويلا. إن بها ما يكفي لتجن جنون المرء. إن تمكنت من أن أذهب في أحد الأحواض التي تبحر أمام جسر البوابة الذهبية، فسأفعل وربي.» «بحق الجحيم لا أمانع من أن تبقى هنا. كل ما في الأمر أنني لا أحب ألا تتمالك نفسك طوال الوقت، أتفهم؟» «سأفعل ما أريد، أتفهمني؟» «اخرج من هنا يا مايك ... عد إلى المنزل عندما تكون مستفيقا.» «أود أن أراك وأنت تطردني من هنا، أتفهمني؟ أود أن أراك وأنت تطردني من هنا.»
نهض هارلاند واقفا. قال: «حسنا، سأفعل. فلتر ما إذا كان بإمكاني فعل ذلك.»
كان مايك يتقدم عبر المطبخ بقبضتين مطبقتين. مد جوي شفته السفلى، والتقط كرسيا. «سألبسه في رأسك.» «بحق القديسين والشهداء ألا تستطيع المرأة أن تحظى بالسكينة في منزلها؟» ركضت امرأة صغيرة البنية ذات شعر أشيب تصرخ بينهما، وكان لها عينان سوداوان متباعدتان في وجهها المنكمش كتفاحة تركت لتتعفن من عام مضى، لوحت في الهواء بيدين لواهما العمل. «فليخرس كل منكما، دائما ما تتبادلان السباب وتتعاركان في أنحاء المنزل كما لو لم يكن هناك إله ... اصعد يا مايك إلى الطابق العلوي واستلق في سريرك حتى تستفيق.»
قال جوي: «لقد كنت للتو أقول له ذلك .»
التفتت إلى هارلاند، وكان صوتها كصرير الطباشير على سبورة سوداء. «وأنت، اخرج من هنا. فأنا لا أسمح بوجود المتشردين السكارى في منزلي. اخرج من هنا. لا يهمني من أحضرك.»
نظر هارلاند إلى جوي بابتسامة بغيضة بعض الشيء، ثم هز كتفيه وخرج. تمتم وهو يتعثر بساقين تؤلمانه على طول الشارع الترابي للمنازل المبنية من الطوب ذي الواجهة المظلمة: «خادمة.»
كانت شمس ما بعد الظهيرة القائظة كضربة على ظهره. وفي أذنيه أصوات الخادمات، والطهاة، والكتاب المختزلين، والسكرتارية: نعم يا سيدي، السيد هارلاند، شكرا لك يا سيدي السيد هارلاند. أوه يا سيدي شكرا جزيلا يا سيدي السيد هارلاند ... •••
ثمة طنين أحمر في جفنيها حيث يوقظها ضوء الشمس، وتغوص مرة أخرى في دهاليز النوم الناعمة كالصوف القطني الأرجواني، وتستيقظ مرة أخرى، متقلبة متثائبة، وتسحب ركبتيها إلى ذقنها لتجذب شرنقة النعاس الحلوة بإحكام أكثر حولها. تتدحرج شاحنة تدحرجا مرعبا على طول الشارع، وأشعة الشمس تقبع في خطوط ساخنة فوق ظهرها. تتثاءب في يأس وتتقلب وتستلقي متمددة ويداها أسفل رأسها محدقة في السقف. من بعيد عبر الشوارع وجدران المنازل، يخترق سمعها الأنين الطويل لصافرة قارب بخاري كفسيلة حشائش سلطعون تندفع عبر الحصى. تجلس إلين وهي تهز رأسها كي تبعد ذبابة متخبطة حول وجهها. تومض الذبابة وتختفي في ضوء الشمس، ولكنها تظل تشعر في مكان ما بوخز طنان متباطئ، غير قابل للتفسير، شيء خلفته أفكار الليلة الماضية المريرة. ولكنها سعيدة ومستيقظة تماما وما زال الوقت مبكرا. تنهض وتتجول في أرجاء الغرفة في ثوب نومها.
عندما تضرب الشمس الأرضية الخشبية الصلبة، تجدها دافئة في أخمصي قدميها. تزقزق عصافير الدوري على النوافذ. ويأتي من الطابق العلوي صوت ماكينة خياطة. عندما خرجت من الحمام بدا جسدها مصقولا ناعما ومشدودا، ففركته بمنشفة وهي تحسب ساعات اليوم الطويل الذي أمامها؛ حيث المشي عبر شوارع وسط المدينة التي تتناثر بها القمامة وصولا إلى ذلك الرصيف على النهر الشرقي حيث يكومون عارضات خشب الماهوجني، ثم تناول الإفطار وحدها في فندق لافاييت، من قهوة ولفائف هلالية وزبدة حلوة، والذهاب للتسوق في متجر لورد آند تيلور مبكرا قبل حلول المساء حيث الزحام وإرهاق البائعات، وتناول الغداء مع ... ثم يتدفق الألم الذي كان يزعجها طوال الليل وينفجر. قالت بصوت عال: «ستان، ستان، يا إلهي!» تجلس أمام مرآتها تحدق إلى سواد حدقتي عينيها المتسعتين.
ترتدي ملابسها على عجل وتخرج، وتمشي في الجادة الخامسة وشرقا بمحاذاة شارع 8 دون النظر يمينا أو يسارا. أشعة الشمس حارة بالفعل وتسقط على شكل أضلاع مضطربة فوق الأرصفة، والألواح الزجاجية، واللافتات المطلية بالأبيض من مسحوق الرخام. وجوه الرجال والنساء وهم يمرون بها مجعدة ورمادية كالوسائد التي ناموا عليها طويلا. بعد عبورها شارع لافاييت الذي يعج بالشاحنات وعربات التوصيل، تشعر بمذاق الغبار في فمها، وحبيبات من جريش تنسحق بين أسنانها. وعندما تتقدم أكثر ناحية الشرق، تمر بعربات يد، حيث يمسح رجال الطاولات الرخامية لحوامل المشروبات الغازية، ويملأ أرغن يدوي الشارع بمقطوعة «الدانوب الأزرق» الصادرة من لفائف تدافعه اللامعة، وتنتشر حدة حريفة من حامل للمخللات. في ساحة تومبكينز، يتجول الأطفال صارخين فوق الأسفلت الندي. وعند قدميها كومة تتلوى من الأولاد الصغار، بقمصانهم المتسخة الممزقة، وأفواههم التي تسيل لعابا، يلكمون، ويعضون، ويخربشون، وتفوح منهم رائحة كريهة كالخبز العفن. تشعر إلين فجأة بركبتيها ضعيفتين تحتها. تستدير وتمشي في الطريق الذي أتت منه.
الشمس ثقيلة كذراعه على ظهرها، تضرب ساعدها العاري كما تضربها أصابعه، إنها أنفاسه على وجنتها. •••
قالت إلين للرجل ذي عظام الوجه البارزة والعينين الكبيرتين المرتخيتين كالمحار، وهي تنظر إلى مقدمة قميصه الطويلة: «لا شيء سوى المسائل القانونية الخمس.»
سأل بجدية: «أوهكذا يمنح القرار؟» «بالتأكيد بالتزكية ...» «حسنا، أنا في غاية الأسف لسماع ذلك بصفتي صديقا قديما لعائلة كلا الطرفين.» «اسمع يا ديك، صدقا أنا مغرمة جدا بجوجو. وأنا مدينة له بالكثير ... إنه شخص جيد جدا من نواح عدة، ولكن كان لا بد من ذلك لا محالة.» «هل تقصدين أن هناك شخصا آخر؟»
نظرت لأعلى إليه بعينين ساطعتين وبنصف إيماءة من رأسها. «أوه ولكن الطلاق هو خطوة بالغة الصعوبة يا سيدتي العزيزة الصغيرة.» «أوه ليست بهذه الصعوبة كما قد يظن.»
رأيا هاري جولدفايزر يقترب منهما عبر الغرفة الكبيرة المكسوة بألواح الجوز. فرفعت صوتها فجأة. «يقولون إن معركة المارن هذه ستنهي الحرب.»
أمسك هاري جولدفايزر بيدها بين يديه ذات الراحتين السمينتين ومال عليها. «إنه لمن الرائع أن تأتي يا إلين وتنقذي الكثير من العزاب في منتصف الصيف من الملل المميت. مرحبا أيها الرجل الهرم سنو، كيف الأحوال؟» «أجل، كيف لا يزال بإمكاننا أن نحظى بشرف لقائك هنا؟» «أوه لقد احتجزتني عدة أشياء ... على أي حال أنا أكره المنتجعات الصيفية. ليس هناك مكان أجمل من لونج بيتش على أي حال ... عجبا، بار هاربور، لن أذهب إلى بار هاربور ولو أعطيتني مليون دولار أمريكي ... مليون بحق.»
أطلق السيد سنو نفسا أجش. «يبدو لي أنني سمعت أنك تخوض لعبة العقارات يا جولدفايزر.» «لقد اشتريت لنفسي كوخا، هذا كل ما هنالك. من المدهش أنه لا يمكنك أن تشتري لنفسك ولو كوخا دون أن يعلم جميع باعة الصحف في ميدان التايمز بالأمر. دعونا ندخل ونأكل؛ ستكون أختي هنا.» دخلت امرأة بدينة في ثوب لماع بعد أن جلسوا إلى الطاولة في غرفة الطعام الكبيرة ذات القرون المعلقة على الجدران، وكانت ذات صدر كصدر حمامة وبشرة شاحبة.
غردت بصوت ضعيف كالببغاء الصغير: «أوه يا آنسة أوجليثورب، أنا سعيدة للغاية بلقائك. لطالما رأيتك واعتقدت أنك أجمل شيء ... بذلت قصارى جهدي كي أجعل هاري يحضرك لرؤيتي.»
قال جولدفايزر لإلين دون أن يبرح مكانه: «هذه أختي راشيل. إنها تعتني بالمنزل من أجلي.» «أتمنى أن تساعدني يا سنو في حث الآنسة أوجليثورب على أخذ ذلك الدور في عرض «فتاة الزينية» (ذا زينيا جيرل) ... صدقا، إنه كما لو كان قد كتب من أجلك أنت.» «ولكنه مجرد دور صغير ...» «إنه ليس دورا رئيسيا بالضبط، ولكن بالنظر إلى سمعتك باعتبارك فنانة متعددة المواهب ورائعة، فهو أفضل ما في العرض.»
قالت الآنسة جولدفايزر بصوت مرتفع: «هل ترغبين في المزيد من السمك يا آنسة أوجليثورب ؟»
تنشق السيد سنو. «لم يعد هناك تمثيل رائع: بوث، جيفرسون، مانسفيلد ... كلهم قد رحلوا. اليوم، الأمر كله دعاية؛ حيث يطرح الممثلون والممثلات في السوق كالأدوية ببراءات اختراع. أليست هذه هي الحقيقة يا إلين؟ ... دعاية، دعاية.»
قال جولدفايزر فجأة: «لكن هذا ليس ما يحقق النجاح ... إذا كان بإمكانك القيام بالأمر مع الدعاية، فسيصبح كل منتج في نيويورك مليونيرا. إنها القوة الخفية الغامضة التي تمسك بالحشود في الشارع وتوجههم إلى مسرح بعينه ما يجعل الإيرادات ترتفع في شباك تذاكر بعينه، هل تفهمني؟ الدعاية لن تفعل ذلك، والنقد الجيد لن يفعل ذلك، ربما العبقرية، ربما الحظ، ولكن إذا تمكنت من إعطاء الجمهور ما يريد في الوقت المناسب والمكان المناسب، فستحقق نجاحا. هذا ما قدمته لنا إلين في هذا العرض الأخير ... لقد أنشأت علاقة مع الجمهور. ربما تكون أعظم مسرحية في العالم يمثلها أعظم الممثلين في العالم وتفشل فشلا ذريعا ... ولا أعرف كيف يحدث ذلك، لا أحد يعرف كيف يحدث ذلك ... إذ تذهب إلى الفراش ذات ليلة ومنزلك ممتلئ بالأوراق وتستيقظ في صباح اليوم التالي وقد حققت نجاحا مدويا. لم يعد بإمكان المنتج التحكم في الأمر، كما لا يمكن لخبير الأرصاد الجوية التحكم في الطقس. أليس ما أقوله هو الحقيقة؟» «آه، لقد تدهور ذوق جمهور نيويورك للأسف منذ الأيام الخوالي لوالاك.»
قالت الآنسة جولدفايزر بصوت أشبه بزقزقة العصافير: «ولكن كان هناك بعض المسرحيات الجميلة.»
كانت مشاعر الحب التي أحاطتها طوال اليوم قد أظهرت الحيوية على تجعدات شعرها ... تلك التجعدات الداكنة ... وقد كسر لونها الضوء الفولاذي الداكن ... مندفعة ... عاليا، يا إلهي، عاليا إلى الضوء ... وكانت تقطع بشوكتها قلب الخس الأبيض الهش. كانت تتلفظ بكلمات بينما تسربت بالفعل كلمات أخرى بارتباك داخلها كحزمة مكسورة من الخرز. جلست تنظر إلى صورة لامرأتين ورجلين يأكلون إلى طاولة في غرفة مغطاة بألواح عالية أسفل ثريا كريستالية مرتعشة. رفعت عينيها عن صحنها لتجد عيني الآنسة جولدفايزر الصغيرتين الشبيهتين بعيني عصفور، الثابتتين في حسرة وعطف على وجهها. «أوه أجل، نيويورك ممتعة حقا في منتصف الصيف أكثر من أي وقت آخر؛ حيث يكون التعجل والضجيج أقل.» «أوه نعم، هذا صحيح تماما يا آنسة جولدفايزر.» أظهرت إلين ابتسامة مباغتة حول المائدة ... كل مشاعر الحب التي أحاطتها طوال اليوم قد أظهرت الحيوية على تجعدات حاجبه الرفيع المرتفع، وومضت في عينيه في الضوء الفولاذي الداكن ...
في سيارة الأجرة، ضغطت ركبتا جولدفايزر القصيرتان العريضتان على ركبتيها؛ فامتلأت عيناه بما يشبه مصنعا خفيا كعناكب تغزل شبكة خانقة حلوة ودافئة حول وجهها ورقبتها. رجعت الآنسة جولدفايزر قصيرة وبدينة في المقعد المجاور لها. كان ديك سنو يحمل سيجارا غير مشتعل في فمه ويدحرجه بلسانه. حاولت إلين أن تتذكر كيف كان شكل ستان تحديدا، بنحوله الشديد كقافز زانة، ولكنها لم تتمكن من تذكر وجهه بالكامل؛ فلم تر سوى عينيه وشفتيه وأذنه.
كان ميدان التايمز مليئا بالأضواء الملونة المتراقصة، في تمويجات متقاطعة من الوهج. صعدوا في مصعد فندق أستور. تبعت إلين الآنسة جولدفايزر عبر حديقة السطح وسط الطاولات. رجال ونساء في ثياب السهرة، وفي الأردية الصيفية من الموسلين والبذلات الخفيفة يستديرون ويعتنون بها، كمحالق لزجة من كروم تحدق بها وهي تمر. كانت الأوركسترا تعزف لحن أغنية «في الحرملك الخاص بي» (إن ماي هاريم). أعدوا أنفسهم للجلوس إلى الطاولة.
سأل جولدفايزر: «ألا نرقص؟»
ابتسمت ابتسامة ساخرة باهتة في وجهه وهي تتركه يضع ذراعه حول ظهرها. كانت أذنه الكبيرة ذات الشعرات المنفردة التي تضفي عليه وقارا في مستوى عينيها.
كان يتنفس في أذنها قائلا: «إلين، صدقا ظننت أنني رجل حكيم.» التقط أنفاسه ... «لكنني لست ... لقد جعلتني أتحدث بحماس أيتها الفتاة الصغيرة وأنا أكره أن أعترف بذلك ... لماذا لا يمكنك الإعجاب بي قليلا؟ أود ... أن نتزوج بمجرد أن تحصلي على إذن الطلاق ... ألن تكوني أكثر لطفا معي بين الحين والآخر ...؟ سأفعل أي شيء من أجلك، تعلمين ذلك ... هناك الكثير من الأشياء التي يمكنني القيام بها من أجلك في نيويورك ...» توقفت الموسيقى. ووقفا متباعدين أسفل نخلة. «تعالي يا إلين إلى مكتبي ووقعي ذلك العقد. لدي سيارة فيراري تنتظرنا ... يمكننا العودة خلال 15 دقيقة.» «يجب أن أفكر في الأمر جيدا ... لا أفعل أي شيء مطلقا دون التفكير فيه لليوم التالي.» «يا إلهي، أنت تثيرين المرء.»
تذكرت فجأة وجه ستان كاملا، حيث كان يقف أمامها بربطة عنق فراشية الشكل منحنية فوق قميصه الناعم، وبشعر مجعد، ويشرب مجددا. «أوه يا إيلي، أنا سعيد جدا لرؤيتك ...» «هذا هو السيد إيميري يا سيد جولدفايزر ...» «لقد كنت في أكثر رحلة مدهشة، صدقا كان ينبغي أن تأتي ... ذهبنا إلى مونتريال وكيبيك وعدنا عبر شلالات نياجرا ولم نفق من الشرب قط منذ تركنا نيويورك العجوز الضئيلة وحتى قبض علينا لتجاوزنا السرعة المسموح بها في طريق بوسطن بوست، أليس كذلك يا بيرلاين؟» كانت إلين تحدق في فتاة وقفت تترنح خلف ستان بقبعة قشية مزهرة صغيرة مسحوبة لأسفل فوق زوج من العيون الزرقاء كزرقة السماء. «إيلي، هذه بيرلاين ... أليس اسما جميلا؟ كدت أموت من الضحك عندما أخبرتني بمعناه ... لكنك لا تعرفين المزحة في الأمر ... لقد توطدت علاقتنا للغاية في شلالات نياجرا لدرجة أننا اكتشفنا أننا قد تزوجنا ... وأن وثيقة زواجنا عليها زهور الثالوث ...»
لم تتمكن إلين من رؤية وجهه. الأوركسترا، وتداخل الأصوات، وقعقعة الصحون التي انطلقت متصاعدة أكثر فأكثر حولها ...
وسيدات الحرملك
يعلمن جيدا كيف يرتدينها
في بغداد الشرق منذ زمن بعيد ... «ليلة سعيدة يا ستان.» كان صوتها حازما في فمها، وسمعت الكلمات شديدة الوضوح عندما نطقت بها. «أوه يا إيلي، أتمنى أن تأتي للاحتفال معنا ...» «شكرا شكرا.»
بدأت ترقص مرة أخرى مع هاري جولدفايزر. كانت حديقة السطح تدور بسرعة، ثم أقل سرعة. انحسرت الضوضاء انحسارا مثيرا للاشمئزاز. قالت: «معذرة لدقيقة يا هاري. سأعود إلى الطاولة.» في دورة مياه السيدات، ألقت بنفسها بعناية على الأريكة الفاخرة. نظرت إلى وجهها في المرآة المستديرة لحقيبة مستحضرات تجميلها. اتسعت حدقتا عينيها من ثقوب سوداء ضبابية حتى أصبح كل شيء أسود. •••
كانت ساقا جيمي هيرف متعبتين؛ فقد كان يمشي طوال فترة ما بعد الظهيرة. جلس على مقعد بجوار حوض السمك ونظر فوق الماء. أعطت ريح سبتمبر المنعشة بريقا فولاذيا للموجات المنعشة للميناء والسماء الزرقاء الإردوازية الملطخة بالسواد. كانت باخرة بيضاء كبيرة ذات قمع أصفر تمر أمام تمثال الحرية. خرج الدخان من زورق القطر عند مقدمته مدور النتوءات بشكل حاد كورقة. على الرغم من المنازل المعرقلة على الرصيف، بدا له طرف مانهاتن كمقدمة صندل تندفع ببطء وهدوء في الميناء. دارت النوارس وصاحت. وقف على قدميه منتفضا. «أوه يا للهول، يجب أن أفعل شيئا.»
وقف لثانية مشدود العضلات متوازنا على قدميه. كان للرجل الرث الهيئة الناظر إلى الحفر الضوئية لصحيفة يوم الأحد وجه رآه من قبل. قال بصوت غير واضح: «مرحبا.» قال الرجل دون أن يمد يده: «كنت أعرفك طوال الوقت. أنت ابن ليلي هيرف ... ظننتك لن تتحدث إلي ... فليس هناك سبب يجعلك تتحدث معي.» «أوه بالطبع لا بد أنك قريبي جو هارلاند ... أنا سعيد للغاية برؤيتك ... كثيرا ما تساءلت عنك.» «تساءلت عن ماذا؟» «أوه لا أعرف ... من المضحك أنك لا تفكر مطلقا في أقاربك على أنهم أشخاص مثله، أليس كذلك؟» جلس هيرف على المقعد مرة أخرى. «هلا أخذت سيجارة ... إنها مجرد سجائر ماركة كاميل.» «حسنا، لا أمانع ... ماذا تعمل يا جيمي؟ لا تمانع لو دعوتك بهذا الاسم، أليس كذلك؟» أشعل جيمي هيرف عود ثقاب، ثم أشعل آخر وناوله لهارلاند. «هذا أول تبغ أشربه منذ أسبوع ... شكرا لك.»
ألقى جيمي نظرة إلى الرجل بجانبه. بدا التجويف الطويل لوجنته ذات الشيب كرأس سهم مع الثنية العميقة لطرف فمه. بصق هارلاند وقال: «تعتقد أنني محبط للغاية، أليس كذلك؟ أنت نادم على حياة الراحة التي تعيشها، أليس كذلك؟ أنت نادم لأنه كان لديك أم ربتك لتكون رجلا محترما وليس نذلا كبقيتهم ...»
قال جيمي متشدقا بكلماته: «عجبا، لقد حصلت على وظيفة كمراسل في صحيفة «نيويورك تايمز» ... وظيفة فاسدة لعينة، لقد سئمت الأمر.» «لا تتحدث هكذا يا جيمي، أنت في مرحلة مبكرة من شبابك ... مثل هذا السلوك لن يوصلك إلى شيء.» «حسنا، لنفترض أنني لا أريد أن أصل إلى أي شيء.» «كانت عزيزتي ليلي المسكينة فخورة بك للغاية ... أرادت أن تكون رجلا عظيما، كان لديها طموح كبير فيك ... بالتأكيد أنت لا تريد أن تنسى والدتك يا جيمي. لقد كانت الصديق الوحيد الذي كان لدي من جميع أفراد العائلة اللعينة.»
ضحك جيمي. «لم أقل إنني لم أكن طموحا.» «بحق الإله، من أجل والدتك العزيزة انتبه لما تفعل. لقد بدأت للتو في الحياة ... كل شيء سيعتمد على الأعوام القليلة القادمة. انظر إلي.» «حسنا، أعترف أن ساحر وول ستريت قد حقق نجاحا كبيرا ... كلا، إنني لا أحب أن تأخذ كل ما عليك أخذه من الناس في هذه البلدة اللعينة. لقد سئمت من إرضاء الكثير من المحررين الذين لا أحترمهم ... ماذا تفعل يا جو يا قريبي؟» «لا تسألني ...» «انظر، هل ترى ذلك القارب ذا الأقماع الحمراء؟ إنه فرنسي. انظر، إنهم يسحبون الأشرعة من فوق مؤخرة القارب ... أريد أن أذهب إلى الحرب ... المشكلة الوحيدة هي أنني ضعيف جدا في أمور القتال.»
كان هارلاند يعض شفته العليا، وبعد صمت انفجر بصوت مبحوح أجش. «جيمي، سأطلب منك أن تفعل شيئا من أجل ليلي من أجل ... هل ... هل لديك أي ... أي ... أي فكة معك؟ من المؤسف للغاية ... تصادف أنني لم أتناول طعاما جيدا خلال اليومين أو ثلاثة الأيام الماضية ... أنا ضعيف بعض الشيء، أتفهمني؟» «عجبا، أجل، لقد كنت لتوي سأقترح أن نذهب ونتناول كوبا من القهوة أو الشاي أو شيئا من هذا القبيل ... أعرف مطعما سوريا جيدا في شارع واشنطن.»
قال هارلاند، وهو يقف متماسكا: «هيا بنا إذن. هل أنت متأكد من أنك لا تمانع من أن يراك الناس مع فزاعة مثلي؟»
سقطت الصحيفة من يده. انحنى جيمي لالتقاطها. نخزه وجه من ضبابات بنية منظمة كما لو أن شيئا قد لمس عصبا في أحد أسنانه. كلا، لم يكن الأمر كذلك، لم يكن هذا شكلها، أجل، ممثلة شابة موهوبة تحقق نجاحا في عرض «فتاة الزينية» ...
قال هارلاند: «شكرا، لا تهتم، لقد وجدتها هناك.» ألقى جيمي بالصحيفة ؛ فسقطت على وجهها. «إنهم يضعون صورا قبيحة للغاية، أليس كذلك؟» «أمضي بعض الوقت في النظر إليها، أحب متابعة ما يجري في نيويورك بعض الشيء ... فحتى وضيع الشأن له حقوق كما تعرف، لوضيع الشأن حقوق.» «أوه، كل ما قصدته أنها ليست جيدة التصوير.»
الفصل السابع
الأفعوانية
يلقي الشفق الرصاصي بضوئه مثقلا على الأطراف الجافة لرجل هرم يسير في اتجاه برودواي. ويقف حول مطعم نيديك عند الناصية شيء يتلألأ في عينيه. فيمشي متثاقلا كدمية مكسورة في صفوف الدمى ذات المفاصل المطلية بالورنيش برأس متدل إلى داخل ما يشبه الفرن المتقد والمضطرب للضوء المشكل بالأحرف. يقول متذمرا للصبي الصغير: «أتذكر عندما كانت المروج في كل مكان.»
لويس إكسبريسو أسوسياشن، بهذا الاسم تراقصت الأحرف الحمراء على اللافتة أمام عيني ستان. «مسابقة الرقص السنوية». يدخل الشبان والشابات. «اثنان اثنان الفيل والكنغر». يتوغل دوي وصلصلة الأوركسترا عبر أبواب القاعة المتأرجحة. تمطر السماء في الخارج. «نهر واحد أخير، أوه ثمة نهر واحد أخير يتعين علينا عبوره.» يفرد طيات معطفه، ويعدل فمه ليبدو مستفيقا، ويدفع دولارين أمريكيين، ويذهب إلى قاعة كبيرة ذات أصوات مدوية ومعلقة بها رايات حمراء، وبيضاء، وزرقاء. مترنحا يتكئ إلى الجدار قليلا. «نهر واحد أخير» ... حلبة الرقص مليئة بالأزواج المهتزين الذين يتمايلون كسطح سفينة. الحال عند منضدة الشراب أكثر استقرارا. يقول الجميع: «جاس ماك نيل هنا، الهرم الطيب جاس.» تصفع الأيدي الكبيرة الظهور العريضة، وتزأر الأفواه سوداء في وجوه حمراء. ترتفع الكئوس وتميل متلألئة، ترتفع وتميل راقصة. يعرج رجل ضخم بوجه كوجوه النحل وعينين غائرتين وشعر مجعد على منضدة الشراب متكئا على عصا. «كيف حال الفتى يا جاس؟» «مرحى، ها هو الرئيس.» «جيد أن الرجل الهرم ماك نيل جاء أخيرا.» «كيف حالك يا سيد ماك نيل؟» هدأت الأصوات عند منضدة الشراب.
يلوح جاس ماك نيل بعصاه في الهواء. «هيا يا رفاق، فلتحظوا بوقت جيد ... أيها الرجل الهرم بروك، أعد شرابا للصحبة على حسابي.» «إن الأب مولفاني معه كذلك. إنه لأمر جيد للأب مولفاني ... هذا الرجل أمير.»
نخب كونه رجلا جيدا وبهيجا
لا يستطيع أحد أن ينكر ...
انحنت ظهورهم العريضة في تبجيل تتبع المجموعة الخارجة ببطء من وسط الراقصين. «أوه الرباح الكبير على ضوء القمر يمشط شعره الكستنائي.» «هلا رقصت معي، من فضلك؟» أدارت الفتاة كتفها الأبيض وسارت مبتعدة.
أنا أعزب وأعيش بمفردي
وأعمل في الحياكة ...
يجد ستان نفسه يغني لوجهه في المرآة. يرى أحد حاجبيه واصلا إلى شعره، ويرى الآخر رمشا ... «لا، أنا لست كذلك وربي، أنا رجل متزوج ... سأحارب أي أحد يقول إنني لست رجلا متزوجا ومواطنا من مدينة نيويورك، مقاطعة نيويورك، ولاية نيويورك ...» يقف على كرسي ملقيا خطابا ويدق قبضة إحدى يديه بيده الأخرى. «أيها الأصدقاء والرومان والمواطنون، أعيروني خمسة دولارات أمريكية ... جئنا لإسكات القيصر وليس لإنقاذه ... وفقا لدستور مدينة نيويورك، مقاطعة نيويورك، ولاية نيويورك والموثق والمسجل حسب الأصول أمام المدعي العام وفق أحكام قانون 13 يوليو 1888 ... إلى الجحيم مع البابا.» «أنت، كف عن ذلك.» «يا رجال، لنلق بهذا الرجل خارجا ... إنه ليس أحد الفتية ... لا أعلم كيف دخل إلى هنا. إنه مخمور حقير.» يقفز ستان وعيناه مغمضتان في مجموعة كبيرة من القبضات. صفع في عينيه، وفي فكه، وألقي به كما بندقية في الشارع الصامت البارد المعبأ برذاذ المطر. هأ هأ هأ.
لأنني أعزب وأعيش بمفردي
وثمة نهر واحد أخير علينا عبوره
نهر واحد أخير للأردن
نهر واحد أخير علينا عبوره ...
كانت البرودة تهب في وجهه وكان يجلس في مقدمة إحدى العبارات عندما استعاد وعيه. كانت أسنانه تقعقع. كان يرتجف ... «إنني مصاب بهذيان ارتعاشي. من أنا؟ أين أنا؟ مدينة نيويورك، ولاية نيويورك ... ستانوود إيميري أعمل طالبا في الثانية والعشرين من عمري ... بيرلاين أندرسون 20 عاما، تعمل ممثلة. فلتذهب إلى الجحيم. يا إلهي، معي 49 دولارا أمريكيا وثمانية سنتات، وأين أنا بحق الجحيم؟ ولم يسرقني أحد. عجبا، لست مصابا بهذيان ارتعاشي على الإطلاق. أشعر أنني بحالة جيدة، فيما عدا بعض التحسس . كل ما أحتاجه هو كأس صغيرة من الشراب، أليس كذلك؟ مرحبا، ظننت أنه كان هناك شخص ما هنا. أظن أنه من الأفضل أن أصمت.»
49 دولارا أمريكيا معلقة على الجدار
49 دولارا أمريكيا معلقة على الجدار
عبر مياه الزنك، والجدران الطويلة، والكتلة الشبيهة بشجرة بتولا لمباني وسط المدينة يتلألأ الصباح الوردي كصوت قرون تعبر وسط ضباب بني في لون الشوكولاتة. كلما اقترب القارب تكاثفت المباني لتصبح كجبل من الجرانيت تقسمه أودية مقطوعة بالسكاكين. مرت العبارة بالقرب من سفينة بخارية مكتنزة مثبتة بالمرساة تتمايل في اتجاه ستان حتى إنه يمكنه رؤية جميع طوابقها. كان أحد زوارق قطر جزيرة إيليس على رصيف الميناء. هبت رائحة كريهة من الطوابق المليئة بوجوه مشوشة كحمولة شمام. دارت ثلاثة نوارس نائحة. ولفحت الشمس نورسا ارتفع بجناحين أبيضين دوامين، فكشطه ضوءها فغدا بلا حراك في الضوء الذهبي المبيض. ارتفعت حافة الشمس فوق اللون البرقوقي لمجموعة من السحب خلف شرق نيويورك. ومضت مليون نافذة بالضوء. جاء صوت حشرجة وهمهمة من المدينة.
دخلت الحيوانات اثنين اثنين
الفيل والكنغر
ثمة نهر واحد أخير للأردن
نهر واحد أخير علينا عبوره
تدور النوارس بلون القصدير في الضوء المبيض فوق الصناديق المكسورة، ورءوس الملفوف الفاسدة، وقشر البرتقال، حائمة بطيئة بين الجدران الخشبية المتشققة، وتزبد الأمواج الخضراء أسفل المقدمة المستديرة للعبارة، التي يدفعها المد فترتشف المياه بنهم، مصطدمة، ومنزلقة، ومستقرة ببطء في المنزلق. تدور الرافعات اليدوية مصلصلة سلاسلها، وتطوى البوابات لأعلى. يعبر ستان الصدع، مترنحا في النفق الخشبي الذي تفوح منه رائحة السماد لمبنى محطة العبارات ليخرج إلى الزجاج الذي تضربه أشعة الشمس والمقاعد في متنزه باتري. جلس على أحد المقاعد، وشبك يديه حول ركبتيه لمنعهما من الارتجاف. واصل الدندنة في ذهنه كالبيانو الآلي.
بخواتم في أصابع يديها وأجراس في أصابع قدميها
تمتطي امرأة بيضاء فرسا كبيرا
وسيصدر عنها الأذى أينما حلت ...
في الماضي كانت بابل ونينوى، وقد بنيت كل منهما بالطوب. كانت أثينا ذات الأعمدة من الرخام والذهب. وقامت روما على أقواس فسيحة من الحطام . وفي القسطنطينية، توهجت المآذن كشمعات ضخمة حول القرن الذهبي ... أوه ثمة نهر واحد أخير علينا عبوره . ولكن الفولاذ، والزجاج، والبلاط، والأسمنت ستكون مواد ناطحات السحاب. ستطل براقة تلك المباني ذات ملايين النوافذ المتراصة على الجزيرة الضيقة، في هرم فوق آخر كرأس سحابة بيضاء متراكمة فوق عاصفة رعدية ...
وكان المطر 40 يوما وكان المطر 40 ليلة
ولم يتوقف حتى الكريسماس
والرجل الوحيد الذي نجا من الفيضان
كان جاك ذا الأرجل الطويلة الذي أتى من البرزخ ...
يا إلهي، ليتني كنت ناطحة سحاب.
لف القفل في دائرة لإبعاد المفتاح. انتظر ستان ببراعة الوقت المناسب وأمسك به. أطلق النار بغير تردد عبر الباب المفتوح، وفي نهاية الردهة الطويلة تصرخ بيرلاين في غرفة المعيشة. تبدو رائحتها غريبة، رائحة بيرلاين، فلتذهب إلى الجحيم. التقط كرسيا، فكاد الكرسي أن يطير، وتأرجح حول رأسه واصطدم بالنافذة، فاهتز الزجاج ورن. نظر من خلال النافذة. كان الشارع في أحد الأطراف. وكان يدخل إليه خطاف وسلم وسيارة إطفاء أسرع ما يمكن ووراءها صرخة صفارة إنذار مطنطنة. «النيران النيران، صبوا المياه، اسكتلندا تحترق.» حريق يساوي ألف دولار أمريكي، حريق يساوي 100 ألف دولار أمريكي، حريق يساوي مليون دولار أمريكي. ترتفع ناطحات السحاب كاللهب، في لهب، لهب. استدار راجعا إلى الغرفة. دارت الطاولة وانقلبت. وقفزت خزانة الخزفيات على الطاولة. وصعدت كراسي البلوط فوق موقد الغاز. «صبوا المياه، اسكتلندا تحترق.» لا أحب الرائحة في هذا المكان في مدينة نيويورك، مقاطعة نيويورك، ولاية نيويورك. استلقى على ظهره على أرضية المطبخ الذي رآه يدور وأخذ يضحك. الرجل الوحيد الذي نجا من الفيضان أركب سيدة عظيمة بيضاء على حصان أبيض. عاليا حيث اللهب، عاليا، عاليا. أصدر الكيروسين في علبة مشحمة الواجهة همسا في ركن المطبخ. «صبوا المياه.» وقف يتأرجح على الكراسي المقلوبة المطقطقة فوق الطاولة المقلوبة. لعقه الكيروسين كلعقة لسان أبيض بارد. مال، وأمسك بصنبور الغاز، فتراجع صنبور الغاز، ورقد على ظهره في بركة من المياه يشعل أعواد الكبريت، إنها مبتلة لن تشتعل. أصدر أحد الأعواد شرارة، واشتعل؛ فأبقى على اللهب بعناية بين يديه. ••• «أوه نعم ولكن زوجي طموح للغاية.» هكذا كانت بيرلاين تقول للسيدة التي كانت ترتدي رداء بنقشة مربعة زرقاء في محل البقالة. «إنه يحب أن يقضي وقتا ممتعا وكل تلك الأمور، ولكنه طموح أكثر من أي شخص عرفته في حياتي. سيجعل والده يرسلنا إلى الخارج حتى يتمكن من دراسة الهندسة المعمارية. إنه يريد أن يصبح مهندسا معماريا.» «يا إلهي، سيكون هذا جيدا لك، أليس كذلك؟ رحلة كتلك ... أتريدين شيئا آخر يا سيدتي؟» «لا، أعتقد أنني لم أنس شيئا ... لو كان أي شخص آخر لكنت سأصير قلقة عليه. لم أره منذ يومين. أظن أنه يتعين علي أن أذهب إلى والده.» «وأنت متزوجة حديثا أيضا.» «لم أكن لأخبرك إن كنت قد ظننت أن ثمة خطأ ما، أليس كذلك؟ كلا، إن سلوكه قويم ... حسنا وداعا يا سيدة روبنسون.» دست حزمتها أسفل إحدى ذراعيها وأرجحت حقيبتها الخرزية في يدها التي لا تمسك بها شيئا آخر وهي تسير في الشارع. كانت الشمس لا تزال دافئة على الرغم من وجود مسحة من الخريف في الرياح. أعطت بنسا لرجل أعمى يدير ذراع أرغن يدوي لتخرج منه موسيقى فالس لأوبريت «الأرملة الطروب» (ميري ويدو). ما زال من الأفضل أن تصرخ فيه قليلا عندما يعود إلى المنزل، فقد يفعل ذلك كثيرا. استدارت إلى شارع 200. كان الناس ينظرون من النوافذ، فقد كان هناك تجمع حاشد. كان هناك حريق. استنشقت الهواء المشبع برائحة الحريق. فأصابها بالقشعريرة؛ إذ كانت تحب رؤية الحرائق. أسرعت. يا للهول، إنه خارج بنايتنا. خارج شقتنا. دخان كثيف ككيس خيش يخرج من نافذة الطابق الخامس. وجدت جسمها فجأة كله يرتعش. ركض صبي المصعد الملون إليها. كان وجهه أخضر. صرخت: «أوه، إنه في شقتنا، والأثاث جاء لتوه قبل أسبوع. دعني أمر.» سقطت الحزم منها، وانكسرت زجاجة قشدة على الرصيف. وقف شرطي في طريقها وألقت بنفسها عليه ودقت على صدره الأزرق العريض. لم يكن بوسعها التوقف عن الصراخ. ظل يقول بصوت مدو وعميق: «حسنا أيتها السيدة الشابة ، لا بأس.» كان بمقدورها أن تسمع صوته يهدر في صدره وهي تضربه برأسها. «إنهم ينزلونه، فقد وعيه فحسب من الدخان، هذا كل ما في الأمر، فقد وعيه فحسب من الدخان.»
صرخت: «أوه، ستانوود زوجي.» كان كل شيء يعتم. أمسكت بزرين لامعين في معطف الشرطي وفقدت الوعي.
الفصل الثامن
نهر واحد أخير للأردن
يزعق رجل من فوق منصة صغيرة مصنوعة من صندوق للصابون في الجادة الثانية وشارع هيوستن أمام مقهى كوزموبوليتان: «... هؤلاء الناس يا سادة ... عبيد للأجور كما كنت ... قابضون على أنفاسكم ... إنهم يأخذون الطعام من أفواهكم. أين كل الفتيات الجميلات اللواتي اعتدت رؤيتهن يمشين ذهابا وإيابا في الشارع العريض المشجر؟ ابحثوا عنهن في الملاهي الليلية بشمال البلاد ... إنهم يستنزفوننا يا أصدقاء ... هؤلاء العمال التابعون، العبيد كما ينبغي أن أقول عنهم ... إنهم يأخذون عملنا ومثلنا ونساءنا ... إنهم يبنون فنادق بلازا، ونوادي المليونيرات، ومسارحهم التي تكلف الملايين وبوارجهم، فماذا يتركون لنا؟ ... يتركون لنا هوس الشراء، والكساح، والكثير من الشوارع المتسخة المليئة بصناديق القمامة ... تبدون شاحبين أيها الرفاق ... أنتم بحاجة إلى الدماء ... لم لا تسري الدماء في عروقك؟ ... قديما في روسيا كان الفقراء ... لم يكونوا بهذا الفقر مثلنا ... كانوا يعتقدون في وجود مصاصي الدماء، وهي أشياء تأتي لتمتص دمك في الليل ... هذه هي الرأسمالية، مصاص دماء يمتص دماءكم ... في النهار ... و... الليل.»
بدأت الثلوج في التساقط. رقائقها ذهبية أمام مصباح الشارع. وعبر الزجاج المسطح، يمتلئ مقهى كوزموبوليتان بصدوع من الدخان الشبيهة بالعقيق الأزرق والأخضر كحوض سمك موحل، حيث تستدير الوجوه زهراء حول الطاولات كأسماك غير متناسقة. تبدأ المظلات في الظهور في مجموعات في الشارع المكسو بالثلوج. يرفع الخطيب ياقته ويمشي بسرعة شرقا على طول هيوستن، ممسكا بعلبة الصابون الموحلة بعيدا عن بنطاله.
تتمايل الوجوه، والقبعات، والأيدي، والصحف في عربة مترو الأنفاق الصاخبة العطنة كرائحة الذرة في مقلاتها الشبكية. مر قطار وسط المدينة السريع مدويا بضوئه الأصفر، حيث تتداخل النافذة في الأخرى حتى تصبح كحراشف.
قال ساندبورن لجورج بالدوين الذي كان معلقا يده بحزام بجانبه: «انظر يا جورج، يمكنك أن ترى تقلص أطوال لورينتز.» «بل سأرى ما بداخل صالة استقبال حانوتي إن لم أخرج من مترو الأنفاق هذا سريعا.»
من الجيد أن يتفوق حكم الأثرياء بين الحين والآخر كي نرى كيف يتحرك النصف الآخر من الناس ... ربما سيجعلك ذلك تحفز بعض زملائك الصغار في تنظيم تاماني هول السياسي للتوقف عن التنازع وإعطائنا نحن عبيد الأجور بعض وسائل النقل اللائقة ... يا إلهي، يمكنني أن أقول لهم شيئا أو اثنين ... أفكر في إقامة سلسلة من منصات متحركة لا نهائية في الجادة الخامسة.» «هل دبرت ذلك الأمر عندما كنت في المستشفى يا فيل؟» «لقد دبرت الكثير من الأشياء أثناء وجودي في المستشفى.» «اسمع، لنخرج في محطة جراند سنترال ونمش. لا أستطيع تحمل هذا ... لست معتادا عليه.» «بالتأكيد ... سأتصل بإلسي وأقول لها إنني سأتأخر قليلا عن موعد طعام العشاء ... فأنا لا أراك كثيرا هذه الأيام يا جورج ... مرحى، إن الأمر كالأيام الخوالي.»
في كومة متشابكة من الرجال والنساء، والأذرع، والسيقان، والقبعات المائلة فوق الأعناق المتعرقة، دفعا من فوق الرصيف. فسارا هادئين في جادة ليكسينجتون في ضوء الشفق ذي الضباب الأرجواني كنبيذ الكلاريت. «ولكن يا فيل كيف حدث أن وقفت أمام شاحنة هكذا؟» «صدقا يا جورج لا أعرف ... آخر ما أتذكره هو أنني مددت عنقي لأنظر إلى فتاة رائعة الجمال ركبت سيارة أجرة وبعدها كنت أشرب الماء المثلج من إبريق الشاي في المستشفى.» «عار عليك يا فيل في عمرك هذا.» «يا إلهي، ألا أعرف ذلك؟ ولكني لست الوحيد الذي يفعل ذلك.» «من الغريب أن يصدر منك شيء كهذا ... عجبا، ماذا سمعت عني؟» «يا إلهي يا جورج لا تتوتر، كل شيء على ما يرام ... لقد رأيتها في عرض «فتاة الزينية»... إنها رائعة. تلك الفتاة الأخرى التي هي نجمة العرض ليست بالجيدة.» «اسمع يا فيل، إذا سمعت أي شائعات عن الآنسة أوجليثورب فلتخرسهم بحق السماء. إنه من السخيف للغاية ألا يمكنك الخروج لتناول الشاي مع امرأة دون أن يشرع الجميع في ثرثرتهم القذرة في جميع أنحاء البلدة؟ ... وربي لن تكون لدي فضيحة، لا يهمني ما يحدث.» «اسمع ، اكبح جماح نفسك يا جورج.» «أنا في موقع حساس للغاية في وسط المدينة في هذه الفترة تحديدا، هذا كل ما في الأمر ... ثم إنني وسيسلي قد توصلنا أخيرا إلى تسوية مؤقتة ... لن أفسدها.»
واصلا السير في صمت.
سار ساندبورن وقبعته في يده. غلب على شعره البياض لكن حاجبيه كانا لا يزالان داكنين وكثيفين. كل بضع خطوات كان يغير من طول خطوته وكأنما كان السير يؤلمه. تنحنح. «كنت تسألني يا جورج عما إذا كنت قد دبرت أي مخططات عندما كنت في المستشفى ... هل تتذكر أن الهرم سبيكير كان قبل سنوات قد اعتاد التحدث عن بلاط من الزجاج مصقول فائق؟ حسنا، لقد كنت أعمل على الصيغة التي وضعها بالخارج في هوليس ... كان لصديق لي هناك فرن درجة حرارته 2000 حيث كان يصنع الفخار. ظننت أنه يمكن استخدامه لأغراض تجارية ... يا إلهي، سيحدث ثورة في الصناعة بأكملها. فبدمجه مع الأسمنت سيزيد بشكل كبير من مرونة المواد التي يستخدمها المهندسون المعماريون. يمكننا صناعة البلاط بأي لون، أو حجم، أو شكل ... تخيل هذه المدينة عندما تصبح جميع المباني مزينة بألوان زاهية بدلا من ذلك اللون الرمادي القذر. تخيل نطاقات قرمزية حول ناطحات السحاب المعمدة. سيحدث البلاط الملون ثورة في جميع نواحي الحياة في المدينة ... بدلا من الرجوع إلى التصميمات التقليدية، أو القوطية، أو الرومانسكية؛ يمكننا تطوير تصميمات جديدة، وألوان جديدة، وأشكال جديدة. إن كانت ثمة مسحة من لون في المدينة، فستنهار كل تلك الحياة التي تسكنها المشقة ... سيزيد الحب ويقل الطلاق ...»
انفجر بالدوين ضاحكا. «أخبرهم يا فيل ... سأتحدث معك عن ذلك وقتا ما. يجب أن تأتي لتناول العشاء عندما تكون سيسلي حاضرة وتحدثنا في الأمر ... عجبا، ألم يفعل باركهورست أي شيء؟» «لم أكن لأسمح له بالتدخل في الأمر. لقد بدأ يستوعب الاقتراح وتخلى عني بمجرد أن أصبحت معه الصيغة. لا آمن أن أودعه ولو نيكلا مزيفا.» «عجبا، ألم يدخلك في شراكة معه يا فيل؟» «لقد وضعني حيثما يريدني على أي حال ... إنه يعلم أنني أقوم بالعمل كله في مكتبه الملعون. ويعلم أيضا أنني غريب الأطوار للغاية في تعاملي مع معظم الناس. إنه شخص ماهر.» «ما زلت أظن أنه يمكنك طرح الأمر عليه.» «إنه يضعني حيثما يريدني وهو يعلم ذلك؛ لهذا أواصل القيام بالعمل بينما يجمع هو المال ... أظن ذلك منطقيا. إذا كان لدي المزيد من المال لأنفقته. ما أنا سوى رجل كسول.» «لكن اسمع يا رجل، أنت لا تكبرني بكثير ... ما زالت هناك مسيرة مهنية أمامك.» «بالتأكيد تسع ساعات في اليوم من الرسم الهندسي ... يا إلهي، أتمنى أن تدخل في تجارة البلاط هذه معي.»
توقف بالدوين عند أحد الأركان وصفع بيده الحقيبة التي كان يحملها. «حسنا يا فيل، تعلم أنني سأكون سعيدا للغاية لتقديم يد العون لك بأي طريقة أستطيع ... ولكن وضعي المالي في الوقت الحالي شديد التعقيد. لقد دخلت في بعض التشابكات المتهورة إلى حد ما، والرب وحده يعلم كيف سأخرج منها ... لهذا السبب لا أستطيع تحمل فضيحة أو طلاق أو أي شيء. أنت لا تفهم إلى أي مدى من التعقيد تتداخل الأشياء ... لا يمكنني الشروع في أي شيء جديد، ليس لمدة عام على الأقل. هذه الحرب في أوروبا قد جعلت الأمور غير مستقرة للغاية في وسط المدينة. أي شيء يمكن أن يحدث.» «حسنا. ليلة سعيدة يا جورج.»
غير ساندبورن اتجاهه فجأة وسار في الجادة مرة أخرى. كان متعبا وكانت ساقاه تؤلمانه. دنا الظلام. وفي طريق الرجوع إلى المحطة، مرت كتل الطوب المتسخة والحجر الأسمر الرملي مجرورة رتيبة كأيام حياته. •••
أسفل جلد صدغيها، تضيق المشابك الحديدية حتى تكاد تهرس رأسها كالبيضة، فبدأت تمشي بخطوات طويلة ذهابا وإيابا في غرفة تعج بجو خانق مثير للحكة، حيث الرقط الملونة من الصور، والسجاد، والكراسي التي تلفها كبطانية ساخنة خانقة. خارج النافذة كانت الساحات الخلفية مخططة باللون الأزرق، والأرجواني الفاتح، والياقوت الأصفر لشفق سماء ممطرة. تفتح النافذة. كان ستان يقول لا وقت أفضل للسكر من وقت الشفق. رن الهاتف كما لو كان يمد أذرعا محببة مرتعشة كأذرع الأخطبوط. تصفع النافذة. يا للجحيم، ألا يمكن أن يتركوا المرء يتمتع بأي سكينة؟ «عجبا يا هاري لم أكن أعرف أنك عدت ... أوه، ترى هل يمكنني ... أوه نعم أظن أنه يمكنني. فلتأت بعد العرض ... أليس هذا رائعا؟ يجب أن تخبرني بكل شيء عن الأمر.» بمجرد أن وضعت السماعة، رن الجرس مرة أخرى. «مرحبا ... كلا أنا لا ... أوه نعم ربما ... متى عدت؟» أطلقت ضحكات كرنين الهاتف. «ولكن يا هوارد أنا مشغولة للغاية ... نعم أنا بصراحة ... هل حضرت العرض؟ حسنا، تعال وقتا ما بعد العرض ... أنا متلهفة للغاية لسماع أخبار رحلتك ... كما تعلم ... وداعا يا هوارد.»
سيجعلني التنزه أشعر بتحسن. تجلس إلى طاولة زينتها وتهز شعرها لأسفل حول كتفيها. «يا له من مصدر إزعاج جهنمي، أود أن أنهي كل ذلك ... الأمر ينتشر بسرعة. ظل الموت الأبيض ... يجب ألا أبقى مستيقظة حتى وقت متأخر، تلك الهالات السوداء تحت عيني ... وبالباب، فساد غير مرئي ... فقط لو كنت أستطيع البكاء؛ هناك من يستطيعون أن يبكوا بكاء مرا، حقا يبكون حتى يفقدوا بصرهم ... على أي حال فالطلاق الذي سأمر به ...
بعيدا من شاطئ الحياة، بعيدا من زحمة الأنام الجزعين
الذين لم يختبروا قط أنواء المحيط» [هذا البيت وغيره من أجزاء قصيدة «أدونيس» لشيللي هو من ترجمة الدكتور لويس عوض.]
يا إلهي، إنها السادسة بالفعل. تبدأ في المشي جيئة وذهابا في الغرفة مرة أخرى. «وكأني أحمل في ظلمة وخوف بعيدا ...» يرن الهاتف. «مرحبا ... نعم هذه الآنسة أوجليثورب ... مرحى، أهلا روث، يا إلهي لم أرك منذ وقت طويل، منذ كانت السيدة ساندرلاند ... أوه، بالطبع أحب أن أراك. تعالي وسنتناول شيئا في الطريق إلى المسرح ... أنا في الطابق الثالث.»
تضع السماعة وتأخذ معطف المطر من الخزانة. تتعلق رائحة الفراء، وكرات النفتالين، والفساتين في أنفها. ترفع النافذة مرة أخرى وتتنفس بعمق الهواء الرطب المليء بعفن الخريف البارد. تسمع صوت الانفجار المدمدم لباخرة كبيرة من النهر. أحمل في ظلمة وخوف بعيدا عن هذه الحياة غير المنطقية، عن هذا الجنون والنزاع المشوشين، يمكن للرجل أن يأخذ سفينة لزوجته، ولكن الفتاة لا يمكنها ذلك. يرن الهاتف رنينا مخترقا مرتعشا.
يؤز جرس الباب في الوقت نفسه. تضغط إلين على الزر لينفتح الترباس. «مرحبا ... لا، أنا آسفة للغاية، معذرة عليك أن تخبرني من أنت. عجبا، لاري هوبكنز، ظننت أنك في طوكيو ... لم ينقلوك مرة أخرى، أليس كذلك؟ يا إلهي، بالطبع يجب أن نلتقي ... يا عزيزي، إنه لأمر مروع للغاية، ولكن لدي مواعيد لمدة أسبوعين ... اسمع، أنا مضطربة بعض الشيء الليلة. اتصل غدا في الثانية عشرة وسأحاول تحويل بعض الأمور ... عجبا، بالطبع يجب أن أراك على الفور أيها الرجل الهرم المرح.» ... دخلت روث برين وكاساندرا ويلكنز تنفضان المياه من فوق مظلتيهما. «حسنا، وداعا لاري ... هذا لطيف للغاية من كلتيكما ... اخلعا معطفيكما قليلا ... ألا تتناولين العشاء معنا يا كاسي؟»
تقول كاسي بصوت مرتعش: «شعرت أنه كان علي رؤيتك فحسب ... إنه لأمر رائع ذلك النجاح المذهل الذي حققته. ولقد شعرت يا عزيزتي بشعور رهيب عندما سمعت عن السيد إيميري. لقد بكيت كثيرا، أليس كذلك يا روث؟»
تصيح روث في اللحظة نفسها: «أوه يا لها من شقة جميلة!» ترن أذنا إلين بشكل مثير للاشمئزاز. قالت فجأة بصوت أجش: «لا بد أننا سنموت جميعا وقتا ما.»
تنقر روث الأرضية بقدمها ذات الحذاء المطاطي؛ لمحت عين كاسي وجعلتها تتمتم حتى صمتت. تقول: «أليس من الأفضل أن نذهب؟ الوقت يتأخر بعض الشيء.» «معذرة لدقيقة يا روث.» ركضت إلين إلى غرفة النوم وصفعت الباب. تجلس على حافة حوض الاستحمام تدق على ركبتيها بقبضتيها المطبقتين. هاتان المرأتان ستصيبانني بالجنون. ثم ينفجر التوتر بداخلها، فتشعر بشيء يتدفق منها كماء يسيل من حوض غسيل. تضع بهدوء القليل من أحمر الشفاه على شفتيها.
عندما تعود، تقول بصوتها المعتاد: «حسنا، لنغادر ... هل حصلت على دور بعد يا روث؟» «أتيحت لي الفرصة للذهاب إلى ديترويت مع شركة مساهمة. ولكني رفضتها ... لن أخرج من نيويورك مهما حدث .» «أنا لن أتخلى عن فرصة للابتعاد عن نيويورك ... صدقا لو عرضت علي وظيفة لأغني في فيلم في بلدة مدسين هات أظن أنني سأقبلها.»
تلتقط إلين مظلتها وتنزل النساء الثلاث السلم ثم يخرجن إلى الشارع. تنادي إلين: «تاكسي.»
تفرمل سيارة الأجرة المارة للتوقف. يرتفع الوجه الأحمر الأشبه بوجه الصقر لسائق سيارة الأجرة في ضوء مصباح الشارع. تقول إلين بينما تركب الأخريان: «اتجه إلى مسرح يوجين في شارع 48.» تختلج الأضواء المخضرة والظلام أثناء مرورهن بالنوافذ المضيئة. •••
وقفت وذراعها تتأبط ذراع هاري جولدفايزر في سترته المسائية حذرة فوق درابزين حديقة السطح. الحديقة أسفلهما منبسطة تتلألأ بالأضواء من حين لآخر، ومخططة بضباب من سديم كسماء ساقطة. من خلفهما هبت موسيقى التانجو، ولمحات من الأصوات، وجر أقدام على حلبة الرقص. شعرت إلين بشيء صلب متيبس في فستان سهرتها الأخضر المعدني. «آه ولكن بويرنهاردت، راشيل، دوس، السيدة سيدونز ... لا إلين أنا أقول لك، أتفهمين؟ لا يوجد فن مثل فن المسرح يسمو بهذا العلو المشكل لعواطف الرجال ... لو كان بإمكاني أن أفعل ما أريده لكنا أعظم الناس في العالم. لكنت أعظم ممثلة ... ولكنت أعظم منتج، البناء غير المرئي، هل تفهمين؟ لكن الجمهور لا يريد فنا، فلن يسمح لك سكان هذا البلد بفعل أي شيء من أجلهم. كل ما يريدون هو ميلودراما بوليسية أو مهزلة فرنسية فاسدة تفتقر للمتعة أو مع الكثير من الفتيات الجميلات والموسيقى. حسنا، إن مجال العروض هو إعطاء الجمهور ما يريدون.» «أظن أن هذه المدينة مليئة بالأشخاص الذين يريدون أشياء لا يمكن تصورها ... انظر هناك.» «يكون الوضع حسنا في الليل عندما لا تستطيعين رؤيتها. فلا حس فني، ولا بنايات جميلة، ولا هواء كالأيام الخوالي، هذا ما يعيبها.»
وقفا لبرهة دون أن ينبسا بكلمة. بدأت الأوركسترا بعزف موسيقى الفالس من أوبريت «القناع التنكري البنفسجي». استدارت إلين فجأة إلى جولدفايزر وتحدثت بنبرة فظة. «هل يمكنك فهم امرأة تريد أن تكون بغيا، مشاعا، أحيانا؟» «عزيزتي السيدة الشابة يا له من شيء غريب يصدر فجأة من فتاة جميلة ورائعة وتتلفظ به!» «أظنك مصدوما.» لم تسمع إجابته. شعرت أنها كانت على وشك البكاء. ضغطت بأظافرها الحادة في راحتي يديها، وحبست أنفاسها حتى عدت عشرين. ثم قالت بصوت فتاة صغيرة مختنق: «هاري لنذهب ونرقص قليلا.»
السماء فوق المباني من الورق المقوى كقبة من الرصاص المطروق. كانت ستصبح أقل صلابة لو تساقطت الثلوج. وجدت إلين سيارة أجرة عند ناصية الجادة السابعة، وتركت نفسها تغوص في المقعد فاركة أصابع إحدى يديها الخدرة داخل القفاز براحة اليد الأخرى. «ويست 57 من فضلك.» بوجه قنعه التعب تراقب متاجر الفاكهة، واللافتات، والمباني التي تبنى، والشاحنات، والفتيات، والسعاة، ورجال الشرطة عبر النافذة المترجرجة. إذا ولدت طفلي، طفل ستان، فسيكبر ليخطو متأرجحا في الجادة السابعة تحت سماء ضبابية كالرصاص المطروق لا تشهد الثلج أبدا، مشاهدا متاجر الفاكهة، واللافتات، والمباني التي تبنى، والشاحنات، والفتيات، والسعاة، ورجال الشرطة ... تضم ركبتيها معا ضاغطة إياهما، وتعتدل في جلستها على حافة المقعد ويداها مشبكتان فوق بطنها الممشوق. يا إلهي، يا لها من مزحة خبيثة! لقد تلاعبوا بي؛ فقد أخذوا ستان بعيدا، وأحرقوه، ولم يتركوا لي شيئا سوى هذا الذي ينمو بداخلي والذي سيتسبب في موتي. تنشج في يديها الخدرتين. يا إلهي لماذا لا تثلج السماء؟
بينما كانت تقف على الرصيف الرمادي تتحسس محفظتها بحثا عن فاتورة، تملأ فمها بالحصى الدقيق وقصاصات ورق مغبرة تدور على طول المزراب. وجه عامل المصعد في سواده كقطعة مستديرة من خشب الأبنوس مرصعة بالعاج. «السيدة ستونتون ويلز؟» «أجل يا سيدتي، الطابق الثامن.»
أصدر المصعد همهمة وهو يرتفع. تقف ناظرة إلى نفسها في المرآة الصغيرة. شعرت فجأة بشيء متهور يبعث على المرح. تزيل الغبار عن وجهها بمنديل ملفوف، وتبتسم لعامل المصعد الذي بادرها بابتسامة عريضة كعرض لوحة مفاتيح كاملة لآلة بيانو، وتسرع بخفة إلى باب الشقة الذي تفتحه خادمة ترتدي ثيابا مزركشة. تفوح بداخلها رائحة الشاي، والفراء، والزهور، وتغرد أصوات النساء مع قرقعة الكئوس كما تغرد الطيور في أقفاصها. تتردد الأبصار حول رأسها وهي تدخل الغرفة.
كان هناك نبيذ مسكوب على مفرش المائدة وقطع من صلصة الطماطم من الاسباجيتي. كان المطعم مشبعا بالبخار، ويتمتع بإطلالة على خليج نابولي، وطلاء حسائي القوام باللونين الأزرق والأخضر على الجدران. رجعت إلين في كرسيها إلى المائدة المستديرة المليئة بالشباب، الذين كانوا يشاهدون الدخان يتجعد من سيجارتها ملتفا حول زجاجة نبيذ الكيانتي أمامها. ذابت مهملة في صحنها كتلة من الآيس كريم ثلاثي الألوان. «ولكن يا إلهي، أليس للمرء بعض الحقوق؟ بلى، فهذه الحضارة الصناعية تجبرنا على السعي لتعديل كامل للحكومة والحياة الاجتماعية ...»
همست إلين لهيرف الذي جلس بجانبه. «ألا يستخدم كلمات طويلة؟»
رد عليها بصوت هادر: «إنه على حق بالرغم من ذلك ... النتيجة هي وضع المزيد من القوة في أيدي قلة من الرجال أكثر مما كان عليه الأمر في تاريخ العالم منذ حضارات العبيد البشعة في مصر وبلاد ما بين النهرين ...» «أجل، أجل.» «كلا، أنا جاد فيما أقول ... الطريقة الوحيدة لمقاومة تلك المصالح هي أن يقوم العمال، البروليتاريا، المنتجون والمستهلكون، أيا ما أردت أن تسميهم، بتشكيل النقابات، وأن يصبحوا في النهاية منظمين جيدا بالقدر الذي يمكنهم من تولي الحكم بأكمله.» «أظنك مخطئا تماما يا مارتن، إنها المصالح كما تسميها، هؤلاء الرأسماليون المروعون، هم الذين بنوا هذا البلد كما هو عليه اليوم.» «حسنا، انظر إليها بالله عليك ... هذا ما أقوله. إنني لا أرضى بها مأوى لكلب.» «لا أظن ذلك. أنا معجب بهذا البلد ... إنه الوطن الوحيد الذي حصلت عليه ... وأعتقد أن كل هذه الجماهير المضطهدة تريد حقا أن تكون مضطهدة؛ فهم لا يصلحون لأي شيء آخر ... لو لم يكونوا كذلك لأصبحوا رجال أعمال مزدهرين ... أولئك الذين لديهم أي ميزة في طريقهم إلى ذلك.» «لكنني لا أظن أن رجل الأعمال المزدهر هو المثل الأعلى للمسعى البشري.» «ولكنه أفضل بكثير من المحرض الفوضوي المغسول الدماغ ... أولئك الذين ليسوا محتالين هم مجانين.» «اسمع يا ميد، لقد أسأت لتوك لشيء لا تفهمه، شيء لا تعرف عنه شيئا ... ينبغي أن تحاول فهم الأشياء قبل أن تشرع في إهانتها.» «إنه لمن الإهانة للذكاء كل هذا الهراء الاشتراكي.»
نقرت إلين على كم هيرف. «جيمي، يجب أن أعود إلى المنزل. هل تريد أن تتمشى قليلا معي؟» «مارتن، هلا دفعت لنا؟ علينا أن نذهب ... تبدين شاحبة للغاية يا إيلي.» «الجو حار قليلا هنا فحسب ... هيه، يا لها من راحة! ... إنني أكره المجادلات أيا ما كانت. لا يمكنني مطلقا التفكير في أي شيء أقوله.» «تلك المجموعة لا تفعل شيئا سوى الثرثرة ليلة بعد أخرى.»
كانت الجادة الثامنة ممتلئة بالضباب الذي علق في حناجرهم. كانت الأضواء خافتة عبرها، ولاحت الوجوه في الأفق، متلألئة في صورة ظلية وباهتة كسمكة في حوض سمك موحل. «أتشعرين بتحسن يا إيلي؟» «كثيرا.» «أنا سعيد للغاية.» «هل تعلم أنك الشخص الوحيد هنا الذي يناديني إيلي. إنني أحب ذلك ... يحاول الجميع أن يجعلني أبدو كبيرة للغاية منذ أن بدأت العمل بالمسرح.» «كان ستان يناديك به.»
قالت بصوت خافت قليلا كبكاء يسمع في الليل من بعيد على طول شاطئ: «ربما هذا هو سبب حبي للاسم.»
شعر جيمي بشيء يطبق على حلقه. قال: «يا إلهي، الأوضاع سيئة للغاية. يا إلهي، ليتني أستطيع أن ألقي باللوم كله على الرأسمالية كما يفعل مارتن.» «إنها لتمشية ممتعة ... إنني أحب الضباب.»
سارا دون أن ينبسا بكلمة. قعقعت العجلات عبر الضباب الخافت الذي يخفي تحته من بعيد في النهر صافرات الإنذار وصافرات الزوارق البخارية المتجمعة ذات الخوار.
قال هيرف عند ناصية شارع 14، وأمسك بذراعها أثناء عبورهما: «لكنك على الأقل لديك مهنة ... أنت تحبين عملك، كما أنك قد حققت نجاحا كبيرا.» «لا تقل ذلك ... أنت لا تصدق ذلك حقا. أنا لا أخدع نفسي كما تعتقد أنني أفعل.» «لا، ولكن هكذا هو الأمر.» «كنت كذلك قبل أن ألتقي بستان، قبل أن أحبه ... كما ترى فقد كنت طفلة صغيرة مجنونة مهووسة بالمسرح زج بها في أشياء كثيرة لم أفهمها قبل أن يتسنى لي الوقت لأتعلم أي شيء عن الحياة ... تزوجت في عمر الثامنة عشرة وطلقت في الثانية والعشرين، رقم قياسي رائع ... لكن ستان كان رائعا للغاية ...» «أعلم.» «دون أن يقول أي شيء قط، جعلني أشعر بوجود أشياء أخرى ... أشياء لا تصدق ...» «يا إلهي، يغيظني جنونه على الرغم من ذلك ... يا لها من خسارة!» «لا أستطيع التحدث في الأمر.» «دعينا لا نتحدث فيه.» «أنت يا جيمي الشخص الوحيد المتبقي الذي يمكنني التحدث إليه حقا.» «لا تثقي بي. فقد أغضب عليك أيضا يوما ما.»
ضحكا. «يا إلهي، أنا سعيد أنني لم أمت، ألست كذلك أنت أيضا يا إيلي؟» «لا أعرف. اسمع، هذا منزلي. لا أريدك أن تصعد إليه ... سأذهب إلى النوم مباشرة. أشعر بالاستياء ...» وقف جيمي خالعا قبعته ينظر إليها. كانت تتعثر بحثا عن مفتاحها في حقيبتها. «اسمع يا جيمي، يجب أن أخبرك كذلك ...» مضت نحوه وتحدثت سريعا وقد أشاحت بوجهها عنه وأشارت إليه بالمفاتيح التي ومض بها مصباح الشارع. كان الضباب كخيمة حولهما. «سأنجب طفلا ... إنه طفل ستان. سوف أتخلى عن كل هذه الحياة السخيفة وأربيه. لا يهمني ما يحدث.» «يا إلهي، هذا أشجع شيء على الإطلاق سمعت أن امرأة تفعله ... أوه يا إيلي، أنت رائعة جدا. يا إلهي، لو كان بإمكاني أن أخبرك ما أنا ...» «أوه لا.» انكسر صوتها وامتلأت عيناها بالدموع. «أنا سخيف أحمق، هذا كل شيء.» جعدت وجهها كطفل صغير وركضت صاعدة الدرج والدموع تنهمر على وجهها. «أوه يا إيلي، أريد أن أقول لك شيئا ...»
انغلق الباب خلفها.
وقف جيمي هيرف ساكنا عند أسفل الدرجات المصنوعة من الحجر الأسمر الرملي. خفق قلبه. أراد أن يكسر الباب وراءها. ركع على ركبتيه وقبل مكان خطوتها. دار الضباب في دوامات وامضا بألوان كقصاصات ورقية من حوله. ثم انحسر شعور الخفقان وشعر بنفسه يسقط في بالوعة سوداء. وقف ساكنا. تفقدت وجهه وهو يمر عينا شرطي أشبه بعمود أزرق بدين يلوح بعصا ليلية. ثم شد قبضتيه فجأة وغادر المكان. قال عاليا: «يا إلهي، كل شيء كالجحيم.» مسح الحصى عن شفتيه بكم معطفه. •••
وضعت يدها في يده لتقفز من السيارة السريعة عندما تنطلق العبارة، قائلة: «شكرا يا لاري»، وتتبع جسده الطويل المتمهل إلى مقدمة العبارة. تنفخ رياح نهرية خافتة الغبار والبنزين من أنفيهما . في سماء الليل المزينة بنجوم كاللآلئ، كانت الإطارات المربعة للمنازل على طول الضفة المقابلة تومض كألعاب نارية مشتعلة. تضرب الأمواج صغيرة مقدمة العبارة المندفعة. يعزف رجل أحدب موسيقى «ماريانيلا» على كمانه.
يقول لاري بصوت مطنطن عميق: «لا شيء ينجح مثل النجاح.» «لو كنت تعلم مدى عدم اهتمامي بأي شيء الآن لما كنت قد واصلت مضايقتي بكل هذه الكلمات ... أعني الزواج، والنجاح، والحب، إنها مجرد كلمات.» «لكنها تعني كل شيء في العالم بالنسبة إلي ... أظنك ستحبين مدينة ليما يا إلين ... انتظرت حتى تكوني حرة، أليس كذلك؟ والآن ها أنا هنا.» «مطلقا ليس أحد منا كذلك ... لكني فقط أشعر بالخدر.» رياح النهر قليلة الملوحة. على طول الجسر فوق شارع 125، تزحف السيارات كالخنافس. عندما تدخل العبارة المنزلق، يسمعان سحق العجلات وقعقعتها على الأسفلت. «حسنا، من الأفضل أن نعود إلى السيارة، أيتها المخلوقة الرائعة إلين.» «إنه لأمر شائق بعد يوم طويل، أليس كذلك يا لاري، العودة إلى مركز كل شيء؟» •••
بجانب الباب الأبيض الملطخ يوجد زرا ضغط مكتوب عليهما «جرس الليل» و«جرس النهار». ضغطت على الزر بإصبع مهتز. فتح الباب رجل قصير وعريض بوجه كوجه جرذ وشعر أسود أملس مسترسل. كان على كلا جانبيه يد قصيرة كيد دمية وبلون الفطر. حدب كتفيه منحنيا. «هل أنت تلك السيدة؟ ادخلي.» «هل أنت الدكتور أبراهامز؟» «نعم ... أنت السيدة التي هاتفني صديقي بشأنها. اجلسي يا سيدتي العزيزة.» تفوح من المكتب رائحة كرائحة زهرة العطاس. يهتز قلبها بين ضلوعها يأسا. «أنت تفهم ...» تكره الرعشة في صوتها؛ ستفقد الوعي. «أنت تفهم يا دكتور أبراهامز أن ذلك ضروري للغاية. فأنا سأطلق من زوجي ويتعين علي أن أكسب قوتي بنفسي.» «صغيرة جدا، تعيسة في زواجك ... يؤسفني ذلك.» يخرخر الطبيب بهدوء كما لو كان وحده. تنهد مهسهسا ونظر إلى عينيها فجأة بعينين سوداوين حادتين يخترقانها كما لو كانا مثقابين. «لا تخافي يا سيدتي العزيزة، إنها عملية بسيطة جدا ... هل أنت مستعدة الآن؟» «نعم. لن تستغرق وقتا طويلا، أليس كذلك؟ إن استطعت أن أتمالك نفسي، فإن لدي موعدا لتناول الشاي في الخامسة.» «أنت شابة شجاعة. في غضون ساعة سيغدو الأمر منسيا ... يؤسفني ... إنه لأمر محزن أن يكون شيء كهذا ضروريا ... سيدتي العزيزة، يجب أن تنعمي بمنزل والعديد من الأطفال وزوج محب ... هلا دخلت غرفة العمليات وأعددت نفسك ... إنني أعمل بلا مساعد.»
تتضخم براعم الضوء اللافحة في وسط السقف، وتنشر النيكل الحاد كالشفرات، والمينا، وعلبة زجاجية حادة براقة تحتوي على أدوات حادة. تخلع قبعتها وتترك نفسها تغوص متقززة ومرتعشة على كرسي صغير من المينا. ثم تنهض متيبسة على قدميها وتفك حزام تنورتها.
يتكسر هدير الشوارع كالأمواج حول صدفة من ألم واجف. تشاهد ميل قبعتها الجلدية، ومسحوق التجميل، والوجنتين المتوردتين، والشفاه القرمزية التي تشكل قناعا على وجهها. جميع أزرار قفازيها مقفلة. ترفع يدها. «تاكسي!» مرت سيارة إطفاء زائرة، وعربة بها رجال بوجوه متعرقة يشدون معاطف مطاطية، وصلصلة خطاف وسلم. تتلاشى جميع مشاعرها مع تلاشي دوي صافرة الإنذار. هناك تمثال خشبي لأحد الهنود الحمر، مطلي، ويده مرفوعة عند ناصية الشارع. «تاكسي!» «نعم، سيدتي.» «اتجه إلى فندق الريتز.»
الجزء الثالث
الفصل الأول
المدينة المبتهجة الساكنة مطمئنة
ثمة أعلام على جميع ساريات الأعلام في الجادة الخامسة. في رياح التاريخ الصاخبة ترفرف الأعلام الكبيرة وتشد أحبالها فوق الأعمدة المصرصرة ذات المقابض الذهبية في الجادة الخامسة. تتمايل النجوم رزينة في السماء الأردوازية، وتتلوى الخطوط الحمراء والبيضاء أمام السحب.
في عاصفة الفرق النحاسية، والخيول الواطئة، والمدافع المقعقعة المدوية، تتشبث ظلال كظلال مخالب بالأعلام المشدودة، فتبدو الأعلام كألسنة جائعة تلعق، وتتلوى، وتتجعد.
أوه، إنه طريق طويل إلى مقاطعة تيبيراري ... هناك! هناك!
المرفأ مليء بالزوارق البخارية المرقطة بخطوط كخطوط الحمار الوحشي والظربان، والمضيق مختنق بالسبائك، إنهم يكدسون الجنيهات الإنجليزية الذهبية إلى الأسقف في الخزانة الثانوية. تعلو أصوات الدولارات عبر اللاسلكي، جميع البرقيات تطقطق على إيقاع الدولارات.
هناك طريق طويل عاصف ... هناك! هناك!
تجحظ عيونهم في مترو الأنفاق وهم يقولون «نهاية العالم»، التيفوس، الكوليرا، القذائف، التمرد، الموت حرقا، الموت غرقا، الموت جوعا، الموت في الوحل.
أوه، إنه طريق طويل إلى ماديموسيل من آرمنتيير، هناك! الأمريكيون قادمون، الأمريكيون قادمون. في نهاية الجادة الخامسة، تدوي الفرق النحاسية مناصرة لقرض الحرية والصليب الأحمر. تتسلل السفن المجهزة لتقوم مقام المستشفيات إلى الميناء وتفرغ حمولتها خلسة في الليل في أحواض سفن قديمة في نيوجيرسي. في بداية الجادة الخامسة تتألق أعلام الدول السبع عشرة متلوية في الريح الجائعة الصاخبة.
يا أشجار البلوط والدردار والصفصاف الباكية والعشب النابت أخضر في بلد الإله.
ترفرف الأعلام الكبيرة وتشد أحبالها فوق الأعمدة المصرصرة ذات المقابض الذهبية في الجادة الخامسة.
يستلقي الكابتن جيمس ميريفال حاملا وسام صليب الخدمة المتميزة وعيناه مغمضتان، بينما تدلك أصابع الحلاق السمينة ذقنه بلطف. تدغدغ الرغوة فتحتي أنفه؛ حيث يشم رائحة عطر ما بعد الحلاقة، ويسمع أزيز الهزاز الكهربائي وجز المقص.
يطنطن الحلاق في أذنه، قائلا: «تدليك وجه بسيط يا سيدي، تخلص من بعض تلك الرءوس السوداء يا سيدي.» كان الحلاق أصلع وله ذقن أزرق مستدير.
قال ميريفال متثاقلا: «حسنا، افعل كل ما تريد. هذه هي المرة الأولى التي أحصل فيها على حلاقة لائقة منذ إعلان الحرب.» «هل أتيت لتوك من الخارج أيها الكابتن؟» «نعم ... كنت أجعل العالم آمنا للديمقراطية.»
خنق الحلاق كلماته أسفل منشفة ساخنة. «هل تريد بعضا من ماء الليلك أيها الكابتن؟» «كلا، لا تضع أيا من دهاناتك اللعينة علي، فقط بعضا من غسول المشتركة أو شيء مطهر.»
كانت لفتاة العناية بالأيدي الشقراء رموش محببة باهتة اللون؛ نظرت إليه فاتنة إذ فرقت عن شفتيها الورديتين كالبراعم. «أظنك وصلت للتو من سفرك أيها الكابتن ... يا إلهي، لقد اكتسبت سمرة جميلة.» أعطاها يده فوق طاولة بيضاء صغيرة. «لقد مر وقت طويل أيها الكابتن منذ أن اعتنى أحد بهاتين اليدين.» «كيف لك أن تعرفي ذلك؟» «انظر كيف نما الجلد.» «كنا مشغولين للغاية عن أي شيء من هذا القبيل. ولكني لست مشغولا من الساعة الثامنة، هذا كل ما في الأمر.» «أوه، لا بد أن هذا كان مرعبا ...» «أوه، لقد كانت حربا صغيرة عظيمة حتى النهاية.» «سأقول إنها كانت ذلك ... وهل فرغت الآن أيها الكابتن؟» «بالطبع لا أزال في القوات الاحتياطية.»
ربتت على يده مرة أخيرة مازحة ونهض على قدميه.
وضع بقشيشا في راحة يد الحلاق الناعمة وراحة اليد الصلبة للصبي الملون الذي سلمه قبعته، وصعد ببطء الدرجات الرخامية البيضاء. بنهاية الدرج كانت هناك مرآة. توقف الكابتن جيمس ميريفال ليلقي نظرة على الكابتن جيمس ميريفال. كان شابا طويل القامة مستقيم القسمات ذا ذقن عريض نوعا ما. كان يرتدي زيا رسميا متينا وأنيقا مزينا بشارة قوس قزح، ومليئا بالأوشحة وشرائط الخدمة. انعكس ضوء المرآة فضيا على كلا لفافتي ساقيه. تنحنح وهو ينظر إلى نفسه من أعلى لأسفل. ظهر شاب في ملابس مدنية وراءه. «مرحبا يا جيمس، هل كل شيء على ما يرام؟» «بالتأكيد ... اسمع، أليست قاعدة حمقاء لعينة ألا يسمح لنا بارتداء أحزمة سام براوني؟ هذا يفسد الزي بأكمله ...» «يمكنهم أن يأخذوا كل أحزمة سام براوني الخاصة بهم ويعلقوها في مؤخرة القائد العام، لا يهمني ... أنا مدني.» «ما زلت ضابطا في القوات الاحتياطية، لا تنس ذلك.» «بوسعهم أخذ القوات الاحتياطية الخاصة بهم والدفع بها من فوق مسافة 10 آلاف ميل في المجرى. دعنا نذهب لنتناول شرابا.» «يجب أن أخرج وأرى الناس.» خرجا إلى شارع 42. «حسنا، مر وقت طويل يا جيمس، سأشرب حتى الثمالة ... فقط تخيل كونك حرا.» «مر وقت طويل يا جيري، تهذب فيما ستفعله.»
سار ميريفال غربا على طول شارع 42. كانت الأعلام لا تزال مرفوعة، تتدلى من النوافذ، وتهتز بتكاسل من الأعمدة في نسيم سبتمبر العليل. نظر إلى المتاجر وهو يمشي على طول الشارع، حيث الزهور، والجوارب النسائية، والحلوى، والقمصان وربطات العنق، والفساتين، والستائر الملونة عبر الألواح الزجاجية اللامعة، وراء سيل من الوجوه، وجوه الرجال المحلوقة بشفرات الحلاقة، ووجوه الفتيات بشفاهها الملونة بالحمرة وأنوفها التي تعلوها مساحيق التجميل. أشعره ذلك بالتورد والتحمس. تململ عندما استقل مترو الأنفاق. سمع فتاة تقول لأخرى: «انظري إلى الأشرطة لدى هذا الرجل ... إنه وسام صليب الخدمة المتميزة.» خرج إلى شارع 72 ومشى نافخا صدره في الشارع الحجري المألوف للغاية باتجاه النهر.
قال رجل المصعد: «كيف حالك يا كابتن ميريفال؟»
صاحت وهي تركض إلى بين ذراعيه: «مرحى، هل خرجت يا جيمس؟»
أومأ وقبلها. بدت شاحبة وذابلة في فستانها الأسود. جاءت مايسي، التي كانت ترتدي فستانا أسود أيضا، تحفحف ثيابها، طويلة ومتوردة الوجنتين خلفها. «من الرائع أن أجد كلتيكما بمظهر جميل.» «بالطبع نحن كذلك ... بقدر ما يمكن توقعه. لقد مررنا يا عزيزي بوقت عصيب ... أنت رب الأسرة الآن يا جيمس.» «مسكين أبي ... أن يرحل هكذا.» «كان هذا شيئا فاتكا ... مات آلاف من الناس جراء الوباء في نيويورك وحدها.»
عانق مايسي بإحدى ذراعيه وأمه بالأخرى. لم يتكلم منهم أحد.
قال ميريفال وهو يدخل غرفة المعيشة: «حسنا، لقد كانت حربا عظيمة حتى النهاية.» تبعته والدته وأخته. جلس في الكرسي الجلد ومدد ساقيه بحذاءيه الملمعين. «لا تعلمان كم هو رائع أن يعود المرء للوطن.»
سحبت السيدة ميريفال كرسيها بالقرب من كرسيه. «الآن يا عزيزي أخبرنا بكل شيء عن الحرب.» •••
في ظلام المنحدر أمام باب المسكن، يمد يده ويسحبها إليه. «لا يا بوي، لا، لا تكوني قاسية.» تنشد ذراعاه كالحبال ذات العقد حول ظهرها؛ فترتعش ركبتاها. يتلمس فمها بفمه على طول عظمة وجنتها، أسفل جانب أنفها. لا يمكنها التنفس وشفتاه تجسان شفتيها. «أوه لا أطيق ذلك.» يبعدها عنه. تترنح لاهثة أمام الجدار الذي تجثم عليه يداه الكبيرتان.
يهمس بلطف: «لا داعي للقلق.» «يجب أن أذهب، لقد تأخر الوقت ... يجب أن أستيقظ في السادسة.» «حسنا في أي وقت تظنينني أستيقظ؟» «ربما تراني أمي ...» «قولي لها أن تذهب إلى الجحيم.» «سأفعل يوما ما ... الأسوأ من ذلك ... إذا لم تتوقف عن مراقبتي.» تمسك بوجنتيه غير المحلوقتين وتقبله سريعا في فمه وتنطلق بعيدا عنه وتركض صاعدة الطوابق الأربعة للسلم المتسخ.
لا يزال مزلاج الباب مفتوحا. تخلع حذاء الرقص وتمشي بحذر عبر المطبخ الصغير على قدمين تؤلمانها. من الغرفة التالية يأتي الشخير المزدوج المصدر الصافر لعمها وزوجته. «هناك شخص يحبني، ترى من هو ...» سرى اللحن في كامل جسدها، في رجفة قدميها، والموضع الواخز من ظهرها حيث أمسك بها بقوة ليرقص معها. عليك أن تنسي الأمر يا آنا وإلا فلن تنامي. عليك أن تنسي يا آنا. صلصلت الأطباق المعدة للإفطار على الطاولات واخزة مروعة عندما اصطدمت بها.
يأتي صوت أمها متذمرا يغلب عليه النعاس: «أذلك أنت يا آنا؟» «ذهبت لأحضر كوبا من الماء يا أمي.» تزفر المرأة العجوز ممتعضة عبر أسنانها، ويصرصر زنبرك السرير أثناء تقلبها فوقه. نائمة طوال الوقت. «هناك شخص يحبني، ترى من هو؟» تخلع فستان سهرتها وترتدي ثوب نومها. ثم تسير على أطراف أصابعها إلى الخزانة لتعلق الفستان، ثم تندس في النهاية بين الأغطية شيئا فشيئا كي لا تصدر ألواح السرير صريرا. «ترى من هو؟» جر أقدام، جر أقدام، وأضواء ساطعة، ووجوه وردية منتفخة، وأذرع قابضة، وأفخاذ مشدودة، وأقدام قافزة. «ترى من هو؟» جر أقدام، أزيز ساكسفون مطنطن، جر أقدام مع إيقاع الطبل، مزمار الترومبون، ومزمار الكلارينيت. أقدام، أفخاذ، وجنات متلاصقة، «هناك شخص يحبني ...» جر أقدام، جر أقدام. «ترى من هو؟» •••
ينام الطفل ذو الوجه والقبضتين المغلقتين الصغيرتين ببشرة وردية مع مسحة أرجوانية فوق التخت. كانت إلين متكئة على حقيبة جلدية سوداء. وكان جيمي هيرف في قميصه الذي لا يرتدي شيئا فوقه ينظر من كوة السفينة. «حسنا، ذلك تمثال الحرية ... يجب أن نخرج على ظهر العبارة يا إيلي.» «سيمر وقت طويل قبل أن نرسو ... هيا للأعلى.» «سآتي مع مارتن خلال دقيقة.» «أوه تقدمي، سنضع أغراض الطفل في الحقيبة عندما نقترب من المنزلق.»
خرجا على ظهر العبارة في سماء ظهيرة ساطعة من ظهائر سبتمبر. كانت المياه نيلية مخضرة. ظلت الرياح المستقرة تجرف لفائف من الدخان البني ولطخا من البخار الأبيض كبياض القطن عن قوس السماء النيلي الأزرق العالي المهول. أمام أفق ملطخ بالسخام، تتداخل فيه الصنادل، والبواخر، ومداخن محطات توليد الطاقة، وأرصفة الميناء المغطاة، والجسور ، كانت نيويورك السفلى عبارة عن هرم مستدق باللونين الوردي والأبيض كما لو كان مشكلا نحيفا من ورق مقوى. «يجب أن نخرج مارتن يا إيلي كي يتمكن من المشاهدة.» «ويبدأ في الصراخ كزورق قطر ... إنه أفضل حالا حيث هو.»
انحنيا أسفل بعض الحبال، وتسللا مارين بالرافعة البخارية المقعقعة وخرجا إلى مقدمة العبارة. «يا إلهي يا إيلي، إنه أعظم مشهد في العالم ... لم أظن قط أنني سأرجع في يوم من الأيام، أظننت أنت كذلك؟» «كان لدي نية قوية للعودة.» «ولكن ليس على هذه الحال.» «كلا، لا أظن أنني تخيلت الأمر كذلك.»
بالفرنسية: «من فضلك يا سيدتي ...»
كان هناك بحار يشير لهم أن يرجعوا. أدارت إلين وجهها تجاه الرياح لإبعاد الشعيرات النحاسية اللون من عينيها. بالفرنسية: «هذا جميل، أليس كذلك؟» ابتسمت وسط الريح في وجه البحار الأحمر.
بالفرنسية: «أحب أكثر مدينة لو هافر ... من فضلك يا سيدتي.» «حسنا، سأذهب إلى الأسفل وأجهز مارتن.»
أبعد الطنين الحاد، طنين زورق القطر أثناء مروره بجانبهما، رد جيمي عن أذنيها. غادرته خلسة ونزلت إلى المقصورة مرة أخرى.
كانا عالقين وسط زحام الناس في طرف المعبر.
قالت إلين: «اسمع، يمكننا انتظار حمال.» «لا يا عزيزتي، لقد حملت الحقائب.» كان جيمي يتصبب عرقا ويلهث حاملا حقيبة في كل يد وحزم تحت ذراعيه. كان الطفل بين ذراعي إلين يهدل ويمد يديه الصغيرتين نحو الوجوه في كل مكان حوله.
قال جيمي وهما يعبران المعبر: «أتعلمين؟ أتمنى لو ظللنا بالعبارة ... أكره العودة إلى المنزل.» «أنا لا أكره ... إن ه ... سأتبعك على الفور ... أردت أن أبحث عن فرانسيس وبوب. مرحبا ...» «حسنا، سأكون ...» «لقد اكتسبت بعض الوزن يا هيلينا، تبدين رائعة. أين جيمبس؟» كان جيمي يفرك يديه معا؛ فقد أصابهما التصلب والحكة من أثر مقابض الحقائب الثقيلة. «مرحبا يا هيرف. مرحبا يا فرانسيس. أليس هذا مدهشا؟» «يا إلهي، أنا سعيد برؤيتك ...» «ما يجب أن أفعله يا جيمبس هو الذهاب بالطفل مباشرة إلى فندق بريفورت ...» «أليس لطيفا؟» «... هل معك خمسة دولارات أمريكية؟» «معي دولار فكة . تلك المائة في الحساب المسبق للفندق.» «إن معي الكثير من المال. سنذهب أنا وهيلينا إلى الفندق ويمكنكما أن تتبعانا بالأمتعة.» «هل مسموح لي أيها المفتش أن أعبر بالطفل؟ سيراقب زوجي الحقائب.» «بالتأكيد يا سيدتي، تفضلي.» «أليس لطيفا؟ أوه يا فرانسيس هذا مرح جدا.» «هيا يا بوب يمكنني إنهاء هذا بمفردي أسرع من ذلك ... سترافق السيدتين إلى فندق بريفورت.» «حسنا، نحن نكره أن نتركك.» «أوه، هيا ... سألحق بكم على الفور.» «السيد جيمس هيرف وزوجته وطفل رضيع ... هل هذا كل شيء؟» «نعم هذا صحيح.» «سأكون معكما على الفور يا سيد هيرف ... هل هذه هي الأمتعة كلها؟» «نعم كل شيء هناك.»
قالت فرانسيس بصوت قوقأة بينما هي وهيلدبراند يتبعان إلين إلى داخل سيارة الأجرة: «أليس جميلا؟» «من؟» «الطفل بالطبع ...» «أوه، يجب أن تريه وقتا ما أحيانا ... يبدو أنه يحب السفر.»
فتح رجل عسكري بملابس مدنية باب سيارة الأجرة ونظر بالداخل بينما كانوا يخرجون من البوابة. سأله هيلدبراند: «هل تريد أن تشم أنفاسنا؟» كان للرجل وجه جامد ككتلة خشبية. أغلق الباب. «لم تسمع هيلينا بالحظر بعد، أليس كذلك؟» «إنه يفزعني ... انظر.» «يا إلهي!» أخرجت من أسفل البطانية التي كانت ملفوفة حول الطفل حزمة من الورق البني ... «كوارتان من شرابنا المسكر المميز ... مذاق العائلة يا هيرف ... ولدي كوارت آخر في قربة أسفل حزام خصري ... لهذا أبدو كما لو كنت سأنجب طفلا آخر.»
شرع الزوجان هيلدبراند في الصياح ضاحكين. «يحمل جيمب قربة حول خصره أيضا وشراب الشارتروز في قارورة فوق وركه ... سنضطر على الأرجح إلى الذهاب وإخراجه من الحبس بكفالة.»
كانوا لا يزالون يضحكون حتى إن الدموع كانت تنهمر على وجوههم عندما وصلوا عند الفندق. في المصعد بدأ الطفل في العويل.
بمجرد أن أغلقت باب الغرفة المشمسة الكبيرة، أخرجت القربة من تحت فستانها. «اسمع يا بوب، اتصل بهم في الأسفل واطلب منهم ثلجا مكسرا ومياها فوارة ... سنتناول جميعا الكونياك مع الماء الفوار ...» «ألم يكن من الأفضل لو انتظرنا جيمبس؟» «أوه، سيكون هنا على الفور ... ليس معه شيء عليه جمارك ... فهو مفلس للغاية لدرجة أنه لا يمكنه أن يجلب شيئا ... فرانسيس، ماذا عن الحليب في نيويورك؟» «كيف لي أن أعرف يا هيلينا؟» تورد وجه فرانسيس هيلدبراند وسارت إلى النافذة. «أوه حسنا، سنعطيه طعامه مرة أخرى ... لقد أبلى بلاء حسنا معه في الرحلة.» وضعت إلين الطفل على السرير. استلقى يركل وينظر حوله بعينين داكنتين مستديرتين كحجرين ذهبيين. «أليس سمينا؟» «إنه يتمتع بصحة جيدة وأنا متأكدة من أنه أبله قطعا ... أوه بحق السماء يجب أن أتصل بوالدي ... أليست الحياة الأسرية شديدة التعقيد؟»
كانت إلين تعد موقد الكحول الصغير الخاص بها على حوض الغسيل. جاء الفراش ومعه فوق صينية كئوس ووعاء من الجليد المصلصل وزجاجة ماء فوار وايت روك. «أعد لنا مشروبا من القربة. ينبغي أن نشربه وإلا تسبب في تآكل المطاط ... سنشرب نخب مقهى هاركورت.»
قال هيلدبراند: «بالطبع ما لا تدركونه أنتم الصغار أن صعوبة الحظر هي في البقاء بلا ثمالة.»
ضحكت إلين، ووقفت في ضوء المصباح الصغير الذي تفوح منه رائحة منزلية هادئة من النيكل الساخن والكحول المحترق. •••
كان جورج بالدوين يسير في جادة ماديسون ومعطفه الخفيف فوق ذراعه. كانت معنوياته المتعبة تنتعش في شفق الخريف المتلألئ في الشوارع. من مربع سكني إلى آخر عبر ظلمة عوادم البنزين لسيارة الأجرة المطنطنة، يتجادل في أذنه محاميان يرتديان معطفين أسودين من الصوف وياقتين متيبستين ذواتي طرفين. إذا عدت إلى المنزل، فسيكون الوضع مريحا في المكتبة. ستكون الشقة مظلمة وهادئة ويمكنك أن تجلس مرتديا نعليك أسفل التمثال النصفي لشيبيون الأفريقي على الكرسي الجلد وأن تقرأ وتطلب أن يرسل لك طعام العشاء ... ستكون نيفادا مرحة وعلى طبيعتها وتروي لك قصصا مضحكة ... ستكون على علم بكل القيل والقال في دار البلدية ... من الجيد أن تعرف ذلك ... لكنك لن ترى نيفادا بعد الآن ... الأمر خطير جدا؛ إنها تزعجكم جميعا ... وتجلس سيسيلي شاحبة وأنيقة ونحيلة تعض شفتيها، إنها تكرهني، وتكره الحياة ... يا إلهي كيف سأحسن من وجودي؟! توقف أمام محل لبيع الزهور. جاءت من الباب رائحة فخمة ورطبة كالعسل، وخرج بكثافة في الشارع الذي يغلب عليه اللون الأزرق الفولاذي القوي. لو كنت أستطيع على الأقل أن أجعل وضعي المالي حصينا ... في النافذة كانت هناك حديقة يابانية منمنمة بها جسور محدبة وبرك بدت فيها الأسماك الذهبية كبيرة كالحيتان. إنه التناسب، هذا كل ما هنالك. أن تخطط لحياتك كالبستاني الحكيم الذي يحرث ويبذر بذورا في حديقته. لا، لن أذهب لأرى نيفادا الليلة. ولكني قد أرسل لها بعض الزهور. الورود الصفراء، تلك الورود النحاسية اللون ... إن إلين هي من يجب أن تضع هذه الورود. لا أستطيع أن أتخيل أنها تزوجت مرة أخرى ولديها طفل. دخل إلى المتجر. «ما اسم تلك الوردة؟» «إنها وردة ذهب أوفير يا سيدي.» «حسنا، أريد إرسال حزمتين إلى فندق بريفورت على الفور ... الآنسة إلين ... لا، بل السيد والسيدة جيمس هيرف ... سأكتب بطاقة.»
جلس إلى المكتب ومعه قلم في يده. رائحة الورود الذكية، تفوح من نيران شعرها الداكنة ... كلا، هذا بلا معنى بحق السماء ...
عزيزتي إلين،
أرجو أن تسمحي لصديق قديم بزيارتك أنت وزوجك في يوم من الأيام. ورجاء تذكري أنني دائما حريص بصدق - أنت تعرفينني جيدا على نحو لا يجعلك تعدين هذه دعوة فارغة من باب التأدب فحسب - على خدمتك وخدمته بأي طريقة من شأنها أن تسهم في تحقيق سعادتك. سامحيني إن كنت أتعهد أن أكون عبدك ومعجبك مدى الحياة.
جورج بالدوين
جاءت الرسالة في ثلاث من البطاقات البيضاء لبائعي الزهور. راجعها بشفتين زامتين، منقحا ومدققا فيها بشدة. ثم دفع لبائع الزهور من لفافة الأوراق النقدية التي أخذها من جيبه الخلفي وخرج مرة أخرى إلى الشارع. كان الظلام قد حل بالفعل، وكانت الساعة تقترب من السابعة. وقف ولا يزال مترددا عند الناصية يشاهد مرور سيارات الأجرة بألوانها الصفراء، والحمراء، والخضراء، واليوسفية. •••
تسير الناقلة ذات الواجهة الشبيهة بوجه أفطس الأنف بطيئة عبر المضيق مبعثرة المياه في المطر. يقف الرقيب أول أوكيف والجندي أول داتش روبرتسون في مأوى المقصورة على سطح السفينة ينظران إلى البواخر الراسية في الحجر الصحي والشواطئ المنخفضة المبعثرة بجوار الرصيف. «انظر، بعضهم لا يزال يحمل طلاء، إنها قوارب مجلس الشحن ... لا تستحق ثمن البارود الذي يوضع في المدافع من أجل تفجيرها.»
قال جو أوكيف بصوت خافت: «إنها كذلك فعلا بحق الجحيم.» «يا إلهي ستروق لي نيويورك الصغيرة العجوز ...» «أنا أيضا أيها الرقيب، مهما كانت الظروف.»
يمران بالقرب من كتلة من البواخر الراسية في إحدى الساحات، يميل بعضها إلى جانب أو آخر، سفن نحيفة قصيرة الأقماع، وسفن طويلة الأقماع حمراء صدئة، بعضها مخطط ومرشوش ومنقط بالمعجون وطلاء تمويه أزرق وأخضر. لوح رجل في زورق آلي بذراعيه. يبدأ الرجال المتكومون بالمعاطف الكاكية على سطح الناقلة الرمادية التي تقطر منها المياه في الغناء:
أوه المشاة، المشاة
بالوسخ خلف آذانهم ...
عبر الضباب الذي يتخلله الضوء خلف المباني المنخفضة لجزيرة جفرنرز، كان بمقدورهما رؤية الصروح الطويلة، والكابلات المنحنية، والأربطة المعلقة لجسر بروكلين. يخرج روبرتسون حزمة من جيبه ويرمي بها من فوق المركب. «ماذا كان ذلك؟» «إنها أدوات الوقاية الخاصة بي فحسب ... لن أحتاجها بعد الآن.» «كيف ذلك؟» «أوه، سأحيا حياة نزيهة وأجد لي وظيفة جيدة وربما أتزوج.» «أظنها ليست بالفكرة السيئة. لقد تعبت من خداع نفسي. يا إلهي، لا بد أن أحدا يتكسب من قوارب مجلس الشحن.» «هذا هو المكان الذي يصل فيه رجال الدولار الواحد لمكانتهم على ما أظن.» «سأخبر العالم بذلك.»
على متن العبارة يغنيان:
أوه، تعمل في مصنع للمربى
وربما يكون ذلك جيدا ... «يا إلهي، إننا ذاهبون إلى النهر الشرقي أيها الرقيب. أين يظنون أنهم سيرسون بنا بحق الشيطان؟» «يا إلهي، أنا مستعد للسباحة إلى الشاطئ وحدي. وفكر فحسب في جميع هؤلاء الرجال الذين كانوا هنا يتكسبون منا طوال هذا الوقت ... 10 دولارات في اليوم مقابل العمل في ترسانة سفن، أتعي ذلك؟ ...» «بحق الجحيم أيها الرقيب، لقد اكتسبنا الخبرة.» «خبرة ...»
بعد انتهاء الحرب
ارجع إلى الولايات المتحدة من أجلي ... «أراهن أن القبطان كان يتناول الشراب بكثرة وظن أن بروكلين هي هوبوكين.» «حسنا، هناك وول ستريت ، يا أخي.»
يمران أسفل جسر بروكلين. ثمة طنين قطارات كهربائية فوق رءوسهم، ووميض بنفسجي بين الحين والآخر من القضبان الرطبة. وخلفهما وراء الصنادل، وزوارق القطر، وعبارات السيارات، كانت المباني الشاهقة المخططة باللون الأبيض مع نفحات من البخار والضباب، تتصاعد رمادية إلى داخل السحب المتدلية. •••
لم يقل أي منهم شيئا أثناء تناولهم الحساء. جلست السيدة ميريفال في فستان أسود إلى رأس الطاولة البيضوية تنظر عبر النصف المسحوب من ستائر الباب ونافذة قاعة الاستقبال وراء عمود من دخان أبيض غير ملفوف في ضوء الشمس فوق ساحات القطارات، وتتذكر زوجها وكيف أتيا قبل سنوات لتفقد الشقة في المنزل غير المكتمل الذي كانت تفوح منه رائحة الجبس والطلاء. عندما أنهت حساءها أخيرا أفاقت من ذكرياتها وقالت: «حسنا يا جيمي، هل ستعود إلى العمل في الصحف؟» «أظن ذلك.» «جيمس معروض عليه بالفعل ثلاث وظائف. أظنه أمرا رائعا.»
قال جيمس ميريفال لإلين التي جلست بجانبه: «ولكني أظن أنني سأواصل العمل مع الرائد. الرائد جوديير كما تعلمين، يا نسيبتي هيلينا ... أحد أبناء عائلة بافلو. إنه رئيس قسم الصرف الأجنبي في مؤسسة بانكيرز تراست ... يقول إنه بمقدوره تشغيلي بسرعة. كنا صديقين في الخارج.»
قالت مايسي بصوت هديل: «سيكون ذلك رائعا، أليس كذلك يا جيمي؟» جلست في الجهة المقابلة نحيلة ومتوردة في ثوبها الأسود.
واصل ميريفال: «إنه سيقدمني لبيبنج روك.» «وما ذلك؟» «عجبا يا جيمي، يجب أن تعرف ... أنا واثقة من أن نسيبتنا هيلينا قد تناولت الشاي هناك مرات عديدة.»
قالت إلين وعيناها في طبقها: «تعرفون جيمبس. هذا هو المكان الذي اعتاد والد ستان إيميري الذهاب إليه كل يوم أحد.»
قالت السيدة ميريفال: «أوه، هل تعرفين ذلك الشاب التعيس الحظ؟ كان ذلك أمرا مروعا.» «حدث الكثير من الأشياء الفظيعة في هذه السنوات ... كدت أنسى الأمر.»
قالت إلين: «نعم كنت أعرفه.»
قدم لهم فخذ الخروف مع الباذنجان المقلي، ثم تبعهما الذرة والبطاطا الحلوة. قالت السيدة ميريفال عندما انتهت من تقطيع الطعام: «أتعلمين، أظن أنه أمر فظيع ألا تخبرانا عن تجاربكما هناك ... لا بد أن الكثير منها مثير للاهتمام جدا. أظن يا جيمي أنه ينبغي عليك أن تؤلف كتابا عن خبراتك.» «لقد جربت كتابة بعض المقالات.» «متى ستظهر للناس؟» «لا يبدو أن أحدا يرغب في طباعتها ... كما ترين فأنا أختلف جذريا في بعض مسائل الرأي ...» «لقد مر وقت طويل يا سيدة ميريفال على آخر مرة أكلت فيها بطاطا حلوة كهذه ... طعمها كطعم نبات اليام.» «إنها طيبة ... هذه هي الطريقة التي أطهوها بها فحسب.»
قال ميريفال: «حسنا، كانت حربا عظيمة حتى النهاية.» «أين كنت ليلة الهدنة يا جيمي؟» «كنت في القدس مع الصليب الأحمر. أليس هذا سخيفا؟» «كنت في باريس.»
قالت إلين: «وأنا كذلك.» «إذن كنت هناك أيضا يا هيلينا؟ سأناديك هيلينا في النهاية؛ لذلك ربما أبدأ الآن ... أليس هذا رائعا؟ هل تقابلت أنت وجيمي هناك؟» «أوه لا، لقد كنا صديقين قديمين ... ولكننا التقينا بالمصادفة كثيرا ... كنا في القسم نفسه في الصليب الأحمر، قسم الدعاية.»
هتفت السيدة ميريفال: «قصة حرب رومانسية حقيقية. أليس ذلك رائعا؟» •••
صرخ جو أوكيف والعرق يتصبب على وجهه الأحمر: «الآن يا رجال هكذا يسير الأمر.» «هل سنطرح اقتراح المكافأة هذا أم لا؟ ... لقد قاتلنا من أجلهم أليس كذلك؟ تخلصنا من الحمقى، أليس كذلك؟ والآن عندما نعود إلى المنزل، يعطوننا الفتات. لا توجد وظائف ... وقد ذهبت فتياتنا وتزوجن من رجال آخرين ... يعاملوننا كحفنة من المتشردين والمتسكعين المتسخين عندما نطالب بتعويضنا العادل والشرعي والقانوني ... لا توجد مكافآت. هل سندعم ذلك؟ ... لا. سندعم حفنة من السياسيين الذين يعاملوننا كما لو كنا نجوب الأبواب الخلفية طلبا للصدقة؟ ... أطالبكم أيها الرجال ...»
دقت الأقدام على الأرض. «لا». صاحت الأصوات: «فلتذهب معهم إلى الجحيم» ... «الآن أقول إلى الجحيم مع السياسيين ... سننقل حملتنا إلى البلد ... إلى الشعب الأمريكي العظيم السخي الكبير القلب الذي قاتلنا ونزفنا الدماء وقدمنا أرواحنا في سبيله.»
هدرت غرفة الذخيرة الطويلة بالتصفيق. دق الجرحى في الصف الأمامي على الأرض بعكازاتهم. قال رجل بلا ذراعين لرجل بعين واحدة وساق صناعية جلس بجانبه: «إن جوي رجل جيد.» «إنه كذلك يا صديقي.» بينما كانوا يصطفون يقدم كل منهم للآخر السجائر، وقف رجل عند الباب ينادي: «اجتماع اللجنة، لجنة المكافآت.»
جلس الأربعة حول طاولة في الغرفة التي أعارها لهم العقيد. «حسنا أيها الرجال، لنشرب سيجارة.» قفز جو فوق مكتب العقيد وأخرج أربع سجائر روميو وجولييت. «لن يفوته ذلك أبدا.»
قال سيد جارنيت وهو يمدد ساقيه الطويلتين: «أقترح أن نتحلى بالقليل من المثابرة.»
قال بيل دوجان: «أليس لديك بعض من شراب السكوتش يا جوي؟» «لا، أنا مقلع عن الشراب حاليا.»
يقول سيجال متغطرسا: «أعرف أين تحصل على شراب مضمون ماركة هيج. قبل الحرب كان الكوارت بستة دولارات.» «وأين يمكننا الحصول على ستة دولارات بحق المسيح؟»
قال جو، جالسا على حافة الطاولة: «الآن اسمعوا يا رفاق، لنصل إلى بيت القصيد ... ما يتعين علينا فعله هو جمع الأموال من المجموعة ومن أي مكان آخر يمكننا أن نجمع منه المال ... هل اتفقنا على ذلك؟»
قال دوجان: «بالتأكيد سنفعل، أخبرهم.» «أعرف الكثير من الرجال القدامى كذلك، أعتقد أن الأولاد سيلقون معاملة قاسية ... سنطلق عليها اسم لجنة إضراب مكافآت بروكلين المرتبطة بمعسكر شيمس أوريلي لمنظمة الفيلق الأمريكي ... لا فائدة من فعل شيء ما لم تفعلوه على النحو الصحيح ... الآن هل أنتم معي يا رجال أم لا؟» «بالتأكيد نحن معك يا جوي ... سنخبرهم وننتظر على أهبة الاستعداد.» «حسنا ينبغي أن يكون دوجان هو الرئيس لأنه الأفضل مظهرا.»
تورد وجه دوجان وبدأ يتلعثم.
قال جارنيت ساخرا: «أوه، يا شاطئ بحر أبولو.» «وأظن أنه يمكنني تقديم أفضل ما لدي في منصب أمين الصندوق لأن لدي خبرة كبيرة في الأمر.»
قال سيجال بصوت خافت: «تعني لأنك الأقل نزاهة.»
مد جو فكه. «اسمع يا سيجال، هل أنت معنا أم لا؟ من الأفضل أن تخرج من هنا على الفور إن لم تكن معنا.»
قال دوجان: «بالتأكيد، امنعوا المزاح. جوي هو الرجل الذي ينجح الأمر، تعلمون ذلك ... امنعوا المزاح ... إن لم يعجبك يمكنك أن تخرج.»
يفرك سيجال أنفه النحيف المعقوف . «كنت أمزح فحسب أيها السادة، لم أقصد أي أذى.»
تابع جو غاضبا: «اسمع، فيم تظنني أضيع وقتي؟ ... عجبا لقد رفضت بالأمس 50 دولارا أمريكيا في الأسبوع، ألم يحدث ذلك يا سيد؟ رأيتني وأنا أتحدث إلى الرجل.» «بالطبع رأيتك يا جوي.»
قال سيجال: «أوه، فلتهدءوا يا رجال. لقد كنت أمزح مع جوي فحسب.» «حسنا، أظنك يا سيجال يجب أن تكون سكرتيرا؛ لأنك خبير في العمل المكتبي ...» «العمل المكتبي؟»
قال جو نافخا صدره: «بالتأكيد. أعلم أننا سنحصل على مساحة مكتبية في مكتب الرجل ... كل شيء على ما يرام. سيسمح لنا باستخدامه بالمجان حتى نبدأ. وسنحصل على الأدوات المكتبية. لا يمكننا تحقيق أي شيء في هذا العالم دون تقديم الأشياء كما ينبغي.»
سأل سيد جارنيت: «وأين يأتي دوري؟» «أنت اللجنة، أيها القوي الكبير.»
سار جو أوكيف بعد الاجتماع يصفر في جادة أتلانتك. كانت ليلة باردة؛ فقد كان يسير واثبا. كان هناك ضوء في مكتب الدكتور جوردون. رن جرس الباب. فتح الباب رجل أبيض يرتدي سترة بيضاء. «مرحبا يا دكتور.» «أهذا أنت يا أوكيف؟ ادخل يا بني.» كان ثمة شيء في صوت الطبيب يمسكه كيد باردة من عموده الفقري. «حسنا، هل نتيجة الاختبار جيدة يا دكتور؟» «أجل ... النتيجة إيجابية بالفعل.» «يا إلهي.» «لا تنشغل كثيرا بالأمر يا بني، سأعالجك في بضعة أشهر.» «أشهر؟» «عجبا، وفقا للتقديرات المتحفظة فإن نسبة 55٪ من الأشخاص الذين تقابلهم في الشارع مصابون بداء الزهري.» «لم أكن أحمق لعينا. بل كنت حذرا في الأمر.» «إنه أمر لا مفر منه في زمن الحرب ...» «أتمنى الآن لو أنني لم أكن حريصا ... كم من فرص أضعت!»
ضحك الطبيب. «ربما لن تعاني من أي أعراض ... الأمر لن يتعدى بعض الحقن. سأجعلك معافى بصحة جيدة في وقت قصير ... هل تريد أن تأخذ حقنة الآن؟ لقد جهزت كل شيء.»
أصبحت يدا أوكيف باردتين. قال منتزعا ضحكة: «حسنا، أظن ذلك. أظن أنني سأصبح كترموميتر لعين عندما تفرغ من علاجي.» ضحك الطبيب مصرصرا. «سيمتلئ جسمي بالزرنيخ والزئبق ... ذلك ما أعنيه .»
كانت الرياح تهب أكثر برودة. وكانت أسنانه تقعقع. سار إلى المنزل في الليلة الباردة القاسية كالحديد الصلب. من الحماقة أن فقدت وعيي بذلك الشكل عندما فاجأني بالخبر. كان لا يزال بمقدوره الشعور بوخز الإبرة المثير للغثيان. صر على أسنانه. بعد هذا لا بد أن أحظى ببعض الحظ ... لا بد أن أحظى ببعض الحظ. •••
يجلس رجلان بدينان ورجل نحيف إلى طاولة بجوار النافذة. يلتقي الضوء الزنكي اللون للسماء الغائمة ببريق ساطع من الكئوس، والأواني الفضية، وأصداف المحار، والعيون. كان ظهر جورج بالدوين إلى النافذة. وجلس جاس ماك نيل إلى يمينه، ودينش إلى يساره. عندما يميل النادل لإزالة أصداف المحار الفارغة، يمكنه عبر النافذة، وراء الدرابزين من الحجارة الرمادية، أن يرى قمم بعض المباني البارزة كما لو كانت آخر أشجار على حافة جرف، والآفاق القصديرية اللون للميناء ممتلئة بالسفن. يقول جاس ماك نيل: «أنا أعظك بهذا هذه المرة يا جورج ... يعلم الرب أنك كنت تعظني بما فيه الكفاية في الأيام الخوالي. صدقا، إنها حماقة مطلقة. من الحماقة المطلقة أن تفوت فرصة للعمل السياسي في هذا الوقت من حياتك ... لا يوجد رجل في نيويورك أكثر ملاءمة منك لتقلد المنصب ...»
يقول دينش بصوت عميق، مخرجا نظارته ذات الإطار الشبيه بصدفة السلحفاة من حافظة وواضعا إياها على عجل فوق أنفه: «يبدو لي كما لو أن هذا من واجبك يا بالدوين.»
أحضر النادل شريحة لحم كبيرة على لوح خشبي تحوطها حصون من الفطر والجزر المقطع قطعا صغيرة والبازلاء والبطاطس المهروسة المحمرة الوجه والمجعدة. يثبت دينش نظارته ويحدق باهتمام إلى شريحة اللحم على اللوح الخشبي.
يقول، مقطعا بسكين فولاذي مصقول حاد شريحة اللحم السميكة نصف المطهوة والمتبلة جيدا بالفلفل الأسود: «طبق سخي جدا يا بين، ينبغي أن أقول إنه طبق سخي جدا ... هذا ما في الأمر يا بالدوين ... عندما أنظر إليه ... البلد يمر بفترة خطيرة من إعادة الإعمار ... الارتباك المصاحب بانتهاء صراع كبير ... إفلاس قارة ... يذيع صيت البلشفية والمذاهب الهدامة ... أمريكا ...» مضغ قضمة ملء فمه ببطء. استأنف قائلا: «أمريكا في موقع يجعلها تتولى حراسة العالم. المبادئ العظيمة للديمقراطية، مبادئ تلك الحرية التجارية التي تعتمد عليها حضارتنا بأكملها صارت على المحك أكثر من أي وقت مضى. الآن نحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى رجال يتمتعون بقدرات راسخة ونزاهة لا تشوبها شائبة في الوظائف العامة، ولا سيما في المناصب التي تتطلب خبرة قضائية ومعرفة قانونية.» «هذا ما كنت أحاول أن أقوله لك منذ بضعة أيام يا جورج.» «حسنا هذا كله جيد يا جاس، ولكن كيف لك أن تعرف أنهم سينتخبونني ... ففي نهاية المطاف سيعني هذا التخلي عن ممارستي للمحاماة لعدد من السنوات، سيعني ...» «اترك هذا لي فحسب ... لقد انتخبت يا جورج بالفعل.»
يقول دينش: «شريحة لحم جيدة للغاية، يجب أن أقول ... كلا، ولكن الصحف تتناول أحاديث جانبية ... صادف أن عرفت من مصدر سري وموثوق أن هناك مؤامرة تخريبية بين العناصر غير المرغوب فيها في هذا البلد ... يا إلهي، فكر في انفجار وول ستريت ... يجب أن أقول إن موقف الصحافة كان مرضيا في أحد الجوانب ... نحن نقترب في الواقع من وحدة وطنية لم نحلم بها قبل الحرب.»
قاطعه جاس، قائلا: «كلا، ولكن يا جورج، لنتحدث بصراحة ... من شأن القيمة الدعائية للعمل السياسي دعم مسيرتك في المحاماة نوعا ما.» «ربما نعم وربما لا يا جاس.»
يفك دينش ورق القصدير عن السيجار. «على أي حال، للأمر هيبة كبيرة.» يخلع نظارته ويرفع رقبته السميكة كي ينظر للخارج في الامتداد المشرق للميناء الممتد مليئا بالصواري، والدخان، ولطخ من البخار، ومستطيلات الصنادل الداكنة، إلى مرتفعات جزيرة ستاتن التي يغشاها الضباب.
كانت رقائق السحاب الساطعة تتفتت في السماء النيلية التي بدت مهشمة فوق متنزه باتري، حيث وقفت مجموعات من الأشخاص بثياب داكنة رثة حول محطة إنزال جزيرة إيليس ورصيف القوارب الصغير، كما لو كانت تنتظر شيئا ما في صمت. علق الدخان المنهك لزوارق القطر والبواخر منخفضا وممتدا على طول المياه الخضراء بخضرة الزجاج المعتم. كانت المراكب الشراعية الثلاثية الصواري تسحب إلى مصب نهر الشمال. تخبط الشراع المرفوع لتوه على نحو خطر في الرياح. وفي المرفأ لاحت طويلة، طويلة باخرة بوجهتها الأمامية ، ومداخنها الأربع الحمراء التي ظهرت كمدخنة واحدة، لامعا هيكلها العلوي السمني اللون. صاح الرجل الحامل للمجهر والمنظار الميداني: «أتت الباخرة «موريتانيا» لتوها بعد تأخير دام 24 ساعة ... انظروا إلى الباخرة «موريتانيا»، أسرع سفينة في المحيط، تتأخر 24 ساعة.» تتبختر الباخرة «موريتانيا» شامخة كناطحة سحاب عبر ميناء الشحن. شحذت فرجة من ضوء الشمس الظل أسفل غرفة القيادة العريض، على طول الخطوط البيضاء للأسطح العليا، لامعة في صفوف كوات الباخرة. كانت المداخن متباعدة، وبدن الباخرة منبسطا. يسير بدن الباخرة «موريتانيا» الأسود الصلب إلى نهر الشمال قاطعا الطريق كسكين طويل ودافعا بزوارق القطر النافخة دخانها أمامه.
كانت ثمة عبارة تغادر محطة المهاجرين، وحفت همهمة عبر الحشد الذي كان يملأ حواف الرصيف. «المرحلون ... إنهم الشيوعيون الذين ترحلهم وزارة العدل ... المرحلون ... الحمر ... إنهم يرحلون الحمر.» كانت العبارة خارج المنزلق. جلست مجموعة من الرجال متسمرة في المؤخرة وقد بدوا شديدي الصغر كتماثيل الجنود القصديرية. «إنهم يرحلون الحمر إلى روسيا.» لوح منديل على متن العبارة، منديل أحمر. كان الناس يمشون على أطراف أصابعهم برفق إلى حافة الممشى، على أطراف أصابعهم، هادئين كما لو كانوا في غرفة للمرضى.
خلف ظهور الرجال والنساء المحتشدين إلى حافة المياه، سار رجال الشرطة بوجوههم الأشبه بوجوه الغوريلا متأهبين للشجار ذهابا وإيابا يؤرجحون هراواتهم في توتر. «إنهم يرحلون الحمر إلى روسيا ... المرحلون ... المحرضون ... غير المرغوب فيهم.» ... دارت النوارس وصاحت. كانوا كزجاجة صلصة كاتشاب تعلو وتهبط بعنف في الأمواج الصغيرة البيضاء بياض الزجاج المصقول. جاء صوت غناء من العبارة التي يصغر حجمها منسلة عبر المياه.
هذا هو النضال الأخير، لنتحد معا، وغدا ستوحد الاشتراكية الدولية الجنس البشري.
صاح الرجل الحامل للمجهر والمنظار الميداني: «ألق نظرة على المرحلين ... ألق نظرة على الغرباء غير المرغوب فيهم.» انفجر صوت فتاة فجأة: «استيقظوا يا أسرى الجوع»، «صمتا ... يمكنهم أن يقبضوا عليك بسبب قولك هذا.»
تبدد الغناء عبر المياه. في نهاية الأثر الرخامي الشكل للسفينة على صفحة المياه كانت العبارة تتقلص في الضباب. الاشتراكية الدولية ... ستوحد الجنس البشري. توقف الغناء. من أعلى النهر جاء الخفقان المقعقع الطويل لباخرة تغادر الرصيف. حامت النوارس فوق سواد الحشد بملابسهم الداكنة والذين وقفوا ينظرون إلى أسفل الخليج في صمت.
الفصل الثاني
تذكرة سينما بنيكل واحد
نيكل قبل منتصف الليل يشتري الغد ... عناوين الصحف التي تحمل أخبار السطو، فنجان من القهوة في المطعم الآلي، رحلة إلى وودلون، فورت لي، فلاتبوش ... نيكل تضعه في الآلة يشتري لك علكة. شخص ما يحبني، بيبي ديفاين، أنت في كنتاكي حيث ولدت ... موسيقى رقصة الفوكستروت تسمع عبر الجدران، وموسيقى البلوز والفالس (رقصنا طوال الليل)، شريط ودوامات من الذكريات الوامضة ... في الجادة السادسة بشارع 14 كان لا يزال هناك فانوس ستريوبتيكون مجسم متسخ ببقع الذباب حيث يمكنك إلقاء نظرة خاطفة على صحف الأمس المصفرة مقابل نيكل واحد. بجوار صالة الرماية المفعمة بالحيوية تنحني لتشاهد الصور الوامضة لأخبار تحمل عناوين على غرار «أوقات ساخنة»، «مفاجأة العازب»، «مشد الجوارب المسروق» ... سلة مهملات أحلام اليقظة الممزقة ... نيكل قبل منتصف الليل يشتري أمسنا.
خرجت روث برين من عيادة الطبيب تسحب الفراء بإحكام حول رقبتها. شعرت بالإغماء. تاكسي. عندما ركبت شمت رائحة مستحضرات تجميل وخبز محمص ومدخل السيدة ساندرلاند المبعثر بالقمامة. أوه لا أستطيع العودة إلى المنزل بعد. «أيها السائق، اتجه إلى صالة الشاي الإنجليزية القديمة في شارع 40 من فضلك.» فتحت محفظتها الجلدية الخضراء الطويلة ونظرت فيها. يا إلهي، دولار، وربع دولار، ونيكل، وبنسان فحسب. أبقت عينيها على الأرقام التي تومض في عداد سيارة الأجرة. أرادت أن تتهاوى وتجهش في البكاء ... يذهب المال سريعا. عصفت الرياح الباردة القارسة في حلقها عندما خرجت. «80 سنتا يا آنسة ... ليست معي أي فكة يا آنسة.» «حسنا، احتفظ بالباقي.» يا للسماء، ليس معي سوى 32 سنتا ... في الداخل، كان ثمة دفء ورائحة تبعث على الراحة أتت من الشاي والكعك. «عجبا روث، يا إلهي إنها روث ... تعالي يا عزيزتي إلى ذراعي بعد كل هذه السنين.» كان هذا بيلي والدرون . كان أكثر بدانة وبياضا مما كان عليه في السابق. عانقها عناقا متكلفا وقبلها على جبهتها. «كيف حالك؟ أخبريني ... كم تبدين مميزة في تلك القبعة!»
قالت مطلقة ضحكة: «لقد كنت أجري لتوي فحصا بالأشعة السينية على حلقي. أشعر وكأنه غضب الرب.» «ماذا تعملين يا روث؟ لم أعرف أخبارك منذ زمن طويل.»
التقطت كلماته بعنف، وقالت: «وضعتني جانبا كشيء قديم، أليس كذلك؟» «بعد هذا الأداء الجميل الذي قدمته في عرض «ملكة البستان» (ذا أورتشارد كوين) ...» «الحقيقة يا بيلي، لقد كان حظي سيئا للغاية.» «أوه، أعلم أن كل شيء قد انتهى.» «لدي موعد للقاء بيلاسكو الأسبوع المقبل ... ربما يجدي ذلك نفعا.» «عجبا، يجب أن أقول إنه ربما يجدي بالفعل يا روث ... هل تنتظرين أحدا؟» «لا ... أوه يا بيلي، لا تزال المرح القديم نفسه ... لا تسخر مني اليوم. لا أشعر أن لدي القدرة على تحمل الأمر.» «يا عزيزتي المسكينة، اجلسي واحتسي معي كوبا من الشاي.» «أقول لك يا روث إنها سنة مروعة. الكثير من الممثلين الكبار الجيدين سيرهنون الحلقة الأخيرة في سلاسل ساعاتهم هذا العام ... أظنك تبحثين في كل مكان عن عمل.» «لا تخبرني بذلك ... فقط لو كان بإمكاني شفاء حلقي ... شيء كهذا ينهك المرء.» «أتتذكرين الأيام الخوالي في سوميرفيل ستوك؟» «وهل يمكنني نسيانها يا بيلي؟ ... ألم تكن مدهشة؟» «آخر مرة رأيتك فيها يا روث كانت في عرض «الفراشة فوق العجلة» (ذا باتر فلاي أون ذا وييل) في سياتل. كنت في قاعة المسرح ...» «لماذا لم تعد وتراني؟» «كنت لا أزال غاضبا منك على ما أظن ... كنت في أسوأ حالاتي. في وادي الظل ... سوداوية ... وهن عصبي. كنت مفلسا وقد تقطعت بي السبل ... في تلك الليلة، كنت تحت ذلك التأثير بعض الشيء، كما تفهمين. لم أكن أريدك أن تري الوحش بداخلي.»
سكبت روث لنفسها كوبا جديدا من الشاي. شعرت فجأة ببهجة محمومة. «أوه، ولكن يا بيلي ألم تنس كل ذلك؟ ... كنت فتاة صغيرة حمقاء في ذلك الوقت ... كنت أخشى أن يتعارض الحب، أو الزواج، أو أي شيء من هذا القبيل مع فني، كما تفهم ... كنت مهووسة بالنجاح.» «هل ستفعلين الشيء نفسه مرة أخرى؟» «ترى ...» «ما رأيك؟ ... «الإصبع المتحرك يكتب وبعد أن كتب يتقدم» ...»
ألقت رأسها للوراء وضحكت، قائلة: «شيء من قبيل «ولا كل دموعك تغسل كلمة منه» ... ولكن يا بيلي، أظنك كنت تستعد للتقدم لخطبتي مرة أخرى ... آه يا حلقي.» «أتمنى لو لم تكوني تخضعين للأشعة السينية يا روث ... لقد سمعت أنها خطيرة للغاية. لا أريد أن أفزعك من الأمر يا عزيزتي ... ولكني سمعت عن حالات مصابة بالسرطان تعقدت بهذه الطريقة.» «هذا هراء يا بيلي ... لا يحدث ذلك إلا عندما يساء استخدام الأشعة السينية، ويستغرق الأمر سنوات من التعرض ... كلا؛ فظني في الدكتور وارنر هذا أنه رجل رائع.»
جلست لاحقا في القطار السريع المتجه إلى الشمال بمترو الأنفاق، وكانت لا تزال تشعر بيده الناعمة تربت على يدها داخل قفازها. قال بصوت أجش: «وداعا أيتها الفتاة الصغيرة، فليباركك الرب.» أصبح من أولئك الممثلين ذوي الأداء المتكلف، بل صار نموذجا على هذا النوع، كان ثمة شيء بداخلها يقول لها ذلك ساخرا طوال الوقت. «الحمد للرب، ما يدريك ما سيحدث.» ... ثم باكتساحة بقبعته العريضة الحواف وطرح لشعره الأبيض الحريري، كما لو كان يلعب دورا في فيلم «السيد بوكير» (مسيو بوكير)، استدار وخرج بين الحشد إلى شارع برودواي. قد أكون قليلة الحظ، ولكني لست غارقة في الأداء المتكلف مثله ... يحدثني عن السرطان. نظرت إلى أعلى وأسفل العربة في وجوه مهتزة أمامها. من بين جميع هؤلاء الأشخاص، لا بد أن أحدهم مصاب بالمرض. «أربعة من كل خمسة ...» هذا سخيف، هذا ليس سرطانا. «إكس-لاكس، نوجول، أوسليفانز ...» وضعت يدها إلى حلقها. كان حلقها منتفخا بشدة، كان حلقها يخفق خفقانا محموما. ربما كان الأمر أسوأ من ذلك. إن ثمة شيئا حيا ينمو في الجسم، يلتهم حياتك بأكملها، يتركك في حالة مروعة، متعفنا ... نظر الناس في الجهة المقابلة لها محدقين أمامهم مباشرة، شباب وشابات، أشخاص في منتصف العمر، وجوه خضراء في الضوء القذر، أسفل الإعلانات ذات الألوان الكريهة. «أربعة من كل خمسة ...» حمولة قطار من جثث مهتزة، تومئ وتتأرجح بينما يهدر القطار السريع صارخا نحو شارع 96. في شارع 96، كان عليها تغيير العربة إلى عربة محلية. •••
جلس داتش روبرتسون فوق مقعد على جسر بروكلين وياقة معطفه العسكري مرفوعة، متصفحا بعينيه إعلانات فرص العمل. كانت فترة ما بعد الظهيرة شديدة الحرارة والرطوبة مختنقة بالضباب، وبدا الجسر هابطا ومنعزلا كتعريشة في حديقة كثيفة من صافرات القوارب البخارية. مر اثنان من البحارة. «أفضل مطعم رخيص يقابلنا بعد مطعم بي. إيه.»
شريك في دار سينما، حي مزدحم ... وفقا لمواصفات التحقيق ... ثلاثة آلاف دولار أمريكي ... يا إلهي ليس معي ثلاثة آلاف من عشر السنت ... بائع سيجار، مبنى مشغول، بيع اضطراري بالخسارة ... متجر لأجهزة الراديو والموسيقى مجهز بالكامل ... مشغول ... مصنع طباعة حديث متوسط الحجم مجهز بالأسطوانات، وجذوع تدوير آلات الحفر، ومغذيات آلة التفريز، ومطابع تجارية، وآلات طابعة، وورشة تجليد كاملة ... مطعم كوشر ومتجر لبيع الأطعمة المعلبة ... صالة بولينج ... مشغول ... قاعة رقص كبيرة في بقعة حيوية وامتيازات أخرى. «نشتري أسنانا اصطناعية»، ذهب قديم، بلاتين، مجوهرات قديمة. بالفعل يفعلون ذلك بحق الجحيم. «مطلوب مساعد». هذا يناسب قدراتك أيها السكير. معنونون، كتاب درجة أولى ... هذا بعيد عني ... فنان، مرافق، ورشة إصلاح سيارات ودراجات ودراجات بخارية ... أخرج ظهر مظروف ودون العنوان. ماسح أحذية ... ليس بعد. صبية، لا، أظنني لم أعد صبيا، متجر حلوى، باعة متجولون، غاسلو سيارات، غاسلو صحون. «تكسب وأنت تتعلم». طب الأسنان الميكانيكي هو أقصر طريق للنجاح ... ليست هناك مواسم كاسدة ... «مرحبا يا داتش ... ظننت أنني لن أصل إلى هنا مطلقا.» جلست بجواره فتاة شاحبة الوجه ترتدي قبعة حمراء ومعطفا من فرو الأرانب الرمادي. «يا إلهي، لقد سئمت قراءة تلك الإعلانات.» مد ذراعيه وتثاءب تاركا الورقة تنزلق على ساقيه. «ألا تشعر بالبرد وأنت جالس هنا فوق الجسر؟» «ربما ... لنذهب ونتناول الطعام.» قفز واقفا على قدميه ووضع وجهه الأحمر بأنفه النحيف المكسور بالقرب من وجهها، ونظر في عينيها السوداوين بعينيه الرماديتين الشاحبتين. ربت على ذراعها بقوة. «مرحبا يا فرانسي ... كيف حال فتاتي الصغيرة؟»
عادا في اتجاه مانهاتن، في الطريق الذي أتت منه. توهج أسفلهما النهر عبر الضباب. انجرفت باخرة كبيرة ببطء مارة بهما، حيث كانت الأنوار مضاءة بالفعل، وعلى حافة الممشى نظرا لأسفل على المداخن السوداء. «هل كان قاربا كبيرا مثل الذي سافرت إلى الخارج على متنه يا داتش؟» «كان أكبر من ذلك.» «مرحى، أود أن أذهب.» «سآخذك وقتا ما وأريك جميع الأماكن هناك ... لقد ذهبت إلى العديد من الأماكن وقد ذهبت إليها في الوقت الذي كنت فيه متغيبا عن الخدمة.»
ترددا في محطة القطارات السريعة. «هل معك أي نقود يا فرانسي؟» «بالطبع، معي دولار ... ولكن يجب أن أدخره للغد.» «كل ما معي هو آخر ربع دولار متبق. دعينا نذهب لتناول عشاء بقيمة 55 سنتا في ذلك المكان الصيني ... سيكون ذلك دولارا و10 سنتات.» «يجب أن أحتفظ بنيكل للذهاب إلى المكتب في الصباح.» «يا إلهي! اللعنة، ليت لدينا بعض المال.» «هل انتظمت في أي عمل بعد؟» «ألن أخبرك لو كان هذا قد حدث؟» «تعال، لدي نصف دولار مدخر في غرفتي. يمكنني أن أدفع منه أجرة النقل.» فكت نصف الدولار ووضعت نيكلين في الباب الدوار. جلسا في قطار الجادة الثالثة. «أخبريني يا فرانسي، هل سيسمحون لنا بالرقص وأنا أرتدي قميصا كاكيا؟» «لم لا يا داتش، يبدو جيدا؟» «إنه يشعرني بالضيق بعض الشيء.»
كانت فرقة الجاز في المطعم تعزف موسيقى هندوستانية. وكانت تفوح منه رائحة الشوب سوي والصوص الصيني. دخلا بهدوء إلى إحدى الحجيرات. كان الشباب الأملس الشعر والفتيات القصيرات الشعر يتراقصون وهم متعانقون. عندما جلسا تبادل كل منهما الابتسام في عيني الآخر. «يا إلهي، أنا جائع.» «أأنت كذلك يا داتش؟»
دفع ركبتيه إلى الأمام حتى التصقتا بركبتيها. قال عندما فرغ من تناول حسائه: «يا إلهي، إنك لفتاة جيدة. صدقا سأحصل على وظيفة هذا الأسبوع. وبعد ذلك سنحصل على مكان جميل ونتزوج.»
عندما نهضا للرقص كانا يهتزان لدرجة أنهما استطاعا بالكاد التمايل مع الموسيقى.
قال رجل صيني أنيق واضعا يده على ذراع داتش: «يا سيدي ... الرقص ممنوع من دون الملابس الملائمة ...»
قال بصوت هادر وهو يواصل الرقص: «ماذا يريد؟» «أظن الأمر يتعلق بالقميص يا داتش.» «إنه كذلك بحق الجحيم.» «أنا مجهدة. أفضل التحدث على الرقص على أي حال ...» عادا إلى مجلسهما وشرائح الأناناس التي قدمت لهما للتحلية.
سارا بعد ذلك شرقا على طول شارع 14. «ألا يمكننا الذهاب إلى مكان مبيتك يا داتش؟» «ليس لدي أي مكان للمبيت. لن تسمح لي العجوز الفظة بالبقاء، وستأخذ جميع أغراضي. صدقا إن لم أحصل على وظيفة هذا الأسبوع، فسأذهب إلى رقيب توظيف وأعيد إدراجي على قائمة المجندين.» «أوه لا تفعل ذلك؛ لن نتزوج أبدا إذن يا داتش ... يا إلهي، ولكن لماذا لم تخبرني؟!» «لم أكن أريد أن أقلقك يا فرانسي ... أنا عاطل عن العمل طوال ستة أشهر ... يا إلهي، إنه أمر كفيل بأن يقود المرء إلى الجنون.» «ولكن يا داتش إلى أين يمكننا أن نذهب؟» «يمكننا الذهاب إلى ذلك الرصيف ... أعرف رصيفا.» «الطقس بارد جدا.» «لم أستطع الشعور بالبرد عندما كنت معي يا حبيبتي.» «لا تتحدث هكذا ... أنا لا أحب ذلك.»
سارا متكئين معا في الظلام في الشوارع المحفرة الموحلة على ضفة النهر، بين خزانات الغاز المنتفخة الضخمة، والأسوار المتهدمة، والمستودعات الطويلة ذات النوافذ المتعددة. عند إحدى النواصي أسفل مصباح من مصابيح الشارع أطلق صبي صفير استهجان عندما مرا.
اندفع داتش قائلا من جانب فمه: «سألكمك في وجهك أيها الوغد الصغير.»
همست فرانسي: «لا تجب عليه، وإلا فسنجلب إلينا العصابة بأكملها.»
تسللا عبر باب صغير في سياج طويل تعلو فوقه أكوام واهنة من الألواح الخشبية. استطاعا أن يشما رائحة النهر، وخشب الأرز، ونشارة الخشب. واستطاعا أن يسمعا صوت النهر وهو يصقل الأكوام تحت أقدامهما. جذبها داتش إليه وضغط بفمه على فمها.
صرخ صوت عليهما: «أنتما يا عزيزاي، ألا تعرفان أنه لا يمكنكما التواجد هنا بالخارج في الليل؟» أضاء الحارس فانوسا في عيونهما. «حسنا، لا تغضب، كنا نتمشى قليلا فحسب.» «تمشية.»
كانا يجران نفسيهما في الشارع مرة أخرى ورياح النهر السوداء في أسنانهما. «انتبه.» مر شرطي يصفر لنفسه بهدوء . تباعدا. «أوه يا فرانسي، سيأخذوننا إلى مستشفى المجانين إذا واصلنا فعل هذا. دعينا نذهب إلى غرفتك.» «ستطردني المالكة، هذا كل ما هنالك.» «لن أحدث أي ضوضاء ... معك مفتاحك، أليس كذلك؟ سأتسلل إلى الخارج قبل ظهور الضوء. اللعنة، إنهم يجعلوننا نشعر وكأننا ظربان.» «حسنا يا داتش، لنذهب إلى المنزل ... لم يعد يهمني ما يحدث.»
صعدا السلم الملطخ بآثار الخطى الموحلة إلى الطابق العلوي من المبنى.
قالت مهسهسة في أذنه وهي تدخل المفتاح في القفل: «اخلع حذاءك.» «لدي ثقوب في جوربي.» «هذا لا يهم أيها السخيف. سأرى إن كانت الأمور على ما يرام. غرفتي في الخلف بعيدا بعد المطبخ؛ لذا إذا كانوا جميعا في أسرتهم فلن يتمكنوا من سماعنا.»
عندما تركته كان بمقدوره أن يسمع دقات قلبه. عادت في غضون ثانية. تبعها على أطراف أصابعه في ردهة تصدر أرضيتها صوت صرير. جاء عبر الباب صوت شخير. كانت هناك رائحة ملفوف ونوم في الردهة. بمجرد دخولهما إلى غرفتها، أغلقت الباب ووضعت كرسيا أمامه أسفل المقبض. دخل إلى الغرفة من الشارع مثلث من الضوء الذي تتناثر فيه حبات الرماد. «الآن بحق المسيح ابق ساكنا يا داتش.» وهو لا يزال يحمل فردة حذاء في كل يد اقترب منها وعانقها.
استلقى بجانبها وهو يهمس بإسهاب بشفتيه أمام أذنها. «ويا فرانسي سأعمل جيدا، صدقا سأفعل؛ لقد كنت رقيبا في الخارج حتى أوقفوني لتغيبي عن الخدمة. يدل هذا على أن لدي القدرة على فعل شيء. بمجرد أن أحصل على فرصة سأجني الكثير من المال وسأعود أنا وأنت لنشاهد بلدة شاتو تييري وباريس وكل هذه الأشياء؛ ستحبينها صراحة يا فرانسي ... يا إلهي، المدن قديمة ومرحة وهادئة ومريحة وبها أضخم الحانات؛ حيث تجلسين بالخارج إلى طاولات صغيرة في ضوء الشمس وتشاهدين الناس يمرون، والطعام رائع أيضا ستحبينه على الفور، ولديهم فنادق في كل مكان يمكننا المبيت فيها ولا يهتمون إذا كنا متزوجين أم لا. ولديهم أسرة كبيرة مريحة للغاية مصنوعة من الخشب، ويحضرون لك الإفطار في السرير. يا إلهي يا فرانسي، ستحبين الأمر.» •••
كانا يتمشيان ذاهبين لتناول العشاء عبر الثلج. تساقطت رقاقات الثلج من حولهما وتوهجت الشوارع باللون الأزرق، والوردي، والأصفر، وتشوشت الرؤية. «أكره أن أراك تقبلين هذه الوظيفة يا إيلي ... يجب أن تستمري في تمثيلك.» «ولكن يا جيمبس، يجب أن نعيش.» «أعلم ... أعلم. لم تكوني في كامل وعيك بالتأكيد يا إيلي عندما تزوجتني.» «أوه، دعنا لا نتحدث في الأمر بعد الآن.» «دعينا نقض وقتا ممتعا الليلة ... إنها أول ليلة تتساقط فيها الثلوج.» «هل هذا هو المكان؟» وقفا أمام باب قبو غير مضاء ومغطى بشبكة محكمة التشابك. «لنحاول.» «هل رن الجرس؟» «أظن ذلك.»
انفتح الباب الداخلي ونظرت بالخارج إليهما فتاة ترتدي مئزرا وردي اللون. قال بالفرنسية: «مساء الخير يا آنسة.» «آه ... مساء الخير يا سيدي، ويا «سيدتي».» دلتهما إلى داخل قاعة مضاءة بالغاز تفوح منها رائحة الطعام ومعلقة بها المعاطف والقبعات والأوشحة. عبر باب ذي ستائر نفث المطعم في وجهيهما نفسا حارا من الخبز وشراب الكوكتيل وزبدة القلي والعطور وأحمر الشفاه والحديث الذي تتخلله القعقعة والجلجلة.
قالت إلين: «بمقدوري أن أشم رائحة الأفسنتين. لنثمل بشدة.» «يا إلهي، هذا كونغو ... ألا تتذكرين كونغو جيك من حانة سي سايد؟»
وقف ضخما في نهاية الممر يومئ إليهما. كان وجهه مسودا للغاية وكان له شارب أسود لامع. «مرحبا يا سيد هيرف ... كيف حالك؟» «لم يصبني مكروه. أريد أن أعرفك يا كونغو على زوجتي.» «إن لم تكن تمانع أن ندخل إلى المطبخ، فسنتناول مشروبا.» «بالطبع لا ... إنه أفضل موقع في المكان. عجبا، أنت تعرج ... ماذا فعلت بساقك؟!»
بمزيج من الفرنسية والإنجليزية: «اللعنة ... لقد تركتها في إيطاليا ... لم أستطع أن أجلبها معي بمجرد أن بتروها.» «كيف حدث ذلك؟» «وقع شيء أحمق لعين فوق جبل مونت تومبا ... أعطاني زوج أختي طرفا اصطناعيا شديد الجمال ... اجلسا هناك. انظري يا سيدتي، هل يمكنك التفريق بين ساقي؟»
قالت إيلي ضاحكة: «كلا، لا أستطيع .» جلسوا إلى طاولة رخامية صغيرة في ركن المطبخ المزدحم. كانت هناك فتاة تقدم الصحون إلى طاولة من الخشب الرقيق في المنتصف. واثنان من الطهاة يعملان عند الموقد. كان الهواء غنيا بروائح الأطعمة التي تتصاعد منها أصوات أزيز الدهون. عرج كونغو راجعا إليهما بثلاث كئوس على صينية صغيرة. وقف بجوارهما وهما يشربان.
قال وهو يرفع كأسه: «في صحتكما. كوكتيل الأفسنتين، كما يصنعونه في نيو أورلينز.» «إنه مذهل.» أخرج كونغو بطاقة من جيب صدريته مكتوب عليها بالفرنسية:
مركيز بلدية كولومييه
واردات
ريفرسايد 11121 «ربما تحتاج شيئا يوما ما ... لا أتعامل في شيء سوى واردات ما قبل الحرب. أنا أفضل مهرب في نيويورك.» «إذا حصلت على أي أموال، سأنفقها معك بالتأكيد يا كونغو ... كيف تعثر على عمل؟» «جيد جدا ... سأخبرك بالأمر. الليلة أنا مشغول للغاية ... سأجد لك طاولة في المطعم الآن.» «هل تدير هذا المكان أيضا؟» «لا هذا ملك زوج أختي.» «لم أكن أعرف أن لك أختا.» «ولا أنا.»
عندما عرج كونغو مبتعدا عن طاولتهما، حل الصمت بينهما كستارة من الأسبست في أحد المسارح.
قال جيمي منتزعا ضحكة: «إنه مرح غريب الأطوار.» «إنه كذلك بالفعل.» «اسمعي يا إيلي، لنتناول كوكتيلا آخر.» «حسنا.» «يجب أن أتواصل معه وأجعله يعترف ببعض القصص عن المهربين.»
عندما مد ساقيه أسفل الطاولة لمس قدميها. فجذبتهما بعيدا. كان بمقدور جيمي أن يشعر بفكيه وهما يمضغان الطعام؛ إذ أصدرا صلصلة شديدة العلو أسفل وجنتيه لدرجة أنه ظن أن إيلي لا بد وأنها قد سمعتها. جلست أمامه في بذلة رمادية مفصلة، وعنقها منحن للأسفل في حسرة من جزء على شكل حرف
V
العاجي اللون والذي كشفت عنه ياقة قميصها النسائي المزركشة الهشة، ومال رأسها أسفل قبعتها الرمادية الضيقة، وشفتاها مخضبتان، وتقطع قطعا صغيرة من اللحم ولا تأكلها، ولا تتفوه بكلمة. «يا إلهي ... لنتناول كوكتيلا آخر.» شعر بالشلل كما لو كان في كابوس؛ فقد كانت كتمثال من البورسلين أسفل غطاء زجاجي جرسي. دار فجأة تيار من الهواء المنعش الذي غسلته الثلوج من مكان ما عبر الوهج المخشخش والمتخم في ضباب للمطعم، قاطعا عبق الطعام والشراب والتبغ. للحظة اشتم رائحة شعرها. اشتعل الكوكتيل في داخله. يا إلهي، لا أريد أن أفقد الوعي.
كانا يجلسان في مطعم محطة باريس جار دي ليون جنبا إلى جنب على مقعد من الجلد الأسود. لامست وجنته وجنتها عندما مد جسده ليضع لها في صحنها الرنجة، والزبد، والسردين، والأنشوجة، والنقانق. يأكلان بنهم، ويقهقهان وهما يتجرعان النبيذ، جافلين مع كل صيحة يطلقها أحد القطارات ...
ينطلق القطار من أفينيون، فيستيقظان وينظر كل منهما في عيني الآخر في المقصورة المليئة بالنائمين المشخرين الغارقين في النوم. ترنح متسلقا فوق السيقان المتشابكة كي يدخن سيجارة في نهاية الممر المتأرجح المعتم. ديديل دامب، جنوبا، ديديل دامب، جنوبا، تغني العجلات فوق القضبان في وادي نهر الرون. يميل من النافذة مدخنا سيجارة مكسورة ويحاول أن يدخن سيجارة متفتتة، ممسكا بإصبعه المكان الممزق بها. يسمع صوت بقبقة من الشجيرات، من أشجار الحور الفضية، على طول المسار. «إيلي، إيلي هناك عنادل تغني على طول المسار.» «أوه، كنت نائمة يا حبيبي.» تلمست طريقها إليه متعثرة عبر سيقان النائمين. وقفا جنبا إلى جنب عند النافذة في الممر المهتز المترنح.
ديديل دامب، جنوبا. سمع صوت لهث العنادل على طول المسار وسط أشجار الحور التي تقطر فضة. وفاحت ليلة ضوء القمر الملبدة بالغيوم السالبة للعقل بروائح الحدائق، وأنهار من الثوم، وورود الحقول المسمدة لتوها. تلهث العنادل.
كانت إيلي تتحدث أمامه كالدمية. «يقول إن كانت سلطة الكركند نفدت بالكامل ... أليس هذا محبطا؟»
استعاد فجأة قدرته على الحديث. «يا إلهي، لو كان هذا هو الشيء الوحيد.» «ماذا تعني؟» «لماذا عدنا إلى هذه المدينة العطنة على أي حال؟» «كنت تهمهم بمدى روعة الأمر منذ أن عدنا.» «أعلم. أظن أن هذا العنب حامض ... سأحصل على شراب كوكتيل آخر ... إيلي، بحق السماء، ما الذي حدث لنا؟» «سيصيبنا المرض إن واصلنا على هذا النهج أوكد لك.» «حسنا، ليصبنا المرض ... لتكن علاقتنا جيدة ويصيبنا المرض.»
عندما اعتدلا جالسين في السرير الكبير، كان بإمكانهما الرؤية عبر الميناء، كان بإمكانهما رؤية مسافة ياردات من السفن الشراعية الكبيرة، ومركب شراعي أبيض أحادي الصاري، وزورق قطر باللونين الأحمر والأخضر صغير كما لو كان لعبة، ومنازل منبسطة الواجهات في الجهة المقابلة خلف خطوط من المياه بألوان الطاووس، وعندما استلقيا أمكنهما رؤية النوارس في السماء. ارتديا ملابسهما عند الغسق متأرجحين، يتعثران مهتزين عبر ممرات الفندق العفنة، خارجين إلى الشوارع الصاخبة كفرقة نحاسية، تزخر بخشخشة الدفوف الصغيرة، ولمعان النحاس، وبريق الكريستال، وزمير وأزيز المحركات ... وحدهما معا في الغسق يشربان الشيري أسفل سطح تظلله أوراق الشجر العريضة، وحدهما معا وسط الحشد المتراقص بألوان الحفلات كما لو كانا غير مرئيين. ويحل ليل الربيع فوق البحر مروعا قادما من أفريقيا ويستقر حولهما.
أنهيا احتساء قهوتهما. وقد شرب جيمي قهوته ببطء شديد كما لو أن عذابا في انتظاره عندما ينتهي منها.
قالت إلين: «حسنا، كنت أخشى أن أجد آل بارنيز هنا.» «هل يعرفون هذا المكان؟» «لقد أحضرتهم إلى هنا بنفسك يا جيمبس ... وتلك المرأة المروعة تصر على التحدث معي عن الأطفال طوال المساء. أنا أكره الحديث عن الأطفال.» «يا إلهي، أتمنى أن نتمكن من الذهاب إلى أحد العروض.» «سيكون الوقت قد تأخر كثيرا على أي حال.» «ولن نفعل شيئا سوى إنفاق المال الذي لا أتحصل عليه ... دعينا نشرب الكونياك لنختم به. لا يهمني إن تسبب في تدميرنا.» «سيفعل ذلك على الأرجح بأكثر من طريقة.» «حسنا يا إيلي، هذا نخب الرجل المعيل الذي تحمل عبء الرجل الأبيض.» «عجبا يا جيمي، أظن أنه سيكون من الممتع الحصول على وظيفة تحريرية لبعض الوقت.» «سأجد أنه من الممتع الحصول على أي نوع من العمل ... حسنا يمكنني البقاء في المنزل دائما والاعتناء بالطفل.» «لا تسخر يا جيمي، إنه وضع مؤقت فحسب.» «الحياة مؤقتة كذلك بالمناسبة.»
وصلت سيارة الأجرة. دفع له جيمي آخر دولار معه. وضعت إيلي مفتاحها في الباب الخارجي. كان الشارع في حالة فوضى من الثلوج المنهمرة الملطخة بالأفسنتين. انغلق باب شقتهما خلفهما. اكتظت حولهما الكراسي، والطاولات ، والكتب، وستائر النوافذ باعثة على الشعور بالمرارة بغبار أمس الذي اعتلاها، وغبار أول أمس، وأول أول أمس . وغشيتهما روائح الحفاضات، وأواني القهوة، وزيت الآلة الكاتبة، ومنظف داتش كلينزير. أخرجت إلين زجاجة الحليب الفارغة وذهبت إلى الفراش. واصل جيمي السير مضطربا في أرجاء الغرفة الأمامية. تلاشى سكره وتركه مستفيقا وشاعرا بالبرودة الشديدة. في حجرة دماغه الفارغة، كانت ثمة كلمة ثنائية الوجه تخشخش كعملة معدنية: فشل النجاح، فشل النجاح.
أنا مجنونة بهاري
وهاري مجنون بي.
تهمهم بصوت خافت وهي ترقص. إنها صالة طويلة بها فرقة موسيقية في إحدى نهاياتها، تضيئها بنور أخضر مجموعتان من المصابيح الكهربائية المعلقة وسط أكاليل ورقية في المنتصف. وفي النهاية التي بها الباب، يعيق قضيب ملمع صفا من الرجال. هذا الذي ترقص معه آنا هو سويدي طويل عريض البنية، وتتبع قدماه الكبيرتان المتعثرتان قدميها الصغيرتين الرشيقتين الحركة. تتوقف الموسيقى. الآن يظهر يهودي نحيل صغير البنية أسود الشعر. يقترب منها ويحاول معانقتها. «كف عن ذلك.» تبعده عنها. «كوني رحيمة.»
لا تجيبه، وترقص بانضباط وبرود؛ إنها متعبة حد الغثيان.
أنا وحبيبي
حبيبي وأنا.
هبت أنفاس رجل إيطالي معبئة برائحة الثوم في وجهها، ثم مرت برقيب بحري، ثم رجل يوناني، ثم شاب صغير أشقر بوجنتين ورديتين، فابتسمت له، ثم مخمور مسن يحاول تقبيلها ... «تشارلي يا بني أوه تشارلي يا بني» ... ثم رجل أملس الشعر، ثم ذو نمش أجعد الشعر، ثم ذو البثور، ثم أفطس الأنف، ثم مستقيم الأنف، ثم راقصون سريعو الخطى، ثم راقصون ثقيلو الخطى ... «جنوبا ... بمذاق قصب السكر في فمي» ... على ظهرها أياد كبيرة، وأياد ساخنة، وأياد متعرقة، وأياد باردة، وتتزايد تذاكر الرقص معها حتى تصبح رزمة في قبضة يدها. هذا الرجل راقص فالس جيد، ويبدو رجلا أنيقا في بذلته السوداء.
همست: «يا إلهي، أنا متعبة.» «لا يرهقني الرقص أبدا.» «أوه، إنه الرقص مع الجميع بهذا الشكل.» «ألا تريدين أن تأتي وترقصي معي بمفردنا في مكان ما؟» «حبيبي ينتظرني.»
دون شيء سوى صورة
أشكو لها همي ...
ماذا سأفعل ...؟
سألت رجلا عريض الصدر يبدو منتبها: «ما الوقت الآن؟» «الوقت الذي تعارفنا فيه يا أختاه ...» هزت رأسها. انطلقت الموسيقى فجأة بنشيد الوداع. ابتعدت عنه وركضت إلى المنضدة وسط حشد من الفتيات يتدافعن لتسليم تذاكر الرقص. تقول فتاة شقراء عريضة الوركين: «أخبريني يا آنا ... هل رأيت ذلك الأحمق الذي كان يرقص معي؟ ... يقول لي أراك لاحقا وأنا أقول له أراك محشورا في الجحيم ... ثم يقول يا إلهي ...»
الفصل الثالث
الأبواب الدوارة
تتنقل القطارات ذهابا وإيابا كالديدان المتوهجة في الغسق عبر الأطياف الخافتة الضبابية للجسور المتداخلة كشبكة العنكبوت، والمصاعد تصعد وتهبط في آبارها، وتومض أضواء الميناء.
كعصارة النبات في أول موجة صقيع يبدأ الرجال والنساء في الساعة الخامسة في الانجراف تدريجيا خارجين من المباني الشاهقة في وسط المدينة، في حشود رمادية الوجه تغمر المترو والأنفاق، وتتلاشى تحت الأرض.
تقف المباني الشاهقة طوال الليل هادئة وخالية بملايين النوافذ المظلمة. كمن يمضغ الطعام سائلا لعابه، تلتهم العبارات المسارات بينما يتدفق ضوءها عبر الميناء المطلي. في منتصف الليل تتسلل البواخر السريعة الرباعية المداخن إلى الظلام خارجة من مراسيها المضيئة. يسمع المصرفيون وقد علت وجوههم غشاوة جراء المؤتمرات السرية صيحات زوارق القطر أثناء إخراج الحراس الذين يشبهون البق المضيء لهم من الأبواب الجانبية؛ فيستقرون يشخرون في المقاعد الخلفية لسيارات الليموزين، وينقلون شمالا إلى الشوارع من 40 إلى 49 المزدحمة والمضاءة بألوان كئوس شراب الجن الأبيض، والويسكي الأصفر، وشراب التفاح الفوار.
جلست إلى طاولة زينتها تلف شعرها. وقف خلفها بحمالاته البنفسجية الفاتحة المتدلية من بنطاله، محركا الأزرار الألماسية في قميصه بأصابع قصيرة وبدينة.
أنت ودبابيس الشعر في فمها: «أتمنى لو كنا خارجها يا جيك.» «خارج ماذا يا روزي؟» «شركة برودنس بروموشن ... صدقا، أنا قلقة.» «عجبا، كل شيء يسير على ما يرام. علينا خداع نيكولز، هذا كل ما في الأمر.» «ماذا لو قاضانا؟» «أوه لن يفعل. سيخسر الكثير من المال بهذا الشكل. من الأفضل أن يشاركنا ... يمكنني أن أدفع له نقدا في غضون أسبوع على أي حال. إذا استطعنا أن نحافظ على ظنه أن لدينا المال، فسنجعله تحت تصرفنا بالكامل. ألم يقل إنه سيكون في نادي إل فاي الليلة؟»
كانت روزي قد وضعت للتو مشطا من حجر الراين في لفائف شعرها الأسود. أومأت برأسها ونهضت واقفة. كانت امرأة سمينة عريضة الوركين ذات عينين سوداوين كبيرتين وحاجبين مقوسين لأعلى. وكانت ترتدي مخصرا مزينة أطرافه بدانتيل أصفر وقميص من الحرير الوردي. «ارتدي كل ما لديك يا روزي. أريدك أن تبدي متأنقة كشجرة كريسماس. سنذهب إلى إل فاي ونحدق في عيني نيكولز الليلة. ثم سأزوره غدا وأعرض عليه الاقتراح ... لنتناول بعض الشراب على أي حال ...» توجه نحو الهاتف. «أرسل بعض الثلج المكسر وزجاجتي وايت روك إلى غرفة 404. باسم سيلفرمان. لا تتأخر.»
صرخت روزي فجأة: «دعنا نفر يا جيك.» وقفت عند باب الخزانة وأحد الفساتين فوق ذراعها. «لا أستطيع تحمل كل هذا القلق ... إنه يقتلني. دعنا نغادر إلى باريس أو هافانا أو أي مكان ونبدأ من جديد.» «ثم نقع في ورطة. قد يقبض عليك بسبب سرقة مبلغ مالي كبير. يا إلهي، لن تجعليني أسير متنكرا بنظارات معتمة ولحية مزيفة طوال حياتي.»
ضحكت روزي. «كلا، أظن أن مظهرك لن يبدو جيدا في بثرة زائفة ... أوه، أتمنى لو كنا متزوجين بالفعل على الأقل.» «لن يشكل هذا فرقا بيننا يا روزي. فسيسعون إذن للقبض علي أيضا لزواجي بامرأتين. سيكون ذلك عظيما.»
ارتجفت روزي من طرق الفراش على الباب. وضع جيك سيلفرمان الصينية بوعاء الثلج المصلصل فوقها على المكتب وأخرج زجاجة ويسكي مربعة من الخزانة. «لا تصب شيئا لي. لا أمتلك القدرة على ذلك.» «عليك أن تجمعي شتات نفسك يا صغيرتي. ارتدي أجمل الملابس وسنذهب إلى أحد العروض. بحق الجحيم لقد مررت بمآزق كثيرة أصعب من هذا.» توجه إلى الهاتف وكأس الشراب في يده. «أريد كشك بيع الصحف ... مرحبا أيتها اللطيفة ... بالطبع، أنا صديق قديم ... تعرفينني بالطبع ... اسمعي، هل يمكنك أن تحجزي لي مقعدين لعرض «الحماقات» (فوليز) ... غير معقول ... كلا، لا أستطيع الجلوس بالخلف في الصف الثامن ... أنت فتاة جيدة ... وستتصلين بي بعد 10 دقائق، أليس كذلك يا عزيزتي؟» «قل لي يا جيك، هل هناك حقا أي بوراكس في تلك البحيرة؟» «هناك بالطبع. ألم نحصل على إفادة خطية من أربعة خبراء؟» «بالطبع. كنت أتساءل فحسب ... قل لي يا جيك إن انتهينا من هذا الأمر هل ستعدني بألا نخوض أي مكائد طائشة أخرى؟» «بالطبع؛ لن أحتاج إلى ذلك ... يا إلهي، أنت امرأة فاتنة للغاية في هذا الفستان.» «هل يعجبك؟» «تبدين من البرازيل ... لا أعلم ... من مكان استوائي.» «هذا هو سر سحري الخطير.»
رن جرس الهاتف بجلجلة عالية. قفزا على أقدامهما. وضغطت بجانب يدها على شفتيها. «اثنان في الصف الرابع. هذا جيد ... سننزل في الحال ونأخذها ... يا إلهي يا روزي لا يمكن أن تظلي تجفلين هكذا؛ لقد أفزعتني أنا أيضا. اجمعي شتات نفسك، لماذا لا يمكنك فعل ذلك؟» «دعنا نخرج ونتناول الطعام يا جيك. لم أتناول شيئا طوال اليوم سوى الحليب الرائب. أظن أنني سأتوقف عن محاولة تقليل الطعام. فهذا القلق سيجعلني نحيفة بما يكفي.» «عليك أن تتوقفي عن ذلك يا روزي ... إنه يثير أعصابي.»
توقفا عند كشط الزهور في الردهة. قال: «أريد زهرة جاردينيا.» ملأ صدره بالهواء وابتسم ابتسامته المقوسة أثناء تثبيت الفتاة لها في عروة معطف العشاء الذي كان يرتديه. استدار بهيئة متحذلقة نحو روزي: «ماذا ستأخذين يا عزيزتي؟» جعدت فمها. «لا أعرف فحسب ما الذي سيناسب ثوبي.» «بينما تقررين سأذهب لإحضار تذاكر المسرح.» بمعطفه المفتوح وبعودته للخلف لإظهار مقدمة القميص الأبيض المنتفخة وبكميه اللذين أخرجهما من يديه الغليظتين، مشى متبخترا إلى كشك بيع الصحف. بطرف عينها وبينما كانت أطراف الورود الحمراء تغلف بورق فضي، كان بإمكان روزي أن تراه يتكئ على المجلات ويتحدث محاكيا لغة الأطفال إلى فتاة شقراء. عاد وعيناه تلمعان برزمة مال في يده. ثبتت الورود في معطفها الفرو، ووضعت ذراعها في ذراعه وذهبا معا عبر الأبواب الدوارة في الليل البارد المتلألئ بالأضواء الكهربائية. صاح: «تاكسي.» •••
فاحت من غرفة الطعام رائحة التوست والقهوة وصحيفة «نيويورك تايمز». كان آل ميريفال يتناولون الإفطار على الضوء الكهربائي. ضرب الثلج المخلوط بالمطر النوافذ. قال جيمس من وراء الصحيفة : «حسنا تراجعت شركة باراماونت خمس نقاط أخرى.»
تذمرت مايسي قائلة وهي تشرب قهوتها في رشفات صغيرة كنقرات دجاجات: «أوه يا جيمس، أعتقد أنه أمر مروع أن تكون هازئا بهذا الشكل.»
قالت السيدة ميريفال: «وعلى أي حال، جاك لم يعد يعمل لدى باراماونت. إنه يقوم بالدعاية لشركة فيمس بلايرز.» «سيأتي إلى الشرق في غضون أسبوعين. يقول إنه يأمل أن يكون هنا في بداية العام.» «هل تلقيت برقية أخرى يا مايسي؟»
أومأت مايسي برأسها. قالت السيدة ميريفال عبر الصحيفة مخاطبة ابنها: «أتعرف يا جيمس، لن يكتب جاك رسالة أبدا. يرسل دائما البرقيات.» قال جيمس بصوت هادر من وراء الصحيفة: «إنه يبقي منزله بالتأكيد مكتظا بالزهور.»
قالت السيدة ميريفال بابتهاج: «كل شيء عن طريق التلغراف.»
وضع جيمس صحيفته. «حسنا، آمل أن يكون رجلا جيدا كما يبدو عليه.» «أوه يا جيمس، أنت فظيع عندما يتعلق الأمر بجاك ... أعتقد أن ذلك أمر وضيع.» نهضت وعبر الستائر إلى غرفة الاستقبال.
قال متذمرا: «حسنا، إذا كان سيصير زوج أختي، أظن أنه يجب أن يكون لي رأي في اختياره.»
ذهبت السيدة ميريفال خلفها. «تعالي وأنهي فطورك يا مايسي، ما هو إلا مشاكس مروع.» «لن أسمح له بالحديث بهذه الطريقة عن جاك.» «لكني يا مايسي أظن أن جاك فتى جيد.» أحاطت ابنتها بذراعها وأرجعتها إلى الطاولة. «إنه بسيط للغاية وأنا أعرف أن لديه دوافع جيدة ... أنا متأكدة من أنه سيجعلك سعيدة للغاية.» جلست مايسي مرة أخرى بوجه عابس أسفل الأنشوطة الوردية لقبعة نومها. «هل لي بفنجان آخر من القهوة يا أمي؟» «عزيزتي، تعلمين أنه يجب ألا تشربي سوى فنجانين. قال الدكتور فرنالد إن هذا ما يصيبك بالتوتر الشديد.» «القليل فحسب من القهوة الخفيفة جدا يا أمي. فأنا أريد أن أنهي كعكة المافن هذه وكل ما في الأمر أنني لا يمكنني أن آكلها من دون شيء يساعد على بلعها، وأنت تعلمين أنك لا تريدينني أن أفقد المزيد من الوزن.» دفع جيمس كرسيه للخلف وخرج وصحيفة «نيويورك تايمز» أسفل ذراعه. قالت السيدة ميريفال: «إنها الثامنة والنصف يا جيمس. من المحتمل أن يستغرق ساعة عندما يدخل هناك بتلك الصحيفة.»
قالت مايسي منزعجة: «حسنا. أظن أنني سأعود للنوم. أظن أنه من السخيف استيقاظنا جميعا لتناول الإفطار. ثمة شيء مبتذل للغاية في الأمر يا أمي. لم يعد أحد يفعل ذلك. في منزل آل بيركنز يأتي لهم الإفطار في السرير على صينية.» «لكن جيمس يجب أن يكون في البنك في التاسعة.» «هذا ليس سببا يجعلنا نجر أنفسنا من أسرتنا. هكذا تمتلئ وجوه الناس بالتجاعيد.» «لكننا لن نرى جيمس حتى وقت العشاء، وأنا أحب الاستيقاظ مبكرا. الصباح هو أجمل أوقات اليوم.» تثاءبت مايسي يائسة.
ظهر جيمس عند مدخل الردهة وهو ينظف قبعته بفرشاة. «ماذا فعلت بالصحيفة يا جيمس؟» «أوه لقد تركتها بالداخل.» «سآخذها، لا تهتم ... عزيزي، دبوس رابطة عنقك مائل. سأضبطه ... ها هو.» وضعت السيدة ميريفال يديها على كتفيه ونظرت في وجه ابنها. كان يرتدي بذلة رمادية داكنة بها خط أخضر فاتح، ورابطة عنق محوكة باللون الأخضر الزيتوني عليها دبوس ذو قطعة ذهبية، وجورب من الصوف باللون الأخضر الزيتوني بخطوط سوداء كخطوط الساعة، وحذاء أكسفورد باللون الأحمر الداكن كانت أربطته معقودة بعناية بعقدة مزدوجة لا تنفلت أبدا. «ألن تحمل عصاك يا جيمس؟» كان يضع وشاحا باللون الأخضر الزيتوني حول عنقه وبدا نحيفا أسفل معطفه الشتوي البني الداكن. «ألاحظ أن الرجال الأصغر سنا في الشارع لا يحملونها، يا أمي ... قد يظن الناس أنه بعض الشيء ... لا أعرف ...» «لكن السيد بيركنز يحمل عصا برأس ببغاء ذهبي.» «أجل، ولكنه أحد نواب الرئيس، يمكنه أن يفعل ما يحلو له ... لكن علي أن أركض.» قبل جيمس ميريفال والدته وأخته على عجل. وارتدى قفازه أثناء النزول في المصعد. ثم غمر رأسه في الريح الجليدي ومشى مسرعا نحو الشرق بطول شارع 72. عند مدخل مترو الأنفاق، اشترى صحيفة «تريبيون» ونزل على الدرج مسرعا إلى الرصيف المزدحم ذي الرائحة الكريهة. ••• «شيكاغو! شيكاغو!» انطلق هذا الهتاف من الفونوغراف المغلق. كان توني هانتر، الذي بدا نحيفا في بذلته السوداء ذات السترة القصيرة، مع فتاة واصلت وضع كتلة شعرها المجعد الأشقر الضارب إلى الرمادي على كتفه. كانا وحدهما في غرفة الجلوس بالفندق.
هدلت وهي تعانقه مقتربة: «يا إلهي، إنك راقص رائع.» «أتظنين ذلك يا نيفادا؟» «امم هممم ... يا إلهي، هل لاحظت شيئا في؟» «ماذا يا نيفادا؟» «ألم تلاحظ شيئا في عيني؟» «إنهما أجمل عينين صغيرتين في العالم.» «نعم ولكن هناك شيئا فيهما.» «تقصدين أن إحداهما خضراء والأخرى بنية.» «أوه، لقد لاحظت الشيء الصغير الدقيق.» أمالت بفمها لأعلى تجاهه. فقبله. انتهت الأغنية. فأسرع كل منهما لإيقاف الفونوغراف. قالت نيفادا جونز وهي تلقي بتجعيدات شعرها بعيدا عن عينيها: «لم تكن هذه قبلة حقيقية يا توني.» وضعا أسطوانة عرض «المراوغة» (شافيل ألونج).
قالت عندما استأنفا الرقص: «أخبرني يا توني. ماذا قال المحلل النفسي عندما ذهبت لرؤيته أمس؟»
قال توني متنهدا: «أوه، لا شيء يذكر، تحدثنا فحسب. قال إن الأمر برمته مجرد خيال. واقترح أن أتعرف أكثر على بعض الفتيات. إنه جيد. ولكنه لا يعرف ما الذي يتحدث عنه. لا يستطيع أن يفعل شيئا.» «أراهنك أنني أستطيع.»
توقفا عن الرقص وتبادلا النظرات بوجهين توردا حمرة.
قال بنبرة حزينة: «معرفتك يا نيفادا عنت الكثير لي ... أنت لطيفة جدا معي. كان الجميع دائما بغيضين معي للغاية.» «أليس جادا على الرغم من ذلك؟» سارا مفكرين وأوقفا الفونوغراف. «يا لها من حيلة لعبت على جورج.» «أشعر بالأسى حيال ذلك. لقد كان في غاية اللطف ... وبعد كل شيء لم أستطع تحمل الذهاب إلى الدكتور بومجارت على الإطلاق.» «إنه خطؤه. إنه أحمق لعين ... إذا كان يظن أنه يستطيع شرائي ببعض الإقامة الفندقية وتذاكر المسرح، فعليه أن يعيد التفكير في الأمر. لكن رجاء يا توني يجب أن تستمر مع ذلك الطبيب. لقد فعل المعجزات مع جلين جاستون ... كان يظن أنه هكذا حتى بلغ الخامسة والثلاثين وآخر شيء سمعته أنه تزوج ولديه توءمان ... الآن أعطني قبلة حقيقية يا حبيبي. أحسنت. هيا نرقص أكثر. مرحى، أنت راقص رائع. الفتية أمثالك دائما ما يرقصون جيدا. لا أعرف السبب ...»
قطع الهاتف الصوت في الغرفة فجأة بجرس مجلجل كصوت أسنان منشار. رفعت السماعة، وقالت: «مرحبا ... نعم هذه الآنسة جونز ... عجبا، بالطبع يا جورج أنا في انتظارك ... يا للهول! فلتغادر يا توني. سأتصل بك في وقت لاحق. لا تنزل في المصعد فستقابله وهو يصعد.» خرج توني هانتر متلاشيا عبر الباب. وضعت نيفادا أغنية «أيها الطفل ... أيها الطفل المقدس» في الفونوغراف، ومشت متوترة في أنحاء الغرفة، ترتب الكراسي وتمسح على تجعيدات شعرها القصيرة الضيقة في مكانها. «أوه يا جورج ظننتك لن تأتي ... كيف حالك يا سيد ماك نيل؟ لا أعرف لم أنا متقلب الحال اليوم. ظننتك لن تأتي أبدا. لنحضر بعض الغداء. أنا جائعة جدا.»
وضع جورج بالدوين قبعته الدربية وعصاه على طاولة في الركن. قال: «ماذا ستأكل يا جاس؟ بالطبع آكل دائما ريشة من لحم الضأن وبطاطس مطهوة في الفرن.» «سأتناول فقط البسكويت والحليب؛ فمعدتي ليست على ما يرام بعض الشيء ... انظري يا نيفادا ما إذا كان بإمكانك إعداد بعض الشراب للسيد ماك نيل.» «حسنا، يمكنني أن آخذ كاسا من الشراب يا جورج.»
صرخت نيفادا من الحمام حيث كانت تكسر الثلج: «اطلب لي يا جورج كركندا صغيرا مشويا وقليلا من سلطة الأفوكادو.»
قال بالدوين ضاحكا وهو يتوجه إلى الهاتف: «إنها أكثر فتاة تحب الكركند.»
عادت من الحمام ومعها كأسان من الشراب فوق صينية، وكانت قد وضعت حول رقبتها وشاحا بنقش الباتيك باللونين القرمزي والأخضر كلون الببغاوات. «أنا وأنت سنشرب يا سيد ماك نيل ... جورج ممتنع عن الشراب. إنها تعليمات الطبيب.» «ما رأيك يا نيفادا أن نذهب إلى عرض موسيقي بعد ظهيرة اليوم؟ هناك الكثير من الأمور التي أرغب في أن أصفي ذهني منها.» «لا أحب سوى الحفلات النهارية. هل تمانع لو أخذنا توني هانتر؟ لقد اتصل وقال إنه وحيد وأراد أن يعرج علينا بعد ظهيرة اليوم. إنه لا يعمل هذا الأسبوع.» «حسنا ... نيفادا، هلا تعذرينا إذا تحدثنا عن العمل لوهلة فحسب هناك بجوار النافذة؟ سننسى الأمر بمجرد أن يأتي الغداء.» «حسنا، سأغير ثوبي.» «اجلس هنا يا جاس.»
جلسا صامتين للحظة ينظران من النافذة إلى الهيكل القفصي ذي العارضة الحمراء للمبنى تحت الإنشاء المجاور. قال بالدوين فجأة بصوت أجش: «حسنا جاس، أنا في المنافسة.» «جيد يا جورج، نحن بحاجة إلى رجال مثلك.» «سأترشح عن حزب الإصلاح.» «بحق الجحيم؟» «أردت أن أخبرك يا جاس بدلا من أن تسمع الأمر من طريق ملتو.» «من سينتخبك؟» «أوه، لقد حصلت على دعمي ... سأحظى بحملة صحفية جيدة.» «فلتذهب الصحافة إلى الجحيم ... لدينا الناخبون ... اللعنة، لولاي لم يكن اسمك ليترشح لمنصب المدعي العام على الإطلاق.» «أعلم أنك كنت دائما صديقا جيدا لي وآمل أن تظل كذلك.» «لم أتخل عن أحد قط، بحق المسيح يا جورج، الحياة أخذ وعطاء.»
قاطعت الحديث نيفادا وهي تتقدم نحوهما بخطوات قصيرة راقصة مرتدية فستانا حريريا ورديا بلون طائر الفلامنجو، وقالت: «حسنا، ألم تتجادلا بما يكفي بعد أيها الفتيان؟»
قال جاس بصوت هادر: «لقد انتهينا. أخبرينا يا آنسة نيفادا كيف حصلت على هذا الاسم؟» «ولدت في رينو ... ذهبت والدتي إلى هناك للحصول على الطلاق ... يا ربي لقد كانت غاضبة ... بالطبع جلبت لنفسي المتاعب في ذلك الوقت.» •••
تقف آنا كوهين خلف المنضدة تحت لافتة «أفضل شطائر في نيويورك». قدماها تؤلمانها في حذائها المدبب ذي الكعب المنحول الحواف.
قال الساقي بجوارها: «حسنا، أظنهم سيبدءون قريبا وإلا فسد اليوم.» إنه رجل ذو وجه حاد القسمات وتفاحة آدم بارزة. «دائما ما يحدث الأمر على عجالة.» «أجل، يبدو أنهم جميعا يفكرون في أمر واحد في الوقت نفسه.» وقفا يتبادلان النظرات عبر جدار الغرفة الزجاجي حيث الصفوف اللانهائية من البشر المتدافعين دخولا وخروجا من المترو. انسلت دفعة واحدة خارجة من عند المنضدة وراجعة إلى المطبخ الصغير المكتوم حيث تجهز امرأة مسنة وبدينة الموقد. توجد مرآة معلقة على مسمار في الركن. أخرجت آنا علبة بودرة من جيب معطفها الموضوع على الرف وبدأت تضعها على أنفها. توقفت لوهلة، ونفخة البودرة الصغيرة تتأرجح في الهواء، ناظرة إلى وجهها العريض وشعر ناصيتها الأسود المنسدل والمتمايل. مظهر بشع أيتها اليهودية الحقيرة، هكذا تقول لنفسها شاعرة بالمرارة. تعود أدراجها إلى مكانها عند المنضدة بينما تصادف المدير، وهو إيطالي سمين ذو رأس أصلع دهني. «ألا يمكنك فعل شيء سوى التزين والنظر إلى المرآة طوال اليوم؟ ... حسنا جدا، أنت مطرودة.»
حدقت في وجهه الأملس كالزيتونة. قالت متلعثمة: «أيمكنني قضاء يومي بالخارج؟» يومئ برأسه. «تحركي؛ هذا ليس صالون تجميل.» عادت مسرعة إلى مكانها عند المنضدة. جميع المقاعد ممتلئة. الفتيات، وسعاة المكاتب، وموظفو الحسابات ذوو الوجوه الشاحبة. «شطيرة دجاج وفنجان من القهوة.» «جبن كريمي وشطيرة زيتون وكوب من الحليب الرائب.» «مثلجات صنداي بالشوكولاتة.» «شطيرة بيض وقهوة وكعك الدونات.» «كوب من المرق.» «حساء الدجاج.» «صودا آيس كريم بالشوكولاتة.» يأكل الناس على عجل دون أن ينظر أي منهم للآخر، وأعينهم على أطباقهم، وعلى أكوابهم. خلف الجالسين على المقاعد يقترب المنتظرون أكثر فأكثر. بعضهم يأكل واقفا. وبعضهم يدير ظهره للمنضدة ويأكل ناظرا للخارج عبر الحاجز الزجاجي واللافتة
HCNUL ENIL NEERG
عند الحشود المتدافعة الداخلة والخارجة كما لو كانت تعبأ وتفرغ من مترو الأنفاق عبر الظلام الأخضر الباهت.
قال جاس ماك نيل وهو ينفخ غيمة كبيرة من الدخان من سيجاره ويتكئ على كرسيه الدوار: «حسنا يا جوي، أخبرني بكل شيء عن الأمر. ماذا الذي تخططون له أيها الرفاق هناك في فلاتبوش؟»
تنحنح أوكيف وجر قدميه. «حسنا يا سيدي، لقد كونا لجنة إضراب.» «لا بد أن أقول إن لديك ... هذا ليس سببا لمداهمة حفل عمال الملابس، أليس كذلك؟» «لم يكن لي أي علاقة بذلك ... لقد انزعجت المجموعة من كل مناهضي الحرب والاشتراكيين.» «كانت تلك الأشياء لا بأس بها قبل عام، لكن الشعور العام تغير. صدقني يا جوي، لقد سئم شعب هذا البلد للغاية من أبطال الحرب.» «لدينا منظمة حيوية هناك.» «أعلم يا جو. أعلم ذلك. وأثق بك في هذا ... ولكنني سأعمل على التخفيف من أمر المكافآت ... لقد أدت ولاية نيويورك واجبها على يد رجل الخدمة السابق.» «هذا صحيح تماما.» «المكافأة الوطنية تعني الضرائب لرجل الأعمال العادي ولا شيء غير ذلك ... لا أحد يريد المزيد من الضرائب.» «ما زلت أظن أن الفتية يستحقون ما يحدث لهم.» «جميعنا استحققنا أشياء كثيرة لم نحصل عليها قط ... بالله عليك لا تخبر عني ذلك ... اجلب لنفسك يا جوي سيجارا من ذلك الصندوق هناك. أرسله لي صديق من هافانا عبر ضابط في البحرية.» «شكرا لك يا سيدي.» «هيا خذ أربعة أو خمسة.» «يا إلهي، شكرا لك.» «أخبرني يا جوي، كيف تنظمون أنفسكم جميعكم أيها الفتية في انتخابات حاكم المدينة؟» «يعتمد هذا على الموقف العام تجاه احتياجات رجل الخدمة السابق.» «اسمع يا جوي، أنت رجل ذكي ...» «أوه، سينظمون أنفسهم جيدا. يمكنني إقناعهم.» «كم رجلا حصلت عليه؟»
حصل معسكر شيمس أوريلي على 300 عضو جديد وهناك أعضاء جدد يسجلون كل يوم ... نحن نحصل عليهم من كل مكان. سننظم حفلا راقصا في الكريسماس وبعض المباريات في مخزن الأسلحة إذا تمكنا من إيجاد الملاكمين.»
أرجع جاس ماك نيل رأسه على عنقه الغليظ القصير وضحك. «أحسنت!» «ولكن المكافأة بصراحة هي الطريقة الوحيدة التي يمكننا بها أن نجعل الفتية يتحدون.» «أظن أنني سأمر وأتحدث معهم ذات ليلة.» «سيكون ذلك جيدا، ولكنهم متهورون ضد أي شخص لم يشارك في الحرب.»
تورد وجه ماك نيل. «رجعتم أيها الرفاق من الخارج، وأنتم تظنون أنكم أذكياء بعض الشيء، أليس كذلك؟» وضحك. «لن يستمر هذا أكثر من عام أو عامين ... رأيتهم يعودون من الحرب الأمريكية الإسبانية، تذكر ذلك يا جو.» «دخل أحد السعاة ووضع بطاقة فوق المكتب. «هناك سيدة ترغب في رؤيتك يا سيد ماك نيل.» «حسنا، أدخلها ... إنها تلك العاهرة العجوز من مجلس إدارة المدرسة ... حسنا يا جو، عد مرة أخرى في الأسبوع المقبل ... سأبقيك في بالي، أنت وجيشك.»
كان دوجان ينتظر في المكتب الخارجي. تسلل خفية على نحو غامض. «حسنا يا جو، كيف الأحوال؟»
قال جو زافرا الهواء من صدره: «جيدة للغاية. يخبرني جاس أن تنظيم تاماني هول سيدعمنا جيدا في سعينا للحصول على المكافأة ... إذ سيخطط لحملة على مستوى الأمة. لقد أعطاني بعض السيجار جلبه أحد أصدقائه بالطائرة من هافانا ... أتريد سيجارا؟» سارا والسيجار يميل من زوايا فميهما بخفة وغطرسة عبر ميدان دار البلدية. في الجهة المقابلة لدار البلدية القديم كانت هناك سقالة. أشار جو إليها بسيجاره. «ذلك الذي هناك هو التمثال الجديد للفضيلة المدنية والذي ينشئه حاكم المدينة.» •••
يتلوى بخار الطهو أمام معدته المتشنجة أثناء مروره بمطعم تشايلد. كان الفجر ينثر الغبار الرمادي الناعم فوق المدينة المظلمة التي سبكها الحديد. عبر داتش روبرتسون يائسا يونيون سكوير، متذكرا سرير فرانسي الدافئ، ورائحة شعرها الجميلة. دفع بيديه عميقا في جيبيه الفارغين. لم يكن معه سنت واحد، ولم تستطع فرانسي إعطاءه شيئا. سار شرقا متجاوزا الفندق في شارع 15. كان هناك رجل ملون يكنس الدرج. نظر إليه داتش حاقدا؛ فقد حصل على وظيفة. مرت عربة حليب مجلجلة. في ميدان ستايفيسنت، لامسه بائع حليب مر به بزجاجة في كل يد. مد داتش فكه وتحدث بقسوة. «هلا تعطينا جرعة حليب؟» كان بائع الحليب شابا صغيرا وردي الوجه هزيلا. بدت عيناه الزرقاوان خاشعتين. «بالطبع اذهب خلف العربة؛ فهناك زجاجة مفتوحة تحت المقعد. لا تدع أحدا يراك وأنت تشربها.» شربها بجرعات عميقة، وكانت ذات مذاق حلو ومهدئ لحلقه الظمآن. يا إلهي، لم أكن بحاجة للتحدث بقسوة هكذا. انتظر حتى عاد الصبي. «شكرا لك يا صديقي، كان هذا كرما منك.»
دلف إلى الحديقة الباردة وجلس على أحد مقاعدها. كان الصقيع على الأسفلت. التقط قطعة ممزقة من جريدة مساء وردية «سرقة 500 ألف دولار». سرقة مرسال بنك في وول ستريت ساعة الذروة. •••
في الجزء الأكثر ازدحاما من ساعة الظهيرة، سطا رجلان على أدولفوس سانت جون، مرسال بنك لشركة جرانتي تراست كومباني، وانتزعا من يديه حقيبة تحوي أوراقا نقدية بقيمة نصف مليون دولار. •••
سمع داتش نبض قلبه وهو يقرأ المقال. وشعر بالبرد في جميع أنحاء جسده. وقف على قدميه وبدأ يضرب ذراعيه. •••
تعكز كونغو عبر الباب الدوار في نهاية صف القطار السريع. تبعه جيمي هيرف ناظرا من جانب إلى آخر. كانت السماء معتمة في الخارج، حيث كانت ريح عاصفة ثلجية تصفر حول آذانهما. وكانت هناك سيارة صالون فورد واحدة تنتظر خارج المحطة. «كيف حالك يا سيد هيرف؟» «بخير يا كونغو. أتلك مياه؟» «ذلك خليج شيبسهيد.»
سارا على طول الطريق متحاشيين بركة تظهر بين الحين والآخر وامضة باللون الفولاذي الأزرق. وقد اتخذت المصابيح القوسية شكل العنب المجفف متأرجحة في الريح. إلى اليمين واليسار كانت هناك رقاع وامضة من المنازل تلوح من بعيد. توقفا عند مبنى طويل يستند على أكوام فوق الماء. «حمام سباحة»: قرأ جيمي بالكاد الحروف على نافذة غير مضاءة. انفتح الباب عندما وصلا إليه. قال كونغو: «مرحبا يا مايك.» «هذا هو السيد هيرف، أحد أصدقائي.» انغلق الباب خلفهما. بالداخل كانت العتمة كما لو كانا في أتون. أمسكت يد غليظة الجلد بيد جيمي في الظلام.
سمع صوت يقول: «مسرور بلقائك.» «أخبرني كيف وجدت يدي؟» «أوه، يمكنني الرؤية في الظلام.» ضحك الصوت من الحلق.
في ذلك الوقت كان كونغو قد فتح الباب الداخلي. تدفق الضوء ساطعا على طاولات البلياردو، ومنضدة شراب في النهاية، ورفوف من عصي البلياردو. قال كونغو: «هذا مايك كاردينالي.» وجد جيمي نفسه واقفا بجانب رجل شاحب طويل القامة يبدو خجولا وذا شعر أسود ينحسر فوق جبهته. في الغرفة الداخلية كانت هناك أرفف مليئة بالأواني الخزفية ومائدة مستديرة مغطاة بقطعة من المشمع بلون الخردل. صاح كونغو بالفرنسية: «آه، الزعيم.» خرجت سيدة فرنسية بدينة ذات وجنتين حمراوين من الباب الآخر، وخلفها سمع صوت الزبد والثوم عند قليهما. صاح كونغو: «هذا صديقي ... ربما نأكل الآن.» قال كاردينالي بفخر: «إنها زوجتي. صماء جدا ... يجب أن أتحدث بصوت عال.» استدار وأغلق الباب المؤدي إلى الصالة الكبيرة بعناية وأحكم إغلاقه. قال: «كي لا نرى أضواء من الطريق.» قالت السيدة كاردينالي: «في الصيف نتناول في بعض الأحيان 100 وجبة في اليوم، أو ربما 150.»
قال كونغو: «أليس لديك بعض من تلك الأشياء المنعشة؟» ألقى بنفسه هادرا على كرسي.
وضع كاردينالي قنينة سمينة من النبيذ وبعض الكئوس على المائدة. تذوقوه ملتمظين بشفاههم. «إنه أفضل من النبيذ الإيطالي، أليس كذلك يا سيد هيرف؟» «بالتأكيد. مذاقه شبيه بنبيذ الكيانتي.»
وضعت السيدة كاردينالي ستة أطباق، وفي كل منها شوكة وسكين وملعقة ملطخة، ثم وضعت في منتصف الطاولة سلطانية حساء يتصاعد منها البخار.
زعقت بصوت كصوت طائر الغرغر قائلة بالإيطالية: «المكرونة جاهزة.» عندما دخلت الغرفة راكضة فتاة متوردة الوجنتين سوداء الشعر برموش طويلة مقوسة فوق عينين سوداوين براقتين وتبعها شاب ضارب إلى حد كبير إلى السمرة يرتدي أفرولا كاكيا وشعره مجعد وقد بيضته الشمس، قال كاردينالي: «هذه أنيتا.» جلسوا جميعا معا وبدءوا يتناولون حساء الشودر المفلفل ذا الخضراوات السميكة، مائلين بشدة فوق أطباقهم.
عندما أنهى كونغو حساءه نظر لأعلى. «هل رأيت أضواء يا مايك؟» أومأ كاردينالي. «بالطبع هذه الأشياء ... تكون هنا في أي وقت.» بينما كانوا يأكلون طبقا من البيض المقلي والثوم وشرائح لحم العجل المقلية مع البطاطس المقلية والبروكلي، بدأ هيرف يسمع من بعيد فرقعة زورق آلي. نهض كونغو من على الطاولة مشيرا لهم أن يهدءوا وينظروا من النافذة، رافعا بحذر ركنا من الستارة. قال وهو يتراجع إلى الطاولة: «ذلك هو. نحن نأكل جيدا هنا، أليس كذلك يا سيد هيرف؟»
وقف الشاب على قدميه يمسح فمه في ساعده. قال جارا بنعل حذائه مرتين: «ألديك نيكل يا كونغو؟» «تفضل يا جوني.» تبعته الفتاة إلى الغرفة الخارجية المظلمة. في لحظة بدأ البيانو الآلي يرن بموسيقى الفالس. وكان بمقدور جيمي أن يراهم عبر الباب يرقصون داخلين وخارجين في البقعة المضاءة المستطيلة الشكل. اقترب أزيز الزورق الآلي. خرج كونغو، ثم كاردينالي وزوجته، حتى ترك جيمي وحده يحتسي كأسا من النبيذ وسط بقايا طعام العشاء. شعر بالإثارة والحيرة وبشيء من السكر. وقد بدأ بالفعل بناء القصة في ذهنه. جاء من الطريق صوت سحق تروس شاحنة، ثم صوت شاحنة أخرى. انسد محرك الزورق الآلي، واشتعل عكسيا، وتوقف. كان صرير زورق أمام الأكوام في تلاطم من الأمواج والصمت. توقف البيانو الآلي. جلس جيمي يحتسي نبيذه. وشم رائحة المستنقعات الملحية العفنة تتسرب إلى المنزل. وسمع تحته صوت تربيت خفيف لارتطام الماء بالأكوام. بدأ زورق آلي آخر يبقبق من بعيد جدا.
سأل كونغو مقتحما الغرفة فجأة: «هل معك نيكل؟ شغل الموسيقى ... الليلة مرحة للغاية. ربما تواصل أنت وآنيت تشغيل البيانو. لم أر ماكجي يستعد للنزول ... ربما يأتي أحد. لا بد أن يكون سريعا.» نهض جيمي وبدأ يبحث في جيوبه. عند البيانو وجد آنيت. «هلا ترقصين؟» أومأت. صدع البيانو بأغنية «العيون البريئة» (إنوسنت آيز). رقصا شاردين. سمعت بالخارج أصوات ووقع أقدام. قالت فجأة: «أرجوك»، وتوقفا عن الرقص. اقترب الزورق الآلي الثاني للغاية؛ أصدر المحرك صوتا كالسعال واهتز في مكانه. قالت: «أرجوك ابق هنا»، وتسللت بعيدا عنه.
سار جيمي هيرف جيئة وذهابا مضطربا ينفث دخان سيجارته. كان يؤلف القصة في ذهنه ... في قاعة رقص وحيدة مهجورة على خليج شيبسهيد ... فتاة إيطالية جميلة متوردة ... صافرة صاخبة في الظلام ... يجب أن أخرج وأرى ما يحدث. تحسس طريقه إلى الباب الأمامي. كان محكم الغلق. مشى إلى البيانو ووضع نيكلا آخر. ثم أشعل سيجارة جديدة واستأنف السير في أرجاء المكان. هذا هو الحال دائما ... طفيلي في دراما الحياة، صحفي ينظر إلى كل شيء عبر ثقب الباب. لا يختلط أبدا. كان البيانو يعزف أغنية «نعم ليس لدينا موز» (ياس، وي هاف نو باناناز). «اللعنة!» ظل يتمتم ويكز على أسنانه ويسير ذهابا وإيابا.
تحول وقع الأقدام بالخارج إلى شغب، حيث تداخلت الأصوات. كانت هناك شظايا من خشب وكسر زجاجات. نظر جيمي عبر نافذة غرفة الطعام. فرأى ظلال رجال يتعاركون ويتصارعون فوق مرسى المركب. هرع إلى المطبخ، حيث اصطدم بكونغو متعرقا ولاهثا في المنزل متكئا على عصا ثقيلة.
صرخ: «اللعنة ... لقد كسروا ساقي.» «يا إلهي.» ساعده جيمي في الدخول إلى غرفة الطعام هو يتأوه. «لقد تكبدت 50 دولارا أمريكيا لإصلاحها في آخر مرة كسرت فيها.» «أتقصد ساقك المصنوعة من الفلين؟» «بالطبع ، ماذا تظن؟» «هل هم عملاء الحظر؟» «ليسوا عملاء الحظر، بل خاطفين لعناء ... اذهب وضع نيكلا في البيانو .» فاستجاب البيانو مرحا: «فتاة أحلامي الجميلة».
عندما رجع جيمي لكونغو، كان جالسا على كرسي يعتني بساقه الاصطناعية بيديه. وقد وضع على الطاولة الطرف المصنوع من الفلين والألومنيوم الذي كان مشقوقا ومنبعجا. بالفرنسية: «انظر إلى هذا ... لقد تحطمت ... تحطمت بالكامل.» أثناء حديثه دخل كاردينالي. بجرح عميق فوق عينيه سالت منه الدماء الغزيرة فوق وجنته ومعطفه وقميصه. تبعته زوجته وعيناها تدوران، وكان معها حوض وإسفنجة ظلت تربت بها على جبهته بلا جدوى. دفعها بعيدا. «لقد ضربت أحدهم في رأسه بقوة بأنبوب. أظنه سقط في الماء. يا إلهي، ليته يغرق.» دخل جوني رافعا رأسه. ووضعت آنيت ذراعها حول خصره. كانت إحدى عينيه مسودة وأحد كمي قميصه متدليا وممزقا. قالت آنيت ضاحكة في هيستيريا: «مرحى، لقد كان الأمر كما في الأفلام. ألم يكن رائعا، يا أمي، ألم يكن رائعا؟» «يا إلهي، من حسن حظهم أنهم لم يبدءوا في إطلاق النار؛ فقد كان مع أحدهم مسدس.» «أظنهم خافوا من أن يفعلوا ذلك.» «الشاحنات متوقفة.» «لم يضبط سوى صندوق واحد فقط ... يا إلهي، لقد كانوا خمسة.»
صرخت آنيت: «مرحى، ألم يوسعهم ضربا؟»
قال كاردينالي بصوت هادر: «أوه، اصمتي.» كان قد ارتمى في الكرسي وكانت زوجته تمسح وجهه بالإسفنجة. سأل كونغو: «هل ألقيت نظرة فاحصة على القارب؟»
قال جوني: «لقد كانت السماء مظلمة للغاية. تحدث الرجال كما لو أنهم قد أتوا من جيرسي ... في البداية علمت أن أحدهم أتي إلي وقال، يا إلهي، إنه موظف إيرادات وقد وكزته قبل أن يتسنى له أن يسحب مسدسه فسقط من فوق ظهر المركب. يا إلهي، لقد كانوا يصرخون. ذلك الرجل جورج على القارب القريب ضرب أحدهم في دماغه بمجداف. فرجعوا أدراجهم إلى قاربهم القديم الأشبه بإبريق شاي وغادروا.»
تلعثم كونغو بوجه أرجواني: «ولكن كيف يعرفون طريقة رسونا؟»
قال كاردينالي: «ربما ثرثر أحد بالكلام. إن عرفته فوربي سوف ...» أصدر طقطقة من شفتيه.
قال كونغو بصوته الدمث مرة أخرى: «أرأيت يا سيد هيرف، كانت كلها شمبانيا للاحتفال بالأعياد ... بضاعة ثمينة جدا، أليس كذلك؟» جلست آنيت ووجنتاها شديدتا التورد تنظر إلى جوني بشفتين متفرقتين وعينين شديدتي اللمعان. وجد هيرف نفسه يتورد خجلا وهو ينظر إليها.
نهض واقفا. «حسنا، يجب أن أعود إلى المدينة الكبيرة. شكرا على الطعام والأحداث المثيرة يا كونغو.» «هل تعرف كيف تصل إلى المحطة؟» «بالطبع.» «طابت ليليتك يا سيد هيرف، ربما تشتري صندوقا من الشمبانيا للكريسماس، من ماركة موم الأصلية.» «إنني مفلس للغاية يا كونغو.» «إذن ربما تبيع لأصدقائك وآخذ منك عمولة.» «حسنا، سأرى ما يمكنني فعله.» «سأتصل بك غدا لأخبرك بالسعر.» «هذه فكرة جيدة. طاب مساؤك.»
عندما اهتز به القطار الفارغ أثناء عودته إلى المنزل عبر ضواحي بروكلين الفارغة، حاول جيمي التفكير في قصة التهريب التي يكتبها لملحق صحيفة يوم الأحد. ظلت الفتاة تشتت تفكيره بوجنتيها الورديتين وعينيها البراقتين، مشوشة عليه الترتيب المنظم لأفكاره. غاص تدريجيا في حلم يقظة تلو الآخر. قبل ولادة الطفل، كانت عينا إيلي بعض الأحيان تومض بهذا الشكل. ثم في ذلك اليوم عندما كانا فوق التل ومالت في ذراعيه وكانت متعبة وتركها وسط الأبقار المجترة طعامها ذات العيون الباعثة على الهدوء فوق المنحدر العشبي، وذهب إلى كوخ راع وجلب لها الحليب في مغرفة خشبية، وببطء عند تحدب الجبال لأعلى وقت المساء عادت الحمرة إلى وجنتيها ونظرت إليه تلك النظرة وقالت بضحكة جافة: إنه هيرف الصغير بداخلي. يا إلهي، لم لا أستطيع التوقف عن التفكير في أشياء مضت؟ وفي ساعة ولادة الطفل عندما كانت إيلي في المستشفى الأمريكي في نويي، كان يتجول لاهيا في المعرض، حيث ذهب إلى سيرك البراغيث، وركب دوامة الخيل والأرجوحة البخارية، واشترى الألعاب والحلوى، ومارس الرماية على الدمى مغطيا عينيه في تهور، ليتعثر راجعا إلى المستشفى ومعه خنزير كبير من الجبس تحت ذراعه. يا له من مرح في ذلك اللجوء الخاطف للحظات من الماضي. ماذا لو كانت قد ماتت؛ فقد ظننت أن هذا سيحدث بالفعل . كان الماضي سيكون قد اكتمل تماما، وتحدد، وسيكون قد ارتديته حول عنقك كالقلادة، كما سيكون قد أعد للكتابة على الآلة الحاسبة، وصب في قوالبه لملحق صحيفة يوم الأحد كمقالات جيمي هيرف حول حلقة التهريب. ظلت الأفكار كأعمدة آلة كاتبة مزعجة تسقط في أماكنها وتكتبها آلة لاينوتايب مقعقعة.
في منتصف الليل كان يسير في شارع 14. لم يكن يريد الذهاب إلى المنزل للنوم على الرغم من الرياح الباردة الشديدة التي كانت تمزق رقبته وذقنه بمخالب جليدية حادة. مشى غربا عبر شارع 7 والجادة الثامنة، ليجد اسم روي شيفيلد بجانب جرس في ردهة خافتة الإضاءة. بمجرد أن ضغط على الجرس، بدأ قفل الباب في النقر. صعد الدرج راكضا. مد روي من الباب رأسه الكبير المجعد الشعر بعينيه الأشبه بعيني الدمية جولي وبلون الزجاج الرمادي. «مرحبا يا جيمي. تفضل بالدخول؛ إننا جميعا مبتهجون كالكنائس في الكريسماس.» «لقد رأيت لتوي قتالا بين المهربين والخاطفين.» «أين؟» «هناك في خليج شيبسهيد.»
صاح روي قائلا لزوجته: «ها هو جيمي هيرف، لقد كان يحارب لتوه عملاء الحظر.» كان لأليس شعر كستنائي داكن كشعر دمية ووجه كوجه دميه أيضا كريمي متورد بلون الخوخ. ركضت إلى جيمي وقبلته فوق ذقنه. «أوه يا جيمي، أخبرنا بكل شيء عن ذلك ... إننا نشعر بالملل الفظيع.»
صاح جيمي، وقد رأى لتوه فرانسيس وبوب هيلدبراند على الأريكة في الطرف المعتم من الغرفة: «مرحبا.» رفعا كأسيهما تحية له. دفع جيمي إلى كرسي بذراعين، وأعطي له في يده كأس من شراب الجن وجعة الزنجبيل. قال بوب هيلدبراند بصوت مهمهم عميق: «حسنا، علام كان كل هذا القتال؟ من الأفضل أن تخبرنا لأننا بالتأكيد لن نشتري صحيفة «تريبيون» ليوم الأحد لنعرف ما حدث.»
ارتشف جيمي رشفة طويلة من الشراب. «لقد خرجت مع رجل أعرف أنه كبير جميع المهربين الفرنسيين والإيطاليين. إنه رجل جيد. وله ساق من الفلين. أعد لي وجبة متخمة ونبيذا إيطاليا فاخرا في غرفة بلياردو مهجورة على شواطئ خليج شيبسهيد ...»
سأل روي: «بالمناسبة، أين هيلينا؟»
قالت أليس: «لا تقاطع يا روي. هذا جيد ... وبجانب ذلك يجب ألا تسأل رجلا أبدا عن مكان زوجته.» «ثم كان هناك الكثير من وميض أضواء الإشارة وغيرها وقد جاء زورق آلي محمل بالمزيد من شمبانيا موم الجافة للاحتفال بالكريسماس في بارك أفنيو ووصل الخاطفون على زورق سريع ... ربما كان طائرة مائية لأنه جاء بسرعة كبيرة ...»
هدلت أليس: «الأمر مثير ... لماذا لا تمارس التهريب يا روي؟» «لقد كان أسوأ قتال رأيته خارج السينما؛ إذ كان ستة أو سبعة في كل جانب جميعهم يضربون بعضا في موضع نزول ضيق صغير بحجم هذه الغرفة، أناس يعممون بعضا بالمجاديف ومفاصل أنابيب الرصاص.» «هل أصيب أحد؟» «أصيب الجميع ... أظن أن اثنين من الخاطفين قد غرقوا. على أي حال، لقد فروا وتركونا نلعق الشمبانيا المنسكبة.»
صرخ الزوجان هيلدبراند: «لكن لا بد أن ذلك كان فظيعا.» وسألت أليس لاهثة: «ماذا فعلت يا جيمي؟» «أوه لقد قفزت في الأرجاء متفاديا طريق الأذى. لم أكن أعرف من كان في أي جانب، وكانت السماء مظلمة والأجواء رطبة ومربكة في كل مكان ... وانتهى بي الحال ساحبا صديقي المهرب من المعركة، وعندها انكسرت ساقه ... ساقه الخشبية.»
أطلق الجميع صيحة. أعاد روي ملء كأس جيمي بشراب الجن.
هدلت أليس: «أوه يا جيمي، أنت تعيش الحياة الأكثر إثارة.» •••
كان جيمس ميريفال يتفقد برقية ترجمت لتوها، ناقرا على الكلمات بقلم رصاص وهو يقرؤها. تطلب منا شركة منتجات المنجنيز التسمانية فتح حساب ائتماني ... بدأ الهاتف على مكتبه يرن. «هذه والدتك يا جيمس. تعال على الفور؛ حدث شيء رهيب.» «ولكني لا أعرف ما إذا كان بمقدوري مغادرة ...»
كانت قد أنهت المكالمة بالفعل. شعر ميريفال بوجهه يتحول إلى الشحوب. «دعني أتحدث إلى السيد أسبينوول من فضلك ... أنا ميريفال يا سيد أسبينوول ... مرضت أمي فجأة. أخشى أن تكون سكتة دماغية. أرغب في الإسراع للمكوث هناك ساعة. سأعود في الوقت المحدد للرد على البرقية بشأن ذلك الأمر التسماني.» «حسنا ... يؤسفني سماع ذلك يا ميريفال.»
أخذ قبعته ومعطفه، ناسيا وشاحه، وخرج مسرعا من البنك وعلى طول الشارع إلى المترو.
اندفع داخلا الشقة لاهثا، مطقطقا أصابعه من التوتر. استقبلته السيدة ميريفال بوجهها الشاحب في الردهة. «عزيزتي ظننتك مريضة.» «ليس كذلك ... الأمر يتعلق بمايسي.» «هل أصابها مكروه ...؟»
قاطعته السيدة ميريفال قائلة: «تعال إلى هنا.» كانت تجلس في غرفة الاستقبال امرأة ذات وجه مستدير ترتدي قبعة مستديرة ومعطفا طويلا من المنك. «عزيزي، تقول هذه الفتاة إنها السيدة جاك كونينجام ومعها قسيمة زواج تثبت ذلك.» «يا إلهي، أهذا صحيح؟»
أومأت الفتاة برأسها إيماءة حزن. «وقد أرسلنا الدعوات. منذ آخر برقية أرسلها ومايسي تطلب جهازها.»
فتحت الفتاة شهادة كبيرة مزينة بزهور البانسي وملائكة الحب وأعطتها لجيمس. «ربما تكون مزورة.»
قالت الفتاة بلطف: «إنها ليست مزورة.»
قرأ بصوت مرتفع: «جون سي كونينجام، 21 ... جيسي لينكولن، 18 ... سأحطم وجهه على تلك الفعلة، ذلك النذل. هذا بالتأكيد توقيعه، لقد رأيته في البنك ... النذل.» «مهلا يا جيمس، لا تتسرع.»
قالت الفتاة بصوتها الحلو الصغير: «ظننت أنه من الأفضل أن أخبركم الآن قبل مراسم الزفاف. لن أجعل جاك يتزوج ثانية مهما يكن.» «أين مايسي؟» «حبيبتي المسكينة طريحة الفراش في غرفتها.»
كان وجه ميريفال قرمزيا. وحكه العرق أسفل ياقته. ظلت السيدة ميريفال تقول: «الآن يا عزيزي يجب أن تعدني ألا تفعل شيئا متسرعا.» «أجل، يجب حماية سمعة مايسي بأي ثمن.» «عزيزي، أظن أن أفضل شيء تفعله هو أن تحضره إلى هنا وتواجهه بهذه ... بهذه ... السيدة ... هل توافقين على ذلك يا سيدة كونينجام؟» «أوه يا عزيزتي ... نعم أظن ذلك.»
صرخ ميريفال وأسرع إلى الردهة متجها إلى الهاتف: «انتظري لحظة.» «ريكتور 12305 ... مرحبا. أريد التحدث إلى السيد جاك كونينجام من فضلك ... مرحبا. هل هذا مكتب السيد كونينجام؟ السيد جيمس ميريفال يتحدث ... خارج المدينة ... ومتى سيعود؟ ... هممم.» أسرع عائدا عبر الردهة. «النذل اللعين خارج المدينة.»
قالت السيدة الصغيرة ذات القبعة المستديرة: «في كل السنوات التي عرفته فيها كان دائما خارج المدينة.» •••
خارج نوافذ المكتب العريضة، كان الليل رماديا وضبابيا. وكانت بعض الأضواء هنا وهناك تشكل صفوفا أفقية وعمودية خافتة من النجوم. يجلس فينياس بلاكهيد إلى مكتبه ويميل مبتعدا إلى الخلف في كرسيه الجلدي الصغير ذي الذراعين. وبيده التي يحمي أصابعها بمنديل حريري كبير يحمل كوبا من الماء الساخن وبيكربونات الصودا. ويجلس دينش بصلعته ووجهه المستدير ككرة بلياردو في الكرسي ذي الذراعين العميق يلعب عابثا بنظارته ذات الإطار الشبيه بصدفة السلحفاء. كل شيء هادئ باستثناء قعقعة وطقطقة تصدر بين الحين والآخر من أنابيب البخار.
قال بلاكهيد ببطء بين رشفات المياه، ثم جلس فجأة على كرسيه: «ينبغي أن تسامحني يا دينش ... أنت تعلم أنني نادرا ما أسمح لنفسي بملاحظة شئون الآخرين. إنه اقتراح أحمق لعين يا دينش، أقسم على ذلك ... بحق المسيح الحي إنه لأمر سخيف.» «أنا لا أحب تلطيخ يدي أكثر مما تفعل ... بالدوين رجل جيد. أظن أننا آمنون في دعمه بعض الشيء.» «ما علاقة شركة استيراد وتصدير بحق الجحيم بالسياسة؟ إذا أراد أي من هؤلاء الرجال صدقة، فدعه يأتي إلى هنا ويحصل عليها. لقد ابتعدنا عن عملنا ... وانخفضت إيراداته بشكل لعين. إن تمكن أي منكم أيها المحامون البكاءون من استعادة التوازن في البورصة، فسأكون على استعداد بفعل أي شيء على الإطلاق ... إنهم محتالون، كل منهم ملعون ... بحق المسيح الحي إنهم محتالون.» يجلس ووجهه متورد باللون الأرجواني معتدلا في كرسيه يدق بقبضته على ركن المكتب. «حيث إنك جعلتني أضطرب بشدة ... هذا سيئ لمعدتي، وسيئ لقلبي.» تجشأ فينياس بلاكهيد تجشؤا ينذر بالخطر، وأخذ جرعة كبيرة من كأس بيكربونات الصودا. ثم اتكأ في كرسيه مرة أخرى تاركا جفنيه الثقيلين يغطيان عينيه إلى المنتصف.
يقول السيد دينش بصوت متعب: «حسنا أيها الرجل الهرم، ربما كان من السيئ أن نفعل ذلك، ولكنني وعدت بدعم مرشح حزب الإصلاح. هذه مسألة خاصة تماما ولا علاقة لها بالشركة بأي حال من الأحوال.» «بل لها علاقة بها بحق الجحيم ... ماذا عن ماك نيل وجماعته؟ ... إنهم يعاملوننا دائما معاملة جيدة، وكل ما فعلناه من أجلهم هو أننا نعطيهم زوجا من صناديق السكوتش وبعض السيجار من وقت لآخر ... والآن لدينا هؤلاء المصلحون الذين يلقون بحكومة المدينة بأكملها في حالة من الاضطراب ... بحق المسيح الحي ...»
نهض دينش واقفا. «عزيزي بلاكهيد، بصفتي مواطنا، فإنني أعد من واجبي المساعدة في تنظيف حكومة المدينة من قذارة الرشوة، والفساد، والمكائد الموجودة بها ... هذا ما أعتقده بصفتي مواطنا ...» ثم بدأ يمشي إلى الباب، وبطنه المستدير ملتصق به من الأمام مختالا.
صرخ بلاكهيد خلفه: «حسنا، اسمح لي يا دينش أن أقول إنني أظنه اقتراحا أحمق لعينا.» عندما ذهب شريكه استلقى للوراء لوهلة وعيناه مغمضتان. يتخذ وجهه لون الرماد المبقع، ويتقلص هيكله السمين الكبير كبالون يتفرغ من الهواء. وأخيرا وقف على قدميه متأوها. ثم يأخذ قبعته ومعطفه ويخرج من المكتب بخطوة ثقيلة بطيئة. الردهة فارغة وخافتة الإضاءة. كان عليه أن ينتظر المصعد كثيرا. شهق فجأة عندما تخيل رجال السطو المسلح يتسللون عبر المبنى الفارغ. يخاف من أن ينظر خلفه كطفل في الظلام. صعد المصعد أخيرا.
قال للحارس الليلي الذي يعمل في المصعد: «ويلمر، يجب أن تزيد الإضاءة في الليل في هذه الردهات ... أثناء هذه الموجة من الجرائم أظن أنه يجب عليك إبقاء المبنى ساطع الأنوار.» «أجل، ربما أنت على حق يا سيدي ... ولكن لا يمكن لأحد أن يدخل دون أن أراه أولا.» «ربما تنال منك عصابة يا ويلمر.» «أود أن أراهم يحاولون فعل ذلك.» «أظن أنك على حق ... مسألة توتر ليس إلا.»
تجلس سينثيا في متنزه باكارد تقرأ كتابا. «حسنا يا عزيزتي هل ظننت أنني لن أحضر أبدا.» «لقد أوشكت على إنهاء كتابي يا أبي.» «حسنا أيها السائق ... إلى الشمال بأسرع ما يمكنك. لقد تأخرنا على العشاء.»
بينما كانت سيارة الليموزين تطن في شارع لافاييت، استدار بلاكهيد لابنته. «إن سمعت يوما رجلا يتحدث عن واجبه بصفته مواطنا، بحق المسيح الحي لا تثقي به ... فهو يخطط لعمل مشين بنسبة تسعة من عشرة. لا تعرفين كم يثلج صدري أنك وجو تنعمان بالاستقرار والراحة في الحياة.» «ما الأمر يا أبي؟ هل كان يومك شاقا في المكتب؟» لا توجد أسواق، ليس ثمة سوق على وجه الأرض الملعونة لم تطلق عليها النيران وتحترق ... أقول لك يا سينثيا الأمر سجال. لا يستطيع أحد معرفة ما قد يحدث ... اسمعي قبل أن أنسى، هل يمكنك أن تكوني في البنك شمال المدينة في الساعة الثانية عشرة غدا؟ ... سأرسل هودجينز ببعض الأوراق المالية، الأمر شخصي كما تفهمين، أريد أن أضعها في صندوق وديعتك الآمن.» «لكنه ممتلئ عن آخره بالفعل يا أبي.» «ذلك الصندوق في شركة آستور تراست هو باسمك، أليس كذلك؟» «هو مشترك بيني وبين جو.» «حسنا، تأخذين صندوقا جديدا باسمك في بنك الجادة الخامسة ... سأرسل الأغراض إلى هناك في الظهيرة ... وتذكري ما قلته لك يا سينثيا، إن سمعت يوما زميل عمل يتحدث عن الفضيلة المدنية، فاهربي.»
يعبران شارع 14. ينظر الأب وابنته عبر الزجاج إلى الوجوه التي صفعتها الريح لأشخاص ينتظرون عبور الشارع. •••
تثاءب جيمي هيرف وسحب كرسيه للخلف. آذى بريق نيكل آلته الكاتبة عينيه. كانت أطراف أصابعه محتقنة. دفع الباب المنزلق فاتحا إياه قليلا واختلس النظر إلى غرفة النوم الباردة. تمكن بالكاد من رؤية إيلي نائمة في السرير الموجود في ركن الغرفة. في الطرف البعيد للغرفة كان مهد الطفل. وكانت ثمة رائحة حليب حامضة نوعا ما من ملابس الطفل. دفع الباب ليغلقه وبدأ في خلع ملابسه. ليتنا كانت لدينا مساحة أكبر، وكان يتمتم: نحن نعيش مكتظين في بيتنا الأشبه بقفص السنجاب ... سحب الغطاء الكشميري المغبر من فوق الأريكة وانتزع ثياب نومه من تحت الوسادة. مساحة ونظافة وهدوء، كانت الكلمات تلوح في ذهنه وكأنه يخطب في قاعة استماع شاسعة.
أطفأ الضوء، وفتح فرجة في النافذة وسقط متسمرا خالدا إلى النوم في السرير. كان على الفور يكتب رسالة على آلة اللاينوتايب الكاتبة. الآن أستلقي لأنام ... يا للشفق الأبيض العظيم. كانت ذراع الآلة يد امرأة ترتدي قفازا أبيض طويلا. عبر القعقعة من وراء أقدام كهرمانية أتى صوت إيلي: لا، لا، لا، أنت تؤذيني بذلك ... قال رجل يرتدي أفرولا يا سيد هيرف إنك تؤذي الآلة ولن نتمكن من إخراج الطبعة المبكرة. كانت الآلة كفم مزدرد بصفوف أسنان في لمعان النيكل. استيقظ معتدلا في جلسته على السرير. كان يشعر بالبرد، وكانت أسنانه تصطك. سحب الأغطية حوله وتهيأ للنوم مرة أخرى. في المرة التالية التي استيقظ فيها كان ضوء النهار قد سطع. كان يشعر بالدفء والسعادة. كانت ندفات الثلج متراقصة، مترددة، دائرة خارج النافذة الطويلة.
قالت إيلي وهي قادمة نحوه بصينية: «مرحبا يا جيمبس.» «عجبا، هل مت وذهبت إلى الجنة أو شيء من هذا القبيل؟» «لا، إنه صباح يوم الأحد ... ظننتك بحاجة لبعض الرفاهية ... لقد صنعت بعض كعكات المافن بالذرة.» «أوه، إنك رائعة يا إيلي ... انتظري لحظة، يجب أن أقفز وأغسل أسناني.» عاد وقد غسل وجهه وارتدى روب الحمام. جفل فمها تحت وطأة قبلته. «ولا تزال الساعة الحادية عشرة. لقد حصلت على ساعة في يوم إجازتي ... ألن تتناولي بعض القهوة أيضا؟» «خلال دقيقة ... اسمع يا جيمبس لدي شيء أريد أن أتحدث عنه. اسمع، ألا تظن أننا ينبغي أن نجهز مكانا آخر الآن وقد أصبحت تعمل في الليل مرة أخرى طوال الوقت؟» «أتقصدين أن ننتقل إلى منزل آخر؟» «لا، كنت أفكر إذا كان بإمكانك أن تدبر لنفسك غرفة أخرى لتنام فيها في مكان ما في المنزل؛ كي لا يزعجك أحد في الصباح.» «ولكننا يا إيلي لن نتقابل أبدا بهذا الشكل ... فنادرا ما يرى أحدنا الآخر بالفعل.» «إنه أمر مروع ... ولكن ماذا يمكننا أن نفعل وساعات عملنا مختلفة تماما؟»
جاء بكاء مارتن عاصفا من الغرفة الأخرى. جلس جيمي على حافة السرير وفنجان القهوة الفارغ على ركبتيه ينظر إلى قدميه الحافيتين. قالت بخفوت: «كما تحب تماما.» اندفعت في أنحاء جسده رغبة للإمساك بيديها، وضمها بقوة حتى يؤلمها ثم تلاشت. التقطت أغراض القهوة وابتعدت. لقد عرفت شفتاه شفتيها، وعرفت ذراعاه التفات ذراعيها، وعرف شعرها الداكن بلون الأخشاب، أحبها. جلس طويلا ينظر إلى قدميه، قدمان نحيفتان مشوبتان بالحمرة تنتأ منهما عروق زرقاء منتفخة، وأصابعهما ملتوية أتخمها الحذاء من وطء الدرج والأرصفة. وعلى كل إصبع صغير كان ثمة ثؤلول. وجد عينيه ممتلئتين بدموع الشفقة. توقف الطفل عن البكاء. دخل جيمي الحمام وفتح المياه لتتدفق في الحوض. ••• «لقد كان ذلك الرجل الآخر الذي عرفته يا آنا. لقد جعلك قدرية.» «ما معنى ذلك؟» «شخص يعتقد أنه لا فائدة من الكفاح، شخص لا يؤمن بالتقدم البشري.» «هل تظن أن بوي كان هكذا؟» «لقد كان نذلا على أي حال ... لا يوجد في هؤلاء الجنوبيين من لديهم وعي طبقي ... ألم يجعلك تتوقفين عن دفع مستحقاتك النقابية؟» «لقد سئمت العمل على ماكينة الخياطة.» «ولكن يمكنك أن تكوني عاملة يدوية، تؤدين عملا رائعا وتجنين مالا جيدا. أنت لست واحدة من ذلك النوع، أنت واحدة منا ... سأجعلك تستعيدين سمعتك ويمكنك الحصول على وظيفة جيدة مرة أخرى ... وربي لن أسمح لك أبدا بالعمل في قاعة رقص كما فعل. إنه يؤلمني بشدة يا آنا أن أرى فتاة يهودية تتسكع مع رجل كهذا.» «حسنا، لقد رحل ولم أحصل على وظيفة.» «أشخاص مثل هؤلاء هم أكبر أعداء للعمال ... إنهم لا يفكرون في أحد سوى أنفسهم.»
يسيران ببطء في الجادة الثانية في مساء ضبابي. إنه شاب يهودي أصهب الشعر نحيف الوجه ذو وجنتين غائرتين وبشرة شاحبة مزرقة. ساقاه متقوستان ككثير من عمال الملابس. أما آنا، فحذاؤها صغير عليها للغاية. وأسفل عينيها هالتان عميقتان. يمتلئ الضباب بمجموعات من المتنزهين الذين يتحدثون اليديشية، وإنجليزية الجانب الشرقي من مانهاتن ذات اللكنة المتكلفة، والروسية. تحدد الصدوع الدافئة التي ترسمها أضواء متاجر البقالة وأكشاك المشروبات الغازية ملامح الرصيف اللامع.
تهمهم آنا: «لو لم أكن أشعر بالتعب طوال الوقت.» «دعينا نتوقف هنا ونتناول مشروبا ... تناولي كوبا من الحليب الرائب يا آنا، سيجعلك تشعرين بالارتياح.» «ليس لدي رغبة فيه يا إلمير. سآخذ صودا الشوكولاتة.» «سيجعلك هذا تشعرين بالإعياء، ولكن فلتتناوليه إن أردت.» جلست على الكرسي العديم الذراعين النحيل المحاط بالنيكل. وقف بجوارها. تركت نفسها لتتكئ قليلا عليه. «مشكلة العمال هي ...» كان يتحدث بصوت منخفض يتسم بالموضوعية. «مشكلة العمال هي أننا لا نعرف شيئا، لا نعرف كيف نأكل، لا نعرف كيف نعيش، لا نعرف كيف نحمي حقوقنا ... يا إلهي يا آنا، أريد أن أجعلك تفكرين في أشياء كتلك. ألا يمكنك أن تري أننا في خضم معركة تماما كما لو كنا في حرب؟» بالملعقة الطويلة اللزجة كانت آنا تلتقط قطعا من الآيس كريم من السائل الرغوي السميك في كأسها. •••
نظر جورج بالدوين إلى نفسه في المرآة وهو يغسل يديه في الحمام الصغير خلف مكتبه. كاد شعره، الذي ما زال ينمو بكثافة إلى موضع على جبهته، أن يصبح أبيض بالكامل. كان هناك خط عميق في كل جانب من جوانب فمه وفوق ذقنه. وأسفل عينيه الثاقبتين البراقتين كان جلده مترهلا ومحببا. عندما مسح يديه ببطء وإتقان أخرج علبة صغيرة من حبوب الاستركنين من الجيب العلوي لصدريته، وابتلع واحدة، ورجع إلى مكتبه وهو يشعر بالوخز المحفز المرتجى يسري في جسده. كان ثمة ساع طويل العنق متململ بجوار مكتبه ببطاقة في يده. «هناك سيدة تريد التحدث إليك يا سيدي.» «هل حجزت موعدا؟ اسأل الآنسة رانكي ... انتظر لحظة. أدخل السيدة مباشرة إلى هذا المكتب.» كانت البطاقة مكتوبا عليها نيللي لينيهان ماك نيل. كانت ترتدي ملابس باهظة الثمن بالكثير من الدانتيل في مقدمة معطفها الفرو الكبير. وكانت ترتدي حول رقبتها نظارة يدوية على سلسلة بنفسجية. «طلب مني جاس أن آتي لرؤيتك.» قالت وهو يشير إليها للجلوس على كرسي بجوار المكتب. «كيف يمكنني مساعدتك؟» كان قلبه ينبض بقوة لسبب ما.
نظرت إليه لوهلة عبر نظارتها اليدوية. «لديك من الصمود يا جورج ما يفوق جاس.» «ماذا؟» «أوه كل هذا ... أحاول إقناع جاس بالذهاب معي إلى الخارج لأخذ قسط من الراحة ... ماريانباد أو شيء من هذا القبيل ... لكنه يقول إنه مشغول للغاية لدرجة تمنعه من الذهاب لمكان آخر.»
قال بالدوين بابتسامة فاترة: «أظن أن هذا ينطبق علينا جميعا.»
ساد الصمت بينهما لوهلة، ثم نهضت نيللي ماك نيل على قدميها. «اسمع يا جورج، جاس منزعج للغاية من هذا ... أنت تعلم أنه يحب مساندة أصدقائه، وأن أصدقاءه يساندونه.» «لا أحد يستطيع القول إنني لم أسانده ... الأمر وما فيه أنني لست سياسيا، وبما أنني، ربما بدافع من الحماقة، سمحت لنفسي أن أترشح للمنصب ، لا بد لي من الترشح على أساس غير حزبي.» «هذه نصف الحقيقة يا جورج، وأنت تعرف ذلك.» «أخبريه أنني كنت دائما وسأظل صديقا جيدا له ... إنه يعرف ذلك جيدا. في هذه الحملة تحديدا عاهدت نفسي بمقاومة بعض الأمور التي سمح جاس لنفسه بالانخراط فيها.» «أنت متحدث جيد يا جورج بالدوين، ولطالما كنت كذلك.»
تورد وجه بالدوين. وقفا متيبسين جنبا إلى جنب عند باب المكتب. ظلت يده جاثمة فوق مقبض الباب كما لو كانت مشلولة. من المكاتب الخارجية سمع صوت الآلات الكاتبة وغيرها من الأصوات. ومن الخارج جاء النقر المتواصل الطويل لمثبتات الدعامات التي تستخدم في إنشاء المبنى الجديد.
وفي النهاية قال بمشقة: «أتمنى أن تكون عائلتك بخير.» «أوه أجل، كلهم بخير، شكرا ... وداعا.» غادرت المكان.
وقف بالدوين للحظة ينظر من النافذة إلى المبنى المقابل ذي النوافذ الرمادية. من السخف أن يدع الأمور تثيره هكذا. إنه بحاجة إلى الاسترخاء. أخذ قبعته ومعطفه من فوق المشجب خلف باب الحمام وخرج. قال لرجل ذي رأس أصلع مستدير كما لو كان شمامة يجلس منكبا على الصحف في مكتبة مرتفعة السقف، والتي كانت القاعة المركزية لمكتب المحاماة: «أحضر كل شيء موجودا على مكتبي ... سأذهب إلى الشمال الليلة.» «حسنا يا سيدي.»
عندما خرج إلى شارع برودواي، شعر وكأنه ولد صغير يلعب الهوكي. كان الوقت عصرا في شتاء براق الأفق تتخلله تصدعات متسارعة من ضوء الشمس والسحب. قفز في سيارة أجرة. اتجهت السيارة إلى الشمال واستلقى في مقعده غافيا. استيقظ في شارع 42. كان كل شيء مشوشا بمستويات متقاطعة من الألوان، والوجوه، والسيقان، ونوافذ المتاجر، وعربات الترام، والسيارات. جلس ويداه في قفازيه على ركبتيه، يخفق من الإثارة. توقف عند منزل نيفادا ودفع الأجرة. كان السائق زنجيا وابتسم ملء فمه مظهرا أسنانا عاجية عندما حصل على بقشيش 50 سنتا. لم يكن أي من المصعدين حاضرا؛ لذا ركض بالدوين بخفة على الدرج، معجبا بنفسه بعض الشيء. طرق باب شقة نيفادا. ولكن لم يجبه أحد. طرقه مرة أخرى. ففتحته بحذر. كان بإمكانه أن يرى شعرها الأشقر المجعد. مر بها داخلا الغرفة قبل أن تتمكن من إيقافه. كل ما كانت ترتديه هو كيمونو فوق قميص وردي.
قالت: «يا إلهي، ظننتك النادل.»
أمسك بها وقبلها. «لا أعرف السبب، ولكني أشعر أنني في الثالثة من عمري.» «تبدو وكأن الحرارة قد أصابتك بالجنون ... لا أحب أن تأتي لزيارتي دون اتصال هاتفي، أنت تعرف ذلك.» «لا تمانعي هذه المرة فقد نسيت ليس إلا.»
لمح بالدوين شيئا على الأريكة؛ فوجد نفسه يحدق في بنطال أزرق داكن مطوي بعناية. «كنت أشعر بالتعب الشديد في المكتب يا نيفادا. فظننت أنه بإمكاني أن آتي للتحدث إليك لأروح عن نفسي بعض الشيء.» «كنت أتدرب على الرقص قليلا على الفونوغراف فحسب.» «أجل، هذا مشوق للغاية ...» بدأ يمشي بخفة هنا وهناك. «حسنا، اسمعي يا نيفادا ... علينا أن نتحدث. لا يعنيني من في غرفة نومك.» نظرت فجأة في وجهه وجلست على الأريكة بجانب البنطال. «في الحقيقة لقد عرفت منذ فترة أنك وتوني هانتر على تواصل.» ضغطت على شفتيها وضمت ساقيها. «في الواقع كل هذه الأمور والهراء حول الذهاب إلى محلل نفسي مقابل 25 دولارا أمريكيا في الساعة مسل للغاية ... ولكن في هذه اللحظة فقط قررت أن أكتفي من كل ذلك. يكفي للغاية.»
تلعثمت ثم بدأت تقهقه فجأة: «أنت مجنون يا جورج.»
تابع بالدوين قائلا بصوت واضح وضوح أصوات المشتغلين بالقانون: «أقول لك ما سأفعل، سأرسل لك شيكا بقيمة 500 دولار؛ لأنك فتاة لطيفة وأنا معجب بك. وإيجار الشقة مدفوع حتى أول الشهر. هل يناسبك ذلك؟ ورجاء لا تتواصلي معي بأي شكل من الأشكال.»
كانت تتدحرج على الأريكة تقهقه غير قادرة على السيطرة على نفسها بجوار بنطال أزرق داكن مطوي بعناية. لوح لها بالدوين بقبعته وقفازه وتركها غالقا الباب برفق خلفه. بئس المصير، هكذا قال لنفسه وهو يغلق الباب بحذر خلفه.
في الشارع مرة أخرى بدأ يمشي مسرعا إلى شمال المدينة . شعر بالحماس وبرغبة في الثرثرة. فكر فيمن يمكنه أن يذهب لزيارته. ولكنه شعر بالإحباط عندما سرد أسماء أصدقائه. بدأ يشعر بالوحدة، بالهجر. أراد التحدث إلى امرأة، كي يجعلها تشعر بالأسى تجاه حياته العقيمة. ذهب إلى محل لبيع السجائر وبدأ يبحث في دليل الهاتف. شعر داخله بخفقان خافت عندما وجد حرف الهاء. وفي النهاية وجد الاسم هيرف، هيلينا أوجليثورب.
جلست نيفادا جونز طويلا على الأريكة وهي تقهقه بشكل هستيري. خرج توني هانتر أخيرا في قميصه وسرواله الداخلي وربطة عنقه الأنشوطية المربوطة بشكل ممتاز. «هل غادر؟»
زعقت: «أغادر؟ بالتأكيد غادر، غادر إلى الأبد. لقد رأى بنطالك اللعين.»
ترك نفسه ليسقط على كرسي. «يا إلهي، لو لم أكن أكثر شخص تعيس الحظ في العالم.»
جلست تهمهم ضاحكة والدموع تنهمر على وجهها، وقالت: «لماذا؟» «لا شيء يسير على ما يرام. ذلك يعني أنه لم يعد هناك حفلات نهارية.» «لقد عادت العروض إلى ثلاثة عروض في اليوم لنيفادا الصغيرة ... لا أبالي ... لم أحب مطلقا في أن أكون امرأة معولة.» «ولكنك لا تفكرين في مسيرتي المهنية ... النساء أنانيات للغاية. إذا لم تكوني قد قدتني إلى ...» «اخرس أيها الأحمق الصغير. ألا تظن أنني لا أعرف كل شيء عنك؟» وقفت على قدميها والكيمونو مشدود بقوة حولها.
كان توني يئن: «يا إلهي، كل ما كنت أحتاجه هو فرصة لإظهار ما يمكنني فعله، والآن لن أحصل عليها أبدا.» «بل ستحصل عليها بالتأكيد إذا فعلت ما أقوله لك. شرعت في أن أجعل منك رجلا أيها الطفل وسأحقق ذلك ... سنحصل على دور. سيمنحنا هرشبين الهرم فرصة، لقد كان مغرما بي بعض الشيء ... هيا الآن، سألكمك في فكك إن لم تتحرك. لنبدأ بالتفكير ... سنبدأ برقصة، حسنا ... ثم ستتظاهر برغبتك في اصطحابي ... وسأكون في انتظار عربة الترام ... حسنا ... وستقول مرحبا يا فتاتي وسأناديك بالضابط.» •••
سأل القياس الذي كان يرسم علامات على البنطال بالطباشير: «هل هذا الطول جيد يا سيدي؟»
نظر جيمس ميريفال لأسفل على الرأس الأصلع الهرم المائل إلى الخضار قليلا للقياس وإلى البنطال البني المجرجر حول قدميه. «أقصر قليلا ... أظنه أمرا قد عفا عليه الزمن بعض الشيء أن يكون البنطال طويلا أكثر من اللازم.» «عجبا، مرحبا يا ميريفال، لم أكن أعرف أنك تشتري ملابسك من بروكس أيضا. مرحى، أنا سعيد برؤيتك ...»
توقفت دماء ميريفال في عروقه. فقد وجد نفسه ينظر مباشرة في عيني جاك كونينجام الزرقاوين اللتين تشبهان عيون السكارى. عض شفتيه وحاول التحديق في وجهه ببرود دون أن ينبس.
صرخ جاك كونينجام: «يا إلهي القدير، هل تعلم ماذا فعلنا؟ لقد اشترينا البذلة نفسها ... أؤكد لك أنها نفسها تماما.»
كان ميريفال ينظر في ذهول من بنطال كونينجام البني إلى بنطاله، اللون نفسه، والخط الأحمر الصغير نفسه، والزركشة الخضراء الخافتة نفسها. «يا إلهي يا رجل، لا يمكن لصهرين مستقبليين أن يرتديا البذلة نفسها. سيظن الناس أنه زي موحد ... إنه أمر سخيف.» «حسنا، ما الذي سنفعل حيال ذلك؟» وجد ميريفال نفسه يقول بنبرة تذمر. «علينا أن نجري قرعة ونرى من يحصل عليها، هكذا ببساطة ... هلا تقرضني ربع دولار من فضلك؟» استدار كونينجام إلى بائعه. «حسنا ضربة قرعة واحدة ... فلتختر صورة أو كتابة.»
قال ميريفال تلقائيا: «صورة.»
صرخ من وراء ستائر المقصورة: «البذلة البنية لك ... الآن يجب أن أختار بذلة أخرى ... يا إلهي، سعيد أننا التقينا. اسمع، لم لا تتناول العشاء معي الليلة في نادي سالماجوندي؟ ... سأتناول الطعام مع الرجل الوحيد في العالم الأكثر جنونا مني بالطائرات المائية ... إنه الرجل الهرم بيركنز، أنت تعرفه، إنه أحد نواب رئيس البنك الذي تعمل فيه ... واسمع، عندما ترى مايسي أخبرها بأني قادم لرؤيتها غدا. فقد منعتني سلسلة غير عادية من الأحداث من التواصل معها ... سلسلة من الأحداث المؤسفة للغاية التي استغرقت وقتي كله حتى هذه اللحظة ... سنتحدث عنها لاحقا.»
تنحنح ميريفال. وقال بجفاء: «جيد جدا.»
قال القياس وهو يربت مرة أخيرة على ردفي ميريفال: «حسنا يا سيدي.» عاد إلى المقصورة ليرتدي ملابسه.
صاح كونينجام: «حسنا أيها الهرم، ينبغي أن أذهب لأنتقي بذلة أخرى ... سأنتظر مجيئك في السابعة. سأطلب لك كوكتيل جاك روز.»
كانت يدا ميريفال ترتجفان عندما ربط حزامه. بيركنز، جاك كونينجام، النذل اللعين، الطائرات المائية ، جاك كونينجام، سالماجوندي، بيركنز. ذهب إلى كابينة الهاتف في ركن المتجر واتصل بوالدته. «مرحبا يا أمي، يؤسفني أنني لن أستطيع القدوم على العشاء ... سأتناول العشاء مع راندولف بيركنز في نادي سالماجوندي ... نعم إنه أمر ممتع للغاية ... أوه حسنا، لقد كنت أنا وهو دائما صديقين مقربين للغاية ... أوه نعم، من الضروري الوقوف بجوار الرجال في المناصب العليا. ولقد رأيت جاك كونينجام. واجهته بالأمر مباشرة رجلا لرجل وقد كان محرجا للغاية. وعد بشرح كامل للموقف في غضون 24 ساعة ... كلا، حافظت على رباطة جأشي جيدا. شعرت أنني مدين بذلك لمايسي. أؤكد لك أنني أظن الرجل نذلا ولكن حتى يثبت العكس ... حسنا، طابت ليلتك عزيزتي في حال تأخرت. أوه لا من فضلك، لا تنتظري. وأخبري مايسي ألا تقلق؛ سأتمكن من الحصول لها على كامل التفاصيل. طابت ليلتك يا أمي.» •••
جلستا إلى طاولة صغيرة في آخر صالة الشاي ذات الإضاءة الخافتة. قطع ظل المصباح الجزء العلوي من وجهيهما. كانت إلين ترتدي فستانا بلون الطاووس الأزرق الفاتح وقبعة زرقاء صغيرة بها قطعة خضراء. وكان لوجه روث برين مظهر متعب مترهل أسفل مستحضرات تجميل إخفاء العيوب.
كانت تقول بصوت يئن: «إلين، يجب أن تأتي. كاسي ستكون هناك وأوجليثورب وكل المجموعة القديمة ... بعد كل شيء الآن وأنت تحققين هذا النجاح في العمل التحريري لا داعي لهجر أصدقائك القدامى تماما، أليس كذلك؟ أنت لا تعرفين كم نتحدث ونتساءل عنك.» «لا ولكن يا روث، الأمر فحسب هو أنني أكره الحفلات الكبيرة. أظن أنه لا بد وأنني أتقدم في العمر. حسنا، سآتي لبعض الوقت.»
وضعت روث الشطيرة التي كانت تقضمها واقتربت من يد إلين وربتت عليها. «تلك هي عضوة فرقتنا الصغيرة ... بالطبع كنت أعرف طوال الوقت أنك ستأتين.» «ولكنك يا روث لم تخبريني قط بما حدث لشركة سلسلة المسرحيات القصيرة الجوالة في الصيف الماضي ...»
انفجرت روث قائلة: «يا إلهي. لقد كان ذلك فظيعا. بالطبع كان مضحكا، مضحكا للغاية. حسنا، أول شيء حدث هو أن زوج إيزابيل كلايد رالف نولتون الذي كان يدير الشركة كان مدمنا على الشراب ... ومن ثم لم تكن إيزابيل الجميلة تسمح لأحد بالصعود على خشبة المسرح ما لم يكن يتصرف كالدمية؛ خشية ألا يعرف السذج النجم ... أوه، لا أستطيع أن أستمر في الحديث عن ذلك ... لم يعد الأمر يضحكني، بل أصبح مروعا ... أوه يا إلين، أنا محبطة للغاية. إنني أتقدم في العمر يا عزيزتي.» أجهشت فجأة بالبكاء.
قالت إلين بصوت أجش بعض الشيء: «أوه يا روث، كفى من فضلك.» ثم ضحكت. «في نهاية المطاف لن يعود العمر بنا إلى الوراء بأي حال من الأحوال، أليس كذلك؟» «أنت لا تفهمين يا عزيزتي ... لن تفهمي أبدا.»
جلستا طويلا دون أن تنبسا بكلمة، وسمعتا ندفات من حديث بصوت منخفض من أركان أخرى من صالة الشاي المعتمة. جلبت لهما النادلة ذات الشعر الشاحب اللون طلبين من سلطة الفاكهة.
قالت روث أخيرا: «يا إلهي، لا بد أن الوقت قد تأخر.» «إنها لا تزال الثامنة والنصف ... لا نريد الذهاب إلى هذه الحفلة في وقت مبكر للغاية.» «بالمناسبة ... كيف حال جيمي هيرف. لم أره منذ زمن طويل.» «جيمبس بخير ... لقد سئم العمل الصحفي للغاية. أتمنى أن يحصل على شيء يستمتع به حقا.» «سيظل دائما من ذلك النوع المتململ. أوه يا إلين، لقد سعدت للغاية عندما سمعت بزواجك ... لقد تصرفت كحمقاء لعينة. فبكيت وبكيت ... والآن مع مارتن وكل شيء تريدينه بحوزتك لا بد أنك في غاية السعادة.» «أوه، علاقتنا على ما يرام ... مارتن يتعلم، يبدو أن نيويورك تناسبه. لقد كان هادئا للغاية وبدينا لفترة طويلة، وكنا خائفين للغاية من أن نكون قد أنجبنا معتوها. أتعلمين يا روث، لن أنجب طفلا آخر أبدا ... لقد كنت خائفة للغاية أن يصبح مشوها أو شيئا من هذا القبيل ... يصيبني التفكير في ذلك بالإعياء.» «أوه ولكن لا بد أن الأمر رائع على الرغم من ذلك.»
قرعتا جرسا أسفل لوحة نحاسية صغيرة كتب عليها: «ترجمة هيستر فورهيس للرقصة». صعدتا ثلاثة طوابق فوق درج مصرصر لمع مؤخرا. عند الباب الذي يفتح على غرفة مليئة بالناس، التقتا بكاساندرا ويلكنز التي كانت ترتدي سترة يونانية وإكليلا من براعم الورد الساتانية حول رأسها، وتمسك بمصفار خشبي مذهب في يدها.
صرخت وألقت بذراعيها حولهما دفعة واحدة: «أوه يا حبيبتي. قالت هيستر إنكما لن تأتيا، لكنني علمت أنكما ستأتيان ... تعاليا هيا واخلعا معطفيكما، سنبدأ ببعض الإيقاعات الكلاسيكية.» تبعتاها عبر غرفة ذكية الرائحة مضاءة بالشموع ومليئة بالرجال والنساء في أزياء متهدلة. «ولكنك يا عزيزتي لم تخبرينا أنها ستكون حفلة تنكرية.» «أوه نعم، ألا يمكنكما أن تريا أن كل شيء ذو طابع يوناني، يوناني تماما ... ها هي هيستر ... ها هما يا عزيزتي ... أنت تعرفين روث يا هيستر ... وهذه هي إلين أوجليثورب.» «أدعو نفسي الآن السيدة هيرف يا كاسي.» «أوه، أستميحك عذرا فمن الصعب للغاية مواكبة أخبارك ... لقد وصلتا في الوقت المناسب تماما ... سترقص هيستر رقصة شرقية تسمى إيقاعات ألف ليلة وليلة ... أوه، إنها جميلة جدا.»
عندما خرجت إلين من غرفة النوم حيث تركت معطفها، بادرها بالكلام شخص طويل بغطاء رأس مصري وبحاجبين أصهبين محدبين. «اسمحوا لي أن أحيي هيلينا هيرف، المحررة البارزة في صحيفة «مانرز»، تلك الصحيفة التي توصل أخبار فندق الريتز إلى أكثر المنازل تواضعا ... أليس هذا صحيحا؟» «إنك لمشاكس مروع يا جوجو ... أنا سعيدة للغاية برؤيتك.» «لنذهب ونجلس في ركن ونتحدث، أوه، أيتها السيدة الوحيدة على الإطلاق التي أحببتها ...» «دعنا من هذا ... لا يعجبني المكان هنا كثيرا.» «ويا عزيزتي، هل سمعت أن توني هانتر قد حل مشكلته على يد محلل نفسي، وأنه يمثل في عرض مسرحي متنوع مع امرأة تدعى كاليفورنيا جونز.» «من الأفضل أن تنتبه يا جوجو.»
جلسا على أريكة في استراحة بين النوافذ الناتئة من السقف. وتمكنت بطرف عينيها من رؤية فتاة ترقص بغطاء رأس من الحرير الأخضر. كان الفونوغراف يصدع بسيمفونية سيزار فرانك. «يجب ألا تفوتنا رقصة كاسي. ستشعر الفتاة المسكينة بالإهانة الشديدة.» «أخبرني عن نفسك يا جوجو ، كيف حالك؟»
هز رأسه ولوح بعيدا بذراعه المضموم. «آه، لنجلس على الأرض ونرو قصصا حزينة عن موت الملوك.» «أوه يا جوجو، لقد سئمت من هذا النوع من الأشياء ... كل شيء سخيف للغاية ومبتذل ... ليتهم لم يجعلوني أخلع قبعتي.» «كان ذلك لكي أنظر إلى غابات شعرك المحرمة.» «أوه يا جوجو، فلتتعقل.» «كيف حال زوجك يا إلين، أم من الأفضل أن أقول يا هيلينا؟» «أوه إنه بخير.» «لا تبدين متحمسة بشدة.» «ولكن مارتن بخير. لديه شعر أسود وعينان بنيتان ووجنتاه ستصبحان متوردتين. إنه حقا لطيف للغاية.» «يا عزيزتي كفاك عرضا لنعمة الأمومة ... ستخبرينني بعد ذلك أنك سرت في موكب للأطفال.»
ضحكت. «من الممتع للغاية رؤيتك مرة أخرى يا جوجو.» «لم أنه تعاليمي الكنسية بعد يا عزيزتي ... لقد رأيتك في غرفة الطعام البيضوية ذات يوم مع رجل ذي مظهر مميز للغاية بملامح حادة وشعر أشيب.» «لا بد أنه كان جورج بالدوين. عجبا، لقد كنت تعرفه في الأيام الخوالي.» «بالطبع، بالطبع. كم تغير كثيرا! أقر أن مظهره أصبح أكثر إثارة بكثير عما كان عليه من قبل ... أقر إنه لمكان غريب لرؤية زوجة أحد دعاة السلام البلشفي والمحرضين على الحرب العالمية الأولى تتناول غداءها فيه.»
جعدت أنفها لأعلى، وقالت: «جيمبس ليس هكذا بالضبط. أتمنى بدرجة ما أو بأخرى لو كان كذلك حقا ... لقد سئمت نوعا ما كذلك من كل هذه الأشياء.» «أشك في ذلك يا عزيزتي.» كانت كايسي تمر بسرعة ويبدو عليها الإحراج. «أوه، تعالي وساعديني ... جوجو يضايقني بشدة.» «حسنا، سأحاول أن أجلس قليلا؛ فرقصتي التالية ... سيقرأ السيد أوجليثورب علي ترجمته لأغاني بيليتيس لأرقص عليها.»
ترددت نظرات إلين بينهما؛ فعوج أوجليثورب حاجبيه وأومأ برأسه.
ثم جلست إلين وحدها كثيرا تنظر في أنحاء الغرفة المليئة بالراقصين والمثرثرين عبر غشاوة باهتة من الملل.
كانت الموسيقى الخارجة من الفونوغراف تركية. خرجت هيستر فورهيس، امرأة نحيلة بشعر محنى كالممسحة وقصير إلى أذنيها، تحمل أمامها قدرا من البخور الفواح ويسبقها شابان يبسطان سجادة عند قدومها. كانت ترتدي سروالا حريريا وحزاما معدنيا متلألئا وحمالة صدر. كان الجميع يصفقون ويقولون: «كم هو رائع، كم هو مذهل»، عندما جاءت من غرفة أخرى ثلاث صرخات تمزق أطلقتها امرأة. نهض الجميع واقفين. ظهر رجل بدين يرتدي قبعة دربية عند المدخل. «كل شيء على ما يرام أيتها الفتيات الصغيرات، فلتتجهن مباشرة إلى الغرفة الخلفية. والرجال يبقون هنا.» «من أنت على أي حال؟» «ليس مهما من أنا، افعل ما أقوله.» كان وجه الرجل أحمر كالبنجر أسفل القبعة الدربية. «إنه محقق.» «إنه أمر شنيع. دعوه يظهر شارته.» «هذا سطو.» «إنها غارة.»
امتلأت الغرفة فجأة بالمحققين. وقفوا أمام النوافذ. ووقف رجل يرتدي قبعة ذات نقشة مربعة وله وجه ذو نتوء كالقرع أمام المدفأة. كانوا يدفعون النساء بقوة إلى داخل الغرفة الخلفية. وجمع الرجال في مجموعة صغيرة بالقرب من الباب؛ حيث كان المحققون يأخذون أسماءهم. كانت إلين لا تزال جالسة على الأريكة. سمعت أحدا يقول: «... جرى إيصال الشكوى هاتفيا إلى المقر الرئيسي.» ثم لاحظت وجود هاتف على المنضدة الصغيرة بجانب الأريكة حيث كانت جالسة. التقطته وضغطت بهدوء على أحد الأرقام. «مرحبا، هل هذا هو مكتب المدعي العام؟ ... أريد التحدث إلى السيد بالدوين من فضلك ... جورج ... من حسن حظي أنني كنت أعرف مكانك. هل المدعي العام موجود؟ ذلك جيد ... لا، أخبره بالأمر. لقد وقع خطأ فادح. أنا عند هيستر فورهيس، تعلم أن لديها استوديو للرقص. كانت تقدم بعض الرقصات لبعض الأصدقاء وداهمت الشرطة المكان بالخطأ ...»
كان الرجل ذو القبعة الدربية يقف خلفها. «حسنا، لن يجدي الاتصال الهاتفي نفعا ... اذهبي على الفور إلى الغرفة الأخرى.» «إن معي مكتب المدعي العام على الخط. تحدث إليه ... مرحبا هل هذا السيد وينثروب؟ ... نعم، أوه ... كيف حالك؟ هلا تحدثت إلى هذا الرجل رجاء؟» أعطت الهاتف للمحقق واتجهت إلى وسط الغرفة. أتمنى لو لم أخلع قبعتي، هكذا كانت تفكر.
جاء من الغرفة الأخرى صوت نحيب وصوت هيستر فورهيس المتكلف صارخا: «إنه خطأ فادح ... لن أسمح بإهانتي هكذا.»
وضع المحقق سماعة الهاتف. ثم ذهب إلى إلين. «أريد أن أعتذر يا آنسة ... لقد تصرفنا بناء على معلومات غير كافية. سأسحب رجالي على الفور.» «يجدر بك أن تعتذر للسيدة فورهيس ... فهذا هو الاستوديو الخاص بها.»
شرع المحقق في الحديث بصوت عال ومرح: «حسنا سيداتي وسادتي، لقد ارتكبنا خطأ يسيرا ونحن آسفون للغاية ... من الوارد حدوث أخطاء ...»
تسللت إلين إلى الغرفة الجانبية لتجلب قبعتها ومعطفها. وقفت لبعض الوقت أمام المرآة لتضع البودرة على أنفها. عندما خرجت إلى الاستوديو مرة أخرى، كان الجميع يتحدثون معا في الوقت نفسه. وقف الرجال والنساء في الأرجاء بملاءات وأردية حمام ملفوفة فوق ملابس رقصهم الهزيلة. كان المحققون قد تلاشوا فجأة كما أتوا. كان أوجليثورب يتحدث بصوت عال ونبرة استعطاف في وسط مجموعة من الشبان.
وكان يصرخ، أحمر الوجه، ملوحا بغطاء رأسه بإحدى يديه: «الأنذال يهاجمون النساء. لحسن الحظ أنني تمكنت من التحكم في نفسي وإلا كنت قد ارتكبت فعلا أندم عليه ليوم مماتي ... لم يكن ذلك ليحدث لولا قدر كبير من ضبط النفس ...»
تمكنت إلين من التسلل خارجة، وركضت نازلة الدرج، وخرجت إلى الشوارع الممطرة. أشارت لسيارة أجرة وذهبت إلى المنزل. عندما وضعت أغراضها، اتصلت بجورج بالدوين في منزله. «مرحبا يا جورج، أنا آسفة للغاية أنني اضطررت لأزعجك أنت والسيد وينثروب. حسنا، إذا لم تكن قد قلت لي أثناء تناولنا الغداء إنك ستكون هناك طوال المساء لكانوا على الأرجح قد كومونا من عربة السجناء على محكمة جيفرسون ماركت ... بالطبع كان ذلك مضحكا. سأحكي لك وقتا ما، ولكني قد سئمت كل ذلك ... أوه كل شيء، كهذا الرقص الجمالي، والأدب، والراديكالية والتحليل النفسي ... أظن الجرعة زائدة للغاية ... نعم أظن الأمر كذلك يا جورج ... أظن أنني أنضج.» •••
كانت الليلة كشقفة كبيرة من برودة سوداء طاحنة. ورائحة المطابع لا تزال في أنفه، وسقسقة الآلات الكاتبة لا تزال في أذنيه، وقف جيمي هيرف في ميدان دار البلدية ويداه في جيبيه يشاهد الرجال ذوي الهيئة الرثة بقلنسواتهم وأغطية آذانهم المنسدلة على وجوههم وأعناقهم الحمراء بلون اللحم النيئ وهم يجرفون الثلوج. كبارا وصغارا ، كانت وجوههم باللون نفسه، وكانت ملابسهم باللون نفسه. قطعت رياح كالموس أذنيه وأصابته بالألم في جبهته بين عينيه.
قال شاب بوجه أبيض بياض الحليب جاء إليه ممتلئا بالحيوية وأشار إلى كومة الثلج: «مرحبا يا هيرف، ما رأيك، هل ستقبل الوظيفة؟» «لم لا يا دان؟ عجبا، ألن يكون هذا أفضل من قضاء حياتك كلها في التعمق في شئون الآخرين حتى لا تصبح سوى كدكتوجراف متنقل لعين.» «ستكون وظيفة جيدة في الصيف حقا ... هل ستأخذ طريق ويست سايد؟» «سأتمشى ... لقد أصابني التوتر الشديد الليلة.» «يا إلهي، ستتجمد حتى الموت يا رجل.» «لا يعنيني إن حدث ذلك ... تصل إلى مرحلة ليس لك فيها حياة خاصة؛ فأنت مجرد آلة كتابة أوتوماتيكية.» «حسنا، أتمنى أن أتخلص قليلا من حياتي الخاصة ... حسنا، طابت ليلتك. أتمنى أن تحصل على القليل من الحياة الخاصة يا جيمي.»
أدار جيمي هيرف ظهره إلى جرافات الثلج ضاحكا، وبدأ في السير في برودواي، مائلا في الرياح وذقنه مدفون في ياقة معطفه. في شارع هيوستن نظر في ساعة يده. إنها الخامسة. يا إلهي، لقد تأخر اليوم. أليس ثمة مكان يمكنه أن يتناول فيه شرابا. هكذا أن قائلا لنفسه عندما تذكر الكتل الجليدية التي لا يزال عليه تجاوزها مشيا قبل أن يتمكن من الوصول إلى غرفته. وكان يتوقف بين الحين والآخر ليربت على أذنيه كي يبعث فيهما بعض الحيوية. عاد في نهاية المطاف إلى غرفته، فأشعل موقد الغاز ومال عليه شاعرا بالوخز. كانت غرفته مظلمة ومربعة وصغيرة على الجانب الجنوبي من ميدان واشنطن. ولم يكن فرشها سوى سرير، وكرسي، وطاولة مكدسة بالكتب، وموقد غاز. عندما بدأ شعوره بالبرد يتضاءل قليلا، جلب زجاجة من شراب الروم موجودة أسفل السرير مغطاة بسلة. وضع بعض الماء لتسخينه في كوب من الصفيح على موقد الغاز، ثم بدأ في احتساء الروم الساخن والماء. كانت كل أشكال الكروب تتحرر في داخله. فشعر وكأنه الرجل في تلك القصة الخيالية حيث الحزام الحديدي حول قلبه. كان الحزام الحديدي يتكسر.
أنهى تناول الروم . وكانت الغرفة من حين لآخر تشرع في الدوران من حوله في جدية وانتظام. ثم قال فجأة بصوت عال: «يجب أن أتحدث إليها ... يجب أن أتحدث إليها.» وضع قبعته على رأسه وسحب معطفه. كان البرد في الخارج منعشا. مرت ست عربات حليب على التوالي مجلجلة.
في شارع ويست 12، كان قطان أسودان يتطاردان. وامتلأ المكان بأكمله بموائهما الجنوني. شعر أن شيئا ما سوف ينفجر في رأسه، أنه هو نفسه سينطلق فجأة في الشارع مطلقا مواء مخيفا.
وقف يرتجف في الممر المظلم، قارعا الجرس الذي يحمل اسم هيرف مرارا وتكرارا. ثم قرع الباب بأقوى ما لديه. جاءت إلين إلى الباب في رداء أخضر. «ما الأمر يا جيمبس؟ أليس معك مفتاح؟» كان وجهها ناعما من أثر النوم؛ وكانت ثمة رائحة لطيفة وباعثة على الراحة والسعادة من أثر النوم حولها. تحدثت بأسنان مطبقة وأنفاس لاهثة. «إيلي، يجب أن أتحدث معك.» «هل أنت مخمور يا جيمبس؟» «حسنا، أنا أعرف جيدا ما أقول.» «أشعر بالنعاس الشديد.»
تبعها إلى غرفة نومها. ركلت عنها شبشبها وعادت إلى السرير، وجلست تنظر إليه بعينين مثقلتين بالنوم. «لا تتحدث بصوت عال من أجل مارتن.» «لا أعرف يا إيلي لماذا يصعب علي دائما التحدث بصراحة عن أي شيء ... يجب دائما أن أكون سكران كي أتمكن من قول ما أريد ... اسمعي، هل لا زلت تحبينني؟» «أنت تعرف أنني مغرمة بك بشدة وسأظل كذلك ...»
قاطعها بحدة: «أعني الحب، أنت تعرفين ما أعنيه، مهما يكن ...» «أظن أنني لا أحب أحدا لفترة طويلة إلا إذا مات ... إنني شخص فظيع. لا فائدة من الحديث عن ذلك.» «كنت أعرف. كنت تعرفين وأنا كنت أعرف. يا إلهي، الأمور سيئة للغاية معي يا إيلي.»
جلست وركبتاها محدبتان وفوقهما يداها القابضتان، وكانت تنظر إليه بعينين واسعتين. «هل أنت مفتون بي حقا يا جيمبس؟» «اسمعي، دعينا نحصل على الطلاق وننته من ذلك.» «لا تكن متعجلا هكذا يا جيمبس ... وهناك مارتن. ماذا عنه؟» «يمكنني أن أجمع له ما يكفي من المال من حين لآخر ، ذلك الطفل الصغير المسكين.» «أنا أكسب أكثر منك يا جيمبس ... يجب ألا تفعل ذلك بعد.» «أعرف. أعرف . ألا أعرف ذلك؟»
أخذا يتبادلان النظرات من دون أن ينبسا. كادت عيونهما تحترق من شدة نظر كل منهما إلى الآخر. باغتت جيمي رغبة ملحة في أن يحل عليه النعاس، ألا يتذكر أي شيء، أن يجعل رأسه يغوص في السواد، كما كان في حضن أمه عندما كان طفلا. «حسنا سأذهب إلى المنزل.» أطلق ضحكة جافة. «لم يكن في ظننا أن كل شيء سيتفجر هكذا، أليس كذلك؟»
أنت وسط تثاؤبها قائلة: «طابت ليلتك يا جيمبس. ولكن الأمر لم ينته ... لولا أنني أشعر بالنعاس الشديد فحسب ... هلا أطفأت الأنوار؟»
تحسس طريقه في الظلام نحو الباب. كان الصباح البارد برودة قطبية تظهر سماؤه رمادية في ضوء الفجر. أسرع عائدا إلى غرفته. أراد أن يدخل إلى السرير ويغفو في النوم قبل ظهور ضوء النهار. •••
كانت الغرفة طويلة منخفضة وبها طاولات طويلة في المنتصف متكومة عليها أقمشة من الحرير والكريب بالألوان البني، والسلمون الوردي، والأخضر الزمردي. وثمة رائحة الخيوط المقصوصة ومواد الملابس. منحنية جميعها على الطاولة كانت رءوس الفتيات الحائكات كستنائية، وشقراء، وسوداء، وبنية. وكانت صبية المهمات يندفعون بحوامل دوارة من الفساتين المعلقة ذهابا وإيابا في الممرات. يرن الجرس وتنتشر في الغرفة الضوضاء والحديث المصرصر كبيت للطيور.
تنهض آنا وتمدد ذراعيها. تقول للفتاة بجوارها: «يا إلهي، رأسي يؤلمني.» «هل ظللت مستيقظة ليلة أمس؟»
تومئ برأسها. «يجب أن تتركي ذلك العمل يا عزيزتي؛ سيفسد مظهرك. لا تستطيع الفتاة أن تحترق كالشمعة من كلا الطرفين كما يستطيع الرجال.» الفتاة الأخرى نحيفة وشقراء وكانت ذات أنف مائل. تضع ذراعها حول خصر آنا. «يا إلهي، أتمنى لو أكتسب بعضا من وزنك.»
تقول آنا: «أتمنى لك ذلك. لا أهتم بما أتناوله، فيحولني ذلك إلى سمينة.» «ما زلت غير سمينة للغاية ... أنت فقط ممتلئة الجسم لذا يحبون عناقك. حاولي ارتداء ملابس صبيانية وأؤكد لك أنك ستبدين في مظهر جيد.» «يقول حبيبي إنه يحب أن تكون الفتاة ممتلئة القوام.»
شقتا طريقهما على الدرج عبر مجموعة من الفتيات يستمعن إلى فتاة صغيرة صهباء تتحدث بسرعة وتفتح فمها على مصراعيه وتقلب عينيها. «... كانت تعيش في المبنى التالي مباشرة في 2230 جادة كاميرون، وقد ذهبت إلى ميدان سباق الخيل مع بعض صديقاتها، وعندما وصلن إلى المنزل كان الوقت متأخرا وتركنها تذهب إلى المنزل وحدها، في جادة كاميرون، أترين؟ وفي الصباح التالي عندما بدأ أهلها البحث عنها وجدوها خلف لافتة نعناع سبيرمينت في باحة خلفية.» «هل ماتت؟» «من المؤكد أنها قد ماتت ... لقد فعل بها أحد الزنوج شيئا فظيعا ثم خنقها ... شعرت بالفزع. لقد كنت أذهب إلى المدرسة معها. ولم تتأخر فتاة في جادة كاميرون بعد حلول الظلام؛ إنهن في غاية الفزع.» «بالطبع رأيت كل شيء عن الحادث في الصحيفة ليلة أمس. تخيلي العيش في المربع السكني التالي لها مباشرة.» •••
صرخت روزي وهي تجلس بجوارها في سيارة الأجرة: «هل رأيتني وأنا ألمس ظهر ذلك الأحدب؟» «أتقصدين في ردهة المسرح؟» شد بنطاله الذي كان ضيقا على ركبتيه. «سيجلب لنا ذلك الحظ يا جيك. لم أر قط ظهر أحدب يفشل في جلب الحظ ... إذا لمسته على حدبته ... أوه، أشعر بالإعياء من السرعة التي تسير بها سيارات الأجرة هذه.» اندفعا للأمام على أثر التوقف المفاجئ لسيارة الأجرة. «يا إلهي، لقد كدنا ندهس صبيا.» ربت جيك سيلفرمان على ركبتها. «أيها الفتى الصغير المسكين، هل أنت بخير؟» أثناء ركوبهما السيارة ذاهبين إلى الفندق كانت ترتجف ودفنت وجهها في ياقة معطفها. عندما ذهبا إلى مكتب الاستقبال ليحصلا على المفتاح، قال الموظف لسيلفرمان: «هناك رجل ينتظر أن يراك سيدي.» جاء إليه رجل غليظ البنية مخرجا سيجارا من فمه. «هلا اتخذت خطوة في هذا الطريق لبعض الوقت يا سيد سيلفرمان.» ظنت روزي أنها ستفقد وعيها. وقفت ثابتة تماما، مجمدة، ووجنتاها غاطستان عميقا في ياقة معطفها المصنوعة من الفرو.
جلسا في كرسيين عميقين وتهامسا مقربين رأسيهما. خطوة خطوة، اقتربت تستمع. «مذكرة ... وزارة العدالة ... استخدام البريد للاحتيال ...» لم تستطع سماع ما قاله جيك بين هذه العبارات. ظل يومئ برأسه كما لو كان موافقا. ثم فجأة تحدث بسلاسة مبتسما . «حسنا، لقد استمعت لموقفك يا سيد روجرز ... وها هو رأيي. إذا اعتقلتني الآن فسأفلس ويفلس عدد كبير من الذين وضعوا أموالهم في هذا المشروع ... يمكنني في غضون أسبوع تصفية الأمر بأكمله مع تحقيق الربح ... إنني يا سيد روجرز رجل أساءت إلي أيما إساءة حماقة الوثوق فيمن لا يستحقون الثقة.» «لا أستطيع المساعدة في ذلك ... واجبي هو تنفيذ المذكرة ... يؤسفني أنني سأضطر لتفتيش غرفتك ... كما ترى فإن أمامنا العديد من الأغراض الصغيرة ...» نفض الرجل الرماد من سيجاره وبدأ في القراءة بصوت رتيب. «جيكوب سيلفرمان، الاسم المستعار إدوارد فافيرشام، سيميون جيه أربوثنوت، جاك هينكلي، جيه جولد ... أوه، لدينا قائمة صغيرة جيدة ... لقد أجرينا بعض العمل الجيد جدا في قضيتك، لو كان لي أن أقول ما لا ينبغي قوله.»
نهضا واقفين. هز الرجل ذو السيجار رأسه باتجاه رجل نحيف يرتدي قبعة جلس يقرأ صحيفة في الجانب الآخر من الردهة.
سار سيلفرمان إلى مكتب الاستقبال. وقال للموظف: «لقد استدعوني في العمل. هلا جهزت لي فاتورتي من فضلك؟ ستشغل السيدة سيلفرمان الغرفة لبضعة أيام.»
لم يكن بوسع روزي أن تنطق بكلمة. تبعت الرجال الثلاثة داخلين إلى المصعد. قال المحقق النحيف وهو يسحب حافة قبعته: «إننا آسفون لاضطرارنا لفعل ذلك يا سيدتي.» فتح لهم سيلفرمان باب الغرفة وأغلقه خلفه بعناية. «أشكر تفهمكما أيها السيدان ... زوجتي تشكركما.» جلست روزي على كرسي مستقيم في أحد أركان الغرفة. كانت تعض لسانها بقوة أكثر فأكثر محاولة منع شفتيها من الارتجاف. «نحن ندرك يا سيد سيلفرمان أن هذه ليست قضية جنائية عادية.» «ألن تتناولا شرابا أيها السيدان؟»
هزا رأسيهما. كان الرجل الغليظ البنية يشعل سيجارا جديدا.
قال للرجل النحيل: «حسنا يا مايك ابحث في الأدراج والخزانة.» «هل هذا عادي؟» «إذا كان هذا عاديا، لكنا قد وضعنا الأصفاد على يديك واعتبرنا هذه السيدة مشاركة في الجريمة.»
جلست روزي بيديها المتجمدتين المشبكتين بين ركبتيها تؤرجح جسدها من جانب إلى آخر. كانت عيناها مغمضتين. وبينما كان المحققان يفتشان في الخزانة، انتهز سيلفرمان الفرصة ليضع يده على كتفها. ففتحت عينيها. «في اللحظة التي يقبض علي فيها المحققان اللعينان اتصلي بشاتز وأخبريه بكل شيء. توصلي إليه ولو تطلب ذلك أن توقظي الجميع في نيويورك.» هكذا تحدث بصوت منخفض وبسرعة وشفتاه بالكاد تتحركان.
ما لبث أن رحل يتبعه المحققان ومعهما حقيبة مليئة بالخطابات. كانت قبلته لا يزال أثرها رطبا على شفتيها. نظرت في ذهول في أنحاء الغرفة الفارغة الهادئة الموحشة. لاحظت بعض الكتابة على دفتر المسودة البنفسجي الفاتح على المكتب. كان خط يده، وكان قد كتب بخربشة سريعة: ارهني كل شيء، ارحلي؛ إنك فتاة جيدة. بدأت الدموع تجري على وجنتيها. وجلست كثيرا ورأسها هاو تقبل الكلمات المكتوبة بالقلم الرصاص في دفتر المسودة.
الفصل الرابع
ناطحة السحاب
توقف الشاب المبتور الساقين متيبسا في منتصف الرصيف الجنوبي لشارع 14. يرتدي سترة وقبعة زرقاوين محوكتين. حدقت عيناه لأعلى متسعتين حتى ملأتا وجهه الأبيض بياض الورق. ويندفع عبر السماء منطاد، متوهج كسيجار ملفوف بورق القصدير غمر في الارتفاع فيستحث بلطف السماء التي غسلتها الأمطار والسحب الناعمة. توقف الشاب المبتور الساقين متيبسا مستندا على ذراعيه في منتصف الرصيف الجنوبي لشارع 14. وسط السيقان المسرعة الخطى، والسيقان الهزيلة، والسيقان المتمايلة، والسيقان في التنانير والبناطيل والسراويل القصيرة، توقف ساكنا تماما، مستندا على ذراعيه، ناظرا لأعلى إلى المنطاد.
خرج جيمي هيرف، وقد أصبح بلا عمل، من مبنى البوليتزر. وقف بجانب كومة من الصحف الوردية على الرصيف يأخذ أنفاسا عميقة، ناظرا لأعلى إلى البرج المتلألئ لمبنى وول وورث. كان اليوم مشمسا، وكانت السماء زرقاء بلون بيض أبو الحناء. استدار شمالا وبدأ في السير إلى شمال المدينة. عندما ابتعد عن مبنى وول وورث انسحب البرج كمنظار. سار شمالا عبر المدينة ذات النوافذ اللامعة، عبر المدينة ذات اللافتات المختلطة الأبجديات، عبر المدينة ذات اللافتات المذهبة الأحرف.
ربيع غني بالجلوتين ... غني بالوفرة الذهبية، بهجة في كل قضمة، «نحن الأصل»، ربيع غني بالجلوتين. لا أحد يستطيع شراء خبز أفضل من «الأمير ألبيرت». الفولاذ المطاوع، المونل، النحاس، النيكل، الحديد المطاوع. «العالم كله يحب الجمال الطبيعي». «صفقة الحب»، تلك البذلة في محلات جامبيل الأفضل قيمة في المدينة. احتفظي ببشرة كبشرة تلميذات المدارس ... «جو كيس»، بدء تشغيل السيارات، الأنوار، اضطرام المحركات، المولدات.
كل شيء جعله يغرغر بضحكات مكبوتة. كانت عقارب الساعة تشير إلى الحادية عشرة. لم يكن قد أوى للفراش. كانت الحياة مقلوبة رأسا على عقب؛ كان كذبابة تمشي على سقف مدينة مقلوبة رأسا على عقب. كان قد ترك وظيفته، ولم يكن لديه ما يفعله اليوم، وغدا، وبعد غد، وبعد بعد غد. وكل شيء يزدهر يرجع لينتكس، ولكن ليس لأسابيع، بل لشهور. ربيع غني بالجلوتين.
دلف إلى مطعم الوجبات السريعة، وطلب اللحم المقدد والبيض، والخبز المحمص والقهوة، وجلس يأكلها في سعادة، متذوقا لكل قضمة جيدا. جمحت أفكاره كمرعى مليء بالمهور الحولية التي يثير جنونها غروب الشمس. عند الطاولة التالية كان ثمة صوت يشرح أمرا برتابة: «نبذ ... وقد أخبرتك أننا بحاجة لبعض التطهير. جميعهم كانوا أعضاء في الكنيسة كما تعلم. إننا نعلم القصة كاملة. لقد نصحونا باستبعادها. ولكنه قال: «كلا، سأبحث في حقيقة الأمر».»
نهض هيرف واقفا. كان عليه أن يستأنف السير. خرج ومذاق لحم الخنزير المقدد بين أسنانه. «خدمة سريعة تلبي احتياجات الربيع». يا إلهي، تلبي احتياجات الربيع. لا توجد علب، لا يا سيدي، ولكن لدينا جودة غنية في كل ملأة غليون معتق ... «سوكوني». رشفة واحدة تخبرك بما هو أكثر من مليون كلمة. القلم الرصاص الأصفر ذو الشريط الأحمر. بما هو أكثر من مليون كلمة، بما هو أكثر من مليون كلمة. «حسنا، أعطني ذلك المليون ... أبقه مغطى يا بن.» لقد تركته عصابة يونكيرس ليموت على مقعد في المتنزه. علقوه، ولكن كل ما حصلوا عليه كان مليون كلمة ... «ولكني يا جيمبس تعبت للغاية من حديث الكتب والبروليتاريا، ألا يمكنك أن تفهم؟»
غني بالوفرة الذهبية، الربيع.
كانت والدة ديك سنو تمتلك مصنعا لصناديق الأحذية. فأفلست وخرج من المدرسة وبدأ يتسكع في الشوارع. أسدى له الرجل في كشك المشروبات الغازية نصيحة. فسدد دفعتين لشراء قرط من اللؤلؤ لفتاة يهودية ذات شعر أسود بقوام يشبه آلة الماندولين. انتظروا مرسال البنك في محطة القطارات السريعة. عرج عبر الباب الدوار وظل عالقا هناك. انطلقوا بسيارة فورد والحقيبة في صالونها. بقي ديك سنو في الخلف يفرغ سلاحه في القتيل. لبى احتياجات الربيع في السجن بكتابة قصيدة لأمه نشرت في صحيفة «إيفينينج جرافيك».
مع كل نفس عميق يتنفس هيرف عبارات مقرقعة، وطاحنة، ومزينة حتى بدأ ينتفخ، فشعر بنفسه يتعثر في هيئة كبيرة وغامضة، مترنحا كعمود من الدخان فوق الشوارع في شهر أبريل، ناظرا إلى نوافذ الورش الميكانيكية، ومصانع الأزرار، والبنايات السكنية، ولبود وسخ مفارش الأسرة، وأزيز المخارط الناعم، وكتابة الشتائم على الآلات الكاتبة بين أصابع كاتب مختزل، وعلامات الأسعار المختلطة في متاجر التجزئة. كان يئز في الداخل مثل المياه الغازية في عصائر شهر أبريل الحلوة، الفراولة، والسرسبريلة، والشوكولاتة، والكرز، والفانيليا، التي تقطر بالرغوة عبر الهواء الأزرق البترولي العليل. نزل على نحو مقزز 44 طابقا، منهارا. وهب أنني اشتريت مسدسا وقتلت إيلي، فهل سألبي احتياجات أبريل وأنا جالس في السجن أكتب قصيدة عن والدتي لتنشر في صحيفة «إيفينينج جرافيك»؟
انكمش حتى صار كأصغر ذرة غبار أخذت تشق طريقها فوق الصخور والجلاميد في المجرى الهادر، وتتسلق القش، وتطوف حول بحيرات من زيت المحركات.
جلس في واشنطن سكوير، وقد كست الظهيرة بشرته حمرة، ينظر لأعلى في الجادة الخامسة عبر القوس. تسربت إليه الحمى. فشعر بالبرد والإرهاق. ربيع آخر، يا إلهي، كم ربيع مضى، سار من المقبرة في الطريق الأزرق المرصوف بالحصى حيث غنت عصافير الحقول، وكانت اللافتة مكتوبا عليها: يونكرز. في يونكرز دفنت سنوات الصبا، في مارسيليا ألقيت بسنوات طفولتي في الميناء. أين لي في نيويورك أن أدفن العشرينيات من عمري؟ ربما رحلوا وذهبوا للخارج إلى البحر على متن عبارة جزيرة إيليس يغنون نشيد الاشتراكية الدولية. هدير الاشتراكية الدولية فوق المياه، متلاش ومتنهد في الضباب. «مرحل»
جيمس هيرف صحفي شاب يقطن في 190 ويست شارع 12 وقد فقد لتوه العشرينيات من عمره. مثلوا أمام القاضي ميريفال، وحبسوا على ذمة التحقيق في جزيرة إيليس لترحيلهم بصفتهم أجانب غير مرغوب فيهم. الأربعة الأصغر سنا ساشا، ومايكل، ونيكولاس، وفلاديمير احتجزوا لبعض الوقت بتهمة الفوضى الجنائية. واتهمت الخامسة والسادسة بجريمة التشرد. واحتجز بيل توني وجو في وقت لاحق بتهم متنوعة تشمل ضرب الزوجات، والحرق العمد، والاعتداء، والبغاء. وقد أدينوا جميعا على أساس من سوء استعمال السلطة القانونية، وإخلال بالأمانة، والإهمال في الواجب.
اسمعوا وعوا، سجين أمام محكمة الحانة ... أجد الأدلة مشكوكا فيها، هكذا قال القاضي وهو يصب لنفسه كأسا. أصبح كاتب المحكمة الذي كان يقلب كوكتيلا قديم الطراز ممتلئا بأوراق الكروم، وفاحت من قاعة المحكمة رائحة العنب المزهر، ثم سرعان ما أصبحت الأمور تحت السيطرة. صاح القاضي عندما وجد شراب الجن في زجاجة الماء الخاصة به: «أجلت الجلسة لتناول شراب الريكي.» اكتشف المراسلون أن حاكم المدينة يرتدي جلد فهد متظاهرا بالفضيلة المدنية وواضعا قدمه على ظهر الأميرة فيفي الراقصة الشرقية. كان مراسلك يطل من نافذة نادي بانكيرز برفقة زوج خالته، جيفرسون تي ميريفال، عضو النادي البارز في المدينة وريشتين من لحم ضأن متبلتين جيدا بالفلفل الأسود. في هذه الأثناء كان الندل يسرعون في تنظيم الأوركسترا، مستخدمين كروش آل جوسنهايمرز كطبول جانبية. قدم النادل الرئيسي أداء رائعا حقا للأغنية الراقصة «منزلي القديم في كنتاكي» (ماي أولد كنتاكي هوم)، مستخدما للمرة الأولى الرءوس الصلعاء الرنانة لسبعة من مديري شركة ويل ووترد جازولين في ولاية ديلاوير كآلة إكسيليفون. وطوال الوقت، كانت زجاجة شراب بوتليجير اللامعة الموجودة الموضوعة في حقيبة بديعة الألوان وذات الأشرطة الزرقاء، تقود الثيران في برودواي إلى العدد مليونين، و342 ألفا، و501. عندما وصلت إلى حي سبويتن دويوفيل، كانت قد انغمرت جامحة، رتبة تلو أخرى، في محاولة للسباحة إلى يونكرز.
وبينما أجلس هنا، هكذا خطر ببال جيمي هيرف، تحكني الطباعة كطفح جلدي في داخلي. أجلس هنا وقد ملأتني الطباعة بالبثور. نهض واقفا. كان ثمة كلب أصفر صغير نائم ومتلف حول نفسه تحت المقعد. بدا الكلب الأصفر الصغير سعيدا جدا. قال جيمي بصوت عال: «ما أحتاجه هو نوم جيد.» «ماذا ستفعل به يا داتش، هل سترهنه؟» «لن أحصل على مليون دولار مقابل هذا السلاح الصغير يا فرانسي.» «أرجوك لا تبدأ بالحديث عن المال ... سيراه أحد رجال الشرطة فجأة على حجرك ويقبض عليك بموجب قانون سوليفان.» «الشرطي الذي يعتزم إلقاء القبض علي لم يولد بعد ... أنت فقط نسيت ذلك.»
بدأت فرانسي تتذمر. «ولكن يا داتش ماذا سنفعل، ماذا سنفعل؟»
دس داتش فجأة المسدس في جيبه ونهض واقفا. مشى منتفضا ذهابا وإيابا على الطريق الأسفلتي. كان مساء ضبابيا شديد البرودة، وكانت السيارات التي تتحرك على طول الطريق الموحل تصدر وميضا متشابكا لا نهائيا من الضوء الشبيه بنسيج العنكبوت وسط الجنبات الأشبه بالهياكل العظمية. «يا إلهي، إنك توترينني بتذمرك وبكائك ... هلا صمت؟» جلس بجانبها متجهما مرة أخرى. «أظن أنني سمعت أحدا يتحرك وسط الشجيرات ... هذه الحديقة اللعينة مليئة برجال في ملابس مدنية ... لا يوجد مكان بمقدورك الذهاب إليه في هذه المدينة البائسة بأكملها دون أن يشاهدك الناس.» «لم أكن لأمانع ذلك لو لم أشعر بالسوء الشديد. لا أستطيع أن آكل أي شيء دون أن أتقيأ وأشعر بالخوف الشديد طوال الوقت من أن تلحظ الفتيات الأخريات شيئا.» «ولكني أخبرتك أن لدي طريقة لإصلاح كل شيء، أليس كذلك؟ أعدك أنني سأصلح كل شيء ليصير على ما يرام في غضون يومين ... سنرحل بعيدا ونتزوج. سنذهب إلى الجنوب ... أراهن أن هناك الكثير من الوظائف في أماكن أخرى ... إنني أشعر بالبرد، فلنخرج من هذا الجحيم.»
قالت فرانسي بصوت مرهق وهما يسيران في المسار الأسفلتي المتلألئ بالوحل: «أوه يا داتش، هل تعتقد أننا سننعم بوقت سعيد مرة أخرى في أي وقت من الأوقات كما اعتدنا؟» «إننا قليلو الحظ الآن ولكن هذا لا يعني أننا سنظل هكذا دائما. لقد شهدت هجمات الغاز هذه في غابة أوريجون، أليس كذلك؟ لقد توصلت للكثير من الأشياء في هذه الأيام القليلة الماضية .» «إذا ذهبت وألقي القبض عليك يا داتش فلن يتبقى لي شيء لأفعله سوى أن أقفز في النهر.» «ألم أقل لك إنني لن يلقى القبض علي؟» •••
تقف السيدة كوهين، وهي عجوز منحنية الظهر ذات وجه بني مبقع كتفاحة خمرية، بجانب طاولة المطبخ ويداها المعقودتان مطويتان فوق بطنها. تتأرجح بوركيها وهي تتلفظ بوابل متبرم لا نهائي من اللغة اليديشية في وجه آنا الجالسة يغشاها النعاس أمام فنجان من القهوة: «لو كنت قد نسفت في المهد لكان ذلك أفضل، لو كنت قد ولدت ميتة ... أوه لماذا ربيت أربعة أبناء إن كان جميعهم سيصبحون غير صالحين، ومحرضين، وداعرين، ومتشردين؟ ... بيني دخل السجن مرتين، وسول يعلم الرب أي مكان يتسبب في المتاعب فيه، وسارة الملعونة التي استسلمت للمعصية ترفع ساقيها لدى مينسكي، والآن أنت، تذبلين في مقعدك، وتعتصمين من أجل عمال الملابس، تسيرين في الشارع بوقاحة ولافتة على ظهرك.»
غطست آنا قطعة خبز في القهوة ووضعتها في فمها. قالت وفمها ممتلئ: «أوه يا أمي أنت لا تفهمين.» «أفهم، أفهم العهر والخطيئة؟ ... أوه لماذا لا تذهبين إلى عملك وتبقين فمك مغلقا، وتتقاضين راتبك في هدوء؟ لقد اعتدت جني مكاسب مالية جيدة وكان بإمكانك أن تتزوجي زواجا لائقا قبل أن تجمحي في قاعات الرقص مع أشخاص ليسوا بيهود. أوه أوه لقد ربيت ابنتي في شيخوختي، ولا يوجد رجل محترم يريد أن يأخذهما إلى منزله ويتزوجهما ...»
وقفت آنا على قدميها وهي تصرخ: «هذا ليس من شأنك ... إنني أدفع دائما حصتي في الإيجار بانتظام. تظنين أن الفتاة لا قيمة لها سوى أن تكون أمة، وتطحن أصابعها في العمل طوال حياتها ... وجهة نظري مختلفة، هل تسمعينني؟ إياك أن تجرئي على تأنيبي ...» «أوه تردين على والدتك العجوز. لو كان سولومون حيا لضربك بالعصا. لئن ولدت ميتة أفضل من أن تردي على والدتك كغير اليهود. اخرجي من المنزل وأسرعي قبل أن أنسفك.» «حسنا، سأفعل.» ركضت آنا عبر المدخل الضيق المكومة عنده السراويل القصيرة إلى غرفة النوم وألقت بنفسها على سريرها. كانت وجنتاها تحترقان غيظا. استلقت في هدوء تحاول التفكير. جاء من المطبخ النشيج الحاد الرتيب للمرأة العجوز.
رفعت آنا نفسها إلى وضعية الجلوس على السرير. لمحت في المرآة المقابلة وجها مجهدا مغمورا بالدموع وشعرا ليفيا أجعد. تنهدت قائلة: «يا إلهي، إنني في حالة من الفوضى.» عندما وقفت على قدميها داس كعبها على الشريط المجدول لفستانها. فتمزق الفستان بحدة. فجلست على حافة السرير تبكي وتبكي. ثم حاكت الشق في الفستان بعناية بغرز صغيرة ودقيقة. جعلتها الحياكة تشعر بالهدوء. ارتدت قبعتها، ووضعت الكثير من بودرة التجميل على أنفها، ووضعت القليل من أحمر الشفاه على شفتيها، وارتدت معطفها وخرجت. كان قد حل شهر أبريل بألوان ملاطفة على غير المتوقع من شوارع الجانب الشرقي. وجاءت النضارة الحسية الحلوة من عربة تدفع بالأيدي مليئة بالأناناس. وجدت عند الناصية روز سيجال وليليان دايموند تشربان الكوكاكولا عند كشك للمشروبات الغازية.
قالتا بطنين منسجم: «تناولي الكولا معنا يا آنا.» «سأفعل إن دفعتما لي ... فأنا مفلسة.» «أنت، ألم تحصلي على أجر الإضراب؟» «لقد أعطيته كله للمرأة العجوز ... ولم تعاملني جيدا على الرغم من ذلك. بل أخذت تؤنبني طوال اليوم. إنها عجوز للغاية.» «هل عرفت كيف اقتحم مسلحون متجر آيكي جولدشتاين وخربوه؟ خربوا كل شيء بالمطارق وتركوه فاقدا للوعي فوق الكثير من البضاعة من الملابس.» «أوه هذا فظيع.» «أرى أنه نال ما يستحق.» «ولكن يجب ألا يدمروا الممتلكات هكذا. فنحن نتكسب عيشنا منها مثله تماما.»
قالت آنا وهي تقرع كأسها الفارغة فوق منضدة الشراب: «عيشة جيدة للغاية ... أنا على وشك الموت بهذه العيشة.»
قال الرجل في الكشك: «على رسلك. انتبهي للآنية الفخارية.»
تابعت روز سيجال، قائلة: «لكن أسوأ شيء أنه أثناء تقاتلهم في متجر جولدشتاين طار مفتاح تدوير من لفافة الخيوط وسقط تسعة طوابق وقتل رجل إطفاء كان يمر على شاحنة فسقط ميتا في الشارع.» «لماذا فعلوا ذلك؟» «لا بد أن شخصا قد رماه على شخص آخر وخرج من لفافة.» «وقتل رجل الإطفاء.»
رأت آنا إلمير يقترب منهم في الجادة، وكان وجهه النحيف مثبتا للأمام، ويداه مخبأتين في جيبي معطفه البالي. تركت الفتاتين وسارت نحوه. «هل كنت ذاهبا إلى المنزل؟ لا تفعل وهيا بنا؛ لأن تأنيب المرأة العجوز شيء فظيع ... ليتني أضمها إلى «بنات إسرائيل». لا يمكنني تحملها أكثر من ذلك.»
قال إلمير: «إذن، دعينا نتمش ونجلس في الميدان. ألا تشعرين بالربيع؟»
نظرت إليه بطرف عينها. «ألا أشعر به؟ أوه يا إلمير أتمنى أن ينتهي هذا الإضراب ... يصيبني بالجنون ألا أفعل شيئا طوال اليوم.» «ولكن يا آنا الإضراب هو فرصة عظيمة للعامل، إنه بمثابة الجامعة للعامل. إنه يمنحك فرصة للدراسة والقراءة والذهاب إلى المكتبة العامة.» «لكنك تظن دائما أنه سينتهي في غضون يوم أو يومين، وما الفائدة على أي حال؟» «كلما زاد تعليم المرء زاد نفعه لطبقته.»
جلسا على مقعد وظهراهما للملعب. كانت السماء فوقهما تتلألأ برقائق كعرق اللؤلؤ لضوء غروب الشمس. والأطفال المتسخون يصرخون ويحدثون جلبة حول الممرات الأسفلتية.
قالت آنا وهي تنظر إلى السماء: «أوه، أود أن أحظى بفستان سهرة باريسي، وأن ترتدي أنت بذلة رسمية، وأن نذهب لتناول العشاء في مطعم فخم، وأن نذهب إلى المسرح وكل شيء.» «لو كنا نعيش في مجتمع محترم، لربما كان بإمكاننا ... ستتحقق السعادة للعمال حينئذ، بعد الثورة.» «ولكن يا إلمير ما الفائدة إذا كنا كبارا في السن ونوبخ أبناءنا كالمرأة العجوز؟» «سينعم أبناؤنا بهذه الأشياء.»
جلست آنا منتصبة على المقعد. قالت وهي تكز على أسنانها: «لن أنجب أبناء أبدا، أبدا، أبدا، أبدا.» •••
لمست أليس ذراعه عندما استدارا للنظر في نافذة متجر للمعجنات الإيطالية. فوق كل كعكة مزينة بأزهار الأنيلين الفاقعة اللون والتحزيزات، وقف حمل من السكر احتفالا بعيد الفصح وشعار عيد القيامة. قالت وهي تدير لأعلى نحوه وجهها البيضوي الصغير بشفتيها الشديدتي الحمرة كالزهور التي كانت على الكعكات: «جيمي، عليك أن تفعل شيئا حيال روي ... يجب أن يذهب إلى العمل. سأصاب بالجنون إذا ظل جالسا في المنزل أكثر من ذلك يقرأ الصحف وعلى وجهه ذلك التعبير القبيح الرهيب ... أنت تعرف ما أعنيه ... إنه يحترمك.» «ولكنه يحاول أن يحصل على وظيفة.» «إنه لا يحاول حقا، أنت تعرف ذلك.» «هو يظن أنه يحاول. أظن أنه يفكر في نفسه بشكل غريب ... ولكني شخص جيد في الحديث عن العمل ...» «أوه أعلم، أظنه أمرا رائعا. يقول الجميع إنك حصلت على عمل في صحيفة، وإنك سوف تمارس الكتابة.»
وجد جيمي نفسه ينظر لأسفل في عينيها البنيتين المتسعتين، اللتين كان بهما وميض في جزئهما السفلي كوميض الماء في البئر. أدار رأسه بعيدا، وكانت ثمة غصة في حلقه فسعل. واصلا السير على طول الشارع الطروب الفاقع الألوان.
عند باب المطعم وجدا روي ومارتن شيف في انتظارهما. مروا عبر غرفة خارجية إلى قاعة طويلة مزدحمة بطاولات مكدسة بين لوحتين ضاربتين إلى الخضرة والزرقة لخليج نابولي. كان الهواء مثقلا برائحة جبن البارميزان ودخان السجائر وصلصة الطماطم. ظهرت بعض التعبيرات على وجه أليس وهي تستقر على الكرسي. «أوه، أريد كوكتيلا بسرعة على الفور.»
قال هيرف: «لا بد أنني ساذج بعض الشيء، ولكن هذه القوارب التي تقف في دلال أمام جبل فيزوف دائما ما تجعلني أشعر وكأنني أسرع إلى مكان ما ... أظن أنني سأرحل من هنا في غضون بضعة أسابيع.»
سأل روي: «ولكن يا جيمي إلى أين تذهب؟ أليس هذا شيئا جديدا؟»
قالت أليس: «أليس لهيلينا رأي في ذلك؟»
احمر وجه هيرف. وقال بحدة: «ولم يكون لها رأي؟»
ثم وجد نفسه يقول بعد قليل: «لقد اكتشفت للتو أنه لم يكن لي شيء هنا.»
قال مارتن فجأة: «أوه، لا أحد منا يعرف ما يريد. لذلك فنحن جيل حقير.»
قال هيرف بهدوء: «إنني أبدأ في تعلم بعض الأشياء التي لا أريدها. على الأقل أبدأ في امتلاك الجرأة لأعترف لنفسي بمدى كراهيتي للأشياء التي لا أريدها.»
صرخت أليس: «لكن هذا رائع، أن تتخلص من مسار مهني من أجل نموذج مثالي.»
قال هيرف وهو يدفع كرسيه للخلف: «معذرة.» في دورة المياه نظر لنفسه مباشرة في المرآة المتموجة.
وهمس قائلا: «لا تتكلم. ما تتحدث عنه لا تفعله مطلقا ...» كان لوجهه مظهر وجوه السكارى. ملأ التجويف ما بين يديه بالماء وغسله. عند الطاولة هتفوا عندما جلس.
قال روي: «نعم للمتجول .»
كانت أليس تأكل الجبن فوق شرائح طويلة من الكمثرى. قالت: «أعتقد أنه أمر مثير.»
صاح مارتن شيف بعد صمت: «روي يشعر بالملل.» سبح وجهه بعينيه الكبيرتين ونظارته العظمية عبر دخان المطعم كسمكة في حوض مائي كثير الضباب. «كنت أفكر لتوي في جميع الأماكن التي يجب أن أذهب إليها للبحث عن وظيفة غدا.»
واصل مارتن بشكل ميلودرامي: «أتريد وظيفة؟ أتريد أن تبيع روحك لمقدم العطاء الأعلى؟»
قال روي متذمرا: «يا إلهي، إذا كان هذا هو كل ما لديك لتبيعه ...» «إن نومي في الصباح هو ما يقلقني ... لا يزال من الفظيع أن تتخلى عن شخصيتك وكل تلك الأشياء. الأمر لا يتعلق بقدرتك على القيام بالعمل، بل بشخصيتك.» «البغايا هن وحدهن الصادقات ...» «لكن يا إلهي، العاهرة تبيع شخصيتها.» «إنها تؤجرها فحسب.» «لكن روي يشعر بالملل ... جميعكم تشعرون بالملل ... أنا أكثركم شعورا بالملل.»
قالت أليس بإصرار: «إننا نتمتع بأجمل الأوقات في حياتنا. مهلا يا مارتن، ما كنا لنجلس هنا لو كنا قد شعرنا بالملل، أليس كذلك؟ ... أتمنى أن يخبرنا جيمي أين يتوقع أن يذهب في رحلاته الغامضة.» «كلا، أنتم تقولون لأنفسكم كم هو ممل، ما نفعه للمجتمع؟ ليس لديه المال، ليس لديه زوجة جميلة، ليس لديه مهارة المحادثة الجيدة، ليس لديه نصائح للمضاربة في البورصة. إنه عبء على المجتمع ... الفنان عبء.» «الأمر ليس كذلك يا مارتن ... إنك تتحدث بجهل وحماقة.»
لوح مارتن بذراعه عبر الطاولة. انقلبت زجاجتا نبيذ. وضع نادل بدا عليه الخوف منديلا فوق تيار السائل الأحمر. ودون أن يلاحظ مارتن ذلك، تابع قائلا: «كل هذا ادعاء ... عندما تتحدث فإنك تتحدث بأطراف ألسنتك الكاذبة. أنت لا تجرؤ على الكشف عن روحك الحقيقية ... ولكن الآن يجب أن تستمع إلي للمرة الأخيرة ... للمرة الأخيرة أقول ... تعال إلى هنا أيها النادل أنت أيضا، انحن وانظر إلى الهوة السوداء لروح الإنسان. وهيرف يشعر بالملل. جميعكم تشعرون بالملل، الذباب يشعر بالملل يطن على لوح النافذة. تعتقدون أن لوح النافذة هو الغرفة. لا تعرفون ما يوجد في العمق والظلام في الداخل ... إنني ثمل للغاية. زجاجة أخرى أيها النادل.» «اسمع، اكبح جماح نفسك يا مارتن ... لا أعرف ما إذا كان بمقدورنا أن ندفع الفاتورة على ما هي عليه حتى الآن ... لسنا بحاجة للمزيد.» «زجاجة نبيذ أخرى وأربع زجاجات من شراب الجرابا أيها النادل.»
قال روي ممتعضا: «حسنا، يبدو أنها ستكون ليلة ليلاء.» «لو تطلب الأمر يمكنني أن أدفع بجسدي ... اخلعي قناعك يا أليس ... إنك طفلة صغيرة وجميلة خلف قناعك ... تعالي معي إلى حافة الهوة ... أوه، أنا ثمل جدا لدرجة تعيقني أن أخبرك بما أشعر.» نظف نظارته ذات الإطار الشبيه بصدفة السلحفاة وكومها في يده، فاندفعت العدستان متلألئتين على الأرضية. انحنى النادل فاغرا فاه وسط الطاولات وراءهما.
جلس مارتن بعينين طارفتين للحظة. تبادل بقيتهم النظرات. ثم انطلق ناهضا على قدميه. «أرى غطرستك المتكلفة بعض الشيء. لا عجب أنه لم يعد بإمكاننا أن نتناول عشاء لائقا، والانخراط في محادثات لائقة ... يجب أن أثبت إخلاصي الرجعي، أن أثبت ...» بدأ يشد ربطة عنقه.
أخذ روي يكرر: «اسمع أيها الهرم مارتن، اهدأ.» «لن يوقفني أحد ... يجب أن أواجه صدق السواد ... يجب أن أركض حتى نهاية الرصيف الأسود على النهر الشرقي وألقي بنفسي.»
ركض هيرف وراءه عبر المطعم إلى الشارع. ألقى معطفه عند الباب، وألقى بصدريته عند الناصية.
لهث روي مترنحا أمام كتف هيرف: «يا إلهي، إنه يركض كالغزلان.» التقط هيرف المعطف والصدرية، وطواهما تحت ذراعه وعاد إلى المطعم. كانا شاحبين عندما جلسا على جانبي أليس.
ظلت تسأل: «هل سيفعل ذلك حقا؟ هل سيفعل ذلك حقا؟»
قال روي: «كلا، بالطبع لا. سيذهب إلى المنزل؛ لقد كان يسخر منا لأننا خدعناه.» «ماذا لو أنه فعل ذلك حقا؟»
قال جيمي بحزن: «أكره أن أراه ... إنني أحبه كثيرا. لقد أسمينا ابننا على اسمه. ولكن إذا كان يشعر حقا بالحزن الشديد فبأي حق نمنعه؟»
تنهدت أليس قائلة: «أوه يا جيمي، اطلب بعض القهوة.»
في الخارج، انطلقت سيارة إطفاء نائحة خفاقة هادرة في الشارع. كانت أياديهم باردة. ارتشفوا القهوة دون أن ينبسوا بكلمة. •••
خرجت فرانسي من متجر يبيع كل شيء بخمسة أو عشرة سنتات إلى زحمة رجوع الحشود إلى منازلها في نهاية اليوم في الساعة السادسة. كان داتش روبرتسون في انتظارها. كان يبتسم وقد تورد وجهه. «عجبا يا داتش ماذا ...» علقت الكلمات في حلقها. «ألا يعجبك؟ ...» سارا في شارع 14 حيث تدفقت غمامة من الوجوه مارة بهما على كلا الجانبين. كان يقول بهدوء: «كل شيء على ما يرام يا فرانسي.» كان يرتدي معطفا ربيعيا باللون الرمادي الفاتح وقبعة فاتحة من اللبد لتتماشى معه. وتألق حذاء أوكسفورد جديد مدبب وأحمر في قدميه. «ما رأيك في الزي؟ قلت لنفسي إنه لم يكن هناك فائدة من محاولة فعل أي شيء دون أن أبدو مترفا من الخارج.» «ولكن يا داتش كيف حصلت عليه؟» «سرقت رجلا في متجر للسيجار. يا إلهي، لقد كان الأمر سهلا.» «صه، لا تتحدث بصوت عال هكذا؛ قد يسمعك أحد.» «لن يعرفوا ما الذي أتحدث عنه.» •••
جلس السيد دينش في ركن مخدع السيدة دينش الذي يرجع لعهد لويس الرابع عشر. جلس منحني الجسم بالكامل لأعلى على كرسي صغير مذهب وردي الظهر وكرشه مسترخ على ركبتيه. في وجهه الأخضر المترهل كان أنفه البدين والطيات الواصلة من حافتي فتحتي أنفه إلى زوايا فمه العريض يكونان مثلثين. كان يحمل كومة من البرقيات في يده، وفي أعلاها رسالة مترجمة في وريقة زرقاء نصها: عجز في فرع هامبورج بما يقارب 500 ألف دولار، توقيع هاينز. بحث في كل مكان عن الغرفة الصغيرة المزدحمة بأشياء لامعة، ورأى الحروف الأرجوانية لعبارة «بما يقارب» تهتز في الهواء. ثم لاحظ أن الخادمة، التي كانت شاحبة البشرة من الخلاسيين وترتدي قلنسوة منفوشة، قد دخلت إلى الغرفة وكانت تحدق إليه. لمعت عينه عند رؤية صندوق مسطح كبير من الورق المقوى كانت تحمله بيديها. «ما ذلك؟» «شيء للسيدة يا سيدي.» «أحضريه هنا ... متجر هيكسون ... وما حاجتها لشراء المزيد من الفساتين، أتقولين لي ... هيكسون ... افتحيه. إذا بدا باهظ الثمن فسأرجعه.»
سحبت الخادمة بحذر شديد طبقة من المناديل الورقية، كاشفة عن فستان سهرة خوخي وأخضر بلون البازلاء.
وقف السيد دينش على قدميه مهمهما: «يجب أن تتذكر أن الحرب لا تزال قائمة ... أخبريهم أننا لن نستلمه. أخبريهم أنهم أخطئوا العنوان.»
التقطت الخادمة الصندوق وهي تحني رأسها وخرجت رافعة أنفها. جلس السيد دينش على الكرسي الصغير وبدأ ينظر في البرقيات مرة أخرى.
جاء صوت صاخب من الغرفة الداخلية: «آنيي، آنيي» وتبعه رأس في قبعة من الدانتيل على شكل قبعة الحرية وجسم كبير في لباس نوم منفوش قبيح. «عجبا يا جي دي، ماذا تفعل هنا في هذا الوقت من الصباح؟ إنني في انتظار مصفف الشعر الخاص بي.» «إنه أمر مهم جدا ... لقد تلقيت للتو برقية من هاينز. سيرينا يا عزيزتي، بلاكهيد ودينش في موقف سيئ من جميع الجوانب.»
جاء صوت الخادمة من خلفه: «نعم يا سيدتي.»
هز كتفيه ومشى نحو النافذة. شعر بالتعب والمرض والثقل. مر بالشارع صبي على دراجة، وكان يضحك ووجنتاه متوردتان. رأى دينش نفسه، شعر بنفسه لثانية جذابا ونحيفا يركض بلا شيء على رأسه في شارع باين قبل سنوات ينظر لكواحل الفتيات بطرف عينه. رجع إلى الغرفة. كانت الخادمة قد ذهبت.
استهل قائلا: «سيرينا، ألا تستطيعين أن تفهمي جدية الأمر؟ ... إنه هذا الركود. وعندما يبلغ ذروته سيذهب سوق الحبوب بأكمله إلى الجحيم. إنه خراب، أؤكد لك ...» «حسنا يا عزيزي، لا أفهم ما تتوقع مني أن أفعله حيال ذلك.» «اقتصدي ... اقتصدي. انظري إلى أي مدى ارتفع سعر المطاط ... هذا الفستان من متجر هيكسون ...» «حسنا، لن تجعلني أذهب إلى حفلة بلاكهيد وأنا أبدو كمعلمة في مدرسة ريفية، أليس كذلك؟»
امتعض السيد دينش وهز رأسه. «أوه لن تفهمي؛ ربما لن تكون هناك أي حفلة ... اسمعي يا سيرينا، ليس ثمة لغو في الأمر ... أريدك أن تجهزي حقيبة حتى نتمكن من الإبحار في أي يوم ... أحتاج إلى فترة من الراحة. أفكر في الذهاب إلى مارينباد للاستشفاء ... سيفيدك ذلك جدا أيضا.»
جاءت عينها في عينه فجأة. وأصبحت جميع التجاعيد الصغيرة في وجهها أعمق؛ فكان الجلد تحت عينيها كبالون لعبة منكمش. اقترب منها ووضع يده على كتفها وكان يضم شفتيه ليقبلها عندما ثارت فجأة. «لن أجعلك تتدخل بيني وبين صانعي ملابسي ... لن أسمح بذلك ... لن أسمح بذلك ...» «أوه، افعلي ما تريدين.» غادر الغرفة ورأسه منحن بين كتفيه المنحدرين السميكين. «آنييي!» «نعم يا سيدتي.» عادت الخادمة إلى الغرفة.
ترامت السيدة دينش في منتصف أريكة صغيرة مستطيلة القوائم. كان وجهها أخضر. «من فضلك يا آني، أحضري لي زجاجة من روح النشادر الحلو والقليل من الماء ... ويمكنك يا آني أن تتصلي بمتجر هيكسون وتخبريهم بأن هذا الفستان قد أرجعناه عن طريق الخطأ ... خطأ السائق، ورجاء أن يعيدوا إرساله على الفور لأنني ينبغي أن أرتديه الليلة.» •••
السعي وراء السعادة سعي لا مناص منه ... الحق في الحياة والحرية و... في ليلة مظلمة بلا قمر، يسير جيمي هيرف بمفرده في شارع ساوث ستريت. خلف المنازل على أرصفة الميناء تظهر السفن كهياكل عظمية مظللة في الليل. قال بصوت عال: «بحق المسيح، أعترف أنني في حيرة من أمري.» في كل ليالي أبريل هذه التي سار فيها يمشط الشوارع وحده، استحوذت ناطحة سحاب على اهتمامه؛ كانت بناية مخددة ناتئة لأعلى بنوافذ لامعة لا حصر لها كأنها ستسقط عليه من سماء ذات سحاب تسوقه الرياح. تمطر الآلات الكاتبة قصاصات ورق مطلية بالنيكل بتتابع في أذنيه. ووجوه فتيات عرض «الحماقات» (فوليز)، يمجدها الراعي الفني زيجفيلد، تبتسم وتومئ له من النوافذ. إيلي في ثوب ذهبي، إيلي مصنوعة من رقائق ذهبية رفيعة نابضة بالحياة تماما تومئ من كل نافذة. وهو يتجول حول مربع سكني تلو الآخر بحثا عن باب ناطحة السحاب ذات النوافذ المبهرجة الطنانة، حول مربع سكني تلو الآخر ولم يعثر على الباب بعد. في كل مرة يغمض فيها عينيه يستحوذ عليه الحلم، في كل مرة يتوقف عن الجدل بصوت مسموع مع نفسه بعبارات معقولة ورنانة يستحوذ عليه الحلم. كي تبقي على عقلك أيها الشاب عليك أن تفعل أحد أمرين ... من فضلك يا سيدي، أين باب هذا المبنى؟ أهو في الجهة الأخرى من المربع السكني؟ في الجهة الأخرى من المربع السكني ... أحد بديلين لا مناص منهما، أن ترحل في قميص ناعم متسخ أو أن تبقى في ياقة نظيفة قابلة للنزع. ولكن ما الفائدة من قضاء حياتك كلها في الفرار من مدينة الدمار؟ ماذا عن حقك الذي لا مناص منه، المقاطعات الثلاث عشرة؟ يحل عقله العبارات، يمشي بإصرار. لا يوجد مكان محدد يريد أن يذهب إليه. فقط لو كنت ما زلت أومن بالكلمات. •••
هتف المراسل مبتهجا عندما اعتصر راحة اليد السمينة التي امتدت إليه من فوق منضدة متجر السيجار: «كيف حالك يا سيد جولدشتاين؟ اسمي بروستر ... إنني أكتب مقالة عن موجة الجريمة لصالح صحيفة «نيوز».»
كان السيد جولدشتاين رجلا يشبه اليرقة في هيئته، وكان له أنف معقوف وملتو بعض الشيء في وجهه الشاحب الذي تبرز خلفه أذنان يقظتان ورديتان على نحو غير متوقع. نظر إلى المراسل نظرة شك بعينين مشدودتين. «إن لم يكن لديك مانع، أود أن أسمع شهادتك حول ليلة أمس ... سوء الحظ ...» «لن تحصل على شهادة مني أيها الشاب. لن تفعل شيئا سوى أن تطبعها فيحصل الأولاد والبنات الآخرون هكذا على الفكرة نفسها.» «من المؤسف أن تشعر بذلك يا سيد جولدشتاين ... هلا أعطيتني سكوتش روبرت برنز من فضلك؟ ... يبدو لي أن الدعاية ضرورية كالتهوية ... فهي تسمح بدخول الهواء النقي.» قضم المراسل طرف السيجار وأشعله، ووقف ينظر بتمعن إلى السيد جولدشتاين عبر حلقة ملتفة من الدخان الأزرق. بدأ حديثه بانبهار: «كما ترى يا سيد جولدشتاين الأمر يسير بهذه الطريقة. نحن نتعامل مع الموقف من زاوية المصلحة الإنسانية ... شفقة ودموع ... كما تفهم. كان أحد المصورين في طريقه إلى الخارج ليلتقط لك صورة ... أراهنك أنها ستزيد من حجم الأعمال في الأسبوعين المقبلين ... أظن أنني سأضطر إلى الاتصال به وإخباره ألا يأتي الآن.»
استهل السيد جولدشتاين الحديث فجأة، قائلا: «حسنا، هذا الرجل كان يرتدي ملابس جيدة؛ معطفا ربيعيا جديدا وما إلى ذلك، وأتى لشراء علبة سيجار ماركة كاميل ... وقال وهو يفتح العلبة ويأخذ سيجارا ليدخنه: «ليلة جميلة.» ثم لاحظت أن الفتاة التي معه تضع غطاء على وجهها.» «إذن لم يكن شعرها متموجا؟» «كل ما رأيته كان أشبه بأغطية الوجه التي ترتديها السيدات في العزاء. وأول شيء عرفته هو أنها كانت خلف المنضدة، وكان معها مسدس مغروس في ضلوعي، وبدأت تتحدث ... كما تعرف شيء من قبيل المزاح ... وقبل أن أتمكن من التفكير كان الرجل قد أفرغ آلة تسجيل النقد، وقال لي: «هل معك أي نقود في بنطالك الجينز يا رجل؟» كنت أتصبب عرقا ...» «أوهذا كل شيء؟» «بالطبع عندما وجدت شرطيا كانا قد رحلا وذهبا إلى الجحيم.» «كم سرقا من المال؟» «أوه، حوالي 50 دولارا أمريكيا، وستة دولارات من جيبي.» «هل كانت الفتاة جميلة؟» «لا أعرف، ربما كانت كذلك. أرغب في تحطيم وجهها. يجب أن يصدر حكم بالإعدام بالكرسي الكهربائي على هذين الطفلين ... ألا يوجد أمان في أي مكان؟ لم يجب على أي شخص أن يعمل إذا كان كل ما عليك فعله هو الحصول على مسدس والسطو على جيرانك؟» «أتقول إنهما كانا يرتديان ملابس أنيقة ... أتعني كالأغنياء؟» «نعم.» «أنا أعمل على نظرية أنه طالب جامعي وأنها فتاة مجتمع وأنهما يفعلان ذلك من أجل التسلية.» «كان الرجل وغدا حاد النظرات.» «حسنا، هناك رجال جامعيون حادو النظرات ... فلتنتظر مقالة بعنوان «قطاع الطرق في العصر الذهبي» في صحيفة الأحد القادم يا سيد جولدشتاين ... تصلك صحيفة «نيوز»، أليس كذلك؟»
هز السيد جولدشتاين رأسه. «سأرسل لك نسخة على أي حال.» «أريد أن أرى هذين الطفلين مدانين، هل تفهم؟ إذا كان هناك أي شيء يمكنني القيام به فسأفعله بالطبع ... لم يعد هناك أمان ... لا تهمني أي دعاية في ملحق صحيفة يوم الأحد.» «حسنا، سيحضر المصور حالا. أنا متأكد من أنك ستوافق على طرح المسألة يا سيد جولدشتاين ... حسنا شكرا جزيلا لك ... يوم سعيد يا سيد جولدشتاين.»
أخرج السيد جولدشتاين فجأة مسدسا جديدا لامعا من تحت المنضدة ووجهه نحو المراسل. «أنت، على رسلك.»
أطلق السيد جولدشتاين ضحكة ساخرة. صاح بعدما خرج المراسل، الذي كان في طريقه بالفعل إلى مترو الأنفاق: «أنا مستعد لهم في المرة القادمة التي يأتون فيها.» •••
خطب السيد هاربسيكورت قائلا، وهو ينظر بلطف في عيني إلين ويبتسم ابتسامته العريضة الباهتة: «عملنا يا عزيزتي السيدة هيرف هو أن نتدحرج على الشاطئ استباقا لموجة الموضة قبل اندلاعها مباشرة، كما في ركوب ألواح التزلج.»
كانت إلين تحفر برقة بملعقتها في نصف ثمرة أفوكادو؛ فأبقت عينيها في طبقها، وشفتيها مفتوحتين قليلا؛ وشعرت بالراحة وبأنها نحيفة في فستانها الضيق ذي اللون الأزرق الداكن، فانتبهت خجلة في وسط تشابك النظرات الجانبية والحديث الذي اتخذ نمط الغناء في المطعم. «إنها موهبة لدرجة أنه يمكنني أن أتنبأ لك بأكثر مما يمكنني التنبؤ به لأي فتاة أخرى، كما أنك أكثر جاذبية من أي فتاة عرفتها من قبل.»
سألت إلين، وهي تنظر إليه ضاحكة: «أيمكنك التنبؤ؟» «يجب ألا تدققي في كل كلمة يتلفظ بها رجل هرم ... فأنا لا أجيد التعبير عن نفسي ... تلك دائما إشارة خطيرة. كلا، إنك تفهمين جيدا، على الرغم من احتقارك للأمر بعض الشيء ... اعترفي بذلك ... ما نحتاجه في مثل هذه الدورية، أنا متأكد من أنه يمكنك أن تشرحيه لي بشكل أفضل بكثير.» «بالطبع ما أنت بحاجة لفعله هو أن تجعل كل قارئ يندمج في الأحداث من فوره.» «وكأنها كانت تتناول الغداء هنا في فندق ألجونكوين.»
أضافت إلين: «ليس اليوم بل غدا.»
ضحك السيد هاربسيكورت ضحكته القصيرة المصرصرة، وحاول أن ينظر بعمق عبر القطرات الضاحكة المتلألئة كالذهب في عينيها الرماديتين. نظرت بوجه متورد لأسفل إلى النصف الفارغ الأحشاء لثمرة الأفوكادو في طبقها. ثم شعرت بنظرات التحديق الحادة للرجال والنساء الجالسين إلى الطاولات في أنحاء المكان كما لو أن هناك مرآة وراءها. •••
كان لفطائر البان كيك إحساس مريح شبيه بالفراء على لسانه. جلس جيمي هيرف في مطعم تشايلدز في وسط مجموعة مخمورة وصاخبة. كانت العيون، والشفاه ، وفساتين السهرة، ورائحة اللحم المقدد والقهوة؛ ضبابية وخافقة من حوله. أكل الفطائر بشق الأنفس، وطلب المزيد من القهوة. شعر بتحسن. كان يخشى أن يصاب بالإعياء. بدأ يقرأ في الجريدة. فكانت الأحرف تسبح وتنتشر كالزهور اليابانية. ثم رجعت واضحة، ومنظمة، وتمر سلسة كعجينة سوداء وبيضاء فوق دماغه المنظم، الأبيض والأسود: •••
كان للشباب المضلل عظيم الأثر المأساوي مرة أخرى وسط وسائل البهجة المبهرجة في منطقة كوني آيلاند، التي طليت حديثا لاستقبال الموسم عندما ألقى رجال بملابس مدنية القبض على داتش روبنسون ورفيقته، التي قيل إنها «قاطعة الطريق المتحررة». الاثنان متهمان بارتكاب أكثر من 20 جريمة سطو في بروكلين وكوينز. ظلت الشرطة تراقب الزوجين لبضعة أيام. وكانا قد استأجرا شقة صغيرة بمطبخ في 7356 جادة سيكروفت. نمت الشكوك أول مرة عندما نقلت الفتاة، التي على وشك أن تصبح أما، في سيارة إسعاف إلى مستشفى بريسبيتارية كنارسي. تفاجأ العاملون في المستشفى مما بدا على روبنسون من الإمداد اللانهائي بالمال. كان للفتاة غرفة خاصة، وكانت الزهور والفواكه الباهظة الثمن ترسل إليها يوميا، وكان هناك طبيب شهير يستدعى للاستشارة بناء على طلب الرجل. وعندما وصلا للحظة تسجيل اسم الطفلة، اعترف الشاب للطبيب أنهما غير متزوجين. فاتصل أحد العاملين في المستشفى بالشرطة بعد أن لاحظ الشبه بين المرأة والوصف الذي نشر في صحيفة «إيفيننج تايمز» لقاطعة الطريق المتحررة ورفيقها. راقب رجال في ثياب مدنية الزوجين لبضعة أيام من عودتهما إلى الشقة في جادة سيكروفت، وقبضوا عليهما بعد ظهر اليوم.
القبض على قاطعة الطريق المتحررة ... •••
سقطت قطعة من البسكويت الساخن على الصحيفة التي كان يقرؤها هيرف. نظر لأعلى فزعا؛ وكانت ثمة فتاة يهودية سوداء العينين تجلس إلى الطاولة المجاورة تغمز له بعينها. أومأ وأشار لها كما لو كان يخلع قبعة. قال بغلظة وبدأ يأكل البسكويت: «أشكرك أيتها الحورية الجميلة.»
قال الشاب الذي كان جالسا بجوارها، والذي بدا كمدرب ملاكمة محترف، بخوار في أذنها: «هل انتهيت يا عزيزتي؟»
كانت أفواه الجالسين إلى طاولة هيرف مفتوحة ضاحكة. أخذ الفاتورة وقال ليلة سعيدة على نحو غامض وخرج. كانت الساعة فوق مكتب أمين الصندوق تشير إلى الثالثة. كان الناس بالخارج لا يزالون يتجولون حول دوار كولومبوس في بعثرة وضجيج. اختلطت رائحة الأرصفة المعبأة بالمطر مع عوادم السيارات، وكانت أحيانا تهب نفحة من رائحة الأرض الرطبة والعشب النابت في الحديقة. وقف طويلا عند الناصية لا يعرف أي طريق يسلك. كره العودة إلى المنزل في هذه الليالي. شعر بحزن غامض لإلقاء القبض على قاطعة الطريق المتحررة ورفيقها. وتمنى لو كان بمقدورهما الفرار. كان يتطلع لقراءة أخبارهما كل يوم في الصحف. يا لهما من شيطانين مسكينين، هكذا قال لنفسه، ولديهما مولود جديد أيضا.
في هذه الأثناء، بدأت الضوضاء تتصاعد خلفه في مطعم تشايلدز. فرجع ونظر من خلال النافذة إلى الشواية حيث كانت تئز ثلاث كعكات زبد مهجورة. كان الندل يجاهدون لإخراج رجل طويل يرتدي بذلة رسمية. وكان الرجل السميك الفك صديق الفتاة اليهودية التي كانت قد ألقت البسكويت يمنعه أصدقاؤه من التدخل. ثم شق الحارس طريقه عبر الحشد. كان رجلا قصيرا عريض الكتفين ذا عينين متعبتين غائرتين كعيني قرد. بهدوء وبلا اندفاع أطبق على الرجل الطويل. وفي لمح البصر كان قد ألقى به من الباب. بالخارج على الرصيف، نظر الرجل الطويل إلى من حوله مذهولا وحاول التعديل من وضع ياقته. جاءت عربة الشرطة في تلك اللحظة مجلجلة. قفز اثنان من رجال الشرطة خارجين من العربة وسرعان ما ألقيا القبض على ثلاثة إيطاليين كانوا واقفين يتبادلون أطراف الحديث في هدوء عند الناصية. تبادل هيرف والرجل الطويل ذو البذلة الرسمية النظرات، بالكاد تحدثا وسار في غاية الرصانة كل منهما في اتجاه.
الفصل الخامس
عبء نينوى
متسربا في الشفق الأحمر من ضباب تيار الخليج، ضاربا بوق السفينة النحاسي الذي يعوي عبر الشوارع ذات الأصابع المتيبسة، محدقا للعيون الرقراقة الواسعة لناطحات السحاب، ناثرا الرصاص الأحمر على الفخذين ذوي العوارض للجسور الخمسة، مهيجا زوارق السحب ذات المواء دافعا إياها نحو الحرارة تحت أشجار الدخانية المتساقطة في الميناء.
يجعد الربيع أفواهنا، يصيبنا الربيع بقشعريرة هائلة من أثر دوي صافرات الإنذار الراعدة بضجيج مخيف هائل عبر حركة المرور المتوقفة، بين مربعات سكنية متجمدة منتبهة كرءوس أصابع الأقدام.
مشى السيد دينش بياقة معطفه الفضفاض الصوفي مرفوعة حول أذنيه وقبعة إنجليزية كبيرة مسحوبة لأسفل بعيدا فوق عينيه، متوترا جيئة وذهابا على السطح الرطب لسفينة فوليندام. نظر للخارج عبر المطر الكثير الرذاذ على أرصفة الميناء الرمادية ومباني الواجهة البحرية المحفورة في أفق من المرارة التي لا يمكن تصورها. ظل يهمس قائلا لنفسه: رجل محطم، رجل محطم. في النهاية دوت صافرة السفينة للمرة الثالثة. وقف السيد دينش، وأصبعاه في أذنيه، وقد حجبه قارب نجاة، يشاهد صدع المياه القذرة بين جانب السفينة والرصيف يتسع أكثر فأكثر. ارتجف سطح السفينة أسفل قدميه مع تسارع حركة السفينة. بدأت مباني مانهاتن تمر به زاحفة ورمادية كما لو كانت صورة فوتوغرافية. أسفل سطح السفينة، كانت الفرقة الموسيقية تعزف لحن أغنية «أوه تيتين تيتين». العبارات الحمراء، وعبارات السيارات، وزوارق القطر، وصنادل الرمال، والمراكب الشراعية الخشبية، والبواخر الجوالة، كلها انجرفت بينه وبين المدينة الشاهقة المباني المعبأة بالبخار التي جمعت نفسها على شكل هرم وبدأت في الغرق ضبابية في مياه الخليج الخضراء المائلة إلى اللون البني.
ذهب السيد دينش بالأسفل إلى غرفته الخاصة. كانت السيدة دينش ترتدي قبعة جرسية الشكل معلقا عليها غطاء وجه أصفر، تبكي بهدوء ورأسها على سلة فاكهة. قال بصوت أجش: «كلا سيرينا.» وتابع: «كلا ... إننا نحب مارينباد ... إننا بحاجة للراحة. وضعنا ليس بائسا للغاية. سأذهب وأرسل برقية إلى بلاكهيد ... في النهاية، عناده واندفاعه هما اللذان أوصلا الشركة إلى ... إلى هذا. هذا الرجل يظن أنه ملك على الأرض ... هذا سوف ... هذا سيضايقه. إذا كانت اللعنات قادرة على القتل لأصبحت ميتا غدا.» لدهشته وجد الخطوط الشاحبة الباهتة في وجهه تتشقق في ابتسامة. رفعت السيدة دينش رأسها وفتحت فمها لتتحدث إليه، غير أن الدموع قد غلبتها. نظر إلى نفسه في الزجاج، وفرد كتفيه وعدل قبعته. قال بأثر من مرح في صوته: «حسنا يا سيرينا، هذه نهاية مسيرتي المهنية ... سأذهب لإرسال البرقية.» •••
تقبل الأم بوجهها عليه وتقبله؛ فيتشبث بيديه في فستانها، وتذهب تاركة إياه في الظلام، تاركة رائحة باقية ضعيفة في الظلام تبكيه. يستلقي الصغير مارتن متقلبا داخل قضبان مهده الحديدية. ساد الظلام الدامس جميع الأرجاء، ظلام رهيب، وأشخاص يتحركون، هادرين، مهتزين، زاحفين في جماعات عبر النوافذ، واضعين أصابعهم في صدع الباب. من الخارج يعلو هدير العجلات نحيب قابض على حلقه. أهرامات من الظلام مكدسة فوقه تسقط عليه متجعدة. يصرخ، ويسكت بين الصرخات. تسير المربية نحو المهد على طول معبر ضوء منقذ: «لا تخف ... ليس هناك ما يخيف.» وجهها الأسود يبتسم له، ويداها السوداوان تسويان الأغطية. «هذه مجرد سيارة إطفاء تمر ... لن تخيفك سيارة إطفاء.» •••
رجعت إلين للخلف في سيارة الأجرة وأغمضت عينيها لثانية. لم يكن بوسعها التخلص حتى بالاستحمام وقيلولة لنصف ساعة من إنهاك ذكرى المكتب، ورائحته، وصوت سقسقة الآلات الكاتبة، والعبارات المكررة اللانهائية، والوجوه، والأوراق المكتوبة على الآلة الكاتبة. شعرت بالتعب الشديد؛ لا بد أن ثمة هالات تحت عينيها. توقفت سيارة الأجرة. كان الضوء أحمر في إشارة المرور أمامها. وكانت الجادة الخامسة مكدسة حتى حواف الأرصفة بسيارات الأجرة، والليموزين، والحافلات البخارية. كانت متأخرة؛ وقد تركت ساعة يدها في المنزل. فشعرت بالدقائق بطول الساعات كرصاص معلق حول رقبتها. جلست على حافة المقعد، وقبضتاها مشدودتان بإحكام لدرجة أنها استطاعت أن تشعر من خلال قفازيها بأظافرها الحادة تحفر في راحتيها. اندفعت سيارة الأجرة في النهاية إلى الأمام، وكانت هناك عاصفة من العوادم وأزيز المحركات، وبدأت الكتلة المرورية في التحرك في حي ميري هيل. لمحت ساعة عند إحدى النواصي. الثامنة إلا ربعا. توقفت حركة المرور مرة أخرى، صرخت مكابح سيارة الأجرة، ودفعت إلى الأمام في مقعدها. رجعت للخلف وعيناها مغمضتان، والدم ينبض في صدغيها. كانت جميع أعصابها كأسلاك متشابكة حادة من الفولاذ تقطعها من الداخل. ظلت تسأل نفسها: «ماذا يهم؟ سينتظر. لست في عجلة لرؤيته. لنر، كم مربعا سكنيا؟ ... أقل من عشرين، ثمانية عشر.» لا بد أن الناس قد اخترعوا الأرقام كي لا يجن جنونهم. إن جدول الضرب أفضل من الأخصائي النفسي كوي في علاج التوتر العصبي . ربما هذا ما ظنه الهرم بيتر ستويفسانت، أو من وضع أرقام الشوارع بالمدينة أيا من كان. كانت تبتسم لنفسها. بدأت سيارة الأجرة تتحرك مرة أخرى.
كان جورج بالدوين يمشي ذهابا وإيابا في بهو الفندق، آخذا نفثات قصيرة من سيجارته. وكان ينظر في الساعة بين الحين والآخر. كان جسده كله مشدودا متوترا كوتر آلة كمان عالي الصوت. كان جائعا ومفعما بأمور يريد أن يتحدث عنها؛ كان يكره أن يكون في انتظار أحد. عندما دخلت، باعثة الارتياح والنعومة والابتسامة، أراد الذهاب إليها وضربها على وجهها.
قالت وهي تربت على ذراعه: «هل تدرك يا جورج أن ما يحول بيننا وبين الجنون وجود الأرقام التي لا تعرف العاطفة أو الإحساس؟» «إن الانتظار مدة 45 دقيقة كفيل لدفع أي شخص إلى الجنون، هذا كل ما أعرفه.» «يجب أن أشرح ذلك. إنه نظام. أظن أن كل شيء قادم في سيارة أجرة ... تذهب وتطلب أي شيء تريده. أنا ذاهبة إلى حمام السيدات لدقيقة ... ورجاء اطلب لي شراب المارتيني. أنا مجهدة الليلة، مجهدة للغاية.» «أيتها الصغيرة المسكينة، بالطبع سأفعل ذلك ... ولا تتأخري وقتا طويلا من فضلك.»
شعر بركبتيه ضعيفتين تحته، وكأن جليدا يذوب وهو يدخل غرفة الطعام المزينة بالكثير من الزخارف المذهبة. يا إلهي يا بالدوين أنت تتصرف كمراهق في السابعة عشرة من عمره ... وبعد كل هذه السنوات أيضا. لن تصل إلى أي شيء بهذه الطريقة ... «حسنا يا جوزيف، ماذا ستقدم لنا لنأكله الليلة؟ أنا جائع ... ولكن أولا يمكنك أن ترسل لي فريد ليعد أفضل كوكتيل مارتيني يصنعه في حياته.»
قال النادل الروماني الطويل الأنف بالفرنسية وهو يعطيه قائمة الطعام في زهو: «جيد جدا يا سيدي.»
ظلت إلين فترة طويلة تنظر في المرآة، مزيلة عن وجهها بعضا من بودرة التجميل الزائدة، ومحاولة عزم أمرها. وظلت تلف دمية متخيلة حول نفسها وتضعها في أوضاع متنوعة. تلت ذلك بعض الإيماءات، مثلتها على مراحل مختلفة كالعارضات. ثم ابتعدت فجأة عن المرآة مع هز كتفيها الشديدي البياض وسارعت إلى غرفة الطعام. «أوه يا جورج أنا جائعة، أتضور جوعا.»
قال بصوت طقطقة: «وأنا كذلك.» ثم أسرع بالقول كما لو كان خائفا من مقاطعتها له: «ويا إلين، لدي أخبار لك.» «وافقت سيسلي على الطلاق. سوف نسرع في الأمر بهدوء في باريس هذا الصيف. الآن ما أريد أن أعرفه هو، هل ...؟»
انحنت وربتت على يده التي أمسكت بحافة الطاولة. «دعنا نتناول عشاءنا أولا يا جورج ... علينا أن نكون عقلانيين. الرب يعلم أننا أفسدنا الأمور بما فيه الكفاية في الماضي، كلانا ... دعنا نشرب نخب موجة الجريمة.» كانت رغوة الكوكتيل الناعمة المتناهية الصغر مهدئة في لسانها وحلقها، وتوهجت تدريجيا بدفء عبر جسمها. نظرت إليه ضاحكة بعينين متلألئتين. شرب كأسه على جرعة واحدة.
قال متوقدا ضعيف الحيلة: «بحق الرب يا إلين، إنك أكثر الأشياء روعة في العالم.»
شعرت خلال العشاء ببرودة جليدية تدريجية تتسرب داخلها كتأثير مخدر النوفوكين. لقد عزمت أمرها. بدا الأمر كما لو كانت قد التقطت صورة لنفسها في مكانها، مجمدة إلى الأبد في إيماءة واحدة. كان ثمة شريط حريري غير مرئي من المرارة يضيق حول حلقها، يخنقها. خلف الصحون، والمصباح الوردي العاجي، وقطع الخبز المكسورة كان وجهه فوق مقدمة قميصه البيضاء يرتعش ويومئ، وتوردت وجنتاه، وأضاء المصباح أنفه حينا من أحد جانبيه وحينا آخر من الجانب الآخر، وتحركت شفتاه المشدودتان فصيحتين فوق أسنانه الصفراء. شعرت إلين بأنها تجلس وكاحلاها متقاطعان، جامدة كتمثال خزفي تحت ملابسها، وبدا وكأن كل شيء فيها يتصلب ويطلى بالمينا، وظهر الهواء بخطوط زرقاء وسط دخان السجائر وكأنه قد استحال زجاجا. كان وجهه المتخشب الأشبه بوجه دمية متحركة يهتز فاقدا الوعي أمامها. ارتجفت وحنت كتفيها لأعلى.
اندفع قائلا: «ما الأمر يا إلين؟» قالت كاذبة: «لا شيء يا جورج ... أظن أنني انتابتني القشعريرة.» «هل يمكنني أن أحضر لك معطفا أو شيئا من هذا القبيل؟»
هزت رأسها.
قال عندما نهضا من على الطاولة: «حسنا ما رأيك ؟»
سألت مبتسمة: «ماذا؟ أبعد العودة من باريس؟»
ثم قالت بهدوء: «أظن أنني أستطيع أن أتحمل إذا كنت تستطيع أنت أيضا يا جورج.»
كان يقف في انتظارها عند الباب المفتوح لسيارة أجرة. رأته يقف متأهبا ومتأرجحا في الظلام يرتدي قبعة تميل للون البني ومعطفا بنيا فاتحا، ومبتسما كبعض المشاهير في قسم التصوير الفوتوغرافي بصحف يوم الأحد. ضغطت تلقائيا على يده التي ساعدتها في ركوب السيارة.
قال مرتجفا: «إلين، ستعني لي الحياة شيئا الآن ... يا إلهي، لو تعرفين كم كانت الحياة فارغة لسنوات عديدة. لقد كنت كلعبة ميكانيكية من الصفيح، أجوف تماما من داخلي.»
قالت بصوت مختنق: «دعنا لا نتحدث عن الألعاب الميكانيكية.»
صرخ: «كلا، دعينا نتحدث عن سعادتنا.»
ضغط على شفتيه بعناد موجها إياهما إلى شفتيها. وخلف الزجاج المهتز لنافذة سيارة الأجرة، كشخص يغرق، رأت من زاوية عينها وجوها تدور، وأضواء الشوارع، وعجلات مسرعة ذات وميض كوميض النيكل. •••
يجلس الرجل الهرم ذو القبعة ذات النقشة المربعة على منحدر الحجر الأسمر الرملي ووجهه في يديه. ومع وهج برودواي في ظهورهم، ثمة سيل لا ينقطع من الأشخاص المارين به في الشارع باتجاه المسرح. يبكي الرجل الهرم من بين أصابعه وتفوح منه رائحة شراب الجن الكريهة. من حين لآخر يرفع رأسه ويصرخ بصوت أجش: «لا أستطيع، ألا ترى، لا أستطيع؟» يبدو الصوت غير بشري كما لو كان صوت تصدع في لوح خشبي. أسرعت الخطى. ينظر الأشخاص في منتصف العمر في الاتجاه الآخر. وتجلجل فتاتان بالضحك عندما يرونه. ويحدق أطفال الشوارع المتدافعون داخلين وخارجين في الحشد المظلم. «شراب بام هوتش.» «سينال ما يستحق عندما يمر الشرطي في المربع السكني.» «حظر الخمور.» يرفع الرجل الهرم وجهه المبلل من بين يديه، محدقا بعينيه الداميتين الضريرتين. يتراجع الناس ويخطون على أقدام من وراءهم. وكالخشب المتشقق يخرج صوته. «ألا ترى أنني لا أستطيع؟ ... لا أستطيع ... لا أستطيع.» •••
عندما سقطت أليس شيفيلد وسط تدفق النساء الداخلات عبر أبواب متجر لورد آند تيلور وشعرت باقتراب رائحة الأشياء في فتحتي أنفها، أخذ شيء ينقر في رأسها. ذهبت أولا إلى منضدة بيع القفازات. كانت الفتاة صغيرة للغاية، وكانت لها رموش سوداء طويلة منحنية وابتسامة جميلة، وتحدثتا عن تموجات الشعر الدائمة، بينما قاست أليس قفازا رماديا من جلد الماعز، وآخر أبيض بحافة صغيرة كقفاز مصفح. وقبل القياس، وضعت الفتاة بلباقة البودرة داخل كل قفاز من رجاج خشبي طويل العنق. طلبت أليس ستة أزواج. «نعم. السيدة روي شيفيلد ... نعم لدي حساب جار، ها هي بطاقتي ... سترسل لي الكثير من الأشياء.» وكانت تقول لنفسها طوال هذا الوقت: «من السخف أن أرتدي الرث من الثياب طوال الشتاء ... عندما ترسل الفاتورة، سيضطر روي أن يجد طريقة لدفعها، هكذا ببساطة. حان الوقت لأن يتوقف عن أحلام اليقظة على أي حال. لقد دفعت له الفواتير بما فيه الكفاية عندما كان معي المال، يعلم الرب ذلك.» ثم بدأت تنظر إلى الجوارب الحريرية بلون البشرة. غادرت المتجر ورأسها لا يزال يدور من مشاهد مناضد البيع التي عليها أثر من ضباب كهربائي بنفسجي، والقطع المطرزة والمزينة، والشراشيب، والحرائر المخضبة بألوان نبات الكبوسين، وكانت قد طلبت فساتين صيفية ومعطفا للسهرة.
التقت في صالة ميلارد برجل إنجليزي طويل وأشقر ذي رأس مخروطي الشكل وشارب أشقر فاتح للغاية ومدبب الخصلات تحت أنفه الطويل. «أوه يا باك، إنني أحظى بأعظم الأوقات. لقد كنت أذهب إلى متجر لورد آند تيلور كثيرا بجنون. هل تعلم أنه لا بد أن عاما ونصفا قد مر منذ آخر مرة أشتري فيها أي ملابس؟»
قال وهو يوجهها إلى إحدى الطاولات: «أيتها المسكينة. احكي لي.»
تركت نفسها ترتمي على كرسي فجأة وهي تئن: «أوه يا باك، لقد سئمت للغاية من كل هذا ... لا أعرف إلى متى يمكنني التحمل.» «حسنا، لا يمكنك إلقاء اللوم علي ... أنت تعرفين ما أريدك أن تفعليه ...» «حسنا، افترض أنني فعلت ذلك، ماذا إذن؟» «سيكون أمرا رائعا، سننسجم معه مثل أي شيء ... ولكن يجب أن نتناول القليل من حساء لحم البقر أو شيئا من هذا القبيل. عليك أن تختاري.» ضحكت. «يا عزيزي القديم، ذلك ما أحتاجه بالضبط.» «حسنا، ما رأيك أن ننطلق إلى كالجاري؟ أعرف رجلا هناك أظنه سيعطيني وظيفة .» «أوه، لنذهب على الفور. لا أهتم بالملابس أو أي شيء ... بإمكان روي أن يرجع هذه الأشياء إلى متجر لورد آند تيلور ... هل معك أي أموال يا باك؟»
أخذ التورد يتدفق إلى عظام وجنتيه، وانتشر على صدغه حتى أذنيه المسطحتين غير المنتظمتين. «أعترف يا آل يا حبيبتي أنه ليس معي بنس واحد. يمكنني دفع ثمن الغداء.» «أوه يا للهول، سأوقع شيكا؛ فالحساب باسمينا كلينا.» «سأوقعه باسمي في بيلتمور، إنهم يعرفونني هناك. عندما نصل إلى كندا سيكون كل شيء على ما يرام تماما، يمكنني أن أؤكد لك ذلك. في ظل سيادة صاحب الجلالة، فإن للاسم بوكمينستر وزنا أكبر مما له في الولايات المتحدة.» «أوه، أعرف يا عزيزي؛ فلا يقيمون وزنا لشيء سوى المال في نيويورك.»
عندما كانا يسيران في الجادة الخامسة، علقت ذراعها في ذراعه فجأة. «أوه يا باك، لدي شيء فظيع للغاية ينبغي أن أقوله لك. إنه يشعرني بإعياء مميت ... أنت تعرف ما قلته لك عن الرائحة الكريهة التي كانت لدينا في الشقة والتي ظنناها رائحة فئران، أليس كذلك؟ هذا الصباح قابلت المرأة التي تعيش في الطابق الأرضي ... أوه يشعرني التفكير في الأمر بالإعياء. كان وجهها أخضر كلون تلك الحافلة ... يبدو أن أحد المحققين قد فتش في أنابيب المياه لديهم ... وقد اعتقلوا المرأة في الطابق العلوي. أوه إنه أمر مقزز للغاية. لا أستطيع أن أخبرك عنه ... لن أعود إلى هناك أبدا. سأموت إذا عدت ... لم تكن هناك قطرة ماء في المنزل طيلة أمس.» «ماذا كان الأمر؟» «إنه أمر مروع للغاية.» «أخبريني يا صغيرتي.» «لن يعرفوك يا باك عندما تعود إلى منزلك في أوربن مانور.» «ولكن ماذا كان في الأمر؟» «كانت هناك امرأة في الطابق العلوي أجرت عمليات غير قانونية، عمليات إجهاض ... كان هذا ما تسبب في انسداد أنابيب المياه.» «يا إلهي!» «كانت هذه بطريقة ما هي القشة التي قصمت ظهر البعير ... وكان روي يجلس في وهن منكبا على صحيفته اللعينة في وسط تلك الرائحة النتنة بذلك التعبير القبيح الرهيب على وجهه .» «أيتها الفتاة الصغيرة المسكينة.» «ولكني يا باك لم أستطع صرف شيك بأكثر من 200 دولار ... سيكون ذلك سحبا على المكشوف بالفعل. هل سيمكننا ذلك من الوصول إلى كالجاري؟» «ليس على نحو مريح للغاية ... هناك رجل أعرفه في مونتريال يمكنه أن يعطيني وظيفة في كتابة ملاحظات اجتماعية ... من البغيض أن أفعل ذلك، ولكن يمكنني استخدام اسم مستعار. ثم يمكننا الفرار من هناك عندما نحصل على المزيد من المال أو أصداف البحر كما تسمينها ... ماذا عن صرف هذا الشيك الآن؟»
وقفت في انتظاره بجانب مكتب المعلومات بينما ذهب هو لإحضار التذاكر. شعرت بالوحدة والصغر وسط قبو المحطة الأبيض الواسع. كانت حياتها كلها مع روي تمر على ذهنها كفيلم يعرض من نهايته لبدايته، أسرع وأسرع. عاد باك وهو يبدو سعيدا ومسيطرا، وكانت يداه مليئتين بالدولارات وتذاكر السكة الحديدية. قال: «لا توجد قطارات قبل الساعة السابعة وعشر دقائق يا آل. أقترح أن تذهبي إلى سينما بالاس وتتركي لي تذكرة في شباك التذاكر ... سأسرع وأحضر عدتي. لن أستغرق ثانية ... ها هي خمسة دولارات.» وقد ذهب، وكانت تمشي بمفردها في شارع 43 في أحد أيام شهر مايو الحارة في فترة ما بعد الظهيرة. لسبب ما أجهشت بالبكاء. حدق الناس إليها؛ فلم تكن تستطيع منع نفسها عن البكاء. سارت بإصرار والدموع تنهمر على وجهها. ••• «التأمين ضد الزلازل، هذا ما يطلقون عليه! سيعود عليهم بالكثير من الخير عندما يحل غضب الرب على المدينة طاردا من فيها بالدخان كعش دبابير ويلتقطها ويهزها كقطة تهز فأرا ... تأمين ضد الزلازل!»
تمنى جو وسكيني أن يرحل الرجل ذو اللحية الشبيهة بفرشاة تنظيف الزجاجات والذي كان يقف عند معسكرهما يغمغم ويصرخ. لم يعرفا ما إذا كان يتحدث إليهما أم إلى نفسه. تظاهرا أنه لم يكن هناك وواصلا بتوتر تحضير قطعة من لحم الخنزير للشواء على مشواة مصنوعة من إطار مظلة قديمة. أسفلهما ووراء الشريط الأخضر ذي المسحة الكبريتية للأشجار النامية كانت مياه نهر هدسون تتحول إلى اللون الفضي في ضوء المساء والحاجز الأبيض لمنازل مانهاتن العلوية.
همس جو، مشيرا بحركة سريعة ملتوية حول أذنه: «لا تقل شيئا. إنه مجنون.»
كان سكيني قد أصابته القشعريرة أسفل ظهره، وشعر بأن شفتيه تزداد برودة، فأراد أن يركض.
هكذا قال الرجل فجأة: «أهذا لحم خنزير؟» بصوت خرخرة يتسم بالعطف.
قال جو مرتجفا بعدما توقف قليلا: «نعم.» «ألا تعلمان أن الرب الإله نهى أبناءه عن أكل لحم الخنزير؟» رجع صوته إلى غنائها المغمغم الصارخ. «جبرائيل، الأخ جبرائيل ... أمن الصواب أن يأكل هؤلاء الأبناء لحم الخنزير؟ ... بالطبع. الملك جبرائيل، إنه صديق مقرب لي، انظرا، لقد قال إنه لا بأس هذه المرة إن لم تفعلا ذلك مرة أخرى ... انتبه يا أخي، ستحرقه.» كان سكيني قد نهض واقفا على قدميه. «اجلس يا أخي. لن أوذيك. أنا أفهم يا أبناء. إننا نحب الأبناء أنا والرب الإله ... أنتما تخافان مني لأنني مشرد، أليس كذلك؟ حسنا، دعاني أخبركما بشيء، لا تخافا أبدا من المشردين. المشردون لن يؤذوكما، إنهم أشخاص طيبون. الرب الإله كان مشردا عندما عاش على الأرض. يقول صديقي الملاك جبرائيل إنه عاش حياة المشردين كثيرا ... انظرا لقد أحضرت بعض الدجاج المقلي وأعطتني امرأة عجوز ملونة ... يا ربي!» جلس متأوها على صخرة بجانب الصبيين.
قال جو، وهو يؤدي بعض تمارين الإحماء: «كنا سنلعب دور الهنود الحمر، ولكن الآن أظن أننا سنلعب دور المشردين.» أحضر المشرد حزمة صحف من جيب معطفه غير محدد المعالم والذي خضرته عوامل الطقس، وبدأ يفكها بحرص. بدأت الرائحة الطيبة تأتي من لحم الخنزير. عاد سكيني للجلوس، ولا يزال يبتعد قدر المستطاع دون أن يفوته شيء. قسم المشرد دجاجته عليهم وبدءوا في تناول الطعام معا. «جبرائيل أيها الكشافة الهرم، هلا نظرت إلى ذلك؟» شرع المشرد في صراخه الغنائي الذي جعل الصبيين يشعران بالخوف مجددا. كان الظلام على وشك أن يحل. وكان المشرد يصرخ وفمه ممتلئ بالطعام مشيرا بعصا طبل نحو الأضواء الوامضة على شكل رقعة شطرنج، المتواصلة في طريق ريفرسايد درايف. «يا إلهي، اجلس هنا دقيقة وانظر إليها يا جبرائيل ... انظر إلى العاهرة العجوز إن لم تكن تمانعني في التعبير. التأمين ضد الزلازل، يا إلهي إنهم بحاجة إليه أليس كذلك؟ هل تعلمان كم من الوقت استغرقه الإله في تدمير برج بابل يا رفيقي؟ سبع دقائق. هل تعلمان كم من الوقت استغرقه الرب الإله في تدمير بابل ونينوى؟ سبع دقائق. الشر في مربع سكني واحد في مدينة نيويورك أكثر بكثير مما كان في ميل مربع في نينوى، وكم من الوقت تظنان أن الرب إله السبت اليهودي سيستغرق في تدمير مدينة نيويورك وبروكلين وبرونكس؟ سبع ثوان. سبع ثوان ... قل لي أيها الطفل، ما اسمك؟» خفض صوته إلى صوت الخرخرة المنخفض ومر على جو بعصا طبلته. «جوزيف كاميرون باركر ... نعيش في يونيون سكوير.» «وما اسمك أنت؟» «أنطونيو كاميرون ... ويناديني أصدقائي سكيني. هذا هو قريبي. ولكن أهله غيروا اسمهم إلى باركر، أترى؟» «تغيير اسمك لن يفيد ... لقد سجلوا جميع الأسماء المستعارة في كتاب الدينونة ... والحق أقول لكما إن يوم الرب قد اقترب ... بالأمس فقط قال لي جبرائيل: «حسنا يا يونان، هل ندعها تنشق؟» وقلت له: «جبرائيل أيها الكشافة الهرم، فكر في النساء والأطفال والرضع الصغار الأبرياء. إن زلزلتها بزلزال ونار وكبريت من السماء فسيقتلون جميعا حالهم كحال الأغنياء والمذنبين»، وقال لي: «حسنا أيها الحصان الهرم يونان، افعل ما يحلو لك ... سنمنحهم مهلة أسبوعا أو أسبوعين.» ... ولكن من المروع التفكير في الأمر، أيها الرفيقان، النار والكبريت والزلزال وموجة المد وتحطم البنايات الطويلة بعضها في بعض.»
صفع جو سكيني فجأة على ظهره. وقال هاربا: «إنه دورك.» تبعه سكيني متعثرا على طول الطريق الضيق وسط الشجيرات. لحقه على الأسفلت. «يا إلهي، هذا الرجل مجنون.»
قاطعه جو: «اصمت، ألا تستطيع؟» كان يختلس النظر إلى الوراء عبر الشجيرات. كانت رؤية الدخان الرقيق المنبعث من النار الصغيرة التي أشعلاها أمام صفحة السماء؛ لا تزال بإمكانهما. أصبح المشرد بعيدا عن الأنظار. وكل ما كان بمقدورهما سماعه هو صوته المنادي: «جبرائيل، جبرائيل.» ركضا لاهثين نحو المصابيح القوسية الآمنة ذات المسافات المتباعدة بانتظام ونحو الشارع . •••
ابتعد جيمي هيرف من أمام الشاحنة؛ إذ كان رفرف السيارة قد لامس لتوه أسفل واقي المطر الذي كان يرتديه. وقف لحظة خلف محطة القطارات السريعة بينما كانت الرقاقة الثلجية تذوب عن عموده الفقري. انفتح فجأة أمامه باب سيارة ليموزين وسمع صوتا مألوفا لم يستطع التعرف عليه. «تعال يا سيد هيرف ... هل يمكنني اصطحابك إلى مكان ما؟» عندما دخل دون تفكير، لاحظ أنه ركب سيارة رولز رويس.
كان الرجل البدين ذو الوجه الأحمر والقبعة الدربية هو كونغو. «اجلس يا سيد هيرف ... إنني سعيد جدا برؤيتك. إلى أين كنت ذاهبا؟» «لم أكن في طريقي لأي مكان بعينه.» «تعال إلى المنزل، أريد أن أريك شيئا. كيف حالك اليوم؟» «أوه جيد؛ كلا أعني أنني في فوضى عفنة، ولكن كلا الأمرين سواء.» «غدا، قد أكون في السجن ... ستة أشهر ... ولكن ربما لا.» ضحك كونغو من حلقه ومد بحرص ساقه الاصطناعية. «إذن لقد تمكنوا منك أخيرا يا كونغو، أليس كذلك؟» «إنها مؤامرة ... ولكن لم يعد اسمي كونغو جايك يا سيد هيرف. نادني أرماند. أنا متزوج الآن، واسمي أرماند دوفال، وأعيش في بارك أفينيو.» «ماذا عن مركيز بلدية كولوماريس؟» «ذلك لأغراض العمل فحسب.» «إذن تبدو الأمور جيدة تماما، أليس كذلك؟»
أومأ كونغو برأسه. «إذا ذهبت إلى أتلانتا، وهو ما لا آمل فيه، خلال ستة أشهر، فسأخرج من السجن مليونيرا ... يا سيد هيرف، إذا كنت بحاجة إلى المال، فما عليك سوى إخباري ... يمكنني أن أقرضك 1000 دولار. أمامك خمس سنوات حتى تردها. أنا أعرفك.» «أشكرك، ولكن ليس المال بالتحديد ما أحتاجه، وتلك هي المشكلة.» «كيف حال زوجتك؟ ... إنها جميلة جدا.» «لقد تم بيننا الطلاق ... قدمت لي الأوراق هذا الصباح ... هذا كل ما كنت أنتظره في هذه المدينة الملعونة.»
عض كونغو على شفتيه. ثم ربت برفق على ركبة جيمي بالسبابة. «خلال دقيقة سنصل إلى المنزل ... سأجلب لك شرابا جيدا جدا.» ... ثم صاح كونغو في السائق، وهو يدلف إلى المدخل الرخامي للعمارة السكنية، بعرجة تنم عن الفخامة متكئا على عصا ذات قبضة ذهبية: «أجل، انتظر.» قال وهما يصعدان في المصعد: «ربما تبقى لتناول العشاء.» «يؤسفني أنني لا أستطيع الليلة، يا كون... يا أرماند.» «لدي طباخ جيد جدا ... عندما أتيت إلى نيويورك لأول مرة ربما قبل 20 عاما، كان هناك رجل على متن السفينة ... هذا هو الباب، انظر إيه دي، أرماند دوفال. هربت أنا وهو بعيدا معا، ودائما يقول لي: «أرماند، أنت لن تنجح أبدا، أنت كسول للغاية، وتركض وراء الشابات كثيرا ...» الآن يعمل طباخا عندي ... طاه درجة أولى، طاه بشريط أزرق، أليس كذلك؟ إن الحياة لشيء غريب يا سيد هيرف.»
قال جيمي هيرف وهو يميل إلى الخلف في كرسي إسباني عالي الظهر بالمكتبة المصنوعة من خشب شجر الجوز الأسود وفي يده كأس من شراب البوربون المعتق: «مرحى، هذا جيد. كونغو ... أعني أرماند، إذا كنت إلها وكان علي أن أقرر من في هذه المدينة يجب أن يربح مليون دولار ومن يجب ألا يربح هذا المبلغ، أقسم أنك من كنت سأختار.» «ربما تدخل السيدة بعد قليل. إنها جميلة جدا، سترى.» لوح بأصابعه حول رأسه مشيرا لتجعدات شعرها. «إنها ذات شعر أشقر فاتح جدا.» عبس فجأة. «لكن يا سيد هيرف، إذا كان هناك أي شيء في أي وقت أستطيع أن أفعله من أجلك، مال أو مثل ذلك، ستخبرني، أليس كذلك؟ لقد مرت 10 سنوات إلى الآن وأنا وأنت صديقان جيدان ... أتريد شرابا آخر؟»
مع كأس بوربون ثالثة بدأ هيرف يتكلم. جلس كونغو يستمع وشفتاه الغليظتان مفتوحتان قليلا، مع إيماءة برأسه بين الحين والآخر. «الفرق بيني وبينك هو أنك تصعد السلم الاجتماعي يا أرماند، بينما أنا أنزله ... عندما كنت أنت خادما على متن قارب بخاري كنت أنا طفلا صغيرا بشعا شاحب الوجه يعيش في فندق ريتز. تمتع أبي وأمي بجميع هذه الأشياء الضخمة من الرخام وخشب الجوز على طراز فيرمونت وبابل ... لم يعد هناك شيء يمكنني فعله حيال ذلك ... والنساء كالفئران، كما تعلم، يغادرن السفينة الغارقة. سوف تتزوج هذا الرجل بالدوين الذي عين للتو في منصب المدعي العام. يقال إنهم يعدونه لمنصب حاكم المدينة بترشيحه عن حزب الإصلاح ... إنه وهم السلطة، هذا ما يؤرقه. النساء يقعن في حب ذلك للغاية. لو كنت أظن أنها ستعود علي بأي نفع، أقسم أنني كنت سأنشط وأنتفض وأجني ميلون دولار. لكنني لم أعد أشعر بأي إحساس عضوي من تلك الأشياء. يجب أن أمارس شيئا جديدا، مختلفا ... سيكون أبناؤك كذلك يا كونغو ... لو كنت قد حصلت على تعليم لائق وبدأت في وقت مبكر بما يكفي لكنت قد أصبحت عالما عظيما. لو كانت لي تجارب جنسية كثيرة لكنت قد أصبحت فنانا أو متدينا ... ولكن ها أنا هنا بحق المسيح في الثلاثين من عمري تقريبا ومتلهف جدا للعيش ... لو كنت رومانسيا بما يكفي أظن أنني كنت سأقتل نفسي قبل وقت بعيد لا لشيء إلا لأجعل الناس يتحدثون عني. لا أملك من الثبات الذي يجعلني أنجح في شيء حتى في أن أصبح سكيرا.»
قال كونغو وهو يعيد ملء الأكواب الصغيرة مبتسما ببطء: «يبدو يا سيد هيرف أنك تفكر زيادة عن اللزوم.» «بالطبع يا كونغو، بالطبع، ولكن ماذا سأفعل بحق الجحيم حيال ذلك؟» «حسنا عندما تحتاج إلى بعض المال، تذكر أرماند دوفال ... هل تريد شرابا آخر؟»
هز هيرف رأسه. «يجب أن أغادر ... إلى اللقاء يا أرماند.»
في القاعة الرخامية ذات الأعمدة، صادف نيفادا جونز. كانت مزينة بزهور الأوركيد. «مرحبا يا نيفادا، ماذا تفعلين في قصر الخطيئة هذا؟» «أنا أعيش هنا، ما رأيك؟ ... تزوجت من صديق لك حديثا، أرماند دوفال. أتريد أن تصعد وتراه؟» «لقد رأيته لتوي ... إنه لطيف للغاية.» «إنه بالطبع كذلك.» «ماذا فعلت مع الشاب توني هانتر؟»
اقتربت منه وتحدثت بصوت منخفض. «فلتنس أمري وأمره فحسب، هلا فعلت؟ ... يا إلهي، أنفاسك معبأة برائحة الشراب ... توني هو أحد أخطاء القدر، لقد انتهت علاقتي به ... وجدته ذات يوم يمضغ حواف السجادة متدحرجا على أرضية غرفة الملابس لأنه كان يخشى أن يخونني مع أحد البهلوانات ... أخبرته أنه من الأفضل أن يذهب ويكون على طبيعته وانفصلنا في حينها ... ولكني بصراحة عازمة على أن أحظى بنعمة الزواج هذه المرة، بإخلاص، لذلك أرجوك لا تدع أحدا يخبر أرماند بأي شيء حول توني أو بالدوين ... على الرغم من أنه يعلم أنه لم يرتبط بتمثال من الجص للسيدة العذراء ... لم لا تصعد وتأكل معنا؟» «لا أستطيع. حظا سعيدا يا نيفادا.» يخرج جيمي هيرف والويسكي دافئ في معدته ويشعر بوخز في أصابعه إلى بارك أفينيو في الساعة السابعة، حيث طنين سيارات الأجرة وتداخل روائح البنزين والمطاعم والشفق. •••
كانت تلك هي الليلة الأولى التي يذهب فيها جيمس ميريفال إلى نادي متروبوليتان منذ أن اشترك فيه؛ فقد كان خائفا أن يكون ذا أجواء قديمة الطراز لا تناسب عمره، مثله في ذلك مثل إمساكه بالعصا. جلس في كرسي جلدي عميق بجوار النافذة يدخن سيجارا بخمسة وثلاثين سنتا ويضع صحيفة «وول ستريت جورنال» على ركبته ونسخة من صحيفة «كوزموبوليتان» مائلة على فخذه اليمنى، وعيناه في الليل تصدعهما أضواء كالكريستال، وترك نفسه لأحلام اليقظة: الكساد الاقتصادي ... 10 ملايين دولار ... ركود ما بعد الحرب. سأخبر العالم بالانهيار. «خسارة بلاكهيد ودينش 10 ملايين دولار» ... غادر دينش البلاد منذ بضعة أيام ... بلاكهيد منعزل عن العالم في منزله في منطقة جريت نيك. إحدى أقدم شركات الاستيراد والتصدير الأكثر احتراما في نيويورك، 10 ملايين دولار. «أوه دائما ما يكون الطقس جميلا عندما يجتمع الرفقاء الجيدون.» هذه هي ميزة العمل المصرفي. فحتى في حالة العجز، هناك أموال في متناول اليد، ضمانات. تنطوي هذه المقترحات التجارية دائما على هامش من المخاطرة. وتشملنا ذهابا وإيابا، أليس كذلك يا ميريفال؟ هذا ما قال بيركنز الهرم عندما خلط له كونينجام كوكتيل الجاك روز ... «بقدح على الطاولة وأغنية جيدة ترن بوضوح.» لهذا الرجل علاقات جيدة. عرفت مايسي ما كانت تفعله بعد كل شيء ... رجل في وضع كهذا من المحتمل دائما أن يتعرض للابتزاز. من الحماقة ألا يقاضيهم ... الفتاة مجنونة، تزوجت من رجل آخر بالاسم نفسه ... يجب أن تكون في مصحة، بحالة كتلك. يا إلهي، إنني لم أكشف الرجل لمصلحته. والظروف برأته تماما، حتى أمي اعترفت بذلك. «أوه، عانى سندباد في طوكيو وروما» ... هذا ما اعتاد جيري عناءه. المسكين الهرم جيري لم يشعر قط بالانسجام في الطابق الأرضي لنادي متروبوليتان ... فهو يأتي من نسل فقير. لنفكر في جيمي الآن ... ليس لديه حتى هذا العذر، غير منسجم وفاشل، غير متكافئ منذ زمن بعيد ... أظن أن الهرم هيرف كان شديد الجموح، إنه رحالة. لطالما سمعت أمي تقول إن الخالة ليلي كانت تصبر عليه كثيرا. لا يزال يمكنه أن ينجح بكل ما لديه من مزايا ... حالم، مهووس بالتجول ... تلك الأمور البوهيمية. وقد فعل له أبي كل شيء كما فعل لي ... وهذا الطلاق الآن. والزنا ... ربما هو على علاقة بعاهرة. ربما يكون مصابا بالزهري أو شيء من هذا القبيل. خسارة 10 ملايين دولار.
فشل. نجاح.
نجاح بقيمة 10 ملايين دولار ... 10 سنوات من النجاح المصرفي ... في عشاء جمعية المصرفيين الأمريكيين ليلة أمس تحدث جيمس ميريفال، رئيس شركة بانك آند تراست، ردا على نخب «10 سنوات من الخدمات المصرفية المتقدمة» ... يذكرني أيها السادة بالهرم الزنجي الذي كان مغرما للغاية بالدجاج ... ولكن إذا سمحتم لي ببضع كلمات جادة في هذه المناسبة الاحتفالية (وميض التقاط صورة فوتوغرافية)؛ هناك ملاحظة تحذيرية أود أن أعلنها ... أشعر أنه من واجبي بصفتي مواطنا أميركيا ورئيسا لمؤسسة كبيرة على الصعيد الوطني، بل الدولي بعبارة أفضل، كلا، بل ذات صلات وولاءات عالمية (وميض التقاط صورة فوتوغرافية) ... أخيرا تمكن جيمس ميريفال من رفع صوته فوق صوت التصفيق الراعد، واهتز تأثرا رأسه الأشيب كالفولاذ الباعث على الإجلال، وواصل حديثه ... أيها السادة لقد شرفتموني كثيرا ... اسمحوا لي فقط أن أضيف أنه في كل المحن والشدائد، والعجز وسط المياه المظلمة أو الازدراء والرفض للمنحدرات السريعة للتقدير الشعبي، وسط ساعات الليل التي لا تزال قصيرة، وفي هدير الملايين في الظهيرة، فإن عصاي التي أتوكأ عليها، خبز حياتي، مصدر إلهامي لطالما كان ولائي الثالوثي لزوجتي وأمي وعلم بلادي .
تهاوى الرماد الطويل لسيجاره وسقط على ركبتيه. وقف جيمس ميريفال على قدميه وأزال برزانة الرماد الخفيف عن بنطاله. ثم جلس مرة أخرى وبدأ بعبوس متعمد قراءة المقالة عن الصرف الأجنبي في صحيفة «وول ستريت جورنال». •••
يجلسان على كرسيين بلا ظهر أو ذراعين عند عربة الغداء. «أخبرني يا بني، كيف انضممت لهذا الزورق القديم بحق الجحيم؟» «لم يكن هناك أي شيء آخر ذاهب إلى الشرق.» «حسنا، هل أنت متأكد من أنك قد سكبت مرق اللحم هذه المرة يا فتى؛ فالقائد مدمن مخدرات، والضابط الأول هو أسوأ محتال خارج إصلاحية سنج سنج، والطاقم بأكمله من عمال الدرجة الثانية، القارب القديم لا يستحق الإنقاذ ... ماذا كانت آخر وظيفة لك؟» «موظف ليلي في فندق.» «استمع إلى ذلك المجنون ... يا إلهي، انظر إلى الرجل الذي سيتخلى عن وظيفة جيدة في فندق فاخر في مدينة نيويورك ليعمل خادما على متن اليخت البخاري لديفي جونز ... ستصبح طباخا بحريا رائعا.» يتورد وجه الرجل الأصغر سنا. صرخ في وجه العامل الواقف إلى المنضدة: «ماذا عن ذلك الهامبورجر؟»
بعد أن تناولا الطعام، وبينما ينهون احتساء قهوتهما، يستدير إلى صديقه ويسأله بصوت منخفض: «قل لي يا روني، هل سافرت إلى الخارج من قبل ... في الحرب؟» «ذهبت إلى بلدة سان نازير عدة مرات. لماذا تسأل؟» «لا أعرف ... يثيرني الأمر فحسب ... لقد قضيت عامين هناك. لم تعد الأمور كما كانت. كنت أظن أن كل ما أردته هو الحصول على وظيفة جيدة وأن أنعم بالزواج والاستقرار، والآن لا أهتم بكل ذلك ... يمكنني البقاء في وظيفة لمدة ستة أشهر أو نحو ذلك، ثم أشعر بالرغبة العارمة في الرحيل، أترى؟ لذا ظننت أنه ينبغي أن أرى الشرق قليلا ...»
يقول روني وهو يهز رأسه: «لا تلق بالا. ستراه، لا تقلق.»
يسأل الشاب الرجل الواقف إلى المنضدة: «ماذا حل بك؟» «لا بد أنهم قد أخذوك صغيرا.» «كنت في السادسة عشرة من عمري عندما جندت.» يأخذ باقي نقوده ويتبع روني المتثاقل في مشيته العريضة إلى الشارع. عند نهاية الشارع وراء الشاحنات وأسطح المستودعات، يمكنه رؤية الصواري ودخان البواخر والبخار الأبيض يتصاعد في ضوء الشمس. •••
يأتي صوت الرجل من فوق السرير: «أنزلي الستائر.» «لا أستطيع، إنها تالفة ... أوه يا للهول! ها هو كل شيء يسقط.» كادت آنا تنفجر في البكاء عندما سقطت اللفافة في وجهها، وقالت وهي متجهة نحو السرير: «أصلحها أنت.»
يقول الرجل ممسكا بها وضاحكا: «ولم أهتم، لا يمكنهم رؤيتنا بالداخل.»
تتأوه بضجر تاركة نفسها مرتخية بين ذراعيه: «فقط تلك الأضواء تزعجني.»
إنها غرفة صغيرة على شكل صندوق أحذية بسرير حديدي في ركن الجدار المقابل للنافذة. يرتفع هدير من الشوارع إليها صاخبا بانعكاس على شكل حرف
V
في المبنى. على السقف، بإمكانها أن ترى التوهج المتغير للافتات الكهربائية على طول برودواي، بيضاء، وحمراء، وخضراء، ثم مزيجا كفقاعة تنفجر، ومرة أخرى بيضاء، وحمراء، وخضراء. «أوه يا ديك، أتمنى أن تصلح تلك الستارة، تلك الأضواء تصيبني بالتوتر.» «لا بأس من الأضواء يا آنا؛ فكأننا في المسرح ... إنه الطريق الأبيض المرح، كما اعتادوا القول.» «هذه الأشياء جيدة بالنسبة لكم أيها الرجال خارج البلدة، ولكنها توترني.» «إذن تعملين مع مدام سوبرين الآن، أليس كذلك يا آنا؟» «تقصد أنني خائنة للإضراب ... أعرف قصدك. لقد طردتني المرأة العجوز وكان علي إما أن أجد عملا وإما أن أموت ...» «فتاة لطيفة مثلك يا آنا يمكنها دائما أن تجد حبيبا.» «وربي إنكم أيها المشترون مجموعة قذرة ... تظن لأنني أواعدك أنني سأواعد أي شخص ... حسنا، لن أفعل ذلك، هل تفهم؟» «لم أقصد ذلك يا آنا ... يا إلهي، أنت سريعة الغضب الليلة.» «أظن ذلك لأنني متوترة ... هذا الإضراب، وطرد المرأة العجوز لي، والعمل لدى مدام سوبرين ... هذا كفيل بأن يجن جنون أي أحد. فليذهبوا جميعا إلى الجحيم، هذا كل ما يهمني. لماذا لا يريدون أن يتركوا المرء وشأنه؟ لم أفعل شيئا لإيذاء أي أحد قط في حياتي. كل ما أريده هو أن يتركوني وحدي وأن يدعوني أحصل على راتبي وأن أقضي وقتا ممتعا بين الحين والآخر ... يا إلهي يا ديك إنه أمر فظيع ... لا أجرؤ على الخروج إلى الشارع خوفا من أن ألقى بعض فتيات الحي القديم الذي كنت أقطنه.» «بحق الجحيم يا آنا، الأمور ليست بهذا السوء، صدقا كنت سآخذك إلى الغرب معي لولا زوجتي.»
استمر صوت آنا في تشنج هادئ: «والآن لأنني قد بدأت أعجب بك وأريد أن أقضي معك وقتا ممتعا تدعوني عاهرة لعينة.» «لم أقل شيئا من هذا القبيل. لم أفكر حتى في ذلك. كل ما ظننته هو أنك مقدامة ولست كالدمية المزعجة كمعظم الفتيات ... اسمعي، إن كان ذلك سيجعلك تشعرين بتحسن فسأحاول إصلاح هذه الستارة.»
تجلس مستلقية على جانبها تشاهد جسده الثقيل وهو يتحرك أمام الضوء الأبيض بلون الحليب القادم من النافذة. وعاد إليها في النهاية بأسنان مقعقعة. «لا يمكنني إصلاح هذا الشيء الملعون ... يا إلهي الجو بارد.» «لا تهتم يا ديك، تعال إلى الفراش ... لا بد أن الوقت قد تأخر. يجب أن أكون هناك في الثامنة.»
يسحب ساعته من تحت الوسادة. «إنها الثانية والنصف ... أهلا أيتها القطة صغيرة.»
على السقف، بمقدورها أن ترى انعكاسا للتوهج المتغير للافتات الكهربائية، بيضاء، وحمراء، وخضراء، ثم مزيجا كفقاعة تنفجر، ومرة أخرى بيضاء، وحمراء، وخضراء. •••
قالت للخادمة الملونة عندما أحضرت القهوة: «ولم يدعني حتى لحضور حفل الزفاف ... صدقا يا فلورنس كان من الممكن أن أسامحه لو كان دعاني إلى حفل الزفاف.» كان صباح يوم الأحد. كانت جالسة في السرير والصحف منتشرة على حجرها. وكانت تنظر إلى صورة في قسم التصوير الفوتوغرافي مكتوب عليها السيد والسيدة جاك كونينجام يذهبان في جولتهما الأولى لشهر العسل في طائرته البرمائية الرائعة طراز الباتروس 7. «يبدو وسيما أليس كذلك؟» «هو كذلك بالفعل يا سيدتي ... ولكن ألم يكن هناك أي شيء يمكنك فعله لإيقافهما يا سيدتي؟» «لا شيء ... تعلمين أنه قال إنه سيودعني مصحة عقلية إن حاولت ... إنه يعلم جيدا أن الطلاق في يوكاتان ليس قانونيا.»
تنهدت فلورنس. «هكذا هم الرجال يؤذوننا نحن الفتيات المساكين.» «أوه لن يستمر هذا طويلا. يمكنك أن تري من وجهها أنها فتاة صغيرة أنانية بغيضة ومدللة ... وأنا زوجته الحقيقية أمام الرب والناس. الرب يعلم أنني حاولت تحذيرها. فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان ... هذا في الكتاب المقدس أليس كذلك؟ ... هذه القهوة بشعة للغاية هذا الصباح يا فلورنس. لا أستطيع شربها. اخرجي على الفور وأعدي لي واحدة جديدة.»
خرجت فلورنس بالصينية من الباب عابسة محدبة كتفيها.
أطلقت السيدة كونينجام تنهيدة عميقة واستقرت بين الوسائد. كانت أجراس الكنيسة تدق في الخارج. قالت للصورة: «أوه يا جاك يا حبيبي حبي لك كما هو.» ثم قبلت الصورة. «استمع يا عزيزي، بدت أجراس الكنيسة هكذا في اليوم الذي هربنا فيه من حفل المدرسة الثانوية الراقص وتزوجنا في مدينة ميلواكي ... لقد كان صباح يوم أحد جميل.» ثم حدقت في وجه السيدة كونينجام الثانية. قالت وهي تغرز أصبعها فيها: «أوه أنت.» •••
عندما وقفت على قدميها وجدت أن قاعة المحكمة كانت تدور ببطء شديد على نحو مثير للغثيان، وكان القاضي الأبيض ذو وجه السمكة بنظارته المستندة على أنفه، والوجوه، ورجال الشرطة، والحضور بالزي الرسمي، والنوافذ الرمادية، والمكاتب الصفراء، كلها تدور في رائحة قريبة مقززة، وكان محاميها بأنفه الأبيض الأشبه بأنف صقر يمسح رأسه الأصلع، عابسا، تدور وتدور حتى ظنت أنها ستتقيأ. لم تستطع سماع كلمة مما قيل، وظلت ترمش لتزيل التشويش عن أذنيها. كان بمقدورها الشعور بداتش خلفها منحنيا ورأسه بين يديه. لم تجرؤ على النظر خلفها. ثم بعد ساعات كان كل شيء حادا وواضحا، وبعيدا للغاية. كان القاضي يصرخ عليها مما يشبه طرف قمع صغير، وكانت شفتاه العديمتا اللون تتحركان للداخل والخارج كفم سمكة. «... والآن بصفتي رجلا ومواطنا في هذه المدينة العظيمة أريد أن أقول بعض الكلمات للمتهمين. باختصار، يجب أن تتوقف مثل هذه الأشياء. الحقوق غير القابلة للتفاوض لحياة البشر وممتلكاتهم التي نص عليها في الدستور الرجال العظماء الذين أسسوا هذه الجمهورية يجب إعادتها إلى سابق عهدها. إنه واجب كل رجل سواء داخل منصب رسمي أو خارجه أن يحارب هذه الموجة من الفوضى بجميع الوسائل التي يقدر عليها. ومن ثم على الرغم مما فعله كتاب الصحف العاطفيون الذين يفسدون العقل العام ويزرعون في رءوس الضعفاء وغير الأسوياء أمثالكم فكرة أنه من الممكن مخالفة قانون الرب والإنسان، والاعتداء على الممتلكات الخاصة، وأنه بمقدوركم أن تنتزعوا بالقوة من المواطنين المسالمين ما اكتسبوه بالعمل والتفكير الجاد ... وأن تفلتوا من العقاب، على الرغم مما يسميه هؤلاء الصحفيون من الكتاب الرديئين والدجالين بالظروف التخفيفية، فأطبق عليكما يا قاطعي الطرق أقصى درجات الصرامة في القانون. لقد حان الوقت لتقديم مثال ...»
ارتشف القاضي شربة ماء. كان بإمكان فرانسي رؤية قطرات العرق الصغيرة تبرز كالخرز من مسام أنفها.
صاح القاضي: «لقد حان الوقت لتقديم مثال. ليس لأنني لا أشعر كأب حنون ومحب بالمحن، ونقص التعليم والقدوة، وافتقار المنزل لمحبة وعطاء الأم الذي قاد هذه الشابة إلى حياة الفسق والبؤس، حيث قادتها إغراءات الرجال القساة والشرهين وإثارة ومكر ما أسموه، وأحسنوا تسميته، بعصر الجاز. ولكن، في اللحظة التي تكون فيها هذه الأفكار على وشك أن تهدئ الغضب الصارم للقانون بالرحمة، تلوح في الأذهان الصورة الملحة لفتيات صغيرات أخريات، ربما المئات منهن في هذه اللحظة بهذه المدينة العظيمة على وشك الوقوع في براثن غاو وحشي عديم الضمير مثل هذا الرجل روبرتسون ... لا يوجد عقاب كاف له ولمن على شاكلته ... وأتذكر أن الرحمة في غير محلها غالبا ما تستحيل قسوة على المدى الطويل. كل ما يمكننا فعله هو أن نذرف دمعة على الأنوثة الآثمة، وأن نصلي من أجل الطفل البريء الذي جلبته هذه الفتاة التعيسة إلى العالم ثمرة لعارها ...»
شعرت فرانسي بوخز بارد بدأ في أطراف أصابعها وزحف إلى ذراعيها ليشعرها بغثيان ودوار وتشوش في جسدها. وكان بإمكانها سماع الهمس في أرجاء القاعة، حيث كانوا جميعا يلعقون شفاههم هامسين بهدوء: «20 عاما، 20 عاما.» قالت لنفسها كما لو كانت تخاطب صديقا: «أظن أنني سأصاب بالإغماء.» تهشم كل شيء واستحال إلى سواد. •••
يستند فينياس بي بلاكهيد جالسا ولاعنا إلى خمس وسائد في وسط سريره الواسع من خشب الماهوجني على الطراز الاستعماري بثمرات أناناس منقوشة في أعمدته، ووجهه بنفسجي بلون روبه الحريري. كانت غرفة النوم الكبيرة المفروشة بأثاث من خشب الماهوجني معلقة بها قطعة قماش جاوية مطبوعة بدلا من ورق الحائط، وكانت فارغة باستثناء خادم هندوسي يرتدي سترة بيضاء وعمامة كان يقف في مؤخرة السرير ويداه على جانبيه، ويحني رأسه من حين لآخر أمام عاصفة من الشتائم الصاخبة، ويقول: «أجل يا سيدي، أجل يا سيدي.» «بحق المسيح الحي لتحضر لي أيها السيد الحقير اللعين ذلك الويسكي وإلا فسأقوم وأكسر كل عظمة في جسدك، هل تسمعني، يا إلهي، ألا يمكنني أن أطاع في بيتي؟ عندما أقول ويسكي أعني الجاودار وليس عصير البرتقال. اللعنة. تعال وخذ هذا!» رفع إبريقا من الزجاج المنحوت من فوق منضدة السرير الجانبية ورماه للخادم الهندي. ثم غاص مجددا على الوسائد، واللعاب يغلي على شفتيه، لاهثا لالتقاط أنفاسه.
مسح الهندوسي في صمت بساط البلوشستاني السميك وانسل خارجا من الغرفة وفي يده كومة من الزجاج المكسور. أصبح بلاكهيد يتنفس بسهولة أكبر، وغرقت عيناه في تجاويفهما العميقة وضاعت في ثنايا جفنيه الأخضرين المترهلين.
بدا نائما عندما دخلت جلاديس مرتدية معطفا للمطر وممسكة بمظلة في يدها. اقتربت من النافذة تمشي على رءوس أصابعها ووقفت تنظر إلى الشارع الممطر الرمادي والمنازل القديمة ذات الحجارة البنية التي تشبه القبور في الجهة المقابلة. لجزء من الثانية كانت فتاة صغيرة تدخل في ثوب نومها لتناول الإفطار في صباح يوم الأحد مع والدها في سريره الكبير.
أفاق جافلا ينظر إليها بعينين محتقنتين بالدم، حيث تضيق عضلات فكه الثقيلة تحت جلده الشاحب الضارب إلى اللون الأرجواني. «حسنا يا جلاديس، أين ويسكي الجاودار الذي طلبته؟» «أوه يا أبي أنت تعرف ما قاله الدكتور ثوم.» «قال إنه سيقتلني تناول مشروب آخر ... حسنا، لم أمت بعد، أليس كذلك؟ إنه حمار ملعون.» «أوه ولكن يجب أن تعتني بنفسك ولا تنفعل كثيرا.» قبلته ووضعت يدا رقيقة باردة على جبهته. «ألم يكن لدي سبب لأنفعل؟ لو كنت قد أمسكت بعنق ذلك الوغد الجبان القذر ... كنا سنتجاوز محنتنا لو لم يكن قد فقد أعصابه. أستحق ما حدث لي لاتخاذي هذا التافه الحقير شريكا ... 25، 30 عاما من العمل ذهبت جميعها إلى الجحيم في 10 دقائق ... طوال 25 عاما كانت لكلمتي قيمتها النقدية. أفضل شيء أفعله هو أن ألحق بالشركة إلى مدينة توفة التوراتية، إلى الجحيم معي. وبحق المسيح الحي، فلذة كبدي قل لي ألا أشرب ... يا إلهي القدير. أنت يا بود ... يا بوب ... أين ذهب ذلك الساعي اللعين؟ أنتم، فليأت أحدكم إلى هنا يا أبناء الكلاب، لم تظنون أنني أدفع لكم رواتبكم؟»
أظهرت ممرضة رأسها من الباب.
صاح بلاكهيد: «اخرجي من هنا، لا أريد أيا منكن أيتها العذراوات المثيرات حولي.» ألقى الوسادة من تحت رأسه. اختفت الممرضة. اصطدمت الوسادة بأحد الأعمدة وارتدت مرة أخرى على السرير. أجهشت جلاديس بالبكاء. «أوه يا أبي، لا أستطيع تحمل ذلك ... والجميع يحترمك دائما ... حاول السيطرة على نفسك يا أبي العزيز.» «ولم يجب أن أفعل ذلك بحق المسيح؟ ... انتهى العرض، لماذا لا تضحكين؟ أسدل الستار. الأمر كله مزحة، مزحة قذرة.»
بدأ يضحك بهذيان، ثم اختنق، وعانى في التقاط أنفاسه قابضا يديه مرة أخرى. قال في النهاية بصوت مبحوح: «ألا ترين أن الويسكي وحده هو ما جعلني أواصل في الحياة؟ اذهبي واتركيني يا جلاديس وأرسلي لي ذلك الهندي الملعون. لطالما أحببتك أكثر من أي شيء في العالم ... تعلمين ذلك. أخبريه بسرعة أن يحضر لي ما طلبته.»
خرجت جلاديس باكية. كان زوجها بالخارج يخطو ذهابا وإيابا في الردهة. «إنهم هؤلاء الصحفيون الملعونون ... لا أعرف ماذا أقول لهم. يقولون إن الدائنين يريدون المحاكمة.»
قاطعت الممرضة قائلة: «السيدة جاستون، يؤسفني أنكم ستضطرون لجلب ممرضين ذكور ... حقيقة لا يمكنني فعل أي شيء معه ...» في الطابق السفلي كان الهاتف يرن.
عندما أحضر الهندوسي زجاجة الويسكي ملأ بلاكهيد كأسا وارتشف جرعة عميقة منها. «آه، هذا يجعلك تشعر بتحسن، إنه كذلك فعلا بحق المسيح الحي. إنك رجل جيد يا أتشميت ... حسنا أظن أنه سيتعين عليك مواجهة الواقع وبيع كل شيء ... الحمد للرب أن جلاديس قد استقرت في حياتها. سأبيع كل شيء ملعون لدي. أتمنى ألا يكون زوج ابنتي الغالي مغفلا. فمن حظي دائما أن أكون محاطا بالكثير من المغفلين ... بحق الرب سأذهب إلى السجن إن كان ذلك في صالحهما بأي شكل. لم لا؟ فهذا كل ما لي في حياتي. وبعد ذلك عندما أخرج سأحصل على وظيفة بحار أو حارس على رصيف الميناء. سيروق لي ذلك الأمر. لماذا لا آخذ الأمر ببساطة بعد إفساد الأمور طوال حياتي، أليس كذلك يا أتشميت؟»
قال الهندوسي منحنيا: «بلى يا سيدي.»
قلده بلاكهيد قائلا: «بلى يا سيدي ... دائما توافقني يا أتشميت، أليس هذا مضحكا؟» بدأ يضحك ضحكة مخشخشة مختنقة. «أظن هذه هي الطريقة الأسهل.» ضحك أكثر فأكثر، ثم فجأة لم يستطع مواصلة الضحك. فقد سرى تشنج في جميع أطرافه. لوى فمه في محاولة للتحدث. تجول بناظريه للحظة في أرجاء الغرفة، كانت عيناه عيني طفل صغير تتألمان قبل أن تجهشا بالبكاء، حتى تراجع عارجا، وفمه المفتوح يعض على كتفه. نظر إليه أتشميت بهدوء لوقت طويل ثم اقترب منه وبصق في وجهه. وعلى الفور أخرج منديلا من جيب سترته الكتانية ومسح البصاق عن جلده العاجي اللون المشدود. ثم أغلق فمه وأسند جسده وسط الوسائد وخرج بهدوء من الغرفة. جلست جلاديس في الصالة على كرسي كبير تقرأ مجلة. «السيد أفضل بكثير، ربما ينام قليلا.»
قالت: «آه يا أتشميت، أنا سعيدة للغاية»، وعادت للنظر في مجلتها. •••
نزلت إلين من الحافلة عند ناصية الجادة الخامسة وشارع 53. كان الشفق الوردي يتدفق من الغرب اللامع، متلألئا في أضواء نحاسية ونيكلية، فوق الأزرار، في عيون الناس. كانت جميع النوافذ على الجانب الشرقي للجادة من الطريق مضاءة. عندما وقفت مثبتة الأسنان على الرصيف تنتظر العبور، لامس وجهها محلاق ضعيف عطر. وكان ثمة فتى نحيف ذو شعر أشقر أشعث يرتدي قبعة تبدو أجنبية يعرض عليها قطلبا في سلة يحملها. اشترت طاقة ودست أنفها فيها. قد تذوب الغابة كالسكر أمام فمها.
انطلقت صافرة، واحتكت التروس حيث بدأت السيارات تتدفق من الشوارع الجانبية، وامتلأ مكان العبور بالناس. شعرت إلين بالفتى يلمسها وهو يعبر بجانبها. فابتعدت عنه. وسط رائحة القطلب اشتمت رائحة أخرى وهي رائحة جسده غير النظيف، رائحة المهاجرين، رائحة جزيرة إيليس، رائحة الشقق المكدسة. وأسفل كل الشوارع المطلية بالنيكل والذهب وأجواء شهر مايو الربيعية، أزعجها شعورها برائحة التجمهر، التي انتشرت في الظلام، جماهير رابضة مثل الروائح النتنة التي تنبعث من البالوعات الفاسدة، كالغوغاء. سارت مسرعة في الشارع المتقاطع. ودخلت من باب بجانب صفيحة نحاسية صغيرة مصقولة ناصعة.
مدام سوبرين
أردية
لقد نسيت كل شيء وسط الرائحة الشبيهة برائحة القطط لمدام سوبرين نفسها، وهي امرأة بدينة سوداء الشعر ربما كانت روسية، والتي خرجت إليها من خلف ستارة باسطة ذراعيها، بينما ينتظر العملاء الآخرون على الأرائك في صالون على طراز الإمبراطورة جوزفين، وينظرون في غبطة.
صاحت بلغة إنجليزية مثالية للغاية: «عزيزتي السيدة هيرف، أين كنت؟ لقد جهزنا فستانك منذ أسبوع. آه يا عزيزتي، انتظري أنت ... إنه رائع ... وكيف هو السيد هاربسيكورت؟» «لقد كنت مشغولة جدا ... كما ترين فأنا سأترك وظيفتي.»
أومأت مدام سوبرين برأسها ورمشت دليلا على معرفتها، وقادتها عبر الستائر المزخرفة إلى الجزء الخلفي للمتجر.
بمزيج من الفرنسية والإنجليزية: «آه، يبدو ... لست مضطرة للعمل، يمكنك بالفعل أن تلاحظي ظهور بعض التجاعيد الصغيرة. ولكنها ستختفي. اعذريني يا عزيزتي.» عصرتها الذراع السميكة حول خصرها. ابتعدت إلين قليلا ... صاحت في صيحة حادة مزعجة كطائر الغرغر، قائلة بمزيج من الفرنسية والإنجليزية: «إنك أجمل امرأة في نيويورك ... أحضري يا أنجيليكا فستان سهرة السيدة هيرف.»
دخلت فتاة شقراء مرهقة ذات وجنتين غائرتين ومعها فستان على مشجب. خلعت إلين بذلتها الخفيفة الرمادية المفصلة. استدارت السيدة سوبرين حولها، مخرخرة. بمزيج من الإنجليزية والفرنسية: «انظري يا أنجيليكا إلى هذين الكتفين، ولون الشعر ... آه إنه الحلم»، واقتربت جدا بعض الشيء كقطة تريد أن تحك ظهرها. كان الفستان باللون الأخضر الفاتح مع شق قرمزي وأزرق داكن. «هذه آخر مرة أرتدي فيها فستانا كهذا، لقد سئمت ارتداء الأزرق والأخضر دائما ...» كانت السيدة سوبرين، وفمها مليء بالدبابيس، عند قدميها، منهمكة دون داع في ذيل الفستان.
كانت تتمتم وشفتاها شبه منغلقتين: «إنها البساطة اليونانية المثالية، مشدود جيدا مثل الإلهة ديانا ... روحانية مع الربيع ... أقصى درجات ضبط النفس كالسباحة أنيت كيليرمان، ممسكة بشعلة الحرية، العذراء الحكيمة.»
كانت إلين تقول لنفسها: إنها محقة، تغير شكلي كثيرا. تقف ناظرة إلى نفسها في مرآة الحائط الطويلة. سأفقد قوامي، مما يؤدي إلى التردد كثيرا في سن اليأس على صالونات التجميل، واللجوء إلى استعمال العديد من مستحضرات التجميل، وإلى عمليات تجميل الوجه.
قالت الخياطة بالفرنسية وهي تقف عند قدميها وتأخذ الدبابيس من فمها: «انظري إلى هذا يا عزيزتي؛ إنه تحفة متجر سوبرين.»
شعرت إلين بالسخونة فجأة، كما لو كانت قد تعثرت في شبكة شائكة، إحساس خانق مروع بسبب الحرير المصبوغ والكريب والموسلين كان يؤلم رأسها؛ فحرصت على الخروج إلى الشارع مرة أخرى.
صرخت الفتاة الشقراء فجأة: «أشم رائحة دخان، هناك شيء ما.» هسهست مدام سوبرين: «صه.» اختفت كلتاهما عبر باب مغطى بمرآة.
تحت كوة في الغرفة الخلفية لمتجر سوبرين تجلس آنا كوهين تخيط قصاصة في فستان بغرز صغيرة سريعة. على الطاولة أمامها ترتفع كومة كبيرة من التل الشديد اللمعان كبياض بيضة مخفوق. تدندن: «تشارلي يا بني، أوه تشارلي يا بني» تخيط المستقبل بغرز صغيرة وسريعة. إن كان إلمير يريد الزواج مني فربما أنا كذلك؛ المسكين إلمير، إنه فتى لطيف ولكنه حالم للغاية. من الغريب أن يقع في غرام فتاة مثلي. سينضج، أو ربما في الثورة، سيصبح رجلا عظيما ... ينبغي أن أمتنع عن الحفلات عندما أصبح زوجة لإلمير. ولكن ربما نستطيع توفير المال وفتح متجر صغير في الجادة إيه في موقع جيد؛ سنجني هناك أموالا أكثر مما نجنيه في شمال المدينة. صيحات الموضة الباريسية.
أراهن أنه بمقدوري أن أنجح كتلك العاهرة العجوز. عندما يكون المرء سيد نفسه، لن يكون هناك هذا القتال حول الإضراب عن العمل والامتناع عن الإضراب ... الفرص متكافئة أمام الجميع. يقول إلمير إن هذا كله عبث. لا أمل للعمال إلا في الثورة. «أوه، أنا مجنونة بهاري، وهاري مجنون بي» ... إلمير في محطة الهاتف يرتدي معطفا للسهرة وغطاء للأذن، طويل القامة كرودلف فالنتينو، قوي البنية كدوج فيربانكس. أعلنت الثورة. الحرس الأحمر يسير في الجادة الخامسة. وآنا في تجعيدات شعرها الذهبية وقطة صغيرة تحت ذراعها تميل معه خارج النافذة الأطول. يرفرف الحمام البهلواني الأبيض أمام المدينة أسفلهما. تتلون الجادة الخامسة بالأعلام الحمراء، وتتألق بفرق المشاة، وتغني أصوات جشاء الأغنية الألمانية «العلم الأحمر» باللغة اليديشية، وبعيدا من عند مبنى وول وورث تهتز لافتة في الريح. «انظر يا حبيبي إلمير» «إلمير داسكن مرشحا لمنصب حاكم المدينة». ويرقصون رقصة شارلستون في جميع المباني المكتبية ... «قرعة طبل». «قرعة طبل». «رقصة شارلستون تلك ... قرعة طبل». «قرعة طبل» ربما أنا أحبه بالفعل. خذني يا إلمير. إلمير محب مثل فالنتينو، يطبق علي محتضنا بذراعين قويين ضاغطين حانيين كذراعي دوج، إلمير.
كانت في الحلم تخيط أصابع بيضاء تشير لها بالمجيء. يتلألأ التل الأبيض الناصع البياض. وتخرج فجأة من التل يد حمراء ممسكة بها؛ لا يمكنها مقاومة التل الأحمر في كل مكان حولها، فيلتف حول رأسها. تستحيل الكوة سوداء بدوامة من الدخان. وتمتلئ الغرفة بالدخان والصراخ. تقف آنا على قدميها، تدور وتقاتل بيديها التل المحترق في كل مكان حولها.
تقف إلين ناظرة لنفسها في مرآة مستطيلة بغرفة القياس. تزداد رائحة الأقمشة المحروقة قوة. بعدما ظلت تجيء وتذهب متوترة لفترة وجيزة، تعبر الباب الزجاجي إلى ممر مليء بالفساتين المعلقة، وتغطس تحت سحابة من الدخان، وترى عبر تدفق العيون غرفة العمل الكبيرة حيث تصرخ الفتيات المحتشدات خلف مدام سوبرين، والتي توجه مطفئة كيميائية نحو أكوام البضائع المتفحمة حول إحدى الطاولات. ويلتقطن شيئا يئن من وسط البضائع المتفحمة. بطرف عينها ترى ذراعا ممزقة، ووجها أحمر محترقا ومسودا، ورأسا أصلع مروعا.
تصرخ بها مدام سوبرين لاهثة: «أوه يا سيدة هيرف، من فضلك أخبريهم في الأمام أنه لا يوجد شيء، لا شيء على الإطلاق ... سأكون هناك في الحال.» تجري إلين بعينين مغمضتين عبر الممر المليء بالدخان إلى الهواء النظيف في غرفة القياس، ومن ثم عندما توقفت قدماها عن الركض، ذهبت عبر الستائر إلى النساء المضطربات في غرفة الانتظار. «طلبت مني مدام سوبرين أن أخبر الجميع أنه لا يوجد شيء، لا شيء مطلقا. مجرد شعلة صغيرة في كومة من القمامة ... أطفأتها بنفسها بمطفئة.»
تقول النساء كل منهن للأخرى عائدات للجلوس على أرائك من طراز الإمبراطورة جوزفين: «لا شيء، لا شيء على الإطلاق.»
تخرج إلين إلى الشارع. تصل سيارات الإطفاء. ويصد رجال الشرطة الحشود. تريد أن تذهب بعيدا لكنها لا تستطيع؛ إذ تنتظر شيئا. سمعت في النهاية رنينا في الشارع. بينما تتراجع سيارات الإطفاء مصلصلة، تصل سيارة الإسعاف. وأحضر المسعفون النقالة المطوية. تتنفس إلين بصعوبة. وتقف بجوار سيارة الإسعاف خلف شرطي عريض يرتدي ملابس زرقاء. تحاول معرفة السبب وراء تأثرها الشديد؛ فقد كان الأمر كما لو أن جزءا سيلف في ضمادات ويحمل على نقالة. سرعان ما خرجت الوجوه المعهودة للمسعفين بزيهم الداكن.
بطريقة ما تمكنت من السؤال من تحت ذراع شرطي: «هل أصيبت بحروق خطيرة؟» «لن تموت ... ولكن الأمر صعب على أي فتاة.» شقت إلين طريقها وسط الحشد وهرعت نحو الجادة الخامسة. اقترب الليل. تسبح الأضواء ساطعة في الليل بزرقة صافية كما في أعماق البحار.
لماذا يؤثر في الأمر إلى هذا الحد؟ ظلت تسأل نفسها. ما هو إلا سوء حظ أدرك أحد الأشخاص، الأمر الذي يحدث كل يوم. لا يبدو أن الاضطرابات والأنين ودوي سيارات الإطفاء قد تتلاشى من داخلها. تقف في حيرة عند إحدى النواصي، بينما تمر بها السيارات والوجوه وامضة وصاخبة. ينظر إليها شاب يرتدي قبعة قشية بطرف عينيه، محاولا أن يصطحبها. فتحدق في وجهه بلا اهتمام. يرتدي ربطة عنق مخططة بالأحمر، والأخضر، والأزرق. تمر به مسرعة، وتعبر إلى الجانب الآخر من الجادة، وتستدير إلى شمال المدينة. الساعة السابعة والنصف. عليها أن تلتقي بشخص ما في مكان ما، ولكنها لا تستطيع التفكير في المكان. ثمة فراغ مرهق مرعب بداخلها. أوه يا إلهي، ماذا أفعل ؟ هكذا تقول متذمرة لنفسها. عند الناصية التالية تستقل سيارة أجرة. «اذهب إلى فندق ألجونكوين من فضلك.»
تتذكر كل شيء الآن، في الساعة الثامنة ستتناول العشاء مع القاضي شامير وزوجته. يجب أن تكون قد ذهبت إلى المنزل لتغيير ملابسها. سيغضب جورج عندما يراني أدخل هكذا بكل هدوء. إنه يحب أن يتباهى بي وأنا مرتدية كل شيء كشجرة كريسماس، كدمية تتحدث وتسير، اللعنة عليه.
تسند ظهرها إلى ركن داخل سيارة الأجرة وعيناها مغمضتان. يجب أن تتيح لنفسها مزيدا من الاسترخاء. من السخف أن تعيش دائما في توتر حيث كل شيء صارخ كالطباشير عند احتكاكه بسبورة. افترض أنني أصبت بحريق فظيع، مثل تلك الفتاة، وأصبحت مشوهة مدى الحياة. ربما يمكنها الحصول على الكثير من المال من الهرم سوبرين لتبدأ به حياتها المهنية. افترض أنني ذهبت مع ذلك الشاب ذي ربطة العنق القبيحة الذي حاول أن يصطحبني ... نمزح ونحن نتناول الحلوى والآيس كريم مع نافورة من المياه الغازية، ونركب الحافلة إلى شمال المدينة ثم نعود، وركبتاه تضغط على ركبتي وذراعه حول خصري، وبعض المداعبة عند المدخل ... ثمة حيوات يمكن للمرء أن يعيشها ولكن فقط إن لم يأخذ كل شيء على محمل الجد. بم أهتم، بأي شيء، برأي الناس، بالمال، بالنجاح، بردهات الفنادق، بالصحة، بالمظلات، ببسكويت أنيدا؟ ... إنني أشبه لعبة ميكانيكية تالفة في الطريقة التي يتعامل بها عقلي مع المشكلات طوال الوقت. آمل ألا يكونوا قد طلبوا العشاء بعد. سأجعلهم يذهبون إلى مكان آخر إن لم يكونوا قد طلبوا الطعام. تفتح حقيبة التجميل الخاصة بها وتبدأ في وضع مسحوق التجميل على أنفها.
عندما تتوقف سيارة الأجرة ويفتح البواب الطويل الباب، تخرج بخطوات بناتية مدببة راقصة، وتدفع الأجرة، وتستدير، وتتورد وجنتاها بعض الشيء، وتتألق عيناها في ليل الشوارع العميقة، الأزرق كالبحر، وتعبر الأبواب الدوارة.
وبينما تمر عبر الأبواب الدوارة اللامعة الصامتة، التي تدور أمام يدها اللامسة للزجاج بقفازها، باغتتها فجأة في غصة فكرة أنها ربما تكون قد نسيت شيئا. القفازات، المحفظة، حقيبة التجميل، المنديل، كل شيء معي. ليس معي مظلة. ترى هل نسيتها في سيارة الأجرة؟ ولكنها كانت قد تقدمت بالفعل مبتسمة نحو رجلين أشيبين يرتديان قميصين باللونين الأسود والأبيض، وكانا ينهضان مبتسمين ويمدان أيديهما. •••
سار بوب هيلدبراند مرتديا روبا وملابس النوم جيئة وذهابا أمام النوافذ الطويلة وهو يدخن غليونا. وعبر الأبواب المنزلقة وإلى داخل الواجهة جاء صوت طنين الكئوس وحك الأقدام والضحك وأغنية «التصرف بجموح» (رانينج وايلد) مصرصرة صرصرة مغمغمة من إبرة الفونوغراف الثلمة. «لماذا لا تبيت هنا الليلة؟» هكذا كان هيلدبراند يقول بصوته الجاد العميق. «هؤلاء الناس سيرحلون تدريجيا ... يمكننا أن نعد لك الأريكة للنوم.»
قال جيمي: «لا، شكرا. سيبدءون في الحديث عن التحليل النفسي خلال دقيقة وسيبقون هنا حتى الفجر.» «ولكن من الأفضل بكثير أن تستقل قطار الصباح.» «لن أستقل أي قطار من القطارات.» «أخبرنا يا هيرف، هل قرأت عن الرجل في فيلادلفيا الذي قتل لأنه ارتدى قبعته القشية في الرابع عشر من مايو؟» «وربي لو كنت داعيا لدين جديد، لاتخذته قديسا.» «ألم تقرأ عنه؟ لم يكن الأمر لطيفا على الإطلاق ... كان لدى هذا الرجل من الطيش ما جعله يدافع عن قبعته القشية. شخص ما لكمها وبدأ في الصراع معه، وفي وسط ذلك جاء أحد أبطال نواصي الشوارع هؤلاء من ورائه وضربه في رأسه بقطعة من أنبوب من الرصاص. حملوه من فوق الأرض وجمجمته مهشمة ومات في المستشفى.» «ماذا كان اسمه يا بوب؟» «لم ألحظ.» «تحدث عن الجندي المجهول ... ذلك بطل حقيقي في رأيك؛ الأسطورة الذهبية للرجل الذي يرتدي قبعة قشية خارج الموسم.»
علق رأس بين بابي البوابة المزدوجة. ونظر منهما رجل متورد الوجه وشعره فوق عينيه. «ألا أحضر لكم يا سادة جرعة من شراب الجن ... جنازة من هذه على أي حال؟»
قال هيلدبراند بتذمر: «أنا ذاهب لأنام، لا تجلب لي الجن.»
قال هيرف: «إنها جنازة القديس ألويسيوس قديس فيلادلفيا، بكر وشهيد، الرجل الذي كان يرتدي قبعة قشية في غير موسمها. يمكنني أن أرتشف قليلا من الجن. يجب أن أركض خلال دقيقة ... وداعا يا بوب.» «وداعا أيها الرحالة الغامض ... دعنا نعرف عنوانك، هل تسمعني؟»
كانت الغرفة الأمامية الطويلة مليئة بزجاجات الجن، ومزر الزنجبيل، ومطافئ السجائر المكدسة بسجائر نصف مدخنة، وأزواج يرقصون، وأشخاص ممددون على الأرائك. صدع صوت الفونوغراف بلا نهاية بأغنية «سيدتي ... سيدتي أحسني معاملتي (ليدي ... ليدي بي جود).» دفع بكأس من الجن في يد هيرف. واقتربت منه فتاة. «كنا نتحدث عنك ... هل تعلم أنك كنت رجلا غامضا؟»
جاء صوت مخمور صاخب: «جيمي، أنت مشتبه في كونك قاطع الطريق ذا الشعر القصير.»
قالت الفتاة، وهي تضع ذراعها حول خصره: «لماذا لا تمارس الجريمة يا جيمي؟ سأحضر إلى محاكمتك، صدقا سأفعل.» «كيف لك أن تعرفي أنني لا أمارسها؟»
قالت فرانسيس هيلدبراند، التي كانت تحضر وعاء من الثلج المكسر من المطبخ الصغير: «هناك شيء غامض يجري.»
أمسك هيرف بيد الفتاة بجانبه وجعلها ترقص معه. ظلت تتعثر فوق قدميه. رقص معها بحرية ونشاط حتى أصبح أمام باب الردهة؛ ثم فتح الباب ورقص معها بخطوات سريعة وقصيرة حتى أصبحا في الردهة. فمدت فمها دون تفكير ليقبلها. قبلها بسرعة وأخذ قبعته. وقال: «ليلة سعيدة.» أجهشت الفتاة في البكاء.
عندما خرج إلى الشارع أخذ نفسا عميقا. وشعر بالسعادة، سعادة أكبر بكثير من تلك التي يشعر بها في حي جرينتش فيليج البوهيمي. كان يبحث عن ساعته عندما تذكر أنه قد رهنها.
الأسطورة الذهبية للرجل الذي ارتدى قبعة قشية في غير موسمها. يسير جيمي هيرف غربا على طول شارع 23، ضاحكا لنفسه. أعطني حريتي أو اقتلني، هكذا قال باتريك هنري واضعا قبعته القشية في الأول من مايو. وقد نال ما طلب. لا توجد عربات ترام، وثمة عربة حليب تمر مقعقعة من حين لآخر، ومنازل تشيلسي كسيرة الفؤاد مظلمة ... تمر سيارة أجرة وتتبعها ضوضاء غناء مشوشة. عند ناصية الجادة التاسعة لاحظ عينين كثقبين في صحيفة بيضاء مثلثة، حيث كانت امرأة ترتدي معطف مطر تشير إليه بالمجيء من عند المدخل. بعدها كان اثنان من البحارة الإنجليز يتجادلون بلهجة كوكنية في حالة سكر. يصبح الهواء لبنيا يشوبه الضباب عندما يقترب من النهر. يمكنه سماع صوت القوارب البخارية الضخم الناعم الذي ينخفض بابتعاده.
يجلس لوقت طويل في انتظار العبارة في غرفة الانتظار القرمزية الضوء. يجلس يدخن في سعادة. يبدو أنه غير قادر على تذكر أي شيء، لا يوجد مستقبل سوى النهر الضبابي والعبارة التي تلوح كبيرة في الأفق بأضوائها تباعا كابتسامة زنجي. يقف خالعا قبعته على القضيب ويشعر برياح النهر في شعره. ربما سيصاب بالجنون، ربما يكون هذا فقدان الذاكرة، ربما مرض ما باسم يوناني طويل، ربما سيجدونه يقطف التوت الشوكي في نفق هادسون. يضحك بأعلى صوته حتى إن الرجل الهرم الذي جاء لفتح البوابات نظر إليه بطرف عينيه. مجنون، مخبول، هذا ما يقوله لنفسه. ربما هو على حق. وربي لو كنت رساما، لربما سمحوا لي بالرسم في مصحة المجانين، ولكنت قد رسمت القديس ألويسيوس قديس فيلادلفيا بقبعة قشية على رأسه بدلا من هالة القديسين، ولرسمت في يده أنبوبا من الرصاص، أداة استشهاده، ولرسمت نفسي صغيرا أصلي عند قدميه. الراكب الوحيد في العبارة، كان يتجول في أنحائها كما لو كان يملكها. يختي المؤقت. بحق جوبيتر هذه هي كآبة الليل بحق، هكذا يتمتم. يواصل محاولة شرح سبب ابتهاجه لنفسه. ليس لأنني مخمور. ربما أكون مجنونا، ولكنني لا أظن ذلك ...
قبل أن تغادر العبارة يصعد حصان وعربة على متنها، عربة ذات زنبركات محطمة ومحملة بالزهور يقودها رجل صغير البنية بني البشرة بعظمتي وجنتين مرتفعتين. يسير جيمي هيرف حولها، وخلف الحصان الواهن ذي الوركين الشبيهين بمشجبين للقبعات يجد العربة الصغيرة المعوجة مبهجة على نحو غير متوقع، ومكدسة بأوان من نبات إبرة الراعي القرمزي والوردي، والقرنفل، والآلوسن، والورود الصناعية، واللوبيليا الزرقاء. فاحت منها رائحة تربة الربيع في شهر مايو الغنية، رائحة أواني الزهور الندية والدفيئات. يجلس السائق متحدبا وقبعته على عينيه. يشعر جيمي برغبة في سؤاله إلى أين يذهب بكل تلك الزهور، لكنه يخمدها ويسير إلى مقدمة العبارة.
ومن ضباب النهر المظلم الفارغ، ينفتح منزلق العبارات فجأة كالمتثائب بفم أسود ذي حلق مضيء. يسرع هيرف عبر العتمة الجوفاء ويخرج إلى الشارع الذي يغيم عليه الضباب. ثم يصعد جرفا. ثمة آثار أقدام تحته وقعقعة قطار شحن، هسهسة محرك. وعلى قمة تل يتوقف لينظر خلفه. لا يستطيع أن يرى سوى الضباب متباعدا مع صف من المصابيح القوسية المغبشة. ثم يواصل السير مستمتعا بالتنفس على إيقاع نبض دمائه، ووطء قدميه على الرصيف، بين صفوف المنازل الخشبية التي تفوق روعتها الخيال. يخف الضباب تدريجيا، وتتسرب لؤلئية الصباح من مكان ما.
يدركه الشروق سائرا على طول طريق أسمنتي بين أراضي المكبات المليئة بأكوام القمامة المدخنة. وتشرق الشمس حمراء عبر الضباب على محركات البخار الصدئة، وهياكل الشاحنات، والقوائم المستعرضة لسيارات الفورد، وكتل عديمة الشكل لمعدن متآكل. أسرع جيمي الخطى للتخلص من الرائحة. إنه جائع، وقد بدأ حذاؤه يتسبب في ظهور البثور على إبهامي قدميه. في مفترق طرق حيث لا يزال ضوء التحذير يومض مرارا وتكرارا توجد محطة بنزين، وفي مقابلها عربة غداء مكتوب عليها «الخنفسة المضيئة». صرف ربع الدولار الأخير معه بحذر على الفطور. وبذلك يتبقى معه ثلاثة سنتات علها تجلب له الحظ الحسن أو السيئ، فكلاهما سواء. وصلت شاحنة أثاث ضخمة لامعة وصفراء لتوها في الخارج.
سأل الرجل ذا الشعر الأحمر الجالس إلى عجلة القيادة: «اسمع، هل توصلني؟» «كم تبعد وجهتك؟» «لا أعلم ... بعيدة جدا.»
Página desconocida