وإذا منح المطالع قوة يميز بها بين الغث والسمين وبين الحقيقة والخيال، وكانت في غريزته قوة خارقة للعادة تخرق حجب الباطل حتى تصل إلى الحق، فإنه ولا جرم يبلغ نتيجة ترضيه ويقف على حقائق كثيرة لم يقف عليها غيره، فإذا وقف على تلك الحقائق فقد خطا الخطوة الأولى ولم يبق عليه إلا أن يلم بتأثير العوامل الخارجية والداخلية التي لها في حالة مصر السياسية وهيئتها الاجتماعية أيد فعالة، وبهذه الوسيلة وحدها يمكن للمطالع أن يهتدي إلى الحكم على مستقبل تلك البلاد. وغرضنا في هذا الكتاب أن نحاول جهد طاقتنا أن نشرح الحاضر ونتكهن بكنه المستقبل.
وقد وطدنا النفس على الثبات وسنزن أقوالنا في ميزان الحكمة والعقل، ونرجو أن لا يميل هذا الميزان مع هوى أو يعدل عن حق، ولعل المحك الذي سنحك عليه ما نكتب لا يخدعنا كما خدع غيرنا فننطق عن جهل كما نطق سوانا من قبل.
على أننا لا نستطيع أن نبلغ هذه الغاية إلا إذا وقفنا على تاريخ مصر بالتفصيل في خلال الثلاثين سنة الماضية، ولا ندرك هذه النتيجة إلا إذا قدرنا نفوذ إنكلترا وفرنسا في مصر حق قدرهما، ولا نستطيع نيل هذه النتيجة إلا إذا وسعنا نطاق دائرة الفكر وتخلصنا من آراء التحزب والتحامل المنبعثة عن كل مسألة سياسية خطيرة مثل المسألة المصرية، وغضضنا النظر عن المنادين بالوطنية رياء وكذبا لأغراض أخرى في نفوسهم ولبانات يتوقعون قضاءها.
فإذا استعددنا هذا الاستعداد لفحص تلك المسألة فنكون قد وضعناها في مكان تشرق عليها فيه أنوار الحقيقة، ونظرنا لها بمنظار المؤرخ السياسي الحكيم الذي يراعي الحقيقة ويحرص على منفعة البلاد حرص الجبان على نفسه قبل أن يراعي المبادئ الذاتية والأغراض الشخصية.
ولذلك سنلقي نظرة صغيرة على تاريخ مصر في تلك السنين الثلاثين ونضع أساسا متينا نبني عليه (تخت رمل) ننظر فيه نظر المنجم إلى طالع هذه البلاد، ونتكهن بما تخبئه لها الأيام والليالي.
وأول ما ينبغي لنا أن ننظر فيه هو علاقة فرنسا بمصر، وألا نبخس هذه الدولة حقها، فإن نفوذها يمتد إلى عهد حملة نابوليون سنة 1798، فكانت فرنسا أول دولة غربية مدت يدها إلى مصر وسعت للاستيلاء عليها، ولئن خاب سعيها فإنها فازت فوزا مبينا في ترك آثار لها في مصر لا يمحوها كرور الأيام ومرور الأعوام، وليس لدينا شهادة أكبر وأقوى من شهادة اللورد ملنر صاحب كتاب «إنكلترا في مصر»، فإنه قال فيه: «إن المنافع المادية والأدبية التي تمت لمصر على أيدي فرنسا كثيرة لا تحصى.»
فنحن لا نظن أن الذين ينكرون جميل فرنسا أكثر من الذين يعترفون به، ولا نغالي في المقال إذا قلنا إن المدنية المصرية الحديثة هي مدنية فرنسوية صرفة، ويكفي لتصديق هذا القول أن نلقي نظرة واحدة على أعمال فرنسا في هذه البلاد، فمن من العالمين لم يسمع باسم فرنكو شامبوليون الذي سهل لنا باجتهاده وثباته قراءة تاريخ مصر القديم باللسان الهروغليفي، وأضاف باكتشافه حلا لتلك الرموز إلى مصر شهرة فوق شهرتها السابقة، وجعلها ملتقى الأنظار ومحط الرحال، ومن ينكر أن إصلاح الري في عهد محمد علي وبناء القناطر الخيرية وعمل الخزانات لخزن ماء النيل، وأن كل ما نراه اليوم في مصر مما يتعلق بالانتفاع بماء النيل ليس إلا من عمل المهندسين الفرنسويين الذين كانوا عضد محمد علي ويده اليمنى.
ومن ينكر أن المهندسين الفرنسويين كانوا قائمين بكل الأعمال الهندسية عندما كان المستخدمون الفرنسويون قائمين بالأعمال الإدارية؛ بل من ينكر علينا أن قنال السويس - وهو أكبر عمل فني تم في القرن التاسع عشر - هو من صنع الفرنسويين فكرا وعملا؟ فيرى القارئ مما تقدم أن الإصلاح الذي جلب لمصر أكثر من نصف ثروتها الحاضرة ليس إلا من غرس الفرنسويين وما جاء الإنكليز إلا منفذين ومكملين.
هذا ومن يفحص نظام التعليم الحالي في مصر يرى لأول وهلة أنه منقول عن نظام التعليم الفرنسوي، وأكبر دليل على ذلك هو سيادة اللغة الفرنسوية على كل لغة أخرى في مصر، فإنها لا تزال لغة مصر الرسمية ولا تزال اللغة المحكية بين الخاصة من المتعلمين، ولا نرى دليلا على وصول المدنية الفرنسوية إلى قلوب المصريين أكبر من بلوغ لسانهم هذا الشأو البعيد في وادي النيل، وقد سرى هذا النفوذ إلى بعض المستخدمين من الإنكليز، فهم لا يزالون حتى اليوم يكتبون أوراقهم الرسمية باللغة الفرنسوية!
ولكن الذي يذكر عن فرنسا بالثناء والشكر هو أنها لم تكن تعمل في وادي النيل لتمتص ثروة البلاد، فإن الفرنسويين أفرغوا جهدهم ولم يدخروا وسعا في القيام بأعمال توازي ما يأخذونه من مال مصر وتزيد، ومن المعلوم أن ثروة مصر منذ خمسين سنة لم تكن كافية لتمهد لها سبيل التقدم الباهر الذي وصلت إليه، فمدت أوروبا يدها بالمال لمساعدة مصر وأقرضتها أكثر من مائة ألف ألف جنيه، فكانت فرنسا أول ملبية لدعوة مصر، وكان معظم هذا القدر الجسيم من مال الفرنسويين.
Página desconocida