مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أستعين، وعليه أتوكل
الحمد لله المتفرد بالكبرياء، المتوحد بالبقاء، فاطر الأرض والسماء، رب الظلمة والضياء، العدل في القضاء، الحكيم في الإعادة والإبداء، وصلواته على محمد خاتم الأنبياء، وعلى آله سادات الأولياء.
أما بعد..
فإني لما نظرت في الآراء المختلفة، والأهواء المتفرقة، وجدت العقلاء مختلفين في جميع الديانات، وفي المحسوسات والمعقولات، فمن سوفسطائي نفى حقيقة كل شيء حتى المشاهدات، ومن مثبت للمشاهد دون الإستدلاليات، ومن قائل بالإستدلال منكر للصانع قائل بالهيولى والطبائع، ومن ثنوي أثبت أصلين قديمين، ومن مجوسي قال بصانعين، ونصراني وصف الصانع بالتثليث والإلحاد، ومشبه وصفه بالأنداد، وآخر بالمجيء والذهاب والمكان والجهات، وقرمطي نفى الصفات، وأبطل الشرائع والنبوات، وصفاتي أثبت معه أشياء، ومجبر أضاف إلى خلقه القبائح والفحشاء، وبرهمي سد باب النبوات، ويهودي أنكر نسخ الشرعيات، ومن غال ومفوض أضاف صنع الله إلى خلقه وأثبت العالم صنعا لغيره، ومن مناسخ أثبت للمكلف حالا أطاع وعصى ثم نسخ إلى الحالة الأخرى، ومن مرجي لا يرى وعيد الفجار ويثبت لهم الخلود في دار الأبرار، وخارجي كفر من ارتكب فسقا، وحشوي يراه مؤمنا حقا، ومن منكر للبعث والجزاء والموعود يوم اللقاء، ومن رافضي كفر الصحابة، وناصبي نصب لأهل البيت العداوة، إلى غير ذلك من المقالات المختلفة.
ورأيت كل فرقة تكفر صاحبتها وتضللها، وتدعو إلى عقيدة تعتقدها وتنتحلها، وكل أحد يوعد من خالفه عذابا أليما، ويرى لموافقته ثوابا ونعيما.
Página 25
وخطر ببالي أنه لا بد من حق وحقيقة، ولا بد في ذلك من سبيل وطريقة، فوجدت الطريق إلى النجاة هو التفكر لتمييز الحق من الباطل، ورأيت العقلاء يفزعون إلى النظر إذا دهمتهم المعضلات وحزبتهم المشكلات، فنظرت في المسائل مسألة مسألة حتى استوفيتها، وتصفحت الأدلة والشبه حتى عرفتها، وتبينت متعلق كل طائفة وحجج كل فرقة، ووجدت سبيل الحق ظاهرة، وبراهينه لائحة، ومذاهب كل المبطلين داحضة، ومقالتهم متناقضة، ورأيت القوم ذهبوا في الضلالة كل مذهب لضروب من الدواعي، وانصرفوا من الحق لضروب من الصوارف، منها: الإلف والعادة، فإن العدول عن المألوف مما يصعب ويشق، ومنها التقليد، إما للآباء وإما للرؤساء، كما قالوا: ?إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون?[الزخرف:23]، ومنها الهوى الذي يميل بالرجل عن سواء السبيل، ومنها الرئاسة وما فيها من المنافسة، ومنها الإعراض عن النظر الصحيح، والإشتغال إما بالشبه أو بالهوى واللعب، ومنها العناد، إلى غير ذلك، فإن دعاوي الباطل كثيرة، والصوارف عن الحق جمة، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وآله -: ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)).
ووجدت أولى ما يشغل به المرء العاقل أمور دينه من علم يحصله ثم عمل يعمل به، فإن مبني أمور العقلاء على شيئين: جلب نفع، ودفع ضرر، ولا نفع أعظم من الثواب، ولا ضرر أعظم من العقاب، فلا شيء من المنافع يرغب العاقل في طلبه إلا وهو حاصل في الثواب، فمنها أنه نعمة، ومنها أنه كثير، ومنها أنه دائم، ومنها أنه خالص غير مشوب بما ينغصه، ومنها أنه مستحق، ومنها أن النعيم فيه يدوم له، ومنها أنه يقارنه التعظيم إلى غير ذلك من الوجوه.
Página 26
وعلى الضد من ذلك حال العقاب، فلا شيء يخاف منه العاقل ويعد ضررا إلا وهو حاصل فيه، فمنها أنه آلام ومحن، ومنها أنه كثير، ومنها أنه دائم، ومنها أنه غير مشوب براحة، ومنها أنه مستحق، ومنها أنه دائم فيه، ومنها أنه مستحق يقارنه الإستخفاف والإهانة إلى غير ذلك من الوجوه، فلا شيء أولى من طلب الثواب، ولا شيء أهم من النجاة من العقاب، وحصول ذلك بالعلم والعمل.
ولما بحثت عن المذاهب وجدت الحق في مذاهب أهل التوحيد والعدل الذين هم أئمة المسلمين، والذابون عن الدين، والرادون على المبتدعة والملحدين، ورأيت العقول دالة على صحة مقالاتهم، والكتاب ناطقا بسدايد اعتقاداتهم، ووردت به السنة، وانعقد عليها إجماع الأمة، ووجدت لهم من السلف والخلف الداعين إلى دين الله تعالى وتوحيده، والباذلين جهدهم في تنزيهه وتمجيده، ولم أجد طائفة تدانيهم، ولا فرقة تساويهم، فرحم الله ماضيهم وباقيهم.
ثم وجدت من مصنفاتهم ما لا يكاد يأتي عليه الإحصاء والعد، ومن أدلتهم ما لا يأتي عليه الحصر والحد،ووجدت إسنادهم يتصل بعلي - عليه السلام - عن رسول الله - صلى الله عليه وآله - ووافقهم في مقالاتهم علماء أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وآله -.
Página 27
ورأيت غيرهم من الطوائف حالفوا الأباطيل وخالفوا الدليل، ووجدتهم عن الحق ذاهبين، وفي مقالاتهم كاذبين، فعند ذلك جمعت في كتابي هداية للمسترشدين، ورياضة للمتدبرين مسائل لا بد من معرفتها، ولا يسع المكلف جهلها، وأشرت إلى نكته وعمد من أدلة العقل والكتاب والسنة والإجماع، وبينت أن جميع هذه الأدلة يوافق بعضها بعضا، وأن شيئا منها لا يوجب اختلافا ونقضا، وأوردت في كل مسألة مضايق لكل طائفة تلجئهم إلى الإعتراف لا محيص لهم عنها، وبينت أن المخالفين كما خالفوا العقول خالفوا الكتاب والسنة، وسميته (تحكيم العقول في تصحيح الأصول)، وتركت الكلام في الدقائق اقتداء بشيخنا أبي الفضل جعفر بن حرب رحمة الله عليه، فأتى في حال شيبه وآخر عمره أخذ يصنف في المسائل الظاهرة من التوحيد والعدل دون الخوض في دقائق الكلام، وإلى الله تعالى أتقرب بجميع ذلك، وأسأله التوفيق والعصمة.
والكتاب ينقسم إلى خمسة أقسام:
أولها: في ذكر مقدمات لا بد منها.
وثانيها: الكلام في التوحيد.
وثالثها: الكلام في العدل.
ورابعها: الكلام في النبوات.
وخامسها: الكلام في الشرائع، وكل قسم منها يشتمل على مسائل، وكل مسألة تتضمن دلائل نحررها ونذكر الشبه فيها ونحلها، كل ذلك على سبيل الإيجاز والاختصار، وبالله أستعين، وعليه أتوكل، وهو حسبي ونعم المعين.
Página 28
القسم الأول في ذكر مقدمات لا بد منها
مسألة [في نعم الله على عباده]
إن سأل سائل فقال: ما نعم الله على عباده؟ وما أول تلك النعم؟ وما الذي يجب على العبد في مقابلة تلك النعم؟.
فالجواب: أما نعمه تعالى على الجملة، فكل نعمة في الدين والدنيا تحصل للعبد فهي منه تعالى.
وأما تفصيل تلك النعم فلا يمكننا معرفته، وهو تعالى أعلم بتفاصيلها، ويجب على العبد أن يشكره تعالى على جميع ذلك على الجملة، بأن يعرف بأن جميعها منه وأن العبادة هو المستحق لها، ويعبده كما أمره، وينتهي عن معاصيه.
فأما أول نعمة له على العبد فخلقه إياه حيا لينفعه؛ لأن غير الحي لا يصح أن ينتفع، والمنافع التي خلق الله الخلق لها ثلاث: تفضل، وثواب، وعوض، ولما لم يصح الثواب والأعواض إلا بالتكليف كلفه ليصل إلى جميع أنواع النعم.
فإن قيل: أليس غيره أيضا ينعم بالإعطاء والمواهب؟.
قلنا: بلى، ولكن ما يعطيه من الأشياء المنتفع بها خلقه تعالى وهو الذي جعل الواهب والموهوب له بحيث له تصح الهبة ورغب إلى ذلك، فمعظم النعم منه تعالى، وإن كان هذا المعطي أيضا منعما يجب شكره إلا أن معظم الشكر له تعالى.
Página 29
مسألة [في ما أوجبه الله على عباده]
إن قال: ما أول ما أوجب الله تعالى على عباده؟ وما سائر الواجبات؟
الجواب: قلنا: التكليف يتضمن شيئين العلم والعمل، والعلم أصول وفروع، فمنها ما يجب تعينه على كل مكلف، ومنها ما هو فرض على الكفاية.
والعمل على ضربين: فعل وترك، والفعل على ضربين، فمنه ما يجب على كل واحد، ومنه ما هو فرض على الكفاية، فأول ما يجب على المرء النظر في طريق معرفته تعالى ليعرفه، ثم يعرف صفاته، ثم يعرف النبوات والشرائع، وذلك يشتمل على علوم التوحيد والعدل وعلوم النبوات والشرائع.
Página 30
مسألة [في أصول الدين]
إن قال: أصول الدين على كم تنبني؟ وفروعه على كم؟.
الجواب: أصول الدين أربعة: علوم التوحيد، وعلوم العدل، وعلوم النبوات، وعلوم الشرائع.
والتوحيد: أن تعرف الله وأنه تعالى قادر عالم حي سميع بصير قديم غني ليس له مثل ولا شبيه، وليس بجسم ولا عرض، ولا مكان له ولا جهة، ولا تجري عليه شيء من الصفات المختصة بالجواهر والأعراض.
وعلوم العدل: أن تعلم أنه تعالى لا يفعل القبيح ولا يخل بواجب، وأن أفعال العباد فعلهم، وأنه كلفهم لنفعهم وأعطاهم القدرة والآلة والإستطاعة قبل الفعل ولم يكلف إلا بعد إزاحة العلة، وأنه لا يعذب بغير ذنب ولا يأخذ أحدا بذنب غيره، وأنه لا بد أن يثيب من أطاعه ويجوز أن يعاقب من عصاه، وأنه أخبرنا أنه يعاقبه لا محالة.
وعلوم النبوات: أن تعلم جواز البعثة ووجوبها، وصفة الرسول، وصفة المعجز، فإن الرسول يجب أن يكون معصوما يوثق بقوله وفعله.
وعلوم الشرائع: الوعد والوعيد، والأسماء، والأحكام، والإمامة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم الأعمال والتروك.
فأما الفقهيات فمبنية على أربعة أجناس، منها العبادات، ومنها المعاملات، ومنها أحكام الفروج، ومنها أحكام الدماء، ولا يشذ شيء من الأصول والفروع مما ذكرنا.
Página 31
مسألة [في التمييز بين الحق والباطل بالأدلة الأربعة]
يقال: بأي شيء يعرف الحق من الباطل ويميز بينهما؟
قلنا: بالأدلة.
فإن قال: فما الأدلة؟
قلنا: أربعة: العقول، والكتاب، والسنة، والإجماع.
فأما العقل فلأنه تعالى خاطب العقلاء واحتج عليهم بما في عقولهم ولأن به نميز بين الحسن والقبيح، وبه نعرف جميع الإستدلاليات.
ويقال لمن أبطل أدلة العقول: ناقضت بدعواك مذهبك؛ لأنك فزعت في إبطال أدلة العقول إلى العقل فإما أن تصححه فتبطل طريقتك، وإما أن تبطله فيبطل استدلالك وتصح أدلة العقول.
ويقال له: بأي شيء يصح أن تعرف كل الأشياء، أتعرف بالعقل أو بالسمع؟ فإن قال: بالعقل، بطل مذهبه، وإن قال: بالسمع.
قلنا: فمذهبك غير منصوص عليه في السمع، وليس في السمع إبطال ما سوى السمع.
وأما الكتاب فلأنه كلام حكيم صادق لا يجوز عليه الكذب فكان حجة.
فإن قيل: بأي شيء عرفتم أنه كلام الله تعالى؟
قلنا: لنا فيه طريقان:
إحداهما: أنا عرفنا بالسبر أنه غير مقدور للبشر فنعلم أنه كلام الله تعالى.
والثاني: بالمعجز عرفنا صدق الرسول وعلم من دينه ضرورة أنه كلام الله تعالى.
فإن قيل: أليس روي أن فيه زيادة ونقصانا؟
قلنا: باطل، فإنه أدي إلينا كما أنزل، وضمن الله تعالى حفظه، وبعد فلو كان شيء زائد ثم نقص لما خفي.
فإن قيل: أليس بعضهم قال فيه ما لا يعرف معناه، وبعضهم قال ظاهر وباطن؟
قلنا: كله باطل، وغرض الحكيم بإنزاله الإفهام، فإن أراد ما وضع له حمل عليه وإن أراد غيره أو كان مجملا أو متشابها بين ونصب الأدلة على مراده.
Página 32
فأما السنة فهو ما تواتر نقله وصح منه فعله أو قوله، وقد أطلق ذلك على أخبار الآحاد، إلا أنها حجة في فروع الشرع، وليست بحجة في أصول الدين؛ لأن طريقه القطع، فلا بد من دليل مقطوع به، وقال تعالى: ?وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا?[الحشر:7] وعلم من دينه - صلى الله عليه وآله - أن قوله وفعله حجة، والعلماء من لدن الصحابة إلى يومنا هذا يرجعون إلى سنته في معرفة الأحكام دل أنه حجة.
فأما الإجماع فهو حجة لقوله تعالى: ?ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا?[النساء:115]، فأوعد على سلوك طريقة غير طريقة المؤمنين، دل أن طريقتهم حق وصواب، وقال تعالى: ?فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول?[النساء:59] فشرط في الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله المنازعة، دل على أن مع الموافقة لا يجب، وقال - صلى الله عليه وآله -: ((لا تجتمع أمتي على ضلالة))، وقال: ((عليكم بالجماعة فإن يد الله عليهم))، واستدل أبو علي بقوله: ?وكذلك جعلناكم أمة وسطا? أي: عدلا ?لتكونوا شهداء على الناس?[البقرة:143].
فإن قيل: فما قولكم في إجماع أهل البيت - عليهم السلام - أهو حجة أم لا؟
Página 33
قلنا: عند الزيدية هو حجة، واستدلوا بقوله تعالى: ?إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا?[الأحزاب:33]، وبقوله - صلى الله عليه وآله -: ((إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا))، وذكر شيخنا أبو علي - رحمة الله عليه - أنه لو صح هذا الخبر دل على كون إجماعهم حجة، فأما سائر شيوخنا فلا يجعلونه حجة؛ لأنهم بعض الأمة.
فإن قيل: هل يجوز أن تستوي الدلائل في مسألة فيها خلاف؟.
قلنا: أما في الأصول فلا؛ لاستحالة أن يكون كلامهما حقا، فأحدهما يكون حجة والآخر شبهة، كما نقول فيما نفى التشبيه أنه أدلة، وما أثبته فشبهة؛ لاستحالة أن يكون لله تعالى شبه ولا شبه له، وكذلك المكان، وكذلك الرؤية، وجميع مسائل التوحيد، فلهذا أبطلنا قول من قال بتكافؤ الأدلة، وكفرنا القائلين بها.
فأما في فروع الشرع ومسائل الاجتهاد، فعند مشايخنا يجوز أن تستوي، ويكون التعبد لكل واحد بما أدى اجتهاده إليه ويكون كل مجتهد مصيبا.
ومنهم من جعل ذلك بمنزلة الأصول في أن كل مسألة فيها دليل قاطع على الحق، وإلى ذلك ذهب جماعة من البغداديين.
ومنهم من قال: لا بد من ترجيح، على ما يحكى عن أبي الحسين.
فإن قيل: كيف يصح قولكم في الأصول أن الحق فيها واحد وعليه دليل قاطع، ونحن نجد العقلاء مختلفين فيه، ونرى من يعتقد اعتقادا زمانا طويلا ثم يتركه ويعتقد غيره؟.
Página 34
قلنا: اختلاف العقلاء لا يؤثر في هذا؛ لأنه قد يذهب عن الحق لشبهة ولغرض، ولو أثر في هذا الأثر لأثر في المشاهدات ومخبر الأخبار ونحوها، فإن العقلاء اختلفوا فيها، فكذلك من يرجع من مذهب إلى مذهب ثم يقال له: ما تقول هل هاهنا حقيقة لشيء أم لا؟.
فإن قال: لا، ألحق بالسوفسطائية، وإن قال: نعم.
قلنا: هل للمستدل عليه حقيقة؟.
فإن قال: لا خرج من الملة، وإن قال نعم.
قلنا: فهل هاهنا حق يجب على المكلف اعتقاده أم لا؟ فإن قال نعم ولا بد من ذلك. قلنا: فهل هاهنا طريق به يعرف ذلك؟.
فإن قال: لا أدى إلى تكليف ما لا يمكن، وإن قال: نعم.
قلنا: فما ذلك الطريق؟.
فإن قال: التقليد، لزمه ما سأل عنه، فإن المقلدين مختلفون أيضا، وإن قال: النظر في الدليل ليميز بين الحق والباطل والدليل والشبهة، فهو ما نقوله.
Página 35
القسم الثاني الكلام في حدوث العالم وإثبات المحدث وصفاته
مسألة في وجوب النظر
الذي نقول في ذلك: إن أول ما يجب على المكلف النظر في طريق معرفة الله تعالى، ثم النظر في طريق معرفة صفاته، ثم في عدله، ثم في النبوات على الترتيب.
ومن الناس من يقول: إن المعارف ضرورة، ومنهم من أوجب النظر وقال: المعرفة تحصل عنده طباعا، ومنهم من عول على التقليد وزعم أن الخوض في الكلام بدعة والواجب هو التقليد، فيقال له: هل يجب العلم بالديانات على المكلف أم لا؟
فإن قال: لا يجب. خالف العقول؛ لأن العاقل إذا رأى اختلاف الناس في ذلك وما توعد كل أحد صاحبه من الوعيد لا شك يحصل خائفا وعند الخوف لا بد من طلب أمر يأمن به من ذلك ويعلم الحق، وقد قال تعالى: ?فاعلم أنه لا إله إلا الله?[محمد:19]، ووردت السنة بذلك، وانعقد الإجماع على أن الجهل بالله كفر.
وإن قال: بلا يجب.
قلنا: فبماذا تحصل المعارف؟.
فإن قال: بالتقليد.
قلنا: فلم صار تقليد بعض العقلاء أولى من بعض.
ويقال له: هل يأمن بالتقليد أنه محق؟.
فإن قال: نعم. لزمه في كل مقلد، وإن قال: لا.
قلنا: فكيف يثق بشيء لا أمان له فيه، ولا يأمن من كونه مخطئا ضالا؟.
فإن قال: يثق إذا قلد الأكثر أو من هو أعلم وأورع.
قلنا: فمع هذا هل يجوز أن يكون مبطلا؟ فلا بد من نعم، قلنا: فكيف يأمن من أنه على ضلال؟ وأيضا أيجوز أن تتغير الحال فيصير الأقل أكثر والأكثر أقل، والأفضل مفضولا والمفضول أفضل؟.
فإن قال: لا. كابر العقول، وإن قال: نعم، وجب فيما كان حقا أن يصير باطلا، وفيما كان باطلا أن يصير حقا.
Página 36
ويقال لهم: أليس الله تعالى حث على النظر وأوعد على تركه فقال: ?أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض?[الأعراف:185]، وقال: ?قل انظروا ماذا في السماوات والأرض?[يونس:101]، وقال تعالى: ?وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون?[يوسف:105]، ووردت السنة بذلك في رجل سأل رسول الله - صلى الله عليه - عن غرائب العلم، فقال: ((ما صنعت برأس العلم حتى تسأل عن غرائبه؟ فقال: وما رأس العلم؟ قال: أن تعرف الله حق معرفته))، وقال صلى الله عليه وآله: ((تفكر ساعة خير من عبادة سنة))، وقال: ((تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله)).
ويقال لهم: هل يجب شكر المنعم؟.
فإن قالوا: لا. كابروا العقول ، وإن قالوا: نعم.
قلنا: فكيف نشكر من لا نعرفه؟ وإذا رأى على نفسه وغيره من النعم ما لا يحصى، وعلم أنه لم تحصل من جهته ولا من جهة أمثاله من إحيائه وشهواته ومشتهياته، وخطر بباله أن له منعما إن أطاعه زاده في نعمته، وإن عصاه سلبه نعمته وعاقبه، فعند ذلك لا بد أن ينظر ليعرف المنعم ويشكره.
ويقال لهم: هل يجب الإعتراف بالثواب والشرائع؟ فلا بد من بلى.
قلنا: فإذا لم نعرف الله وأنه حكيم كيف نعترف برسله وأمره ونهيه؟.
ويقال لهم: هل تجب العبادات؟ فلا بد من بلى، فيقال: كيف تعبد من لا تعرفه ولا تعرف كيفية عباداته، فلا بد من أن تعرفه بصفاته وتعرف عباداته، حتى يصح أن تعبده .
ويقال لهم: هل يجب الإيمان بالأنبياء؟ فلا بد من: بلى، فيقال لمن لا يعرف حكمة الله وأنه لا يجوز أن يظهر المعجز على الكذابين: كيف يعرف الرسول؟.
Página 37
ويقال لهم: أليس الأنبياء ابتدأوا بالدعاء إلى التوحيد، وحثوا أممهم على النظر في صنعه، وجادلوهم في ذلك؟ فإن قالوا: لا. كابروا، فالقرآن ينطق بذلك في قصص الأنبياء في مواضع جمة: ?فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره?[الأعراف:59]، ثم نبه على أدلة مختلفة، فقال في موضع: ?وهو الذي أنشأ لكم?[المؤمنون:78]، وقال في موضع: ?واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون ، أمدكم بأنعام وبنين ، وجنات وعيون?[الشعراء:132-134]، إلى غير ذلك.
وإن قالوا: نعم.
قلنا: فإذا هو أول الواجبات.
ثم يقال لهم: بم عرفتم بطلان النظر وصحة التقليد؟ فإن قالوا بالنظر ناقضوا، وإن قالوا بالتقليد بقي السؤال وتسلسل الكلام.
ويقال لهم: العاقل إذا حزبه أمر عظيم وعرته مخافة إلى ماذا يفزع؟.
فإن قالوا: إلى تقليد الناس.
قلنا: فالناس مختلفون.
فإن قال: يقلد طائفة.
قلنا: فلعل هلاكه فيه، كمن يشير عليه باقتحام مهلكة.
فإن قال: بل ينظر ويميل إلى الأولى.
قلنا: فقل مثله في أمور الدين.
ويقال: لأصحاب الضرورة للعلوم الضرورية علامات، منها استواء العقلاء فيها، ومنها أنها لا تنتفي بشك وشبهة، ومنها حصولها من غير نظر، وهذه الثلاثة معدومة في باب معرفة الديانات. فكيف يكون ضروريا؟.
فإن قال: عند النظر يقع طباعا.
قلنا: ما معنى هذا؟ فإن أردت أن الله يخلقه فيه فهو الضروري الذي بينا ويجب أن لا ينتفي بالشك والشبهة، كالعلم بمخبر الأخبار والصانع، وإن أراد يتولد عن النظر فهو ما قلنا، وإن أراد غيره فيجب أن يبين، ولا يعقل سوى ما قلنا.
ويقال لهم: إذا كانت المعارف ضرورية وجب أن يكون الجاهل معذورا.
Página 38
ويقال لهم: أليس العقلاء مختلفين في الديانات؟ فلا بد من: بلى، فيقال: كيف يجوز على الجماعة الكثيرة العناد، وإظهار خلاف ما يبطن ويعلم؟.
ويقال لهم: المعارف فعل العبيد، أو فعل الله تعالى فيهم؟ فإن قالوا فعل العبيد فهو قولنا، وإن قالوا فعل الله.
قلنا: فما معنى نصب الأدلة؟ وما معنى النظر في الأدلة؟ وما معنى حل الشبهة؟.
فإن قالوا: هب أنه واجب، فلم زعمتم أنه أول الواجبات؟.
قلنا: لأن سائر المعارف مبنية عليه؛ لأن معرفة أفعاله، ومعرفة النبوات والشرائع لا يصح إلا بعد معرفته تعالى.
فإن قال: أليس القصد إلى أن النظر أول الواجبات، وقد يجب رد الوديعة عند المطالبة، ويلزمه ترك القبائح؟.
قلنا: أما القصد فمن توابع النظر، وليس بمقصود في نفسه، وأما الوديعة فقد ينفك المكلف عنها، وغرضنا الواجب الذي لا ينفك عنه المكلف، فأما ترك القبائح فليس بفعل، وإنما الواجب الكف عنه، فلا يلزم شيء مما قال.
فإن قال: فالنظر فيماذا يجب؟.
قلنا: في الأدلة، حتى يحصل العلم، فإن عرضت شبهة يجب النظر فيها حتى يحلها إن كانت قادحة في الدليل، فإن لم تكن قادحة يجوز أن ينظر ويجوز أن لا ينظر، ويجب أن يكون عالما بالدليل على الوجه الذي يدل، ولا يعلم المدلول وينظر نظرا صحيحا حتى يحصل له العلم.
Página 39
مسألة في حدوث العالم
العالم بما فيه من الأجسام والأعراض محدث لا قديم، إلا الله تعالى، وخالفنا فيه الدهرية والطبايعية والمنجمون، فمنهم من زعم أن الهيولى قديم، ومنهم من قال: الطبائع، ومنهم من قال: الأفلاك والنجوم، وبينهم في ذلك اختلاف كثير مع اتفاقهم على القول شيء قديم غير الصانع، إما طبيعة وهيولى، أو نجم أو طبيعة، والدلائل على حدوث الأجسام ونحوه كثيرة نشير إلى بعضها:
يقال لهم: من الدليل عليه أن هذه الأجسام لا تخلو من الأعراض ولم تسبقها التي هي الأكوان، كالحركات والسكنات والإجتماعات والإفتراقات، وهذه الأعراض محدثة، فوجب أن يكون حكم الجسم في الوجود حكم هذه الأعراض وهي أن يكون محدثا.
فإن قالوا: نحن لا نثبت الأعراض فلا يلزمنا ما قلتم.
قلنا: أليس يتحرك الجسم الساكن ويسكن الجسم المحترك، ويفترق المجتمع ويجتمع المفترق، ويكون في جهة فيصير في جهة أخرى؟ فلا بد من بلى؛ لأن دفعها دفع العيان والضرورة.
ويقال: أليس تتجدد هذه الصفة على الجسم مع جواز أن لا تتجدد؟.
فإن قال: لا، بل يجب تجددها.
قلنا: لو وجب لما وقف على اختيار مختار، ولما حصل بحسب قصده وداعيه، ولأنه لو وجب لكان لا يدل على كونه قادرا وعالما، ولكان يجوز أن يحصل من أضعف خلق الله نقل جبل، بأن يتفق لقصده وجوب انتقاله، ولا يقدر القوي على نقل خردلة، وفي فساده دليل على أن هذه ليست بواجبة، وإن قال: هو جائز.
قلنا: فلم صار بإحدى الصفتين أولى منه بالأخرى إلا لمعنى، ولا يقال أنه بالفاعل؛ لأن القدرة على صفة الذات تتبع القدرة على الذات، ونحن لا نقدر على ذات الجوهر كذلك على صفاته، دليله كلامه وكلام غيره، فلم يبق إلا أنه لوجود معنى.
Página 40
فإن قال: إنه لعدم معنى عنه، يصير كذلك.
قلنا: المعدوم لا يختص بجوهر ولا بجهة، وبعد فلو عدم الضدان وجب أن يحصل على صفتين ضدين فثبت أن هاهنا معنى يوجب هذه الصفات.
ويقال لهم: أليس كونه محتركا كان حاصلا، وكونه ساكنا لم يكن حاصلا، فلا بد من بلى، فيقال: فلم صار ما كان حاصلا بالعدم أولى، وما كان معدوما بالوجود أولى لولا ما يؤثر في ذلك وهو المعاني التي نريدها؟.
فإن قال: يحصل كذلك لعدم معنى أو بالفاعل، فالجواب ما ذكرنا.
ويقال لهم: أليس يحسن الأمر والنهي في الشاهد؟، فلا بد من: بلى، وإذا فعل أو لم يفعل يحصل الحمد والذم، فلا بد من: بلى؛ لأن العقول شاهدة بذلك.
فيقال لهم: بما ذا تعلق الأمر والنهي، فإذا قال السيد لغلامه: اعطني الكوز، وما أشبهه، فالمأمورية ماذا؟ الغلام؟ فكان موجودا؟ أو الكوز فهو موجود؟ أو الهوى المحيط به؟ وذلك محال. فلم يبق إلا أنه تعلق بمعنى غير الكوز، والغلام وهو الأكوان التي نوجدها فيه حتى يقربه من سيده، وعلى هذا الحمد والذم والسؤال والطلبة والتكليف كل ذلك يدل على ما قلنا.
ويقال لهم ما قال الشيخ أبو الهذيل لأبي بكر الأصم وكان ينفي الأعراض: كم حد الزاني؟.
- قال: مائة جلدة.
- قال: كم حد القاذف؟.
- قال: ثمانون جلدة.
- قال: أليس يزيد حد الزاني على حد القاذف بعشرين جلدة؟.
- قال: بلى.
- فقال: فهو عبارة عن ماذا؟ عن الجلاد أو المجلود أو السوط أو الهوا أو الأرض؟.
- فقال: لا.
- فقال: فهل هاهنا غير هذه الأشياء؟.
- قال: لا.
- قال: فكأنك تقول لا شيء أكثر من لا شيء بعشرين.
فإن قال: هب أنا أثبتنا الأعراض.
فيقول: الجسم خلا منها لم يزل ثم حدثت فيه وكانت الأجسام في الأزل هيولى معراة عن جميع المعاني.
Página 41
فجوابنا: أن هذا باطل؛ لأنا نقول لك: هل يجوز أن يكون جسم لا محتركا ولا ساكنا ولا مجتمعا ولا مفترقا؟.
فإن قال: نعم. كابر العقول، وإن قال لا، قلنا: فإذا لم تخل من هذه الصفات وهذه الصفات لعلل، فلا شك أنها لا تخلو من هذه العلل.
ويقال لهم: أيجوز الآن خلوها من هذه الأكوان.
فإن قالوا: يجوز، كابروا، وإن قالوا: لا. قلنا كذلك فيما مضى.
ويقال لهم: تصور جوهرين لا يخلو إما أن تكون بينهما مسافة أو لا تكون، وهذا نفي وإثبات لا واسطة بينهما، فلا بد من: بلى.
فيقال: أفي الأزل على أي صفة كان، فبأي شيء أجاب لزمه إثبات معنى.
ويقال لهم: أليس الجوهر لا يكون إلا متحيزا؟.
فإن قالوا: بلى.
قلنا: والمتحيز لا بد له من جهة، وإنما يكون في الجهات بالمعاني.
وإن قال: يكون جوهرا، موجود غير متحيز.
قلنا: فيه قلب ذاته؛ لأن التحيز من صفات الذات.
ويقال لهم: إذا حدث الإجتماع والإفتراق فيه بعد خلوه منها فأيهما يسبق إليه؟.
فإن قال: الإجتماع. فكيف يجتمع ما لم يكن مفترقا، وإن قال: الإفتراق.
قلنا: فكيف يفترق ما لم يكن مجتمعا، فلا بد أن يكون في الأزل على إحدى الصفتين.
ويقال لهم: هل كان الجوهر في محاذات في الأزل، فلا بد من: بلى، فيقال: فتلك صفة واجبة له، فوجب أن لا يزول عنه، وفي علمنا بجواز انتقال كل جوهر دليل على فساد ما قالوا.
ويقال له: أيجوز أن يكون جسم لا متحرك ولا ساكن ولا مجتمع ولا مفترق ولا في جهة مع كونه متحيزا؟.
فإن قال: لا، كفينا المهم، وإن قال: نعم.
قلنا: فالواجب فيمن أخبره مخبر بأنه شاهد جسما كذلك أن لا يكذبه.
ويقال له: هل هذه المعاني موجبة لهذه الصفات أم لا؟.
فإن قال: لا، أبطل إثباتها، وإن قال: نعم.
Página 42
قلنا: فهل يجوز حصول هذه الصفات بغير هذه المعاني؟.
فإن قال: لا.
قلنا: ففي الأزل على أي صفة كان، فعلى أيها كان لمعنى يوجب تلك الصفة.
وإن قالوا: نحن نقول بإثبات الأعراض وإن الجسم لا يخلو منها ولكن نقول الأعراض قديمة كما إن الأجسام قديمة.
فجوابنا: إن هذا باطل؛ لأن الدليل دل على حدوث المعاني بأن القديم لا يجوز عليه العدم، وأن الأعراض يجوز عليها العدم.
فنقول لهم: إذا سكن الجسم المحترك أو تحرك الساكن، أو كان في جهة فصار في جهة أخرى، فما حال المعنى الأول؟.
فإن قال: هو باق كما كان.
قلنا: فوجب أن يوجب كون المحل متحركا ساكنا، ويكون في جهتين أو يوجب قلب الذات من حيث تخرج العلة عن كونها علة، وهذا فاسد.
فإن قال: ينتقل عنه.
قلنا: الانتقال من صفات الجسم حيث يفرغ مكانا ويشغل مكانا، وإن قال: يعدم عن المحل الأول ثم يوجد. فقد جوز العدم، فإن قال بانتقال غير هذا لا يعقل، وبعد فإذا انتقل مع جواز أن لا ينتقل وجب أن ينتقل لمعنى، وبعد فلا اختصاص له ببعض الأجسام، فلم انتقل إلى بعضها دون بعض.
ويقال لهم: إذا أمر العاقل غيره بفعل حسن، أيحسن في العقل؟ فلا بد من: نعم؛ لأن العقلاء يستحسنونه.
قلنا لهم: الأمر تعلق بإيجاد موجود أو بإيجاد معدوم؟.
فإن قال بالأول أحال، وإن قال بالثاني أبطل قوله، وإنما قلنا إن القديم لا يجوز عليه العدم؛ لأن القديم قديم لنفسه لا يجوز أن يكون لمعنى ولا بالفاعل، وإذا كان قديما لنفسه لم يجز عليه البطلان.
فإن قالوا: نحن نوافقكم في الدعاوي الثلاث، ونقول ليس حكم الجسم حكم الأعراض في الوجود، ونقول لا يخلو من الحوادث إلى ما نهاية له.
Página 43
فيقال لهم: هذا باطل، أليس المحدث ما لوجوده أول، والقديم ما لا أول لوجوده، والقول بأن القديم لا يتقدم المحدث، ينقض إما حقيقة القديم أو حقيقة المحدث.
ويقال له: في الحوادث ما هو قديم.
فإن قال: نعم بطل قوله أنها حوادث، وإن قال: لا.
قلنا: فوجب أن يتقدم القديم جميعها.
ويقال له: أنت بين طرفي نقيض، إما أن تقول في الأعراض ما وجوده كوجود الجسم، فإن أقررت بأن الجسم قديم وجب أن تقول: فيها ما هو قديم فبطل قولك: إنها حوادث، أو تقول: ليس فيها ما وجوده كوجود الجسم، فقد أقررت بأن الجسم خلا منها فنقض قولك: إنه لا يخلو منها.
وإن قال: كل واحد محدث والجميع قديم. كان باطلا؛ لأن من قال: كل جزء مدور والجميع مربع كان باطلا، وكذلك من قال: كل واحد من الزنج أسود والجميع ليسوا بسود.
فيقال لهم: ما تقولون في رجل قال: زيد وعمرو لم يحل أحدهما من صاحبه، ولم يسبق أحدهما الآخر، ثم علم أن لزيد عشر سنين، علم أن لعمرو أيضا كذلك، ولو قال قائل: لأحدهما عشر سنين، وللآخر عشرين سنة، عده العقلاء مناقضا كاذبا، وكذلك حال هؤلاء أقروا بالحوادث وجعلوا وجودها كوجود القديم.
ووجه آخر ويقال لهم: أليس نشاهد أشياء لم تكن ثم كانت، كالحيوانات والنبات والثمار والزروع وغيرها مما هي عليه من التراكيب العجيبة، ظاهرا وباطنا، ومع الصور المختلفة، والحواس والأعضاء والنمو والنطق والأزهار المختلفة، والألوان والطعوم والأرائح والشهوات والمشتهيات، أكان جميع هذا قديما أم حدث بعد أن لم يكن؟.
فإن قالوا: قديم، كابروا العقول، ودفعوا المشاهدات، وإن قالوا: حدث بعد أن لم يكن، فقد اعترفوا بحدوث الجسم، وإن قالوا: بعض ذلك قديم وبعضه فيه قوة ومادة تحدث منها هذه الحوادث.
Página 44