وتفصيل تلك المكيدة أن إنكلترا طلبت من بلجيكا وهي صاحبة ولاية الكونجو الحرة أن تضيف أراضي بحر الغزال إلى أملاكها. قبلت بلجيكا هذه الدعوة وقبلت تلك الهدية ولكن فرنسا تنبهت لذلك وضغطت ضغطا سياسيا شديدا على بلجيكا اضطرها إلى التنازل عن حقوقها وما تم بعد ذلك معروف مشهور، فإن إنكلترا جردت حملة أم درمان الشهيرة وتغلبت على دولة المهدي وبعد ذلك كله بلغت «فاشوده» حملة فرنسوية نصف حربية، هي حملة «مارشان» الذي جاء يقود مائتي رجل ضد «كتشنر» الذي كان يقود خمسة وعشرين ألف رجل، وهكذا اضطر «مرشان» إلى تنكيس أعلام فرنسا، وقد سببت تلك الهزيمة المعنوية في فرنسا حركة كبيرة وحدة بلغت حدا عظيما، ولكن رأت فرنسا بعد ذلك أنه خير لها أن تتنازل عن حقوقها من أن تدخل مع إنكلترا في حرب بشأن مستعمرة في أواسط أفريقيا.
فلو حسبت فرنسا حساب المستقبل لاتقت شر تلك الخسارة بأن وطدت قدمها في أعالي النيل قبل سقوط «أم درمان» في الفرصة التي سنحت لها بين سنتي 1894 و1896.
على أن «هزيمة عدوة» الشهيرة التي كانت في الحقيقة صورة ثانية من واقعة «كودين فوركس»، والتي سلم فيها أغلب الجيش الإيطالي للأحباش، أهبطت مساعي إنكلترا في تحويل الحبشة عن النيل، ولكن الحملة الإيطالية جاءت بما كانت ترجوه إنكلترا وزيادة، فكانت نتيجتها أن النجاشي اضطر لتعيين حدود مملكته، فكأن يوم «عدوة» كان يوم موت النفوذ الإيطالي في أفريقيا؛ ولذلك ظهر أثره بسرعة شديدة في سياسة إيطاليا نحو مصر.
فإن إيطاليا بعد «عدوة» يئست من تأسيس إمبراطورية عظيمة في شرق أفريقيا؛ ولذلك أصبح بقاء الحال الحاضرة في مصر على ما هي عليه وتغييرها عند إيطاليا سيان؛ لأنها لا ترجو من مصر فائدة سياسية، وسيرى القارئ في فصل آت أنه لو كانت إيطاليا لا تزال مهتمة بأفريقيا فإن هذا الاهتمام ليس إلا لتحصل في هذه القارة على مخرج يخرج إليه أبناؤها الذين ضاقت عليهم بلادهم، ومن الصعب جدا أن تحصل إيطاليا على غرضها بدون أن تعاكس سياسة إنكلترا في أفريقيا.
وقد ابتدأت إيطاليا تحس بكثرة سكانها وقلة موارد الرزق في بلادها كما ابتدأت ألمانيا تحس بذلك، ولا يخفى أن مساحة إيطاليا تزيد بقليل عن نصف مساحة فرنسا، ولكن أهل إيطاليا إن لم يزيدوا على أهل فرنسا فإنهم يعادلونهم عدا، فإيطاليا لا يمكنها أن تحيا بدون استعمار وأبناؤها في احتياج شديد إلى المهاجرة، ولكن إيطاليا في خوف شديد من أن أبناءها ينزحون إلى أمريكا؛ لأن من ينزح إلى هذه البلاد يفقد وطنيته ولا يستردها مرة ثانية، ولو كان في قدرة إيطاليا أن تتملك أرضا في جنوب أمريكا ما تأخرت، ولكن تعليم «مونرو» القائل بأن: «أمريكا للأمريكيين» يقف في وجه إيطاليا وقوف السد في وجه النهر المندفع.
ولسنا في حاجة إلى ذكر كراهية إيطاليا لبريطانيا التي سببها ظن الإيطاليين بأن إنكلترا غررت بهم في حرب الحبشة، ولكننا في حاجة إلى تقرير حقيقة واضحة وهي أنه إذا حدث أن بعض الدول اتفقن ضد إنكلترا فإن إيطاليا تنضم إليهن ولا تناصر إنكلترا أبدا.
أجل إن إيطاليا يهمها كثيرا أن تلحق إنكلترا المذلة والصغار، ولو حان حين إنكلترا فإن إيطاليا لا تتأخر طرفة عين عن الاشتراك مع الدول في اقتسام الغنيمة البريطانية. على أن إيطاليا غير محمية من كل جهاتها، فهي ليست في مأمن من هجوم أي دولة من جهة البحر، فلا ينتظر من إيطاليا أنها تكون راضية عن توطيد أقدام إنكلترا في مصر من هذه الجهة، ولو رأت إيطاليا أن مركز احتلال مصر لا يفيد إنكلترا فإنها كما ذكرنا آنفا لا تهتم بمصر أقل اهتمام؛ لأن إيطاليا لا تريد إلا أن توصل الأذى إلى عدوتها، ولكن منذ سنين قليلة (أي قبل عدوه) لم تكن الحال كما هي الآن، فإن إيطاليا وإنكلترا كانتا على أتم ما يكون من الوفاق في المسألة المصرية، ولكن هذا الوفاق لم يكن إلا لأن منافعهما كانت في ذلك الحين متحدة متفقة، وكانت إيطاليا تريد أن تشد أزر إنكلترا في أعال النيل لأنها كانت تأمل أن تفوز في الحبشة فتتحدان في العمل في أواسط أفريقيا بما تهويان، ومن هنا يظهر سبب مناصرة إيطاليا لإنكلترا عندما طلبت هذه من صندوق الدين المصري نصف مليون جنيه لأجل حملة «دنقلة». وفي هذه الحادثة ضمت إيطاليا صوتها إلى صوتي النمسا وإنكلترا ففازت إنكلترا بذلك رغم أنف عدوتها فرنسا وحليفتها روسيا على أن إيطاليا لا تعود إلى مثل هذا الولاء بغير تعويض يقدمه لها الأسد البريطاني.
الفصل الثالث
سياسة بريطانيا الاستعمارية
قد حاولنا فيما تقدم من هذا الكتاب جهد طاقتنا أن نسير على الخطة التي رسمناها في أوله، ففصلنا كل حبل من حبال الشبكة على حدة فاستطعنا بذلك أن نحل عقدة المسألة المصرية، فوقف بنا البحث على حقيقة واضحة وهذه الحقيقة هي أنه لا يوجد دافع قوى يدفع أي دولة أوروبية لأن تسعى في إبقاء المسألة المصرية في شكلها الحاضر، ونحن نقصد بقولنا دافع قوى الدافع السياسي؛ لأن كل الدول مشتركة في الاهتمام بأمر صندوق الدين ولكن هذا الدافع مالي وسنتكلم عنه فيما يأتي لأن المنافع المالية والمنافع السياسية تختلف اختلافا شديدا، فرأينا من المهم أن نبحث في كل من الأمرين على حدة، ولكن هذه النتيجة السياسية التي ظهرت لنا وهي أنه لا توجد دولة تهتم بمصر لأن لا دافع سياسي شديد يدفعها إلى ذلك ليست إلا نتيجة منطقية تصدق ظاهرا، ولكن الأمر في الحقيقة بخلاف ذلك لأنه للآن لا تزال الدول والأمم تعتبر المسألة المصرية مسألة دولية، ولا تزال مصر أرضا خصبة لزرع القلاقل والاختلافات السياسية، وأن موضوعها موضوع نحيف لا يمكن مسه إلا باحتراس، وخير للدول جمعاء أن لا تمسه.
Página desconocida