الحالان في قوله: ﴿مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ زيادة في تمجيده وتشريفه وليس هما غرض المخبر، إذ ليست الحال عمدة الكلام وكذلك ما بعدها من الصفات.
فكانت الكعبة بهذا أفضل المساجد، وإنما كانت أولية السبق مقتضية التفضيل؛ لأن هذا المسجد كان أصلًا للبقية، فكل فضل لغيره بعده يكون له منه حظ فلا يزال فضله يتزايد؛ ولأن مواضع العبادة لا تتفاضل من جهة وقوع العبادة فيها؛ إذ هي في ذلك سواء، وإنما تتفاضل بما يحف بها من طول الزمان في عمرانها بالأنوار الملكية وبإخلاص مؤسسيها في تأسيسها، وأي إخلاص أعظم من إخلاص تأسيس أصل معابد التوحيد التي كانت المعابد بعده تقليدًا له محاكاةً لغرضه؛ وإذ قد تبينت أن مساق الآية مساق الاستدلال على علة الأمر باتباع ملة إبراهيم، فكأنك قد استشرفت إلى بيان وجه هذا الدليل، وكيف تمام التقريب فيه؟ .
ووجهه أن الكعبة لما كانت أول هيكل أقيم لإعلان توحيد الله وهو مبدأ الحنيفية فقد ثبتت لهذا البيت أفضلية على كل مسجد تقام فيه دلائل التوحيد، وهذا الأثر أقامه إبراهيم ﵇ كما دل عليه آخر الآية، وإبراهيم هو رسول الحنيفية الأول، فإذا استقرت فضيلة هذا الأثر على بقية الآثار الدينية الحقة ثبتت الفضيلة لا محالة للملة التي أقيم هذا الأثر دليلًا عليها ومناديًا بها على ممر الأحقاب لكونه دليلها وفيه ظهرت، فتكون أشرف الملل، وهذا الاستدلال جارٍ على طريق دلالة الالتزام فهو استدلال بطريقة الكفاية بشرف المحل على شرف الحال فيه؛ كقول زياد الأعجم (شاعر أموي):
إن السماحة والمروءة والندى ... في قبة ضربت على ابن الحشرج
وهذه الطريقة في صناعة البلاغة كإثبات الشيء بحجة ولها تأثير على المخاطبين فكانت الحنيفية بذلك أفضل الملل؛ لأنها أقامت للتوحيد أول معبد ومسجد، ولأنها جمعت للدعوة الحق بالقول الدعوة له بالمشاهدة؛ ولأن الملل التي تقدمتها كانت تنسى بوفاة رسلها وانقطاع أقوالهم، والحنفية بقي أثرها ناطقًا، فإذا كان أول مسجد بناه إبراهيم للتوحيد هو الكعبة تكون الملة التي نبعت منه وظهرت فيه أفضل الملل بحكم إعطاء شرف القرين لقرينه.
وقوله تعالى: ﴿مُبَارَكًا﴾ حال من اسم الموصول الصادق على البيت، أي:
1 / 28