تقديم
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين، وصلى الله على محمد وآله.
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، ودعانا إلى دار السلام، ومن علينا بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم، وأنعم علينا بضروب الإنعام، وأنزل القرآن، وصانه عن التحريف والزيادة والنقصان، ونسخ به سائر الأديان، ثم الصلاة على سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وإمام المتقين، محمد وعلى آله أجمعين.
أما بعد: فإن أولى ما يشتغل به المرء طلب العلوم الدينية التي فيها فوزه ونجاته، ثم عبادة وبه الذي إليه محياه ومماته، ومن أجل العلوم معرفة كتاب الله تعالى، وتفهم معانيه وأحكامه، فإن عليه مدار الدين، وهو حبل الله المتين، وقد اجتهد العلماء في ذلك، وبينوا وصنفوا، وللأولين فضل السبق، وتأسيس الأمر، وللآخرين حسن الترتيب، وجودة التهذيب، وزيادة الفو ائد، ولئن قال بعضهم: ما ترك الأول للآخر، فقد قال آخرون: كم ترك الأول للآخر.
وقد جمعت في كتابي هذا جما وجوامع في علم القرآن من غير تطويل ممل، أو إيجاز مخل، أرجو أن يكون تبصرة للمبتدئ، وتذكرة للمنتهي، ومن الله أستمد التوفيق، وعليه أتوكل، وهو حسبي ونعم المعين.
Página 191
وعلوم القرآن كثيرة، مدارها على ثمانية:
أولها: القراءة ووجوهها وعللها.
إنما تجوز القراءة بالمستفيض المتواتر دون الشاذ والنادر، وكما لا يجوز إثبات القرآن إلا بنقل مستفيض، كذلك القراءات، وما تواتر نقله فلا يجوز رد شيء منها؛ لأنها كلها منزلة ثابتة.
وثانيها: اللغة، والقرآن كله بلغة العرب، هكذا قال الله تعالى: (بلسان عربي مبين)
وما روي عن بعض السلف من قولهم في بعض الألفاظ: إنها رومية، أو فارسية ك (القسطاس)، و(السجل) ونحوهما - فمحمول على موافقة اللغتين، أو على أن العرب أخذته فعربته. وكذا ليس فيه لفظ مستنكر، أو خطأ أو تناقض.
واختص بنوع من اللغة والفصاحة بان بها عن غيره فصار معجزا.
وثالثها: الإعراب، فليس فيه لحن ولا خطأ، خلاف ما يهذي به الملحدة.
ورابعها: النظم، فإن القرآن على ما هو عليه من السور والآيات اتصل بعضها ببعض، كذلك أنزل، وفي كل ذلك غرض وفائدة .
Página 193
وخامسها: المعنى، وليس فيه شيء لا يعرف معناه؛ إذ المقصود من الكلام إفهام المعنى، وكل كلمة لا تخلو إما أن يكون لها معنى واحد فلا بد أن تحمل عليه، وإن احتمل معاني - والكل جائز - حمل على الكل على وجه يصح من جمع أو تخيير، فإن دل دليل - على أن بعضه مراد وبعضه ليس بمراد عمل بمقتضى الدليل، فإن كان له معنى في اللغة ومعنى في الشرع حمل على المعنى الشرعي؛ لأنه ناقل، ثم فيه حقيقة ومجاز، فالحقيقة أولى إلا أن يدل الدليل على أن حمله على المجاز أولى، فيحمل عليه.
وسادسها: النزول، فإن منه ما نزل بسبب، ثم قد يقتصر على سببه، وقد يتعدى إلى غيره، والواجب اعتبار اللفظ دون السبب.
وسابعها: الأدلة، والأحكام، فإنه كلام صادق، وهو حجة، ثم منه ما ورد مؤكدا، كأدلة التوحيد، ومنه ما ورد مبينا، كأدلة الشرائع، ومنه ما يعرف المراد بظاهره، كالمحكم والمبين، ومنه ما يرجع في معرفة المراد به إلى غيره كالمجمل والمتشابه، ومنه ناسخ يجب العمل به، ومنسوخ لا يجب؛ ولذلك يجب معرفة تاريخ النزول، وما نزل منها بمكة، وما نزل منها بالمدينة، ومنه العموم والخصوص، ويدخل فيه الأمثال، والحكم، والمواعظ، والزواجر، والأوامر، والنواهي، والوعد، والوعيد.
وثامنها: الأخبار والقصص.
Página 194
(أسامي القرآن)
وللقرآن أسام فمنها: القرآن، ومعناه الجمع، يقال: قرأت قراءة، وقرآنا، ومنه قيل للحوض: مقراة، لاجتماع الماء فيه.
ومنها: الفرقان، قيل: معناه أنه النجاة والمخرج، ومنه: (يجعل لكم فرقانا)
وقيل: هو الفرق بين الحق والباطل عند ابن العباس.
ومنها: الذكر، قال الله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر) قيل: إنه ذكر من الله تعالى لعباده بالفرائض والأحكام، وقيل: إنه شرف لمن تمسك به، ومنه: (وإنه لذكر لك ولقومك)
ومنها: الكتاب، لأنه مكتوب، فسمي المكتوب كتابا، وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: أعطيت مكان التوراة السبع الطوال، ومكان الإنجيل السبع المثاني، ومكان الزبور المئين، وفضلت بالمفصل فالطوال: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والتوبة، وقيل: آخر سورة يوسف، والمثاني: ما زاد على مائة آية، لأنه تثنى فيها الأحكام، وقيل: الفاتحة، والمئون: ما كان مائة أو زاد قليلا أو نقص قليلا، والمفصل: السور القصار، لكثرة الفصول بين السور.
Página 195
وفي القرآن آيات وسور، فالسور جمع سورة كغرفة وغرف، وهو بغير همز: المنزل المرتفع، ومنه سور المدينة، ومنهم من يهمزه، ويريد به القطعة من القرآن، وسؤر كل شيء: بقيته بعد الأخذ منه.
فأما الآية فقيل: معناها العلامة، سميت بذلك لدلالتها على أول الكلام وآخره، وقيل: الآية: الجماعة من الحروف، يقال: خرج القوم بآيتهم، أي: بجماعتهم، وقال سيبويه: موضع العين من الآية واو؛ لأن ما كان موضع العين منه واوا، واللام ياء أكثر مما كان موضع العين واللام منه ياء، مثل: (شويت)
أكثر من (حييت) وقيل: وزنه فعلة، وقيل: فاعلة.
التفسير: أما التفسير، فالتفسير: كشف المغطى، قال أبو العباس: التفسير والتأويل والمعنى: واحد، وقال غيره: التفسير: كشف المراد عن اللفظ المشكل، والتأويل: رد أحد المحتملين إلى ما يطابق الظاهر، والتفسير: البيان، وقيل: التأويل: انتهاء الشيء ومصيره، وما يؤول إليه أمره، ومنه: (هل ينظرون إلا تأويله)
وقيل: التفسير تأويل؛ لأن مقصود الكلام يؤول إليه. والمعنى مأخوذ من قولهم: عنيت فلانا، أي قصدته، فكأن قصده بالكلام كذا، وقيل: إنه من الإظهار، كأنه أظهر مراده باللفظ، وقيل: هو من قولهم: عنيت بهذا الأمر، أي تكلفته.
Página 196
(التعوذ)
أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم.
(القراءة)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ابن كثير، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم نافع وابن عامر والكسائي، نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم حمزة، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم أبو حاتم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم عاصم وأبو عمرو، وروي مرفوعا.
* * *
(اللغة)
التعوذ من العياذ، وهو الملجأ.
والشيطان: من شطت الدار، أي بعدت، ووزنه - فيعال.
والرجم: الرمي بالحجارة، ومنه المرجوم، والرجيم بمعنى المرجوم، فعيل بمعنى مفعول، كقولهم: كف خضيب، أي مخضوب.
* * *
(المعنى)
لما أمر الله تعالى بقراءة القرآن - ولا يخلو الإنسان من وسوسة الشيطان - أمر بالاستعاذة منه، فقال تعالى : {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله} ومعنى (أعوذ)
Página 197
أي: ألجأ إلى الله - تعالى - من شر الشيطان الرجيم، قيل: المبعد من رحمة الله تعالى، وقيل المبعد من كل خير، وقيل: المرمي بالشهب، وقيل: رجم باللعنة، إن الله هو السميع لجميع المسموعات، العليم بجميع المعلومات.
* * *
(الأحكام)
التعوذ عند القراءة سنة بالإجماع، ثم اختلفوا فقيل: قبل القراءة؛ لأنه يراد للقراءة عن أكثر الفقهاء، وقيل: بعد القراءة عن أصحاب الظاهر، واختلفوا في قراءته في الصلاة، فقيل: يقرأ في الركعة الأولى، وقيل: في كل ركعة، واختلفوا، فالأكثر على أنه لا يجهر به، وعن بعضهم الجهر، وأجمع العلماء على أن التعوذ بعد التكبير إلا ما روي عن الهادي (عليه السلام) أنه قبل التكبير، ويدل التعوذ على أن السحر والمعاصي ليست بخلق الله، [*] إذ لو كان كذلك لم يكن للاستعاذة من الشيطان معنى.
Página 198
(سورة الفاتحة)
* * *
(النزول)
قيل: إنها مكية، عن ابن عباس وقتادة.
وقيل: مدنية، عن مجاهد.
وقيل: إنها نزلت مرتين: مرة بمكة، ومرة بالمدينة تشريفا، ولذلك سميت مثاني.
ولها أسماء: فاتحة الكتاب؛ لأنها أول ما يفتتح من الكتاب، وأول كل شيء فاتحته، وقيل: إن الحمد فاتحة كل كتاب، كما هي فاتحة القرآن، وأم الكتاب؛ لأن الأم الأصل، ومنه أم القرى؛ لأن الأرض دحيت من تحت مكة، ومنه: (وعنده أم الكتاب)
يعني أصله، فأصل القرآن الفاتحة، لأنه - تعالى - أودعها مجموع ما في السور، وقيل: لأن فيها آيات الربوبية والعبودية، وهذا هو المقصود بالقرآن، وقيل: لأنها مقدمة على القرآن، ويتلوها السور. والسبع المثاني، قيل: لأنها
Página 199
سبع آيات، وتثنى قراءتها في كل صلاة، وقيل: لأن فيها الثناء على الله تعالى، وقيل:
لأنها نزلت مرتين.
وعن أبى بن كعب، قال: قرأت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاتحة الكتاب، فقال: والذي نفسي بيده ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، هي أم القرآن، وهي السبع المثاني، وهي مقسومة بين الله وبين عبده، ولعبده ما سأل.
قوله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم (1)
* * *
(اللغة )
اسم: قيل: مشتق من السمو، وهو الارتفاع، وقيل: من السمة، والأول أصح؛ لأنهم جمعوه على أسماء، وقالوا في تصغيره سمي، ولأنه لا يعرف فيما حذفت فاؤه شيء دخله ألف الوصل، إنما تدخله هاء التأنيث، كالزنة والعدة.
ويقال: ما أصل الاسم؟
قلنا: العلو، ومنه السماء، وقيل: السمة، وقيل: سما، أي علا وظهر حتى صار علما للدلالة على ما تحته من المعنى.
ويقال: ما وزنه؟
Página 200
قلنا: يجوز فعل، وفعل بضم الفاء وكسرها، ولا يجوز فعل بفتح الفاء؛ لأن جمع فعل أفعل في القياس لا أفعال.
فأما الله، فقيل: أصله إله، حذفت الهمزة، وجعلت الألف واللام عوضا لازما، وصار الاسم بذلك كالعلم، هذا مذهب سيبويه، وقيل: أصله لاه، ألحقت بها الألف واللام فصار الله.
ويقال: مم اشتق؟
قلنا: قيل: إنه اسم موضوع غير مشتق، وليس يجب في كل لفظ أن يكون مشتقا؛ إذ لو وجب ذلك لتسلسل، هذا مذهب الخليل وأبي علي. وقيل: إنه مشتق، ثم اختلفوا في اشتقاقه، فقيل: من التأله وهو التعبد، وقرأ ابن عباس: وإلهتك، أي عبادتك، قال الشاعر: سبحن واسترجعن من تأله أي من تعبد وتنسك، هذا قول جماعة منهم: النضر بن شميل، وقيل: هو مشتق من قولهم: ألهت إلى فلان، أي فزعت إليه، وقيل: هو مشتق من الوله، وهو التحير، يقال: أله يأله، إذا تحير عن أبي عمرو، وقيل: هو مشتق من قولهم: ألهت إليه، أي سكنت إليه عن المبرد، وقيل: اشتق من لاه، أي احتجبا.
والرحمن الرحيم: اسمان مشتقان من الرحمة، وأصل الرحمة: النعمة، وهما للمبالغة، إلا أن فعلان أشد مبالغة من فعيل؛ لأنه أشد عدولا، والرحمة هي الإنعام على المحتاج.
* * *
(الإعراب)
Página 201
الجالب للباء في (بسم) فعل محذوف؛ لأن حروف الجر لا بد أن تتصل بفعل إما مذكور أو محذوف، ثم اختلفوا فقيل: ابدؤوا، وقيل: أبدأ، فعلى الأول محل الاسم نصب؛ لأنه مفعول، وعلى الثاني يحتمل وجهين: النصب، ويحتمل الرفع على تقدير ابتدائي باسم الله تعالى، فيكون خبر ابتدائي محذوفا.
ومتى قيل: لم حذف (أبدأ)؟
قلنا: لأن القارئ مبتدئ؟ فدلالة الحال والمشاهدة أغنت عن ذكره.
ومتى قيل: لم أسقطت الألف في بسم الله؟ ولم تسقط من (اقرأ باسم ربك)؟
قلنا: تخفيفا، ولكثرة الاستعمال.
ومتى قيل: لم كسرت. الباء؟
قلنا: قيل: ردا إلى الأصل عن المبرد، وقيل: فرقا بين ما يجر وهو حرف، وما يجر مما يجوز أن يكون اسما ككاف التشبيه.
ومتى قيل: بسم الله: أمر أو خبر؟
قلنا: إن قدرت المحذوف (ابدؤوا) فهو أمر، وإن قدرته (أبدأ) كان خبرا.
ومتى قيل: لم قال: بسم الله، ولم يقل بالله؟
قلنا: فرقا بين الاستعانة والقسم، وقيل: للفرق بين الاستعانة به وغيره، فأما من قال: الاسم هو المسمى فقد أخطأ، وقد قال الله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى)
فأثبت أسامي، وأضافها إلي نفسه.
* * *
(النزول)
روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لم ينزل بسم الله الرحمن الرحيم على أحد قبلي إلا على سليمان وقيل: روي أنه في ابتداء ما أوحى الله إليه يكتب باسمك اللهم حتى نزل قوله تعالى: (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم) فكتبها، عن ميمون بن مهران.
Página 202
(المعنى)
أمر الله تعالى بذكر التسمية في أوائل الأمور وجميع الأوقات، فقال تعالى: (بسم الله) قيل: معناه: الذي تحق له العبادة، وعلى هذا لا يسمى به غيره، ويسمى الله به لم يزل، وإنما تحق له العبادة لقدرته على أصول النعم وفروعها، عن أبي علي وجماعة. وقيل: معناه: أنه مفزع للخلق، وهو يجيرهم، عن الضحاك.
وقيل: معناه: أنه تتحير العقول في كنه عظمته، كما يقال للمكتوب: كتاب، عن أبي عمرو بن العلاء. وقيل: معناه: أن الخلق يسكنون إلى ذكره، عن المبرد. وقيل: معناه: أنه يرى ولا يرى. فأما من قال: معناه: المعبود فقد أخطأ؛ لأن غيره عبد، وليس بإله. ومن قال: إنه المستحق للعبادة يلزمه ألا يكون إلها في الأزل، وهذا خطأ، و(الرحمن الرحيم) قيل: معناهما واحد، وهو ذو الرحمة، كندمان ونديم، وقيل: بينهما فرق، ولذلك يسمى غيره رحيما، ولا يسمى رحمانا، ثم اختلفوا فقيل: الرحمن : الرازق لجميع خلقه، والرحيم: الغافر لجميع المؤمنين، وقيل: الرحمن: فاعل أصول النعم التي لا يقدر عليها غيره كالصورة والحواس والحياة والشهوة والأرزاق. والرحيم: ذو الرحمة، وقيل: الرحمن بالخلق، والرحيم بالرزق.
ومتى قيل: لماذا جمع بينهما؟
قلنا: للمبالغة بصفته بالرحمة؛ ليعلم أن النعم كلها منه، وقيل: لأن العرب كثير في لغتهم لفظ، (الله)، ولم يعرفوا الرحمن، فجمع بينهما ليعلم أن الله والرحمن والرحيم كلها صفات وأسماء له تعالى، وقيل: لأن في التوراة ذكر الرحمن أكثر، وفي الإنجيل ذكر الرحيم أكثر، وفي القرآن ذكر الله أكثر، فجمع ليعلم أن الكل يعود إلى الله تعالى.
ومتى قيل: لم قدم ذكر الرحمن؟
Página 203
قلنا: لأنه لما كان أشد مبالغة، ولا يوصف به غيره صار كالعلم، وإنما يبدأ بالأعرف، ثم يتبعه الآخر.
ومتى قيل: لم جمع بين هذه الأسماء في التسمية؟
قلنا: لأن الغرض الاستعانة، ولكل واحد منها تأثير في ذلك، كأنه يقول: أستعين بمن هو قادر على جميع النعم، فاعل لذلك، وأنه واسع الرحمة، سابغ النعمة.
* * *
(الأحكام)
الآية تدل على أن ذكر اسم الله في ابتداء الأمر مسنون؛ لأن في ذلك استعانة به، واعترافا بالإلهية، وإقرارا بالنعمة، ووردت السنة بأن: كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه بذكر الله فهو أبتر.
واختلفوا في آية التسمية على خمسة أقوال: أولها: أنها ليست من الفاتحة ولا من أوائل السور، وهو مذهب قراء المدينة والبصرة، وفقهاء الكوفة، ومذهب أبي حنيفة وأصحابه ومالك.
والثاني: أنها من الفاتحة، وليست من سائر السور، وهو قول سعيد بن المسيب، وقراء مكة والكوفة.
الثالث: أنها من الفاتحة ومن سائر السور، وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي.
الرابع: أنها ليست من القرآن إلا في (النمل)، وكتبت في رأس السور للتمييز.
الخامس: أنها آية منزلة بين كل سورتين من القرآن، وليست من السور، وهو قول أبي بكر الرازي، وأبي بكر أحمد بن علي.
ودليل كونه من القرآن إثباته في المصحف.
Página 204
واختلفوا في قراءته في الصلاة فقيل: لا يقرأ، والأكثر على أنه يقرأ، ثم اختلفوا
فقيل: يقرأ مرة في الركعة الأولى، عن أبي حنيفة، وقيل: في كل ركعة، عن أبي يوسف، وقيل: عند كل سورة، عن محمد.
واختلفوا فقيل: لا يجهر، عن أبي حنيفة. وقيل: يجهر، عن الشافعي، وعن أنس (صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلف أبي بكر وعمر فلم أسمع أحدا منهم يجهر ب (بسم الله الرحمن الرحيم).
قوله تعالى: (الحمد لله رب العالمين (2) الرحمن الرحيم (3)
* * *
(القراءة)
القراءة الظاهرة برفع الدال (لله) بكسر اللام، وعن الحسن أنه قرأ بكسر الدال، وعن إبراهيم بن أبي عبلة بضم الدال واللام، أتبع الضمة الضمة، وعن الفراء جواز كسر الدال على الإتباع، وجواز ضم اللام على الإتباع، وأكثر النحويين ينكرون ذلك؛ لأن فيه إبطال الإعراب، ولأن الإتباع في الكلمة الواحدة ضعيف قليل، فكان في الكلمتين خطأ لا يجوز؛ لأن المنفصل لا يلزم لزوم المتصل، فإذا ضعف في المتصل امتنع في المنفصل، ولأن حركة الإعراب لا تلزم، ولا يكون لأجلها إتباع، وقد بينا أنه لا تجوز القراءة إلا بما استفاض نقله. وأجمع القراء على كسر الباء في (رب)، وروي عن زيد بن علي نصب الباء، ويحمل على أنه بين جوازه، لا أنه قراءة.
* * *
(اللغة)
Página 205
الحمد والمدح والشكر نظائر، وبين الحمد والشكر فرق؛ لأن نقيض الحمد الذم، ونقيض الشكر الكفر، ولأن الشكر لا يكون إلا على نعمة، والحمد يكون من غير نعمة، وقيل: معنى الحمد والشكر: الاعتراف بنعم المنعم مع اعتقاد بعظمته، والشكر يكون بالقلب وهو الأصل، ويكون باللسان، وقد يجب عند تهمة الجحود، وأصل الحمد: الوصف بالجميل، والحمد مصدر لا يثنى ولا يجمع، تقول: أعجبني حمدكم زيدا.
والرب: السيد، والرب: المالك، والرب: المربي المصلح، وأصله من التربية، وهو التنشئة، يقال: ربيت، وربيته.
والعالمين: واحدها عالم، وقيل: اشتقاقه من العلم؛ لأنه اسم يقع على ما يعلم، وقيل: من العلامة؛ لأنها تدل على صانعه، وقيل: العالم: النوع مما يعقل، وهم الملائكة، والجن، والإنس، عن ابن عباس وأبي علي، وقيل: أهل كل زمان عالم، وقيل: هو اسم لما حواه الفلك، وعالم لا واحد له من لفظه، كالقوم والرهط والنفر.
ومتى قيل: لم ذكر الحمد دون الشكر؟
قلنا: لأن الحمد يكون على نعمة وغير نعمة، فنحن نحمده على نعمته علينا، ونحمده على أفعاله الحسنة، وصفاته العلا.
* * *
(الإعراب)
الحمد لله خبر ومعناه الأمر، كأنه قال: احمدوا الله، وقيل في تقديره: قولوا: الحمد لله، فعلى هذا موضعه النصب، وقيل: أقول: الحمد لله، فعلى هذا يحتمل الرفع بتقدير ابتدائي الحمد، ويجوز في العربية نصب الدال، بتقدير: اجعل الحمد لله، واجعل لله الحمد، وقد بينا أن الفراء أجاز الكسر، وما قيل فيه.
وكسر رب، لأنه جعل صفة لله تعالى، ولو نصب أو رفع جاز على المدح.
* * *
(المعنى)
Página 206
ثم أمر تعالى بحمده، فقال: الحمد لله يعني الوصف الجميل، والشكر على النعم كلها لله تعالى، والألف واللام للجنس، يعني كل الحمد لله؛ لأن النعم كلها منه: (رب العالمين) قيل: سيد الخلق ومالكهم، وقيل: منشئهم ومربيهم. (الرحمن): المنعم بنعم الدنيا والدين. الرحيم: واسع الرحمة، كأنه قيل: الأوصاف الجميلة والثناء الحسن كلها للذي يحق له العبادة؛ لكونه قادرا على أصول النعم، وفاعلا لها، ولكونه منشئا للخلق، ومالكا لهم، رحيما بهم.
ومتى قيل: لم أعاد ذكر الرحمن الرحيم؟
قلنا: قيل: لأن الأول ليس من السورة، وقيل: الأول للاستعانة، والثاني ليجعل الحمد كله له، وقيل: للمبالغة، وقيل: في الأول ذكر العبودية، ووصله بذكر النعم التي يستحق بها العبادة، وههنا ذكر الحمد، فذكر ما به يستحق الحمد من النعم، وليس فيه تكرار، عن علي بن عيسى.
* * *
(الأحكام)
الآية تدل على وجوب الحمد لله، والشكر على نعمه، وفيه تعليم منه لعباده كيف يحمدونه.
ومتى قيل: كيف يؤدي شكر نعمه، وهو بأدائه يتجدد عليه نعم لا تحصى من إعطائه القدرة، والآلة، والحياة، والعقل، والهداية؟
قلنا: إذا أتى بما في وسعه فقد أدى حق الشكر، ولأن شكره يتناول النعم الماضية والآتية، ولأنه يعلم النعم على الجملة فيلزمه الشكر كذلك.
فإن قيل: فما الشكر؟
قلنا: يكون بالقول، وبغير القول، ولذلك قال تعالى: (اعملوا آل داوود شكرا)
فبالقول إظهار النعمة، وبالقول يعظم المنعم، وبالفعل طاعة المنعم.
ومتى قيل: فهل غير الله يشكر؟
قلنا: نعم؛ لأنه منعم، ومنه، قوله تعالى: (أن اشكر لي ولوالديك) إلا أن شيئا من ذلك لا يكون إلا بنعمته تعالى من حيث إنه الخالق والمالك، وهو الذي
Página 207
صيرها بحيث ينتفع بها، ويرغبه في الإنعام، ولأن غيره لا يستحقه على الوجه الذي
يستحقه هو، وهو العبادة.
قوله تعالى: (مالك يوم الدين (4)
* * *
(القراءة)
قرأ أبو بكر وعاصم والكسائي ويعقوب مالك بالألف، وهي قراءة الخلفاء الأربعة، وجماعة من الصحابة والتابعين، والباقون بغير ألف، وكلاهما مرويان عن النبي - صلى الله عليه وسلم، قراءتان مشهورتان، ثم اختلفوا فقيل: ملك أمدح؛ لأنه لا يكون إلا مع التعظيم والاحتواء على الجمع الكثير، وقد يملك الشيء الصغير، ولأن ملك، لجمع الملك والملك. وقيل: مالك أمدح؛ لأنه يتناول الملك، ولقوله: (قل اللهم مالك)، ولأنه يجمع الاسم والفعل؛ لأنه لا يكون مالكا لشيء إلا وهو يملكه، وقد يكون ملكا لشيء لا يملكه، ولأنه فيه زيادة الألف.
فأما ما روي في (ملك) من القراءة الشاذة نحو ملك بجزم اللام، ومالك بنصب الكاف على النداء ورفعها، وإن كان جائزا في العربية فلا تجوز القراءة به، لما بيناه.
* * *
(اللغة)
ملك من الملك، ومالك من الملك، وأصله من الاشتقاق من الشد والربط، ومنه قول الشاعر: ملكت بها كفي فأنهرت فتقها وقيل: من القدرة، والتصريف مطرد على الأصلين، فالملك: القادر على ماله أن يصرفه، والمالك: القادر الواسع المقدرة الذي له السياسة والتدبير.
Página 208
واليوم: اسم لوقت طلوع الشمس إلى غروبها، ويستعمل بمعنى الوقت، يقال: أيام بني العباس، وسمي يوم القيامة؛ لأنه بمقدار يمتد فيه الضياء إلى أن يستقر أهل كل دار فيها.
والدين: الجزاء، والدين: العادة، والدين: ما يدان به، والدين: الحساب، والدين: الانقياد، وقيل: أصله الجزاء من قولهم: كما تدين تدان، وقيل: العادة، كقول الشاعر: أهذا دينه أبدا وديني؟
* * *
(الإعراب)
(مالك) مكسور الكاف؛ لأنه نعت لله، ويجوز في العربية نصب الكاف على النداء، ورفعها على الابتداء.
وكسر (يوم )؛ لأنه مضاف إليه.
* * *
(المعنى)
لما بين تعالى أنه رب العالمين، وملك الدنيا بين ملكه في الآخرة فقال تعالى (مالك) يعني القادر يوم الدين قيل: أراد باليوم الوقت، وقيل: أراد مقدار الضياء إلى أن يفرغ من القضاء، ويستقر أهل كل دار فيها، ويوم الدين: قيل: يوم الحساب، عن ابن عباس والسدي. وقيل: يوم الجزاء، عن الضحاك، وقتادة. وقيل: يوم الجزاء عن الدين، عن أبي علي. وقيل: يوم القهر، من قولهم: دينته أي قهرته، وقيل: يوم لا ينفع إلا الدين، عن محمد بن كعب.
ومتى قيل: لم خص ذلك اليوم بالذكر؟
قلنا: تعظيما له وتفخيما لشأنه، كما قال: (رب العرش)، وقيل: لأنه هناك أملاك الملوك زائلة، والملوك خاضعة، والدعاوي باطلة، فلا حكم إلا له، وقيل: ذكره ترغيبا في الاستعداد لذلك اليوم.
Página 209
(الأحكام)
الآية تدل على إثبات المعاد، وعلى ترغيب وترهيب؛ لأن المكلف إذا تصور ذلك لحقه الرجاء والخوف.
وقيل: دلالة ملك ومالك واحدة؛ لأن اليوم معدوم، فمعناه القدرة عليه، وقيل: فرقا بين الدلالتين، فملك يدل على أن ذلك اليوم ملكه، ومالك يدل على أنه تحت قدرته.
قوله تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين (5)
* * *
(القراءة)
قراءة العامة (إياك) بكسر الألف، (ونستعين) بفتح النون الأولى، وعن بعضهم فتح الألف، وكسر النون (نستعين) وهي لغة صحيحة، إلا أن القراءة به لا تجوز لما قدمناه.
* * *
(اللغة)
(إياك) أصله إوياك، قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء، فصار إياك، وأصله من آوى يؤوي إيواء، كأن فيه معنى الانقطاع والقصد، وإياك يستعمل مقدما على الفعل، ولا يستعمل مؤخرا، إلا أن يفصل بينه وبين الفعل فاصل، فتقول: ما عبدت إلا إياك، قال أبو حاتم: إياك ضمير منفصل، والضمير ثلاثة: متصل، كقولك: أكرمته، وأكرمك، ومنفصل، كقولك: إياك. ومستكن، كقولك: قام، وقعد.
وأصل العبادة في اللغة: التذلل، ومنه طريق معبد، أي مذلل، ومن زعم أن العبادة الطاعة فقد أخطأ؛ لأن النصارى عبدوا المسيح، وهم غير مطيعين له، وكل طاعة لله على جهة الخضوع والتذلل فهي عبادة.
والاستعانة: سؤال الإعانة، والمعونة: هي الزيادة على القوم بما يسهل الوصول إلى البغية، أعانه إعانة فهو معين، واستعان به فهو مستعين.
Página 210
(الإعراب)
اختلفوا في موضع الكاف في (إياك) قال الأخفش: لا موضع لها، وهي كلمة واحدة؛ لأن المضمر لا يضاف إليه، لأن المضاف لا بد أن يكون نكرة، وإياك في غاية التعريف، وقال الخليل: موضع الكاف خفض، وروي عن العرب: (إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب) قال ابن السراج: هذا شاذ في القياس، والقول ما قال الأخفش.
ومتى قيل: لم كررت إياك؟
قلنا: لأنها قامت مقام الكاف في نعبدك ونستعينك، وذكر إياك؛ لأنه أفصح وأفخم، ولو قيل: نعبدك لم يكن فيه إفصاح بالمعنى؛ لما فيه من التأكيد، كأنه قال: نعبدك، ولا نعبد غيرك.
ومتى قيل: لم قال: (مالك) على لفظ الغائب، و(نعبد) على لفظ المخاطب؟
قلنا: فيه إضمار، أي قولوا: إياك، وقيل: الإضمار عند قوله: (الحمد لله)
(وإياك). وقيل: من شأن العرب، أن تصرف من الغائب إلى الحاضر للتصرف كقوله: (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم) قال لبيد: باتت تشكي إلي النفس مجهشة ... وقد حملتك سبعا بعد سبعينا * * * (المعنى)
لما بين تعالى أنه مالك الدنيا والآخرة أمر بأن يعبد دون غيره، ويستعان به فى دون غيره، فقال: إياك نعبد أي نخضع لك، ونوجه العبادة إليك، وإياك نستعين أي نطلب المعونة منك على عبادتك.
ومتى قيل: ما الذي يجب على العبد أن يفعل حتى يصير فعله عبادة؟
Página 211