تفسير قوله تعالى:
﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا﴾
قال الله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: ٣٠].
كلما لمح آيات القرآن قارئها المتبصر وتدبرها حق التدبُّر وجد فصاحة إعجازه الدالة على أنه ليس من مألوف كلام البشر، سارية في كل ما يحتويه مما له دلالة على مقدار من معاني الكلام البليغ، سواء كان جملًا تامة الإفادة، أو تراكيب مكلمة إفادة ما معها، أو روابط تشد بين كلماته وتراكيبه عرى الالتئام، فتكون للكلام كالسلك للعقد النظيم، أو القالب الذي يفرغ فيه الذهب الكريم.
فبهذه المثابة، وعلى هذا النعت، نجد موقع الفاء، التي افتتحت بها هذه الآيات، تلك هي الفاء التي يسميها علماء العربية فاء الفصيحة، ويحق لها هنا أن يقال لها الفاء الفصيحة.
فاء الفصيحة هي التي تقع بعد كلام يفيد غرضًا من الأغراض، فتوزن بشيء مقدر كشرط تكون تلك الفاء رابطة لجوابه لقصد الإيجاز، فيقدر هنا إجمالًا: إذا علمت ما قيل لك ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا﴾، وقد يكون المقدر غير شرط في كلام آخر؛ ذلك أن الآيات السابقة تحوم حول إثبات أن الله واحد في الألوهية، وأنه لا شريك له، وأن قدرته لا يتعاصى عليها شيء من الممكنات إبطالًا لتكذيب المشركين بالبعث، ابتداء من قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ﴾ [الروم: ٢٠]، وما عطف عليه من الدلائل والأمثال بتقدير الكلام تفصيلًا: إذ علمت أنك على الحق وعلمت أن المعرضين عن دعوتك معاندون مبطلون ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا﴾.
فالأمر مستعمل في طلب الدوام على الفعل، لا في ابتداء إيجابه وهو مثل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [النساء: ١٣٦].
والخطاب للرسول ﷺ تثبيتًا لفؤاده وتأييدًا له، وهو شامل للمسلمين؛ لأن الرسول ﷺ قدوتهم؛ ولذلك قال في الآية التي بعدها: ﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ﴾ [الروم: ٣١].
1 / 35