قال: لا، قد كان قبله بيوت ولكنه كان ﴿أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا﴾ [آل عمران: ٩٦، ٩٧]، فجعل الأولية المقصودة هي المقيدة بالحالين ﴿مُبَارَكًا وَهُدًى﴾ وأنا أستبعد صحة هذه الرواية عنه؛ إذ هو عربي بليغ، وهذه الأحوال غير صالحة لتقييد الأولية؛ إذ ليست هي أحوالًا من المضاف إليه، بل هي أحوال من خبر إن، ولا يجوز جعلها أحوالًا من المضاف إليه؛ لأنه يقتضي الفصل بين الحال وصاحبه؛ وذلك يوجب اللبس بجعل ﴿مُبَارَكًا﴾ حالًا من ﴿بَيْتٍ﴾ تقييدًا للعامل وهو: ﴿أَوَّلَ﴾، وفي رواية عنه: أنه أول بيت وضع لعبادة الله، وهذا أحسن، ومن المفسرين من يجعل ﴿أَوَّلَ﴾ هنا بمعنى الشرف، أي كقوله: ﴿الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ ومنهم من حمل ﴿النَّاسَ﴾ على خصوص العرب، وعن مجاهد ما يقتضي جعله أول بالنسبة إلى خصوص بيت المقدس.
وهذه الأقوال راجعة إلى التأويل إما بتأويل لفظ ﴿أَوَّلَ﴾ أو بتأويل معنى البيت، أو بتأويل معنى الوضع، أو بتأويل المراد بالناس، أو بتأويل نظم الآية ولا حاجة بنا إلى استيعابها استدلالًا وردًّا؛ إذ ليس ذلك من غرضنا.
والذي أراه وأجزم به في معنى الآية: أن القرآن كتاب شريعة وهدى، وليس من أغراضه تاريخ المباني ولا تاريخ أطوار مساكن البشر فلا يعبأ بذكر المباني غير الدينية ولا بذكر الهياكل الدينية الضالة، وأن الآية مسوقة كما بيناه آنفًا للاستدلال على وجوب اتباع ملة إبراهيم معنيَّا بها الإسلام ووجوب الحج؛ فتعين أن يكون المراد من الأول: الأول في نوع، وبالبيوت: بيوت العبادة الحقة والهدى إلى الحق؛ وذلك أن الله تعالى بعث الرسل قبل إبراهيم فدعوا إلى عبادة الله وتوحيده، وكانت الأمم في ضلالتهم إذا أشركوا بالله أقاموا لمعبوداتهم ولشُرَكَائِهم تماثيل وهياكل كما فعل قوم نوح وقوم إبراهيم الكلدانيون، وقامت الرسل تدعو إلى التوحيد بالقول؛ ولكن لم يؤمر أحد منهم بأن يقيم هيكلًا ينادي فيه لعبادة الله ولتوحيده، ويناغي بذلك تماثيل المشركين، ويردد ذلك على مسامع الناس، فلما بعث الله إبراهيم أمره بإقامة هيكل لعبادة الرب الحق الواحد ليدافع بذلك تظاهر المشركين، قال تعالى: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ﴾ [الحج: ٢٦، ٢٧]؛ فكان بناء الكعبة رمزًا
1 / 26